إبريل 2016م
ناقش أعضاء منتدى أسبار خلال شهر إبريل 2016م العديد من الموضوعات المهمة والتي تم طرحها للحوار على مدار الشهر، وشملت القضايا التالية:
- سياسة الابتعاث وعلاقتها بالتنمية.
- التعليم العالي بين الكم والكيف.
- العناية بالآثار والأماكن التاريخية.
- التمكين الصحي والحقوق الصحية في المملكة العربية السعودية.
محتويات التقرير
المحور الأول: سياسة الابتعاث وعلاقتها بالتنمية
- الورقة الرئيسة: د. حسين الحكمي
- التعقيب الأول: د. علي الحكمي
- التعقيب الثاني: د.م. نصر الصحاف
- المداخلات حول القضية:
- واقع برامج الابتعاث والمعوقات التي تحد من فاعليتها
- مقترحات لتطوير سياسة الابتعاث وتجويد مخرجاته
المحور الثاني: التعليم العالي بين الكم والكيف
- الورقة الرئيسة: د. إبراهيم البعيز
- التعقيب الأول: د. خالد الرديعان
- التعقيب الثاني: أ.د. فردوس الصالح
- التعقيب الثالث: د. حامد الشراري
- المداخلات حول القضية:
- معوقات تطوير التعليم العالي في المملكة
- آليات تطوير التعليم العالي وتجاوز الإشكالات الراهنة
- تعقيب ختامي في ضوء خطة كاليفورنيا للتعليم العالي
المحور الثالث: العناية بالآثار والأماكن التاريخية
- الورقة الرئيسة: م. خالد العثمان
- التعقيب الأول: د. حاتم المرزوقي
- التعقيب الثاني: د. حميد المزروع
- التعقيب الثالث: د. زياد الدريس
- المداخلات حول القضية:
- التراث والآثار: الدلالة والتباينات الأساسية
- التراث والآثار السعودية في ظل التوسع العمراني والتطور الحضاري
- معوقات العناية بالآثار والحفاظ عليها
- مقترحات لتطوير الاهتمام بالآثار والتراث الوطني
المحور الرابع: التمكين الصحي والحقوق الصحية في المملكة العربية السعودية
- الورقة الرئيسة: أ.د. سامية العمودي
- التعقيب الأول: د. عائشة حجازي
- التعقيب الثاني: أ.د. عبدالرحمن العناد
- المداخلات حول القضية:
- التمكين والصراع بين الرجل والمرأة
- معوقات التمكين الصحي
- آليات تحقيق التمكين الصحي في المملكة
المحور الأول
سياسة الابتعاث وعلاقتها بالتنمية
الورقة الرئيسة: د. حسين الحكمي
عند الحديث عن الابتعاث فإن أول ما يخطر على بال أي سعودي هو برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي مع أن هناك برامج ابتعاث خارجي وداخلي، وهناك ابتعاث خارجي من قبل جهات أخرى كالجامعات وأرامكوا وسابك ووزارة الصحة وغيرها. بدأ برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي “برنامج الابتعاث” في عام ١٤٢٦هـ. كان مقررا له أن يستمر لمدة خمسة أعوام فقط. في الوقت الذي تم إقرار البرنامج كانت هناك أزمة في الحصول على مقاعد كافية لكل الخريجين من المرحلة الثانوية بالإضافة إلى ندرة الوظائف للخريجين فكان برنامج خادم الحرمين الشريفين أحد الحلول لاحتواء هذا الكم الكبير من الشباب الذين تخرجوا من المرحلتين الثانوية والجامعية.
وحيث أن أحد أهم أهداف الخطة الخمسية العاشرة للمملكة هو التحول إلى اقتصاد المعرفة؛ فإن برنامج الابتعاث يعد أحد أهم الركائز في هذا المجال ويعول عليه الكثير من أجل تنمية الوطن وإعداد كوادر بشرية سعودية تنافس في سوق العمل ومجالات البحث العلمي وتدعم القطاعين الحكومي والأهلي. ويركز البرنامج على تخصصات علمية بعينها وهي التي يحتاجها الوطن ويحتاجها سوق العمل، وتحقق أهداف الخطة الخمسية والتنمية.
واجه البرنامج ومازال العديد من الانتقادات وهو أمر طبيعي؛ نظرا لأن البرنامج كبير ويمس شريحة كبيرة من أبناء الوطن فلا يكاد يخلو بيت من مبتعث. وفي ظل اختلاف النظرة للهدف من البرنامج تختلف الآراء، وفي ظل كل هذه الانتقادات فإن البرنامج يعد أحد أبرز روافد التنمية في الوطن وهو الاستثمار في شباب الوطن وتأهيلهم بالشكل المناسب.
البرنامج الآن في مرحلته الثالثة بعد أن تم تمديد البرنامج لمرحلة ثانية استمرت خمس سنوات بدأت في عام ١٤٣١هـ ثم مدد لمرحلة ثالثة ولخمس سنوات أخر بدأت عام ١٤٣٦هـ، وهذا دليل واضح على أن البرنامج يحق أهدافه بالرغم من سماعنا لعدد من قصص الفشل والسلبيات التي تم تضخيمها في بعض الأحيان فقط لأن هناك من يعارض هذا البرنامج.
الحصول على العلم والمعرفة من دول متقدمة له فائدة كبيرة ويعود على الشخص ووطنه بمردود إيجابي أفضل من تعلم العلم في السعودية خصوصا في عدد من التخصصات التي سبقتنا بها تلك الدول. عدا ذلك فإن المبتعث يعيش في بيئة اجتماعية وثقافية وحضارية مختلفة ما ينتج عنه تعلم ثقافات وعلوم ومهارات ومعارف وقيم جديدة إيجابية تساعد في تغيير توجهات المبتعث بشكل إيجابي نحو ثقافة العمل والإنتاج والنظر بصورة أشمل لما يخدم الوطن ككل، كما يتعلم المبتعثين لغات مختلفة تساعد في نقل معارف وعلوم شعوب أخرى سبقتنا في تلك العلوم كاليابان والصين وكوريا ودول أوربا وأمريكا.
مرت المملكة بطفرة وتغير حضاري واضح في الثمانينيات، وقد كان لمن عادوا من الابتعاث أثر واضح في تنمية البلد وتطوره، ومع برنامج الابتعاث ستكون هناك نقلة نوعية أخرى خلال الأعوام القادمة وبعد عودة عدد من المبتعثين المميزين وسيظهر أثر ذلك في السنوات القادمة، فها نحن نتابع أخبار المبتعثين ونرى إنجازاتهم وتفوقهم وأسلوب تفكيرهم ونستبشر خيرا في شباب وطننا.
بحسب الإحصائيات فإن عدد المبتعثين في عام ٢٠١٣ قد وصل إلى ما يقارب ١٥٠ ألف مبتعث، وفي عام ٢٠١٥ وصل عدد المبتعثين في أمريكا وحدها إلى ١١٠ ألف مبتعث، هذه الأعداد الكبيرة من شبابنا سيعودون وسيكون بينهم التنافس كبيرا للوصول إلى مناصب ومراكز مهمة في تنمية وتطوير الوطن، وسيكون لفترة دراستهم أثر كبير في وضع بصمة نوعية في مستقبل البلد.
السياسة التي يسير عليها برنامج الابتعاث بشكل عام تنبع من الخطة العامة للبلد وتسعى لتحقيق التوازن والوصول إلى الهدف، حيث أن البرنامج يتم تقييمه بشكل مستمر وتتغير التخصصات التي يتم الابتعاث فيها وتتغير آلية القبول أيضا. وقد حصل مع بداية المرحلة الثالثة أن تم تغيير آليه الابتعاث في البرنامج فأصبح المبتعث يسافر وهو يعرف الجهة التي سيتوظف فيها بعد عودته، وقد صاحب بداية هذه المرحلة التشديد في تطبيق الشروط حتى الاستثناءات في إلحاق الدارسين على حسابهم الخاص أوقفت ما نتج عنه تأثر ما يقارب عشرة آلاف دارس على حسابهم الخاص تأثرا سلبيا.
التعقيب الأول: د. علي الحكمي
- بما أن الهدف من الابتعاث هو أن يخدم جهود التنمية بجميع مجالاتها. لذلك فإن من الضروري أن ينظر مخططو الابتعاث للتنمية بمنظور شامل لا يقتصر على الجوانب التقنية أو الاقتصادية أو العلمية أو الصحية فقط. حيث من الملاحظ على خطط الابتعاث في السنوات القليلة الماضية أنها ركزت على ابتعاث الطلاب في التخصصات الصحية والهندسية والعلمية والإدارية ولم تعطي الاهتمام الكافي لتخصصات أخرى هي من أهم دعائم التنمية في أي مجتمع وهي التخصصات الاجتماعية والتربوية والنفسية والإنسانية ونحوها، وكأن هناك رؤية أن هذه التخصصات لا حاجة لها في التنمية أو أن المتوفر منها من خريجي جامعاتنا السعودية كافي لتوفير كوادر متميزة في هذه التخصصات. بينما المشاهد أن هناك ضعف شديد في مخرجات الجامعات السعودية من هذه التخصصات، وأن الأساتذة المتميزين من الذين ابتعثوا في أواخر السبعينات والثمانينات الميلادية قد تقاعدوا أو شارفوا على التقاعد أو غادروا الجامعات لسبب أو آخر. ولذلك من الضروري أن يغير المخططون نظرتهم للتخصصات التي يبتعث لها، وفتح مجال أكبر للتخصصات الاجتماعية والتربوية والنفسية والإنسانية مع التركيز على الاختيار الجيد للمبتعثين والجامعات التي يبتعثون لها. فهذه التخصصات من أهم دعائم التنمية والتغيير الاجتماعي للأفضل.
- الجامعات السعودية (وخاصة الناشئة) تتفاوت في أعداد مبتعثيها وتوظيفها للخريجين منهم، مما أدى إلى اتجاه بعضها للتعاقد مع أساتذة غير سعوديين بشكل مكثف، أو توظيف خريجي جامعات ضعيفة. بينما من المبتعثين نوعيات ممتازة ومن الأولى توظيفهم وهم لازالوا في البعثة كمعيدين ومحاضرين. واستقطاب من تخرج منهم في جامعات جيدة وعاد للبلد ولازال يبحث عن عمل، وهذه فرصة ممتازة للجامعات.
- الإشراف على الطلاب المبتعثين لم يواكب الأعداد الكبيرة منهم، فبعض الملحقيات تعاني من قلة المشرفين العاملين فيها، مما أدى إلى عدم قدرة المشرف على متابعة الأعداد الكبيرة من الطلاب الذين يسند إليه الإشراف عليهم بشكل جيد وفعال.
- أدى التوسع السريع في الابتعاث في السنوات الأخيرة إلى تخرج بعض المبتعثين في جامعات ضعيفة، وعودة بعضهم بشهادات ولكن بدون مهارات ومستوى علمي متميزين، كما أن بعضهم لا يتقن حتى اللغة التي درس بها في البعثة.
- هناك هدر كبير في الموارد بسبب ابتعاث الطلاب بمهارات إنجليزية ضعيفة وقضاؤهم وقتاً طويلاً لدراستها في الخارج، وهذا يقود لسؤال، أليس من الأجدى أن يتم حصولهم على مستوى معين في اللغة الإنجليزية قبل ابتعاثهم (٥٠٠ درجة على الأقل في التوفل)، وذلك بعمل سنة تحضيرية مثلاً للبعثات هنا في المملكة قبل الابتعاث، تتبناها الجامعات السعودية.
التعقيب الثاني: د.م. نصر الصحاف
من المنطلق الحضاري فإن ارتفاع المستوى الفكري العام يقترن بمعيار التقدم العلمي في المجتمع. وكذلك فإنه من الملاحظ بعد عشرات السنين من برامج الابتعاث أن النتيجة مرتبطة بالمؤهلات والشهادات أكثر من ارتباطها باحتياجات التنمية الشاملة!
كما أن حاجة التنمية الشاملة ماسة جداً للتقنيين والفنيين في مختلف مجالات الصناعة والهندسة والطب، والتركيز شبه المطلق في الابتعاث على الدراسات النظرية دون الدراسات العملية والمجالات التطبيقية، كل ذلك يؤدي إلى نتائج عكسية على التنمية الشاملة في البلاد!!
سأذكر سريعاً عدة عوائق وأركز على بعضها على نحو محدد.
عند الحديث عن سياسة الابتعاث وعلاقته بالتنمية الشاملة أكاد اجزم بأن أحد أهم العوائق هي تحديد أو تركيز برنامج الابتعاث على تخصصات علمية بعينها وهي التي يحتاجها الوطن وسوق العمل كذلك!!
ولكن كيف يكون أحد أهم العوائق وفي نفس الوقت مطلب للوطن وسوق العمل؟ التناقض واضح؟
- سياسة تحديد تخصصات علمية بعينها على حساب تخصصات علمية أخرى قريبة منها؛ فهي لا تقتل روح الإبداع والمنافسة لدى الطالب فحسب إنما تجد التخصص مترجم حرفياً (على سبيل المثال من الإنجليزية إلى العربية).
حيث أن الطالب يبتعث أساساً للدراسة في تلك الدولة الأجنبية، أليس الأجدر بأن تكون الموافقة أو عدمها على تخصص ما بلغة تلك البلد كما هو في برنامج الجامعة المعنية؟ لأن ذلك سيكون أقرب للواقع فيما لو أن التخصص نفسه قد ترجم حرفياً إلى العربية وأفقده المعنى المقصود وتكون النتيجة في الأغلب عدم موافقة الملحقية / أو مرجعه على تلك التسمية! (هذه تحدث دائماً وبالذات في الولايات المتحدة).
- دور الملحقيات الثقافية وأدائها البائس على أحسن تقدير نظراً لكثرة أعداد الطلبة المبتعثين عن الموارد المتاحة للملحقية.
- البيروقراطية المكبلة للملحقية الثقافية والالتزام بقرارات الوزارة مع إدراكها للأوضاع بحسب موقعها الجغرافي في بلد الدراسة لا يتناسب مع دورها الديناميكي المفترض لتحول الناتج إلى الأهداف المنشودة (على سبيل المثال وليس الحصر: عدم الموافقة للطلبة المتميزون بدراسة أكثر من تخصص واحد حتى لو كان معدله التراكمي ٤/٤ والتهديد المتواصل بالفصل من البعثة لو تم ذلك! (على سبيل المثال يجري الآن تقارب غير مسبوق في مجال الدراسة المعمارية وتخصص التصميم الداخلي).
- فتح مجال التخصصات على مصراعيه هو الأساس للإبداع والتنافس في تحقيق أفضل النتائج بغض النظر عن التخصص العلمي المحدد سلفاً.
- في بعض دول الابتعاث الغربية تكون الترجمة للتخصص المحدد حرفية بحيث تشكل معضلة للطالب تستدعي انقطاع الصرف عنه وتكبده لخسائر مادية كبيرة في مراجعة الملحقية شخصياً لشرح موضوعه!
- غياب الإدارة الواعية وترهل البيروقراطية في بعض الملحقيات الثقافية في بعض الدول والتركيز على توظيف غير المواطنين يؤثر سلباً على التنمية.
- وأخيراً دمج وزارتي التعليم والتعليم العالي في ظل غياب الكوادر المتخصصة للرفع من مستوى الاثنين هو بمثابة المسمار الأخير في كفن منظومة التعليم لدينا في ظل التخبط الإداري المزمن لوزارة التعليم والأعداد المتزايدة للطلبة (ابتعاث داخلي وخارجي) نتيجة حتمية لواقع الانفجار السكاني الحالي في المملكة.
المداخلات حول قضية: (سياسة الابتعاث وعلاقتها بالتنمية)
- واقع برامج الابتعاث والمعوقات التي تحد من فاعليتها
أشار د. حامد الشراري إلى أن الابتعاث الخارجي – ببساطة – هو استثمار في الإنسان وانفتاح على الثقافات الأخرى.
وبرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي هو أكبر مشروع وطني يهدف لتنمية الإنسان السعودي في الآونة الأخيرة، وزاد عدد المبتعثين حتى أصبحنا من أوائل الدول في الابتعاث الخارجي إن لم نكن الأول إذا أخُذ كنسبة لعدد السكان.
برامج الابتعاث (المرحلة الأولى والثانية) ارتبطتا بالسيولة المالية (الفائض المالي) الناتجة من ارتفاع أسعار النفط (الطفرة الأولى والثانية)، كجزء من مشاريع تنمية الدولة.
في بداية البرنامج كان هناك عشوائية في الاختيار؛ قد تعُزى للتفاعل مع سرعة القرار لمعالجة قضية عدم توفر مقاعد دراسية للطلاب بالجامعات أو ضعف ونقص في الكفاءات المتخصصة في الابتعاث … الخ، ومع مرور الزمن ونضج البرنامج زادت وتيرة الضبط ونوعية المبتعثين.
قبل وقت قريب صدر قرار مجلس الوزراء بوضع ضوابط عالية للالتحاق ببرنامج الابتعاث للدارسين على حسابهم الخاص من حيث نوعية الجامعات وبتخصصات محددة، وكذلك ربط البرنامج بالوظيفة مباشرة.
وبصفة عامة هناك خمسة مسارات للابتعاث:
- الابتعاث عن طريق الجامعات.
- الابتعاث عن طريق برامج خاصة كبرنامج الابتعاث الخارجي – وهذه فرصة لمن يرغب إكمال دراسته ومؤهل ولكن لم يوفق بأن يكون معيد بأحد الجامعات.
- الابتعاث عن طريق أو للقطاع الخاص (شركات وبنوك….).
- الابتعاث عن طريق القطاع الحكومي – يشمل المدني والعسكري.
- الدراسة على الحساب الخاص وهؤلاء غالبهم يلتحقوا أو يطلبوا الالتحاق ببرنامج الابتعاث …. أو عن طريق منح دراسية تعطى من قبل جهات أو مؤسسات محلية أو دولية.
وذكر د. عبداللطيف العوين أن الابتعاث برنامج من البرامج التي صاحبت قضية من القضايا التعليمية ذات العلاقة المتعددة ومن أهمها الجانب التنموي، والذي يمكن دراسته من زاوية مهمة وهي كفاءة التعليم وبالتالي يتطلب التحقق من ما تم الصرف عليه هل يتساوى مع المنتج منه، والأخرى الكفاءة الخارجية من حيث دور المستفيدين من هذا البرنامج في التنمية بعد تخرجهم، وهي إفادة تشير المؤشرات لضعفها.
وقد يكون السبب أن هذا البرنامج تم التعامل معه تنفيذيا كهدف فأصبح الابتعاث كيفما اتفق، وحتى برنامج “وظيفتك بعثتك” أتى من توالد أفكار دون أن تكون هناك دراسة علمية استراتيجية تحلل الاحتياجات والامكانات والمنظور المستقبلي لها، وقد يكون من المناسب إعداد دراسة الآن للنظر في مستوى الكفاءة الداخلية والخارجية للبرنامج، كم أنفق عليه وفيما أنفق وماذا أنتج هذا الانفاق؟ ومن ثم مستوى مشاركته وإضافته في الدخل القومي الحالي والمتوقع خلال السنوات القادمة.
وأوضح د. خالد الرديعان أن عدد المستفيدين من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث قد بلغ زهاء ٢٥٠ ألف مبتعث ومبتعثة. وهو حقيقة برنامج طموح ومفيد بلاشك في قضية نقل الخبرات والمعارف إلى بلدنا. المسألة الأخرى التي تلفت الانتباه في البرنامج تركيزه على التخصصات التطبيقية والعلمية فقط، وهنا لعل من المناسب التأكيد على الرأي بأن يشمل الابتعاث التخصصات الإنسانية والاجتماعية كذلك؛ فما يغير المجتمع وأنماط تفكيره هي العلوم الإنسانية وهي مسألة نحن بحاجة إليها للخروج من قيد الثقافة والمعوقات الاجتماعية والثقافية التي تكبح عمليات التحول الاجتماعي.
ومن جانبه قال د. مساعد المحيا: يبدو أننا نتعامل مع الابتعاث على أنه مظهر تعليمي راق بمستوى رقي بعض الجامعات التي نعرف تميزها.. وأنه فوق النقد والتقويم.. هذه النظرة تجعلنا أمام مشروع أصبح أداة غنى لأطراف مستفيدة على حساب مصلحة الوطن ولذا تجد أن كثيرين ممن التحقوا بهذا البرنامج وجدوا الكثير من العنت والتعب سواء من حيث تحقيق ما يتطلعون إليه أو من سلبية القائمين عليه وعدم وجود كفاءات إدارية تحقق لهم احتياجاتهم ومتطلباتهم، لاسيما مع وجود طلاب في تخصصات متخمة بالمتخرجين من الأقسام نفسها بالمملكة وبالتالي عدم وجود وظائف لهم.
المثير أن الوزارة ألغت فكرة الابتعاث بصيغته التي أقرت ودرست وتم تطبيقها لعدة سنوات ومضت مع الوزير السابق بسياسة جديدة تقوم على الاتفاق مع بعض الجهات في القطاع الخاص ثم ابتعاث الطلاب على وظائف محددة.
هذه التجربة جريئة وأخشى من عواقبها مستقبلا وأرى أنها انهت فكرة الابتعاث والمتمثلة في البحث عن إضافة علمية في تخصصات نفتقر إليها في مؤسساتنا الأكاديمية.
وأضاف د. حسين الحكمي: الابتعاث لا يقتصر على الخارج فقط فهناك ابتعاث داخلي لمعيدين ومحاضرين، وأيضاً من برامج “وزارة التعليم العالي” الابتعاث الداخلي للكليات والجامعات الأهلية. وكان له تنظيمه الخاص به ويظهر أن الهدف كان استيعاب الشباب في جامعات وتخصصات جديدة ومتنوعة إضافة إلى دعم قطاع الاستثمار في التعليم.
فيما يتعلق بالملحقيات فإن دورهم ببرنامج خادم الحرمين الشريفين كان مقتصرا على الجانب الثقافي بشكل كبير أما الجانب المتعلق بالمبتعثين فلم يكن كبيراً وكانت الأمور سهلة وبسيطة لدرجة أن المشرف في الملحقية يحفظ أسماء الطلاب الذين يشرف عليهم وبيانات مهمة عنهم كتخصصاتهم وجامعاتهم والمدن التي يسكنونها. وبعد أن بدأ البرنامج تحول دور الملحقيات إلى إدارات خاصة بالابتعاث والمبتعثين لدرجة أنهم نسوا وأهملوا دورهم الثقافي.
يفترض أن الملحقيات هي السند والداعم للمبتعثين وهم الملجأ الأول الذي يقصدونه عند مواجهة أي عقبة أكاديمية أو اجتماعية أو نفسية أو مالية، لكن الواقع يشهد أنهم في كثير من الحالات يكونون هم العقبة والتحدي الذي يتمنى المبتعث لو أنه لا علاقة لهم به. في بعض الأوقات يقطعون الصرف عن المبتعث دون إنذار أو تنبيه، لأي سبب ما، وعندما ينتفي السبب يأخذ وقت استعادة المبالغ التي لم تصرفا وقتا وإجراءات تزعج المبتعث الذي هو في غنى عنها ويرغب في التركيز على أمور أخرى أكاديمية وأسرية أكثر أهمية.
يشتكي كثير من المبتعثين من المشرفين في الملحقيات ومن تعاملهم الصلف أو لا مبالاتهم بالمشكلات والتحديات التي تواجه الطالب. فيحصل أن يواجه الطالب مشكلة فلا يتواصل مع الملحقية لأنه يعلم أنهم سيقفون موقف الحياد إن لم يقفوا ضده في الوقت الذي هو يبحث عن العون والمساعدة وخصوصا في القضايا الأكاديمية والقانونية.
بالرغم من أن المهمة الأساسية للملحقيات الثقافية هي التركيز على الجانب الثقافي إلا أننا نرى اهتمام الملحقيات بأندية الطلبة السعوديين ليست في مستوى المأمول، بل أحياناً تكون الملحقية حجر عثرة أمام إبداع وتميز الطلبة السعوديين أعضاء الأندية. للأندية الطلابية أثر كبير في التعريف بالسعودية وتراثها وثقافتها وحضارتها، إن لم يكن ذلك بإشراف من الملحقية فإنه سيتم بشكل آخر قد يكون سلبي على الوطن.
عندما تنظر الملحقيات إلى المبتعث على أنه طالب فإنها بذلك تقلل منه ومن قدراته وإمكانياته ومكانته الحقيقية؛ المبتعثين منهم الأطباء والضباط وأساتذة الجامعات والمهندسين والمعلمين وغيرهم، ومنهم من لديه الخبرة والمهارة ما يفوق ما لدى العاملين في الملحقية، ومع ذلك فإن الملحقيات تتعامل معهم جميعا بنفس الأسلوب، ولا تفرق بين طالب بكالوريوس أو ماجستير أو دكتوراه.
المبتعثين جزء مهم من استثمار الدولة يجب أن يتم الاهتمام بهم ورعايتهم واحتضانهم ليعودوا وينفعوا الوطن. هذا الاستثمار يجب التركيز عليه والتعرف على النماذج المبدعة والمتميزة منهم والتركيز عليهم ودعمهم بشكل أكبر. ليس كل الأمريكان مبدعين، ولا اليابانيين ولا أي جنسية أخرى، ولكن منهم المتميز ومن يستحق الرعاية والاهتمام. هذا مما يجب أن ينظر إليه ويفعل. لو أن الدولة ركزت على المبدعين والمتميزين وقدمت لهم التسهيلات وساعدتهم في الحصول على الوظائف المناسبة في الإدارات والمواقع المناسبة ورعتهم بعد عودتهم للسعودية بحيث يطبقوا ما تعلموه في شكل أبحاث ودراسات واستفادوا من أفكارهم فستتحقق التنمية.
كيف سيبدع مبتعث عاد لوطنه وهو يفكر في المسكن المناسب وشراء سيارة وتأمين مدارس مناسبة لأطفاله وتأمين مصدر رزق مناسب؟! ما يحصل أنه بدلاً من خدمة وطنه ومجتمعه يتحول إلى شخص أناني لا يفكر إلا في نفسه وكيف يحصل على الحد الأدنى من حقوقه كمواطن أمضى سنينا من عمره في الغربة يكابد مشاقها لأجل أن يحقق هدفه ويعود فيخدم نفسه وأهله ووطنه.
