إدارة الفهم و هندسة التجّهيل
الأحد 19 / 12 / 1438
الموافق 17 / 9 / 2017
Learning from Mistakes
التعلم من خلال الخطأ
الورقة الرئيسة:
د.نوف عبدالعزيز الغامدي
هندسة الجهل وعكسها ( إدارة الفهم ) أو ما يُعرف باسم علم الوجود، Agnotology اجنوتولوجي، وهذه الكلمة الجديدة أصبحت تشير إلى دراسة الأفعال المقصودة والمتعمدة لإشاعة الحيرة والشك والخداع بهدف تحقيق مكسب أو بيع سلعة أو نشر الجدل لاستنزاف طاقة البشر، جميع الدول أو المؤسسات اليوم، تريد أن تمتلك المعرفة ومصادر المعلومة، فالمعرفة قوّةٌ ومكانةٌ وجدارةٌ، وهي سلاح فعال يضاهي أفتك الأسلحة وأقواها، لهذا، قامت بعض الجهات العالمية بتأسيس مفاهيم جديدة تتعلق بالمعرفة مثل: ( إدارة الفهم )، والتي تُعّرف بأنها نشر لمعلومات أو حذف لمعلومات لأجل التأثير في تفكير الجمهور، والحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصالح. الأمر الذي يجعلها تضاد وتُعاكس فكر معرفي آخر، يُسمى ( علم الجهل )، وهو العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق عِلْميَّة رصينة.
الجهل Agnotology يدرس غرس ثقافة الجهل أو الشك أو الوهم، ويجري من خلاله نشر بيانات خاطئة أو مخَطَئة أو غير كاملة. وأول من تلبس في هذا العلم هو Robert N Poctor الأستاذ في جامعة Stanford. وتمتد جذور مصطلح Agnotology إلى الأغريق الكلاسيكين المحدثين إنطلاقاً من كلمة Agnosis “لايعرف” أو “غير معروف”. وقد أنتشر وتوضح ذلك المصطلح ليعبر عن عن عدم التأكد بشكل أو بآخر. كما دُرس موضوع الجهل وصناعته من قبل شخص أكاديمي آخر يدعى David Dunning.
ومن محركات الجهل:
1- وسائل التواصل المختلفة ( سواء كان ذلك بالتجاهل، أو العرض المنقوص، أو العرض المتعمد، أو التلاعب بالنصوص ).
2- المؤسسات الحكومية، ومنظمات الأعمال، التي ساهمت عبر أساليب ( الكتمان، والتكتيم، والطمس، وإتلاف المستندات، وإخفاء المعلومات )
3- الحضارة السياسية وما تنشره من أمور قد يتمخض عنها شكل من أشكال التجاهل أو التمويه، أو النسيان.
ثم برز نظام علمي له علاقة بالجهل، يدعى بـ Cognitronics والذي يهدف إلى:
1- تشتيت الأدراك، بسبب مجتمع المعلوماتية في العالم، ومستفيداً من التوجه نحو العالمية.
2- دفع ذلك التشتيت في الإدراك، الدخول إلى حقول المعرفة المختلفة.
وهو ربط الإدراك بالمعلومة؛ Cognitive + Information هو نظام يدرس طرقاً جديدة لتحسين آلية الإدراك الفكري في معالجة المعلومات، هذا التضليل الإستراتيجي والمُمنهج حسب أساسيات علم الجهل يستند إلى قنوات ثلاث:
1- بث الخوف لدى الآخرين
2- إثارة الشكوك
3- صناعة الحيرة
ومن أهم أعمدة ادارة الجهل “السخرية” التي عبر عنها الـ مهاتما غاندي خير تعبير عندما قال مقولته المشهورة: ( يتجاهلونك، ثم يسخرون منك،، ثم يحاربونك،،، فتنتصر) السخرية تكون مرافقة لعملية التجهيل الممنهج لـ تحسم أي خيار فكري …
تعاقبت الكثير من النظريات العلميّة ومنها نظرية الفوضى ( Chaos Theory )، أكتشفت هذه النظرية على يد Edward Lorenz في عام 1960 مـ … وهي من النظريات المثيرة جداً، التي انتشرت حديثاً، ولاقت اهتماماً واسعاً: لتفسيرها الكثير من الأمور التي توّقفت النظريات العلمية السابقة عند تفسيرها، ولم تجد مُقنعاً يبرر حدوثها، ولتزيل الكثير من الغموض حولها، وأصبح من الممكن إيجاد الصّلة بين الأمور المتباينة، أو توقع الرابط بينها.
