التقرير الشهري الخامس والعشرون

 إبريل 2017م

ناقش أعضاء ملتقى أسبار خلال شهر إبريل 2017م العديد من الموضوعات المهمة والتي تم طرحها للحوار على مدار الشهر، وشملت القضايا التالية:

  • التعصب الرياضي
  • غسل الأموال
  • ظاهرة المتاجرة بالدماء – المبالغة بالديات والصلح
  • حدود الرؤية التوافقية في خطاب المثقفين السعوديين..  نظرة مجملة في دعوى الإصلاح
  • رؤية 2030: تحول النظم والإدارة أم تحول المجتمع

محتويات التقرير

المحور الأول: التعصب الرياضي

  • الورقة الرئيسة: د. علي الحكمي
  • التعقيب الأول: أ. عبدالله الضويحي
  • التعقيب الثاني: د. علي الحارثي
  • المداخلات حول القضية:
  • التعصب الرياضي وإشكالاته المتضمنة
  • نحو حلول عملية لمواجهة ظاهرة التعصب الرياضي

المحور الثاني: غسل الأموال

  • الورقة الرئيسة: أ. فضل البوعينين
  • التعقيب الأول: د. ناصر القعود
  • التعقيب الثاني: د. ياسر البلوي
  • المداخلات حول القضية:
  • غسل الأموال: الواقع والإشكالات ذات العلاقة
  • الآثار الاقتصادية والاجتماعية لغسل الأموال
  • التوصيات المقترحة للحد من غسل الأموال

المحور الثالث: ظاهرة المتاجرة بالدماء – المبالغة بالديات والصلح

  • الورقة الرئيسة: د. عبدالله العساف
  • التعقيب الأول: د. حسين الحكمي
  • التعقيب الثاني: أ.د فوزية البكر
  • المداخلات حول القضية:
  • واقع وأبعاد ظاهرة المبالغة بالديات
  • الحلول المقترحة في ضوء الإشكالات الراهنة

المحور الرابع: حدود الرؤية التوافقية في خطاب المثقفين السعوديين

  نظرة مجملة في دعوى الإصلاح

  • الورقة الرئيسة: د. منصور المطيري
  • التعقيب الأول: د. إبراهيم البعيز
  • التعقيب الثاني: د. عبدالسلام الوايل
  • المداخلات حول القضية:
  • إشكالات حول .. حدود الرؤية التوافقية في خطاب المثقفين السعوديين .
  • رؤية استشرافية لمستقبل الخطاب عند المثقفين السعوديين  .

المحور الخامس: رؤية 2030: تحول النظم والإدارة أم تحول المجتمع

  • الورقة الرئيسة: د. مشاري النعيم
  • التعقيب الأول: م. أسامة كردي
  • التعقيب الثاني: م. خالد العثمان
  • المداخلات حول القضية:
  • ملامح من واقع الرؤية وإشكالات التطبيق
  • نحو تعظيم المردود المتوقع من رؤية 2030

المحور الأول

التعصُّب الرياضي

الورقة الرئيسة: د. علي الحكمي.

التعصُّب هو اعتقاد منحاز بصورة غير منطقية لفكرة أو موضوع أو شيء ما، يصاحبه حماس زائد، وينتج عنه سلوك قد يخرج أحيانًا عن تحكم الشخص. وقد يأخذ التعصب أشكالًا عديدة، منها: التعصب الديني، والقبلي، والعرقي، أو الرياضي، أو غيرها من الأشكال التي يجمعها الجانبان، اللامنطقية والحدية في الأحكام من جهة، والحماس المفرط والانفعالات الجامحة من جهة أخرى.

والتعصب الرياضي هو أحد أشكال التعصب التي عُرفت منذ بدأت المجتمعات في ممارسة الرياضة التنافسية. ففي عهد الرومان تشير بعض المصادر إلى أن التعصُّب كان يدفع لرشوة المصارعين المتنافسين؛ لأن الفوز في المصارعة كان دلالة على الثراء والمنزلة الاجتماعية الرفيعة، وكان الفائزون يُستقبلون استقبالَ الأبطال والفاتحين. وعند العرب أدى اتهام إحدى القبائل لأخرى بالغش في سباق للخيل إلى نشوب حرب بينهما استمرت 40 عامًا، سُمِّيت باسم الفرسين المتسابقين: داحس والغبراء. وفي العصر الحاضر، أدى التعصب إلى أحداث دامية سقط خلالها 340 قتيلًا خلال مباراة كرة القدم بين فريق روسي وآخر هولندي (عام 1982)،  وفي عام 1964 سقط 318 قتيلا خلال أعمال شغب بالعاصمة البيروفية ليما؛ بسبب إلغاء هدف في الدقائق الأخيرة من المباراة ضد الأرجنتين.

اهتم علماء النفس بدراسة ظاهرة التعصب الرياضي، وأسبابها، ففي كتابه( الحياة السرية لمشجعي الرياضة) وجد Eric Simons أنَّ مشجعي الفرق الرياضية يعتبرون فرقهم امتدادًا لشخصياتهم، وبالتالي فهم يعبرون عن أنفسهم وفرقهم ككيان واحد “نحن”. ولذلك، فإن تشجيع فريق معين يشبع عند الإنسان الحاجة للانتماء، والهوية، وتقدير الذات. وبالتالي فإن انفعالات الجمهور، وسلوكياتهم، قد تكون انعكاسًا لانفعالات لاعبي أو إداريي أو مشجعي فريقهم. كما وجدت إحدى الدراسات أن مشجعي فريق ما ينزعون لمساعدة المصابين في حوادث من مشجعي فرقهم، أكثر من نزعتهم لمساعدة مصاب من ناد آخر.  ومن ناحية أخرى، فإن حالات الفخر بالنادي تتجلى بعد الفوز في طريقة الحديث عن النادي، أو لِبْس شعاره، أو حمل رمز يدل عليه.

إنَّ حُبَّ فريق معين، وتشجيعه، والدفاع عنه، أمر طبيعي، إلا إذا تجاوز الحد المقبول قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بالذات، أو الآخرين، أو الممتلكات العامة، أو إلى الإخلال بالأمن، أو إطلاق عبارات عنصرية، أو تدعو للتفرقة أو تضر بالمصالح الوطنية، كتقسيم المجتمع والتأثير على وحدته وتماسكه.  والحقيقة، أن المتابع لرياضتنا السعودية (وخاصة كرة القدم) يجد أن هذه المخاطر تقع بالفعل، فالعنف في الملاعب والاشتباكات بين اللاعبين، أو بين الجماهير، والاعتداء على الحكام، وقذف الجمهور لمواد للملعب، وانتقال ذلك للعنف خارج الملعب، أصبح شيئًا متكررًا. بل إن الأمر تجاوز ذلك لتصرفات تقسِّم المجتمع، فمشجعو بعض الأندية يصفون مشجعين آخرين بأوصاف عنصرية تنزع عنهم مواطنتهم، وآخرون يطلقون أوصافًا لا أخلاقية تصل للقذف، وغيرهم يطلق أوصافًا طائفية أو مليئة بالسباب والعبارات غير اللائقة.

أسباب التعصب الرياضي:

هناك أسباب عديدة قد تسهم في تغذية التعصب الرياضي في مجتمعنا السعودي، من أهمها:

1-  تصريحات بعض إداري الأندية ولاعبيها المستفزة للأندية الأخرى ومشجعيها.  فالتنافس ينقل في أحيان كثيرة إلى خارج الملعب، ويغذى بعبارات وتصرفات غير مسؤولة. وأصبح الأطفال يقلدون حركاتهم وعباراتهم، ويكبرون على ذلك.

2-  عدم التزام بعض التربويين في المدارس بالحياد الرياضي مع طلابهم، وتجاوز بعضهم لإذكاء التعصُّب الرياضي بين الطلاب بأساليب مباشرة أو غير مباشرة،  وغياب البرامج التربوية للوقاية من التعصب.

3-  الإعلام الرياضي غير المنضبط، والذي انحدر بعض مقدميه والمشاركين فيه إلى مستويات غير مسبوقة، فبعضهم يطلق شتائم وأوصافًا غير لائقة على مشجعي أندية غير فريقه المفضل، بل إن الكثير من الإعلاميين لا يتحرجون أن يخرجوا كمشجعين بدون التزام بأصول مهنة الإعلام وأخلاقياتها.  كما أن بعض البرامج الإعلامية تذكي التعصب؛ لتزيد المتابعين، وتعظم مداخيلها المالية.

4-  تساهل اتحاد الكرة وعدم صرامته في العقوبات التي يفرضها على المخالفين من اللاعبين والإداريين والجماهير، وخاصة فيما يتعلق بالإساءة للأندية الأخرى وجماهيرها ولاعبيها.

5-   عدم كفاية إجراءات مراقبة سلوك الجماهير الرياضية في المدرجات، والاعتماد على رجال الأمن فقط.

كيف نستطيع تقليل التعصب الرياضي؟

إنَّ التعصب الرياضي وما ينتج عنه من أضرار بالغة تتجاوز الملاعب الرياضية، لتؤثر على التماسك الاجتماعي، وتهدد قطاعًا اقتصاديًّا واعدًا، يمكن أن يوفر فرص عمل للكثير من المواطنين، يتطلب تناولًا استراتيجيًا مستدامًا تتضامن جميع الجهات المعنية لدعمه وتنفيذه، بحيث يشمل جانبي الوقاية والعلاج. ومن التدخلات والإجراءات التي يمكن القيام بها ما يأتي:

1-  وضع أنظمة صارمة تشمل كل رياضي أو مسؤول في نادي، أو مشجع، أو إعلامي يسيء للآخرين، أو يستفزهم، أو تصدر منه عبارات عنصرية أو مشينة.

2-  تطوير آليات المحافظة على أمن الملاعب، وتوظيف أعداد أكبر من مراقبي الجمهور، والاستعانة بالتقنية للتعرُّف على مثيري الشغب في الملاعب.

3-  مثل أي شكل من أشكال التعصب الأخرى، فالتعامل مع التعصب الرياضي يتطلب بناء الفرد ذي الفكر الناقد، والذي يتمتع بضبط النفس واحترام الآخرين، وتقبُّل الاختلاف، وهذه الجوانب يمكن أن تعمل عليها المدرسة بتركيز، والأسرة كذلك.

4-   الإدارة الحكيمة للمسابقات الرياضية، والبعد عن القرارات المتحيزة، وتقليل أخطاء الحُكَّام قدر الإمكان.

5-  تعزيز العلاقات بين الأندية وجماهيرها، وعمل هيئة الرياضة على تدريب الأندية للوسائل المناسبة للتعامل مع التعصب الرياضي وجميع أشكال التعصب الأخرى.

6-  تأسيس جمعية لمكافحة التعصب الرياضي، إحدى أهم مهامها رصد المخالفات، والتواصل مع الجهات المعنية حولها، وتنفيذ برامج توعوية شاملة.

وفي الختام، أذكِّر بمقولة: إن الرياضة قد “لا تبني الشخصية، بل بالتأكيد هي تظهرها على حقيقتها”، وإن ما نراه من تعصب رياضي هو انعكاس لمشكلات ثقافية وفكرية أكثر عمقًا، تتسم بضيق الأفق، وأحادية التفكير وتطرُّفه، وغياب تقبُّل الآخرين واحترامهم، وتَمَثُل الأدب مع المخالف، وأننا لن ننجح في التعامل مع التعصب الرياضي إلا إذا اهتممنا بالتربية، وتحقيق الانضباط في المجتمع، ونشر قيم التسامح والاحترام لدى الجميع.

التعقيب الأول: أ. عبد الله الضويحي.

الواقع أن “التعصب الرياضي” أصبح قضية من لا قضية له، فالكل يناقشه ويطرحه في الجامعات والأندية والملتقيات الصيفية والاجتماعية، وحتى النسائية؛ مما يؤكد الشعور بأهميته. والمشكلة ليست في تناوله ولكن في كيفية تناوله ومناقشته.

 والحقيقة أن التعصب عمومًا ظهر قبل نشأة الخليقة، بل ربما كان وجود الخلق سببًا في ولادة التعصب متمثلًا ذلك في رفض إبليس السجود لآدم، والحوار الذي دار بين رب العزة والجلال- تقدست ذاته- وبين إبليس في السياق ذاته :﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة:34]،  ثم قصة ابني آدم قابيل وهابيل، ثم نوح وابنه .. إلخ.

لكننا قبل أن ندخل في موضوع قضيتنا ” التعصب الرياضي ” لا بد من التوقف عند تعريف التعصب باختصار شديد، وهو ما لم يشر إليه د. علي.

ما هو التعصب … ؟!

جاء في لسان العرب “لابن منظور” المجلد الثاني، ص 792 ما يلي : –

–         التعصب أصلها عصب.

–    التعصب من العصبة، والعصبة : أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته، والتآلب معهم على مَن يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين.

هذا هو المعنى اللغوي لكلمة “التعصب”، ودلالة الكلمة لا تعني دومًا توضيح المفهوم، لكنها تتطور من مضمونها المعجمي إلى مضمون ثقافي.

ومن هنا فإن التعصب بمفهومه العام يمكن أن نعتبره – من وجهة نظري – في أبسط معانيه أنه : ” الإيمان القوي بمبدأ أو فكرة معينة أو رأي معين، والدفاع عنه، ورفض ما سواه “. والتعصب الرياضي هو جزء من التعصب، وبالتالي يمكن إسقاط ذلك التعريف عليه.

وعلى هذا الأساس :  فإن المتعصب لناد أو فريق معين يؤمن بذلك بدون نقاش، ويستميت في الدفاع عنه، ويبحث عن كل ما يعزز هذا الاتجاه لديه، والتشكيك في صحة وصدق ما يتعارض معه، بل إنه يتحاشى التعرض لما يشكك في اتجاهه، ويسعى لتبرير مواقفه وآرائه، أو يعبر عنها بطرق وأساليب مختلفة، يرى أنها صحيحة ومقنعة من خلال قناعته الذاتية بها، وليس بالضرورة أن تكون هذه الطرق والأساليب منطقية.

الدفاع والتعبير:

هناك عمليات عقلية ثلاث يستخدمها المتعصب للدفاع عما في نفسيته، وهي سلسلة فكرية مترابطة يقوم بها لحماية مبادئه.

التعرض الانتقائي:

عملية دفاعية لتعزيز الاتجاهات القائمة لدى الشخص وحمايتها من التغيير.

فالمتعصب لناد لا يقرأ إلا المواضيع والمقالات التي يرى أنها تعزز هذا الاتجاه عنده، وأيضًا للكتاب الذين يرى أنهم يشبعون رغباته هذه، ويتحاشى التي تشكك في ناديه، وتنال منه.

 الفهم (الاستيعاب) الانتقائي:

وهو أن يفهم الشخص الموضوع أو الرسالة بالطريقة التي تلائم أفكاره واتجاهاته. فلو قرأ شخصان – يختلفان في الميول- موضوعًا واحدًا، فإن كلًّا منهما سيفهمه بطريقة تختلف عن الآخر.

التذكر الانتقائي:

وهو تذكُّر الحقائق بطريقة انتقائية، فالمتعصب يتذكر ما يريد وما يتوافق مع اتجاهاته، وينسى ما يتعارض معها.

 طرق التعبير:

 أما الطرق التي يعبر بها المتعصب عما في نفسه، فإن أهمها:

  • التبرير: وهي تعليل الفعل الذي يصدر عنه بأسباب تبدو معقولة في نظر الآخرين مع أن الحقيقة عكس ذلك.
  • الإبدال: الاجتهاد في الحصول على رغبة ما بدلًا من رغبة أخرى فشل في الحصول عليها قبل ذلك، مثل: إنهاء عقد المدرب. فالمقصود تحويل سخط الجمهور على الفريق في حالة خسارته إلى سخط على المدرب أو الفريق الآخر.
  •  التعويض: تعويض المتعصب نفسه عن نقص يشعر به، فهو يسعى إلى تحقيق ذاته من خلال القيام بأعمال معينة، مثل: الفوضى، والشغب الذي يحدث عند الخسارة.
  •  الانسلال أو الإسقاط: تبرئة النفس من أعمال صدرت عنها ونسبتها إلى الغير، مثل ترويج إشاعات لا أساس لها من الصحة، أو اتهام الحكم !

ومما سبق يتبين أن من السهولة التعامل مع المتعصب لسهولة توقع ما يريد، لكن من الصعب توصيل رسالة معينة إليه؛ لأنه يعيش وسط نسق مظلم يحجب عنه رؤية المفتوح.

التعصب والشغب:

يخطئ كثيرون عندما يخلطون بين مفهومي “التعصب” و”الشغب والعنف” في الميادين الرياضية، فالشغب ليس تعصبًا ولكنه ناتج عنه، وهنا تكمن خطورة التعصب. وقد أشار د. علي لبعض هذه الحوادث، ومنها حرب داحس والغبراء التي أرى أنها أول وأطول حرب في التاريخ؛ بسبب الرياضة، وقد ذكرت ذلك في محاضرة لي في قطر قبل عشر سنوات، وطالبت بتسجيلها فيما تشير المصادر إلى أن أول حرب هي حرب الـ 100 يوم التي وقعت بين هندوراس والسلفادور 1969م في تصفيات أمريكا الجنوبية المؤهلة لكأس العالم.

عربيًًّا:

لم يخل العالم العربي من حوادث شغب لم يتطرق لها د. علي. فأول حادثة شغب كانت في الكرة الطائرة في الدورة العربية ( بيروت 1957م)، أما أخطرها وأكثرها دموية:

–    في مباراة الفيصلي والوحدات ( الدوري الأردني 2010 )، وراح ضحيتها أكثر من  200 مشجع و30 من رجال الأمن.

–    مباريات مصر والجزائر الذهاب والإياب والفاصلة التأهيلية لمونديال 2010م، التي وضعت إحدى الصحف المصرية عنوانًًا لها (معركة 14 نوفمبر)، وهي امتداد لما حدث بينهما 2006. وقد تجاوز الأمر الميدان الرياضي إلى الجهات الرسمية والسياسية.

–    مباراة الأهلي والمصري ( الدوري المصري ) في بور سعيد ( 2012م )، وذهب ضحيتها 74 قتيلًًا، واستُخدمت فيها الأسلحة البيضاء في المدرجات.

محليًّا:

والتي أشار لها د. علي لكنني شخصيًا لا أرى أنها وصلت لمفهوم الظاهرة، فمازلنا بخير قياسًا بغيرنا، لكن هذا لا يعني عدم التدخل ومعالجة الأمر حتى لا يصل لما هو أخطر.

لماذا يتعصب الإنسان ؟!

يرى عالم النفس العربي د. مصطفى زيور: “أنَّ التعصب ظاهرة اجتماعية لها بواعثها النفسية”، وعليه فالإنسان يتعصب لمبدأ أو ناد بهدف المشاركة الاجتماعية، فهو نوع من التعبير عن الذات.

والتعصب يساعد على تنمية الثقافة الرياضية لدى الشخص، والتعبير عن شخصيته، كالدفاع عن الذات، والتعبير عن المعرفة من خلال تباهيه بأنه يعرف أشياء معينة لتوضيح فهمه في مجال معين. و”المتعصب” لا يكون متعصبًا دائمًا، لكن التعصب يبرز عند إثارته.

وغالبًا ما يظهر التعصب عند المجموع في موقع جغرافي واحد أكثر منه عند الفرد، خصوصًا في المباريات سواء في المدرجات أو في الطريق من وإلى الملعب أيًا كانت النتيجة سلبية أو إيجابية، فهو هنا يتصرف وفق المجموع، وهو ما يُسمَّى بـ ( رأي الجمهرة)، أو ( ثقافة القطيع ).

والعلاقة بين العقلانية والتعصب علاقة عكسية، فكلما ابتعد الإنسان عن العقلانية اقترب من التعصب، والعكس صحيح. وعلى هذا الأساس كلما تقدم الإنسان في العمر وكان أكثر نضجًًا قلَّ التعصب عنده.

التعصب والوحدة الوطنية:

في مجتمع كالمجتمع السعودي له تركيبة معينة، ويمثل نسيج الأسرة بالنسبة له الأساس في تكوينه- يعتبر التعصب – خاصة الرياضي- واحدًا من أخطر مهددات هذا النسيج.

وقد أكد أ. خالد الدوس في دراسة حصل بموجبها على الماجستير من جامعة الملك سعود في “الإعلام الرياضي وعلاقته بالتعصب الرياضي”: (أن للتعصب الرياضي آثارًا اجتماعية وأمنية واقتصادية ونفسية سلبية، وأنه يعيق البناء الاجتماعي ومكوناته من أداء وظائفه الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية، مشيرًا إلى أن التعصب الرياضي يسهم في إنتاج أنماط من السلوك الشاذ، والعلاقات غير السوية، وزَرْع بذور الكراهية والبغضاء بين أفراد المجتمع).

وقد لاحظنا كثيرًا من حالات الطلاق بين الزوجين، أو الخلافات الأسرية بين الأبناء بسبب التعصب. والتفكك الأسري وأثره يمتد إلى المجتمع، ومن ثَمَّ إلى الوطن. خاصة إذا ما أدركنا أن ما يقارب من 70% من المجتمع السعودي ” شباب “، وأن 70% منهم يتابعون الرياضة؛ ما يعني أن 50% من المجتمع السعودي يتابعون الرياضة.

لقد مرت الكرة السعودية بالعديد من الإصلاحات والتطورات أسهمت في تخفيف حدة التعصب، مثل: إلغاء بطولة منتخبات المناطق، وتعميم الدوري ليصبح على مستوى المملكة .. هذا على المستوى التنظيمي، لكننا نحتاج لمعالجات أخرى على مستوى الأفراد وغير ذلك.

وإذا ما أدركنا أن الفكر يمثل مخزون الذاكرة من الثقافات والقيم والمبادئ، فلا بد من صيانة دائمة للـ (وعاء) الذي يختزن هذا الفكر، وتنظيفه من الشوائب.

الحلول:

طرح د. علي الحكمي عددًا من الحلول، أتفق معه فيها خاصة فيما يتعلق بالمدرسة والتربية، وأنها الأساس، وأهمية مراقبة الملاعب، ومعاقبة المتسبب نفسه- وليس النادي كما تنص اللوائح- فـ ( من أمِن العقوبة أساء الأدب ). لكنني لا أعول كثيرًا على الإعلام، فهو (ميكيافلي)، والغاية لديه تبرر الوسيلة، وفي صراع دائم مع كل الأطياف التنموية ( الأمن، والصحة، والتعليم … إلخ )

تبقى نقطة مهمة:

أن التعصب ليس شرًّا كله، فهناك تعصب محمود؛ كالتعصب للدين، والوطن، والنادي والدفاع، فهو مدعاة لزيادة ثقافة الفرد، لكن المهم ألا يتجاوز ذلك إلى الآخر وحريته، فيصبح منبوذًًا ومهددًا لكيان الأسرة، ووحدة الوطن.

التعقيب الثاني: د. علي الحارثي.