وركز د. محمد الصبان على الجوانب الاقتصادية للابتعاث، حيث أشار إلى أنه ومع انخفاض أسعار النفط وربما قبلها رأينا من طالب ويطالب بإلغاء الابتعاث وقدم من الحجج ما يكفي لهدم سُوَر الصين العظيم، وتم التركيز على بعض الأخطاء التي حدثت وتحدث سواء من قبل جهات الابتعاث أو المبتعثين.. وبكل صراحة فلم نجد فيما تم تقديمه ما يبرر الإقدام على خطوة خطيرة تتمثل في الإلغاء.
وفي هذا الإطار يمكن التأكيد على النقاط التالية:
- أولا: إن التحجج بأن لدينا سبعة عشر جامعة محلية وهي تكفي باستيعاب جميع طلابنا يمثل نظرة قاصرة. فالابتعاث لابد وأن يستمر حتى لو لدينا مائة جامعة. فمن قال إننا نبتعث لعدم وجود شواغر جامعية في بلادنا.
- ثانيا: إن التحجج بوجود نسبة تسرب كبيرة وعودة مبتعثين دون استكمال دراستهم ليس بالأمر الغريب ولا يشكل ظاهرة على الإطلاق.
- ثالثا: أن نسبة كبيرة من مبتعثينا يلتحقون بكل ما هبً ودبً من جامعات وبعضها غير معترف بها، وهذا ليس بخطأ المبتعث بقدر ما هو عمومية المعايير وضعف المتابعة.
- رابعا: أن مستوى الخريج من جامعاتنا المحلية قد يكون أفضل من الخريجين المبتعثين، ليس محل مقارنة وكيف كٌتب لنا إصدار مثل هذا الحكم المطلق والذي قد يكون صحيحا في جزء منه وقد لا يكون. وإذا كان صحيحا فالخطأ ليس في برنامج الابتعاث بل في المعايير المتبعة قبل وأثناء الابتعاث.
- مقترحات لتطوير سياسة الابتعاث وتجويد مخرجاته
أشار د. خالد الرديعان إلى أن من الأهمية بمكان تنويع بلدان الابتعاث في التخصصات الإنسانية لبلدان مثل الهند وتركيا وجنوب إفريقيا ونيجيريا وبعض دول أمريكا اللاتينية وذلك بهدف تنويع الفكر والمعارف بحيث لا يكون مصدره فقط الدول الغربية؛ فجامعاتنا لا تزال أقل من المأمول، وبالتالي تنويع المدارس الفكرية للطلاب والإفادة من الجامعات الأجنبية أفضل بكثير.
الأمر الآخر هو ضرورة انتقاء المبتعثين بعناية تامة بحيث يتم اختيار الأكفاء ممن لديهم استعداد للدراسة والتحصيل العلمي الجاد وتقديم صورة إيجابية عن المملكة ومجتمعها والخروج من عشوائية القبول أو الفساد في عملية اختيار المبتعثين.
وبخصوص جامعات الابتعاث فيلزم عدم تركز السعوديين في جامعات محددة وأن يكون لكل جامعة “كوتة” عددية بحيث يستفيدون من أكبر عدد ممكن من الجامعات بشرط أن تكون تلك الجامعات ذلت مستوى علمي مقبول وأن تكون معتمدة علميا.
وهناك مشكلة تتعلق بالمرافق فيما يخص الطالبات وهنا يلزم مراجعة الأنظمة الخاصة بذلك والتنازل عن شرط المرافق؛ خاصة لطالبات الدراسات العليا ممن بلغن سن معينة يمكن تحديدها كشرط. نحن نواجه هذه المعضلة فلدينا عدد كبير من المعيدات والمحاضرات في بعض الاقسام الجامعية ممن لا يتوفر لهن مرافق (محرم) وبالتالي يمكثن سنوات طويلة دون اكمال تعليمهن العالي وبالتالي نحن بحاجة الى قرار في هذه المسألة.
واتفقت أ. علياء البازعي مع د. علي في أننا بحاجة لأن نرفع من مستوى التخصصات الإنسانية في جامعاتنا…فهي لا تقل أهمية…بل في الواقع تزيد أهمية عن التخصصات العلمية. فضلاً عن أهمية أن تكون دراسة اللغة في أرض الوطن من خلال جامعاتنا أو معاهد أجنبية تفتح فروعها هنا… وخلال فترة دراسة اللغة يتم تهيئة الطلاب ثقافيا للبلد التي سيدرس بها.. يتعلم من خلالها الأنظمة والقوانين للتخفيف من المشاكل التي قد يواجهها.
وأضافت: أن ابتعاث المعيدين يجب أن يكون إجباري لأن جامعاتنا السعودية لها نفس النظام تقريبا …ربما خطط الأقسام مكررة…فلنتخيل أستاذ جامعي يدرس طلابه و هو حاصل على بكالوريوس و ماجستير و دكتوراه من نفس الجامعة تخرج منها و يدرس بها…أي أن خبرته على مدى 15 أو 20 سنة لا تتعدى جامعته أو أي جامعة وطنية مماثلة…كيف سيدرس طلابه…و ماهي الخبرات التي حصل عليها و سينقلها لهم…نفس النظام نفس الأشخاص نفس المكتبة…و يخرج جيل ضعيف آخر و هكذا…كما أن اعتماد جامعاتنا على المحاضرين و المعيدين في تدريس مقررات كاملة خطأ…غالبا يحفظ/تحفظ المقرر و يلقنه.
الأدهى والأمر في التخصصات التربوية…بسهولة نجد في جامعاتنا أساتذة وأستاذات يدرسون مادة (مناهج وطرق التدريس) أو مادة (الإدارة التربوية) أو (تعديل السلوك) وكل خبرتهم من الكتب…حيث لم يدرسوا يوما في فصل دراسي في مدرسة.. (عدا أيام التدريب الميداني).. لم يعش التجربة كاملة فكيف ينقلها…عكس الجامعات الأمريكية (كمثال) فأساتذة كليات التربية مجبرين على خوض تجربة المدارس بشكل مستمر كمتطلب للقبول للدراسات للعليا ومتطلب للمحافظة على الوظيفة نجد الأستاذ/ة يعمل في مدرسة حقيقية كمعلم…أو أخصائي. إلخ.
وعلق د. عبداللطيف العوين بأن قضية الاستفادة من الابتعاث وعدم الاستفادة من تخرج المعيدين من نفس القسم، ليس على إطلاقه، التوازن والتنوع هو المطلوب والأساس أن يكون الأستاذ الجامعي ذو كفاءة عالية، فربما معيد تخرج من قسمه أستاذا بجهده ومهاراته وخبراته، خاصة في وقتنا الدي فُتحت فيه مجالات المعرفة والعلم حتى أصبحت في متناول الباحث، أفضل من أستاذ أتى من الابتعاث وحصل على الشهادة بأقل جهد وخبرات.
وقالت د. أروى أخضر: اتفق تماما مع ما طرحه د. عبداللطيف من حيث جودة بعض الخبرات المحلية أكثر من المبتعثين. واتفق مع أ. علياء؛ فقد طرحت مشكلة من يفتون من التخصصات المختلفة دون دراسة، في مؤتمر جستن طرحت هذا المشكلة حيث أصبح مختص التربية الخاصة على سبيل المثال يفتي في علم المناهج دون دراسة لهذا التخصص العميق وأصبحوا يدرسون الطلاب بالجامعات ويقيمون الدورات من خلال تصفح الكتب وهذا غير صحيح على الإطلاق ونجد هذا الوضع أيضا بالوزارة ويسري الحال على بقية التخصصات الأخرى فمادة الإدارة التربوية في التربية الخاصة تدرس من غير المتخصص بالإدارة وهكذا.
ويرى د. حامد الشراري أن برنامج الابتعاث – بلاشك- إيجابياته أكثر بكثير من سلبياته، والاستمرار فيه ضرورة لتنمية الإنسان السعودي “الاستدامة”، لذا قد يكون من المناسب التفكير في تطوير البرنامج بمنظور شمولي ومؤسسي مستدام كإيجاد مؤسسة وطنية أو صندوق وطني للابتعاث (منح) توضع له ضوابط وآلية واضحة للجميع يشرف عليه مجلس إدارة ومرتبط بالقيادة العليا يمول بالمشاركة مع الدولة من مؤسسات القطاع الخاص (الشركات والبنوك) ورجال الأعمال وأهل الخير والجمعيات والمؤسسات المدنية المختلفة لنضمن الديمومة.
كذلك لعل من المناسب في هذا الإطار مراعاة ما يلي:
- أن لا يقيد المبتعث بوظيفة … (أن يكون المبتعث حر).
- أن يسمح للطالب بعد الحصول على الدرجة العلمية المبتعث عليها للعمل في دولة الابتعاث لمدة عام أو عامين لكسب الخبرة، وإن كان قُبل للعمل في أحد الجامعات المرموقة أن يسمح له بالعمل هناك مع اشتراطات معينة كأن يشرف على أكثر من طالب سعودي أو يرتبط مع أحد مراكز البحث الوطنية… الخ؛ هؤلاء قد تكون خدمتهم للبلد أكبر مستقبلا من كونهم أساتذة في أحد الجامعات المحلية، ولنا في الدول الأخرى أسوة.
وأوضح د. عبداللطيف العوين أنه إذا كان هناك ضعف في الجامعات فليس العلاج هو أن بكون الابتعاث هو البديل، المطلوب تطوير تلك الجامعات، وبالمناسبة حتى جامعاتنا الداخلية ينبغي أن يشملها تقييم مدى الكفاءة وتوضيح موقف كل منها في مسيرة التنمية والتعرف على جوانب الفاقد ومعالجته.
وعلق د. علي الحكمي على هذا الرأي الأخير بقوله: إذا كنا نريد جامعات عالمية فنحن نحتاج لأساتذة بمستوى عالمي، وإذا أردنا أساتذة بمستوى عالمي، فلا بد أن يحصلوا على مؤهلاتهم من جامعات عالمية مرموقة في تخصصاتهم. ولا سبيل لذلك إلا بالابتعاث والاستمرار فيه، إن تطوير الجامعات يمر من طريق الابتعاث لأعضاء هيئة التدريس فقط. وطبعاً نستثني التخصصات الشرعية واللغة العربية مع أن الأخيرة قد تكون بدورها بحاجة للابتعاث.
ابتعاث منسوبي الجامعات من معيدين ومحاضرين لم يكن يوماً ترف أو سلوك افتخاري. بل إنه في الغالب يتاح للأفضل الذين مروا بعملية اختيار صعبة ليصبحوا معيدين في الجامعة.
من واقع تخصصي في علم النفس ومن خلال اطلاعي على العلوم الاجتماعية والتربوية الأخرى أرى أن هذه العلوم لم تنقل بشكل جيد للغة العربية، وأن ما ترجم من مراجع قليلة جداً للعربية هو متأخر بعشر سنوات على الأقل، كما أن هذه العلوم تتطور بشكل أسرع من قدرة جامعاتنا المحلية على المواكبة، ولذلك أرى أنه لكي نبني ونطور تعليمنا وخدماتنا النفسية والاجتماعية نحتاج لابتعاث الآلاف لأفضل جامعات في هذه التخصصات، والتركيز على أفضل ٥٠ جامعة أمريكية في كل تخصص في الابتعاث، على أن يفرض على الطالب أن يدرس مقررات معينة كمناهج البحث والإحصاء بشكل مكثف. ومع التقدير لجميع جامعاتنا، إلا أن برامج الدراسات العليا في العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية لازال أمامها مشوار طويل لتواكب الجامعات العالمية، وحتى نصل لتلك المرحلة لا حل لنا إلا الابتعاث.
وأعود وأؤكد مرة أخرى أن العلوم النفسية والتربوية والاجتماعية لم تنقل ولو بالحد الأدنى للغة العربية، وأننا لا زلنا نعيش في علم النفس مثلاً مرحلة فرويد وسكنر وبياجيه بينما العلم الآن انتقل لمرحلة جديدة واكتشافات مذهلة في أبحاث الدماغ والعلوم العصبية neurosciences وبعضنا لازال في الأهداف السلوكية واللاشعور إلى الآن.
في حين أكد د. محمد القويز أنه لا شيء يعوض عن الابتعاث إلا لو كان لدينا مراكز بحثية متقدمة في كل جامعة وليس كما يحدث الآن من استسهال في إعداد البحوث. إن المعرفة التي تأتي عن طريق الابتعاث في شهر تعادل سنوات من القراءة والممارسة التي تتم محليا؛ الأهم من ذلك هو الوضوح والعمق وسرعة الإتقان في التخصص عند المبتعث والثقة التي يعطيها له المشرفون وطريقة التفكير والنقاش التي تكمل نضجه الأكاديمي؛ وحتى لو توفرت المراكز البحثية المتقدمة فإن تبادل الخبرات مع جامعات أخرى هو جزء من التطوير المنشود.
ومن جانبه، يرى أ. مسفر الموسى أن يقتصر ابتعاث الدراسات العليا على المشتغلين في القطاع الأكاديمي والبحثي.. وأن تتولى جهاتهم مسؤولية ابتعاثهم.. أما برنامج خادم الحرمين للابتعاث الخارجي.. فعليه أن يولي اهتماما أكبر بمرحلة البكالوريوس والدبلومات النوعية التطبيقية.
وأضاف: لقد أسرفنا في السنوات الأخيرة داخليا وخارجيا في برامج الدراسات العليا.. بينما هي تمثل رأس هرم حاجات المجتمع، مما يعني أن شغلها وتمثيلها في هيكلنا الوظيفي لا يحتاج إلى نسبة عالية من الابتعاث، بالقدر الذي تمثله الأعمال التنفيذية في مختلف القطاعات.
وهناك عاملين أساسيين سيوجهان المجتمع للدراسات المهنية عوضا عن الدراسات العليا؛ خصوصا لمرحلة الدكتوراه:
- الأول: اتجاه التحول الوطني إلى الخصخصة.. فالقطاع الخاص يفضل المهنيين أكثر لتولي مناصبة التنفيذية على المشتغلين في البحث.. والذين سيكتفى بهم في مجال الاستشارات والدراسات.. وهذا بعكس النمط الإداري الحكومي.. الذي يعطي الأولوية في الترقية للشهادات العليا.
- الثاني: تحول الاتجاه السعودي في تعيين القيادات والوزراء وخلافهم.. ففي السابق كان أغلب الوزراء يأتون من الحقل الأكاديمي.. أما في التعيينات الأخيرة، فأغلبهم من القطاع الخاص.
هذين الاتجاهين، سيغيران من ثقافة المجتمع.. ما قد يجعل الشباب يتجهون للتحصيل المهني أكثر.
أما أ. أسامة نقلي فيرى أن الجامعات ليست مراكز توظيف، وأن مهمتها الرئيسة هي الارتقاء بالمستوى الثقافي للمجتمع بمختلف تخصصاتها؛ لذلك فلا ضير من تنوع التخصصات، أما التدريب فهو مرحلة تأتي بعد الجامعة سواء من قبل معاهد التدريب أو الأجهزة المعنية كل حسب اختصاصه.
وأشار د. حسين الحكمي إلى أن الحاجة للابتعاث موجودة، ليست فقط السعودية من تبتعث طلابها فهناك دول من الشرق والغرب تبتعث طلابها. الدراسة في الخارج ليست الحصول على معرفة ومهارة فقط بل تتعداها إلى أكثر من ذلك. عدا أن الحصول على العلم والمعرفة من مصدرها الأول أو من دول لها باع في هذا المجال فإن دراسة الطالب في بلد آخر مختلف عن بلده يساعده لتعلم مهارات تفكير مختلفة عما تعود عليه وأُطِر. يضاف إلى ذلك تعلم عادات وقيم إيجابية جديدة لم يتعودها في السعودية، كالمحافظة على الأنظمة المرورية واحترام خصوصية الآخر واحترام المواعيد وغيرها.
نعم هناك حاجة لتطوير التعليم الجامعي لدينا والاستثمار فيه وتطويره، وهذا لا يتعارض مع برنامج الابتعاث.
أيضاً فإن الجامعات تحرص على ابتعاث طلبتها للدراسة في جامعات في الخارج وهو ما أثبت نجاحه، فعندما نقارن مخرجات التعليم من خارج السعودية بمخرجات الداخل يظهر الفرق لصالح خريجي الخارج. وهناك قطاعات حكومية وخاصة تبتعث موظفيها أيضاً، فوزارة الصحة وسابك تبتعث للخارج وتحرص على ذلك من أجل تطوير وتحسين العمل أيضاً.
ومن الجهات التي بدأت تخطط لإرسال موظفيها إلى الخارج لتعلم اللغة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فتعلم اللغة من البلد الأم يختلف عن تعلم اللغة هنا، اللغة ليست الكلام فقط بل حتى الثقافة وهو ما يحتاجه من يعمل في قطاعات مواجهة الجمهور من دول غربية.
كل هذه الجهات التي تبتعث أبناء الوطن تسعى في النهاية إلى تحقيق أهداف التنمية وتحسين الوضع في كل المجالات.
وأشار د. محمد الصبان إلى أن الابتعاث واستمراره لابد وأن يعامل كأولوية مطلقة في الانفاق مثله مثل الانفاق على بقية عناصر التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، وأن لا يكون مطروحا على ” مشرحة ” تقليص الانفاق؛ ففي الثمانينات والتسعينات وحينما انخفضت أسعار النفط كان برنامج الابتعاث هو أول ضحايا تخفيض الانفاق الحكومي، وأدى ذلك إلى حصول فجوة علمية كبيرة في مجتمعنا خاصة في ظل العدد المحدود وقتها من جامعاتنا المحلية. وكنا كأعضاء هيئة التدريس نعاني من ذلك فقد تقلصت وظائف المعيدين وحتى المتواجد منهم لم تتح له فرصة الابتعاث، مما أدى – ومع تزايد أعداد الطلاب المقبولين – إلى فتح الباب على مصراعيه للتعاقد مع أعداد متزايدة من أعضاء هيئة تدريس وافدة.
نحن الآن في مفترق طرق وأمام برنامج تحول وطني وماضون في تحويل اقتصادنا السعودي إلى اقتصاد معرفي يهتم بالتركيز على التعليم وجودته مما يدفع شبابنا إلى الابتكار والإبداع، فكيف بنا نقطع طريق اكتساب المعرفة عن طريق الاحتكاك والاختلاط بمختلف الثقافات. وحتى ديننا يحثنا على تنويع تلقي العلم “ولو في الصين” بالرغم من أن عصر الإسلام وقتها كان الأكثر ازدهارا وكان يصدر العلم إلى الآخرين.
خلاصة القول، أن الابتعاث وبرامجه لابد وأن يستمر، ونستطيع أن نقلل من عيوبه وأخطائه بالمعايير السليمة والمتابعة الدقيقة. أما مزاياه فتطغى كثيرا على عيوبه، والتنويع في مصادر العلم وثقافاته تنعكس إيجابا على من سيقود وطننا الغالي في الفترة القادمة خاصة وأنه لا يمكننا الانعزال في ظل العولمة الاقتصادية وتتطلب منًا التعرف على الآخرين والاحتكاك بهم علميا وحضاريا واجتماعيا، دون التفريط في معتقداتنا الدينية ولنا في ماليزيا وتركيا أمثلة حية على ذلك.
المحور الثاني
التعليم العالي بين الكم والكيف
الورقة الرئيسة: د. إبراهيم البعيز
شهدت المملكة نقلة كمية في التعليم الجامعي: 26 جامعة حكومية، 10 جامعات أهلية (بالإضافة إلى 39 كلية أهلية). وبذلك وصلت فرصة التعليم الجامعي إلى كل مناطق المملكة وعدد كبير من المحافظات، مما ساعد على تجاوز إشكالية الاستيعاب التي كانت تشكل الهاجس الأكبر في المجتمع السعودي، وبسببها انصرفت الجامعات عن قضايا التطوير والتحسين، لتنشغل بتداعيات الضغوط الاجتماعية لتوفير فرص تعليمية لأبناء وبنات الوطن.
وبعد هذه النقلة الكمية، يبدو أننا بدأنا التفكير لمرحلة قادمة وهي “النقلة الكيفية”. حيث ظهرت مفردات في خطابنا الأكاديمي توحي بالرغبة في التميّز في أداء الجامعة لرسالتها بأبعادها التعليمية والبحثية والاجتماعية. ونلحظ ذلك في تسابق جامعاتنا للمنافسة للفوز بمراكز في التصنيفات العالمية، وإطلاق مبادرات لكراسي وقفية، وإعادة هيكلة الخطط لكثير من برامجها الأكاديمية لتفي ببعض من متطلبات الاعتماد الأكاديمي.
أرى أن للتميّز شروط ومتطلبات تتجاوز مجرد الرغبة، التميّز يحتاج تغييرات في البيئة التنظيمية للتعليم العالي: بيئة تشجع على التنافس وتوزيع الأدوار بين الجامعات.
يفترض أن تكون الزيادة في عدد الجامعات قد نقلت ثقافة التنافس من “تنافس الطلاب على الجامعات” إلى “تنافس الجامعات على الطلاب”. قبل عشرين عاما كان عدد خريجي الثانوية يزيد كثيرا على عدد المقاعد المتاحة في الجامعات. لكن مؤخرا تغيرات المعادلة، حيث تجاوز عدد المقاعد المتاحة في الجامعات 360 ألفاً في حين عدد خريجي الثانوية 335 ألف طالب وطالبة، وهذا يعني فائضاً في عدد مقاعد التعليم العالي يصل إلى 25 ألف مقعد.
عدم وجود ثقافة المنافسة جعل الجامعات ترى نفسها مجرد مؤسسات حكومية، ولا يفترض أن يكون بينها منافسة. حيث نلحظ أن استقطاب المتميزين أو رضا المنسوبين ليست من ضمن أولويات الجامعة، فهي (إدارة الجامعة) مشغولة بالمهام التشغيلية اليومية.
الجامعات المتميزة في الغرب اهتمت بالمنافسة وأوكلتها إلى “العلاقات العامة” وجعلت العلاقات العامة في قمة الهرم الإداري. فمثلا جامعة هارفارد (وكيل الجامعة للشؤون العامة والإعلام)، وجامعة ولاية أوهايو (وكيل الجامعة للإعلام الجامعي)، وجامعة ولاية متشجن (وكيل الجامعة للعلاقات الجامعية)، وجامعة كاليفورنيا – بركلي (وكيل الجامعة للعلاقات الجامعية)، وجامعة تورنتو (وكيل الجامعة للعلاقات الجامعية).
الاستقلالية الإدارية والمالية شرط للمنافسة. جامعاتنا تعمل ضمن نظام إداري موحد لا يعطي للجامعات فرصة للتمايز والمنافسة. فصلاحيات مدير جامعة ناشئة في إحدى المناطق النائية هي نفس الصلاحيات المعطاة لجامعة من كبرى جامعاتنا.
بسبب الاعتماد شبه الكلي على ميزانية الدولة، أصبحت أبسط أساسيات التميز في التعليم والبحث العلمي تحت رحمة موارد ومصادر مالية يتحكم فيها مسئولو وزارة المالية. وليس بيد مدير الجامعة سوى التسلح ببعض من عبارات الترجي ومهارات الإقناع. جدير بالإشارة أن تقدير ميزانية الجامعة يتم حسب عدد الطلاب وحجم المشاريع الإنشائية، أما الإنجاز العلمي فليس بالضرورة معيارا مهما في تقدير ميزانية الجامعة. ومن ناحية ثانية تحسب مكافآت الطلاب ضمن ميزانية الجامعة، وهي في الحقيقة لا تدخل في العمل التعليمي أو البحثي، لأنها في النهاية أشبه ما تكون نظام رعاية اجتماعية.
الاعتماد على ميزانية الدولة يكتنفه تذبذبات لا تضمن للجامعة الاستقرار المالي الذي يساعدها على التنافسية حتى على المستوى المحلي على أقل تقدير. الجامعة المتميزة في الدول المتقدمة تعتمد على الأوقاف.
معظم جامعاتنا الأهلية هي جامعات تجارية باستثناء ثلاث منها. دول رأسمالية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا لم تترك التعليم الجامعي للشركات التجارية. ففي أمريكا كل الجامعات الأهلية تتبع مؤسسات غير ربحية (فقط ثلاث جامعات تجارية) بريطانيا لم ترخص إلا مؤخرا لجامعة تجارية واحدة، وفي أستراليا لا يتجاوز عدد الجامعات التابعة للشركات التجارية أصابع اليد.
الجامعات الأهلية في الغرب تستهدف من يطمح في مستوى تعليمي أفضل من الجامعات الحكومية، لكن جامعاتنا التجارية تستهدف من لم يجد قبولا في الجامعات الحكومية، وهنا تكمن المشكلة.
المنافسة بحاجة إلى نظام وطني لتصنيف الجامعات. ففي الوقت الذي تتباهي فيه جامعاتنا لنشر ترتيبها في التصنيفات العالمية يجب أن يكون لدينا الجرأة في صياغة نظام موضوعي يتسم بالشفافية والعلنية لتصنيف أو ترتيب الجامعات السعودية الحكومية والخاصة، حتى لو ترتب على ذلك إحراج لبعض الجامعات.
نحن نملك المقومات الإدارية والفنية لتبني ذلك النظام، ويمكن لمركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الوزارة، بالتعاون مع المركز الوطني للقياس والتقويم في التعليم العالي والهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي ومركز إحصاءات التعليم وضع نظاماً لترتيب الجامعات وفقاً لتميزها المؤسسي وتميز برامجها الأكاديمية.
التعقيب الأول: د. خالد الرديعان
تابعنا في السنوات الأخيرة قدرة جامعاتنا ال ٢٦ على استيعاب جميع الخريجين والخريجات مع وجود فائض في المقاعد كما أشارت ورقة د. إبراهيم، وهذا إنجاز مهم يلزم عدم التقليل من أهميته، إلا أن هناك أمور أخرى تتعلق “بالكيف” للنهوض بجامعاتنا حتى تصبح في مصاف الجامعات العالمية المرموقة على الأقل بعضها إن لم يكن كلها. ومقترحاتي لذلك هي على النحو التالي:
- أولا: من الأهمية بمكان أن يكون لكل جامعة “هوية علمية” خاصة بها على غرار جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. ويتأتى ذلك من خلال موقع الجامعة والمنطقة التي تقع بها بحيث تركز على التخصصات المفيدة التي ترتبط باقتصاد المنطقة؛ كتخصص السياحة والفندقة وإدارة الأعمال في جامعات المنطقة الجنوبية والتخصصات الزراعية في المناطق التي تشتهر بالزراعة.