تقّرر هذه النظرية أن بعض الأمور التي نراها مُختلطة وغير مترابطة قد تكون مُنظّمة، وتسير حسب نسق محّدد بعكس ما تبدو عليه. فالحركات التي تبدو عشوائية هي في الواقع تتبع مسارات غير خطيّة تتكرر وتتداخل بنسق معين غير متماثل تماماً، ولكنه منظّم جداً و كأنها تعود إلى نقطة جذب محدّدة بعد أن تنطلق عنها. وتحاول نظرية الفوضى هذه الوصول إلى النظام الخفيّ غير الظاهر فيما يبدو عشوائياً من الظواهر، أو الأحداث، أو السلوكيات، أو الحركات، ووضع قواعد لدراسته والاستفادة من تطبيقاته. وهي وإن كان بها جانب فلسفي، إلا أن الجانب الآخر من علم الفوضى هذا يهتمّ بإيجاد أنماط محددة من الترتيب داخل الفوضى الظاهرة.
الفوضى المنظمة، من أهم خصائصها : بيروقراطية المنهج، موغلة في التنظير، بعيدة عن المراجعة والنظر في احتمالات بعدها عن الواقع. وهي للأسف متغلغلة في الأجهزة العامة لعدد كبير من البلدان النامية، وربما تكون هي أحد الأسباب الرئيسة لعجزها عن اللحاق بالبلدان المتقدمة؛ لأنها تظن من خلال تلك التنظيمات الوهمية أن الأمور على خير ما يرام. ولا يعدم المسوقون لنماذجها إمكانات إيهام أصحاب القرار بأنها كذلك.
أما الفوضى الخلاقة، يمكن وصفها بأنها نموذجا تنظيمياً تقوم على خلط الأوراق جميعها، للنظر إليها في بوتقة واحدة؛ ثم الخروج بوصفة من تلك الفوضى إلى خلق طريق واضح، يرضى الناس باتباعه بعد شعورهم بالضياع في تلك الفوضى السابقة.
ولا ننسى أن نذكر هنا الكاتب والمفكر/ ابراهيم البليهي فهو من دعا لتأسيس علم الجهل لهدم بنية التخلف حيث قال: ” إن الناس في كل مكان وخصوصاً الذين يعيشون ضمن ثقافات مغلقة هم بأمس الحاجة إلى معرفة الجهل المركب الذي يتحكم بأذهانهم ليدركوا أن معظم محتويات عقولهم قد ترسَّبَتء فيها بفعل المعايشة اليومية التلقائية ولم تمر بأية مراجعة علمية أو تحليل مقصود ليس هذا فحسب بل إن حقائق العلم التي يتلقونها في المدارس والجامعات تتحور لتتوافق مع البرمجة الذهنية السابقة حتى تتلاءم مع محتوى الأذهان فالتعليم لا يُلغي الجهل المركب وإنما يخضع له أما الذي يُعَرَّي الجهل المركب ويفضحه فهو إخضاعه للدراسة والتحليل بواسطة علم الجهل الذي نقترح تأسيسه، طريقة التفكير والحكم على الأشياء خارج النطاق الضيِّق للتخصص يبقيان محكومان بالخريطة الذهنية والوجدانية السابقة للتعليم ”
ختاماً: إذا كان الجهل بهذه القوة والتأثير فلا يجد الإنسان أمام رغبة السلطة والتحكم سوى أن يستغله كي يصل لمآربه من خلال هندسته وإدارة الفهم ..