موضوع التعصب الرياضي ليس بجديد، وفي الآونة الأخيرة بدأت تظهر مشكلاته الاجتماعية مع تنامي الاتجاهات والميول الرياضية، حتى أصبحت في نظر الكثيرين من أهم القضايا المؤرقة في الوسط الشبابي. ما نشاهده يعبر عن إشكال مبالغ فيه من الولاء والانتماء بمشاعر التفضيل، أو عدم التفضيل لجماعةٍ أو مؤسسةٍ أو لنادٍ أو للاعب، يصل إلى سلوكيات تتنافى مع الوطنية والقيم والأخلاق الإنسانية، وحتى الدين. ظاهرته السلبية، أنَّ فيه مرض الكراهية العمياء للمنافس؛ كونه سلوكًا يتغلب فيه الانفعال على العقل، فتعمى البصيرة عن إدراك الحقيقة الجلية. البعض أشار إليه بأنه كارثةٌ جماهيرية تهدد مستقبل الكرة السعودية، وخفوت التنافس الشريف المحلي والعالمي، وآخرون وضعوه في خانة إرهاب الملاعب، وخوفهم أن يتطور الأمر إلى تكوين مجموعات خاصة هنا وهناك تقوم بتدمير وتحطيم الممتلكات العامة والخاصة، والاعتداء على الأفراد ورجال الأمن؛ لوصولهم إلى درجةٍ عاليةٍ من التعصب . صحيح أنه لم يصل في المملكة إلى الخطورة المتناهية التي من المستحيل السيطرة عليها، ولكنه أصبح ظاهرًا بين المشجعين بقوه من خلال إطلاق ألفاظ وهتافات، وشتم بذيء للأندية المنافسة واللاعبين والحكام والمدربين والإداريين والإعلاميين، وحتى الشتم للأسر والمدن والمناطق والعرقيات والطوائف التي ينتمي لها كل فريق؛ مما يؤجج العنصرية والعرقية والجهوية والطائفية، التي إن تُرك لها المجال ستنخر نسيج المجتمع وأمنه ومنجزاته والولاء للوطن. ومن إفرازاته أنه قد وصل بمشاكله الاجتماعية والجنائية إلى أفراد البيت، والمدرسة، والمتجر، والدائرة، والشركة، وغيرها .

كثير من الباحثين والإعلاميين المحايدين وأصحاب الرأي أرجعوا أسبابه إلى عوامل عدة، أبرزها:-

1-   جماهير الفريق المنافس بالإساءة لفريقهم .

2-   صراعات رؤساء وإداريي ولاعبي ومدربي الأندية مع بعضهم البعض؛ مما يجعل الجماهير تقلدهم .

3-   وسائل الإعلام المختلفة والإعلاميين المتعصبين، وتعدد برامج الرياضة المشحونة بالتعصب المؤثرة في الجماهير؛ لاستقطاب أكبر عدد من المشاهدين والمتابعين.

4-  مواقع التواصل الاجتماعي وخاصةً (تويتر)؛ لعدم متابعة مثيري المشاكل والتعصب فيها على حسابات أصحاب هذه المواقع من المسؤولين.

5-  تهاون المنظمين للمباريات والمسؤولين عن الرياضة والملاعب الرياضية في أداء واجباتهم ومسؤولياتهم، والتخلي ببساطة عن المهمة ليلقوا بها على الغير.

6-  عدم تنفيذ الأنظمة واللوائح لقضايا التعصب وتطبيقها التطبيق الدقيق والصارم على مثيري التعصب والشغب أيًّا كان، وقد يكون عدم وجود أنظمة مستقلًة تعالج مثل هذه الحالات.

7-  أتفق مع د. على في أن التعصب الرياضي هو انعكاس لمشكلات ثقافية وفكرية أكثر عمقًا، وأضيف لذلك المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي في مجملها تتسم بضيق الأفق وأحادية التفكير وتطرُّفه، وغياب تقبل الآخرين واحترامهم.

إن ذلك يحتاج إلى استراتيجية فاعلة تعيد بوصلة الروح الرياضية إلى مهدها السامي الشريف من خلال قيم التسامح والاحترام التي يجب أن تسود في المجتمع؛ لتحقيق الانضباط في السلوك .

نعم، لقد ارتفع مؤشر انفلات التعصب الرياضي وتأثيره السلبي على القيم والأخلاق والسلوك والدين إلى حد تدخل السلطة العليا، وذلك بصدور الأمر السامي الحديث في ٨/ ٦/ ١٤٣٨هـ، القاضي بقيام الأجهزة الحكومية والأهلية ممثلة في وزارة الثقافة والإعلام، والهيئة العامة والإعلام المرئي والمسموع والمقروء، ووزارة التعليم، ووزارة العدل، ووزارة الداخلية، وهيئة الرياضة والشباب، وغيرها، بالتأكيد على منسوبيها بتجنُّب كل ما يؤدي إلى التعصب الرياضي، أو نشر الإساءات في وسائل الإعلام المختلفة، والابتعاد عن كل ما يؤدي إلى ذلك، وفي اعتقادي أن ذلك يتفق مع كثير من توصيات الدراسات والأبحاث كاستراتيجية طويلة المدى للتصدي لهذه الظاهرة تتمحور في الآتي :-

1-  تسخير كل وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وبالأخص (تويتر) لمصلحة الابتعاد عن التعصب السلبي، وتجسيد التعصب الإيجابي المتوازن ضد الأشخاص والمؤسسات والطوائف والعرقيات، ليس فقط في التعصب الرياضي، وإنما في كل أنواع وأشكال التعصب .

2-  اشتراك جميع شرائح المجتمع في مسؤولية نشر ثقافة التسامح والقيم والأخلاق الإنسانية، وانضباط السلوك، مشاركةً مع مؤسسات الدولة والمؤسسات الأهلية.

3-   التقليل من برامج وساعات البث الرياضي مع رقابةٍ صارمة على ما يُبث.

4-  ومع أنني لا أميل إلى التقييد المبالغ فيه الذي قد يلغي حرٍية الرأي وحقوق الإنسان، إلا أنه لابد من أنظمة وقوانين تستند إليها الجهات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني لمحاربة التعصب إعلاميًًّا واجتماعيًّا وعقابًا عدليًا واقتصاديًّا.

5-    العمل على توجيه المبالغة الانفعالية الخارجة عن المألوف والنظام والقيم والأخلاق والسلوك غير المنضبط إلى انفعالية إيجابية منضبطة؛ لتفريغ الشحنة الانفعالية،  فالرياضة بدايةً ونهاية (( أخلاق)).

المداخلات حول القضية:

  • التعصب الرياضي وإشكالاته المتضمنة:

أشارت د. نوف الغامدي إلى أن التعصب الرياضي والتعلق المفرط بالأندية الرياضية وتشجيعها لم يقتصر على الكبار، بل إنه أصبح عدوى أصابت حتى الأطفال، بعدما دخل التعصب الرياضي إلى المنازل، وأصبحت الأسرة تستأنس ببكاء أطفالها عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي نشرت عبرها صورًا ولقطات لأطفالها وهم يصرخون بشعارات أنديتهم، ويتعصبون جدًّا في الدفاع عنها، ويبكون بحرقة عند الخسارة، ويبالغون في التباهي عند الانتصار، على الرغم من أن الرياضة وُجِدَت للترفيه والتسلية، بخلاف التعصب الذي يعمل على زرع الخلاف، ويزعزع اللُّحمة، ويقضي على تناغم النسيج الاجتماعي.

ففي أي بيئة تربى ونشأ هذا الطفل، تلك البيئة التي غذت التعصب والحقد والكراهية بقلبه؟ وكيف وصل الحال بالآباء لتعويد أبنائهم على معاملة الآخر ونبذه، والتفاعل سلبيًا معه؟ وكيف سمحنا لأنفسنا بتشويه براءة هذا الطفل الصغير؟ سمعنا عمَّن يُطلق زوجته لاختلاف التوجهات الرياضية، والطفل الذي يرفض قراءة سورة النصر، الذي يعده معاديًا لناديه، وغيرها من القصص السلبية.

وحقيقة، لنستطيع التحكم بهذه الظاهرة علينا أولًا أن نُفسِّر هذا الاتجاه العصبي، والذي يختلف حسب الشخصيات:

  • أولًا: هناك مكون ثلاثي: المكون المعرفي (الأفكار النمطية)، والمكون الوجداني (مشاعر الكراهية)، المكون السلبي (المسافة الاجتماعية)؛ وهذه المكونات جميعها تؤدي إلى الاتجاه العصبي، والذي يؤدي إلى سلوك الكراهية.
  • ثانيًا: المكون الثنائي: الأفكار النمطية السالبة تؤدي إلى المشاعر السالبة، وبالتالي الاتجاه العصبي، وأخيرًا تؤدي إلى النوايا السلوكية.
  • ثالثا: النموذج الأحادي: المعتقدات الجامدة تؤدي إلى الاتجاه العصبي، والذي يؤدي إلى النوايا السلوكية، وبالتالي السلوك التدميري.

والأنماط السابقة تتأثر بالشباب العاطلين وتأثير الهوية الاجتماعية، ومكانته في المجتمع، وبالتالي شعورهم بعدم العدالة الاجتماعية، وانخفاض التقدير الاجتماعي، ومن ثَمَّ يتعصبون لفرق وفئات معينة، وبالتالي التعصب في وجه الرياضي قد يصبح وجهًا آخر لوجوه أخرى.

ويرى د. حاتم المرزوقي أن التعصب الرياضي في حد ذاته ليس هو المشكلة. أن يتعصب الإنسان لأمر ما، فهو أن يميل لهذا الأمر بمناصرته والوقوف بجانبه.. المشكلة هي في الغلو في التعصب.. كأن يكون التعصب أعمى مثلا، فيكون الميل أو السلوك أو التصرف من غير اقتناع، أو أن يكون إخلاصًا مفرطًا يُفضي معه التعصب إلى سلوك إجرامي يتخطى به على حق الغير. ومن مظاهره: حمل الكراهية تجاه الفريق الآخر، ومناصريه والاعتداء عليهم بالقول والفعل.. هنا يتحول التعصب إلى ظاهرة اجتماعية تعالجها التوعية بالإرشاد، وتعالجها الأنظمة بترتيب العقوبات الرادعة لها.

إنَّ الغلو في التعصب موجود كذلك في دول تتمتع بحريات على مستويات متعددة لا ينقذ الفرضية من نقدها، حيث إن العكس غير صحيح، فكثير من الدول التي تكون الحريات فيها هامشية تكاد لا تلحظ لدى شعوبها مظاهر الغلو في التعصب، بل قد تجدهم  أكثر إدراكًا للروح الرياضية التنافسية من غيرهم من شعوب الحريات المطلقة.

إن الغلو ظاهرة اجتماعية منشأها بصفة عامة هو الجهل، وضعف الإعداد التربوي والسلوكي في احترام الآخر كقيمة اجتماعية تربوية. والغلو في التعصب يأخذ شكلين: إيجابي، وسلبي. الإيجابي هو بالسلوك المعزز للاعتداء بالقول أو بالفعل على الآخر، والسلبي هو بالسكوت والتغاضي عنه.

وقال د. زياد الدريس في مداخلته تحت عنوان (كُرْه القدم): العنوان أعلاه هو عن الكراهية المنفوخة بها كرة القدم؛ ولذا استخدمت الهاء وليس التاء المربوطة في العنوان.. سبق وكتبت عن ذلك في صحيفة الحياة عام 2009 بمناسبة المهزلة «الحربية» الدائرة في أعقاب مباراة مصر والجزائر في تصفيات كأس العالم.

كشفت تلك المباراة عن أشياء عجيبة وغريبة، لكن الكشف الأهم فيها هو أن الغوغائيين ليسوا الجماهير في الملعب والشوارع، بل الإعلاميين في القنوات والأستوديوهات الفاخرة.

كشفت المباراة حقيقة كان ينكرها كثير من المثقفين، أو يصدّون عنها، وهي أن الإعلام العربي هو جزء أساسي من منظومة التخلف، ووسيلة مهمة في إضعاف الوحدة العربية، وإنهاك المشروع الوحدوي… المنهك أصلًا.

الإعلام هو عود ثقاب في أيدي مشعلي الحرائق في أكوام القش العربي. لم نشاهد الخشونة بين اللاعبين، كما عهدناها، داخل أرض الملعب، ولا بين الجماهير في المدرجات، لكننا شاهدنا الخشونة وسوء اللعب وسوء الأخلاق على شاشات التلفاز… حيث لا حَكَم يوقفها! شاهدنا «الحضيض» الذي كنا نسمع عنه كثيرًًا!

لم يوفر الإعلاميون / الحرائقيون أية سيادة لدولة، أو احترام لأعراق، أو توقير لمصداقية، أو حماية لمبادئ مثالية كان قد تحدّث عنها الإعلامي «النبيل» بإسهاب… ولكن قبل بدء المباراة!

تحدّث الإعلاميون، الذين كانوا يتناولون في حلقات برامجهم السابقة المبادئ المخزية لأنصار «القاعدة» والإرهاب، تحدثوا عن القتل والقتل المتبادل والانتقام، والاستخفاف بمبدأ التسامح والعفو، تحدثوا عن هذا كله بين المصريين والجزائريين، وليس بين المصريين والإسرائيليين مثلًا. ولذا فلا عجب حين أطلق أحدهم قنبلته المدوية قائلًا: الهزيمة من الجزائر هي نكسة مصرية أشد من نكسة 67!!

بذل الإعلاميون قصارى جهدهم لجرجرة المثقفين إلى هذه الحرب، نجحوا في إسقاط عشرة… لكنهم فشلوا في إسقاط عشرات ممن تماسكوا، ورفضوا الظهور على الشاشات ضمن حرب وضيعة.

ومن جهة أخرى، لطالما آمنت بأن في الإعلام العربي من يزاول مهنة إشعال الحرائق أو زيادة إشعالها؛ إيمانًا منه بأن الإعلام من دون حرائق مثل الحرائق من دون إعلام. وأنه لو حُلّت كل مشاكل العرب وخلافاتهم فسيفقد هذا الإعلامي / الشرارة وظيفته؛ لأن أخبار السلام أقل عددًا ووهجًا من أخبار الحروب والصراعات. كنت أعرف عن وجود هذه النوعية من الإعلاميين في الإعلام العربي، لكني لم أتصور أبدًا أنهم بهذه الكثرة وهذه الدناءة، بحيث يتمكنون بأكاذيب واهية من إشعال فتنة بين شعبين شقيقين، لم تُعهد بينهم أي خصومة سابقة.

وتوجّعًا من انفضاح أمر كثير من السياسيين والإعلاميين والمثقفين والفنانين، من أن حديثهم عن العقلانية والتسامح وضبط النفس والحوار مع الآخر والقيم والقومية والوحدة والمصير المشترك، ما هي إلا شعارات فارغة ينبجس منها الهواء حين اختبارها… في مباراة كرة قدم فقط، فكيف باختبارها فيما هو أشد وأنكى من أمور السياسة والعسكرة والدين والمال؟!

لذلك كله، ولسواه من الأوجاع… ندرك أن الجرح العربي ليس جرحًا في أصبع… بل جرح في القلب، قد لا يندمل سريعًا.

وأشار د. علي الحكمي ردًا على التساؤل الذي طرحه أ. خالد الحارثي إلى أنه بالتأكيد التربية- سواء المنزلية أو الأسرية- لها دور في بناء الشخصية المتعصبة، ولا يقتصر هذا على التعصب الرياضي، بل يشمل جميع أنواع التعصب.

الأسرة، عندما تقدم نماذج من سلوك الكبار الذي يعزز التعصب عند الأطفال، والمدرسة التي ينحاز معلموها لفريق ضد آخر، هم من أهم أسباب التعصب. والتعصب هو منظومة عقلية متكاملة تنتج عن التنشئة الاجتماعية.

التعصب واحد وأشكاله عديدة، ينشأ الطفل على التعصب، وسيكون نتيجة لذلك متعصبًا دينيًّا أو قبليًّا أو رياضيًّا. المشكلة في المنظومة العقلية التي تنتج عن تربيته.

يقول المثل الأفريقي: تحتاج بلدة كاملة لتربية طفل، وأنا أقول – يضيف د. على الحكمي – يحتاج الوطن كله لمكافحة التعصب. يجب ألا نختزل الموضوع في التعصب الرياضي فقط. فنحن نعاني من التعصب في جميع مفاصل حياتنا.  لا بد أن نتعامل مع المرض، وليس مع الأعراض. المرض هو التعصب، الأعراض هي ما نشاهده في الملعب وخلافه.

وحول مدى كون تطوُّر ظاهرة التعصب الرياضي مرتبطًا بجودة النقد في البرامج الرياضية والصحافة، وهل لذلك علاقة بالخط الزمني للصحافة الرياضية خلال العقود الماضية؟ أوضح أ. عبد الله الضويحي أنه في الدراسة التي أعدها أ. خالد الدوس، والتي أشار لها في تعقيبه يرى 54% من أفراد العينة أن (الإعلاميين) هم الأكثر تأثيرًا في التعصب الرياضي، علمًا أن 82% من العينة تتراوح أعمارهم بين 20 و40 سنة، وأن 50% من العينة هم من المؤهلين الجامعيين؛ مما يعني أن تطور الظاهرة مرتبط بجودة النقد في البرامج الرياضية والصحافة.

أما ما يتعلق بعلاقة ذلك بالخط الزمني للصحافة الرياضية خلال العقود الماضية، فالعملية هنا تتعلق بتعدد قنوات الإعلام الرياضي ووسائطه.. الصحافة الورقية لم يعد تأثيرها كما كان قبل عقود عندما كانت محدودة العدد والانتشار، فقد أصبحت القنوات الفضائية وقنوات التواصل الاجتماعي ومنصاته أكثر تأثيرًا؛ باعتبارها الأكثر متابعة، والأسرع وصولًا لذهنية المتلقي. وهذا طبيعي لكثرة البرامج وكثرة الضيوف، واعتمادها على الإثارة، والبحث عن تغطية ساعات البث والبرامج بضيوف ومحللين؛ مما أدى إلى تقديم كفاءات غير مؤهلة للطرح العقلاني المتوازن.

وذهب م. خالد العثمان إلى أن التعصب ممارسة متجذرة في النفوس لا يصلحها ممارسات انضباطية..  تمامًا كما أن كاميرات ساهر لا تصحح سلوكيات السائقين بالمطلق، بل تضبطها في مواقع محددة؛ خوفًا من العقوبة والغرامة. والمقصد أن معالجة التعصب تتطلب حلولًا جذرية وليست علاجية، تتناول الأعراض فحسب..  كما أن المعالجات الأمنية وحدها لا تكفي لمحاصرة الإرهاب.

وأضاف: أنا لست من المتابعين المتعصبين للأنشطة والفعاليات الرياضية..  لكني أسجل مما أسمع وأرى أن أحد حوافز التعصب الرياضي هو تشكل مراكز قوى بين الأندية الرياضية والإعلام الرياضي، وحتى المحاكم الرياضية تعمل بقصد أو بدون قصد على تجييش الكراهية والتعصب، والمشاحنات في الوسط الرياضي؛ نتيجة خلق المظلوميات وتضخيمها، وحشرها في زوايا التحيز والتجني، بما يخلق ويشحذ الصراعات التي تغذي التعصب.. في ظني أن المنظومة الرياضية برمتها بحاجة إلى إعادة هيكلة لتفكيك مراكز القوى هذه، ومأسسة العمل الرياضي بشكل أكثر موضوعية واحترافية في إطار التنافس الشريف.

ومن جهة أخرى، وفيما يتعلق بمدى كون التعصب شكلًا من أشكال التطرف مثله مثل الإرهاب، فإن التطرف ظاهرة مستشرية في المجتمع السعودي في مختلف المناحي والمفاصل والمستويات.. تطرف نعيش ونشاهد مظاهره في الرياضة، والقيادة في الطرق، والحوار المجتمعي، وغير ذلك الكثير.. الفارق أن الرياضة هي تقريبًا المجال الوحيد الذي يتمتع بشيء من الانفتاح في التعاطي معه..  ربما لأنه يعتبر مجالًا غير ذي أهمية أو مصدر تهديد..  بينما هو في الحقيقة يذكي نار التطرف والتعصب والصدام، بما يمكن أن يشكل بحق معول هدم تجاه البنية واللحمة الوطنية.

ويعتقد أ. أسامة نقلي أن تجييش التعصب من قبل الهيئات الرياضية غرضه مادي بحت؛ حيث بلغت موازنات الأندية وإيراداتها مليارات الدولارات.. وأسعار اللاعبين عشرات الملايين .. وعوائد الإعلانات والتغطيات التلفزيونية كذلك، وأصبحت كرة القدم الأغلى ماديًّا بين الرياضات الأخرى. والمتوقع من هذه الهيئات الاستمرار في تغذية التعصب؛ لكسب المزيد من العوائد المادية، وبما لا ينفع معه أي مجهود توعوي.

وذكر أ. عبد المحسن القباني أن المفارقة أن اللاعبين أنفسهم لا يتعصبون لأنديتهم إذا أدركوا أنها مهنة، وأن نادي اليوم قد تلعب ضده بالغد. وليت الجمهور يصل لتلك القناعة ويميل من دون أن يتعصب !

ومن جانبه قال د. خالد الرديعان: أتمنى بداية عدم الخلط بين التعصب والشغب فالأخير (هو ليجانيزم)، وهو سلوك تخريبي، في حين أن التعصب اتجاه نفسي. وقد أشار إلى ذلك م. خالد العثمان، أي ضرورة عدم الخلط بين المفهومين.

التعصب أفكار وتوجه نفسي، بينما الشغب سلوك وممارسة، وترجمة للتعصب بصورة تخريب وعنف، سواء ضد الممتلكات أو الأفراد.

والسؤال: لماذا ينشأ التعصب الرياضي؟ وإجابة عن هذا السؤال فإنني أميل جدًا إلى فكرة يسيرة، وهي أن غياب الحرية السياسية والكبت تعدان عوامل قوية في نشأة التعصب الرياضي، وأنماط أخرى من التعصب: كالتعصب القبلي، والمذهبي، والمناطقي. عندما تغيب حرية الأفراد في تأسيس منظمات مجتمع مدني وتجمعات فإن التعصب الرياضي يصبح لا مناص منه، حيث يتركز الولاء بصورة فاضحة ومقيتة نحو “فريق رياضي”. التعصب الرياضي هو تعبير صارخ عن انسداد الأفق في وجود خيارات نوزع انتماءاتنا عليها، ومن ثَمَّ يحدث crystallization للمشاعر، لتتجه نحو هدف واحد، وبصورة مقيتة.

قد يقول قائل: إن التعصب موجود كذلك في المجتمعات المتقدمة، كالمجتمع الإنجليزي، لكني أقول: إن ما يحدث هناك يُعدُّ تعصبًا منضبطًا إلى حد كبير، والشغب الذي رأيناه في بعض الملاعب جاء من فئة صغيرة غوغائية، تتعاطى الكحول أثناء المباريات، وتعاني من البطالة، كما اتضح من بعض الدراسات.

أما التعصب الرياضي الذي نجده عند شعوبنا العربية فهو للأسباب التي ذكرت آنفًا، ويضاف له التحريك الإعلامي له، والذي يمارسه بعض المحسوبين على الإعلام. لكني أخلص إلى القول: إن الكبت السياسي يقود إلى التعصب بشتى صوره، ومنه التعصب الرياضي.

لو كان لدى شخص ما جماعة مرجعية ينتمي لها، ويتفاعل مع أعضائها بصورة خلاقة، وينتمي إلى نادي يمارس فيه هواياته، وجمعية علمية أو مهنية تقدم له العون عند الحاجة، ويحظى بأسرة متماسكة تمنحه الحب والحنان، وشريك حياة رائع- فإنني أشك كثيرًا في توجهه نحو التعصب الرياضي، أو أي نوع آخر من التعصب المقيت.

في حين يرى د. عبد الرحمن الهدلق أن الخطورة الكبرى في التعصب الرياضي أنْ يؤدي إلى الشغب والعنف، سواء كان عنفًا جماعيًا أو فرديًا.