- ثانيا: يلزم فتح تخصصات علمية وتطبيقية جديدة توافق متطلبات سوق العمل، مع ضرورة هيكلة التخصصات الإنسانية في كلية واحدة وتقليل أعداد المقاعد المتاحة لتلك التخصصات وربما إلغاء بعضها لضغط المصروفات ولموافقة سوق العمل مع التذكير أن الجامعات ليست مسؤولة عن توظيف الخريجين؛ فوظيفتها هي التعليم الجامعي وتهيئة الخريج والخريجة لسوق العمل.
- ثالثا: هناك تخصصات محجوبة لا تستطيع الفتيات الانخراط بها أو دراستها لما يقال أنها غير مناسبة للمرأة وهي حجة واهية لا تصمد أمام الواقع الذي يقول أن في ذلك تمييز ضد المرأة في هذا الجانب. بعض الجامعات بدأت بفتح جميع تخصصاتها للمرأة لكن هناك جامعات لم تقم بذلك. الهندسة على سبيل المثال أحد المجالات المحجوبة عن الفتاة وأغلب المهندسات في المملكة هن من درسن خارج المملكة.
- رابعا: عدم التشبث بفكرة أن كل من حمل شهادة دكتوراه حتى ولو كان سعوديا أو سعودية مناسب للتدريس الجامعي؛ فتنويع المدارس الفكرية للأساتذة واستقطابهم من عدة دول وجامعات عالمية ومن جنسيات مختلفة مطلب أساسي لنجاح التعليم الجامعي بشرط أن يكونوا أكفاء. هناك أصوات كثيرة تطالب بتوظيف جميع السعوديين حملة الدكتوراه في الجامعات حتى مع عدم كفاءتهم العلمية وحداثة حصولهم على المؤهل. أعتقد أن الاصرار على ذلك سيضر بالعملية التعليمية. مع ذلك يلزم استقطاب الأكفاء من السعوديين والسعوديات إذا ما تبين أن لديهم قدرات مناسبة للانخراط في التدريس والبحث الجامعي.. ما أردت قوله إن الجامعات غير ملزمة ولا يفترض أن تكون ملزمة بتوظيف كل من يحمل شهادة دكتوراه إذا كانت قدراته البحثية أو تكوينه العلمي أقل من المعايير المعروفة بدعوى أنه سعودي أو سعودية. الوظيفة الأكاديمية ليست وظيفة لأكل العيش فقط فلها متطلبات يلزم عدم التنازل عنها تحت وطأة “السعودة”.
- خامسا: يلزم أن يكون لكل جامعة مواردها الخاصة كما ذكر د. إبراهيم من خلال “الأوقاف” وهنا يلزم أن تعطى الجامعات استقلالية ومرونة كافية للتصرف بمواردها المالية لتنويع دخلها.
- سادسا: أتمنى لو منحت الجامعة استقلالية كاملة وعدم ربطها بوزارة التعليم، بل يتم إنشاء هيئات اعتماد أكاديمي تراقب وضع الجامعات وتمنحها الاعتراف عندما تفي بمتطلبات كل تخصص وذلك للخروج من بيروقراطية الجهاز الحكومي.
- سابعا: أميل كثيرا إلى إلغاء حصول الطالب والطالبة على مكافأة شهرية، بل أذهب إلى فكرة أن يدفع الطالب رسوم بسيطة نظير تعليمه الجامعي.. مع ذلك يفترض أن لا يُغمط حق الطالب المتقدم في دراسته بحيث يعفى من الرسوم وأن يقدم للجادين منح تعليمية عندما يثبت تقدمهم الدراسي لتشجيعهم على الجدية والعمل.
- ثامنا: من الأهمية بمكان أن يكون تعيين الوكلاء والعمداء ورؤساء الأقسام بالانتخابات لخلق التنافس بين الأساتذة وللخروج من الفساد الإداري والمحسوبية والشللية وهي الأمراض التي تنخر في جسد جامعاتنا.
التعقيب الثاني: أ.د. فردوس الصالح
يمكن تلخيص النقاط الهامة التي ركز عليها د. إبراهيم البعيز في طرحه لقضية التعليم العالي بين الكم والكيف في التالي:
- افتتاح عدد من الجامعات والكليات الحكومية والخاصة في الفترة القصيرة الماضية والتي غطت أغلب مناطق الوطن.
- بعد هذا الانتشار بدأنا بالتفكير بالكيف والتميز.
- للتميز شروط ومتطلبات فعلية وواقعية وليس رغبات وذلك بتشجيع التنافس؛ واستقطاب الطلاب المتميزين، ورضا المنسوبين …الخ.
- المقارنة في إدارة المنافسة مع الجامعات المتميزة في الغرب.
- تعتبر الاستقلالية الإدارية والمالية شرط للمنافسة.
- أغلب الجامعات الأهلية تجارية.
- اقتراح حل لنشر ثقافة المنافسة بين الجامعات الوطنية بإيجاد نظام وطني لتصنيف جامعاتنا الحكومية والخاصة وفقا لتميزها المؤسسي وتميز برامجها الأكاديمية.
اتفق مع أغلب ما ذكره د. إبراهيم في ورقته ويسرني التعقيب كالتالي:
الأهداف المباشرة للجامعات:
- التدريس.
- البحث العلمي.
- خدمة المجتمع.
أما الأهداف غير المباشرة فتختلف باختلاف الفلسفة التعليمية.
وأساس العملية التعليمية التركيز على الأهداف المباشرة وتطويرها وتجويدها، فالجودة تهتم بالكيف مقابل الكم. ومع أن الفصل بين الكيف والكم أمر صعب عند الحديث عن التعليم؛ لكن المعيار الرئيس للتقويم هو جودة المخرجات وتلبية حاجات المجتمع المعرفية والمهارية فعند إعداد الجامعات استراتيجياتها لابد وأن تحدد أهدافها المستقبلية والتي تؤهلها للرقي بمخرجات التعليم العالي بشباب مؤهل ويتمتع بمهارات تؤهله لتقديم دور هام في تنمية المجتمع أي التركيز على جودة التعليم. وتتحقق الجودة المطلوبة من خلال:
- الحصول على الاعتماد الأكاديمي المؤسسي والبرامجي.
- خفض أعداد طلاب الجامعة بما يتناسب مع إمكانياتها وبما يتوائم مع المعايير العالمية.
- تعزيز وتطوير خبرات الطلاب الأكاديمية والإبداعية.
- تبني طرق تعليم إبداعية. بمساندة أعضاء هيئة التدريس لتطوير مهاراتهم عند ممارسة العملية التعليمية واختيار أفضل وأحدث طرائق التدريس والاهتمام بجودة وحداثة المحتوى بعيدا عن كمية المعلومات.
- إعادة هيكلية الكليات والبرامج والتخصصات وذلك من خلال افتتاح أقسام أو برامج جديدة أو تقليص القبول في بعض الأقسام أو دمج أقسام قائمة أو فصل بعضها عن بعض أو تقليص الدراسة فيها على الدراسات العليا أو إيقاف بعض الأقسام وذلك استجابة لمعيار سوق العمل.
- تشجيع أعضاء هيئة التدريس على الاهتمام بجودة الأبحاث والعمل الجماعي وإشراك طلاب الدراسات العليا.
- أن يحرص عضو هيئة التدريس على مشاركته في خدمة المجتمع.
- تطوير الهيئات المتخصصة باختبارات الجودة التعليمية، ليس على مستوى المملكة فحسب، وإنما من المهم وجود مثل هذه الهيئات في كل جامعة. وهذه الهيئات تقوم باستمرار بالمراجعة الأكاديمية والعلمية لما يقدم في الجامعات، كما أنها تقوم بتقييم الكفاءة التدريسية لأعضاء هيئة التدريس، ومواكبتهم لكل جديد في تخصصاتهم.
- وجود تعاون وثيق بين وزارة التعليم ومختلف القطاعات الحكومية الأخرى والمرتبطة بالسوق. فهذا التعاون يساعد الوزارة على معرفة احتياجات السوق، وبالأرقام، لتهيئة الجامعات والكليات حتى تلبي هذه الاحتياجات، ومن دون هذا التعاون، فإن مخرجات التعليم العالي قد تكون بعيدة كل البعد عن احتياجات المجتمع. فالعبرة ليست بعدد المتخرجين ولا حتى بشهاداتهم وإنما بأهمية تخصصاتهم وقدرتها على سد النقص في سوق العمل.
- من المهم وجود تعاون وثيق بين الجامعات السعودية والجامعات العالمية المرموقة، والاطلاع على ما تقدمه تلك الجامعات في خططها الدراسية، وتبادل الزيارات.
- أن تقوم الجامعات باستشراف المستقبل وعلى أساس ذلك تبني برامجها.
- أن يكون للجامعة تميز في تخصصاتها وبرامجها منطلق من البيئة المحيطة بها، بمعنى آخر ألا تكون الجامعات نسخ مكررة من بعضها البعض.
- أن تسعى الجامعات للاستقلال المالي والذي يؤهلها للتنافسية والتميز.
- أن يكون متطلبات الاعتماد الأكاديمي للجامعة وسيلة للتقويم وتحسين المخرجات وليس هدف بحد ذاته فتنشغل جميع إدارات الجامعة به.
- إنشاء جامعات بحثية تهتم بمشاكل المجتمع والبيئة وتقدم حلول للتنمية والاستدامة مثل الدراسات الفكرية والتصحر وشح المياه وغيرها.
إن دراسة واقع التعليم العالي والانتقال من مرحلة الكم إلى الكيف هدف وطني نبيل يسعى الجميع لتحقيقه ومساندة متخذي القرار في ذلك.
التعقيب الثالث: د. حامد الشراري
ما أود تقديمه قد يكون تعقيب على ورقة د. إبراهيم أو استعراض لمرحلة اختزل فيها الزمن للإنجاز مع تسليط الضوء على أهم التحديات الأربعة لقطاع التعليم العالي آنذاك (التمويل، الاستيعاب، ملائمة سوق العمل، والجودة ومتطلباتها)، وأتطرق – فيما بعد- لجزء من تجربتي الشخصية التي فيها شاركت وعايشت تلك التحديات في إنشاء جامعة ناشئة.
مرت مسيرة التعليم العالي خلال العشرة أعوام الماضية بمرحلة ازدهار لم تشهدها هذه البلاد المباركة في تاريخها بدعم واهتمام من قيادتنا الرشيدة والمتمثلة بتخصيص ميزانيات ضخمة لقطاع التعليم العالي لافتتاح الجامعات و إنشاء مدن جامعية متكاملة متقدمة ومتطورة في كل منطقة حتى اكتمل العقد الجامعي على عنق الوطن الغالي وابتعاث آلاف الطلبة خارجيا لنيل الدرجة الجامعية المختلفة وفي التخصصات العلمية والنادرة والجوائز التحفيزية للمبدعين ومراكز التميز، والعمل على نقل المجتمع من مرحلة التعليم العام إلى مرحلة التعليم العالي، ومن مرحلة التلقي إلى مرحلة الإنتاج المعرفي.
فالشكر والتقدير لوزارة التعليم العالي سابقا والقائمين عليها في جهودهم والنجاحات الملموسة للجميع وتسابقهم مع الزمن لإنجاز تلك المشروعات الجبارة كما ومشاريع التطوير النوعي كيفا تحقيقا لتطلعات قيادتنا الرشيدة- يحفظه الله.
وكان لرعاية القيادة لهذا القطاع الأثر الكبير في تحقيقه مراحل تطويرية مهمة حيث جاء مشروع آفاق الخطة الاستراتيجية بعيدة المدى للتعليم العالي ليؤكد كيفية التعامل مع التحديات الرئيسة للتعليم العالي والمتمثلة في الجودة ومتطلباتها التمويلية والاستيعاب والقبول والملائمة مع سوق العمل.
بخصوص التحديين: التمويل والاستيعاب؛ فوزارة المالية مشكورة وفرت الميزانيات بتوجيهات القيادة الرشيدة لإنشاء مشاريع التعليم العالي الضخمة ورفع الطاقة الاستيعابية للجامعات السعودية إلى استيعاب ما يصل لـ 90 % من خريجي المدارس الثانوية، وهو رقم كبير يفوق بمراحل حجم الاستيعاب المتعارف عليه دوليا وهو الذي لا يتجاوز 50 % في المعدل.
أما بخصوص تحدي ملائمة سوق العمل والجودة ومتطلباتها:
إيماناً بأهمية التعليم كأحد مرتكزات التنمية في المملكة العربية السعودية، فإن المملكة تسعى دائماً لتواكب مسيرة التعليم العالمية لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية في ظل العولمة الحديثة، حيث أكدت وثيقة السياسة العامة للتعليم في عدد من موادها، وكذا خطط التنمية، على أهمية توافق مخرجات التعليم العالي مع متطلبات التنمية بما من شأنه أن يسدّ حاجات الاقتصاد ومتطلبات التنمية للمملكة من التخصصات في مختلف اتجاهاتها وأبعادها، وتوطين العلوم والتقنية وإعداد وتأهيل الشباب للعمل المنتج. وهذا ما أكدت عليه خطط التنمية المتعاقبة للدولة من أهمية دعم المسيرة التعليمية لعطاء أفضل لأجل الوصول إلى أفضل المستويات التعليمية والمهنية لخريجينا، وتحقيق أفضل العطاء لوطننا الغالي.
وبخصوص ملائمة سوق العمل، تم تغيير سريع وكبير في هيكل التعليم العالي الجامعي وذلك بافتتاح الجامعات الحكومية والتركيز على الكليات الصحية والعلمية التطبيقية وافتتاح تخصصات جديدة وإغلاق أو إيقاف بعض التخصصات والتوسع بالجامعات والكليات الأهلية المرتبطة بحاجة سوق العمل.
أما التحدي الرابع وهو الجودة وضبطها ومتطلباتها:
فقد أنشئت الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي بموجب الموافقة السامية الكريمة رقم 7/ب/6024 وتاريخ 9/2/1424هـ. بحيث تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي وتكون السلطة المسئولة عن شؤون الاعتماد الأكاديمي وضمان الجودة في مؤسسات التعليم فوق الثانوي عدا التعليم العسكري، لغرض الارتقاء بجودة التعليم فوق الثانوي الخاص والحكومي، وضمان الوضوح والشفافية، وتوفير معايير مقننة للأداء الأكاديمي.
والهيئة تبذل جهود كبيرة لتحقيق أهدافها وقد حققت شيء مناسب مقارنة مع إمكانياتها وأمامها الشيء الكثير.
خلاصة القول: الفترة السابقة كان الدعم المالي الضخم موجه للتركيز على المشاريع الإنشائية والبنية التحتية للمدن الجامعية أما الفترة القادمة فالحاجة ماسة لتوفير الدعم للمشاريع النوعية التي تساعد الجامعات في تحقيق الجودة التي تهدف إلى ملائمة كل تخصص لسوق العمل، ورفع جودة التعليم، مع الحاجة لمؤشرات واضحة تبرز التطور النوعي وما تم بالجودة وضبطها وموائمة المخرجات لسوق العمل السعودي.
المداخلات حول قضية: (التعليم العالي بين الكم والكيف)
- معوقات تطوير التعليم العالي في المملكة
أوضح د. حامد الشراري أن بعض الجامعات التي انُشئت في المناطق المختلفة (البعيدة عن المناطق الرئيسة) في بدايتها اصطدمت مع ثقافة مجتمعية غير مستوعبة لأدوار الجامعة وتعامل معها المجتمع المحلي كامتداد لمدارس التعليم العام..
وهذه الجامعات الجديدة واجهت عقبات أخرى منها إلحاق كليات المعلمين وكليات البنات التي عمرها أكبر من عمر تلك الجامعات حديثة السن، فكليات المعلمين وكليات البنات تدار بإرث وعقلية وزارة المعارف سابقا، أما الجامعات فتدار بعقلية التعليم العالي.. فإدارة تلك الجامعات بذلت جهودا مضاعفة لإعادة هيكلتها لتتوافق مع البيئة الجامعية الجديدة، وعملت أيضا على توضيح دور الجامعة للمجتمع المحلي.. هذه التحديات جزء مما واجهته الجامعات الجديدة وما يزال تأثيرها السلبي على جودة تلك الجامعات وتحتاج وقت لتجاوزها.
إدارة ومسؤولي تلك الجامعات كانوا يعملوا بجد وبجهود متواصلة وبسباق مع الزمن على أكثر من مسار وبشكل متوازي مع قلة عددهم، منها: إنشاء المباني، إنشاء البرامج الأكاديمية (غالبها نسخ من الجامعات الرئيسية!) والتوسع بفتح وتفعيل الكليات والأقسام الموافق عليها من قبل المقام السامي (جلها طبية وصحية وهندسية وعلمية وإدارية ..)، استجلاب الأنظمة الإدارية والمالية وأنظمة التعليم العالي ولوائحه وفهمها، التوظيف واستقطاب الكفاءات الإدارية والأكاديمية، والتدريب والتأهيل، المشتريات والعقود واستئجار المباني الذي يعد بعضها غير مهيئ للبيئة الجامعية في ظل نقص المباني، توفير الكتب والمعامل والمختبرات، توفير البنية والبرامج الالكترونية والتقنية، والتوسع بقبول الطلاب والطالبات، وضبط الجودة، والمشاركة بالفعاليات والأنشطة المختلفة داخل المنطقة وخارجها، وبُعد مدن هذه الجامعات عن المدن الرئيسية والتكلفة العالية بخصوص النقل والتموين، والوقت التي تستغرقه الإرسالية ، والتعامل مع مجتمع تعتبر ثقافة التعليم العالي جديدة عليه…. الخ، أخيراً يُتعامل معها كأنها جامعة قائمة ومكتملة الأركان!
وبعيدا عن المهام الرئيسة للجامعات، فإن الجامعات والكليات الجديدة في المناطق أحدثت حراك تنموي للمدن والمحافظات التي أنُشئت فيها، فأوجدت فرص عمل للمواطنين والمواطنات، وحركت القطاع الاستثماري المحلي.
وأكد د. عبد الله بن صالح الحمود على أن الجامعات والكليات الأهلية هي إضافة لدعم التعليم العالي والبحث العلمي، ولعل الجميع يدرك أن عليها نفقات عالية سعيا نحو منافسة مأمولة ، فهي مؤسسات تعليمية أتت لتكن رافدا ومكملا لمسيرة التعليم العالي ، وعلى الرغم من توقف المنح الداخلية بنسبة عالية لمرحلة البكالوريوس وتوقفها نهائيا لمرحلة الماجستير إلا أنها لاتزال صامدة نحو مشاركة مجتمعية دعما لتلك المسيرة.
وأشار د. مساعد المحيا إلى أن المشكلة أن الجامعات الجديدة حينما تفكك كلياتها تجد غالبيتها كليات في مدن متعددة بعيدة عن مركز الجامعة فهي أشبه بثانوية مطورة إذ كثير منها تديرها كفاءات أقل من مرحلة الدكتوراه وكثير من أعضاء هيئة التدريس الأجانب فيها مستوياتهم ضعيفة جدا. كما أن عددا من الشباب السعوديين الذين التحقوا بها قد ينسحب عليهم هذا الوصف.. إذ أصبحت تلك الكليات قنوات توظيف دون التركيز على الجودة والكفاءة؛ ولذا نجد الفرق كبيرا بين مخرجات هذه الكليات ومخرجات كليات الجامعات الأم في المملكة.. مثلا هناك كليات طب وطب أسنان في عدد من تلك الكليات، مشكلتها أنها تقوم في بيئة غير تأهيلية حيث لا توجد مستشفيات تابعة للجامعة يمكن من خلالها التدريب، كما هو الشأن في الملك سعود والملك عبد العزيز؛ لذا نجد المؤسسات الطبية لدينا تتحفظ على طلاب أولئك وتقبل طلاب الجامعات ذات التجربة العريقة في التأهيل والتدريب. من جانب آخر فإن السعوديون يبدعون حين يجدون بيئة تساعدهم على ذلك.
وبدوره علق د. حامد الشراري بأنه لا شك أن الجامعات الجديدة (المناطق) تأخرت كثيرا.. وما تحدثه من حراك في المناطق على المستوى المعرفي والتنموي خير دليل على أهميتها، إلا أنها قد تفقد ميزة الاحتكاك الثقافي والاجتماعي والتعارفي بين أبناء المملكة وقد يكرس العزلة بينهم عكس ما كان في الجامعات الرئيسية كجامعة الملك سعود والإمام والملك عبدالعزيز والملك فهد …؛ بمعنى الجامعات الجديدة غالب طلابها من نفس المنطقة أو المدينة مما يفوت فرصة التعارف والالتقاء بين أبناء مناطق المملكة، والذي انعكس بالإيجاب على المجتمع السعودي سابقا. كيف يمكن معالجتها؟ إنها مسألة جديرة بالمناقشة!
ومن جهته قال د. زياد الدريس: الدور النهضوي (بمفهومه الشامل)، لا التعليمي (بمفهومه الضيق)، هو القيمة المُضافة التي تقدمها الجامعات للمجتمعات، وإلا لأصبحت ثانويات ثانية.
هل قامت جامعاتنا العريقة كجامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالعزيز وبقية السبعة الكبار، فضلاً عن الجامعات الصغيرة المستحدثة، بدورها النهضوي؟! الطريقة الأسهل لفحص هذا التأثير من عدمه هو عبر إجرائه على جامعات المدن الصغيرة بالذات.
وأشار د.م. نصر الصحاف إلى ما أعلنته هيئة تقويم التعليم العام حول نتائج الاختبارات الوطنية؛ والتي أوضحت أن القيمة المضافة من المدارس الأهلية لم تتجاوز ١٥٪ في تحصيل الطلاب … كما أن ما يقارب ٤١٪ من الطلاب لا يملكون الحد الأدنى من مهارات ومعارف المرحلة التي هم عليها … فضلا أن ٦٣٪ من الطلاب لا يدركون ما يتوقعه والديهم منهم ولا يعطونهم الوقت الكافي … إضافة أن ٧٤٪ من طلاب المملكة لا ينالون القسط الكافي من النوم قبل الذهاب المدرسة. كما اتضح أن تحصيل الطالبات أفضل من الطلاب على الرغم من أن وظائف الطلاب أكثر من ضعف وظائف الطالبات. فضلا أن أكثر من ٦٠٪ من الطلاب لا يملكون الحس الأمني والوطني … هؤلاء عرضة لداعش وأخواتها الذين دوما يستهدفون من هم دون ٢٢ سنة.
- آليات تطوير التعليم العالي وتجاوز الإشكالات الراهنة
في هذا الصدد أكد د.م. نصر الصحاف على أهمية تنافس الجامعات فيما بينها لتكون لبنة بناء وفائدة في المجتمع وعدم الاكتفاء بالنظرة القاصرة كمكان لتعلم مواد ومقررات مجدولة وإنما مركز تنويري لثقافة المجتمع ككل وليس الطلبة المنتظمين فقط.
فديننا الحنيف يؤكد على مبدأ طلب العلم من المهد إلى اللحد ولكن ما نراه هو تطبيق هذا المبدأ في الجامعات الغربية حيث نجد الجد والجدة يشاركون الأحفاد مقاعد الدراسة بينما لسان الحال لدينا يقول “يوم شاب ودووه الكتّاب” في ازدراء مناقض للمبادئ.
وأوضح أنه مع وجود فائض لمقاعد الدراسة بالجامعات فإنه ليس ممن يطالبوا بخفض أعداد المبتعثين إلى الخارج أو إنهاء برنامج الابتعاث ككل!! بالعكس وبما أننا مجتمع منغلق عن كل الحضارات الأخرى من منطلق ” نحن الأفضل ” فإنه يدعو إلى مضاعفة أعداد المبتعثين وعدم حصر التخصصات أبداً لسببين:
- الأول: نحن مقدمين على انفجار سكاني هائل فمعدل الإنجاب لدينا تجاوز الهند منذ فترة وهذه المقاعد الشاغرة التي ذكرها د. البعيز لا تكفي أبداً بل العكس سيكون هناك نقص في السنوات القليلة القادمة!
- الثاني: في ظل انغلاق مجتمعنا عن ثقافات الشعوب الأخرى أتمنى لأكبر عدد ممكن من النشء الجديد فرصة الابتعاث والاختلاط بالثقافات الأخرى وتعلم التعايش والتسامح الذي أوصى به ديننا الحنيف وغُيب تماماً في بعض جامعاتنا في العقود الأخيرة!!
واتفق د.م. نصر الصحاف مع التأكيد على استقلالية الموارد المالية للجامعات وفصلها تماماً عن وزارة التعليم والتي تشكل العقبة الأساسية للتعليم في المملكة!!
وأن تكون مصادر دخولها حكراً على الأوقاف الخاصة ولعل برنامج التحول الوطني المزمع يلزم كبار التجار المحتكرين لتجارة معروفة منذ عشرات السنين ولم يقدموا أي فائدة للبلد سوى نهب المواطنين واستغلالهم وتكديس الثروات بأن يقدموا دعم معتبر وسنوي ملزم واعتبار ذلك تزكية لأموالهم عن العقود الماضية!!
ولنأخذ جامعة كاليفورنيا على سبيل المثال ففرع سانتا باربرا على سبيل المثال تلقى تبرع من أسرة في عام 2000 بمبلغ ٢٢٠ مليون دولار بينما بلغ مجمل ما تحصل عليه من الهبات في نفس العام ٤٣٠ مليون دولار أضف إلى ذلك المتحصل من الرسوم الدراسية والجهات الحكومية مثل ناسا مقابل برامج أبحاث معينة!!
وفي المقابل ليس من المناسب قطع المكافأة المالية للطلبة فهي فعلاً حافز لهم للانتظام في الدراسة وتخفيف العبء عن أسرهم وكذلك كونها لا تسمن ولا تغني من جوع !! وكذلك لا يؤيد د.م نصر فكرة دفع المواطنين رسوم دراسية للجامعات!! ويرى أنه إذا أردنا التخفيف عن الدولة في المصاريف فعلينا “بالقطط السمينة” التي نهبت المواطن وكدست الثروات في البنوك ومن ثم قدمت أسوأ الأمثلة عن السعوديين في الخارج باستعراض ثراءها الفاحش والمبتذل!!
وأخيراً لعلنا نستعرض هنا وضع جامعاتنا (الملك سعود) ونتاجها كمقارنة مع إحدى أفرع جامعة كاليفورنيا من حيث عدد الطلبة والميزانيات والأبحاث وكذلك عدد الحائزين على جائزة نوبل في مختلف العلوم وفعلاً يدرسوا في نفس الجامعة.
وأشار أ. أسامة كردي إلى مركزية موضوع التجاوب مع سوق العمل ومتطلباته.. ليس فقط من ناحية النوعية والكم ولكن كذلك من ناحية التخصصات ومدى الاحتياج لها في سوق العمل.