تعقيب:
د. عبد الله بن ناصر الحمود
مدخل
شكرا للزميلة المبدعة د. نوف الغامدي على إبحارها في هذا المحيط الضخم من مواطن المعرفة المتجددة. فقد وفقت كثيرا في تناول الموضوع برؤية مفاهيمية نظرية عميقة، مع استشهادات موفقة من مرجعيات معرفية متخصصة. لقد راق لي كثيرا أن أقرأ هذا النص الجيد الذي قدمته د نوف. وكانت فكرة (شيطانية) قد تواردت إلى ذهني فور قراءتي لعنوان القضية، وقبل أن أدلف للنص. فكنت قلت في نفسي (وي .. كأن هذه القضية تعنينا مباشرة .. معشر الإعلاميين..) .. فالإعلاميون هم .. عادة.. من يديرون (الفهم) ويهندسون (التجهيل).. وعلى مر التاريخ .. شهد المجتمع الإنساني نماذج كبرى من (أسلافنا الإعلاميين) وهم يفعلون ذلك دون وجل أو خوف.. بل ويتربحون منه معنويا وماديا..
وما إن قرأت سطورا قليلة من موضوع القضية .. إلا وأجد د. نوف تقول بملء فيها .. إن من محركات الجهل (وسائل التواصل المختلفة، سواء كان ذلك بالتجاهل، أو العرض المنقوص، أو العرض المتعمد، أو التلاعب بالنصوص)
هكذا .. اتفقت كثيرا مع الكاتبة.. فلي رأي في وسائل الاتصال تداولناه هنا (في الملتقى) كثيرا.. وعارضني فيه الزميل القدير د. مساعد المحيا كثيرا أيضا..
وخلاصة رأيي (أن ما تملكه الدول النامية بشكل عام مما .. تسميه.. وسائل إعلام واتصال .. لا يعدو أن يكون منظومة من وسائل .. دعاية.. وليس إعلاما ولا اتصالا.. أبدا). فنحن في الدول النامية لم نعش بعد عصرا يتربع فيه (الإعلام والاتصال) على عرش سلطته الرابعة. على الإطلاق.
الإعلام .. وفرضيات إدارة الفهم:
في هذا الأفق من التوافق.. مع الكاتبة.. أود الإشارة إلى أن لـ (إدارة الفهم وهندسة التجهيل) ثلاثة حوامل رئيسة وهي:
– مؤسسات الإعلام والاتصال .. كما بينت د. نوف
– مؤسسات التعليم .. كما أشارت د. نوف
– مؤسسات الثقافة والفنون
وما عدا ذلك، يمكن أن يكون بمثابة ( المصادر .. أو المرجعيات .. أو مضخات المحتوى ) التي تقوم بوظيفة ( التغذية الأولية.. والراجعة.. على حد سواء ) ومن ذلك الأطر الحاكمة للمجتمعات دينيا وسياسيا واجتماعيا، وثقافيا واقتصاديا .. ونحو ذلك.
ففي الدول النامية .. تستمد ( مؤسسات الإعلام والاتصال ) و ( مؤسسات التعليم ) و ( مؤسسات الثقافة ) محتواها من تلك الأطر..
ولكن أيضا ( من منظور محدد.. فقط.. تستله القوى المهيمنة في المجتمع من هذه الأطر ) ليكون هو ( الإطار ) العام.. والأوحد .. الذي يتحكم في ( مستوى الفهم ) المقبول جماهيريا ( و ) ( ضرورات التجهيل ) المطلوبة جماهيريا .. أيضا.
وذلك لتتمكن ( القوى المهيمنة ) من الاستمرار في حصد مكاسبها.. وتحقيق أرباحها المعنوية والمادية.