وبدوره قال د. خالد الدخيل: كنت من متابعي كرة القدم الأميركية، وهي لعبة شعبية جدًا. التنافس فيها حاد جدًا أيضًا، وتبرز فيها مهارات اللاعبين بشكل لافت، مستوى الأداء فيها في الغالب مرتفع وبشكل متصل. أي أن تذبذب الأداء منخفض. جماهير فرق هذه اللعبة غفيرة، وحجم حضور المباريات كبير دائمًا. إلى درجة أنه لا يتم نقل المباراة لسكان المدينة التي تقام فيها إلا في حالة واحدة، نفاذ كل تذاكر المباراة، Sold out. إذا لم يتحقق ذلك تحرم المدينة من نقل المباراة فضائيًا إليها. اللافت للنظر أنه رغم ذلك فإن مظاهر العنف التي تصاحب عادة التعصب الرياضي تبدو محدودة جدًا مقارنة بما يحدث بين جماهير كرة القدم العالمية، خاصة في أوروبا والعالم العربي، والسؤال اللافت هنا: ما تفسير هذا الاختلاف، إن كان صحيحًا ودقيقًا بالنسبة للمختصين؟

وعلق أ. خالد الحارثي على ملاحظة د. الدخيل بأن أحد الأسباب المفسرة تكمن في الفردية الأمريكية المختلفة عن الفردية الأوروبية في تقدير التميز والتنافسية المتعددة المنافذ؛ فالمجتمع الأمريكي يتقبل النقد الذاتي في الخسارة أكثر مما يلوم تفوق الخصم، بل يميل إلى تقدير الخصم قبل وبعد، بشكل تترجمه الملاحظة المشار إليها. كما أن المشاهدات تتزايد وتتعاظم بحجم الجماهيرية للعبة؛ فكرة القدم تحتل جماهيرية أعلى من غيرها؛ ولذلك تكون المشاهدات والتنافسات فيها واضحة وظاهرة.

بينما أشارت أ. مها عقيل إلى أنها لا تذكر أنها شاهدت مظاهر عنف للتعصب الرياضي في أي رياضة أخرى غير كرة القدم. من جهة أخرى فهي تعتقد أن المباريات التي تحضرها الأسرة كاملة، أو حتى الأب وابنه أو ابنته، أو مع زوجته أو صديقته (في الخارج طبعًا) تقل فيها نسبة مظاهر العنف.

وعلق د. حميد الشايجي على الطرح الأخير بأن الملاعب البريطانية تشهد حضور الأب والأم والأولاد والصديقة، ومع ذلك جمهور كرة القدم البريطاني من أعنف الجماهير، فليس هناك رابط أو علاقة بين الأمرين.

ومن جديد أوضحت أ. مها عقيل أنها لم تقل أن العنف يختفي تمامًا، وإنما يقل. أي أن الرجل عندما يكون مع أسرته قد يحاول ألا يشارك في مظاهر العنف، بعكس الرجل الذي يكون مع مجموعة من الرجال.

وأشار د. خالد بن دهيش إلى أن التعصب الرياضي للأسف أصبح واقعًا؛ بسبب توفُّر الوسائل الإعلامية المختلفة غير المنضبطة، التي وفرت البيئة المناسبة له في ظل عدم وجود الأنظمة الصارمة، والأجهزة الرقابية القادرة على معاقبة المتجاوزين المثيرين للتعصب الرياضي لضبط الشارع الرياضي.

لقد سبق لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني أن عقد جلسات حوار لمناقشة ظاهرة التعصب الرياضي، وكالعادة نتائج حواراته ليس لها راعٍ يعمل على تحقيقها. والآن الأمل معقود على قرار مجلس الوزراء الأخير، الذي أكد على الأجهزة الحكومية المعنية بوضع الأنظمة الصارمة والعقوبات الرادعة للمتعصبين المتجاوزين، والمسيئين، ومثيري الرأي العام في كافة وسائل الإعلام. لقد أتى هذا القرار الموفق بعدما انتشر التعصب، وتجاوز كل الحدود والأعراف الإعلامية.

فهناك أدوار مختلفة تتوزع على عدة أجهزة حكومية وشبه حكومية؛ لتنفيذ هذا القرار، منها:

  • وزارة الإعلام التي عجزت عن القيام بدورها الرقابي في ما يمسُّ تماسك اللحمة الوطنية من خلال البرامج الرياضية، وعدم القيام بدورها التثقيفي والتدريبي لمقدمي ومحللي البرامج الرياضية لتجنيبهم الوقوع في فخ التعصب الرياضي، والتأكيد على أن الرياضة ترفيه ومنافسة شريفة، ومحاسبة وسائل الإعلام التي تسعى إلى الكسب الجماهيري دون الالتزام أو إدراك للضابط الأمني، من خلال استقطابهم لمحللين إعلاميين رياضيين، يفتقرون لأبسط قواعد الحياد، حيث يلاحظ أنَّ هناك طرحًا إعلاميًّا مقيتًا من بعض البرامج الرياضية السعودية، والقنوات التي تبث من السعودية أو من خارجها، أو تملكها شركات سعودية.
  • الأندية الرياضية وضعف القيام بدورها في الحد من انتشار ظاهرة التعصب الرياضي، بعدم تركيزها على بث مبادئ المنافسة الشريفة لتخفيف الاحتقان داخل الوسط الرياضي.
  • ضعف دور التثقيف الأُسَري والتربوي، ودور المسجد التوعوي.
  • انفلات الحبل على الغارب من قبل وسائل التواصل الاجتماعي التي تبث كلمات نابية لها تأثير قوي في انتشار ظاهرة التعصب للرياضي.
  • التأخر في إصدار الأنظمة التي تركز على مواجهة التعصب الرياضي، والمتعصبين المتشددين من الصحفيين والمحللين ومقدمي البرامج العاملين في الإعلام الرياضي، والساعين لتأجيج الشارع الرياضي.

ومن جانبه قال د. مساعد المحيا: ما أود أن أؤكد عليه هو أننا مجتمع ترتبط فيه العصبية بالتعصب، وتعيش العصبية فيه في كثير من مفاصل حياته، وأعني به المبالغة في إظهار المواقف، والتشنج والخروج عن النظام. والرياضة هي مظهر يُتاح فيه مناخ واسع من الحرية، وبخاصة عبر وسائل الإعلام أو الشبكات الاجتماعية؛ لذا يبدو ويظهر التعصب فيها أكثر.

جانب آخر يتعلق بأسباب وجود هذه الظاهرة لدينا هو أنَّ هناك غضًّا للطرف عن مؤججي التعصب، الذين قد يكونون من الفئات الاعتبارية والمخملية.. ومن مقدمين ومحللين يراد من اختيارهم الحصول على إثارة وجماهيرية، تدرُّ عليهم حجم إعلانات كبير.

هذا الغض هو الضوء الأخضر الذي تعمل في ضوئه البرامج الرياضية والصحف.. فتذكي التعصب بصورته الخطيرة. الدولة يومًا ما أبعدت رئيسي النصر (عبد الرحمن بن سعود) والهلال، وأبعدت ممدوح بن عبد الرحمن؛ لاستخدامه لفظًا عنصريًّا في برنامج تلفزيوني.

بينما يرى أ. سمير خميس أن من أهم أدوات الرياضة “التعصب”، والتعصب الرياضي مطلوب، ووجوده مهم مثله مثل مقرات الأندية وكيانها. فمن غير المتعصب سيهيم حبًّا، ويدعم ويضحي بوقته في بلدان لا تزال تعتبر الرياضة “لعب عيال”. وما يذم هو الخروج على النظام، وحينها يعتبر شغبًا لا تعصبًا، أما ما يحدث من مشاهد يومية في رياضتنا فإنه تعصب مطلوب؛ ليبقى هذا الشريان الرياضي الاقتصادي الاجتماعي نابضًا بالحياة والشغف. والتعصب نافذة يطلُّ منها المتعصب على ما يعينه في حياته، ويحقق بها ذاته في عالم متعدد الاستقطابات، والخشية أن من لم يستقطبه التعصب الرياضي قد تستقطبه جهات أخرى.

وعلق أ. خالد الحارثي بأن المعظم يتفق مع القول بوجود مصالح تجارية تستفيد من بقاء الإثارة في جو يتجاوز الحد الطبيعي، ويضمن التكسب لأصحاب تلك المصالح.

وأوضح د. مساعد المحيا أن الأمر يتوقف على مفهوم التعصب، فإن كان الانتماء والتشجيع، وحب الفريق وحب فوزه وحب مشاهدة مبارياته …فهو أمر لا غضاضة فيه، ولذا يتحدث هؤلاء عن التعصب السيئ أو الضار أو الأعمى أو الذي يلحق الضرر بالآخرين، لكن مصطلح التعصب يبدو أنه يحمل المعنى السلبي في ذاته؛ ولذا يظل مما تأنفه الطباع السوية.

ومن ناحيته يرى د. عبد الله بن ناصر الحمود أنه ثمة تعصب محمود يحصل .. وليس بالضرورة أن تكون من أهل الرياضة لتعرفه. فهو ظاهر على محيا الناس. وهو التعصب الذي يلتزم بسلم من الأخلاق.. محمود، التعصب بمعني العصبة وليس العصبية؛ فما أجمل أن تتنافس العصب (بضم العين).. لترتقي في المعرفة والمهارة.. والفنون كافة.. وتفرح وتصرخ ربما.. لا بأس، لكن العصبية.. أمر لا خلاق فيه. والظن أننا نؤتى من عصبية بعضنا خلطًا منهم للعصبية المذمومة مع العصبة الممدوحة. والفصل بين الحالتين الأخلاق؛ فكل سلوك يتم دون معيار أخلاقي رشيد.. لا خير فيه. ولو تخلق الناس بسلم متين من الخلق الرفيع.. كانت تعصبهم الرياضي رفيعًا أيضا. ولكن.. في حال لا تخفى اليوم.. من انهيارات كبرى في سلم الأخلاق الرشيدة.. فلا عجب من العصبية الرياضية.. فليست إلا وجهًا واحدًا من وجوه الفساد الأخلاقي.

ومن ناحيتها قالت أ.د. سامية العمودي: أشعر أن الجدب العاطفي والمنع والكبت جعلنا نبحث عن قنوات تصريف لا تتسم بالتحريم والتكفير؛ ولذا يلجأ شبابنا وشاباتنا إلى تفريغ شحنة عواطفهم الجياشة في اللعبة المتاحة في ظل غياب الفنون والأدب وسبل تحرير العاطفة واستيعابها، وتتحول إلى تعصب عندما نفشل في تهذيب هذا النوع من الحب.

وطرح أ. خالد الحارثي تساؤلًا حول تأثير التحكيم في التعصب الرياضي السلبي،  وهل لذلك علاقة بالمستويات الفنية للحكام أم عدم كفاية الأنظمة؟

وحول هذه النقطة أشار أ. عبد الله الضويحي إلى أنه لا شك أن للتحكيم دوره في إشعال التعصب بالأخطاء التي يقع فيها بل بتكرار الأخطاء، خاصة عندما تكون مؤثرة، ولصالح فرق معينة، لكن الأخطر من هذا في نظره ناحيتان:

  • الأولى: تصريحات رؤساء الأندية عقب المباريات، واتهام التحكيم بـ ( تعمُّد ) خسارة فريقه، و( دعم ) فرق أخرى حتى أصبح البعض يدخل مصالح أندية أخرى لا علاقة لها في المباراة.
  • الثاني: المحللون الرياضيون بعد المباريات وبعض البرامج الفضائية عندما تتناول هذه الأخطاء، وكأن الحكم لا يخطئ، وتتهم الحكم في أمانته ونزاهته، وأنه يخدم فرقًا معينة.

وتتحمل ذلك جهتان:

1-     الحكم نفسه الذي لا يطور نفسه، ولا يثق في قراراته فيتردد في اتخاذها؛ خوفًا من تصريحات رؤساء الأندية.

2-     الجهات الرسمية في عدم حماية الحكم من رؤساء الأندية والإعلاميين.

ما يؤكد ذلك صمت الجميع أمام الحكم الأجنبي، واحترامه وعدم الجرأة على نقده رغم أخطاء بعضهم الكارثية؛ لأنه محمي من الفيفا.

ويرى أ. عبد المحسن القباني أن الرياضة، وخصوصًا كرة القدم، تحولت- في عالم اليوم- إلى أحد أكثر العوامل نفاذًا وقدرة على الحشد والتجميع، والضبط السياسي والرقابة الاجتماعية، بما لها من قدرة على إخفاء الصراعات السياسية والاجتماعية، والابتعاد عن التسييس والالتزام، والتعويض عن عدم المساواة الاجتماعية، بل وتبريرها، مع تغييب الوعي النقدي لدى الجمهور، وتوفير سعادة وهمية ولحظية له، وتوحيده في لحظات عاطفية مشحونة، حول كل ما يصور له على أنه مثل عليا، حتى لو كان مجرد مشاعر شوفينية، أو عنصرية. فالرياضة- كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي لوي ألتوسير-: أصبحت بمثابة “جهاز الدولة الإيديولوجي الفعال”.

وأشار د. فهد الحارثي إلى بعض خلاصات لدراسة أنجزها مركز أسبار، وتعرضت للتعصب الرياضي، ومما جاء فيها: أنَ مما يهدِّد الوحدة الوطنية قضية الغلو في التعصُّب الرياضي، وبسبب تداعياته وتأثيراته السلبية، فإنه يشكل أحد التهديدات للوحدة الوطنية. من تجليات هذه الظاهرة التي لفتت الانتباه ما لوحظ -على سبيل المثال- في دورة الخليج (2014)، التي أقيمت في الرياض من انصراف الجمهور، وبصورة غير معهودة عن حضور فعاليات هذه الدورة، على الرغم من المغريات التي قُدِّمت للجمهور كالدخول المجاني لملعب الملك فهد حيث أُقيمت الدورة.

يعيد البعض انصراف الجمهور عن المنتخب إلى المناكفات بين مشجعي الأندية، والتعصُّب للفريق المحلي، عوضًا عن مساندة المنتخب الوطني، لقد بلغ التعصُّب الرياضي مستويات خطيرة تهدِّد تماسك المجتمع، ووحدة الأسرة، وعلاقات الرياضيين. بل إن بعض الجماهير المتعصبة أصبحت تهتف بعبارات عنصرية مقيتة، وكلمات سيئة بحق المنافسين، تُشكِّك في وطنيتهم، وانتمائهم، وتلجأ للإيذاء البدني، وتخريب الملاعب، والمنشآت العامة، والممتلكات الخاصة.

وفي الدراسة التي قدَّمها خالد الدوس (1435هـ) بعنوان: “دور الإعلام الرياضي في الحد من التعصُّب والعنف في الملاعب”، أشارت النتائج إلى تفشي ظاهرة التعصُّب الرياضي بصورة مقلقة، وإلى أنه ينتشر بين جميع الفئات العمرية دون استثناء، فقد بيَّنت النتائج أن نحو 82% من متابعي الرياضة تقع أعمارهم بين 20-40 سنة، وأن نحو 58% مَنْ يتابعون البرامج الرياضة في القنوات الفضائية. كما أشار نحو 54% أن سبب التعصُّب يعود في المقام الأول إلى الإعلام الرياضي، في حين أن 48% أعادوا ذلك إلى سوء التحكيم. كما بيَّنت النتائج أن نحو 83% من العيِّنة لا يشتركون في أنشطة رياضية، ولكنهم يتابعونها، وأنهم يتعصبون لأنديتهم. ويخلص الباحث إلى أن الإعلام الرياضي أسهم- وبصورة ملحوظة- في تأجيج الوضع، كما أن أساليب التنشئة الاجتماعية القاصرة في الأسرة والمدرسة والمسجد، وضعف أدائها في هذا الجانب قد أسهما- وبصورةٍ كبيرةٍ- في زيادة مستويات التعصُّب الرياضي. ولا يقف الأمر عند التعصُّب ذاته، فهو مشاعر يمكن التحكم فيها، والسيطرة عليها على المستوى الفردي، ولكن المشكلة تكمن فيما يقود إليه التعصُّب الرياضي الجماعي من مشكلات: كالعنف، وتخريب الممتلكات العامة، والتشظي الاجتماعي، وهي القضايا التي ترتبط بسلوك الحشد الجماهيري الذي يصعب التنبؤ بنتائجه في الغالب.

وفي دراسة أعدَّها محمد حمزة السليماني وآخرون (2000) حول العنف الرياضي في المملكة من خلال عيِّنة بلغت (2000 فرد) من مختلف مدن المملكة، تبيَّن من نتائج الدراسة أن الإعلام الرياضي هو أبرز سبب يكرِّس العنف. يلي ذلك العوامل النفسية، والروح الرياضية، والتنظيم الإداري، وأداء اللاعبين، وأخيرًا التنشئة الاجتماعية. وتتمثَّل مظاهر العنف في الدراسة المذكورة في الإخلال بالأمن، والعنف اللفظي وغير اللفظي، وتدمير الممتلكات العامة. وفي دراسة أقدم من ذلك (1995) أعدَّها أبو حليمة عن العنف في ملاعب كرة اليد، أوضحت نتائج دراسته أن مظاهر الشغب الرياضي تمثَّلت في ضعف مستوى الوعي عند الجمهور، وضعف مستوى التحكيم، وفقدان الثقة بين الحكام واللاعبين، وعدم الإلمام بالقوانين، ومتابعة ما يستجد من معلومات. كما دلت النتائج أن هناك تعصُّبًا جماهيريًا واضحًا للفرق المختلفة، إضافة إلى ضعف مستوى اللاعبين فنيًّا، والتهاون في الإجراءات الرادعة للاعبين والجمهور؛ مما يثير الشغب الرياضي. وفي دراسة  قام بها مامسر (1989) بعنوان: “ظاهرة الشغب الرياضي في ملاعب الوطن العربي”، وطُبِّقت على عيِّنة بلغت 3002 فرد في عدة دول عربية، ومنها المملكة العربية السعودية، شملت خبراء، ولاعبين، ومدربين، وإداريين، وإعلاميين، وحكامًا، أشارت نتائج الدراسة إلى أن مظاهر الشغب ثمانية، يأتي على رأسها الجمهور، واللاعبون، والحكام، وإداريو الاتحادات الرياضية، والإعلاميون الرياضيون، والمدربون، وأخيرًا رجال الأمن، والأطباء المسعفون. وبيَّنت النتائج أن أهم سبب للشغب هو تصريحات إداريي الأندية الرياضية، وتحريضهم للجماهير، وتشكيكهم في نزاهة الحكام. وخلصت الدراسة إلى نتائج مهمة، منها: أن أسباب الشغب الرياضي يمكن حصرها في أربعة مستويات، هي: جنون التنافس الرياضي (التعصُّب الأعمى)، تسييس الرياضة التنافسية، والتنشئة الاجتماعية، والسمات السلبية الشخصية. وفي دراسة مشابهة في مصر قام بها علاوي (1984) عن ظاهرة الشغب الجماهيري في الملاعب المصرية، أعاد الباحث أسباب الشغب إلى التحكيم، ثم مشاعر الجماهير نحو الفرق المنافسة، وسلوك اللاعب المنافس في الملعب. نخلص من كل ذلك إلى أن ظاهرة التعصُّب الرياضي متفشية محليًّا؛ بسبب عدة عوامل: كالإعلام الرياضي، وفشل التنشئة الاجتماعية، والاحتقان الجماهيري الذي يتم التنفيس عنه أحيانًا بالتعصُّب الرياضي، وإتلاف المنشآت العامة، واستخدام عبارات عنصرية في الملاعب وخارجها. وجميع ما ذكر تعدُّ نقاط ضعف، وتهديدات مباشرة للوحدة الوطنية.

وتشير الدراسة في مكان آخر أن رأي الشباب في التعصُّب الرياضي وانتشاره بين الشباب ومدى تهديده للألفة وللسلم الاجتماعي، فتوضح أرقام الجدول أن الشباب يرون أن التعصُّب الرياضي مهدد إلى درجة كبيرة للأُلفة، وللسلم الاجتماعي بنسبة تجاوزت 55%، بفارق كبير نسبيًّا بين نسبتي الذكور والإناث، حيث يعتقد الشباب الذكور بدرجة أكبر تصل إلى نحو 60% أن التعصُّب الرياضي مهدد للألفة وللسلم الاجتماعي، بينما كانت نسبة الإناث 50%، أما الذين يعتقدون أن التعصُّب الرياضي مهدد للألفة وللسلم الاجتماعي إلى درجة متوسطة فبلغت نسبتهم 33.9%، مع ارتفاع واضح لنسبة الإناث اللاتي يعتقدن أن التعصُّب الرياضي بين الشباب مهدد للألفة وللسلم الاجتماعي إلى درجة متوسطة. وتؤكد هذه النتائج انتشار التعصُّب الرياضي بين الشباب واعتقادهم بأنه مهدد للألفة وللسلم الاجتماعي، ولم تتجاوز نسبة مَنْ لا يعتقدون أن التعصُّب الرياضي مهدد للألفة 11%.

ومن وجهة نظر أ. مسفر الموسى فإن “التعصب” يمثل حالة ثقافية أصيلة في المجتمع.. بغض النظر عن كل المحفزات التي تساعد في تنميته، مثل: الصحافة، والإدارات غير المهنية في كرة القدم.

ما يحدث في الرياضة قد يحدث في أي مجال.. ولكن الأشياء تكون بارزة في الشأن الرياضي؛ بسبب جماهيريتها، ولأنه المجال الوحيد الذي تتسع فيه هوامش الحرية.

التعصب يتجاوز حالة الانجذاب للشيء إلى محاولة انتهاك المقابل له سواء كان رأيًا أو شخصًا أو كيانًا.. في الرياضة كما في غيرها يعبر الفاعلون أو المتحاورون عن انتماءاتهم أولا ثم يبدؤون الحوار كممثلين لهذه الانتماءات.. فمثلًا، لن تجد صحفيًّا في وسيلة مرموقة يقول: إنه يمثل الصحافة البرشلونية، أو ألمان يونايتد أو غيرها.. وإنما يمثلون صحفهم بكل تفاصيلها المهنية المعتبرة.. بما في ذلك سلوكهم العام، وظهورهم في وسائل التواصل الاجتماعي.

ما يحدث في حالتنا المحلية، أن الصحفي ينتمي أولا إلى النادي، ثم بعد ذلك يأتي انتماؤه إلى الصحيفة.. ويتم استدعاؤه للبرامج والحوارات العامة، أو حتى للعمل الصحافي بناء على انتماءاته.. وبالتالي، فإن وظيفته هي الذود عن ناديه وليس للمهنة.. وكلما استطاع سحق الأطراف الأخرى ازدادت جماهيريته، وزاد الطلب عليه.

وفي النسق ذاته ، يمكن فهم أي حوار فكري أو اقتصادي أو حتى فني. وهنا، قد يبرز في الاتجاه المعاكس تأثير الجمهور في صناعة رموز التعصب.. وهو ما يمكن تسميته مجازًا بـ (أيديولوجية الجماهير).

وقالت أ. كوثر الأربش: لماذا يرافق العنف الرياضة، رغم أنهما خصيمان في المفهوم والغاية؟

الرياضة تنافس شريف يهدف للمشاركة، العنف تنافس ضار، ويهدف للتصفية. إذا كان الأمر كذلك، فما الذي أحاط الرياضة بغلاف أسود من العنف والكراهية والعنصرية؟

السؤال سيوجهنا مباشر إلى سؤال آخر: مَنْ هو الرياضي؟ وهنا بيت القصيد.  الرياضي، أما المحترف، أو المهتم/المشجع، أو المحلل..

المحترف:

1-   غالبًا لا يتم دراسته لعدم القدرة على التوفيق بين الدراسة الأكاديمية واللعبة الرياضية.

2-  لا توجد في مناهجنا ثقافة رياضية، ما يوجد هو حصص رياضة للطلاب. هناك فرق بين أن تلعب الرياضة أو تصبح مثقفًا رياضيًّا، أي تتحلى بروح الرياضة، وتفهم بداياتها وأهدافها وغاياتها.

المشجع:

غالبية المهتمين بالرياضة أكثر سطحية من غيرهم من المهتمين بالشؤون الأخرى. وهذه سمة عالمية وغامضة أن ترتبط الرياضة بالسطحيين والأقل ثقافة. ربما لأنها لا تتطلب مجهودًا ذهنيًّا؛ لذا يميل إليها المخفقون دراسيًّا، العاطلون والمراهقون.