أما فيما يختص بالصلاحيات المالية فيرى أن الحاجة ماسة للتعرف بدرجة أكبر على خبرة جامعة الملك سعود في موضوع الأوقاف ونشر هذه الثقافة في الجامعات الأخرى حتى مع بعض سلبياتها. فضلاً عن الحاجة إلى مأسسة الكراسي البحثية. كما أن هناك نقصا لدى جامعاتنا في معرفة ماهية خدمة المجتمع ووسائل الوصول اليها والتعرف بشكل أوسع إلى حاجات المجتمع للتعامل معها.
وأخيراً هناك ضرورة للاهتمام بالكم (وليس بالضرورة على حساب النوع) في تخصصات معينة في ضوء تواجد ١٠ ملايين متعاقد لدينا وفي ضوء أن الأطباء السعوديين لا يمثلون أكثر من ١٠٪ من الأطباء لدينا وأن المهندسين السعوديين لا يمثلون أكثر من ٦٪.
ومن وجهة نظره أ. أسامة كردي فإن الحديث عن القطاع الخاص بهذه اللهجة وبهذه التعابير التي أشار إليها د.م نصر لا يساعد أبدا في تطوير اهتماماتهم بالتعليم العالي.. فعدم اهتمامهم بالتعليم العالي لا يعني عدم اهتمامهم بخدمة المجتمع بشكل عام.. فلديهم مشاركات كبيرة في قطاعات أخرى مهمة في المجتمع ولكن قد لا يعلمها الجميع.. المهم هنا تحفيزهم للاستثمار ودعم التعليم العالي.
وأوضح د. خالد الرديعان أنه وفيما يتعلق بمكافأة الطلاب فقد اشار إلى أنه ضدها فقد خلقت عند الطلاب نوع من الاسترخاء وأن الحكومة تدفع لهم لكي يتعلموا في الجامعة. حيث لوحظ في السنوات الأخيرة عدم جدية الكثير من الطلاب وبالتالي لو أنهم دفعوا جزء من تكاليف تعليمهم فلربما أصبحوا أكثر جدية كالطالب الغربي الذي يضطر للعمل دوام جزئي لكي يسدد رسوم دراسته ويتدبر أمور النفقة على متطلباته البسيطة. والجامعات مع ذلك تلجأ لأسلوب قطع المكافأة عندما يهبط معدل الطالب التراكمي وهذا مطبق في جامعة الأميرة نورة على سبيل المثال.
في حين عارض د.م. نصر الصحاف وجهة النظر الأخيرة؛ نظراً لأن مقارنة مجتمعنا مع المجتمع الآخر غير متجانسة كلياً، وإلغاء المكافأة المالية للطالب لن تأتي إلا بنتيجة سلبية لشريحة معينة في المجتمع وتعتبر كبيرة نوعاً ما. بالعكس يجب بذل كل ما يمكن من أجل تشجيع أكبر شريحة ممكنة من أفراد المجتمع للتسجيل والانتظام بالمقاعد الدراسية في الجامعات! هذا هو خيار كل الدول للمعرفة ولا نختلف كثيراً عن غيرنا في ذلك!!
ويعتقد د. محمد القويز أن دعم الجامعات الخاصة بدون أن يكون لها نتاج بحثي صعب جدا؛ كذلك يفترض أن هناك مجلس أمناء للجامعات الخاصة تعطيها مصداقية وتضمن الشفافية.
وعلق د. خالد الرديعان على ذلك بأن رجال الأعمال الذين يمولون كراسي جامعية بحثية يشترطون أن تصرف المبالغ على قضايا محددة وهناك وكالة في الجامعة تراقب صرف الأموال ويزود الممول بمعلومات كافية عن أمواله وأين ذهبت وإن كان هناك بعض الفساد الذي يصعب مراقبته.
وبرأي م. سالم المري حول ما أثير بشأن مكافأة الطلاب ودعم الحكومة للجامعات وقول البعض بتخصيص الجامعات وقطع مكافآت الطلاب، فإن تخصيص الجامعات ووقف مكافآت الطلاب ستكون نتائجه كارثيه على المجتمع. وذلك لعدة أسباب منها؛ أن الغالبية العظمى في المجتمع غير قادرة على دفع رسوم تعليم أبنائها في الجامعات الخاصة. فالثروة في المملكة بالرغم من ضخامتها محصورة في نسبه صغيرة جدا من السكان والطبقة الوسطى اليوم في تقلص مستمر. كما أن الطبقة الثرية في المملكة مختلفة عن الطبقات الثرية في الغرب. فنسبه كبيرة من أثرياء المملكة للأسف الشديد حصلوا على ثرواتهم بطرق ليسوا مقتنعين بها كالأراضي المملوكة بطرق ملتوية، أو عن طريق نفوذهم ومسؤولياتهم أو وظائفهم في الدولة ولذلك تجد لديهم أزمة ثقة والكثيرون منهم أموالهم في الخارج وليس لديهم أي شعور بالأمان في العمل في الوطن إلا بما يدر لهم دخلا وربحا جديدا!!
والنتيجة الحتمية لتخصيص الجامعات وقطع مكافآت الطلاب؛ سيكون انحسار التعليم العالي واحتكاره في طبقات معينة وتقلص الفرص الوظيفية لشريحة واسعة من المجتمع وسقوط هؤلاء ضحايا للجهل والبطالة ومن ثم هدفا سهلا للإرهاب.
وأوضح أ. عبدالله آل حامد أن الجامعات كانت مستقلة حتى في برنامج التحول الوطني قدمت مشاريعها ومبادراتها بصفة مستقلة عن الوزارة. ووزارة التعليم “العالي” في إطارها الجديد جهة إشرافية فقط والابتعاث كذلك هناك دراسة بتحويله إلى هيئة مستقلة تندرج تحته جميع إدارات الابتعاث بالوزارات والمؤسسات الحكومية.
كذلك فإن أهم الأهداف الاستراتيجية التي جرى ويجري العمل عليها في كل الخطط الاقتصادية هو مجانية التعليم بالمملكة وهناك إيمان راسخ تجاه هذا الهدف من أعلى سلطة.
وأشار د. مساعد المحيا إلى أهمية أن يشهد التعليم لدينا خلال برنامج التحول تغييرا كيفيا ينتح لنا على المدى الطويل استثمارا في عقول أبنائنا ويضيف الكثير لهذا الوطن.. وأضاف: “برغم قناعتي أن المعوقات الاجتماعية أقوى من قدرة التعليم على التغيير لكن لا ينبغي أن نترك فرصة المحاولة فربما يكون التغيير بمفهومه الكيفي الشامل قادرا على إحداث تغييرات اجتماعية مهمة تحافظ على هويتنا وتبعث لدينا كفاءات محبة للتعليم وللعمل”.
ومن جانبها أكدت أ. فايزة الحربي على النقاط الآتية:
- أولاً: أهمية وضرورة تحديث التخصصات بما يواكب متطلبات العصر واحتياجات السوق.
- ثانياً: وضع مناهج علمية من قبل عدد من الخبراء ثم توحيدها على الجامعات بطباعة فاخرة تحدث سنوياً بما يضمن شموليتها للمفردات والعمق العلمي المطلوب مع ترك مساحة كافية للإضافة والافاضة للأساتذة.
- ثالثاً: وتتعلق بآلية ومعايير تطبيق الاختبار الشامل على طلاب الدكتوراه؛ حيث أنه لابد من إعادة فلترة طريقة هذا الاختبار بما يضمن حقوق الطلاب وتحقيق الفائدة القصوى منه مع التركيز على الفهم بعيدا عن الحفظ.
ومن جهته أقترح د. حامد الشراري لرفع جودة الجامعة وتنويع الخبرات وإثراء العملية التعليمية والبحثية ما يلي:
- أن تكون هناك نسبة لأعضاء هيئة التدريس الأجانب بالأقسام أو مراكز البحث مثلا ٣٠٪ من مجمل عدد أعضاء هيئة التدريس والباحثين بالقسم أو المركز..، على أن تكون هذه النسبة خليط من جنسيات وجامعات عالمية مرموقة مختلفة.
- أن تخصص مقاعد للطلاب المتميزين من غير السعوديين في الأقسام بنسبة معينة وضمن معايير قبول قوية. حيث أن هذا يزيد المنافسة بين الطلاب (السعودي مع غير السعودي)، وكذلك استفادة الطالب/ الطالبة السعودي من إشراكهم معهم بالمشاريع البحثية.
- هذه النسب تزيد أو تنقص حسب نوع الجامعة {جامعة بحثية، أو جامعة تعليمية، أو خليط (تعليمية وبحثية)}. وفق ضوابط معينة.
في حين أشار د. سعد الشهراني إلى أن انشاء الجامعات في الأقاليم تأخر كثيرا، والبدايات صعبة وكثير من مخرجات هذه الجامعات ليست جيدة خصوصا الحديثة منها؛ ومع ذلك فهذه الجامعات ضرورة تنموية ويجب دعمها لترتقي برامجها وتتحسن مخرجاتها ولا بد من الاصرار على أعلى معايير الجودة العلمية والبحثية.
ومن المهم ألا تقبل الجامعات إلا من لديه القدرة للاستمرار وتحديدا من تحصل على درجات معينة في الثانوية العامة واختبارات القياس والتحصيل.
إن جودة التعليم والبحث وخدمة المجتمع (الوظائف التقليدية للجامعات) تتطلب:
- مدخلات جيدة: طلاب وأساتذة جيدون وبنية أساسية جيدة.
- عمليات جيدة: إدارة جيدة وبرامج مميزة وتدريس وتعليم جيد.
وبدوره قال د. حامد الشراري: كيف تصبح الجامعات الجديدة أكثر تأثيراً في تغيير ثقافة المجتمع وسلوكه؟ – هو جانب مغيب وأبعد من المفهوم الأكاديمي التقليدي لوظائف الجامعات الرئيسة الثلاث (التدريس، البحث، خدمة المجتمع). أي أن الجامعات يفترض أن تغيّر من ثقافة وسلوك المجتمع للأفضل، التي تعد “وظيفة رابعة”، مع الحفاظ على قيم المجتمع النبيلة المستقاة من مبادئ ديننا الحنيف، بحيث تكون الجامعات مؤثّرة بثقافة وسلوك المجتمع لا متأثرة به تقود تغيير السلوك الاجتماعي للأفضل من خلال توثيق العلاقة والتفاعل البناء مع المجتمع، ومن تلك الأمور المهمة من أجل تغيير ثقافة المجتمع وسلوكه ما يلي:
- تأصيل مفهوم الوحدة الوطنية والحفاظ على مقدرات الوطن.
- تأصيل ثقافة الانضباط والالتزام واحترام العمل.
- الجدية في العمل والمقدرة في خلق فرص العمل مستقبلاً.
- أن يكون الفرد منتجاً ومساهماً في خدمة المجتمع لا أن يكون عبئاً عليه.
- احترام الأنظمة والقوانين وتطبيقها على الوجه المطلوب.
- احترام الغير وتأصيل ثقافة الحوار والتسامح ونبذ التعصب.
- المحافظة على القيم والمثل العليا للمجتمع.
- إدراك أن البقاء في المنصب الإداري ليس مخلداً.
- ضرورة قرب المسؤول للمواطن والعمل على خدمته.
ويرى د. حميد المزروع أن ما يحتاجه سوق العمل حاليا خريجي الكليات التقنية والمهنيين بشكل خاص. واتفق م. حسام بحيري مع هذا الرأي وأضاف أنه لابد من التركيز على العمالة المهنية والتقنية والتركيز على تكوين طبقة ذوي الياقات الزرقاء المحترفة لأنهم عماد اقتصادات الدول. للأسف لا يوجد أي اهتمام جدي بهذه الطبقة من العمالة خصوصا في القطاعات الحكومية عامة إلا في بعض المنشآت التي تعمل في قطاع الغاز والبترول وإنتاج الكيماويات وهذه القطاعات تقدر أهميتهم وتهتم بتقديم برامج توظيف جيدة جدا. إننا بحاجة إلى برامج حوافز خاص بالعمالة الماهرة والبدء بالتركيز على استحداث وظائف تستهدف هذه الشريحة بالذات في استبدال العمالة الأجنبية المهنية في القطاع الحكومي. العمالة المهنية في المملكة تشكل جزء كبير من مجمل العمالة الأجنبية المتواجدة في المملكة ونستطيع استحداث ملايين من الوظائف الجديدة للمواطنين في خلال عقد من الزمان إذا توفرت البنية الأساسية المناسبة لتعليمهم وتدريبهم.
وقال د. يحى الحارثي: “نحتاج: فرض أمر، إجبار!! اللحظة لا تسمح بالمداعبة والترجي الاستئذان!! الدولة تقدم مخزن الاحتياج من خلال المشتريات وتحمل العصى لمن عصى، الملياردرية يجهزون المال والاستثمار والمعاهد تخرج الفنيين للتوظيف…. لنا في هتلر المانيا دروس والاتحاد السوفييتي أيضا. هذه دائرة لابد المرور بها. البرمجة والتطويع والتسيير لخلق صناعة وقوة، وبعدها يكون الترف الفكري والحرية والأحلام”.
وأوضح د. عبد الله بن صالح الحمود أن التعليم العالي يعد منهجاً قويم ، ينطلق من خلاله تطوير المجتمعات ، وبحكم أن الدراسات الجامعية بطبيعتها تتفرع نحو تخصصات علمية متعددة ، تلبية لمتطلبات أي مجتمع ، فقد أضحى الاهتمام بالشأن الكيفي بعد أن وصلنا إلى حد كبير إلى الاكتفاء الكمي أمر في غاية الأهمية ، وإن كان الوصول إلى النقلة الكمية يحتاج إلى المزيد من المراجعة لتحقيق رغبات أكثر للدارسين ، وتحقيقاً لمتطلبات المجتمع من تخصصات دراسية يتطلبها سوق العمل ، حتى يكون هناك توازن بين العطاء الكمي والعطاء الكيفي ، لبلوغ أهداف متوخاة للنيل من ثقافة مجتمعيه مأمولة.
وفي ضوء ذلك يمكن طرح مجموعة من المقترحات التالية للنهوض بالدراسات الجامعية والعليا على حد سواء:
- نلحظ أن البحث العلمي في الجامعات السعودية لم ينل النصيب المفترض أن يناله كما هو الحال في جامعات دول عديدة ، فقد وصل الاهتمام بمسألة البحث العلمي لدى العديد من الدول إلى درجة اقتران ذلك بعبارة (والبحث العلمي) بوزارات التعليم العالي لديها تحت مسمى (وزارة التعليم العالي والبحث العلمي) ، بينما لدينا بدأنا في تقليص مسميات ضرورية ومرتبطة بأنشطة تعليم عالي يفترض أن تنال من الاهتمام والاستقلالية ما هو داعم لمسيرة التعليم العالي في البلاد ، حتى جمعنا التعليم العام بالعالي تحت مسمى (وزارة التعليم) مما تسبب في نسيان شبه مطلق إن لم يكن بالفعل مطلق لعبارة (البحث العلمي) .
والقضية ليست في ذكر مسمى من عدمه، بقدر ما هو واجب الاتيان به والسعي نحو الاهتمام والمحافظة على مستويات البحوث العلمية في الجامعات، التي أضحت حتى بعض رسائل طلبتها لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه مخجلة في ظهورها للمجتمع، فضلاً عن ما يلاحظ أحياناً على بحوث ترقيات أعضاء هيئة التدريس في بعض الجامعات من أن ما يتم تقديمه للتحكيم لغرض الترقية يصل البعض منه إلى حشو زائد بهدف تضخيم البحث أو البحوث المقدمة لتلك الترقيات، دون اكتساب ما هو مفيد أكاديمياً ومجتمعياً.
ولهذا فإن قلة الاهتمام بشؤون البحوث العلمية عامة، بلا شك أنه يعد إضعاف للمستوى الأكاديمي عامة لأي جامعة، كما أن ذلك ينعكس على المستوى العلمي لعضو هيئة التدريس، وبالتالي تنخفض درجة المستوى الأكاديمي لأي جامعة كانت.
- بالرغم من المناداة المستمرة بأن تتوسع الجامعات في تخصصات دراسية تتوائم ومتطلبات سوق العمل، إلا أن التخصصات المطلوبة والنوعية لا تزال محدودة للغاية، خصوصاً في مجالات (الطب – الهندسة – تقنية المعلومات – الرياضيات والتأمين).
والمشكلة لا شك أنها كبيرة وفي تنام، وبالرغم من وصول مدراء جدد لجامعات تعج بتخصصات لم يعد يحتاجها سوق العمل لدينا، إلا أن التوسع أو فتح تخصصات جديدة ذات مطلب ملح لم تحظ بأي مبادرة مشهودة.
- إن الاستثمار في مجال التعليم العالي الأهلي يعد استثمارا مكلف للغاية ، ويسعى المستثمر أن يكون شريكاً حقيقياً بجانب الجامعات الحكومية ، إضافة إلى بذل الجهود من لدن القائمين على مؤسسات التعليم العالي الأهلي بهدف الاسهام في نهضة التعليم العالي ، ودعماً لمتطلبات سوق العمل من تخصصات دراسية مطلوبة ، إلا أن هذه المؤسسات تواجه بعض من الصعوبات بسبب إجراءات بيروقراطية متعددة غالبها غير ضروري ، كما أن إيقاف المنح الدراسية الداخلية للطلبة الملتحقين بمؤسسات التعليم العالي الأهلي تسبب في عزوف العديد من الطلبة من مواصلة دراستهم في الكليات والجامعات الأهلية ، مما تسبب معه تدن لمداخيل هذه المؤسسات.
- اقترح أن تؤسس هيئة عليا للتعليم العالي والبحث العلمي تحت مسمى (الهيئة العليا للتعليم العالي والبحث العلمي) وأن تكون غالبية أعضاء مجلس إدارتها مدراء الجامعات الحكومية كافة ، إضافة إلى خمس من مدراء الجامعات الأهلية ، وأن تكون هذه الهيئة الجهة المشرفة على الجامعات السعودية أكاديمياً ، على أن تستقل كل جامعة حكومية بميزانية خاصة بها دون ربط موازنتها بهذه الهيئة المقترحة ، وأن يكون لكل جامعة شخصية اعتبارية في قراراتها ، ومنحها صلاحيات جديدة تمكنها من تطوير الأداء الأكاديمي لديها دون الرجوع لهذه الهيئة المقترحة إلا في حدود معينة ترى الهيئة مناسبة الرجوع إليها.
- تعقيب ختامي في ضوء خطة كاليفورنيا للتعليم العالي
عقب د. إبراهيم البعيز بأنه حرص على أن تكون وجهة نظره للنقلة النوعية في التعليم الجامعي منحصرة في متطلبات البيئة التنظيمية للتعليم الجامعي، لأنها هي المشتركة والرابط بين الجامعات والمحفز على المنافسة وقصد بها الاستقلالية الإدارية والمالية ونظام التصنيف، مع مراعاة أن إصلاح هذه البيئة تخرج عن نطاق قدرة وصلاحية الجامعات وتحتاج إلى قرار سياسي.
وأوضح أن مساهمات رجال الأعمال في الغرب ليس بالضرورة أنهم أكثر وطنية وإخلاص من رجال الأعمال في المملكة بل لأن فيها عوائد عليهم من حيث الضرائب. من ناحية أخرى تدخل فيها اعتبارات دينية لدينا من قضايا الإرث والوصية – الموضوع في كثير من الاعتبارات. وأنظمة الجامعات والدولة بشكل عام إلى وقت قريب تمنع التجار من التبرع للمؤسسات الحكومية وقصة الإسعافات لمستشفى جامعي ليست بعيدة.
وفي السياق ذاته يمكن الإشارة إلى خطة كاليفورنيا للتعليم العالي؛ فقد وضعت ولاية كاليفورنيا في عام 1960خطة للتعليم الجامعي تعرف ب California Master Plan for Higher Education. تقوم هذه الخطة على أساس التكامل بين مؤسسات التعليم العالي في الولاية، وبما يضمن الجودة والتميز في التعليم العالي بجانبيه التعليمي والبحثي. تقوم هذه الخطة على ثلاث منظومات للتعليم العالي بعد الثانوية.
- منظومة جامعة كاليفورنيا University of California ولها عشر جامعات، وهي جامعات بحثية وتولي أهمية قصوى لبرامج الدراسات العليا، وحصتها من خريجي الثانوية لا تتجاوز 12.5%.
- منظومة جامعة ولاية كاليفورنيا California State University ولها 23 جامعة، وهي جامعات تعليمية وتولي الأهمية القصوى لبرامج البكالوريوس وفي نطاق ضيق جدا برامج للماجستير، ولكنها لا تقدم برامج دكتوراه، وحصتها من خريجي الثانوية 33.3%.
- منظومة كليات المجتمع California Community Colleges ولها 113 كلية وهي كليات متوسطة تمنح دبلوم مهني بعد سنتين من الدراسة. يذهب الخريجون مباشرة إلى سوق العمل، والمتميز يمكنه إكمال البكالوريوس في إحدى جامعات ولاية كاليفورنيا.
والتحويل بين هذه المنظومات الثلاث سهل جدا؛ حيث أن هناك نظام واضح لمعادلة المواد.
العبرة من ذكر هذه التجربة هو التكامل بين المنظومات الثلاث بحث تكون إحداها بحثية والثانية تعليمية والثالثة مهنية. والمنافسة تكون بين الجامعات في كل منظومة.
المحور الثالث
العناية بالآثار والأماكن التاريخية
الورقة الرئيسة: م. خالد العثمان
تمثل الآثار والمواقع التاريخية لكل بلد مكونا هاما من المكونات الثقافية والحضارية لذلك البلد، بصفتها تحمل موروثا تاريخيا لذاكرة المكان والأحداث التي وقعت فيه على مر العصور وثقافات ومعارف الشعوب التي سكنت تلك المواقع، علاوة على كونها أيضا مكونا اقتصاديا هاما بما تحمله من إمكانات لاستثمارها في السياحة والتعليم والأنشطة المتحفية. وفي حالة المملكة العربية السعودية خصوصا تحمل الآثار والمواقع التاريخية أهمية خاصة كونها ترتبط في كثير من عناصرها بالتاريخ الإسلامي والسيرة النبوية وأحداث الهجرة والغزوات ونشأة الدولة الإسلامية، علاوة على تاريخ الدول والحضارات التي استوطنت في الجزيرة العربية على مر العصور قبل ظهور الإسلام وعلى مر قرونه الأربعة عشر انتهاء بتاريخ الدولة السعودية بمراحل نشأتها الثلاث. هذا الواقع يستوجب ويفترض حضورا كبيرا ومحوريا في التعاطي مع هذه المكونات واهتماما كبيرا بجهود الحفاظ على هذه الآثار والتنقيب عنها وترميمها واستثمارها اقتصاديا وسياحيا ومعرفيا. لكن واقع الحال يتناقض تماما مع هذا الافتراض، ويبرز خللا وقصورا كبيرا في هذا الجانب. فلا نرى في العموم أي توثيق جغرافي وتسجيل متحفي لأي من مواقع الأحداث التاريخية الهامة بما في ذلك مواقع الغزوات وطريق الهجرة النبوية ومواقع أحداث السيرة وغيرها من الأحداث الهامة في تاريخ المنطقة والتاريخ الإسلامي عموما. وعندما عملنا على تخطيط منطقة غزوة أحد وغزوة الخندق بالمدينة المنورة صدمنا بأنه لا يوجد بالعموم أي توثيق في موقع الحدث لأي من الغزوات والأحداث الهامة في التاريخ الإسلامي سواء في جزيرة العرب أو خارجه كمواقع غزوات القادسية واليرموك وغيرها. بينما أدهشنا كم الاحتفاء والتوثيق والاهتمام والاستعراض بمواقع أخرى في العالم ترتبط بأحداث لا تحمل ذات الأهمية حتى بالنسبة لسكان تلك المناطق. وربما يكون التوثيق الوحيد لشيء من مكونات تاريخ جزيرة العرب هو ما يحتضنه المتحف الوطني بالرياض، والذي بالرغم من ثراء محتوياته إلا أنه لا يوثق إلا نزرا يسيرا من الموروث التاريخي المعروض للعامة وفي إطار متحفي نمطي لا يربط الحدث بموقع حدوثه. كما أن مكتبة الملك فهد الوطنية تضم مخزونا هائلا من المخطوطات والوثائق التاريخية المحبوسة في أدراج وملفات وخزائن تفتقر حتى إلى أبسط متطلبات الحفاظ المهني المحترف على مثل هذه الوثائق الثمينة. وفي ظني فإن أساس مشكلة هذا الواقع تعود إلى سببين رئيسين، الأول هو التحفظ الديني عموما من كل ما يتعلق بالآثار وموروثات الحضارات السابقة انطلاقا من مخاوف الانزلاق في مزالق الشرك والتقديس وما إلى ذلك. والسبب الثاني إجرائي الطابع، حيث كانت مهمة إدارة ملف الآثار منوطة بوزارة المعارف لفترة طويلة ممثلة في وكالة الآثار والمتاحف، وهو ما وضعها في أسفل قائمة الاهتمامات في هذه الوزارة المحملة بإدارة ملف التعليم الشائك. ومنذ تأسيس هيئة السياحة بدأ هذا الملف يجد اهتماما متناميا على المستوى الرسمي، وبلغ هذا الاهتمام الرسمي ذروته عندما تم تعديل مسمى هذه الهيئة إلى الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وبدأنا نرى مبادرات وبرامج طموحة في هذا الملف، كانت ذروة سنامها اعتماد مجلس الوزراء لبرنامج الملك عبد الله للتراث الوطني الذي وضع منهجا ومشروعات محددة لتوثيق وتسجيل وتطوير واستثمار مواقع الآثار والتاريخ في المملكة. لكن المؤسف أن هذا البرنامج سقط ضحية الظروف الاقتصادية الراهنة، وسكت الحديث عنه بالكلية، وأصبح حبيس الأدراج في انتظار عودته إلى موقعه المستحق في سلم الأولويات الوطنية.
التعقيب الأول: د. حاتم المرزوقي
أشكر أولا لمنتدى أسبار اهتمامه بقضية العناية بـ “الآثار والأماكن التاريخية” ووضعها في سلم أولويات القضايا التي تناقش من قبل نخبة من أهل العلم والثقافة من أعضائه الكرام، والشكر موصول لسعادة م. خالد العثمان على ورقته الضافية والتي أطرت قضية النقاش في عدة محاور على النحو التالي:
- الآثار موروث ثقافي (حضاري، إسلامي، وطني).