وهذا .. هو ما أشارت إليه د. نوف عندما قالت ( … لأنها تظن من خلال تلك التنظيمات الوهمية أن الأمور على خير ما يرام .. ولا يعدم المسوقون لنماذجها إمكانات إيهام أصحاب القرار بأنها كذلك )
هذا يدفعني للإشارة هنا إلى أن الأمر في غاية الأهمية والتخصصية ( والنفعية أيضا ) فموضوع قضية هذا الأسبوع موضوع حيوي مهم لأنه ( عماد العلاقة بين .. الناس: الجماهير، الدهماء، العامة، من جانب، والمؤسسات: السيادية والخدمية على حد سواء، من جانب آخر. وبينهما يقف المتنفذون والمنتفعون لتعميق الجهل.. وتقنين إدارة الفهم )
ومن هذا الباب.. يكثر الجدل حول الصفات النبيلة للعمل الإعلامي والاتصالي ( مثل الموضوعية، والحيادية، والمصداقية ضظ).. فأنا .. مثلا.. أحمل رأيا شديدا حول انتفاء تلك الصفات كلها من اللإعلام والاتصال في الدول النامية بشكل خاص. ومن كثييييييير من إعلامات واتصالات الدنيا بشكل عام.
إنني أؤمن .. فقط .. بأن ( الحقيقة ) مثلا، في الإعلام والاتصال، لا تعني ( أن تقول الحقيقة ) .. أبدا. لكنها تعني أن يكون ما تقوله (حقا). فهم بذلك، لا يقولون كل الحقيقة أبدا..
وهذا الأمر يستدعي كل مهارات الإعلاميين في ( الانتقاء ) و ( الحجب ) و (الإجازة) .. فهم عندما يكونون (في قمة النبل والإخلاص) ينتقون ويحجبون ويجيزون. وهنا تتجاوز مهمات إدارة الفهم وهندسة الجهل الحدث الإعلامي إلى ( ما ورائياته )، مما يحقق رضا القوى المهيمنة في المجتمعات، ويسير في ركب فلسفتها ( هي ) للكون والحياة.
فلسفات إدارة الفهم.. وتطور الظاهرة الاتصالية:
من المؤكد .. أنا هذه فلسفات إدارة الفهم ( تقف اليوم ) في صراع عنيف مع الظاهرة الاتصالية الجديدة التي مكنت الجماهير و ( الدهماء والعامة ) ..في وعي القوى المهيمنة..، من مفاصل مهمة في صناعة الحدث الإعلامي والاتصالي، الذي هو مناط ( الفهم ) ـو (الجهل).
ومن الملاحظ أنه في دولنا النامية، تقل الإصدارات العلمية الرصينة التي درست العلاقة بين استخدام الجماهير لوسائل الإعلام والاتصال، وقضايا الرأي العام. فقد أتاح ظهور شبكات التواصل الاجتماعي “فرصة” حقيقية وجديدة من نوعها أمام ( الناس ) للخروج من الدائرة الرسمية أو شبه الرسمية، ومن ثم تمكينهم من كشف ومناقشة ما يرونه هم ( هذه المرة ) وليس القائم بالاتصال التقليدي في مؤسسات الإعلام، وما هو “مسكوت” عنه من قضايا طال إغفالها عبر وسائل الإعلام التقليدية، وإعادة طرحها عبر منصات التواصل الإلكتروني.
هذا الأمر ربما دعا إلى القول إن وسائل التواصل التفاعلي قد مكنت مختلف الفئات المهمشة اجتماعياً وثقافيا وسياسياً من أن تعبر عن رأيها فيما يطرح من قضايا ومشكلات مهما كانت تصنف في الأزمنة المنتهية ضمن اختصاصات الرسميين أو النخب فقط. وبالتالي تتحقق فرضية أن المجتمعات اليوم ( الدهماء والعامة ) تعيد غربلة مفهومي ( إدارة الفهم، وهندسة التجهيل ) لصالحها. ولو بقدر.