المحلل الرياضي:

وهو قائد الرأي الرياضي، ورأس الهرم. وأكثر الأصناف ثقافةً واطلاعًا. المؤسف أنه كان من الأسباب الرئيسة لانزياح الرياضة عن غاياتها إلى التعصب والعنف والإقصاء.  تبنى المحلل الرياضي خطاب الكراهية، وبامتياز أيضًا. نظرة خاطفة لحسابات بعض المحللين في تويتر، ستخرج منها بكم لا بأس به من الانزعاج، فمن شماتة، إلى وعيد، إلى سخف، إلى كراهية.

بين هذا المثلث تقبع الرياضة. دون أي تدخل رسمي من مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام.

  • نحو حلول عملية لمواجهة ظاهرة التعصب الرياضي:

ذكر أ. جمال ملائكة أن علينا أولًا الاعتراف بأن التعصب وما يلازمه من أفعال وأقوال موجود عندنا. وفي ضوء ذلك يمكن اقتراح ما يلي لحل هذه المشكلة:

1-    أن يتم إعادة النظر في المواد التعليمية منذ السنة الثالثة، والتركيز علي:

ا- الأخلاق.

ب- المعاملات.

ج – النظام.

د- احترام الغير.

ه – الحوار.

و- تقبُّل الآخر.

ولعل هذا ما يركز عليه النظام التعليمي في اليابان، ولعل النقطة الأخيرة هي التي ستأخذ وقتًا؛ لأننا نحتاج تربية أجيال جديدة على سلوكيات محددة، والمدرسة بمفردها لا تكفي، وعلينا بتوعية الآباء والأمهات بعدة طرق بجانب دور الإعلام.

2-  لا بد من توعية وتثقيف اللاعبين أنفسهم، على أن ينعكس هذا على سلوكهم في أرض الملعب وفي تصريحاتهم (تغيير سلوكيات الشعب بالتوعية صعب جدًّا؛ لذا نركز على اللاعبين، وهم لهم تأثيرهم على مَن يشجعهم).

3-   القضاء على المحسوبية والواسطة والفساد في جهاز الكرة، وسن القوانين لمعاقبة المفسد والمسيء، سواء حكام مباريات أم إداريين.

ويرى أ. أسامة نقلي أن التعصب الرياضي لا تعالجه محاضرات، بل تضبطه القوانين. وفي تصور د. مساعد المحيا فإننا نحتاج أن ندرك أن التعصب المفرط – إن سمحنا لمؤججيه أن يمارسوا هواياتهم بشأنه- فسنجد جيلًا يمارس الكثير من مظاهر التعصب، وربما نكون سببًا في شرعنتنا لها، ولبعض مظاهرها  في المستقبل.

وأشار أ. عبد الله الضويحي حول ملاحظة أ. خالد الحارثي بخصوص تقنين عدد البرامج وكفاءة الإعلام الرياضي، إلى أنه لا يمكن تقنين عدد البرامج وكذلك القنوات بقرار من جهة مسؤولة، فهذا عمل تجاري حر. وأضاف د. علي الحكمي أنه ومع هذا يمكن الرفع من كفاءة الإعلام الرياضي.

ويعتقد د. علي الحكمي أن الإعلام له دور مهم في الوقاية من الآثار السلبية الناتجة عن التعصب الرياضي، لكن بعض منسوبيه يخرجون كثيرًا عن المهنية ليكون مردودهم عكسيًّا. فقبل سنتين نشرت إحدى الصحف المتخصصة مانشيتًا في صفحتها الأولى، له مدلولات جنسية خادشة للذوق العام والأخلاق والقيم.

وعلق د. زياد الدريس بأن الإعلام بالفعل له دور مهم في الوقاية من التعصب الرياضي، لكن الإعلام أيضا يقوم بدور مهم في خلق التعصب الرياضي. فالإعلام هو الداء والدواء!

وذهب د. عبد الله بن ناصر الحمود  إلى أنه في حال التوجه لمواجهة التعصب الرياضي المذموم.. ينبغي على فعاليات المجتمع التعليمية والتربوية والتثقفية مراجعة مخزونها من غرس الأخلاق الحميدة في الجيل الناشئ؛ لا يمكن أن نلوم شابًا على سوء خلقه.. ونحن لم نعلِّمه مكارم الأخلاق.

واتفق أ. خالد الحارثي مع هذا الرأي الأخير، وأضاف أن التأسيس على أهمية العملية التربوية ومستوى الوعي يقود إلى الإصلاح أكثر من عزو ذلك إلى الإعلام فقط، والجمع بين كل المتاح من الرؤى والأفكار خير من التحيّز إلى بعضها دون وجاهة. وبالفعل هناك أهمية كبيرة للتنوع في جوانب الحياة وتوفر الأنشطة التي تتحقق بها الذات بأشكال متعددة.

وأضاف  د. خالد الرديعان أن الترفيه يعد من الحلول المقترحة، وذلك بتنويع المناشط الترفيهية والاهتمامات الرياضية والفنية؛ حتى لا ينصب كل شيء على كرة القدم. ومن الحلول الأخرى أن تقوم الأندية الرياضية بدورها الثقافي والاجتماعي، وأن تهتم بالرياضات الأخرى، وألا يكون تركيزها على كرة القدم كذلك.

المحور الثاني

غسل الأموال 

الورقة الرئيسة: أ. فضل البوعينين.

تعتبر جريمة غسل الأموال من الجرائم المالية الخطرة التي تترتب عليها آثار اقتصادية وأمنية متشعبة، حيث تهدد استقرار القطاع المالي في الدولة المنكشفة عليها؛ وتتسبب في مخاطر أمنية لا حصر لها؛ فضلا عما تحدثه من آثار خطيرة في المجتمعات، ومنها: ارتفاع معدلات الجرائم، وزعزعة الأمن. قدرة غاسلي الأموال على غسل الأموال القذرة من محفزات الجريمة؛ وهذا ما نعتقد أنه سبب في نمو تجارة المخدرات، وارتفاع معدلات الفساد المالي. أصبحت جريمة غسل الأموال مرتبطة بشكل وثيق بتمويل الإرهاب؛ وبالجرائم الخطرة الأخرى؛ لذا نعتقد أن النجاح في مكافحة غسل الأموال يمكن أن يضمن الحد من كثير من الجرائم المتفشية، ومنها: تجارة المخدرات، والفساد المالي- على سبيل المثال لا الحصر- .

تعتبر المملكة من أكثر الدول المستهدفة من الخارج في أمنها، واقتصادها… غسل الأموال من أدوات ضرب الاقتصاد ومؤسساته المالية، وإقحامه في قضايا قانونية دولية تتجاوز القطاع المالي إلى النظام بشكل عام، إضافة إلى ارتباط غسل الأموال بتمويل الإرهاب؛ ما يزيد من أهمية مكافحته.

وبالتركيز على برامج إعادة هيكلة الاقتصاد؛ ورؤية المملكة 2030 التي لا يمكن تحقيقها بمعزل عن مكافحة الفساد، وترشيد العمل الحكومي، وتحقيق التوازن المالي، وتعزيز دور القطاع الخاص تظهر أهمية مكافحة جرائم غسل الأموال؛ لتجفيف منابع الفساد الذي يقوض الإصلاحات الاقتصادية وبرامج التحوُّل. أجزم أن وضع إجراءات صارمة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب باتت حاجة اقتصادية أمنية مُلحة؛ فضلا عن كونها ضرورة شرعية وأخلاقية، لا يمكن التهاون فيها.

تعريف غسل الأموال:

 “هو إعادة تدوير الأموال الناتجة عن الأعمال غير المشروعة في مجالات وقنوات استثمار شرعية؛ لإخفاء المصدر الحقيقي لهذه الأموال، ولتبدو كما لو كانت قد تولدت من مصدر مشروع”.

 ويعرف القانون السعودي عملية غسل الأموال (المادة 1 – 1) بأنها: (( أي فعل، أو الشروع فيه؛ بقصد إخفاء أو تمويه طبيعة أموال مكتسبة خلافًا للشرع أو النظام، وجعلها وكأنها متأتية من مصادر مشروعة)).

 مصادر غسيل الأموال:

 تجارة الأسلحة – تجارة المخدرات – تجارة الرقيق الأبيض – جرائم الاختلاس والسرقة – التزييف – التهرب الضريبي – الإتجار بالبشر أو الأعضاء البشرية – دفن النُّفايات المشعة – النصب والاحتيال – التهرب الضريبي – التستر.

الآثار المترتبة على غسل الأموال:

  • استقطاعات من الدخل القومي، ونزيف للاقتصاد الوطني لصالح اقتصادات أخرى.
  • زيادة السيولة المحلية بشكل لا يتناسب مع الزيادة في إنتاج السلع والخدمات.
  • التهرب الضريبي.
  • شراء ذمم رجال الشرطة والقضاء والسياسيين؛ مما يؤدي إلى ضعف كيان الدولة، واستشراء خطر جماعات الإجرام المنظم.
  • فقدان سمعة القطاع المصرفي؛ وتعرضه لعقوبات دولية صارمة.
  • الانعكاسات القانونية على الدولة، القطاع المصرفي، والمجتمع.
  • إفساد المناخ الاستثماري؛ بسبب الرشاوى، وظهور المشروعات الصورية.
  • استخدام عائدات غسيل الأموال للتحكم في قطاعات مهنية بأكملها.

مراحل غسل الأموال: الإيداع (الإحلال)، التغطية، والدمج.

  • مرحلة إدخال الأموال الملوثة في القطاع المصرفي (الإيداع، أو الإحلال).
  • مرحلة الإخفاء.
  • مرحلة التكامل، وإعادة التوظيف (الدمج).

القطاعات الأكثر استقطابًا لغاسلي الأموال:

1-    الأسواق المالية.

2-   المجوهرات والقطع الثمينة.

3-   القطاعات التجارية.

4-   ​الاستثمارات.

5-   القطاع العقاري.

6-   الائتمان. (القروض والبطاقات الائتمانية).

7-   التحويلات المالية.

مجموعات العمل المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب:

1-   مجموعة العمل الدولية FATF:

وهي الجهة التي تضع المعايير العالمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، حيث انضمت المملكة لها كمراقب في 26 يونيو 2015م.

–    ​طبقت المملكة جميع معايير ومتطلبات FATF قبل الانضمام إليها. وهي من أكثر الدول التزامًا بالمعايير الدولية في قطاعاتها المالية.

–    ​أصدرت المملكة تشريعات خاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وأصبحت جزءًا من القانون السعودي.

 2-​ مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENAFATF:

 مجموعة تم تشكيلها من قبل حكومات 14 دولة عربية؛ من أجل نشر وتطبيق المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وقد تبنت التوصيات الـ 49 الخاصة بمجموعة العمل المالي. المملكة من الأعضاء المؤسسين للمجموعة.

جهود المملكة في مكافحة غسل الأموال:

 تعتبر المملكة من أوائل الدول المشاركة في عمليات مكافحة غسل الأموال؛ ومن المؤسسين لمجموعة MENAFATF، وقد اتخذت العديد من المبادرات والإجراءات الخاصة بها؛ ومنها: إصدار نظام مكافحة غسل الأموال ولائحته التنفيذية، وتشكيل لجنة دائمة لمكافحة غسل الأموال، وإلزام القطاعات المالية بتطبيق المعايير الدولية، وإنشاء إدارات الالتزام؛ ما أهلّها لتكون من أوائل الدول الملتزمة بتطبيق المعايير، وحصولها على إشادات دولية، وتصنيفها ضمن الدول العشر الأكثر كفاءة في مكافحة جرائم غسل الأموال؛ وبالتالي تتويج نجاحها بانضمامها إلى مجموعة العمل الدولية. للمملكة جهود في كشف شبكات غسل أموال دولية، قادت إلى الكشف عن جرائم كبرى في تهريب المخدرات وتمويل الإرهاب. ومحليًّا هناك نجاحات كثيرة للجهات الأمنية؛ وأضخمها الكشف عن غسل 36 مليار ريال (المصدر. سبق)، إضافة إلى الكشف عن شبكة غسل أموال؛ وتجسس في القطاع المصرفي مرتبطة بجهات خارجية.

 وتعتمد المملكة في مكافحتها غسل الأموال على الأسس التالية:

–         النصوص الشرعية (وهي متقدمة على القوانين الوضعية).

–         الأنظمة المحلية. ومنها قانون مكافحة غسل الأموال.

–         التوصيات الدولية. ومنها توصيات منظمة FATF.

 ​دور المواطن والمؤسسات في الحد من عمليات غسل الأموال:

 لا يمكن لعمليات غسل الأموال أن تتم إلا بوجود شركاء محليين؛ إما بصفتهم الشخصية أو من خلال الشركات؛ لذا يقع على المواطن مسؤولية كبيرة في عدم رهن نفسه لعصابات غسل الأموال؛ طمعًا في الكسب السريع والمُحرَّم. كما أنه مسؤول عن تطهير شركته من العقود المشبوهة والتبادلات التجارية الصورية الهادفة لغسل الأموال. المواطن هو خط الدفاع الأول، ومتى انجرف عن تعاليم دينه؛ والالتزام بالقوانين؛ فسيتسبب في الإضرار بنفسه، وإلحاق مشكلات لا تُحصى بأمن واقتصاد وطنه.

الجهل بعمليات غسل الأموال قد تقود البعض للانخراط فيها؛ لذا يفترض أن تهتم المؤسسات الرسمية والمجتمعية بنشر الثقافة القانونية والمالية، وكشف خطط غاسلي الأموال؛ بما يرفع الغرر عن الجميع. كما أن تعزيز دور النزاهة ومكافحة الفساد يمكن أن يحمي المجتمع من جرائم غسل الأموال.

 نماذج من مؤسسات مدانة بغسل الأموال:

 بلغ مجموع  الغرامات التي حصلتها أمريكا من البنوك المخالفة أكثر من 140 مليار دولار، منها 48 مليار دولار من بنوك أمريكية.

–         ​بنك الاعتماد.

–         حزب الله.

–         ​البنك الكندي اللبناني.

–         «ستي جروب» 7 مليارات دولار.

–         ​مصرف «جي بي مورجان تشايس» 13 مليار دولار.

–         بنك أوف أميركا دفع 9.5 مليار دولار.

–         ​«كريدي سويس» 2.6 مليار دولار.

–         إتش إس بي سي؛ جي بي مورجان تشيس.

 التوصيات:

 تعتبر توصيات مجموعة العمل المالي شاملة وكافية؛ إلا أن هناك بعض الإجراءات التي يمكن أن تسهم في الحد من جرائم غسل الأموال محليًّا، ومنها:

1-   التحوُّل نحو المدفوعات الإلكترونية، والحد من المدفوعات النقدية في القطاعات التجارية.

2-   وقف الشيكات في الإفراغ العقاري؛ واعتماد نظام التحويل المصرفي بين الحسابات.

3-   فرض نظام مسك الدفاتر، والتصريح الدائم عن تنقلات الأموال.

4-   شفافية الملاءة المالية، والربط بين الملاءة وطبيعة العمل.

5-  إعادة هيكلة إدارات الالتزام في المصارف، وجعل رئاستها لمختص مالي وقانوني مرتبط بوزارة الداخلية لا المصرف الذي يعمل فيه.

6-   إقرار نظام من أين لك هذا، وتفعيله؛ ليكون من أدوات المكافحة.

7-   تطبيق نظام إقرار الذمة المالية للمسؤولين.

8-   إنشاء قاعدة بيانات شاملة للمواطنين والمقيمين بما يسهم في كشف تغيرات الملاءة الطارئة.

9-   الإعلان الدوري عن حجم قضايا غسل الأموال لنشر الوعي بمخاطرها.

10-التدقيق العشوائي لعمليات الاستيراد والتصدير، ومقارنتها بالاعتمادات المستندية.

11-أكبر عمليات غسل الأموال تُمارس من قبل محولي الأموال من خارج النظام المالي. ما يستوجب تحديد جهة مسؤولة عن ملاحقتهم؛ ومنع تقاذف المسؤولية بين الجهات ذات العلاقة. المسؤولية حاليًّا مشاعة بين مؤسسة النقد، ووزارة التجارة، والجهات الأمنية.

12-القضاء على التستر. أكثر القطاعات تغذية لاقتصاد الظل؛ وبالتالي عمليات غسل الأموال.

13-تشديد الرقابة على أسواق المجوهرات، ووقف التعاملات النقدية فيها.

14-تثقيف المجتمع بمخاطر جريمة غسل الأموال، وطرقها الخفية.

التعقيب الأول: د. ناصر القعود.

في ضوء ما تناولته الورقة الرئيسة يبدو من المفيد استعراض نشأة الاهتمام الدولي بمكافحة غسل الأموال، ولاحقًا مكافحة تمويل الإرهاب؛ استشعارًا بما يشكله غسل الأموال من مخاطر على النظام المصرفي والمؤسسات المالية، أنشأت قمة مجموعة الدول السبع الكبرى، في اجتماعها الذي عُقد في باريس في يوليو ١٩٨٩م، مجموعة العمل المالي لمكافحة غسل الأموال Financial Action Task Force (FATF)؛ وذلك بهدف وضع الأسس والقواعد اللازمة لمكافحة غسل الأموال، وبالفعل أعدت المجموعة في إبريل ١٩٩٠م تقريرًا تضمن أربعين توصية بالأساليب والأنظمة والوسائل العملية لمكافحة غسل الأموال، اعتُمدت وتم البدء في تنفيذها من قبل الدول الأعضاء . وفي قمة هيوستن لمجموعة الدول السبع الكبرى التي عُقدت في يوليو ١٩٩٠م، قررت الدول الأعضاء في المجموعة توسعة عضويتها لتشمل جميع دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والدول التي تمثل مراكز مالية عالمية، والمنظمات الإقليمية التي تضم في عضويتها دولًا تمثل مراكز مالية مؤثرة، ومنها مجلس التعاون لدول الخليج العربية؛ وذلك بهدف زيادة قبول توصيات مجموعة العمل المالي (فاتف) الأربعين على المستوى الدولي، والالتزام بتنفيذ ما جاء فيها من قبل أكبر عدد من الدول، وأصبح من ذلك التاريخ مجلس التعاون عضوًا عاملًا في المجموعة، وتشارك الأمانة العامة لدول مجلس التعاون في اجتماعات المجموعة، ومعها ممثلون من دول المجلس، وفِي مقدمتهم ممثلو المملكة. ونتيجة لأحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١م، اتفقت الدول الأعضاء في المجموعة على توسيع مهامها لتشمل مكافحة تمويل الإرهاب، وأصدرت تسع توصيات خاصة بذلك، أضيفت إلى التوصيات الأربعين. وفِي بداية هذا العقد أضافت المجموعة إلى مهامها موضوع مكافحة تمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومكافحة الفساد؛ مما أدى إلى مراجعة التوصيات، بحيث تم دمج التوصيات التسع الخاصة بمكافحة تمويل الإرهاب مع التوصيات الأربعين، وتم إضافة توصيات جديدة حول مكافحة تمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتم تعديل بعض التوصيات السابقة، وإعادة صياغتها لتستجيب للمخاطر الجديدة، واعتمدت التوصيات الـ ٤٩ المعدلة في عام ٢٠١٢م. ومقر مجموعة العمل المالي في باريس، وقد زاد أعضاؤها العاملون إلى ٣٧ عضوًا. منها منظمتان، هما: مفوضية الاتحاد الأوربي، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية؛ بالإضافة إلى عضوين مراقبين: أحدهما المملكة العربية السعودية، والتي ستصبح لاحقًا عضوًا عاملًا، مع ملاحظة أنها تشارك في اجتماعات المجموعة ضمن وفد مجلس التعاون منذ عام ١٩٩١م. ومجموعة العمل المالي عبارة عن محفل دولي لوضع التوصيات والسياسات بشأن هذه المواضيع، تمهيدًا لاعتمادها من الدول الأعضاء. ومن مهامها الأساسية إجراء عملية تقييم مشترك لكافة الدول الأعضاء وغير الأعضاء؛ بهدف التحقُّق من التزامها بالمعايير الدولية والتوصيات الصادرة بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وقد خضعت دول مجلس التعاون لعمليات التقييم المشترك خلال الفترة من ٢٠٠١م إلى ٢٠٠٤م، ثم تم تقييمها مرة أخرى بمشاركة مينا فاتف خلال الفترة ٢٠٠٨ – ٢٠١٠م. وفِي عام ٢٠٠٤م أنشئت مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENAFATF)، ومقرها البحرين، ودول مجلس التعاون الست أعضاء مؤسسون فيها، والأمانة العامة لمجلس التعاون عضو مراقب، ومن الأعضاء المراقبين فيها فاتف، والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا. ومينا فاتف إحدى ثماني مجموعات إقليمية على مستوى العالم، وتقوم بدور مشابه ومساند لمجموعة العمل المالي الدولية فيما يتعلق بمتابعة التزام دول المنطقة بالتوصيات الـ ٤٩. ومن الجدير بالذكر أن المملكة وبقية دول المجلس أعضاء في مجموعة ايجمونت لوحدات المعلومات والتحريات المالية، وهي المنظمة الدولية المشكلة من الوحدات المعنية بتلقي وتحليل وتوزيع البلاغات الخاصة بقضايا غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وختامًا يمكن القول بأن مكافحة غسل الأموال بدأت بهدف الحد من آثاره السلبية على النظام المصرفي والمالي، والحد من التهرب من الضرائب، ومكافحة الجرائم والأعمال غير المشروعة، وتضاعف عمل المجموعة بعد تزايد ظاهرة الإرهاب. ومكافحة كلتا الآفتين محل اهتمام منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها، وكذلك محل اهتمام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إضافة إلى فاتف، فضلًا عن جهود الدول منفردة ومجتمعة. وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة للحجم الكلي لغسل الأموال، تقدر عمليات غسل الأموال وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي بما يتراوح بين ٢-٥٪‏ من الناتج الإجمالي العالمي أو ما يقارب ١-٢ ترليون دولار سنويًّا. ويقدر مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات أن ما يُصادر من هذه العمليات لا يتعدى ١٪‏. تعتبر روسيا من أكثر الدول في غسل الأموال، تليها تايلاند، وإندونيسيا، وماليزيا. وتعتبر سويسرا من أكثر الدول استقبالًا للأموال غير الشرعية، تليها موناكو، ولوكسمبورغ، والنمسا، والتشيك، وإسرائيل.

التعقيب الثاني: د. ياسر البلوي.

يتمحور هذا التعقيب حول تساؤل محدد، وهو: لماذا يجب أن نحارب هذه الظاهرة الخطيرة المستجدة في العصر الحالي؟ وسبب التسمية وتفصيله في مراحله الثلاث.

لماذا نحارب غسيل الأموال؟

دائمًا في منطلقاتنا نبحث عن إطارنا المرجعي في القبول والرفض والمشروعية، وعندما يكون دستور هذه البلاد هو الكتاب والسنة فإننا بالتأكيد سنعرض جريمة غسيل المال على هذا الفهم المرجعي، إن تحريم وتجريم هذا السلوك – “غسيل الأموال” – لم يعد يفتقر إلى دليل لوضوح منافاته لقيم الشرع الإسلامي ومبادئه، بل فيه مصادمة للشرع من حيث انتهاك حرمة الضرورات الخمس، حيث تعد عمليات غسل الأموال مخالفة للدين في حلاله  وحرامه، حيث تحليل الحرام وتحريم الحلال لاعتبارات يرونها – دون سند- دينًا أو قانونًا، فضلًا عن كون هذا التصرف ضارًّا بدين المتصرف نفسه، حيث إنه لا يراقب ربه، ولا يخشى غده. وكثيرًا ما تؤدي عمليات غسل الأموال من حيث المصدر إلى قتل النفس التي أمر الله بحفظها، وليس أدل على هذا من أن ظاهرة الإتجار في الأعضاء البشرية قد نمت في الغرب، وقطع الغيار الإنساني متوفرة في مستشفيات الغرب عن طريق العصابات وتجار قطع الغيار البشري. وتضر عمليات غسل الأموال بالعقل؛ لأن منشأها كان الإتجار بالمخدرات، ولا يخفى ما للمخدرات من آثار على العقل. كما أن ضررها على المال العام والخاص لا يخفى على أحد، إن عمليات غسل الأموال قد هزت اقتصاد بعض الدول، كما حدث في جنوب شرق آسيا، كما أغلقت البنوك بسبب هذه العمليات، وأعلنت إفلاسها ـ بنك الاعتماد والتجارة الدولي ـ وكم أعلنت شركات إفلاسها بعد المضاربة في البورصات التي اخترقتها عصابات غسل الأموال!