- الآثار مكون اقتصادي.
- الآثار فرصة كامنة للاستثمار السياسي والإسلامي.
وبرغم الاهتمام الرسمي الذي وصل ذروته بنقل الاختصاص الاشرافي على قطاع الآثار إلى الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني واتبعه اعتماد برنامج الملك عبدالله للتراث الوطني، تواجه الآثار عدة تحديات منها التحفظ الديني والتمكين الإداري.
وفي تقديري أن قطاع الآثار بحاجة حقيقية إلى خارطة طريق تعظم من توظيف المخزون التاريخي في المملكة.. والتي قد تشمل ولا تنحصر في التالي:
- الاهتمام بالعنصر المادي: رعاية القائم من الآثار، التنقيب عن الكامن من غير المستكشف، صناعة الآثار بتحويل المخزون المعنوي الوطني إلى تاريخ مادي ملموس (الرموز والشخصيات، الوقائع والأحداث، الخيال والإبداع).
- الاهتمام بالعنصر البشري: (التعليم والبحث العلمي وإعداد الكوادر).
- الاهتمام بالبعد الثقافي: تعميق اهتمام المواطن والمقيم والزائر بأهمية الآثار والمحافظة عليها.
- تطوير التشريعات المنظمة لقطاع الآثار.
- الاهتمام بالعنصر الاقتصادي: (حفز الاستثمار في مجال الآثار والاهتمام بها، وضعها كأحد عناصر برامج التحول الوطني في مجال تنويع القاعدة الاقتصادية للمملكة).
- التمكين الإداري: (الهيئة العليا للسياحة والتراث الوطني).
- التطوير اللوجستي: (الاستثمار الحكومي في قطاع الآثار في مجال الخدمات والمرافق).
التعقيب الثاني: د. حميد المزروع
في البداية أود أن أوضح بأن الهيئة العليا للسياحة والتراث الوطني قد أطلقت مؤخرا مصطلح التراث الوطني (National Heritage)، ليشمل الآثار والتراث المادي والشفهي، ويشمل أيضا الصناعات التقليدية، وذلك تماشيا مع ما ورد في لوائح المنظمات الدولية، وخاصة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.
منذ تأسيس الهيئة العليا للسياحة والتراث الوطني عام ١٤٢١هـ ، والجهود تتسارع لتطوير وتفعيل منظومة متكاملة من الأنظمة والبرامج المترابطة لإدارة مواقع التراث العمراني وقطاع السياحة بأنماطه في المملكة العربية السعودية ، وذلك وفقا لبنود الأنظمة الدولية ونظام الآثار السعودي ، ومنها أيضا علي ما ورد في اتفاقية البندقية ، وتهدف هذا الأنظمة الي تنظيم وتفعيل مضامين البنود الواردة في الأنظمة الدولية والوطنية التي تهدف إلى مساعدة الدول علي حماية آثارها وإدارتها بكونها مواقع للتراث الإنساني وأنها مواد أثرية وتراثية تحفظ عطاء الأجداد، خاصة تلك المميزة والمدرجة ضمن التراث العالمي مثل موقع العلا وغيرها، كما تعتبر من المصادر المعرفية التي تكشف عن الأنماط المعيشية لأصحاب الحضارات التي تعاقبت بالعيش في الجزيرة العربية ، وتعزز من الانتماء الوطني، كما يمكن أن تصبح رافدا من روافد الاقتصاد الوطني ، إذا ما تم توظيفها وتسويقها بطريقة علمية وحديثة لتصبح أحد مكونات قطاع السياحة ، وعلي وجهة التحديد الثقافية والتاريخية. إن إشراك المؤهلين من المجتمعات المحلية لإدارة هذه المواقع الأثرية للمحافظة عليها أصبح توجها مرغوبا ومضمن في اللوائح والأنظمة، حيث يساعد على تحفيز الوظائف المحلية ذات المردود المجزي والدائم، مثل العمل بالإرشاد السياحي أو تصنيع الهدايا التذكارية، وتشجيع إنتاج المنتجات والصناعات التقليدية والاتجار بها، إلى جانب تشغيل المرافق الخدمية الأخرى مثل الفنادق وحركة النقل الجوي والبري. وكذلك تفعيل المهرجانات والفعاليات الفولكلورية.
إن العناية بالآثار والمواقع التاريخية يعتمد في تقديري على توفر منظومة مترابطة أبرز أركانها ما يلي:
- أولا: وجود الهيئة الحكومية المتخصصة والتي تشرع وتشرف على جميع ما يتصل بالتراث الوطني وتضع السياسات والبرامج المناسبة، انطلاقا من الحفريات الأثرية وحتى المحافظة على المواقع الأثرية والتاريخية، وتوفير البنية التحتية التي يحتاجها السائح، وذلك حسب المعايير الواردة في الأنظمة واللوائح العالمية، إلى جانب إنشاء المتاحف بأنواعها، وكذلك تنظيم قطاع الإيواء والسفر.
- ثانيا: توفير الكوادر المتخصصة والمؤهلة مثل الباحثين والمرممين لجميع أنواع المواد الأثرية والتراثية. وتوفير الحماية الأمنية الكافية للمواقع الأثرية والتاريخية. كما يمكن أن تستحدث الهيئة وحدة للمتطوعين ومحبي الآثار والتراث لحماية المواقع التي تقع بالقرب من مساكنهم.
- ثالثا: توعية المواطنين بشكل مستمر بأهمية آثار الوطن وتراثه باعتبارها إرث الآباء والأجداد وبالتالي إشراكهم للعناية بها والمحافظة عليها، خاصة المواقع التي تحتوي على معالم متنوعة أو شهدت أحداث تاريخية، والتي يمكن أن تطور الي ما يعرف بالمتاحف المفتوحة.
قامت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وبالرغم من حداثة تأسيسها (١٤٢١هـ)، بالعديد من الإنجازات الإدارية والعلمية والأعمال الميدانية مثل البحوث والدراسات الإحصائية، إلى جانب نشر نتائج أعمالها الميدانية في حولية أطلال وغيرها من الإصدارات العلمية، ويحرص رئيسها صاحب السمو الملكي سلطان بن سلمان علي تطوير أدائها والذي في تقديري يعد من المهام الصعبة والمعقدة لارتباط وتداخل أعمالها مع عدة وزارات وهيئات أخري، مثل البلديات ووزارة المالية والتجارة والمؤسسات التعليمية التي تهيأ المتخصصين.
إن برامج حماية وترميم المواقع الأثرية أو التراث العمراني مكلفة جدا، وتعتمد كليا علي نوع الموقع وحجمه وطبيعة الخامات المستخدمة في بناءة من ناحية، وحالة الموقع من ناحية أخري، وعليه تحدد الميزانية المناسبة لترميمه وتهيئته لاستقبال الزوار لذلك. وحتي تتمكن الهيئة العليا للسياحة والتراث الوطني من تحقيق أهدافها وتفعيل برامجها بشكل دائم ، تحتاج إلى ميزانية ضخمة، و أقترح هنا بأن تفكر الهيئة جديا باستحداث مواردها المالية الخاصة عن طريق تطوير وعقد شراكات مع القطاع الخاص ، وهناك عدد من المرافق التي يمكن أن تستثمرها الهيئة حاليا، لعل أفضلها المتاحف، حيث أن التوجه الحديث لإدارة المرافق الحكومية يتوافق مع الرؤية الحديثة ولاستراتيجية المملكة في التحول الوطني ، والتي تهدف في النهاية إلى تمكين مرافق الدولة من إدارة شؤونها الإدارية والمالية بشكل ذاتي ، علي أن لا يتعارض ذلك مع الأنظمة والقوانين المعمول بها خاصة تلك القوانين السيادية.
كما أقترح أن تتحول الهيئة العليا للسياحة والتراث الوطني الي هيئة تشريعية وإشرافية، وذلك بعد تأسيس وهيكلة الإدارات الحالية المحلية بالمحافظات، لتتمكن من مباشرة أعمالها مع توفير الصلاحيات المناسبة لها بناء على طبيعة الموارد والفعاليات السياحة المجدولة لكل محافظة، وهذه مِمّا يساعد على تسريع الإجراءات وتنفيذ القرارات وتبني المبادرات والبرامج الموسمية لكل محافظة حسب إمكاناتها، وهذا سيعزز من روح المنافسة وتعظيم الاستفادة من الموارد السياحة الداخلية لجميع المحافظات.
وأخيرا يمكن القول بأن العناية بالآثار والسياحة بأنماطها أصبحت ضرورة لكونها صناعة تتطلب إدارتها لجهود متواصلة، ويجب الاستفادة منها بعد تطويرها والمحافظة عليها باعتبارها أحد نوافذ تنويع مصادر الدخل القومي للمملكة، والأهم من ذلك اعتبارها منصات لتوظيف أبناءنا وبناتنا.
التعقيب الثالث: د. زياد الدريس
اليونسكو لن تحمي آثار مكة والمدينة!
بهذا العنوان الاستفزازي، أريد أن أبدأ تعقيبي. لن أستطيع الفكاك من هيمنة اليونسكو على حديثي، علماً بأنه سيكون في معظمه سرد تاريخي/ وصفي لتطور الأحداث بشأن الآثار في المملكة العربية السعودية.
منذ أن التحقت بمنظمة اليونسكو في العام ٢٠٠٦ كان أحد أكبر الهموم التي شغلتني هو غياب آثار الجزيرة العربية بعمقها التاريخي والحضاري المثير عن (لائحة التراث العالمي) في اليونسكو، وهي اللائحة التي تضم قرابة ١٠٠٠ موقع أثري من مختلف أنحاء العالم، استطاعت من خلال إجراءات دخولها اللائحة الدولية الحصول على الاعتراف الدولي الرسمي بها كتراث عالمي.
كان أول لقاء عملي لي بعد تعييني هو مع الأمير سلطان بن سلمان، وقد اتفقنا على أهمية العمل سوياً على دخول اللائحة الدولية. كنت أظن أن العائق الديني هو العائق الوحيد أو الأكبر في تسجيل الآثار، لكن بعد الانقضاء من تجربة مدائن صالح والنجاح في تسجيلها في التراث العالمي في العام ٢٠٠٨ وبالتالي دخول المملكة العربية السعودية في اللائحة الدولية، بعد التجربة الأولى تبين لي أن العائق الأول ليس المؤسسة الدينية بل الأجهزة البيروقراطية التي تتباطأ بشكل سلحفائي في تفويض الجهات ذات الصِّلة ببدء الإجراءات اللازمة (أتحدث هنا عما سوى آثار مكة والمدينة). سأعطيكم مثالاً واحداً، وصلتني من الرياض في أوائل العام ٢٠٠٧ القائمة السعودية التفويضية بتسجيل ثلاثة مواقع على اللائحة العالمية، وهي مدائن صالح والدرعية القديمة وجدة التاريخية، على وعد بإرسال قائمة أخرى بالمزيد من المواقع “قريباً!”. سجلنا مدائن صالح في ٢٠٠٨ والدرعية ٢٠١٠ وجدة التاريخية ٢٠١٤، ولم تعتمد هيئة الخبراء اللائحة الجديدة بعشرة مواقع أخرى إلا في العام ٢٠١٥، أي بعد ثماني سنوات تقريباً!؟ وكان يمكن لوصولها مبكراً التسريع في تسجيل مواقع أخرى، حيث أن الوقت لم يسعفنا لإدراج موقع سعودي للتصويت عليه لا هذا العام ولا العام القادم.
لا شك أن تسجيل الآثار في لائحة التراث العالمي يعطيها بعداً عالمياً وحضارياً وبالتالي مردوداً سياحياً واقتصادياً، والأهم من هذا أنه يمنحها حماية وحصانة من العبث بالطمس أو التغيير، كما سيضع التزاماً إدارياً وأدبياً على الدولة الحاضنة بأولوية الصيانة والرعاية.
حسناً، لماذا لا نستفيد من هذه الأذرع الوقائية للمنظمة الدولية من أجل حماية الآثار المهددة، وذات الأوضاع المأساوية في مكة المكرمة والمدينة المنورة؟!
هنا يتداخل الوازع الديني بالفازع الرأسمالي ليكوّنا معاً تحالفاً يحقق رغبة الطرفين باسم حماية الدين باستخدام جرافات الاستثمار! وقد تحدثت عن هذا التحالف الموجع قبل سنوات في برنامج إضاءات وفي تغريدات تويترية عديدة، وتحدث أكثر مني سامي عنقاوي وعبدالله الحصين وهتون الفاسي وعمر المضواحي رحمه الله وآخرون كثر. ولا يمكن إنكار الأثر الإيجابي لحديث أولئك المخلصين في تهدئة الشيولات والجرافات، خصوصاً في المدينة المنورة، حيث كانت ستزيل (ما تبقى!) من ملامح المدينة القديمة باسم مشروع التوسعة (الاستثماري).
من هذا المنطلق، اتصل بي أكثر من واحد من أهالي مكة والمدينة، يتساءلون عن إمكانية تسجيل مكة والمدينة في لائحة التراث العالمي، لعل هذا الإجراء يسهم في حماية ما تبقى من آثارهما؟!
وقد أبنت لهم تعذَّر ذلك للأسف، لأن هناك بعداً سياسياً لمسألة التسجيل العالمي يتقاطع مع القضية الشائكة بشأن تدويل الحرمين.
يجدر بي هنا التذكير بأن اليونسكو قد أرسلت مناشدة إلى حكومة المملكة، بطلب من تركيا، بالتوقف عن هدم قلعة أجياد الأثرية. لكن هذه المناشدة لم تمنع الجرافات من هدم القلعة وبناء البرج الذي يراه الأثريون (رغم جماله) مشوهاً لصورة مكة المكرمة ومقزّماً لهيبة الكعبة الشريفة.
إذاً ما الحل لإيقاف الجرافات التي تلتهم التاريخ المقدس بذريعة الفتوى؟!
لا حل سوى بالضغط والإلحاح النخبوي، الأكاديمي والثقافي، وباستدراج الصوت الديني المستنير لاستدراك ما تبقى، واسترجاع ما يمكن استرجاعه.. إن لم يكن في المبنى الذي هُدم ففي المكان والمعنى.
المداخلات حول قضية: (العناية بالآثار والأماكن التاريخية)
- التراث والآثار: الدلالة والتباينات الأساسية
أوضح د. عبد الله بن صالح الحمود أنه يلتبس على كثير من الناس ما هو التراث وما هي الآثار وكثير منهم لا يجد فرق بينهما؛ وهو ما يمكن توضيحه كما يلي:
- التراث: هو ما خلفه لنا الأجداد من أشياء مادية مثل الأدوات التي كانوا يستخدمونها في حياتهم اليومية إما في بيوتهم أو مزارعهم بالنسبة لأهل الحاضرة أو ما كان يستخدمه البادية في بيوت الشعر وكذلك في حياتهم اليومية، ومثال على ذلك (الدراجة والمحالة والرحى والشداد والميسامه والهنابه وغيرها الكثير) وقد يكون بعض هذه التراثيات مستخدم حتى وقتنا الحاضر. وكذلك من التراث الموروث الثقافي وهذا يتناقله الأحفاد من الأجداد مثل الشعر والأهازيج المختلفة بشتى أنواعها مثل (العرضة والسامري والقلطه والدحة …. وغيرها من الرقصات التراثية). ويضاف على ما سبق من التراث الألعاب الشعبية وبعض الأكلات وأنواع من الملابس.
- الآثار: فهو ما مضى عليه فترة طويلة من الزمن تزيد على 500 سنة تقريباً أو أكثر وترك بقصد أو بغير قصد وينقسم إلى قسمين إسلامي وقديم ولكل أقسامه وفتراته التاريخية ويتمثل في المباني سواء للسكن أو للمراقبة أو الدفاع أو الدفن أو إقامة الشعائر الدينية وكذلك في العملات والأواني والأدوات ويدخل من ضمنها الكتابات القديمة والرسوم الصخرية وغيرها.
وأشار د. حاتم المرزوقي إلى أن المادة الأولى من نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني أوضحت الفرق ما بين الآثار والتراث كما يلي:
- الآثار/ مواقع الآثار: الأعيان الثابتة والمنقولة والمطمورة والغارقة داخل حدود المملكة وفي المناطق البحرية الخاضعة لسيادتها أو ولايتها القانونية، التي بناها الإنسان، أو صنعها، أو أنتجها، أو كيفها، أو رسمها، وتكونت لها خصائص أثرية بفعل تدخل الإنسان عبر العصور، وإن امتد تاريخها إلى فترة متأخرة، على ألا تقل عن (مائة) سنة. وللهيئة أن تعد ما يرجع إلى عهد أحدث آثاراً، وتدخل تحت اسم الآثار المواقع التاريخية ومواقع التراث الشعبي وقطعه.
- الآثار الثابتة: الآثار المتصلة بالأرض، مثل: الكهوف الطبيعية، أو المحفورة التي استخدمها الإنسان، والصخور التي رسم أو حفر عليها صوراً أو نقوشاً كتابية، والرجوم، والدوائر الحجرية، وأطلال المدن والقرى، والمنشآت الظاهرة أو المطمورة تحت الأرض، والمنشآت المائية، وطرق التجارة والحج القديمة، والمدن والقرى والأحياء التقليدية، والأبنية المنشأة لغايات مختلفة، وأطلال تلك المباني، وما يتصل بها من عناصر معمارية.
- الآثار المنقولة: القطع الأثرية التي صُنعت في الأصل لتكون بطبيعتها منفصلة عن الأرض أو عن الآثار الثابتة، والتي يمكن تغيير مكانها، كالمنحوتات، والمسكوكات، والكتابات، والحلي، وأدوات الزينة، والقطع التراثية التي تشكل قيمة وطنية من حيث طابعها التاريخي، أو العلمي، أو الجمالي، أو الفني، أو التقليدي، أو قدم الاستخدام.
- التراث العمراني: كل ما شيده الإنسان من مدن، وقرى، وأحياء، ومبانٍ، مع ما تتضمنه من فراغات، ومنشآت، وقطع لها قيمة عمرانية، أو تاريخية، أو علمية، أو ثقافية، أو وطنية.
- المواقع التاريخية: الأماكن التي شهدت أحداثاً تاريخية مهمة أو وطنية، أو وردت في التراث الأدبي ولا تحوي بالضرورة آثاراً ظاهرة أو مطمورة.
- مواقع التراث الشعبي: الأماكن التي تقام أو تنظم فيها نشاطات اجتماعية، أو ثقافية، أو حرفية، أو اقتصادية مرتبطة بالتراث الشعبي.
- قطع التراث الشعبي: الأدوات والقطع التي صنعها الإنسان، أو استخدمها في العصور المتأخرة في أي منطقة من مناطق المملكة لتسيير أموره المعيشية، من مطعم، وملبس، ومسكن، وتعليم، ودفاع عن النفس، ومحافظة على صحة البدن، وأدوات ترويحية.
في حين يرى د. حميد المزروع أنه لا يوجد تعريف نهائي بين الآثار والتراث، وإنما هناك تعريف علمي وآخر إجرائي، وعلى سبيل المثال فالرحي تستخدم منذ عصور ما قبل التاريخ وتندرج تحت مسمي أثر إذا ما أرخت إلى ما قبل ٢٠٠ سنة، وتدرج ضمن الصناعات التقليدية لأنها ما زالت تستخدم حتى الآن، يبقي المعيار الزمني هو الأهم في التفريق بين ما هو أثري أو تراثي.
وأوضح د. زياد الدريس أن الآثار جزء من التراث. فالآثار Antiquities هي الأشياء المادية المجسمة المنقولة وغير المنقولة المرتبطة بالتاريخ القديم. أما التراث(Heritage) فمفهومه أشمل، حيث يحوي الآثار المحسوسة وكذلك الموروث الشفوي الذي يشمل الحرف والأهازيج والفنون الأدائية. والموروث هو مصطلح معدل من التراث، وإلى حد بعيد لا يوجد فرق بينهما في الاستخدام الرسمي، وإن كان في الاستخدام الدارج يعني الموروث الشفوي أكثر منه الحسي.
- التراث والآثار السعودية في ظل التوسع العمراني والتطور الحضاري
أشارت أ. ليلى الشهراني إلى أن الآثار من الشواهد المهمة التي توثق هوية كل بلد، حتى مع التقدم العمراني والتطور يبقى لها المكانة الأغلى عند من يهتم بالتوثيق وربط الماضي بالحاضر دون الإغراق فيه أو طمسه ونسيانه.
في عالمنا العربي هناك كنوز ثمينة من هذه الآثار لعصور مضت، فكانت كقناديل المعرفة لقرون وأجيال متعاقبة من بعدهم.
وفي المملكة من الآثار البديعة ما لا يمكن حصره الآن، لكن المؤلم هو الطريقة التي تعامل بها هذه الآثار، فمن فتاوى تحذر من الاهتمام بها لأن بعضها من زمن الجاهلية، إلى التخطيط السيء لتطوير بعض المدن مما حرمنا من الكثير منها بهدمها وطمس معالمها لإقامة فندق حديث أو مركز تجاري!
في كل دول العالم يتم التعامل مع الآثار بطريقة تليق بها، وتخصص لها ميزانيات ضخمة لترميمها بنفس موادها الأساسية وباحترافية شديدة لتحافظ على تماسكها وشكلها، ولدينا هيئة سياحة وآثار لكن جهودها مازالت جدا متواضعة في هذا المجال.
الآثار ليست فقط تاريخ لعصور غابرة، بل إنها بيئة جاذبة للسياح والعلماء والدارسين ونفعها على البلد أكثر.
لست ضد التطوير وتجميل المدن وإحلال الجديد محل العتيق فهذه سنة الحياة حتى شواهد الأرض تتغير، لكن ليكن لدينا اهتماما أكثر بالمواقع الأثرية فهي كنوز لا تعوض.
إزالة الآثار بهذا الشكل المبالغ فيه، مثل بعض العمليات التجميلية التي تشوه الجمال الحقيقي وتغير معالمه فتصبح بعض الوجوه بلا وجوه!
نعم نحتاج توسعة للحرمين ونحتاج طرق وتنمية لكن مع قليل من التوازن والإبقاء على بعضها بالتخطيط والتفكير الجيد.
واتفهم خوف بعض العلماء من استغلال بعض الآثار لممارسة بعض الأمور التي قد تدخل في الشركيات، لكن العلاج ليس بالهدم بل بالتوعية والتثقيف.
وقالت أ. هيا السهلي: الدول التي تهتم بتراثها وآثارها تحرص عند البناء والتشييد أن لا تخسر الآثار فبعضهم يتجاوزه بطريقه هندسية إما تنحرف عنه أو يكون فوقه أو نفق تحته. وليس قصرا على الآثار بعضهم يحرص أن لا يفقد معالم طبيعة الأرض وبيئتها الجغرافية حتى على مستوى الجبال في المقابل هنا في السعودية تمسح جبال ومعالم طبيعية لإقامة المشاريع.
ومن وجهة نظر أ. فاطمة الشريف تكمن أهمية التراث في مفهومه البسيط الذي يلامس الإنسان فهو خلاصة ما ورثته الأجيال السالفة للأجيال الحالية وروح الهوية الثقافية.. هو لغتهم وأفكارهم وعقيدتهم وممارساتهم الحياتية ورؤاهم، إنجازاتهم وأعرافهم من عادات وتقاليد التي صنعت ما نطلق عليه الموروث.. ويأتي التراث العمراني في مقدمة الموروثات التي تشكل ملامح أي عصر من العصور، لأنه وحده الذي يبقى شاهداً على تلك العادات والتقاليد والأعراف، والإنجازات والأحلام والرؤى.
كذلك من الناحية العلمية يمكن القول أن التراث هو ثروة وطنية إرثية وعلم ثقافي قائم بذاته ويلقي الضوء على أي أمة أو شعب من زوايا تاريخية وجغرافية ونفسية، وقد أدركت دول كثيرة أهمية التراث الوطني في تعزيز روح الجماعة وتقوية أواصر الصلات بين شعوبها ، حتى أن بعضها قامت بتشكيل وزارات ومؤسسات غايتها جمع التراث الوطني وحفظه وتطويره ودعمه ونشره، كما عملت معظم الدول على سن تشريعات قانونية تحمي تراثها من الضياع والسرقة والتلف، فشكلت الجمعيات واللجان لصيانة التراث وحفظه، في حين أدركت دول أخرى بأن جمع تراث الأمم وشراءه ، أو الاستيلاء عليه، هو إحدى الوسائل التي تتيح لها معرفة أسرار حضارات الدول الأخرى، فكما هو معروف قامت دول استعمارية بالاستيلاء على تراث الدول التي استعمرتها ثم إيداع هذا التراث في متاحفها. وهذا ما وقع وحدث للعديد من الدول العربية إبان الاستعمار والشواهد عديدة ولعل آخرها كنوز المتحف العراقي ولا زالت حوادث تهريب القطع النادرة تتكرر بين الحين والآخر، في المقابل نجد إزالة وهدم التراث العمراني الأهم والشاهد على حقبة زمنية تعد الأبرز في تاريخ البشرية جمعاء في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ويرى د. مساعد المحيا أن ثمة فرق بين آثار هي أماكن لا يمتد تاريخها لعهد النبي ولا لصحابته وإنما هي مما بنته الدولة العثمانية مثلا وبين آثار تمتد لتاريخ المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام؛ إذ لا ينبغي التهاون بها على الإطلاق أما ما أحاط بها من مبان فهي مما قد أحدث بعد ذلك وبالتالي فالاهتمام بها يمكن أن يكون بما لا يتعارض مع مصالح الناس من المعتمرين والحجاج.. فحاجة ضيوف الرحمن أهم وواجب المملكة في رعاية الحجاج وخدمتهم وارتفاع أعدادهم يتطلب منها العمل على توسعة الحرمين وإعادة بنائها والمشاعر المقدسة جميعا.
يضاف لذلك أن الدراسات التاريخية لا تمنحنا تأكيدا على أن بعض تلك المباني لايزال حتى اليوم هو نفسه المبنى الذي بني في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنه لا يزال موجودا وشامخا.. إذ الحقيقة أنها مبان طالها الكثير من التغيير فلماذا يتحسس البعض من هدم مبنى بني قبل مائة عام وهو يعلم أن البديل خير للمسجد الحرام وللحجاج والمعتمرين أو لهذا المكان أو ذاك.. ومن أمثلة ذلك مبنى المكتبة الذي شهد ضجة كبيرة حيث هو مكان مولده صلى الله عليه وسلم.. فمبنى المكتبة بنته فاطمة قطان وفقا لما ذكره الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان إذ هو في بحثه لا يقول بأن المبنى الفلاني هو مبنى بيته وإنما هو مبنى استحدث في المكان كما أنه سبق وبني فيه مسجد وهدم.