وهناك مظهران يعبران إجمالاً عن جوهر “الفرص” المتاحة اليوم أمام الجماهير أو ( الدهماء ):
الأول، يتعلق بما أتاحته منصات التواصل الاجتماعي من “فرصة” حقيقية لتعظيم رأس المال الاجتماعي social capital بين الأفراد في المجتمع ( علاقات اجتماعية أفقية )، ويعني “رأس المال الاجتماعي: مجموعة العلاقات والروابط الاجتماعية التي تنمو في إطار شبكة اجتماعية معينة تحكمها عدد من القيم والمعايير كالثقة والاحترام المتبادل والالتزام والتعاون.
أما المظهر الثاني، فيتعلق بما أفضى إليه تنامي استخدام تلك الشبكات من انفتاح اجتماعي سيقود، إلى انفتاح الجماهير في الدول النامية على العالم الخارجي، بشكل أعمق وأمضى، وسيطال جملة من السياقات الاجتماعية والثقافية والدينية ومن ثم تبديد هاجس الاعتقاد في مقولات ” الخصوصية ” المستقرة في العقل النامي الكلي.
من هنا يمكن أن نتوقع إعادة طرح مفهومي ( إدارة الفهم، وهندسة التجهيل ) بطرق مختلفة إلى حد كبير، بحيث تبدو معاناة المؤسسات التقليدية وعجزها النسبي في المحافظة على ( هيمنتها ) على مستوى ( الحقيقة ) التي يسمح للناس الاطلاع عليها، وتلك التي تبدو محرمة عليهم.
نحن في ( الخليج ) .. وجدلية إدارة الفهم
تفضي قراءة أولية للثراء المعرفي النظري المتاح حول العوامل المؤثرة على تشكيل الوعي الجمعي لمواطني دول الخليج العربي، إلى الخروج بأن ثمة “خصوصية” ما تميز دول الخليج العربي عن غيرها من الدول النامية. وتتمحور هذه ” الخصوصية ” في أن مجتمع الخليج ينظر إليه، إجمالا، بوصفه مجتمعاً محافظاً ثقافياً واجتماعياً.
وفي ضوء ذلك الشعور التاريخي الضمني العام ” بالخصوصية “، فرضت وسائل الإعلام والاتصال الخليجية ( التقليدية ) عبر عقود طويلة من الزمن على نفسها ( طوعاً أو كرهاً ) أجندة خاصة للقضايا والموضوعات ” المسموح ” بمناقشتها إعلامياً، ( مما يعني طرحها أمام الناس .. للفهم..) في الوقت الذي غضت فيه الطرف ( طوعاً أو كرهاً ) أيضا، عن طرح عدد من القضايا والموضوعات الأخرى بدعوى أن مجرد طرحها على الساحة الإعلامية والاتصالية قد يشكل خرقاً لتلك ” الخصوصية “.. ( مما يعني .. ضرورة التجهيل بشأنها ).
الخلاصة
خلاصة الأمر، في جدلية ( إدارة الفهم وهندسة التجهيل ) أنهما جزء من خصائص ( الكينونة البشرية ) القائمة على الصراع و ( الكبد). وعلى سنة ابتلاء الناس بعضهم ببعض.