 سبب التسمية:

للباحثين آراء مختلفة في علة التسمية بـ”غسل الأموال” إلا أن جمهور الباحثين يرون أن مرد التسمية يرجع للآتي “حينما لاحظ رجال مكافحة المخدرات أن تجار المخدرات الذين يبيعون للمدمنين بالتجزئة يتجمع لديهم في نهاية كل يوم فئات صغيرة من النقود الورقية والمعدنية، وعادة ما يتجهون إلى المغاسل الموجودة بالقرب من كل مجمع سكني لاستبدال النقود الصغيرة الفئات بنقود من فئات كبيرة؛ ليقوموا بعد ذلك بإيداعها في البنك القريب من أماكن تواجدهم.

ونظرًا لأن فئات النقد الصغيرة عادة ما تكون ملوثة بآثار المخدرات التي ربما تكون عالقة في أيدي تجار التجزئة – فقد حرصت المغاسل على غسيل النقود الملوثة بالبخار أو الكيماويات قبل إيداعها في البنوك التي توجد بها حساباتهم، ومن هنا جاء الربط بين تجار المخدرات وغسيل الأموال؛ باعتبار أن نشاط الإتجار غير المشروع في المخدرات يمثل حوالي 70% من الأموال غير المشروعة الناتجة عن الجريمة المنظمة على مستوى العالم”.

ويرى آخرون أن التسمية ترجع لأسباب أخرى، وأن أول مرة عُرف فيها مصطلح غسيل الأموال كان في عام 1350هـ – 1931م، عند محاكمة (ألفونس كابوني) الشهير بآل كابوني.

ويصفُ هذا المصطلحُ واحدًا من أهم الأطوار التي تمر بها الأموال التي تحصلها عصابات المافيا لجعلها تبدو مشروعة، والتي تأتي أساسًا من أعمال الابتزاز، والسرقة، والدعارة، والقمار، علاوة على تهريب المخدرات…. ويعتبر القيام بأعمال مشروعة ثم خلط عائدها من الأموال بالعائد من الأعمال غير المشروعة إحدى الطرق التي كانت المافيا قادرة على اتباعها لفترة طويلة من الزمن.

أما مفهوم :”غسيل الأموال” كمصطلح فيعتبر مفهومًا جديدًا، وترجع أصول اقتباسه – كما يقول (ستيل)- إلى جريدة خلال تقرير عن فضيحة (واترجيت) في الولايات المتحدة عام 1393هـ – 1973م، وأول مرة ظهر فيها المصطلح في الإطار القضائي والنظامي كان في عام 1402هـ – 1982م، ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا المفهوم مقبولًا، وانتشر استخدامه في العالم كله.

ويقول البعض: إن كلمة غسيل الأموال ظهرت في ولاية شيكاغو، حيث اشترى رجال الأعمال التابعون لعصابات (المافيا) مؤسسات الغسيل، والتي تتم معاملاتها بفئات مالية بسيطة، وكان المشرفون عليها يضيفون إلى أرباح مؤسسات الغسل بعض أرباح تجارة المخدرات؛ ليتم تنظيمها دون أن يرتاب أحد في مجموع المبالغ المتحصلة.

وقد استُعمل التعبير غسيل الأموال في إطار قانوني في إحدى القضايا في الولايات المتحدة 1982م.

بدأت عملية غسل الأموال بتجارة المخدرات على الراجح؛ نظرًا لما تدره التجارة فيها من كسب فائق الوصف والتوقع، إلا أن مجالات الكسب ومصادر التحصيل قد نمت بنمو الزمن، وتناسبت تناسبًا طرديًا مع الزمن.

 جرائم غسل الأموال جرائم مركبة:

تعتبر عملية غسل الأموال المحرمة، وتبييضها بالصورة غير المشروعة التي بيناها عدة جرائم مركبة لا جريمة واحدة، فهي أولًا أموال محرمة لا يصح تملكها أو اكتسابها، وهى ثانيًا تتحول بإجراءات معينة في الظاهر إلى أموال مشروعة ظاهرًا، والحقيقة أنها غير مشروعة، وهى ثالثًا محاولة للتهرب من القانون والمسئولية عن كسب هذه الأموال وحيازتها، وهى رابعًا كذب وغش وخداع للناس، ويترتب على هذه الجرائم المركبة آثار ضارة على المجتمع والاقتصاد؛ مما حدا بالمسئولين والخبراء إلى بيان هذه الخطورة وحجمها، وسن القوانين والعقوبات المناسبة لمكافحتها.

 مراحل غسيل الأموال:

ثلاث، هي:

1 – التوظيف أو الإيداع.

يتم إدخال الأموال القذرة التي تم تحصيلها من جرائم الإتجار بالمخدرات، أو بالسلاح، أو بالرقيق الأبيض، أو بالأعضاء البشرية، أو من أي صورة من صور الجريمة الدولية المنظمة، إلى الجهاز المصرفي دون لفت الأنظار، ثم بعد فترة يتم نقل هذه الأموال إلى الخارج بأية صورة من صور التحويل المصرفي .

2 – التعتيم أو التمويه.

وهي تعتمد على إخفاء علاقة الأموال القذرة بعد دخولها في النظام المصرفي عن مصادرها غير المشروعة عن طريق القيام بالعديد من العمليات المالية المتتالية، الكبيرة الحجم، مخلوطة أو ممزوجة بعمليات مالية قانونية ومشروعة مماثلة. ومن الأساليب المستخدمة في هذه المرحلة، التحويلات المالية الإلكترونية بين البنوك أو المؤسسات المالية غير التقليدية، وتعتبر التحويلات التلكسية أهم أسلوب في مرحلة التغطية.

3 – التكامل أو الاندماج.

وهي المرحلة الأخيرة من مراحل غسل المال الحرام، تهدف إلى دمج المال الحرام في الاقتصاد الوطني لدولة صاحبه، وجعله يبدو كالمال الحلال المشروع، حيث يظهر على أنه أرباح مشروعة من أعمال تجارية، يهنأ به صاحبه دون ملاحقة أو مساءلة من أحد عن مصدره، وفقًا لمبدأ إسلامي وتشريع كريم يطرحه السؤال من أين لك هذا؟

ولا شك أن هذه المراحل جميعًا تقع ضمن ما يُطلق عليه الجريمة المنظمة، والتي من خصائصها الهامة التخطيط والاحتراف، وأنها معقدة في إجراءاتها، ولها القدرة على التوظيف والابتزاز.

بلاغات عن غسيل الأموال بالمملكة :

هذا النشاط يعمل في سرية تامة، والكشف عن الرؤوس المدبرة غاية في الصعوبة، وإذا كانت بعض المنظمات مجهولة فإن الآثار السلبية لأنشطتها واضحة للعيان.

إن الإحصاءات المتعلقة بعمليات الغسل والمبالغ التي يتم الغسل فيها تتجاوز المتوقع، وإنَّ التقارير الدولية لتؤكد أن نسبة ليست قليلة من الاقتصاد العالمي تجرى فيها عملية الغسل.

عدد البلاغات عن عمليات اشتباه غسل أموال في المملكة العربية السعودية خلال الفترة (2009م- 2012م) سنوات مختارة. إجمالي عدد البلاغات: بدأت عام 2009م 15619 بلاغًًا، ثم عام 2010 م إلى 13243 بلاغًا، ثم عام 2011م إلى 19863 بلاغًا، ثم وصلت عام 2012م إلى 24616 بلاغًًا.

الجرائم على الصعيد الدولي :

ويقدر حجم جريمة غسل الأموال التي تمر عبر بنوك العالم وأجهزته المصرفية بنحو 3 تريليون يورو سنويًا، أي ما يُقدر بنحو 5% من إجمالي الناتج العالمي، وطبقًا للتقديرات التي ساقها البنك الدولي، فقد ارتفع حجم غسيل الأموال إلى 283 مليار دولار في الولايات المتحدة، و55 مليار دولار في إيطاليا، و24.6 مليار في ألمانيا، و24.2 مليار في اليابان، و23.3 مليار دولار في كندا، و22 مليار دولار في فرنسا، وحذر من خطورة مواقع الإنترنت التي تعلن أرقامًا غير دقيقة عن الظاهرة (88)، ومن هذه الأقوال وأمثالها كثير يتبين أننا أمام جريمة كبرى تتألف من عدة جرائـــم لا تهدد الأمن المحلى لأي بلد فقــط ، بل تهدد الأمن الإقليمي والعالمي في عنصريه الحيويين: الاقتصاد، والاجتماع .

في الختام:

يقتضي الأمر في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة تعاون وتنسيق دولي، وسن للأنظمة والتشريعات والوسائل الرقابية، بعضها يدخل في باب الوقاية، والآخر من قبيل العلاج. أملًا في تجفيف منابع هذه المشكلة العالمية .

المداخلات حول القضية:

  • غسل الأموال: الواقع والإشكالات ذات العلاقة.

أشارت د. نوف الغامدي إلى أن قضية غسيل الأموال لها تأثيرات مفصلية على الاقتصاد، فحتى عام 2016 كان عدد حالات غسيل الأموال المعلن عنها 461 حاله في 12 منطقه على مستوى المملكة …

وجريمة غسل الأموال من أشد الجرائم خطرًا على الأمن بشكلٍ عام، والأمن الاقتصادي بشكلٍ خاص؛ لأنها من الجرائم المنظَّمة، التي تُعتبر ذات أهداف بعيدة المدى، سواء كان ذلك بقيادة عصابات أو منظمات دولية، تهدف إلى الإطاحة باقتصاد بلد ما، أو من أشخاص وبتصرف فردي، لا يعون خطورة الأمر، ومدى أبعاده الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية على البلد؛ وما دفعهم لذلك هو حب المال والثراء السريع بطرق غير شرعية أو نظامية، دون علم منهم بأن هذه الآفة تنخر اقتصاد البلد.

ومن الآثار السلبية لغسل الأموال على الاقتصاد المحلي، أنها تؤثر على سلوكيات المستهلك والمنتج، حيث تؤدي عمليات غسل الأموال إلى رفع معدلات التضخم، وذلك بسبب السلوك الاستهلاكي المرتبط بغسل الأموال؛ بهدف إدخالها في النظام المصرفي، وتذبذب عرض النقود في الاقتصاد.

وأوضح أ. فضل البوعينين حول واقع غسيل الأموال في السعودية في ظل الممارسات الحكومية التي تهدف للحد من هذه الجريمة، أن ملف غسل الأموال يفوق بكثير التصور العام. والإجراءات المتخذة للحد منه. فالتعامل مع القضية تتجاوز التشريعات والأنظمة إلى الممارسة الفعلية والكفاءة في كشف تلك القضايا الخطرة. وتجدر الإشارة إلى أن ما يضبط لا يتجاوز 10 في المائة من مجمل الأموال المغسولة. قد يتساءل البعض عن المرجع، والواقع أننا لا نملك من المعلومات حول هذا الملف إلا الفتات. وعمليات غسل الأموال في القطاعين العقاري والمجوهرات الثمينة لما يظهر منهما ولا رأس جبل الجليد بعد. ومن ناحية أخرى فإن التعاملات الإلكترونية قادرة على الحد بشكل كبير من عمليات غسل الأموال الحالية. كما أن الفساد الحكومي جزء مهم من منابع غسل الأموال. بل إن وزارة العدل طالتها عمليات منظمة لغسل الأموال. (كتابات العدل)، وهذا مؤشر خطير، ويكشف واقع مكافحة الجريمة المالية.

وحول غسل الأموال في القطاع العقاري، فإن المنخرطين فيه سيعمدون لتضخيم قيمة الصفقات العقارية لغسل كميات أكبر من الأموال؛ وهذا يؤدي إلى تغذية التضخم لا في العقار فحسب ولكن في القطاعات الاقتصادية بشكل عام. وعدوى تضخيم الأسعار في قضايا غسل الأموال ستمتد للصفقات العقارية النزيهة، وربما تسببت في إعطاء العقارات قيمة تفوق بكثير قيمها العادلة، وبالتالي قد تتأثر السوق بشكل كلي لأي هزة مستقبلية ناتجة عن تضخم الأسعار، وتشكل الفقاعة. السؤال الأهم: هل يمكن القول: إن تضخم العقار ناتج عن المضاربات المشبوهة؟ قطعا، لا. بل هي نتاج لمؤثرات مختلفة قد يكون غسل الأموال منها. وهناك عمليات تداول لمساهمات عقارية تختلط فيها المعاملات النزيهة بالمعاملات المحرمة، وهذا ملف يجب فتحه.

وردًا على تساؤل أ. عبد الرزاق الفيفي، ومؤداه: هل من الممكن أن تكون حملات الحج والعمرة وبالذات (الإيرانية) أداة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب؟ وهل لموضوع (الخُمس) لدى الطائفة الشيعية أشكال وصور ممكن تستغل لغسل الأموال وتمويل الإرهاب؟  أشار أ. فضل البوعينين إلى أن موسمي الحج والعمرة من أهم مواسم غسل الأموال للأفراد والأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية. وفِي الغالب ترتبط جريمة غسل الأموال بالإرهاب. حجاج إيران مثال على ذلك. فالمعروف أن النظام الإيراني يستخدم موسمي الحج والعمرة كغطاء لأهداف إرهابية وتخريبية، وجسر يربط عملاء الداخل بالخارج. ويُستثني الحجاج الحقيقيون البعيدون عن هذا الأمر، والذين تستخدمهم إيران للتغطية على أعضاء الحرس الثوري الذين يُعتقد أنهم يشكلون الكم الأكبر من الحجاج الإيرانيين. ويُعتقد أن النظام الإيراني يستغل الحجاج كجسر لتمرير الأموال، ونقلها نقدًا. أما في تمويل الإرهاب من إيران إلى عملاء الداخل أو نقل أموال التمويل، ومنها الخُمس نقدًا بتوزيعها على الجميع، والعودة بها إلى إيران، مستغلين النظام الذي يسمح بنقل ما يقل عن عشرة آلاف دولار.

أما فيما يخص موضوع (الخُمس) لدى الطائفة الشيعية واستغلالها في غسل الأموال وتمويل الإرهاب،  يمكن التوضيح أن الخُمس الذي يجمع في السعودية من الطائفة الشيعية لا يتم توزيعه على مستحقيه من الفقراء والمساكين. بل يُستغل جزء مهم منه لتمويل عمليات إرهابية في الخليج، وتمويل جماعات الإرهاب في الخارج. ويتم نقله بطرق مختلفة، إما نقدا من خلال الزيارات والحج، وإما بالتقاص التجاري من خلال اعتمادات مستندية صورية، وإما بحوالات مالية ضمن اتفاقيات خاصة تسمح بنقل جزء من الخمس للمرجعية؛ لذا فإن وضع قيود على الخُمس وضبطه، وتوزيعه على فقراء الداخل أسوة بالقيود الموضوعة على الجمعيات الخيرية السنية أمر مهم. وهذا الملف لما يُغلق بعد. وللأسف هناك تحفظ كبير في تناوله.

وأوجز د. ياسر البلوي عقوبة غسيل الأموال  فيما يلي:

–         السجن بما لا يزيد عن ١٠ سنوات، وغرامة ٥ ملايين.

–         المنع من السفر بعد الخروج من السجن إلا بإذن من وزير الداخلية.

–         مصادرة الأموال والمتحصلات والوسائط محل الجريمة.

–    إذا اختلطت الأموال والمتحصلات بأموال اكتسبت من مصادر مشروعة، فيُحكم على هذه الأموال بالمصادرة في حدود ما يعادل القيمة المقدرة للمتحصلات غير المشروعة.

–    السجن بما لا يزيد عن خمس عشرة سنة وغرامة مالية لا تزيد عن سبعة ملايين ريال إذا اقترنت جريمة غسل الأموال بارتكاب الجاني الجريمة من خلال عصابة منظمة، أو شغل الجاني لوظيفة عامة تتصل الجريمة بهذه الوظيفة، أو ارتكابه الجريمة مستغلًا سلطاته أو نفوذه، أو ارتكاب الجريمة من خلال مؤسسة إصلاحية أو خيرية أو تعليمية أو في مرفق خدمة اجتماعية، وصدور أحكام محلية أو أجنبية سابقة بالإدانة بحق الجاني، وبوجه خاص في جرائم مماثلة.

وذكر د. حاتم المرزوقي أن نظام مكافحة غسل الأموال صدر بمرسوم ملكي عام 1433هـ بناءً على قرار مجلس الشورى، والمملكة عضو في مجموعة الفاتف، وتحتل مركزًا متقدمًا فيه، وعضو في مجموعة المينا فاتف، وتحتل المركز الأول، وهي أيضًا عضو في مجموعة وحدات التحري، ومعظم دول العالم تتعامل في منظوماتها التشريعية مع جرائم تمويل الإرهاب بإجراءات غسيل الأموال، الفرق بين الجريمتين أن غسيل الأموال تكون فيه المصادر غير مشروعة، بينما في جرائم تمويل الإرهاب (قد) تكون فيه الأموال مشروعة.

ولفت انتباه د. خالد الرديعان ما تتضمنه قضية التستر في المملكة، والتي تأخذ عدة صور؛ فهي – كما تم الإشارة في الورقة الرئيسة – سبب شائع ومتيسر لغسل الأموال، وخاصة من جانب الوافد الذي يتستر عليه سعودي، تنتفي عنده أدنى درجات الشعور بالمسؤولية تجاه وطنه واقتصاد مجتمعه. ومن صور غسل الأموال التي قد تتم بسبب التستر هو محلات التجزئة التي تديرها عمالة وافدة؛ حيث يودع أصحابها مبالغ كبيرة في البنوك بهدف تبييض هذه الأموال التي ليست كلها من تجارة التجزئة. بعض العمالة الوافدة تلجأ إلى تاجر من ذات الجنسية ليقوم بعملية إيداع أموال لهم كسبوها بطرق غير مشروعة، وربما تحويل تلك الأموال إلى بلدان أخرى؛ مما يعد بحق جريمة مزدوجة: جريمة كسب مال غير مشروع، وجريمة في استنزاف الاقتصاد الوطني. ولا نستبعد تمويل عمليات إرهابية، أو تحويل مبالغ لأشخاص بعيدين يعملون ضد المملكة.

وتطرقت د. نوف الغامدي إلى أن غسل الأموال عبر الإنترنت من الجرائم التي تحارب دوليًا؛ كونها تستقطع من الدخل القومي الخام للعالم، ما يزيد عن الـ 15 بالمئة، ماذا عن الطرق الشائعة التي تتزايد من غسل الأموال، مثل استخدام الألعاب عبر الإنترنت؟ فعلى سبيل المثال: هناك عدد متزايد من ألعاب الإنترنت من الممكن أن تكون أيقونة لتحويل المال في الخدمات أو السلع الافتراضية النقدية التي يمكن تحويلها في وقت لاحق، وأيضًا هناك رسائل لمحتاجي الأموال، مثل “شخص ما يطلب مساعدتك لنقل المال، ونحن على استعداد للدفع جيدًا مقابل خدماتك”، وفي حال الموافقة يطلبون معرفة التفاصيل المصرفية الخاصة بالضحية، والتي يستخدمونها على وجه السرعة لتفريغ حسابها، ثم تختفي سريعًًا هذه الرسالة وهؤلاء الأشخاص. وهناك احتيال آخر وهو تقديم بعض المؤسسات للناس فرص عمل وزيادة الدخل من العمل داخل المنزل، والمهمة تنطوي على اختيار أشخاص معينين، ومعرفة حساباتهم لإيهامهم بتحول راتبهم الشهري إلى حساباتهم، ومن ثم تمرير هذه الأموال إلى حسابات أنشأها صاحب العمل.

وفي هذا الإطار أيضًا أوضح أ. فضل البوعينين أنه مع تطور التقنية وتناقلات الأموال عن طريق النت، إضافة إلى التجارة الإلكترونية أصبح خطر غسل الأموال أكبر وأكثر تعقيدًا. وهذا من التحديات التي تواجهها الجهات الرقابية في العالم. والتجارة الإلكترونية للبرمجيات الجديدة سوق رائجة لغسل الأموال، والسيطرة عليها مستحيلة، وتتبعها أكثر استحالة. كما أن حجم مبيعات ألعاب الكمبيوتر حول العالم مهولة. لو قاس أي أحد منا ما ينفقه على أبنائه في هذا الجانب فسيكتشف حجم السوق. ولعل أكبر الشركات العالمية هي شركات تقنية متخصصة في البرمجيات وألعاب الكمبيوتر.

وكل ماله قيمة يمكن استخدامه في غسل الأموال. فالأموال الإلكترونية المرتبطة بالبرمجيات والمنتشرة في الأسواق يمكن أن تُستغل في هذا الجانب. الـ بيتكوين الرقمية يمكن أيضًا استغلالها، وهي خطرة بحد ذاتها، بعيدًا عما يتعلق بإمكانية استخدامها في عمليات غسل أموال.

من أخطر عمليات الاحتيال وغسيل الأموال تلك التي تتم من خلال اختراق الحسابات المصرفية؛ حيث يتم الاتفاق بين المحتال وفريسته على أن يحول له أموال من داخل السعودية، ويشترط عليه تحويل جزء منها للخارج، فيطمئن الفريسة ويفتح حساب جديد ليحمي نفسه من سرقة أمواله، ممنيًا النفس بغنيمة باردة أو إغلاق الحساب، يقوم المحتال بتحويل المال من الحساب المخترق إلى حساب الفريسة، ويطالبه بالتحويل مع إغرائهم بصفقات قادمة. يتم التحويل فتكون الأموال المحولة نقية لخروجها من السعودية. غير أن صاحب الحساب المخترق سيتقدم بشكوى، وبعد التدقيق سيعرف الحساب المتلقي للأموال المسروقة فيتم القبض على صاحب الحساب بجريمة السرقة، واختراق الحساب، وينجو المحتال في الخارج.

وفيما يتعلق بالمكاتب العقارية وعلاقتها بغسل الأموال فقد أصبح هناك نظام تقني لتسجيل جميع عمليات عقود الإيجارات إلكترونيًّا، وهو من معايير استمرارية المكتب. وهذا بالإضافة إلى حفظ الحقوق؛ والتعرف على هوية المستأجرين إلكترونيًّا، إلا أنه يعزز جانب الشفافية المالية العدو الأول لجرائم غسل الأموال.

أما ما يتعلق ببيع العقارات فالتنظيم الحالي لا يَضمن الحماية التامة من غسل الأموال. بل يعتقد أن بعض المكاتب العقارية مارست دورًا حيويًا في تمويل الإرهاب محليًّا وخارجيًّا. وكانت سندًا لجماعات الإرهاب القاعدية والداعشية، الأمر عينه ينطبق على أموال حزب الله المستثمرة محليًّا، والتي يعتقد أن كثيرًا من الأنشطة العقارية في المدينة المنورة والمنطقة الشرقية ما هي إلا جزء من منظومة الحزب التجارية محليًّا.