تظل مكة أغلى بقاع الأرض.. أرض الأماكن المقدسة.. حفظها الله وأهلها.. ولو ثبت أن مبنىً ما هو نفسه المبنى الذي كان في عهد المصطفى وأصحابه فالأمر مختلف.. إذ ذلك جزء من تاريخ مهم.
وعليه فالتاريخ يكون للمكان وليس للمبنى فإذا تطلب هدما لقدمه أو لخطورته أو لتوسعته فينبغي أن يهدم وينشأ مكانه مبنى آخر يكون أكثر إفادة للناس. فمثلا حين دخل الملك عبد العزيز مكة وحين أصبحت جزءا من مسؤولياته أزال كثيرا من المقامات والقباب التي كانت أمام الكعبة وهو عمل جريء وعظيم.. ولو استجاب لمن يرونها مبان مقدسة لما استطاع الناس اليوم الطواف والسعي.
وأضاف د. المحيا: من جانب آخر كنت دائما أسأل بعض أهل مكة الذي يعترضون على هدم آثار معينة ليست مما تركه المصطفى وإنما هي مما تركه العثمانيون أو غيرهم قبل سنوات فقط.. لماذا لا يحتفظ أحد منكم ببناء بيت جده.. لماذا كلكم هدمتم بيوتكم وبدلتموها بعمارات جديدة.. لم لا تحافظون على الآثار؟
إن كل الآثار جديرة بالاحتفاء لكن الاهتمام بها ينبغي أن لا يعوق حاجة الناس وتوسعة الحرمين.
وأشار د. خالد الرديعان إلى أن هناك تجربة ممتازة تتمثل بجدة القديمة وطريقة المحافظة على مبانيها وأحياءها والإفادة منها بطريقة اقتصادية. وربما رأى الكثيرون وسط مدينة الرياض وتحديدا بيوت شارع الثميري والظهيرة وشارع آل سويلم حيث أصبحت مبانيها التاريخية (الطينية) آيلة للسقوط بسبب عدم العناية بها.. وبعضها أصبحت سكن للعمالة الوافدة أو مستودعات وورش للمحلات التجارية.
من المهم جدا الحفاظ على ما تبقى من الرياض القديمة في المنطقة المذكورة وكذلك منطقة الشميسي.. فبعض مبانيها تتعلق بتاريخ المملكة وقيامها وبالتالي فإن حفظها ضروري جدا كونه يعمق الهوية والانتماء عند السعوديين عموما كجزء من كينونتهم الثقافية.
إن أهم مشكلة تقف في وجه تجديد تلك المباني وصيانتها يتمثل في النظرة التجارية لمواقعها وتغليب ذلك على الجانب الثقافي وبالتالي يلزم رصد ميزانية كافية لنزع ملكية تلك المباني والحفاظ عليها لتكون مزارات ثقافية وسياحية تدر دخلا مناسبا. وكمثال فإن المباني التي يزيد عمرها عن ١٠٠ سنة في بريطانيا يتم تصنيفها آثار ومن ثم يُطلب من أصحابها المحافظة عليها وعدم تغيير معالمها… من المهم أن يكون لدينا نظام مثل ذلك عندما يتعذر نزع ملكية بعض الأماكن. وفي ذات السياق يجب الإشادة بالعمل الجميل الذي قام به أبناء الأمير عبدالرحمن السديري (رحمه الله) في مدينة الغاط (200 كم شمال الرياض) حيث قاموا بترميم الجزء القديم من المدينة والمحافظة على طابعه التراثي والإفادة منه سياحيا.
وقالت أ. ليلى الشهراني: وأضيف أيضاً تجربة المواطن “طرشي الصغير” ومتحفه في رجال ألمع، جهود بدأت فردية ثم وجدت الإقبال والدعم، الغريب أن متحفه هذا تعرض للسطو قبل فترة وسرقت منه مقتنيات تراثية والسؤال الذي يطرح نفسه هل هناك نية جادة للمحافظة على هذه المقتنيات بإشراف حكومي، توفير حراسات وكاميرات مراقبة على الأقل؟
ومن جانبه قال أ. مسفر الموسى: سوق واقف في قطر.. والسلطان أحمد في تركيا… وغيرها من مواقع البلدة القديمة (Old City) المنتشرة في مدن العالم.. نماذج رائدة في استغلال التراث وتحويله إلى استثمار سياحي.
الحالة الأمنية بجدة القديمة بائسة بلا مرافق كافية من خدمات المقاهي والمطاعم والمواقف. هذا في جدة.. أما في أبها فقد تم هدم المدينة القديمة بالكامل وبني فوقها مبنى لسوق عشوائي وآخر للأمارة.. وقبل عامين هدمت (قصبة أبها).. لتوسيع أحد الشوارع.. تمت هذه الحادثة قبيل الفجر.. تجمهر الشباب حول آلات الهدم وهم يصرخون.. لقد هدمتم رمز حضارتنا. وفي الرياض.. لا يعرف السائح أين تقع البلدة القديمة.
- معوقات العناية بالآثار والحفاظ عليها
يري د. محمد الصبان أن القول بأن البيروقراطية وحدها وليست المؤسسة الدينية هي التي قضت على كثير من الآثار الهامة في المملكة وبالذات في مكة المكرمة والمدينة المنورة، أمر فيه إغفال عن الحقائق على الأرض. وكم من أثر تمت تسويته بالأرض بحجة التخوف من تحوله إلى مكان للعبادة والأمثلة عديدة.
وأشار م. خالد العثمان إلى مشكلة تنازع الاختصاصات، وضرب مثالاً بجدة القديمة والتي تعاني برأيه من تنازع الاختصاصات بين هيئة السياحة والأمانة والدفاع المدني وأضف إلى ذلك طمع وجهل كثير من الملاك في تلك المنطقة.. جدة التاريخية تواجه خطر إسقاطها من قائمة التراث العالمي إن استمر الحال على ما هو عليه الآن.
وأضافت أ. ليلى الشهراني: مكة والمدينة من الأماكن الجاذبة لأفئدة الكثير من المسلمين على اختلاف جنسياتهم ولغاتهم، وهي للعبادة والسياحة أيضا، وعندما يزور القادم للمملكة بعض الأماكن الأثرية ويرى الإهمال يأخذ انطباع غير جيد، لم يتبرك الناس بآثار الدرعية أو قصر المربع حتى نخاف على آثار مكة والمدينة، أليست هي الأولى بالعناية والنظافة والتنظيم؟
ومن جهته قال أ. سمير خميس: لا بد لنا أن نستحضر البعد الديني ليس في عدم العناية بالآثار، بل وفي معاداتها في كثير من الأحيان.
وهو بعد له ما يسنده في الكتاب والسنة في بعض الأحيان، وفي أحايين كثر تغلب نزعة التشدد والأحوط في عدم العناية.
مع حمأة التنمية، تم القضاء على الكثير من هويات مدننا التراثية في المملكة بعامة وفي الحجاز بخاصة.. يكفي أن نلقي نظرة على مكة بأبراجها الشاخصة لنعلم المنقلب الذي انقلبنا إليه.. فلا الأمانات ولا البلديات تفكر في استحضار هذا الجانب، فضلاً عن المواطن العادي الذي كسرت ظهره أسعار الأراضي وأطنان الحديد.
اهتمامنا بالآثار يبدأ من اهتمامنا بهويات المدن التي ننتمي لها، عندما نزرع في ذهن البيروقراطية التي تحدث عنها د. زياد النظرة الجمالية للمدن، عندما نبتعد عن نمط البناء الاستهلاكي، عندما ننظر لمكة والمدينة أنهما ليستا مجرد مسكن عابر في أيام عابرة عندها يمكن لنا أن نحلم بعناية أفضل لأثرنا وآثارنا.
وقال د. محمد القويز: في كل ركن من هذا الوطن هناك الكثير.. أنا شخصيا اكتشفت وادي كامل لم يسجل ما به من آثار من قبل.. مثلا هناك مواقع عمرها ٢٥٠٠ سنة ومواقع عمرها ٣٠٠٠-٤٠٠٠ سنة ومواقع عمرها أكثر من ٣٠٠ ألف سنة.. أكثر ما أزعجني هو تعدي أصحاب الشبوك على المواقع الأثرية.
ومن جانبه أضاف أ. عبدالله الضويحي: لوكان هذا الإرث الذي نملكه من الآثار والأماكن التاريخية والموروث الشعبي موجودا لدى أي دولة تقدره وتهتم به لأصبح مصدر دخل قومي رئيس من خلال استثماره سياحيا.
لو تأملنا قرآننا الكريم وقصصه وتتبعنا آياته في أكثر من موضع وتتبعنا السيرة النبوية وإرثنا الأدبي والتاريخي لوجدنا الكثير مما يصعب حصره في كتب فما بالكم في حيز كهذا من مواقع تحتاج من يستنطقها ويتحاور معها ويكتشف تاريخه من خلالها.
الطفرة الأولى نهاية السبعينيات قضت على كثير منها خصوصا في القرى وما منطقة وسط الرياض ومنطقة قصر الحكم عنا ببعيد!!
والناحية الأخرى: “باب سد الذرائع” تحول أمامها إلى باب زجاجي كهربائي ينفتح بمجرد الاقتراب منه.
وعندما تم استحداث وكالة للآثار والمتاحف في وزارة المعارف اكتفت بـ “تسوير” أو “تشبيك” المواقع وظلت أطلالا كما كانت. وحتى بعد انفصالها وتحولها إلى هيئة لم نلمس ذلك التحرك والاهتمام المطلوب.
بعض القرى التفت لها أهلها بمبادرات ذاتية وبعضها حصلت على دعم من الهيئة. على سبيل المثال في عودة سدير ” ديرة الأجداد ” ينطبق عليها ذلك حيث غادرها أهلها مع الطفرة وبناء بلدة جديدة وطالتها يد الهدم لبعض آثارها دون مبرر فتم هدم بوابة القرية “باب البر” ومسجدها ومئذنة هي الأعلى في المنطقة “25م” وقبل خمس سنوات وبمبادرة من شبابها تبنوا فكرة إعادتها على طابعها القديم وتجاوب الأهالي بمبادرات ذاتية ودعم مالي ومعنوي كبير فأعادوا ترميم وبناء البيوت والمسجد والمئذنة والبوابة كما كانت وتحولت إلى بيوت تاريخية وديوانيات ومتاحف وتم تشكيل لجنة تطوير من كبار الداعمين وأصبحت مقصد السواح من مختلف الجنسيات. كما يوجد فيها قصر غيلان يعود إلى ما قبل الإسلام ولازالت بعض جدرانه قائمة وبه بئر انطمرت وتبرع أحد أبنائها بحفرة والكشف عنه ولم يجد تجاوبا وبها أثار يقال إنها لمسجد قبلته جهة الشمال.
ويعتقد د. خالد الرديعان أن الاهتمام بالآثار وحمايتها وتقدير جماليات المكان والتاريخ يكمن في غياب التربية للحس الفني عند الأطفال فينشأون بدون إحساس فني. مادة التربية الفنية التي يدرسون لا تنمي هذا الجانب إطلاقا بل مجرد مادة تُدرس بطريقة عشوائية.
وأوجزت أ. هيا السهلي رؤيتها حول معوقات العناية بالآثار في المملكة في النقاط الثلاثة التالية:
- أولاً: الجميع يتفق على أن لدينا ثروة أثرية وتراثية في عمق التاريخ والتاريخ القريب والعمل والحفاظ عليها وتطوير ما حولها لازال خجولا!
فضلا أنه لازالت قرى ومدن تحفها الآثار من يمينها وشمالها مأهولة بالسكان والخدمات ومن الممكن تطويرها لا يعلم عنها أبناء المدينة التي لا تكاد تبعد عنها مسافة القصر في الصلاة! بل إن من يسكن المدينة نفسها لا تستهويهم زيارة الآثار في مدينتهم. وربما هي أزمة ثقافة وهوية لم تأسس في المدراس! لا مادة تعنى بذلك ولا حتى في كتب التاريخ والجغرافيا التي درسناها في مراحل الدراسة عمقت أهمية الآثار وتراث البلاد.
من يذكر تاريخ الدولة العباسية أو الأموية وحوادث التاريخ ونوازل القرآن وكيف طرحتها المناهج بلا صور وهي متاحة؟!
إن وزارة التعليم لها دور كبير لابد أن تمارسه في تعزيز ثقافة الآثار والتراث وكيف تربطها بهوية الطالب.
- ثانياً: فيما يتعلق بالبعد الديني فإن النقطة الجوهرية التي خلقت الإهمال بالآثار في السعودية وأخذت التركيز عن ما سواها لارتباطها بحياتهم ودينهم والاستغناء وكمال الهوية بها ومفهوم أنها الثقافة الوحيد وغيرها لا يهم! وهو أننا عندنا شعور بالاكتفاء وتوجيه بالاهتمام الكامل للحرمين الشريفين فهي الهوية وهي الثقافة وهي مصدر دخلنا القومي.. هذا الشعور من غير أن ننتبه له يجعلنا لا نفكر في غيرهما مع أنه لا تعارض فهذا معتقد وجمع معه التاريخ والهوية. وليس هناك ما يمنع أن يجمع الإنسان أكثر من هوية في أكثر من دائرة يعرف بها نفسه لمن هم خارج دائرته!
كذلك الجهات الرسمية ترى أن عندنا التاريخ الدي ينطق ولا يُحكى في الحرمين وهو حديث العالم ومزار العالمين فلا تشعر ولا تفتقد لما سواها!
- ثالثاً: أن هيئة السياحة بالإضافة للمستثمرين لو فكروا في تطوير هذه القرى أو الآثار لتتحول إلى مزارات سياحية تدر دخلا اقتصاديا كبير فثمة عقبة كبيرة تواجههم وهي مع وزارة الداخلية في قضية التأشيرات والسماح بالزيارة.
- مقترحات لتطوير الاهتمام بالآثار والتراث الوطني
أوضحت أ. فايزة الحربي أن المؤسف أننا نملك ثروات وطنية ولا نقدرها حق قدرها ولا نرعاها بما يليق بمستواها. وفي ضوء ذلك لعل من الملائم أن تأخذ هيئة السياحة بالمقترحات التالية:
- تخصيص رقم لاستقبال البلاغات حول اكتشاف الموقع الأثرية أو تعرضها لخطر أو سرقة في أي قرية أو مدينة بالمملكة.
- إشراك القطاع الخاص في رعاية المواقع الأثرية وتحويلها إلى مواقع يمكن زيارتها وإعادة بناءها على نفس الطراز السابق أو بحسب ما يناسب الوضع والرؤية التي يراها المختصون.
- توفير خدمات حول هذه المواقع كفندق أو محطة ومطعم ليتمكن السياح والدارسين من زيارتها.
- تقسيم أنواع الآثار بحسب أهميتها التاريخية والثروات المتوفرة فيها مع التركيز على الرعاية والاهتمام بالآثار الأكثر أهمية.
- عمل حملات إعلانية توعوية عن هذه الآثار وأهميتها ودور المواطن تجاهها.
وأوضح د. حميد المزروع أنه إذا لم يكن لدى البلديات كود بناء مفعل بالعمارة التراثية والتقليدية نتوقع ظهور خليط من العمارة القديمة والحديثة المشوهة للنسيج العمراني للقري القديمة.
وأضاف د. سعد الشهراني: الأجانب الذين عاشوا في المملكة يعرفون عن مواقعنا الطبيعية والتراثية وعن آثارنا وبرونها ويزورونها أكثر بكثير ليس فقط مما نفعله نحن بل مما تعرفه الأجهزة الرسمية المعنية نفسها. وقد أصدر بعضهم أدلة مذهلة لهذه المواقع ورتبوا لها الزيارات ورسموا الخرائط وحددوا الطرق بل حتى حددوا إجراءات الأمن والسلامة.
المملكة قارة: أقاليمها ومجتمعاتها ومجاهلها وجبالها وأوديتها وصحاريها وتراثها وتاريخها وإرثها وموروثها الثقافي والحضاري يحتاج إلى جهد موسوعي وعمل استراتيجي هادف.
وأوضح د. عبد الله بن صالح الحمود أن بلادنا ولله الحمد تزخر بالكثير من المعالم التاريخية، وتحتاج من القائمين على الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، مزيدا من الاهتمام وأن تسعى الهيئة إلى تحويل تلك المواقع التاريخية المتعددة الأماكن جغرافيا إلى مواقع سياحية وأن تنسق مع وزارة النقل بعد ذلك لتوفير وسائل نقل مريحة لنقل الزوار لكافة هذه المواقع.
بلادنا مليئة بتراب يشرف الوطن فقط نحتاج إلى المزيد من الاهتمام وقبل ذلك إلى وعي تام بمفهوم الآثار.
كذلك أشار م. خالد العثمان – تعليقاً على ما أثاره د. زياد في تعقيبه – بأن اليونسكو وحدها أو هيئة السياحة وحدها أو أية مؤسسة كانت لن تستطيع حماية الآثار والأماكن التاريخية دون تحول هيكلي وعميق في النظرة الثقافية والتاريخية والدينية والاستثمارية.. برنامج الملك عبدالله للتراث الوطني يمثل أداة مهمة لمثل هذا التحول ومن الضروري إعادته إلى مسار التنفيذ ودعمه أيضا ببرامج ومحاور أخرى تتناول جوانب التعليم والإدارة البلدية وغيرها.. كما أنه من الضروري رفع سلطة القرار فيما يتعلق بمشاريع التطوير من يد وزارة المالية وأصحاب الرؤية المالية والعقارية وتفعيل دور هيئة السياحة في حماية المواقع التاريخية من أيدي التطوير المزعومة.
ويرى أ. عبدالله الضويحي أننا بحاجة لشركة وطنية للسياحة أو تحرك إيجابي للهيئة وفتح المجال للسياحة ودعوة السياح من خلال شركات محلية تضمن مغادرتهم بعد انتهاء زيارتهم وقبل هذا الاهتمام بهذه المواقع عموما لأنها جزء من تاريخنا بل هي التاريخ وترجمة ذلك على أرض الواقع وليس من خلال التنظير.
وذهب د. مساعد المحيا إلى أن هناك تقصير على المستوى الإعلامي في التعريف بما نمتلكه من آثار تمثل أمكنة عدد الأنبياء والرسل وتاريخ الأمم السابقة على هذه الأرض بما في ذلك تاريخ الآباء والأجداد.. نحن نحتاج برامج تذهب فيها الكاميرا ويصحبها فريق تاريخي وجغرافي وأدبي وعلمي ليتحدث كل هؤلاء عن كل جزء مهم من تاريخ هذه المنطقة ولتكون هذه البرامج أشبه بالرواية التاريخية الشاملة والموثقة.. ليستمع إليها ويشاهدها أبناؤنا.
لدينا أيضا أماكن تاريخية قمنا بترميمها وإعادة تشكيلها لكن كثير منها مغلق ولا يعرف أحد عنها شيئا.. خذ مثالا على ذلك سكة حديد الخط الحديدي الحجازي التي أسست في فترة عبد الحميد الثاني، وبدأ العمل في السكة سنة 1900م وتم افتتاحها سنة 1908م، واستمر تشغيلها إلى أن دُمِّر الخط سنة 1916م خلال الحرب العالمية الأولى، محطات القطار مع بعض الترميم أصبحت كأنها جديدة.
وذكر د.م. نصر الصحاف من خلال تجربته الشخصية والعملية في فترة إعارته لهيئة تطوير مكة والمدينة والمشاعر المقدسة (٢٠٠٥- ٢٠٠٧م) أنه تقدم بمقترح Conceptual) (Design يهدف إلى تطوير المنطقة المركزية للحرم المكي الشريف إلى معالي أمين عام الهيئة أنذاك! وتضمن هذا التصور ما يلي:
- أولاً: تؤخذ نقطة ارتكاز الكعبة المشرفة كنقطة وسط للمحيط الدائري الكبير للحرم! بمعنى أن تكون الكعبة في منتصف القطر من كل الجهات.
- ثانياً: إزالة جميع المباني حول محيط الحرم على مسافة ميل (١.٦كم) من كل الجهات.
- ثالثاً: إزالة الجدران الخارجية للحرم والبوابات بحيث يمكن رؤية المركز (الكعبة) من أي زاوية (Concentric).
- رابعاً: “إنشاء دورات مياه بأعداد كافية – حسب النسب المقررة في المعايير العالمية للحشود – داخل الحرم الشريف”.
- خامساً: إزالة علامة الخط الأرضي بين الحجر الأسودDiagonal) ) وما يقابله في منطقة المسعى لتسببه في زيادة حجم الازدحام في تلك المنطقة من المطاف.
- سادساً: توسعة المطاف إلى أقصى درجة ممكنة بما في ذلك توثيق كل حجر من التوسعة العثمانية ومن ثم تفكيكها وإعادة بناءها على المحيط الأكبر من المطاف.
- سابعاً: توسعة المسعى.
- ثامناً: توسعة الساحات المتاخمة للحرم على حساب الأراضي المنزوعة وتركيب مظلات عملاقة على غرار ما هو معمول به في الحرم النبوي الشريف.
- تاسعاً: إعادة النظر في حركة الطوارئ وبخاصة الدفاع المدني وسهولة دخول مركبات الإسعاف لنقل المصابين في الحالات الطارئة.
- عاشراً: الإسراع في دراسة مشاريع إنشاء وسائل نقل عام سريعة تخدم المنطقة المركزية والحرم.
وتهدف المقترحات الثلاثة الأولى لاستشعار الروحانية بأقصى درجاتها لكل القاصدين وذلك بإزالة كل ما يمنع رؤية المرتكز في الوسط (الكعبة) وأيضاً زيادة المساحة الممكنة للتوسعات المُحتملة مستقبلاً وكذلك مضاعفة مساحة الساحات الخارجية وفي نفس الوقت زيادة المحيط العقاري/ التجاري (ثلاثة أضعاف) مع الإبقاء على روحانية المكان وتخفيف الزحام!!
وقد تم الأخذ ببعض هذه التوصيات (ثلاث فقط) ولم تنل الأخريات أي فرصة!!
وترى أ. ندى القنيبط من ملاحظتها عن السياحة الخارجية وزيارة المواقع التاريخية والآثار بأن نسبة توجه السعوديين لها ضعيفة مقارنة بالشعوب الأخرى!
لذلك لكي نبني أساسا صحيحا في فهم التراث واحترامه يجب أن ننمي هذه الثقافة لدينا وأن تدخل المواقع التاريخية والجغرافية في المنهج الدراسي والبحث الميداني لجميع المراحل بدءا بالروضة وحتى التعليم العالي، وعلى سبيل المثال فالمدارس الأمريكية في الرياض لديهم سنويا زيارات لمواقع تاريخيه في المملكة لمختلف مراحلهم الدراسية بينما المدارس الأخرى في الغالب لا تنظم زيارات تاريخية حتى في داخل الرياض على الأقل، أقصى رحلاتهم إلى الملاهي أو المطاعم!
وبدوره قال د. زياد الدريس: تناولنا في مداخلاتنا بالنقد دور المؤسسة الحكومية والمؤسسة الدينية، لكننا لم نتطرق بالقدر الكافي لنقد الموقف الشعبي الفاتر من التراث. إن تنمية الوعي الشعبي بأهمية الآثار ومحبتها له دور كبير في حمايتها من غلواء المعتدين. وقد لمست بنفسي في اجتماعات التراث العالمي باليونسكو خلال السنوات الماضية الدور الذي تقوم به مؤسسات المجتمع والجمهور في الضغط على الأجهزة الحكومية أو القطاع الخاص للتوقف عن المساس بآثار الناس التي توارثوها عاطفياً فشعروا أنها جزء من أفراد عائلتهم التي يجب حمايتها من التهميش.
وأضاف م. خالد العثمان: ومثل ذلك الأثر الذي أحدثه البعض الذين تصدو لمقاومة النسخة الأولى من مشروع توسعة الحرم النبوي الشريف حتى أوقفه الملك عبدالله رحمه الله حينها.. وهو ما يدعو لأهمية تنظيم هذه الجهود المتناثرة ومأسستها في شكل مؤسسة مجتمع مدني.
وبدوره اقترح د. حامد الشراري ما يلي:
- إحياء الأسواق التاريخية: فالأسواق القديمة لها مكانة بين سكان شبه الجزيرة العربية وكان لها نشاط تجاري وثقافي وحضاري آنذاك، كسوق عكاظ وسوق دومة الجندل وسوق هجر (الإحساء) … الخ.
في الآونة الأخيرة اُحيي سوق عكاظ الذي أصبح معلما سياحيا ورافدا للسياحة الوطنية، إلا أن الأسواق القديمة الأخرى؛ دومة الجندل وهجر..، ما زالت تنتظر الاهتمام لتحظى بما حظي به سوق عكاظ من زخم إعلامي واهتمام.
إعادة إحياء الأسواق القديمة (دومة الجندل وهجر..) هو مد جسور الماضي بالحاضر والمستقبل وإبراز لوجهنا الحضاري والتاريخي والفكري والثقافي.. ورافد للسياحة الوطنية.
- إقامة الفعاليات والأنشطة السياحية المختلفة في الأماكن التاريخية والأثرية أو حولها هو إبراز لقيمتها ويزيد الوعي بأهميتها الوطنية والحفاظ عليها.
- إيجاد البرامج السياحة العائلية المتنوعة لزيارة الأماكن التاريخية – كرحلات سفاري – وتسويقها إعلاميا، هو ربط حاضرهم بماضيهم ويحقق الترفيه العائلي وينشط السياحة الداخلية.
- تكثيف الزيارات والبرامج والأنشطة المدرسية والجامعية اللاصفية المتنوعة للطلاب/ الطالبات في الأماكن الأثرية والتاريخية هو إبراز لدورها وأهميتها الوطنية للنشء.