ولعل التعليقات التي ترد هذا الأسبوع، تثري مجالا رحبا للخروج في نهاية الأمر ببعض الرؤى والتوصيات التي ربما تساعد في ( فهم ) هذه الجدلية. أو ( ربما ) في تعميق دور ( الدهماء ) أكثر فأكثر في عملية ( إدارة الفهم )
تعقيب:
د.مشاري النعيم
الورقة التي قدمتها الدكتورة نوف الغامدي تحتوي على العديد من المصطلحات التي قد تثير اللبس، فمفهوم هذه المصطلحات متداخل ومتشابك إلى حد كبير، فمن جهة تتناول علم الجهل Agnotology وما يقابله من مفاهيم حول إدارة الفهم ومن جهة أخرى تقدم نظرية الفوضى التي تطورت منذ العام 1960 وحتى اليوم وأثرت على مفاهيم التطوير العلمي، فالفوضى المنظمة والفوضى الخلاقة كلها جاءت لتواجه النظرية الخطية المنتظمة فما كان يعتقد أنه فوضى لو تعمقنا داخله سوف نجد فيه نوعاً من الانتظام. تحدثت الدكتورة نوف عن “تشتيت الإدراك ودفع هذا التشتيت إلى الدخول إلى عالم المعرفة المختلفة. والمعروف علميا أن الانسان يمتلك ثلاث آليات عقلية مترابطة ويمكن أعتبارها “موصل المعرفة” تبدأ بالإدراك Perception وغالبا ما تكون عبر الحواس المعروفة التي يترجمها الاستيعاب cognition الى “معرفة خام” ثم يبدأ العقل بالتحليل والتصنيف حسب المخزون المعرفي السابق المتراكم داخل العقل، فتتحول المعارف الخام إلى معارف ذات دلالة. الآلية الأخيرة التي تترجم المعرفة الخام إلى معرفة ذات دلالة هي التي يصاحبها الوعي ويكون من خلالها الحكم على الأشياء، أي أنها مسؤولة عن “الوعي”. ويمكن كذلك نقول أن المخزون المعرفي السابق الذي عادة يعرف ويعطي دلالة للمعرفة الخام هو الذي يصنع بنية التخلف ويبدو لي أن فكرة “تشتت الإدراك” هي لمحاولة تفكيك هذا المخزون المتراكم الذي ليس بالضرورة تشكل بصورة صحيحة.
تصوري لموضوع عميق كهذا، لا يعدو كونه محاولة لفهم الورقة التي أتت عميقة وطرحت تصورات وتساؤلات مهمة حول علم الجهل وتأثيره المستقبلي خصوصا مع التطور غير المسبوق في وسائل الاتصال وهيمنة التواصل الإجتماعي على نمط حياتنا المعاصرة وما تحمله هذه الوسائل من سيل مخيف من المعلومات التي تتحول عبر النظام المعرفي البيولوجي إلى معرفة تساهم في الحكم على المعارف المستقبلية وحتى السابقة و”تقولبها”. هذا “التحذير” المبطن من المعارف التي تثير الشك والخوف والحيرة، هي الحراك الأهم الذي صار يصنعه علم الجهل في حياتنا المعاصرة.
الاشكالية من وجهة نظري هي علاقة كل هذه المفاهيم مع بعضها البعض وعلاقتها جميعا بالوعي المجتمعي. فإذا كان علم الجهل يساهم في الشك وأخفاء الحقائق، فكيف يمكن تبنيه، حسب ما ذكر ابراهيم البليهي، وتوظيفه كأداة لتفكيك بنية التخلف. يذكرني كلام البليهي بمفهوم محمد عابد الجابري “الانفصال عن التراث” كأداة لتفكيك البنية المتخلفة في التراث نفسه ومن ثم الاتصال بهذا التراث مرة أخرى. صناعة الوعي بشكل عام تشكل أحد التحديات التعليمية الكبرى، وعلاقة العقل المجتمعي بترسبات وتراكمات “التخلف” يتطلب التفريق فعلا، كما ذكرت ورقة الدكتورة نوف، بين “المعرفة” وبين “الوعي”، فلا يعني امتلاك المعرفة وجود الوعي، وهذه أحد الإشكالات الرئيسة التي نواجهها، إذا أن مجتمعنا قد يملك المعرفة لكن يعوزه الوعي لأن هذا يتطلب تصحيح المخزون المعرفي “التاريخي” المتراكم والترسب والذي تحكم في كل المعارف الخام الجديدة ويوجهها. كيف سيساهم علم الجهل أو إدارة الفهم، في صناعة الوعي، هذا أمر يصعب تخمينه.