و هناك أيضا ما يُطلق عليه مصرفية الظل. وهي مزدهرة في الصين ،وأميركا، وبعض دول أوروبا. ومثلما يتم توزيع أعباء بوليصة التأمين على مجموعة من المستثمرين، وبطريقة تفتقر في بعضها النظامية، يحدث هذا في مصرفية الظل، حيث تتم عمليات تمويلية ضخمة من خارج النظام المالي، وتكون مسرحًا لعمليات غسل أموال منظمة.

وحول شركات الأوف شور، وكيف تكون إحدى طرق غسيل الأموال، فإن تلك الشركات تكون في الغالب خارج دائرة الرقابة، أو الرقابة عليها ضعيفة. وهذا محفز لتسويقها، وجذب الأموال لتلك المناطق. وتكثر عمليات غسل الأموال في تلك المناطق الحرة، وتكثر تسجيل الشركات فيها.

في الآونة الأخيرة أصبح الأخطبوط الأمريكي قادرًا على الوصول إليها متى رغب، ولكن التغاضي عن تلك الجرائم هو الدارج حاليًّا. وكل ما يقال عن توزيع الثروة، وتحقيق العدالة والتنمية لا يعدو أن يكون شعارات براقة في جميع دول العالم. وبرامج الأمم المتحدة الإغاثية أكثر البرامج الحاضنة للفساد الإداري. يقال إن النسبة الأكبر من المساعدات لا تصل مستحقيها بل تذهب للفاسدين من العاملين عليها أو نافذي الدول المتلقية، أما الدول الضعيفة مالية فتنشط في إيجاد مناطق حرة لتكون من أدوات التنمية الاقتصادية. والمشكلات التي تأتي لأسباب الجرائم المالية باتت تؤثر سلبًا على الدول الحاضنة.

وعقبت د. نوف الغامدي بأن سوق الفوركس قد يُستخدم في تمويل الإرهاب وغسيل الأموال بشكل عام؛ مما يؤدى إلى هدم اقتصاد دول كاملة، وليست أي دول بل دول تتحكم في اقتصاد العالم، وله أفق أوسع بكثير ونظرة أشمل؛ لأنه يتابع من كثب كل كبيرة وصغيرة؛ مما يؤثر على العملة من ارتفاع وانخفاض.

وأكد أ. فضل البوعينين أنه أصبح هناك مؤشرات لتناقل الأموال وتركزها في جهة محددة. ففي السعودية تم الكشف عن عمليات غسل أموال في دبي؛ انطلاقًا من مؤشرات داخل السعودية. إضافة إلى الرقابة الإلكترونية التي تقوم بها كمبيوترات عملاقة قادرة على تتبع تنقلات الأموال بدقة، بغض النظر عن تشعبها في أكثر من دولة، ولكن تبقى النتائج عرضة للنسبية.

وحقيقة لا ترقى العمليات المضبوطة إلى ما نسبته 15% خاصة مع ازدهار هذه الجريمة وتنظيم شبكاتها، ودخول مصرفيين وقانونيين ومسؤولين فيها؛ ما يجعلها أكثر تعقيدًا. والأسواق المالية – ومنها سوق الفوركس- من أكثر المواقع جذبًا لغاسلي الأموال، الذين يجدون فيها بيئة رحبة وآمنة لممارسة جرائمهم، كما أن الفوريكس على النت المنتشر حاليًّا من أخطر مصائد غسل الأموال.

وأوضحت د. نوف الغامدي أن البتكوين هي عبارة عن عملة افتراضية «غير مادية»، يمكن مقارنتها بالعملات الرئيسة الأخرى، مثل: الدولار، أو اليورو، لكن مع عدة فوارق أساسية، أبرزها: أنها تعتبر عملة إلكترونية بشكل كامل يتم تداولها عبر الإنترنت فقط. وتعمل البتكوين وفقًا لمنظومة أرقام خاصة، تعتمد على تشفير البيانات المالية للمستخدمين، بحيث يتم التحويل المادي عبرها دون المرور على أي آلية من آليات الرقابة المالية المعروفة التقليدية، معتمدةً في عملها على مبدأ يُعرف باسم Peer-to-peer، أو «من نظير إلى نظير»، بمعنى أن تتم العملية مباشرة بين شخصين، دون وجود وسيط ثالث بينهما. وفي عام 2007 بدأ أحد المبرمجين اليابانيين بالعمل على عملة البتكوين الافتراضية باسم مستعار وهو ساتوشي ناكاموتو، وفي عام 2009 تم إطلاق هذه العملة بشكل رسمي.

الدولة التي اعترفت بها ألمانيا، وركبت شركة “روبوكوين” ومقرها لاس فيجاس أول جهاز صراف آلي ATM في العالم لعملة البتكوين في مدينة فانكوفر الكندية، لتصبح كندا هي أول دولة تحتضن مثل هذا الجهاز. ولا يزال التداول بالبتكوين ينتشر ببطء، إلا أنها موجودة بقوة في دبي، وبعض دول الخليج العربي، حيث تعتمدها العديد من المحال التجارية والمطاعم والمؤسسات، وأولها مطعم بيتزا The Pizza Guys في دبي.

وذكر م. خالد العثمان أن غسل الأموال ببساطة هو نموذج سطوة وطغيان الجشع الفردي والمصلحة الذاتية على كل ما سواه، بعيدًا عن المصالح العامة والوطنية..  لذلك فإن هذه الجريمة تتطلب بحق جهودًا مضاعفة في محاصرتها، وملاحقة مرتكبيها والتشهير بهم، والتعامل مع مرتكبيها وفق معايير الخيانة العظمى، وليس المعايير الجنائية التقليدية. والمشكلة أن هذه الجريمة ترتبط ارتباطًا طرديًّا بمقدار السلطة والنفوذ لدى مرتكبيها؛  وبالتالي فإن كبار المجرمين هم في الحقيقة الأبعد عن الملاحقة، والأكثر تحصنًا وراء أسوار منيعة من السلطة والنفوذ والحماية والحصانة، وغير ذلك.

وحول صناعة التأمين ومدى كونها تعد إحدى قنوات غسيل الأموال، ذكرت د. نوف الغامدي أن ضخامة حجم صناعة التأمين (4 تريليون دولار حجم سوق التأمين في العالم )، وتنوع منتجات التأمين وهيكل أو تركيبة النشاط التأميني، وقد يتعدى نطاق التأمين في بعض الحالات حدود الدول الواحدة (إعادة التأمين والتأمين البحري)، ويتم توزيع منتجات التأمين عادة من خلال وسطاء لا يخضعون لرقابة أو إشراف الشركة التي يقومون بتوزيع منتجاتها، وخصوصًا في ظل المنافسة الشرسة بين شركات التأمين والتكالب على ضم وثائق تأمين لعملاء جدد، علاوة على أن بوليصة الأموال القذرة تكون كبيرة، وبالتالي تكون العمولة ضخمة، بحيث تجعل وسيط التأمين يتغاضى عن التحقق والتدقيق، وكذلك الحال عند شركة التأمين.

ومن الجوانب المهمة ما يتعلق بالاستثمار الخارجي؛ حيث تعمل جميع دول العالم على جَذْب رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية إليها، وتشجيع تدفُّق الاستثمار إلى أراضيها، وفي الوقت ذاته تعطيها المزايا والضمانات، مثل قوانين سرية الحسابات؛ كي تستقر في البلد المضيف، ولكنها في المقابل تخاف على سمعتها المالية من تهمة غسيل الأموال، وبالتالي فهي تشدد الرقابة على المؤسسات المالية، وتلزمها باتباع قواعد معينة؛ لوقاية النظام المالي، وعدم تعرُّضه لعمليات غسيل الأموال. وتواجه معظم دول العالم اليوم مشكلة التوفيق بين مقتضيات الصالح العالم والنزاهة، ومقتضيات الرغبة في جذب الأموال المحلية والأجنبية للاستثمار داخل أراضيها.

وذكر أ. مسفر الموسى أنه وفي بعض الثقافات المحلية يوجد ما يُسمَّى بعانية الزواج وله مرادفات كثيرة؛ وهذا السلوك في أصله لمساعدة المتزوجين. في الآونة الأخيرة، لوحظ وجود بعض المبالغات في هذه المساعدات، خصوصًا من زملاء العريس. كما لوحظ تجاوز هذا النمط لمناسبات الزواج إلى مناسبات احتفالية أخرى، يقيمها مجموعة للاحتفاء بأحدهم. وهذه الحالة التي قد يصل فيها حجم الهدايا إلى مبالغ خيالية، قد تكون نتاج ثقافة المباهاة التي انتشرت مؤخرًا، وقد تكون استغلالًا للثقافات الشعبية لغسيل الأموال.

ومن جانبه تساءل د. مساعد المحيا: هل هناك غسيل أموال مشروع؟ ولماذا كل صور الغسيل غير مشروعة؟ بمعنى: هل الأمر يرتبط بالغاية والهدف أم هناك تعميم لها؟ مثلًا: لو أن امرأة أرملة ليس لديها حساب، وحولت ١٠٠٠ ريال لزميل ليعطيها المبلغ، هل يعد هذا غسيلًا غير مشروع؟ وهل إيصال مبلغ مالي لشخص ليوصله لمؤسسة رسمية إغاثية تعمل تحت ضوء الشمس؛ لتقوم ببناء مسجد أو مدرسة أو حفر بئر ماء يُعدُّ غسيلًا مشروعًا؟. كذلك هناك صور غسيل تُمارس عبر فساد إداري ومالي، كيف يمكن ضبطها؟ مثلًا يتحدث الناس عن أن عددًا من المسؤولين حين يدخل في صفقة فساد يطلب من الجهة التي قدم لها خدمة أن تدخل نصيبه في حساب فلان أو فلانة، وقد لا يكونون من أقاربه. أيضًا فإن عددًا من ممارسي غسيل الأموال يمتلكون تجارات تجزئة، ويستخدمونها أسلوبًا مشروعًا لإيداع الأموال، هل يمكن ضبط هؤلاء؟ وكيف? وأخيرًا هناك حسابات في بعض الجزر، ويتحدث البعض عن أن أموالًا تُضخ لها بوصفها خارج المساءلة أو المنظومة الاقتصادية، هل هناك رَصْد للأموال التي تخرج لمثل هذه البنوك؟

وحول هذه التساؤلات المبينة أشار أ. فضل البوعينين إلى النقاط التالية:

1-  مكافحة غسل الأموال تأتي في الغالب من جهات رقابية داخلية وخارجية. ففي البنوك يعتبر موظف فتح الحسابات والصرافين خط الدفاع الأول، ثم التقنية الرقابية، ثم إدارة الالتزام في البنك، ثم جهات رقابية خارجية، ومنها التحريات المالية في الداخلية. القيود المحاسبية غاية في الأهمية لتتبع الأموال والصفقات والأصول وكشف طبيعتها. وكم من المخاطر تم كشفها من قبل مدققين خارجيين!

2-  “مصطلح غسيل الأموال” مرتبط بعمل يجرّمه الشرع والقانون. وبالتالي لا غسيل مشروع للأموال وفق التعريف الرسمي. وما أشار له د. مساعد في مثاله مرتبط بتقديم خدمة وليس غَسْل أموال؛ لأن الألف ريال مصدرها نظيف وهدفها مشروع. ولكن لو أن الألف التي مصدرها نظيف دُفعت لمَنْ يستغلها في التخريب – على سبيل المثال- لأصبحت تمويلَ إرهاب.

3-  وفيما يتصل بالتساؤل: هل إيصال مبلغ مالي لشخص ليوصله لمؤسسة رسمية إغاثية تعمل تحت ضوء الشمس لتقوم ببناء مسجد أو مدرسة، أو حفر بئر ماء يعدُّ غسيلًا مشروعًا؟ يمكن التوضيح بأن كل مؤسسة خيرية مصرح لها بالعمل في السعودية يمكن دفع المال لحسابها وليس نقدا؛ والمخاطر مرتبطة بدفع أموال لمؤسسات خارجية نقدا لأهداف إنسانية أو دينية. غالبية المشكلات التي تعرضت لها المملكة كانت بسبب أخطاء بعض المجتهدين في الخارج ممَّن صُنِّفوا ضمن ممولي الإرهاب.

4-  الفساد المالي والإداري من مصادر الأموال القذرة؛ لذا يجب مكافحته في مهده. هيئة مكافحة الفساد، والرقابة العامة، والرقابة الداخلية، والحكومة مسؤولون عن ذلك. ما يصدر عن تلك الممارسات من أموال قذرة تتحول إلى قناة غسل الأموال، إما بإدخالها النظام المصرفي أو تحويلها إلى أصول. وهنا تبدأ مكافحة غسل الأموال من خلال الجهات التي تم الإشارة إليها سابقًا؛ مثلًا: يتحدث الناس عن أن عددًا من المسؤولين حين يدخل في صفقة فساد يطلب من الجهة التي قدَّم لها خدمة أن تدخل نصيبه في حساب فلان أو فلانة، وقد لا يكونون من أقاربه؛ وإدخال هذا المال من الجهة المنفذة ينتج عنه جريمتان:

‌أ-       فساد (رشوة).

‌ب-غسل أموال؛ لأنهم تولوا إدخال الأموال إلى البنك تحت غطاء الشركة أو الجهة المعنية.

5-  بالنسبة لكون عدد من ممارسي غسيل الأموال يمتلكون تجارات تجزئة، ويستخدمونها أسلوبًا مشروعًا لإيداع الأموال، وهل يمكن ضبط هؤلاء؟ وكيف? فإن الإجابة: بنعم؛ فالتعاملات الإلكترونية، والربط بين حجم النشاط ومجمل الأموال المودعة، وضبط الدفاتر وفق قاعدة بيانات توضح المبيعات والمخزون والمشتريات بدقة، والتدقيق المفاجئ، إضافة إلى تتبُّع الحسابات المصرفية ودورة الأموال فيها يُمكن أن يكشفها بسهولة.

6-  لم يعد هناك حساب خارج المنظومة. جميع المصارف والدول تلتزم الإفصاح والمساءلة. وهذا لا يمنع وجود دول متواطئة في توفير البيئة الحاضنة للمجرمين، ومنها: روسيا، ودوّل أميركا الجنوبية، ولبنان، وغيرها من الدول.

ومن جديد أشار د. مساعد المحيا إلى أنه يرى أن عددًا من صور الغسيل غير المشروعة تدور وفق المصالح الغربية؛ فهم يمنحونها المشروعية حينما يرون ذلك لمصلحتهم . فهل يعقل أن تظل داعش مسيطرة على كميات من النفط، وبعض الثروات، والمعادن، وتبيعها في الأسواق العالمية دون أن تكون قد وجدت ضوءًا أخضر في ذلك؟ وكيف يمكن لعدد من التنظيمات، بل كل التنظيمات في سوريا، والعراق، واليمن، كيف يمكن لها أن تحصل على الأموال، وتحصل على الأسلحة دون أغطية تمنحها إمكانية العبور والمرور؟! وما يقلق هو كيف نتوقف عن دعم كثير من الجمعيات والمدارس والمؤسسات الإغاثية في العالم، وهي مؤسسات رسمية تحارب التطرُّف، وتقوم بجهود في تعليم كتاب الله- عز وجلَّ- ونشر دينه ودعوة غير المسلمين فقط؛ لأن أمريكا لا تريد أن يتدفق أي مال لهذه المؤسسات تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وهي في إطارها وحقيقتها محاربة الجمعيات الإسلامية العاملة في العالم، مع أنَّ الآلاف من الجمعيات الخيرية الأمريكية تعمل في كل مكان، وتقوم بدورها الإغاثي والتبشيري دون أي توقف.

ونوه د. حميد الشايجي بما أسفرت عنه دراسة أعدها محمد علي وهف القحطاني حول عوامل جريمة غسل الأموال وأبعادها في المجتمع السعودي، حيث تناولت هذه الدراسة الوصفية الأبعاد الاجتماعية والأمنية لجريمة غسل الأموال في المجتمع السعودي من وجهة نظر العاملين في أجهزة مكافحة جرائم غسل الأموال بمدينة الرياض، وقد وظفت الدراسة منهج المسح الاجتماعي، وزاوجت بين الأسلوبين الكمي والكيفي في تحليل ومعالجة البيانات. بلغ أفراد مجتمع الدراسة (247) مفردة عن طريق المسح الاجتماعي الشامل، وجمعت البيانات منهم بأداة الاستبانة، حيث بلغت الاستبانات الصالحة للتحليل (210) استبانات، وهذا ما يمثل 85.02% من مجتمع الدراسة.

وطرحت الدراسة عددًا من التساؤلات، وهي: ما أهم العوامل المؤدية لارتكاب جريمة غسيل الأموال؟ وما الأساليب المتبعة لارتكاب جرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي؟ وما أهم الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والأمنية المترتبة على جرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي؟ وأخيرًا، ما واقع الجهود المبذولة للتوعية بجرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي؟ وما مدى فاعليتها؟

وتوصلت الدراسة إلى عدة نتائج، من أهمها: أن من أهم العوامل المؤدية إلى ارتكاب جرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي: الإتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية، وكثرة العمالة الوافدة بالمملكة، والرغبة في الثراء السريع، والتستر التجاري، والرشوة والفساد الإداري، وغياب الشفافية المالية في بعض المعاملات التجارية.

ومن أهم الأساليب المتبعة لارتكاب جرائم غسل الأموال: استغلال مهرجان مزاين الإبل، وإنشاء شركات أو مؤسسات وهمية، واستخدام الحسابات البنكية للمؤسسات والشركات التجارية كغطاء قانوني، وشراء وبيع الأراضي والعقارات، والتهريب عن طريق نقل الأموال نقدًا، واستئجار حسابات بنكية لسعوديين مقابل أجور شهرية، والإيداع المجزأ للنقود السائلة في حسابات بنكية متنوعة، واستغلال الظروف الاجتماعية من بطالة وفقر.

وعن الجهود المبذولة للتوعية بجرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي، يرى 58.6% من أفراد مجتمع الدراسة أنه لا يوجد هناك جهود مبذولة للتوعية بجرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي، وهم الفئة الأكثر من أفراد مجتمع الدراسة.

وعن مدى فاعلية الجهود المبذولة؛ يرى 46.5% من أفراد مجتمع الدراسة- الذين يرون وجود جهود مبذولة للتوعية بجرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي- أن الجهود المبذولة للتوعية بجرائم غسْل الأموال في المجتمع السعودي متوسطة.

  • الآثار الاقتصادية والاجتماعية لغسل الأموال:

في ضوء ما تقدم من نقاشات لخصت د. نوف الغامدي الآثار الاقتصادية لغسل الأموال في النقاط التالية:

  • تغيُّر الطلب على النقود، بحيث لا يستجيب للمؤشرات الاقتصادية الكلية.
  • تغيرات غير محسوبة في أسعار الصرف، وأسعار الفائدة.
  • عدم الاستقرار وارتفاع درجة المخاطر بالنسبة لنوعية الأصول التي تديرها المؤسسات المالية؛ بما يؤثر على المتغيرات النقدية.
  • التأثير على حركة المبادلات المشروعة والزج بأصحابها إلى التورط في العمليات الإجرامية.
  • آثار توزيعية سيئة خاصة على أسعار الأصول.

بينما تكمن أهم الآثار الاجتماعية فيما يلي:

  • يمكن لغاسلي الأموال من خلال أموالهم خَلْق حالة من التوتر الاجتماعي الناجم عن زيادة الهوة بين الأغنياء والفقراء، وهو الأمر الذي يعمِّق من الإحساس بعدم المساواة، وسيادة ظاهرة التمايز الطبقي، وشيوع حالة من فقدان التوازن الاجتماعي؛ نتيجة إعلاء قيمة كسب الحرام، وصعود ظاهرة الفهلوة على قيم المجتمع النبيلة، المتمثلة في قيم العمل والرزق الحلال، حيث يمكن لغاسلي الأموال شراء الذمم من خلال الرشوة والمضاربة، والإتجار في الأعمال غير المنتجة التي لا تهم المجتمع، ولكن تزيد من قدراتهم المالية.
  • غسل الأموال لن يترتب عليه زيادة في الطلب على العمالة، فغاسلو الأموال لا يوجهون عادة أموالهم في مشروعات شريفة منتجة إلا القليل منهم للتمويه، ومن ثَمَّ فهم لا يعملون على الاتجاه للاستثمارات المنتجة، ولا يسهمون بذلك في خلق فرص العمل.
  • يمكن لغاسلي الأموال تغيير الهيكل الاجتماعي الأسرى من خلال توريث أموالهم لأجيال لاحقة، يمكن لها أن تنفي عن نفسها أي علاقة بالجريمة التي ارتكبها الآباء والأجداد، والمتمثلة في الأموال الحرام من مصادر غير شريفة.
  • يمثلون قوة ضاغطة على باقي أفراد المجتمع من خلال إحساسهم بالقدرة على الإنفاق اللامحدود من أموالهم التي حصلوا عليها بأقل جهد، كما أن غاسلي الأموال نجحوا في خلق واقع جديد لهم يقوم على إيجاد وحدات أمنية خاصة لهم موازية للقوى الأمنية الحكومية، وبعضهم يتصرف مع شرائح المجتمع بعنف وغلظة دون أن تطالهم أي عقوبات عند وقوعهم في أخطاء، حيث إنهم في حماية مَنْ يملكون المال، وبه يستأجرون السلطة.

وأشارت الدراسة التي أعدَّها محمد علي وهف القحطاني حول عوامل جريمة غسل الأموال وأبعادها في المجتمع السعودي، إلى أن من أهم الأبعاد الاقتصادية المترتبة على جرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي: استنزاف الاقتصاد الوطني، وإفساد النظام المصرفي، وارتفاع معدلات التضخم، ونقل جزء من القوة الاقتصادية من السوق إلى المجرمين، وهجرة رؤوس الأموال للخارج، وتشويه صورة المؤسسات الوطنية بتحفيز ودعم إنشاء المؤسسات الوهمية أو الصورية.

ومن أهم الأبعاد الاجتماعية المترتبة على جرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي: الثراء المفاجئ لبعض أفراد المجتمع، وانتشار ظاهرة المخدرات والفساد في المجتمع، وانتشار ثقافة الكسب غير المشروع في المجتمع، وارتقاء أصحاب الدخل غير المشروع لقمة الهرم الاجتماعي، وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وزيادة معدلات البطالة في المجتمع.

ومن أهم الأبعاد الأمنية المترتبة على جرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي : زيادة معدل جرائم الفساد المالي، وجرائم تهريب المخدرات وترويجها، وجرائم التستر التجاري، وتمويل التنظيمات الإرهابية، وتمويل عصابات الإجرام المنظم، وزيادة معدل جرائم الكسب غير المشروع، وظهور فئات إجرامية جديدة تمارس ارتكاب جريمة غسل الأموال في المجتمع.

  • التوصيات المقترحة للحد من غسل الأموال:

أشار د. حميد الشايجي إلى خلاصة توصيات الدراسة التي أعدَّها محمد علي وهف القحطاني حول عوامل جريمة غسل الأموال وأبعادها في المجتمع السعودي، والتي انتهت في ضوء ما كشفت عنه المعالجة النظرية والتطبيقية إلى التوصيات التالية:

أولًا : التوصيات الخاصة بأجهزة مكافحة جرائم غسل الأموال بشكل عام:

1-  أهمية بناء استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة جرائم غسل الأموال (أمنية – مالية – اجتماعية – إعلامية) قابلة للتطبيق على أرض الواقع.

2-  زيادة وتكثيف الجهود المبذولة في مكافحة الإتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية من قبل الجهات الرقابية ذات العلاقة؛ لكونها من أهم روافد ودعم عصابات غسل الأموال.

3-  تصحيح وضع العمالة السائبة في المجتمع، والتي تهدف من وجودها في المملكة إلى الحصول على المال بأية وسيلة، ووضع الضوابط اللازمة التي تمكّن العمالة من العمل في المجال الذي استُقدمت من أجله.