- ما تحويه المملكة من أماكن أثرية وتاريخية هي ثروة وطنية، عند الاهتمام فيها وتسويقها سياحيا تكون أحد مصادر الدخل الوطني. وللتدليل على أهمية هذا المقترح قال د. الشراري: أذكر أنني خلال دراستي في أمريكا، وخصوصا في مرحلة دراسة اللغة الانجليزية، أن معهد اللغة كان يأخذ الطلبة الأجانب لزيارة موقع سياحي يبعد أكثر من نصف ساعة عن مدينتنا الجامعية يسمى غار الرجل العجوز(old man cave) مصحوبة بدعاية كبيرة مدعمة بالصور الجميلة عن هذا المكان، فذهبت لزيارته مع بعض الزملاء ، هو مجرد غار عادي فيه بعض شلالات المياه المتقطعة ، وبعفوية تامة، كنت أقول لزملائي: “عندنا في السعودية أحسن منه”، فكرت مليئا في هذه الهالة الدعائية من المعهد عن هذا الغار و التي ليست حصرا على الطلبة الأجانب فقط وإنما للأمريكان نفسهم، وسألت نفسي، ماذا لو يزورون المملكة ويشاهدون الأماكن الطبيعية والأثرية والتاريخية التي تمتد لآلاف السنين أو أكثر والتنوع البيئي والاجتماعي هناك، وماذا عن برامج دعائية جاذبة عن المناطق الأثرية والجميلة في المملكة؟!
- تفعيل دور الأماكن التاريخية السياحي والاقتصادي هو حماية لها.
- إنشاء جهاز أمني (الشرطة السياحية) لحماية المواقع الأثرية وتوفير الأمن للسياح.
- استخدام التقنيات الحديثة ككاميرات المراقبة وربطها بفروع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالمناطق.
- تفعيل دور المواطن والمقيم من خلال إيجاد تطبيق لحماية الآثار والمواقع التاريخية على الأجهزة الذكية.
المحور الرابع
التمكين الصحي والحقوق الصحية في المملكة العربية السعودية
الورقة الرئيسة: أ.د. سامية العمودي
يعتبر تمكين المرأة والمجتمع ككل، خطوة رئيسة باتجاه تطوير وازدهار وتقدم المجتمع، وحقوق الإنسان، ويعّرف التشريع الحق الصحي على أنه ” الاستمتاع بأعلى مستوى من الصحة يمكن تحقيقه”، وتؤكد مبادئ الشريعة والقيم الإسلامية على حق التمتع بالصحة، بالإضافة إلى أن المعاهدات والاعلانات العالمية قد أولت اهتماما خاصاً بحق الناس في الحصول على الرعاية الصحية، وكجزء من القانون الأساسي للمملكة العربية السعودية، أشارت المادة 31 منه إلى حق الحصول على الرعاية الصحية، وأعلنت “أن الدولة ترعى شؤون الصحة وتوفر الرعاية الصحية لكل مواطن”.
وتولي السياسة الصحية في المملكة اهتماماً كبيراً بصحة المرأة، لأن صحة المرأة هي عصب صحة الأسرة والمجتمع، بل وتمت حديثاً في نوفمبر 2015م، موافقة مجلس الشورى على إدراج برامج صحة المرأة ضمن خدمات الرعاية الصحية التي توفرها الدولة، كما جاء اهتمام الدولة والجهات المنوط بها صحة الفرد والمجتمع بالحقوق الصحية جلياً، من خلال نشر الثقافة الحقوقية الخاصة بالصحة في وثيقة حقوق المرضى الصادرة عن وزارة الصحة، وتم تأكيد هذا المطلب في توصية “وثيقة الرياض حول حقوق المريض”، والصادرة في مارس 2016م، عن المؤتمر الخليجي الأول لحقوق المرضى بالرياض، برعاية المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة لدول مجلس التعاون، من هنا تتضح أهمية التمكين الصحي والحقوق الصحية في المملكة العربية السعودية وأهمية نشر هذه الثقافة للمختصين وللعامة لأن الصحة حق للجميع.
والتمكين لغة هو تمهيد الأسباب وبحيث تجعل للفرد أو المجموعة سلطاناً وقدرة ومتمكناً من النجاح، ويقوم مفهوم التمكين على امتلاك الفرد للقوة، ويعتقد البعض أنه مصطلح تغريبي ومن مصطلحات الأمم المتحدة، والحقيقة أنه مصطلح قرآني ورد في عدة آيات وورد في سورة يوسف:
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)، (سورة يوسف).
يقوم مفهوم التمكين على امتلاك الفرد للقوة، وتعزيز القدرة على المشاركة والاختيار، والتمكين الصحي أحد آليات تعزيز الصحة والثقافة الحقوقية، ويعني برفع الوعي بتوفير المعلومة السليمة التي تساعد الرجل والمرأة على اتخاذ القرارات الصحية السليمة، ويعني بتمكينهم وبتعريفهم بالأنظمة التي تحمي الحقوق الصحية، والتي تنص عليها أنظمة وزارة الصحة ويكفلها الشرع والنظام، ويجهلها بعض الممارسين الصحيين وكثير من أفراد المجتمع، كما يعني التمكين الصحي أيضا بإلقاء الضوء على الضوابط الشرعية المنظمة لبعض القضايا الطبية ورفع الوعي بها ، وتنطلق أهميته من أن التمكين الصحي يؤدي إلى رفع الوعي الصحي المجتمعي، وهذا ينعكس على التقليل من المضاعفات الطبية والمراضات وحتى الوفيات.
ومن المهم أن ندرك أن نقص الثقافة الحقوقية وقلة الوعي بالأنظمة، ينعكس سلباً على صورة الدولة وأنظمتها محلياً وعالمياً، كما جاء في تقرير منظمة حقوق الإنسان عام 2008م، والذي تضمن أن المملكة لا زالت تعامل المرأة كقاصر، وتطلب موافقة الوصي في حق التعليم والعمل والتنقل وحتى في الرعاية الصحية، وجاء هذا بناء على لقاء تم عقده مع بعض الأطباء الذين تنقصهم المعرفة بالأنظمة والحقوق الصحية، ومن هنا جاءت أهمية نشر الثقافة الحقوقية هذه بين الممارسين الصحيين، وبين عموم المجتمع ، ورغم أهمية هذا الجانب الحيوي في الواقع الصحي، إلا أن هناك نقصاً في المعلومات وفي البيانات، وقلة في الدراسات التي تبحث في هذا الجانب، مما يتطلب تسليط الضوء عليه، ولأن التمكين الصحي يهدف إلى تعزيز ثقافة حقوق المرضى، فقد عمدت وزارة الصحة مشكورة إلى صياغة وثيقة حقوق المرضى، المتاحة عبر موقعها الرسمي، إلا أن الوثيقة لم تشمل كل الحقوق.
أين تبدأ الحقوق الصحية للفرد؟ لقد تفرَد الدين الإسلامي بتكريم الجنين من لحظة الإخصاب، وحفظ له حقوقاً كثيرة مثل حقه في الحياة وتحريم إجهاضه، وتوقيع العقوبات والدية على الطبيب وحتى على الأم لو كانت مشاركة عمداً، إلا لو كان الإجهاض لخطر محقق على حياة الأم وفي حالات يعرفها الأطباء، أو كان الجنين مشوه خِلقياً تشوهاً غير قابلاً للعلاج ، وهذه الأحكام موثقة في نظام وزارة الصحة والمبني على قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، برابطة العالم الإسلامي، في دورته الثانية عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة في يوم السبت 15 رجب 1410هـ الموافق 10 فبراير 1990 م ، وهذا ما يتم التقيد به في النظام الصحي للملكة العربية السعودية، حفاظاً على حق الجنين في الحياة ، بل وزاد الأمر عند الحاجة إلى الولادة بالقيصرية لأسباب تتعلق بصحة الجنين وسلامته، ورفضت الأم العملية القيصرية، هنا يتم تقدير الحقوق الصحية للأم والحقوق الصحية للجنين، والقاعدة العامة أن حفظ النفس مقدَم على غيره من المصالح.
تمثل الحقوق الصحية للفتيان وللفتيات إحدى الحقوق التي لم نتناولها بشكل كافي، ولا زال هناك قصور في برامج التمكين التي تستهدف هذه الفئة ومشكلاتها وأبرز المتغيرات فيها، والتي تتمثل في المتغيرات الجسدية ومرحلة البلوغ بكل مستجداتها، التغيرات النفسية والعاطفية والتعرض للاكتئاب والانطواء وسهولة الانقياد للتدخين وللمخدرات، المتغيرات المجتمعية والتعرض للعنف والتنمر والتحرش وكافة تبعاتها الصحية، وقد وضعت هذا في كتابي تمكين الفتيات صحياً نفسياً واجتماعياً (2016).
وفي جانب الحقوق الصحية والصحة الإنجابية والتي تتضمن الحقوق الصحية الخاصة بالإنجاب للجميع ، وحق اتخاذ القرارات فيما يتعلق بالإنجاب بدون تمييز أو إكراه أو عنف طبقا لمبادئ حقوق الانسان، يأتي هنا أهم القرارات وهو حق المرأة السعودية في الموافقة على الرعاية الصحية التي تتلقاها، ويعد هذا أهم الحقوق في الصحة الإنجابية حق اتخاذ القرار، وهناك افتراضات وادعاءات على نطاق واسع بأن حق الحصول على الرعاية الصحية لا يلقى الدعم الكامل في المملكة العربية السعودية، والدليل على ذلك يمكن رؤيته عند مناقشة اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد النساء- تقرير اللجنة المنشور في إبريل 2008، حيث أعربت اللجنة عن قلقها بشأن قلة المعلومات والبيانات الخاصة بالمشاكل الصحية ، وأشارت إلى قلقها من حاجة النساء إلى موافقة أولياء أمورهن الذكور قبل السماح لهن بالوصول إلى المرافق الصحية والحصول على حق الرعاية الصحية.
تظهر هذه التقارير وغيرها عدم وضوح الرؤية وعدم دقة المعلومات المتوفرة لدى هذه الجهات الحقوقية، ولا زالت هناك مفاهيم خاطئة حول حقوق النساء وقدرة المريضة على الموافقة على أمور الرعاية الصحية التي تتلقاها مثل التنويم، الخروج من المستشفى، الموافقة على علاجات وجراحات أطفالهن، وحق المرأة في التوقيع بالموافقة على التداخلات الطبية والتداخلات الجراحية، دون اشتراط موافقة ولي الأمر، وكون الجهل بهذه الأنظمة المنظمة أمر خطير، ويتسبب في إعاقة تقديم خدمات الرعاية الصحية وبالتالي تتعرض الأمهات لمخاطر قد تؤدي للوفاة أو التعرض للمراضات والمضاعفات الخطيرة، ويحدث تأخير في تقديم الرعاية الصحية العاجلة والطارئة، أو عدم تقديمها في حالة رفض الزوج للقيصرية مثلاً ورأينا حالات وفيات أمهات وأجنة بسبب الجهل بحق المرأة في التوقيع بالموافقة، وكذا في حالات علاج السرطان، وتقديم العلاج الكيماوي ، واستئصال الثدي وغيره من التداخلات مما لا تحتاج إلى موافقة ولي الأمر، وإنما يكتفى بموافقة المرأة لأنها صاحبة الحق في القبول والرفض، حسب النظام لدينا، والتأكيد على “أن المرأة البالغة والعاقلة تتمتع بالحق الكامل الذي يخولها قبول أو رفض أية عملية طبية تعرض عليها ولا تحتاج إلى موافقة زوجها أو ابنها أو والدها أو أخيها قبل اعطاء مثل تلك الموافقة، وينص القرار الوزاري الذي يضع موضع التنفيذ الأنظمة الخاصة بممارسة مهنة الطب وعلاج الأسنان الصادرة بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/3 تاريخ اكتوبر 1988 ينص على “طبقا للأحكام الواردة في المرسوم الملكي رقم 4/2428 الصادر بتاريخ 29/7/1404 هـ والمبنية على القرار رقم 119 في 26/5/1404 هـ الموافق 27 فبراير 1984 لهيئة كبار العلماء، فإنه قبل تقديم خدمات الرعاية الطبية أو إجراء عملية جراحية يتم أخذ موافقة المريض المؤهل قانونا سواء كان (ذكرا أو أنثى)، ولا تحتاج موافقة ولي الأمر خاصة في العمليات القيصرية، وبالرغم من ذلك، لا تزال غالبية النساء تجهل أو لا تدرك أو لا تتفهم حقوقها الخاصة بالرعاية الصحية، ولهذا السبب فإن تمكين المرأة من خلال التعليم والمعرفة، ونشر الوعي بين مقدمي الرعاية الصحية وجيل أطباء المستقبل هو أمر الزامي، وهو سبب قيامي بحملة الإذن الطبي للتعريف بهذه الأنظمة.
تشمل المعرفة بالصحة الانجابية أيضا، معلومات تتعلق بقضايا الرعاية الصحية الانجابية والجنسية، واتخاذ القرارات المتبادلة بشأن تنظيم الأسرة، وحق الزوجين في إجراء عمليات التعقيم لمنع الحمل نهائياً، ويجهل حتى بعض الممارسين الصحيين أن نظام وزارة الصحة يتطلب موافقة الزوجين معاً، حتى في حالة إجراء التعقيم للزوج، ولا يحق للزوج طلب إجراء التعقيم له إلا بعد موافقة الزوجة، ولو كان له أكثر من زوجة أخذ موافقتهن جميعاً، ولهذه القضية ضوابط شرعية وطبية يعرفها المختصون.
يشمل نظام وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية حزمة كبيرة من الحقوق أيضا لمرضى السرطان من الأطفال والبالغين، ولذوي الاحتياجات الخاصة، وللأطفال القصَر، ولمرضى الكلى، والإيدز وحتى للمسنين، مما لا يتسع المجال لتناوله، أين الإشكالية إذن؟ تقع الإشكالية في عدة أمور وهي كما يلي:
- ضعف الوعي المجتمعي بين كافة شرائح المجتمع نساءً ورجالاً بهذه الحقوق، وتجاهل البعض أيضا لعدم قناعته بحق المرأة في اتخاذ القرار، وهذا ما يجعل الحاجة كبيرة لنشر هذه الثقافة.
- عدم قيام وزارة الصحة بنشر هذه الثقافة بشكل كافي في المرافق الصحية، مما أوجد جهلا بالأنظمة والقوانين، وضعفاً في الممارسة والتطبيق، وعدم وجود سياسة متابعة وإلزامية بالتقيد بهذه الحقوق، وعدم تفعيل نظام يحمي حقوق المرضى عند تقديم شكوى أو حدوث ضرر من عدم التطبيق لهذه الأنظمة الموجودة.
- لا زالت المناهج الطبية في الكليات الصحية قاصرة، وتحتاج إلى إدراج مادة التمكين الصحي والحقوق الصحية في المناهج منذ بداية التحاق الطالب، وبحيث تكون مواداً إلزامية، وكذا الحاجة إلى إدراج هذه المواد في المناهج التعليمية العامة في المدارس، لأنها ثقافة صحية ومجتمعية وحقوقية.
- لا زال الإعلام قاصراً عن القيام بالدور المنوط به لنشر هذه الثقافة وتمكين المجتمع التمكين الصحي اللازم، ونشر الثقافة الحقوقية بشكل يحقق المخرجات المرجوة منها، محلياً وإعلامياً.
التعقيب الأول: د. عائشة حجازي
أبدأ بقول الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي أن أول اضطهاد عرفه التاريخ هو اضطهاد النساء، مما يجعل نسف الأسس التي يقوم عليها ذلك الاضطهاد خطوة ضرورية لنسف كل اضطهاد آخر.
التمكين من المصطلحات الحديثة التي يتم تداولها بشكل كبير في المنتديات والمحافل الدولية، وقد انتقل إلى أدبيات وخطابات الكثير من الساسة والمثقفين في عالمنا العربي والإسلامي.
وارتباط هذا المصطلح بالمرأة يُظن فيه أن تقوية المرأة لتتغلب على الرجل في الصراع الذي يحكم العلاقة بينهما وفقا لآراء وأفكار الكثير من المنظمات بدعوى أن العداء والصراع هما أصل العلاقة بينهما.
التمكين الصحي له جوانب عدة ومحاور مختلفة يمكن نقاشها والحديث عنها، مثل الحق في التمكين من المعلومة، أهمية هذه المعلومة، معرفة ما يمكن أن يترتب عن معرفة هذه المعلومة، حق المريض وحدود الخصوصية وسرية المعلومات المتعلقة به، وحتى الجوانب الشرعية والأخلاقية المتعلقة بالتمكين الصحي.
في تعقيبي سأركز على جانب تمكين المرأة صحيا وبالتحديد في الجانب النفسي.
التمكين ببساطة يعني مزيدا من قوة المرأة، والقوة تعني مستوى عالٍ من التحكم وإمكانية التعبير والسماع لها والقدرة على الاختيارات الاجتماعية المؤثرة والتأثير في كل القرارات المجتمعية. والاعتراف بها كمواطن متساو وكيان إنساني مع الآخرين. والقوة تعني مقدرة على المساهمة والمشاركة الفاعلة في المجتمع وليست فقط في المنزل. والقوة تعني أيضا مشاركة المرأة مشاركة معترف بها وذات قيمة. تمكين المرأة الهدف منه حصولها على حقوقها كإنسانة وكمواطنة دون أن يتحكم فيها شخص آخر لا لشيء إلا كونه رجل حتى وإن كان أقل منها حكمة وعمرا ودرجة علمية.
الرعاية الصحية وتمكين المرأة صحيا يعتبر أحد دعائم التنمية الشاملة لما تلعبه من دور وأثر عظيم على حياتها وحياة الأجيال القادمة.
ومن الأهداف التي من المهم التركيز عليها في تمكين المرأة صحياً:
- تحسين الصحة الإنجابية للمرأة.
- تحسين صحة المرأة في جميع مراحلها العمرية (المرأة المسنة، الكشف المبكر عن الأورام شائعة الحدوث عند المرأة، الحالة الغذائية للمرأة في جميع مراحلها العمرية).
- التصدي لانتشار الأمراض شائعة الحدوث كالتهاب الكبد الوبائي والايدز …الخ
- الاهتمام بالرعاية النفسية والتمكين النفسي للمرأة.
في العصر الحالي أصبح الدعم النفسي للمرأة ضرورة ملحة كونها فرد فاعل من أفراد المجتمع بل نصفه الأول، ولما تقوم به من دور كبير في سير عجلة التطوير الشامل والازدهار، ناهيك عن دورها الفطري الذي جبلت عليه لتصبح ركيزة ترتكز عليها استمرارية الحياة الطبيعية بمفهومها السليم.
ولأنها ابنة وأخت وزوجة وقبل كل شيء أم فهي أكثر حاجة لبرنامج التمكين النفسي، والاهتمام بالعوامل التي ترتبط بها في محيطها الداخلي مثل التغييرات الهرمونية وتأثيرها على العواطف والأفكار والتي بدورها قد تؤثر على قرارتها المتخذة واندماجها مع العوامل الخارجية.
من أدوات التمكين النفسي للمرأة والتي تختلف حسب طبيعة الظروف التي تواجهها واحتياجاتها المتعددة:
- الجلسات العلاجية النفسية بفنياتها واتجاهاتها حسب حاجة المرأة وظروفها.
- الندوات والبرامج التأهيلية التي تساعد وتنمي قدرة المرأة على الوفاء باحتياجاتها واحتياجات من حولها.
- الحملات التوعوية والتثقيفية عن كل ما يؤثر على كيانها النفسي والصحي بشكل عام.
والهدف من التمكين النفسي للمرأة هو ضمان اعتدال صحتها النفسية مما يضمن سلامة قراراتها وقرارات من تعول، وأن تعرف متى تصبح فعليا متمكنة وقادرة نفسيا، ومتى تصبح في حاجة للدعم النفسي وماهية الفرق بينهما.
فالكثير من النساء تعتقد أن استمرارها تحت الضغوط النفسية هو جزء من حياتها كامرأة، وأن استضعافها أو إذلالها طقوس فرضت عليها من خلال معتقدات ومبادئ لادين لها ولا عقيدة.
على الرغم من أن المرأة مازالت تجاهد للحصول على حقوقها في كل العالم حتى في الدول المتقدمة إلا أن أمورا قد تكون بسيطة في تلك المجتمعات المتحضرة التي تحترم الإنسان وتعطيه قيمته بقدر أكبر من غيرها نجد أننا نفتقدها في أوقات كثيرة في مجتمعنا ومنها تمكين المرأة من الحصول على العلاج النفسي، خصوصا وهي تواجه ضغوطاً وتحديات مثل الرجل وربما أكثر، لكنها لا تستطيع أن تحصل عليه بسهولة ولعدة أسباب من أهمها ثقافة مجتمعنا والهيمنة الذكورية. كما أن تعرض المرأة للتعنيف ولظلم الرجل سواء أب أو أخ أو زوج أو ابن يؤثر عليها نفسيا واجتماعيا، ومع ذلك لا تستطيع الحصول على الرعاية النفسية المناسبة لأنها تحتاج لولي أمرها، إما للحصول على الاستشارة أو العلاج أو حتى في الخروج للعيادة والعودة منها.
وأيضا زوال العوائق الاجتماعية يزيد من فاعلية التمكين للمرأة بجوانبه المختلفة، والذي يعني الايمان العميق بدورها وأهميتها كإنسان له حقوق وواجبات وأنها شريكة في كل ما يهم المجتمع من مختلف النواحي.
التعقيب الثاني: أ.د. عبدالرحمن العناد
قضية التمكين الصحي هي قضية جمعت بين مسألتين غاية في الأهمية: حق الرعاية الصحية وحقوق المرأة، وللأسف الشديد فإن المسألتين لا زالتا بحاجة لمزيد من الدعم والتعزيز في المملكة، ففيما يتعلق بحق الرعاية الصحية التي تضمنه الدولة للمواطنين جميعهم، ذكورا وإناثا صغارا وكبارا، وفقا للنظام الأساسي للحكم، وبما يتماشى مع إعلانات ومواثيق وعهود حقوق الإنسان الدولية، فإن الخدمات الطبية لازالت قاصرة وعاجزة عن تقديم خدمة تتناسب مع مكانة المملكة ومع تطورها وقدراتها المالية الكبيرة، ولا زالت حالة عدم الرضى عن هذه الخدمات هي السائدة لدى المواطنين، وفيما يتعلق بحقوق المرأة فهي ليست بحال أفضل، ولا حاجة للتفصيل في ذلك في هذا التعقيب.
وإذا دمجنا المسألتين وتحدثنا عن تمكين المرأة من حقوقها الطبية فإن المسألة تصبح إشكالية مزدوجة، والمرأة وحدها هي الضحية مكرر لقصور الخدمة الطبية المرضية ولعدم إعطائها حقوقها كاملة. المرأة كما تقول أ.د. سامية يفترض أن تكون هي صاحبة القرار فيما يتعلق بعلاجها وأن الأنظمة تنص على أنها صاحبة الحق في القبول والرفض، والتأكيد على “إن المرأة البالغة والعاقلة تتمتع بالحق الكامل الذي يخولها قبول أو رفض أية عملية طبية تعرض عليها ولا تحتاج إلى موافقة زوجها أو ابنها أو والدها أو أخيها قبل اعطاء مثل تلك الموافقة….”
ومع ذلك لا تزال المرأة تعاني ويطلب منها موافقة ولي الأمر لعدد كبير من الإجرائيات العلاجية، ولست مع تحميل المرأة مسؤولية هذا القصور لأنها حتى عندما تكون واعية بحقوقها لن يفيدها ذلك، لأن وعي الممارس الصحي أهم، وأهم من هذا المهم التزام الممارس الصحي بالنظام، لأن ما يحدث أحيانا هو أن الممارس الصحي يفرض رؤيته الشخصية و(الشرعية) ويتجاهل الأنظمة، والواقع أن أكثر مشاكل مجتمعنا الحقوقية فيما يتعلق بالمرأة بالمملكة هو تطبيق الأجندات والآراء الشخصية للأفراد في الممارسات اليومية في الدوائر الحكومية وفي الأسواق والفنادق وأماكن الترفيه وغيرها، وليس تطبيق الأنظمة. وبناء عليه، وفي القطاع الصحي تحديدا، من المهم أن يكون النظام واضحا، وأن تتم توعية العاملين بالقطاع الصحي والزامهم بتطبيق الأنظمة، ومساءلة من يخالفها، وقبل ذلك وبعده إلغاء فقرة (موافقة ولي والأمر) من كافة نماذج وزارة الصحة والمستشفيات والمراكز الطبية الخاصة، التي أظنها توضع في بعضها بناء على رأي تقديري لشخص تمر عليه هذه النماذج قبل طباعتها، وليس بناء على نظام.
المداخلات حول قضية: (التمكين الصحي والحقوق الصحية في المملكة)
- التمكين والصراع بين الرجل والمرأة
أشار د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن التمكين عامة يأتي كحق من الحقوق التي حددها الشرع الإسلامي للذكر والأنثى ، فالشريعة الإسلامية أتت برسائل عدة ، منها حقوق مباشرة تهدف إلى أحقية امتلاك الإنسان أيا كان جنسه لحقوقه المشروعة ، وكما استشهدت د. سامية، من خلال الآية الكريمة (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الآية(21) سورة يوسف ، ولا دلالة أوضح من دلالة هذه الآية الكريمة نحو تبيان أحقية الإنسان في أرض الله من تمكينه لحقوقه التي شرعها دينه الإسلامي الحنيف.
إذاً من هذا المنطلق يأتي التمكين كحق للفرد أمر حتمي، وبما نصت عليه المواثيق الدولية والمحلية بهذا الخصوص، واستنادا إلى ذلك لا يمكن لأي جهة حكومية أو خاصة أو حتى فرد أن يحول دون الآخر في التمتع بحقوقه المشروعة والمقرة شرعاً وقانوناً.
وأشارت أ.د. سامية العمودي إلى أن الله كرّم الإنسان وجعل هناك حقوقاً صحية للجنين من لحظة الإخصاب وهو في رحم أمه:
- يحرم إجهاضه فهذا حقه في الحياة وفي ذلك ديّة ولا يجوز إلا في حالات ضيقة يقررها الأطباء.
- يحرم على الأم تعاطي مواد ضارة مثل الكحوليات والمخدرات التي قد تصيب الجنين بتشوهات.
- يباح لها الفطر في رمضان لو كان سيؤثر على نمو الجنين وصحته.
- حفاظاً على حقوقه الصحية تؤجل العقوبات.
- حقوق صحية بمعالجة الجنين وهو داخل الرحم حتى بعمليات جراحية وهذه تقنيات حديثة.
إن المناهضين والمعارضين لتمكين المرأة يودون تفتيت وتسطيح وتحويل القضية عن حقيقتها بدعوى أنها دعوة للاستقواء والخروج عن الحدود وخلق صراعات وهذا غير حقيقي ويضيع مكتسبات التمكين ويهدمها.