4-  وضع ضوابط احترازية أمنية ومالية لمهرجانات مزاين الإبل؛ كتحديد وتقييم أسعار الإبل، وتحديد آلية البيع والشراء، وضمان دخول هذه الأموال إلى دائرة المؤسسات المالية لتكون تحت الرقابة.

5-  تفعيل التعاون مع الدول التي لها خبرة ذات كفاءة عالية في التعامل مع قضايا غسل الأموال؛ لمواكبة  التطور العالمي في مجال مكافحة جرائم غسل الأموال.

6-  زيادة وتكثيف الجهود في مكافحة الإتجار غير المشروع في الأسلحة من قبل الجهات الرقابية ذات العلاقة؛ لكونها من أهم روافد ودعم عصابات غسل الأموال.

7-  أهمية تطوير أساليب مكافحة جرائم غسل الأموال بصفة مستمرة من قبل الجهات المختصة، بما يتوافق مع تطور أساليب ارتكاب هذه الجريمة من قبل عصابات غاسلي الأموال.

8-  تكثيف التحريات المالية والأمنية للتعرُّف على الأساليب الحديثة المتبعة لارتكاب جرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي، من أجل مكافحتها بأقصر وقت وبأقل تكلفة.

9-  إعادة النظر من قبل أجهزة المكافحة لجرائم غسل الأموال في سياستها الرقابية؛ لتجعل جزءًا كبيرًا من الرقابة على الإنترنت وتعاملاته المالية.

10-  تتبنى الأجهزة المختصة في مكافحة جرائم غسل الأموال إقامة ندوة سنوية كبرى تُعنى بالبحث والتنقيب والدراسة عن كل ما هو جديد حول قضايا غسل الأموال.

ثانيًا: التوصيات الخاصة بوحدة التحريات المالية بوزارة الداخلية:

1-  إصدار نشرة دورية للأساليب الحديثة المتبعة لارتكاب جرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي؛ وذلك لتوعية الجهات المالية وغير المالية، والأمنية والقضائية العاملة في مجال مكافحة جرائم غسل الأموال، ولكي تكون كل الجهات المختصة على علم بالأساليب الحديثة.

2-  العمل على ترسيخ فكرة عدم تعدُّد الجهات التي تتلقى المعلومات عن العمليات المشبوهة وحصرها بالوحدة، فتعدد هذه الجهات داخل الدولة قد يخلق نوعًا من التضارب في عمليات معالجة هذه القضايا واستخلاص النتائج؛ مما يؤدي إلى تشتيت الجهود.

3-  قيام وحدة التحريات المالية  باستخدام الطرق المُعينة على زيادة الوعي التام لدى الجمهور، بتفعيل دور المواطن كرجل الأمن الأول؛ مما يؤدي إلى التعاون مع وحدة التحريات المالية والأجهزة الأمنية الأخرى  في سرعة الإبلاغ عن جرائم غسل الأموال .

4-  قيام وحدة التحريات المالية بوضع قاعدة بيانات عن المعاملات المالية المشبوهة، ووضع آلية لتبادل المعلومات بين الجهات المختصة بمكافحة جرائم غسل الأموال، واستغلال الإمكانات التقنية الحديثة في ذلك ؛ من أجل تسهيل الحصول على المعلومة بشكل موثوق في أسرع وقت.

5-  ضرورة قيام وحدة التحريات المالية بوزارة الداخلية بتفعيل دورها في التوعية بمخاطر جرائم غسل الأموال؛ لكونها الجهة المخولة رسميًّا بمكافحة جرائم غسل الأموال في المملكة، والتنسيق مع وزارة الثقافة والإعلام في التوعية بمكافحة جرائم غسل الأموال، وأهمية تبني الإعلام المرئي والمقروء لذلك، وتثقيف أفراد المجتمع عن أضرار جرائم غسل الأموال.

6-  تقدير حجم جرائم عمليات غسل الأموال في المملكة سنويًّا بصفة دورية، والتعرف على أسباب ارتفاع معدلاتها، والعمل على تلافيها بالطرق المثلى.

7-     العمل على تقليص القيود التنظيمية التي تعيق سرعة تبادل المعلومات بين الأجهزة الأمنية والأجهزة المصرفية.

8-  العمل على إيجاد وسائل ومؤسسات لدعم المتضررين من جرائم غسل الأموال؛ للحد من آثارها السلبية على الفرد والمجتمع.

9-     العمل على تحديث قواعد البيانات الخاصة بالمشبوهين في جرائم غسل الأموال بصفة مستمرة.

ثالثًًا : التوصيات الخاصة بمؤسسة النقد العربي السعودي :

1-  إلزام كل منشأة تجارية بفتح حساب بنكي موحد باسمها، وتفعيل تطبيق مبدأ (اعرف عميلك)؛ ليتم متابعة حركة الأموال فيه بشكل أفضل في المؤسسات المالية.

2-  وضع الضوابط الملزمة بأن تشمل شهادة المراجع القانوني بخلو المؤسسات المالية (البنوك) من عمليات غسْل الأموال في تقريره النهائي المقدم لمجلس إدارة البنك، والمنشور في القوائم المالية والتقرير السنوي.

3-  تكثيف الجولات التفتيشية حول التزام المؤسسات المالية بتطبيق تدابير مكافحة جرائم غسل الأموال، وتفعيل ما نصَّ عليه نظام مكافحة غسْل الأموال فيمن يخالف ذلك.

4-  تفعيل وتطبيق قواعد مكافحة جرائم غسْل الأموال لشركات التأمين؛ للحد من استغلالها من قبل عصابات غسل الأموال في إخفاء معالم مصادر أموالها غير المشروعة.

5-  تفعيل وتشديد الرقابة على البنوك، ومحلات الصرافة، ومحلات تحويل الأموال السريعة لمنع عصابات جرائم غسل الأموال من استغلالها.

6-  العمل على وضع رقابة آلية على عمليات غسل الأموال، والتي تتم عبر شبكة الإنترنت، أو باستخدام الهاتف النقال.

7-  عقد دورات تدريبية متطورة للارتقاء بمستوى العاملين في وحدة مكافحة غسل الأموال بالمؤسسة، وكذلك بالبنوك والمصارف التي تشرف عليها مؤسسة النقد.

8-  العمل على تطوير الممارسات المصرفية لتصبح أكثر قدرة على حماية ذاتها من مخاطر عصابات غسل الأموال، وحماية عمليات البنوك والمصارف.

رابعًا : التوصيات الخاصة بهيئة السوق المالية :

1-  زيادة تفعيل دور هيئة السوق المالية في الرقابة، وبصفة خاصة على الشركات والمؤسسات التي تمارس الوساطة في الأوراق المالية، ومنع الوساطة في أنشطة الأوراق المالية من غير ترخيص؛ من أجل حمايتها من أن تصبح ملاذًا لغاسلي الأموال.

2-  تفعيل وتطبيق تدابير قواعد مكافحة جرائم غسل الأموال لهيئة السوق المالية؛ للحد من استغلال شركات ومؤسسات الوساطة المالية من قبل عصابات غسل الأموال في إخفاء معالم مصادر أموالها غير المشروعة.

3-  الاهتمام بتفعيل الإشراف والرقابة على  التزام الأشخاص المرخص لهم بقواعد الهيئة المتعلقة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

4-  تكثيف برامج التفتيش المتخصصة على الأشخاص المرخص لهم؛ للتأكد من كفاءة وفعالية برامجهم وإجراءاتهم الخاصة بمكافحة غسْل الأموال.

5-  تفعيل دورها في تنفيذ برامج تفتيشية خاصة على المؤسسات غير المرخص لها، المشتبه في تورطها في ممارسة أعمال الأوراق المالية أو غسل الأموال.

خامسًًا : التوصيات الخاصة بوزارة العدل :

1-   العمل على إنشاء محاكم خاصة بالجرائم الاقتصادية.

2-  عقد دورات تدريبية للقضاة في المحاكم العامة؛ وذلك لاطلاع القضاة على أساليب وخدع غاسلي الأموال، وتزويدهم بكل جديد في جرائم غسل الأموال والعصابات المنظمة، وذلك من شأنه أن يجعل قضاتنا يصدرون الأحكام المناسبة والرادعة لمجرمي غسل الأموال.

3-  إضافة من يتواطئون من العاملين في البنوك والمؤسسات المالية الأخرى مع عصابات غسل الأموال، إلى حالات تشديد العقوبة المنصوص عليها في نظام مكافحة جرائم غسل الأموال السعودي.

سادسًًا: التوصيات الخاصة بهيئة مكافحة الفساد:

1-  ضرورة تكثيف وتفعيل دور هيئة مكافحة الفساد في تطبيق أهدافها، وأن يكون ذلك على الجميع دون استثناء وفقًا لما وجهّت به حكومتنا الرشيدة، وأنه لا أحد فوق القانون ؛ للحد من جرائم الخاصة.

2-  ضرورة قيام هيئة مكافحة الفساد بتوعية المواطنين عن طريق جميع وسائل الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي بمخاطر الفساد، وضرورة التبليغ عن الفساد في أي جهة كانت.

سابعًًا : التوصيات الخاصة بوزارة التجارة والصناعة :

1-  إعادة دراسة نظام التستر التجاري الحالي وتعديله، بحيث يسمح للأجنبي بالعمل باسمه بحدود وطرق معينة أو السماح بإيجاد شراكة بين المواطن والأجنبي تضمن وتحمي حقوق الطرفين؛ للحد من العمل في الظل، وبطرق غير مشروعة.

2-  تفعيل الضوابط الخاصة بالشركات والمؤسسات التجارية، بما يضمن أنها – فعلًا- شركات ذات أهداف مشروعة، وليست شركات أو مؤسسات وهمية.

3-  وضع ضوابط لسوق العقار السعودي، من حيث تقييم الأراضي والممتلكات وفقًا للأسعار العادلة والمتزنة؛ حتى لا تُستغل من قبل عصابات غسل الأموال في إخفاء مصادر أموالها.

4-  ضرورة تفعيل دور القطاع الخاص في توظيف الشباب السعودي؛ للحد من البطالة وبمزايا مجزية، وفرض عقوبات وتفعيلها على الشركات التي تتلاعب بنسب السعودة، وعدم الالتزام بالرواتب المدرجة في قوائمها.

ثامنًا : توصيات بدراسات مستقبلية  :

1-  القيام بدراسات مستقبلية وافية حول واقع جرائم غسل الأموال بالمملكة العربية السعودية بصفة دورية، تشمل جميع المجالات المتعلقة بهذه الجريمة.

2-  إدراج مادة دراسية بمُسمَّى ” مكافحة جرائم غسل الأموال” في الجامعات السعودية، والكليات العسكرية، والمعهد المصرفي، ومعاهد التدريب الأمني  في الأقسام العلمية المختصة بذلك العلم.

3-   القيام بدراسات علمية عن الخصائص الاجتماعية والنفسية لمرتكبي جرائم غسل الأموال في المجتمع السعودي؛ من أجل التوصل لأفضل الطرق المعينة على إعادتهم للمجتمع.

ويرى م. خالد العثمان أن الثقافة السائدة في مجتمعاتنا لا تزال تؤمن بالنقد في كل التعاملات، وتتحاشى استخدام وسائل بديلة سواء بطاقات البنوك والائتمان، والتحويل، وغير ذلك.. وما زال كثير من الموظفين يعمد لسحب كامل راتبه نقدًا، ويحتفظ به في بيته.. وبالطبع تدخل ممارسات مشبوهة في خضم تلك التعاملات.. العلاج يتطلب تشريعات وآليات حاسمة، وتطبيقًا فاعلًا لتلك التشريعات والآليات..  وكمثال على ذلك: ما فعلته الهند في هذا المجال،  فقد منعت الهند السحب وصرف العملات الأجنبية نقدًا لأكثر من 2000 روبية، وهو مبلغ متدن جدًّا، وهذا ينطبق حتى على السياح والمسافرين من غير الهنود والمقيمين هناك، وفرضت على الجميع التعامل بالبطاقات الإلكترونية لأكثر من تلك المبالغ، حتى من ليس لديهم حسابات بنكية يحصلون على بطاقات يقومون بشحنها من مصادر دخلهم الخاضعة للرقابة بالطبع داخل المنظومة البنكية، وبالطبع هناك إشكاليات في التطبيق لكنه يتحسن بالتدريج تحت طائلة العقوبة الرادعة والتوعية الفاعلة. وهذا الإجراء كان مصحوبًا بإجراء آخر مهم جدًّا، وهو إلغاء الفئات الكبيرة من العملة النقدية السابقة، وإصدار فئات جديدة بديلة،  والسماح للجميع باستبدال عملاتهم القديمة بالعملات الجديدة، وبالتالي بالطبع إيداع تلك المبالغ في حسابات بنكية، تمهيدًا لاستخدامها بواسطة البطاقات المشار إليها سابقًا؛ فلو طبّقت الحكومة هذا الإجراء بفعالية كبيرة وصارمة لأدت إلى خروج مبالغ هائلة من خزائن البيوت والمكاتب إلى البنوك، في تفعيل حقيقي لمعالجة مشكلة اقتصاد الظل، والتداول النقدي خارج النظام البنكي.

واقترح د. خالد الرديعان إلزام أصحاب محلات التجزئة  باستخدام التقنية من مكائن كاشير، ومكائن دفع، وتطبيق الحساب السنوي والجرد كما تفعل المحلات الكبرى؛ وهذه الإجراءات مفيدة في الحد من تداول النقد من جهة، ومن جهة أخرى تحد من فساد ذمم الباعة وسرقة كفلائهم، أو إيداع أموال في البنوك ذات مصدر مشبوه. التعاملات الإلكترونية ستحد من الفساد عمومًًا، وغسل الأموال على وجه الخصوص.

وفيما يتعلق باقتصاد الظل informal economy أو الاقتصاد غير الرسمي الذي يعد مشكلة يصعب السيطرة عليها في ظل غياب الحوكمة، ومراقبة الأموال النقدية التي تدور بين الباعة والجهات التي يشترون منها بضائعهم؛ فلعل إلزام الجميع بفتح حسابات بنكية بما في ذلك الباعة المتجولون، والتعامل من خلال الإيداع البنكي المباشر – يحدُّ من مساوئ اقتصاد الظل فيما يتعلق بغسل الأموال، علمًا أن التقديرات العالمية لحجم اقتصاد الظل في المملكة تُقدّر نسبته بنحو ١٨٪‏ من الاقتصاد الوطني بشكل عام.

وأشار د. ناصر القعود إلى أن التشريعات والإجراءات الدولية لا تحدد نماذج أو صورًا لغسل الأموال، وبالتالي تنطبق على أي شكل من أشكال غسل الأموال، حتى ولو كان خاصًّا بمنطقة جغرافية معينة، والمهم هو فعالية وكفاءة التطبيق، وذلك ما جعل (فاتف) تقوم بالتقييم المشترك الذي يركز على ذلك.

ويمكن الحد من غسل الأموال التي يشارك فيها الوافد من خلال إلزام الوافدين بفتح حسابات بنكية، ومكافحة التحويلات خارج القطاع المصرفي، والجدية في مكافحة التستر، وكفاءة مراقبة حركة النقد في المطارات، إضافة لمزيد من التعاون الإقليمي والدولي من خلال مجموعة ايجمونت مثلًا، والترتيبات في هذا المجال بين دول مجلس التعاون .

ويرى د. ياسر البلوي أنه لا يكفي سن قوانين لمحاربة ظاهرة ما، بل يجب أن تتوفر الإرادة لتطويقها ، وتزداد أهمية ذلك، حينما يتعلق الأمر بجريمة كجريمة غسل الأموال، تحمل خصوصيات عديدة، تجعل تطويقها أمرًا صعبًا جدًّا، خاصة إذا استحضرنا البعد الدولي لهذه الجريمة وتشتتها في أكثر من إقليم دولة، وتجددها باستمرار، وصعوبتها تتحدد في كونها جريمة تابعة، وتصرف مشروع لإخفاء آثار أموال غير مشروعة .

وذكر أ. فضل البوعينين أنَّ من مؤشرات غسل الأموال زيادة عدد الأنشطة التجارية ومنافذ البيع دون أن يكون هناك عوائد حقيقية على الأنشطة. وزيادة عدد منافذ البيع يعني قدرة أكبر على إدخال نقد أكثر للمصارف. والعلاج يكمن في المدفوعات الإلكترونية، وربط المخزون والمبيعات بقاعدة بيانات رقمية يمكن مراقبتها والتأكد منها، وبالتالي يمكن المواءمة بين إيرادات المحل الحقيقية وما يتم إدخاله في الحساب المصرفي نقدًا. هناك جانب خفي. وهو عمليات الاستيراد التي تضمن إعادة تحويل الأموال الداخلة نقدًا. وتشكل هذه العمليات على وجه الخصوص ثغرة في مكافحة غسل الأموال محليًّا، ومن المهم التغلب عليها.

وهناك قصور في التوعية للحد من غسل الأموال، وقصور أيضًا لدى متلقي معلومات التوعية. فجميع الحسابات مرتبطة بأرقام جوال العميل. وبالتالي يمكن استثمارها في رسائل التوعية بشكل أكبر. حقيقة هناك جهود من التوعية المصرفية من خلال رسائل الجوال وشاشات الصراف الآلي. ولكن نحن في حاجة إلى توعية نوعية كالمقاطع التمثيلية القصيرة المؤثرة التي لا تُنسى- على سبيل المثال لا الحصر-. واختراق وسائل التواصل الحديثة للوصول إلى الشرائح المستهدفة. أما المتلقون فغير مُعْفين من التقصير: أولا بسبب تجاهلهم رسائل التوعية، وثانيًا بسبب عدم أخذهم التحذير مأخذ الجد، فيقعون في مشكلات لا حصر لها. ومن حيث التطبيق لمعايير الالتزام، لن تجد المملكة مشكلة في الحصول على تقييم مرتفع فيما يتعلق بمواجهة جرائم غسل الأموال، ومن حيث الواقع، نحن في حاجة ماسة لبذل مزيد من الجهود لمواجهة هذه الجرائم الخطرة.

وقال د. منصور المطيري: شخصيًّا أستغرب عدم حسم الدولة هذا الملف، وأنا على قناعة بأن مكافحة غسيل الأموال خدمه ملف تمويل الإرهاب خدمة جليلة.. تحت هذه اللافتة أي تجفيف تمويل الإرهابيين، سعت كل دول العالم بضغط من أمريكا بالذات إلى تشديد الرقابة على الأموال غير المشروعة ، وقد استطاع العالم في فترة وجيزة خنق قناة تمويل الجماعات المتطرفة وغير المتطرفة .. والسؤال لماذا لا تسري هذه الروح وهذه الهمة إلى الأنشطة الأخرى: كتجارة المخدرات، وتجارة السلاح، وتجارة البغاء، وغيرها، مع يقيني التام أن حيل غاسلي الأموال المجرمين لا تنتهي ولا يمكن حصرها.

أؤيد الدعوة إلى التعاملات الإلكترونية والتقليل من التبادلات بالنقد؛ لكن نلاحظ أن أمريكا وهي من الدولة الرائدة في التعاملات الإلكترونية تتصدر عمليات غسيل الأموال مع هذه الريادة، حيث تتورط فيها حتى البنوك المعروفة.

إن مكافحة هذه الجرائم تتم بواسطة منظومة من العمليات، ويأتي على رأسها الاستثمار في التربية الإيمانية والتوعية الدينية العميقة، التي تنمي إحساس النفور من الحرام وكراهيته، ثم تأتي بعد ذلك الإجراءات المهمة المشار إليها، ومنها: توعية الجمهور بطبيعة وآثار عمليات غسل الأموال، التي تعد من الجرائم المندرجة تحت قاعدة الإفساد في الأرض.

في مرحلة الإيداع يحتاج غاسل الأموال عادة إلى موظف أو مسؤول في البنك يقنعه أو يساعده في عملية الإيداع، ومن هنا تأتي أهمية الاهتمام بهذه الحلقة عن طريق تشديد العقوبة على الموظف، واعتباره شريكًا في عملية الغسل، وعن طريق توعية الموظف قبل ذلك.

وهناك قضية مهمة جدًا يغفلها الكثيرون؛ بسبب أثرها غير المرئي، ولاتساع أثرها وبطئه، وهي مسألة إشاعة القيم والأخلاق ، واعتبارها أولوية في برامج التعليم والإعلام والمسجد والأسرة؛ أصبحنا نرى من يسلّ السيف في وضح النهار لسلب الأموال من الناس، وهناك أسباب كثيرة لا شك، لكن أكبرها وأوضحها ضعف التدين.

وأكد د. سعد الشهراني على ما يلي:

1-   تكثيف الرقابة على الفروق بين المتحصلات الفعلية للأنشطة التجارية، وحجم  الإيداعات في البنوك .

2-  تكثيف التحريات  عن الفروق بين الأسعار والقيم الحقيقية للأصول العقارية وغير العقارية المتبادلة في الأسواق المختلفة، وأسعار ومبالغ البيع والشراء بين الأطراف.

ومن ناحيته أكد د. مساعد المحيا على ضرورة أن يكون ضمن اهتمامنا بغسيل الأموال، ألا نكون أدوات تنفيذية لمصالح الدول الكبرى وفق مفهومها لأنماط غسيل الأموال؛ فثمة معوقات إجرائية تمنع وصول الدعم أو المساعدات لكثيرين من المنكوبين في العالم . هذه الجهود قد تلجأ لخيارات غير مباشرة لإيصال مساعداتها، وقد تُصنَّف بأنها نمط من غسيل الأموال، نحتاج أن نحرر ذلك رسميًّا، وأن تتيح الدولة الكثير من أنماط الدعم وتراقبها، بحيث تضبط كل الممارسات في هذا الجانب.

وعقَّب د. منصور المطيري على هذا الطرح الأخير بقوله: لا أعرف السبب الذي يشلّ إرادتنا أمام جموح الدول العظمى .. نحن قادرون على تمييز الألوان بين التمويل غير المشروع للتطرف وبين العمل الخيري، ومع ذلك نساوي بينهما في التعامل.. ضغوطات الدول العظمى نستطيع الالتفاف عليها بتغيير شكل المؤسسات الخيرية وهيكلتها من جديد، وإلغاء القديم منها وتأسيس بدلًا منها .. لكن تعطيل العمل الخيري خطأ .. وتأتي الطامة بحشره في زمرة غسيل الأموال.

و فيما يخص إشاعة القيم والأخلاق ودور الإعلام في ذلك، ذكر أ. مسفر الموسى أننا أمام مجموعة من الأساليب.. بعضها مباشر مثل الأحاديث المباشرة والمقاطع التوعوية عبر الفيديو والانفوجرافيك.. هذه عادة تعتمد على قانون (الدفع).. وهو الاعتقاد بأن التلقي سلوك تلقائي.

القيم والأخلاق سيتم تكريسها من خلال القصص الحية التي تضطلع بها الصحافة كوظيفة رئيسية في إطار أخلاقياتها؛ ستصبح هذه الممارسات المشبوهة وطرق تنفيذها مادة محسوسة للمتلقي ومغرية للمتابعة (قانون السحب)، ثم بعد ذلك، ستكون رسالة غير مباشرة للتعرُّف على الأفعال المحظورة والمنافية للقيم والأخلاق.

وذكر د. عبد الله بن صالح الحمود أنه – وبلا شك- فإن من الواضح وضوح الشمس أن مسائل أو جرائم غسل الأموال منشأها فعليًّا ومرتبط مباشرة بما كان سهل النيل منه، مثل: زراعة وتصنيع النباتات المخدرة، أو الجواهر والمواد المخدرة، وجلبها وتصديرها والإتجار بها لاحقًا، وهذا ما اعتادت عليه العناصر الإجرامية في الزمن الماضي، إلى العديد من الأدوات الأخرى القديمة والحديثة منها .