التمكين الصحي المقصود به تمكين المرأة والرجل معاً من المعلومات السليمة والأنظمة والحقوق مثال: كيف نوفر للمرأة حق الموافقة على القيصريات إذا كانت المعلومة غير متوفرة عندها ويجهلها الرجل في الصحة الإنجابية.
حق تنظيم الأسرة ومنع الحمل المؤقت على سبيل المثال لابد أن يفهمه الرجل ويتمكن من المعلومات؛ التمكين هو تمكين للمرأة وللرجل ليكون تمكين للمجتمع.
وقالت أ. هيا السهلي: فيما يتعلق بارتباط المصطلح بالصراع بين المرأة والرجل وحق المرأة إذا انتفى الأول وأثبتنا الثاني أظن جزء كبير من التمكين سيتحقق.
ولعلي أحوم حول حق المرأة في اختيارها لأن تكون سليمة الجسد قوية البنية وحق اختيارها متى تنجب ومتى تتوقف عن الإنجاب ومتى تأخذ قدرها الكافي بين الحمل والوضع.. هذا حق يسلب من المرأة بدعوى إكثار النسل والتفاخر به ودعوى إنجاب الذكر الذي يرفع اسم الرجل ويكون المحرم!
فتظل المرأة تتبع الحمل حملا آخر في أمل الولد وإن آمنت بقسمة الله لم يرض الزوج ويجبرها بالحمل حتى ولو لم يتم الحولين كاملين!
في هذه الحالة يُحرم حق الطفل في الرضاعة الكاملة وحق المرأة في استعادة صحتها بالمدة الكافية.
وقبل هذا وذاك فأساس الصحة، هي الحالة النفسية فإن لم تمكن المرأة من حالة نفسية مستقرة لا تخاف ولا تخشى من هاجس يقلقها لأظن البدن يستوي على العافية!
وأضاف د. خالد الرديعان بأنه يوجد نوع من العنف الأسري يتقاطع مع موضوع التمكين الذي نطرحه هنا. ويقصد بذلك ما أُطلق عليه “بالعنف الأسري الصحي”؛ ويشمل منع الضحية من الحصول على الخدمة الطبية المطلوبة أو اكراه الزوجة على الحمل وهي غير مستعدة لذلك صحيا أو إهمال رعاية الأبناء صحيا كعدم إعطاءهم التطعيمات في وقتها وتأخير علاجهم.. والأمثلة كثيرة.. كل ذلك يدخل ضمن العنف الأسري.
وفي هذا السياق تساءل د. مساعد المحيا: ماذا لو أن زوجا أو ابنا وجد الطبيب أو الفريق الطبي ينصحون مثلا ببتر إصبع أو ساق أو استئصال ثدي أو عملية نوعية في القلب أو عملية تتطلب فتح الرأس.. لكن الابن أو الزوجة أو الوالدة متخوفون من ذلك، والأطباء لا يعطون درجة مرتفعة جدا من توقع نجاحها.. هل يحق للطرف الآخر أن يوقع بالنيابة عنهم لترددهم أو خوفهم؟
ومثله الزوجة في العملية القيصرية لو رفضت الزوجة ورأت أن حالتها لا تحتاج لذلك، هل يحق للزوج أن يقرر ذلك حرصا على صحتها وحياتها؟ ليس من باب النيابة، وإنما هو فعلا هناك أمور يتعذر على المرء البت فيها، وقد يتردد في القرار، ويحتاج من يشجعه على ذلك.
ألا يمكن أن يكون مفهوم التمكين قائما على مبدأ أيها أكثر رفقا ومصلحة للمريض؛ بمعنى قد يكون المريض قاسيا على نفسه مثل أن تختار المرأة تحمل مشاق الولادة مع نصيحة الأطباء لها فهل يمكن للمؤسسة الطبية أن تأخذ بتوقيع الزوج في العملية القيصرية.. ولعل من أمثلة ذلك أن المستشفى في بعض الأحيان لا يأخذ برأي المريض حين يجد حاجة ضرورية لعمل أمر ما.. مثلا قد تنتكس حالة المرأة طبيا ويتطلب الأمر اتخاذ قرار طبي سريع وهذا يحتاج لموافقة والمريضة في حالة عدم القدرة على الكلام أو حتى الادراك.. فهل الزوج ينوب عنها في مثل هذه الحالة؟
ويرى أ.د. عبدالرحمن العناد أن المشكلة هنا أن المسألة سوف تصبح تقديرية وتفتح الباب واسعا لاتخاذ قرارات عن المرضى بواسطة أقربائهم … وإن أجزنا توقيع الرجل عن المرأة ينبغي أيضا أن نجيز للمرأة التوقيع عن الرجل.. وهذه الإجازة تحتاج ضوابط وبعض الحالات تحتاج فتوى مثل حالات الغيبوبات الطويلة على الأجهزة وموت الرحمة.
وأوضحت د. سامية العمودي أن الزوج أو الولي لا ينوب إلا في حالة عدم قدرة المريض رجلاً كان أو امرأة على اتخاذ القرار كأن يكون في غيبوبة وتواجهنا حالات ترفض فيها السيدة القيصرية ومعظم الرفض يكون عادة بسبب الخوف والجهل؛ ومن هنا جاءت أهمية التمكين الصحي ومناقشة المرضى ومعظمهن يوافقن متى ما تمت مناقشتهن ولكن بعض الحالات يكون فيها الرفض كاملاً هنا نقع في إشكالية الحقوق الصحية للمريضة والحقوق الصحية للجنين فإذا كانت مثلاً ترفض القيصرية ونعلم أن عدم عملها سيؤدي مثلا لانفجار الرحم أو وفاتها فيمكن لطبيبين التوقيع وهناك لجان في المستشفيات.. وعندنا القاعدة العامة حفظ النفس مقدم؛ ولكن حالة المرأة ومشاق الحمل والمخاض لا يمنع أنها تزال قادرة على اتخاذ القرار لنفسها.. وللأسف لا يزال هناك عدم وعي ولايزال هناك حاجة لمناقشة هذه القضايا من المجامع الفقهية.. ومشروع التمكين الصحي من مقاصده رفع الوعي وعندما ندرجه في مناهجنا ينشأ جيل واعي بحقوقه الصحية.
- معوقات التمكين الصحي
يعتقد م. حسام بحيري أن المشكلة الرئيسة التي تواجه القطاع الصحي في المملكة هي عدم وجود سياسة واضحة لآلية تقنين كيفية تقديم وتغطية الخدمات الصحية لكل فئات المجتمع بقطاعيه الحكومي والأهلي. تقديم الخدمات الصحية للمواطنين بالطرق التقليدية أصبح مثل السباحة عكس التيار والمشكلة التي نعاني منها حاليا في قطاعنا الصحي هي نفس المشاكل التي عانت منها دول كثيرة متقدمة في الماضي وهذا يعني أنها ليس مشكلة تختص بالقطاع الصحي السعودي فقط.
مع ازدياد أعداد السكان والمقيمين خلال الزمن كان حتما أن نواجه هذه المشاكل والتي لم نكن مستعدين لها، والخوف من وضع حلول وقتية لا تفي بالمتطلبات المستقبلية لقطاعنا الصحي. بناء استراتيجية واضحة وشاملة لما هو المتوقع تقديمه من القطاع الصحي حسب إمكانيات الدولة أصبح أمر حتمي ولابد من الاعتماد على محترفين مختصين في بناء هذه الاستراتيجية. التأمين الطبي الشامل لكل المواطنين والمقيمين أصبح مطلب حتمي سواء العاملين في أجهزة الدولة أو القطاع الخاص أو المتقاعدين وحتى العاطلين أو غير قادرين عن العمل.
أول خطوة لتطبيق استراتيجية التأمين الصحي تبدأ من مقر العمل الذي يكون مطلوب منه تأمين موظفيه صحيا حتى لو استقطع مبلغ من الراتب لصالح التأمين الطبي.
في الكثير من الدول الغربية عند التوظيف هناك ما يطلق عليه التوظيف بالفوائد (job benefits) وهو باختصار توفير تأمين طبي للموظف بالإضافة إلى فوائد أخرى مثل مساندة التقاعد الخاص وعادة يكون الدخل السنوي أقل نسبيا من التوظيف بدون فوائد العمل والتي تقدم دخل سنوي أعلى، ولكن الفائدة للموظف أفضل طبيعيا. عامة لابد أن يكون هناك تركيز على تقنين تقديم الخدمات الطبية من خلال نظام تأمين عن طريق العمل كأساس سواء كان التأمين من خلال أو عن طريق شركات أهلية أو تأمين طبي يقدم من خلال الحكومة للمواطنين الذين لا تشملهم التغطية عن طريق العمل أو لظروف أخرى مثل العجز أو الفقر أو أي ظروف مانعة يتم تحديدها.
سياسة التوسع المضطرد في إنشاء المراكز والمستشفيات الحكومية في جميع مناطق المملكة في العقد الماضي بدون أن تكون هناك بنية أساسية وطنية مساندة لهذا التوسع أدخلنا في مشاكل أكثر مما وفر حلول؛ أولها عدم القدرة على تقديم مستوى صحي متساوي أو ما يعتبر أدنى المطلوب تقديمه في القطاع الصحي، ونرى التفاوت الكبير في مستوى الخدمات التي تقدم من منطقة إلى منطقة ومستشفى إلى مستشفى آخر على الرغم من أنهم تابعين لنفس الجهة الإدارية.
مع مرور الزمن فإن الاحتياجات الصحية ستزيد، ومع تقدم الشعوب وتطورها ستطرأ متطلبات صحية جديدة غير تقليدية لابد من التعامل معها لأنها أصبحت من المتطلبات الصحية الرئيسة؛ وهذه الاحتياجات المطلوبة في مجتمعنا تعتبر جزء من احتياجات صحية أخرى مطلوب توافرها في مختلف مناطق المملكة، مثل مراكز علاج الأورام المتخصصة والتأهيل الصحي و إعاقات الاطفال و دور المسنين التي أصبحت مطلوبة مع تزايد نسبة أعمار المواطنين والمواطنات بسبب تطور علوم الطب وتكنولوجيا التجهيزات الطبية وعدم تفرغ الكثير من أهاليهم للعناية بهم بسبب انشغالهم بأعمالهم التي لا يستطيعون التخلي عنها بالإضافة إلى ذلك نستطيع أن نرى أن هناك عاملين رئيسيين يعاني منها القطاع الصحي الحكومي في المملكة منذ زمن بعيد:
- التمويل المالي المستدام المطلوب توفيره لاستمرار تقديم خدمات صحية ملائمة.
- البنية الأساسية المساندة لتوفير الموارد البشرية المحلية المؤهلة خصوصا أن هناك تخصصات كثيرة في القطاع الصحي يوجد بها ندرة عالمية مثل أطباء المخ والأعصاب وأطباء الأورام والإشعاع.
التمويل المالي المستدام للقطاع الصحي لا يمكن الاعتماد عليه بصوره دائمة؛ نظرا للعوامل الاقتصادية المتغيرة والتي تمر بها معظم الدول الحديثة؛ لذلك فلابد من استحداث أنظمة أهليه تسهم في توفر المتطلبات المالية المطلوب توفيرها لتلبية أدنى حد – على الأقل – من الاحتياجات الصحية المطلوب توفيرها حسب مقاييس أنظمة الدولة للمواطنين والمواطنات والمقيمين في القطاع الصحي الحكومي والأهلي. إن الاستثمار بقوه في البنية الأساسية البشرية المساندة للقطاع الصحي يعتبر أفضل خيار استراتيجي تتبعه المملكة للعقود القادمة لوجود الاحتياج المستدام لهذه النوعية من الوظائف وندرتها، ومع الوقت ستساهم في الارتقاء في نوعيه ومقاييس الخدمات الصحية التي نستطيع تقديمها عامة في المملكة.
ومن ناحية أخرى، يرى د. مساعد المحيا أن المعرفة بالحقوق الصحية نتيجة تنوع وتعدد وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي موجودة وتنمو لكن العوائق الاجتماعية هي التي تمنع وصول الشخص ذكرا أو أنثى من الحصول على حقوقه.
ولذا لعل من المناسب العمل على أن تكون الرسائل المقدمة لهؤلاء مستوعبة البعد الاجتماعي ومتكيفة معه لا أن تصادمه، إذ هي ستصبح حينئذ رسائل شيطانية.
يضاف لذلك أن بعض هذا المنع يتم من قبل بعض الأطباء أو المؤسسة الطبية خوفا من مشكلات اجتماعية قد يتسبب بها عدم أخذ رأي الأخ أو الزوج أو ما قد ترتب على ذلك من تشويش يصل إليهم.. مثلا فإن النظام يقول أن من أعمارهم أكثر من ١٥ سنة، يجب أن يكون الموافق هو المريض رجل أو امرأة، ما عدا:
- المرأة المتزوجة والمتعلق حالتها بإجهاض الحمل، تعقيم، أو إنهاء الحمل، يجب أخذ موافقة الزوج خطيا.
- حالات الطوارئ، يعالج بدون موافقة من أحد.
- الأشخاص غير المؤهلين قانونيا لأي سبب، يجب موافقة المسؤول عنهم.
في كثير من الأحيان تجد الطبيب أو إدارة المستشفى تطلب الموافقات من أشخاص يفترض أنهم ليسوا أصحاب الشأن المباشر؛ والسبب هو البحث عن حل مبكر لمشكلة لم تنشأ بعد.
وتساءل أ.د. عبدالرحمن العناد: لماذا لازلنا نبحث عن أوامر من أجل العلاج في المستشفيات التخصصية؟ أو إلى متى سيستمر العمل بالأوامر؟
وعلق أ. مسفر الموسى بأن هذا هو السؤال الجوهري.. عن التمكين الصحي.. فلا نمانع قضايا المرأة.. ولكني الملاحظ أننا ركزنا النظر إلى هذه القضية من منظارها فقط.
القضية مهمة جدا.. في مدينة مثل الرياض لا يحصل المريض الغير منتمي للمؤسسة العسكرية على العلاج المجاني، وليس لدينا نظام تأمين مناسب.. وغالباً ما نعالج في مستشفيات خاصة بأعلى فواتير العلاج عالميا.. ثم نعود لمنازلنا نهاية المساء.. لنستمع لعبارة (العلاج المجاني).. عبر كافة وسائلنا الإعلامية.
في حين قالت أ. علياء البازعي: بخصوص التعليق على العلاج المجاني في مدينة الرياض…هناك مستشفيات أكثر بكثير من القطاع العسكري.. صحيح مزدحمة لكنها توفر علاج مجاني للجميع. ربما المواعيد بالأشهر لبعض الحالات.. لكن حتى مستشفيات القطاع العسكري مواعيدها بالأشهر.
هذا تعليق فقط على عدم توفر العلاج المجاني في مدينة مثل الرياض. لكن لا أعني أبدا أنه شيء جيد…التأمين الطبي يجب أن يتاح لجميع المستشفيات. وقتها سيخف الازدحام وتنتظم المواعيد…فالتوجه للخصخصة في القطاع الطبي أصبح حاجة ملحة.
وبدوره أوضح أ. مسفر الموسى أن المدينة الطبية والمستشفيات التخصصية والجامعية ليست مستشفيات عامة أو مركزية للمدينة.. هي تحتاج لأهلية العلاج لما يتجاوز الحالات التي يمكن علاجها في المستشفيات.
وقال د. حامد الشراري: حالة حقيقية عايشتها وسجلت تفاصيلها لأحد المرضى محالة لأحد مستشفيات الرياض من الشمال: ( الزيارة الأولى أخذ العينات والتحاليل وطلب منهم التبرع بالدم شبه الالزامي، الزيارة الثانية للأشعة، الزيارة الثالثة الطبيب يرغب في أخذ فحوصات أخرى، الزيارة الرابعة الطبيب لديه ظروف، الزيارة الخامسة وجد في المريض التهاب طفيف يجب معالجته في مستشفيات منطقة المريض وعند الانتهاء منه يتم الاتصال لأخذ موعد جديد….وهكذا حلقة قد تستمر أكثر من سنة لمعالجة مرض متوسط الخطورة (المرض: فتحة صغيرة في طبلة الأذن). هذه الحالة على مدى أكثر من سنة وما زالوا ينتظروا موعد آخر، وهي عملية لا تتجاوز ساعتين كما أبلغ والد المريض أحد الأطباء.. الحالات المشابهة كثيرة لمعاناة مرضى من خارج مدن المستشفيات المرجعية.
هذا يترتب عليه التالي:
- هدر مالي كبير بصرف ثلاث تذاكر (المريض ووالديه) في كل زيارة.
- أيضا الدولة تتكفل بتقديم مقابل مالي لهم للمعيشة والإسكان.
- خلل في التزامات الوالد والوالدة العائلية والوظيفية.
أين تكمن القضية في مثل هذه الحالة التي تتكرر باستمرار:
- هل هو خلل في الإدارة، والإشراف؟!
- أم، إهمال من الطاقم الطبي والفني والإداري؟!
- هل الخلل في الأنظمة والقوانين؟!
- أو جهل المريض بحقوقه، أو عدم وضوحها له إن وجدت؟!
- هل هناك جهة تتابع وتحاسب المقصر؟!
- لمن يشتكي مثل هذا المريض البسيط الذي أتى من قرية بعيدة ويجهل الأنظمة وحقوقه وينصفه لعلاجه وإنهاء معاناته؟!
- وهل التأمين الصحي سيعالج مثل هذه القضايا؟!!
- وهل التأمين الصحي في حال إقراره سيدخلنا في دهاليز المشاكل التي لا تنتهي كمثل ما يحدث لنا من قبل بعض شركات الاتصالات من سوء في تقديم الخدمة وضعف في جودتها وتأخر في معالجة الشكاوى والقضايا، أم ستكون هناك جهة تنظيمية ورقابية قوية تشرف على تطبيقه بكل عدل ومهنية وشفافية وصرامة…، نحن نتحدث عن شيء مرتبط بصحة الإنسان ليست خدمات من الممكن الاستغناء عنها؟!
وأشار د. علي الحارثي إلى أن صحة الإنسان واجب شرعي وإنساني ووطني، وإهماله إهدار لكرامة الإنسان وحقوقه المترتبة في الذمة، الرعاية الأولية في أدني درجاتها، بل في بعض المستشفيات والمستوصفات لا تصل الحد الأدنى، حتى في القطاع الخاص. التشخيص كثرت أخطاؤه، إجراءات المختبرات والأشعة حدث ولا حرج، فضلاً عن عدم معايرة الأجهزة الطبية الدورية للتأكد من أنها تعطي نتائج صحيحة، نظافة المستشفيات والمستوصفات وبالذات أماكن التنويم والعيادات أقل من أن توصف بمراكز طبية والمواعيد قاصمة ظهر البعير، والمريض الواعي لحقوقه لا يستطيع المطالبة والنقد للخوف الذي ترسب في الأذهان من السلطة رغم ثبوتها في الأنظمة والمواثيق، الاتكال على العنصر الأجنبي الذي خربناه بالهدايا والعطايا حتى يعتني بالمريض أكثر من غيره. والاستقبال الفج من كثير من رجال الاستقبال والممرضين والممرضات، والمباني لا تحتاج إلى تعليق. كل هذا رغم الصرف الذي يفوق أضعاف الواقع المرير. إنه موضوع معقد يحتاج إلى إدارة زلزالية وثورة توعوية تزيل غشاوة الخوف والاستكانة من ذهن المواطن. إذا حصل هذا فهناك بريق أمل للتمكين الصحي.
- آليات تحقيق التمكين الصحي في المملكة
أكدت أ. علياء البازعي على أنه يلزمنا وجود نظام تأمين طبي قوي، ومستشفيات غير حكومية ولا مجانية لوقف الهدر من جانب “هدر المواعيد والأدوية” ويقدم الخدمة والدواء لمن يحتاجه بالفعل.
بالمقابل من المهم أيضا التوسع في إيجاد جمعيات خيرية تساهم في تأمين العلاج المناسب لمن يحتاجه ولا يستطيع أن يدفع ثمنه سواء بالتأمين الطبي أو غيره.
وأشار م. أسامة كردي إلى أن أحد الوزراء الصحة السابقين قد تقدم بخطة محكمة لتوفير الخدمات الطبية للمواطنين بكافة درجاتها (الأولية والثانوية والتخصصية) ولكنه لم يتمكن من وضعها موضع التنفيذ لانتهاء عمله.. وأهم ما في هذه الخطة هي توفير التأمين الصحي للمواطنين عن طريق شركات التأمين وتشمل تخصيص المستشفيات العامة والتخصصية والمراكز الصحية وإصدار تنظيم للإحالة من كل درجة إلى الدرجة الأعلى.. كما تشمل الخطة قيام الحكومة بدفع الجزء من التكلفة الذي لا تغطيه شركات التأمين.. وقد قام الوزير بعرضها على مجلس الشورى ولكنه لم يقدمها رسميا.. مثل هذه الخطة يمكن أن تمكن كافة المواطنين من الحصول على الخدمات المطلوبة كما أنها توفر التمويل المطلوب لتطوير هذه الخدمات.
ومن جانبه يرى د. حامد الشراري ضرورة العمل على تقليص الزيارات للمستشفيات المرجعية؛ حيث أن هناك قضية تؤرق المرضى ومرافقيهم المحولين للمستشفيات المرجعية وتزيد من معاناتهم- وهي معاناة تبدأ بعد حصول المريض على أول زيارة للطبيب المعالج في بعض المستشفيات المرجعية، وهي سلسلة من الزيارات أو المواعيد التي قد تمتد لأكثر من سنة والتي من الممكن تقليص عددها للمريض خاصة للأمراض غير المستعصية، من خلال إعادة النظر في الآلية الإدارية للمواعيد المتبعة حاليا، مستفيدة من وسائل التقنية والخدمات الالكترونية والتطبيقات على الأجهزة الذكية، ليحقق التالي:
- التخفيف من معاناة المريض ومرافقيه وأهله من كثرة المواعيد والسفر.
- عادة مرافقي المريض والدي المريض وغيابهم بشكل متكرر قد يكون له تأثير سلبي على التزاماتهم الأسرية والوظيفية.
- صعوبة وجود حجوزات للطيران في الأوقات المتوافقة مع المواعيد خاصة من المناطق البعيدة.
- بعض المرضى بحاجة ماسة لفحص سريع وإعطاءه العلاج المناسب في الوقت المناسب، قبل أن يستفحل المرض وتصبح تكلفته أكبر مستقبلا.
وفي تقدير د. مساعد المحيا فإن الأهم في موضوع التمكين بمفهومه الشامل الإجابة على التساؤل: هل نحن نمتلك القدرة على استيعاب احتياجات المواطنين وبخاصة الذين ليس لديهم القدرة على التأمين؟
أليس من حق كل مواطن أن يجد بيئة طبية يعالج فيها هو وأبناؤه دون أن يتعرض لذل السؤال ومهانة الطلب؟
برنامج التحول الوطني قد يمضي في موضوع التأمين ويجعل الوزارة مستقبلا دورها رقابي وإشرافي لكن الحقيقة المهمة هو أن المستشفيات الحكومية غير قادرة على استيعاب الناس فكيف ستستوعبهم مؤسسات طبية خاصة هي أقل عددا واستيعابا.
واقترح د. عبد الله بن صالح الحمود أن تنشط وزارة الصحة إعلامياً لخدمة المواطن في تبيان الحقوق التي كفلها النظام للجميع، سواء رجل أو امرأة، وسواء في الخدمات العلاجية الشاملة، أو آليات التمكين في قبول أو رفض معالجة الإنسان لنفسه، إضافة إلى المسؤوليات التي حددها النظام لمسؤولي وزارة الصحة تجاه المواطنين، وأن يتأتى ذلك عبر قنوات إعلامية متعددة الخدمات (مرئية – مسموعة – مقروءة).
ومسألة أخرى مهمة وهو وجوب عقد دورات تدريبية قصيرة المدى للممارسين الصحيين بكافة تخصصاتهم لتزويدهم بمعلومات شاملة حول الأنشطة والضوابط المرعية لمسألة (التمكين) الصحي والتأكيد عليهم أن الاجتهادات الشخصية والعواطف لا تعني سلب حقوق الآخر من حقوقه التي كفلها له الدين والقانون.
وفي الختام أوضحت أ.د. سامية العمودي أن موضوع التمكين والحقوق الصحية أثار مجموعة من القضايا المتشابكة حول أحقية العلاج، والحق في رعاية صحية ذات جودة عالية، وحقوق المرضى في سهولة الوصول للخدمات، وخاصة من هم في مناطق بعيدة وحقهم في الحصول على الرعاية الأولية، وكذا توفر العلاج في المراكز المتخصصة. فهموم الصحة كبيرة عندنا، نحاول في التمكين على الأقل حلحلتها وتبسيطها ليصبح متلقي الرعاية أكثر وعياً لما هو حق له بناء على النظام وحقه في توفيرها، لا يمكن حل التراكمات بسهولة لكن البداية بنشر الوعي بها بين متلقي الرعاية وبين صانعي القرار.
المشاركون في مناقشات هذا التقرير:
( حسب الحروف الأبجدية)
- د. إبراهيم إسماعيل عبده (مُعِدّ التقرير)
- د. إبراهيم البعيز
- د. أروى أخضر
- أ. أسامة كردي
- السفير أ. أسامة نقلي
- د. الجازي الشبيكي
- د. حامد الشراري
- م. حسام بحيري
- د. حسين الحكمي
- د. حميد المزروع
- د. خالد الرديعان (رئيس لجنة التقرير الشهري)
- د. خالد بن دهيش
- م. خالد العثمان
- د. زياد الدريس
- م. سالم المري
- أ.د. سامية العمودي
- اللواء د. سعد الشهراني
- أ. سمير خميس
- د. عائشة حجازي
- أ.د. عبدالرحمن العناد
- د. عبدالسلام الوايل
- د. عبداللطيف العوين
- أ. عبدالله آل حامد
- د. عبد الله بن صالح الحمود (رئيس اللجنة الإشرافية على منتدى أسبار)
- أ. عبدالله الضويحي
- أ. علياء البازعي
- اللواء د. علي الحارثي
- د. علي الحكمي
- أ. فاطمة الشريف
- أ. فايزة الحربي
- أ.د. فردوس الصالح
- د. فهد الحارثي
- أ. ليلى الشهراني
- د. محمد الصبان
- د. محمد القويز
- د. مساعد المحيا
- أ. مسفر الموسى
- د. منصور المطيري
- أ. ندى القنيبط
- د.م. نصر الصحاف
- أ. هادي العلياني
- أ. هيا السهلي
- د. يحيى الحارثي
تحميل المرفقات: التقرير الشهري 13