ولاشك أن عمليات غسل الأموال أضحت تتأتى بأنواع وصنوف مختلفة عن ذي قبل، لعدة أسباب، أهمها: التشديد الأمني على زراعة وترويج المخدرات، وعمليات التزييف للعملات الورقية ( البنكنوت )؛ ولهذا جرى تحول جديد في عمليات غسل الأموال، مثل ما ذكر البعض عن الاتجاه إلى الإتجار بالعقار، والإبل، وخلاف ذلك.

وهنا يمكن التوقف أمام هذا التوجه الجديد، والمتمثل في الشروع في صنوف جديدة من هذه المناشط، التي يرى مجرمو غسل الأموال أنها قنوات يمكن النفاذ من خلالها نحو طريق أمان، بعيدًا عن أعين الرقيب.

وبالتأكيد فإن كلَّ مَنْ يمارس أي عمل إجرامي لابد له أن يسعى جاهدًا في الحصول على أكبر قدر ممكن من الطرق التي تتيح له تسيير أعماله دون وقوع أي شبهة جنائية عليه.

وهنا وبحكم ظهور مظلات أو قنوات حديثة تتيح لهذه الفئات الإجرامية البعد عن مواطن الشبهات في أعمالهم الإجرامية، كمثل ممارسة المتاجرة في العقار، أو تجارة بيع وشراء الإبل التي فاقت أقيامها  المنطق والمعقول، فالأمر يتطلب إعداد دراسات مطورة تتسق وحجم هذه الأعمال الإجرامية، فضلًا عن أخذ التدابير اللازمة للحد من هذه الظاهرة الإجرامية الآخذة في النمو المتزايد.

    وهنا يمكن اقتراح بعض من النقاط علها تكون إحدى الأدوات التي قد تسهم في تعزيز علاج نسبي تجاه هذه الجريمة القديمة الحديثة، وذلك بما هو آت:

1-  الشروع في إصدار قوانين حديثة عن تجريم عمليات غسل الأموال، تتفق والنمو الإجرامي لهذه الجريمة، مع نشر هذه القوانين في المواقع الرسمية الإلكترونية لوزارة الداخلية.

2-  تحديد دور البنوك في مكافحة جرائم غسل الأموال، مع السعي إلى تطوير النظم الرقابية للبنوك على نحو يجعل بالإمكان رصد حركة الأموال القذرة واكتشافها، سواء باستحداث قسم أو جهاز أو لجنة في كل بنك تتحقق من شرعية هذه الأموال المُودَعة أو عدم شرعيتها، وهنا لابد من رفع درجة التعاون والرقابة بين مؤسسة النقد العربي السعودي والبنوك الوطنية من خلال تبادل المعلومات حول الحسابات المصرفية المشبوهة .

3-  اتباع سياسات تشريعية جديدة بالتجريم والعقاب ملائمة للطبيعة “الزئبقية” و”الأخطبوطية” لجرائم غسل الأموال.

4-  يمكن الإبقاء على مبدأ سرية المعاملات المصرفية النظيفة ورفع السرية عن تداول الأموال القذرة، فمبدأ السرية يكون في إطار الشرعية، أما النشاط الإجرامي فلا محل لإضفاء السرية عليه، وإلا تعرض البنك المعني بذلك  لقواعد المسؤولية الجنائية.

5-  يتعين الأمر مراقبة البنوك لمتابعة بعض الحركات المصرفية، والتي تحدث من لدن بعض العاملين فيها،  والذين يكون لهم دور بارز في نشوء عمليات غسل الأموال، الأمر الذي يتطلب التشدد في مراقبة أعمال العاملين بين وقت وآخر .

6-  ضرورة معالجة المشرع لإشكاليات التكييف القانوني لجرائم غسل الأموال، وذلك بوضع تكييف جنائي خاص لهذه الجرائم.

7-  تحفيز وتشجيع عملاء البنوك بالتعاملات الإلكترونية؛ تفاديًا من الاستمرار الكبير لعمليتي السحب والإبداع التقليديتين، وهنا لابد أن يسهم نظام البصمة الوراثية في تسهيل مهمة عملاء البنوك، خصوصًا الذين يصعب الأمر معهم إجراء عمليات بنكية إلكترونيًّا.

8-  تشجيعًا للتعامل أكثر مع أجهزة الصرف الآلي، لابد أن يُسمح لعملاء البنوك بزيادة في الحوالات المالية اليومية عن الحد المسموح به حاليًّا؛ وذلك تحفيزًا بأن يكون ذلك طريقًا أسهل في الدفع النقدي من جانب، ومن جانب آخر لسهولة الرقابة ومعرفة البيئات التي تتجه إليه الأموال عامة .

9-  قيام البنوك ومؤسسة النقد العربي السعودي، بالتعاون مع الجامعات وبيوتات الخبرة، في إعداد المزيد من الدراسات اللازمة لمعرفة المناشط الاقتصادية التي يمكن النفاذ من خلالها نحو ممارسة غسل الأموال بالطرق الجديدة.

المحور الثالث

ظاهرة المتاجرة بالدماء – المبالغة بالديات والصلح

الورقة الرئيسة: د. عبد الله العساف.

عندما بدأتُ كتابة هذه القضية، تبادر إلى ذهني فورًا المثل المصري” اللي تعرف ديته اقتله”.

كانت كلمة : السيف، الصفاة، تحرك في داخل جيلي كوابح الإقدام على أي فعل سلبي؛ لأن الجزاء الوحيد كان في الغالب القصاص، الذي كنا نستمع إلى بيانات – لاحظوا بيانات- وزارة الداخلية يوم الجمعة، وربما سرقت النوم من عيون ذلك الجيل الجميل الذي يتفكر في مصير كل من تُسوّل له نفسه العبث بأمن هذا الوطن، والله الهادي إلى سواء السبيل، كما سلب النوم من عيني وأنا استرجع منظر السياف في ساحة القصاص بدافع فضولي، وعمري حينذاك اثنا عشر عامًا، وأنا أقفز على (برميل)؛ لأرى ماذا يحدث هناك.

واليوم السيف والصفاة لا تعني شيئًا لأبناء هذا الجيل؛ لأنهم لا يعرفونها.. لم يروها أو يسمعوا بها على الأرجح.. لذا استرخصت الدماء، وأصبحت تُهدر لأتفه الأسباب، اتكاءً على “اللي تعرف ديته اقتله” والتي تحولت إلى مفاخرة ( وهياط) بين شباب مجتمع قبلي ما زالت النخوة العربية والقبلية متجذرة فيه، وأحيانًا خوفًا من الإقصاء والسخرية لمَن لا يدفع الغالي والنفيس في سبيل حماقة لا ناقة له فيها ولا جمل!!

وعندما ننظر في الدية نجد أن الإسلام قررها على العاقلة – العصبة- في القتل الخطأ وليس العمد، الذي لا دية فيه، بل يدخل تحت “الصلح” “العوض” “البدل”، ولم يحدد الإسلام سقفها، لكنها بالتأكيد لا تصل إلى حد المتاجرة في الدماء المنتشرة هذه الأيام، والتي جاء الإسلام لحفظها كواحدة من الضرورات الخمس، وكان آخرها وقت إعداد هذه القضية مبلغ (خمسة وثلاثون مليون ريال)! لا ينال ولي الدم منها إلا النزر اليسر، وأما الباقي فهو من نصيب جميع من يدخل على الخط من السماسرة والوسطاء، وكل مَنْ يستطيع الدخول إلى ساحة المزاد بدافع الوساطة، أو تسعير الخلاف لرفع رقم الابتزاز.

ربما ينظر البعض لجانب إيجابي فقط في هذه العملية، وهو تخفيض أرقام من يتم قصاصهم في تقارير المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الغربية!! ونسي آثارها السلبية على المجتمع، والمتمثلة في:

التشجيع على القتل، واسترخاص الدماء، والاستهانة بها، وخصوصًا في هذا الوقت الذي يشكل فيه الشباب نسبة كبيرة من أفراد المجتمع، إذا تشير بعض الإحصاءات غير الرسمية إلى أن 70% من قضايا القتل التي تنظرها المحاكم السعودية، أسبابها لا تؤدي إلى استخدام اليد بالضرب، فضلًًا عن القتل.

قتل روح التسامح بين أفراد المجتمع، ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:40] حتى بعد قبض التعويض تظل النفوس مشحونة بالكراهية، التي تزداد مخاطرها عندما يكون القاتل من قبيلة، والمقتول من قبيلة أخرى، وحتى بين أبناء القبيلة الواحدة متعددة الفروع، في وقت نحن في أمس الحاجة فيه للتسامح والتصافي، ونشره بين أطياف المجتمع، لتغدو ثقافة مجتمعية سائدة.

المتاجرة بالدماء إراقة لها؛ فقد يتسبب أخذ العوض بالسخرية بمن أخذه، في مجتمع يفتقد للتسامح، وذي ردة فعل عنيفة وسريعة، فيتكرر سيناريو القتل.

هذه الظاهرة أساءت لديننا وقيمنا ومجتمعنا، وصورت المجتمع السعودي بأنه مجتمع جشع يتاجر بدم أبنائه، من خلال المطالبة بأرقام كبيرة تخفى على الآخر طرق تقاسمها، بالرغم من وجود التعويض بأرقام خيالية لدى المحاكم الأمريكية متى توافرت للمحكمة الأدلة والمحامي المتميز.

لو طلبت من كل قبيلة أن تتبرع لعلاج مرضاها، أو ابتعاث أبنائها، أو بناء مدرسة أو مستوصف، أو غيرها من الأعمال النبيلة لما فعلت، وهي في نظري أهم من -عتق رقبة- لن يخسر المجتمع بموته، بل ربما يكفى المجتمع شره، ويصبح عبرة للغير، وكما يقال: إذا فتحتَ مدرسة أغلقت سجنًا، وقس عليها بقية المؤسسات ذات النفع المتعدد.

علينا أن نعترف أنها أصبحت ظاهرة بحاجة إلى حلول فاعلة، فالتقنين الرسمي لمبلغ التعويض غير مجد، إذ يمكن التفاهم على أضعافه خارج مجلس القضاء، والتوعية المستمرة والممنهجة من قبل المنابر الدينية والاجتماعية والإعلامية قد تجدي.

التعقيب الأول: د. حسين الحكمي.

مليون، خمسة ملايين، عشرة ملايين، عشرون مليونًا وربما أكثر، أرقام لا تقل عن سبع خانات عند كتابتها، والهدف “عتق رقبة” !

القضية بعنوان: (ظاهرة المبالغة في الديات)، وأنا حقيقة أؤيد من حدد العنوان في أن وصفها بـالظاهرة.

القضية رغم جوانبها الشرعية الكثيرة إلا أنها بالنسبة لي اجتماعية بالدرجة الأولى، والجانب الشرعي فيها لا يتجاوز تطبيق شرع الله، والمسؤول عن ذلك لا علاقة له بانتشار الظاهرة، فهو يطبق النصوص الموجودة لديه. ومن ينادي بأن يتدخل صاحب القرار بوقف هذا الاستغلال يعلم أن قرارًًا مثل هذا لن يمنع من تكرار ولا معالجة المشكلة.

لم يعد مستغربًا أبدًا أن تصلنا رسالة عبر الواتساب أو أي من وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، فحواها مساعدة أحدهم وإعتاق رقبته من القصاص، ولشهرة تويتر أصبحنا بين الفينة والأخرى نرى هاشتاقًا بعنوان #عتق_رقبة ***، وفيه كثير من الاستعطاف والأحاديث والأدلة التي تحثُّ على عتق الرقبة.

في الوقت الذي تؤدي فيه لجان الإصلاح في المناطق دورًا تُشكر عليه من أجل الإصلاح، فإنه في المقابل يستغل البعض هذه الحالات.

استخدام مصطلحات مثل عتق رقبة، والاستشهاد بفضل عتق الرقبة، وتكثيف الحملات ودعمها يجعلني واثقًا من أن هذه الحملات منظمة ومرتب لها وخلفها لوبي، وربما مافيا تستغل حاجة أهل القاتل وطيبة وحب الخير لدى السعوديين، وربما سذاجتهم بأن يأخذوا من نصيب أبنائهم وأهلهم وأنفسهم ليدفعوا به إلى رجل ذهب إلى آخر عامدًا متعمدًا، فأزهق روحًا، وربما يتّم أطفالًا، ورمّل زوجةً، وثكّل أمًّا، وحرق قلب أب على فلذة كبده !

ما يحصل هو أن رجلًا قتل آخر عامدًا متعمدًا، فطلب أهل المقتول تطبيق شرع الله وتنفيذ القصاص، فتقوم مافيا المتاجرة بدماء الناس بالذهاب لأهل القاتل، ويتفقون معه على أن يسعوا في الصلح، وأن يصلوا مع أهل المقتول إلى اتفاق على مبلغ يُدفع مقابل العفو، ويذهبون لأهل المقتول ويعرضون عليهم مبالغ طائلة من أجل العفو، وباتفاقات أن يكون للقائمين على الصلح بأن يحصلوا على نسبة من هذا المبلغ !

لدينا بعض العادات التي تثير النعرات والأنانية والعنصرية، و”شوفة النفس” على “الآخر”، لدينا موروث يشجع على تضخيم الأنا واسم القبيلة والمناطقية، حتى لو كانت النتيجة قتل نفس مسلمة، هذا الموروث أصبح مستسهلًا مع ما يمارسه البعض من تأجيج العنصرية والقبلية والمناطقية، وأن هناك مَنْ سيقف مع مَنْ يُخطئ، ويستر عيبه، ويواري سوءته، والأدهى أنَّ هناك مَن “يعزز” له !

هذه المشكلة تفاقمت وانتشرت مع وجود “تجار الدماء” الذين يتلبسون بثوب الصلاح والصلح والسلام، وضمان المتهور أن هناك مَنْ سيسعى له، ويقف معه، وينتصر له عندما يقتل شخصًا حتى لو كان من أجل أمر لا يستحق القتل، كأن يهجيه ببيت شعر، أو أن يعترضه في طريقه وهو في السيارة، أو بسبب مشادة كلامية وملاسنة حمقاء.

كما قلت – بداية- : إذا المشكلة اجتماعية، فإن علاجها اجتماعي أيضًا. لا بد من توعية المجتمع بأنَّ ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾[ البقرة: 179]، وأن هناك من يستغل طيبتها وحبنا للخير، ويستخدم كل ما يتيسر أمامه من أجل أن يحقق مكاسب مادية شخصية له بالدرجة الأولى.

التعقيب الثاني: أ.د فوزية البكر.

أكتب تعقيبي هذا وأنا في الطائرة. بجواري تجلس امرأة – ربما سورية الجنسية – بحجاب أبيض جميل، تقرأ القران في هدوء تام عما حولها من فوضي وارتباك ؛ سببه حمي السفر في الإجازات القصيرة. على وجهها تبدو علامة الرضي والسماحة، وكأنها رسالة تبعثها لنا جميعا أن نهدأ في هذا المكان الخانق حتى نهبط على الأرض. هذه المرأة بقراءتها الهادئة وسماحتها تمثل الوجه الإسلامي الحقيقي الذي تلطخه أحيانا رغبات البشر وأطماعهم المادية، وهذا ما يلخص القضية الحالية.

مَنْ ينظر مِن الخارج إلى مجتمع يأكل بعضه بعضًا بحجة الحق في رفع سقف مبالغ الصلح ما شاء، لا يسعه إلا أن يتذكر- مثلًا- كيف تنهش كثير من المؤسسات الغربية بعضها بعضًا من خلال ( السوينك، أي ويل سويو ) وقامت مؤسسات ومحامون متخصصون فقط  لذلك، مثلما ظهر لدينا سماسمرة ووسطاء ووجهاء ومناسبات؛ لتحصيل مبالغ الصلح وتقسيمها كغنيمة بين مَن ظفروا بها. هنا علينا أن نسأل الآتي :

  • مَنْ يقرر حجم مبلغ الصلح؟ وكيف لا يوجد سقف واقعي يتوافق مع الحالة المادية للقاتل وأهله ؟ وهل هناك مِن مانع شرعي لضبط مبالغ الصلح ؟
  • كيف يتم جمع مبالغ الصلح؟ ومن أين ؟ من أفراد العائلة، أو القبيلة، أو فاعلي الخير؟ ما حجم العبء المادي والمعنوي الذي تفرضه هذه ( الجزية ) العائلية أو القبلية أو المجتمعية على أفرادها ؟
  • كيف يحدث أن يقدم فاعل خير لدفع مبالغ يذهب الكثير منها إلى جيوب الوسطاء والمستفيدين، في حين تبقي مشروعات أساسية موجهة للفقر المادي والتعليمي والثقافي الذي أوجد شخصية مثل شخصية القاتل، فأوقعه في شرور رفاق السوء، أو المخدرات، أو غيرها، ولا يُلتفت لها ؟
  • هل هناك أية دراسات أو إحصاءات حول الخلفيات الاجتماعية لمَن ارتكبوا جريمة قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ؟ أكاد أرى أنهم من طبقات فقيرة، أو من محرومي الأب أو الأم، ومن طبقة اجتماعية بسيطة، لا نلقي لها بالًا في مجتمعنا.

هذه المجموعات تعيش في ما يُمكن أن نُسميه ( جاتوز )، تحكمه قوانين شيطانية، لا نعرفها نحن- المثقفين والدارسين- وكيف لنا أن ( ندنس ) أكاديميتنا بالنزول إلى ميدان الفقر والجريمة ؟

  • ما الذي يمكن لطفل قبيلة ما أو عائلة ما، يجبر أفرادها (إما قبولًا أو إجبارًا كعرف) لدفع مبالغ تخليص القاتل، وهو ما يعني حرمان طفل القبيلة من تلقي كثير من احتياجاته الأساسية : أو لنقل ما الذي سيستخلصه من ذلك؟ محاولة تجنُّب الوقوع في المشكلة أو الشعور بأنَّ هناك مخرجًا ما فيما لو اضطر هو للقتل ؟
  • كيف تزهق هذه المبالغ المرتفعة المقتطعة من أكتاف القبيلة والمجتمع، وهي في الحق لا تذهب إلى مشروع إصلاحي أو وقف خيري، يساهم في إشاعة السلم الاجتماعي؟

حددت لنا شريعتنا السمحاء أحكامها في قضايا قتل العمد أو الخطأ، كما أننا نتفهم جدًّا لوعة أهل القتيل ورغبتهم الأولية في الانتقام، لكن ما يهدف له الإسلام في مبادئه الأساسية هو إشاعة السلم وتشجيع روح العفو بالتقاط هؤلاء الساقطين وإعانتهم إذا ما عفي عنهم أهل الدم؛ ومن ثَمَّ أرى أن من الضروري وَضْع سقف لمبالغ الصلح لا يمكن تجاوزه حتى يتم الحد من هذه الظاهرة السلبية، وهذا يتم من خلال دراسة ظروف الأطراف الداخلة؛ فحتى في الغرب لا يمكن مطالبة شخص عادي بدفع ملايين الدولارات، لكن يمكن فعل ذلك مع شركة كبيرة يسمح دخلها  بهذا الهامش.

كما لا يجب أن تفتح المؤسسات الحكومية أذرعها لاستقبال ورعاية هذه القضايا، بل يجب أن تقف منها موقف عدم المشجع، مع تفكيك خلاياها المستفيدة من الباطن إن وجدت داخل المؤسسات الحكومية والخاصة.

المداخلات حول القضية:

  • واقع وأبعاد ظاهرة المبالغة بالديات.

في البداية أشار أ. عبد الرزاق الفيفي إلى أن ظاهرة المتاجرة بالدماء تحولت إلى ما يشبه البورصة، ولها مضاربون، ولكن كيف نصل إلى المقصد الكبير في الشريعة، وهو تحقيق الردع للقاتل أو من تسوِّل له نفسه، وفي ذات الحال نجد المجتمع يصنع في المقابل أناسًا يتولون تأجيج الصراع مع أهل الدم، ولكن بلغة ناعمة ومقلوبة وبدعوى الصلح، فكيف يتحقق الردع حينها ؟

وترى أ.د. سامية العمودي أنها قضية خطيرة فيها تغييب للوعي، وتشجيع على الفساد، وإيجاد مخارج لكل قاتل، فتهون جريمة القتل، ويصبح الاعتداء مقبولًا، وإزهاق الأرواح له مكافأة. وأضافت أننا نلعب على وتر شديد الحساسية، ونستنهض العواطف لحماية الفساد في ضوء تنامي ظاهرة تكون ديتها كذا مليون، فضلا عن غياب الإحصائيات، وغياب الأنظمة التي تقنن المبالغ، وغياب القانون الذي يفرق بين أنواع القتل، وغياب دور المسجد والمدرسة والإعلام، وكلها ترسخ لهذه المافيا.

في حين يرى أ. سمير خميس أن المبالغة في الديات ناتجة أيضًا عن حلم المجتمع في التحديث، وفي الوقت نفسه انكفاؤه عن المستقبل وتطلعه إلى الوراء، إلى الماضي، وانشداده له. فنحن مجتمع لا يزال يناقش مآلات الحداثة، فيما الماضي يحتفظ بقداسته، نركب أغلى السيارات، ونلبس أثمن الساعات، ونصرّ في الوقت ذاته على تلبس لبوس الآباء والأجداد.. نشعر بالفراغ، فنصنع بطولاتنا على جراح الآخرين تارة بدعوى الصلح، وتارة بالحفاظ على الدماء، ليأتي المال فاضحًا لكل تصرفاتنا المستترة بالورع، والمتلبسة لبوس التقوى.. لذا.. إذا اعتبرناها مشكلة مؤرقة فـ”المدنية هي الحل”.

وأضاف د. خالد الرديعان أنه يمكن كذلك النظر إلى قضية الدية أو العوض المادي بأنها نوع من “تشيئ” البشر؛ وذلك بسبب طغيان النزعة المادية، وما فعلته الطفرة المادية في مجتمعنا في العقود الماضية.

من جهة أخرى يمكن النظر للعوض المادي المُبالغ فيه كمؤشر لسيولة القانون الذي يتيح المجال لبروز مثل هذه الممارسات، حيث يختلط الشرعي بالمتواضعات الاجتماعية والأعراف القبلية، عندما يُوضع القانون بيد الناس، فهم حتمًا سيستخدمونه بطرق متعسفة ، ويبتذلونه بصور تجعله يخرج عن وظيفته الأساسية في تحقيق مبدأ العدالة.

ومن جانبه قال أ. أمجد المنيف: حول قضية المتاجرة بالدم، هناك نقطة جوهرية، لست متأكدًا إذا ما تمَّ التطرق لها أو لا، وهي خطيرة وأساسية، تتمثل في متاجرة “وسيط الصلح” بالصلح، حيث يقومون بأخذ مبلغ مالي ضخم بمجرد قبول استلامهم ملف الوساطة، ثم يعملون على عدم قبول العفو بلا مقابل مالي، حتى لا تضيع نسبتهم بالتصالح.. هؤلاء هم “عصابات الدم”، ومع الأسف لم يُسلط الضوء عليهم.

وتساءل أ. عبد الرزاق الفيفي: هل يمكن أن يُتبنى الموقف الشرعي والقضائي لعلاج هذه الظاهرة، مبدأ حفظ المال الذي قرره الدين من الضروريات الخمس ؛ لأن في ذلك أمورًا:

1-   إسراف وهدر المال محرم.

2-   الطريقة غير المقننة لمبلغ الديات والصلح، تجعل شبهة الإتجار بالبشر والأعضاء البشرية تقاربه.

3-  الأضرار المالية التي تقع على عاتق أهل الدم، وفيها زيادة في استيفاء الحق، واستيفاء الحق بما يزيد في إفراط يمنع ويضمن.

وفي هذا الصدد ذكر د. عبد الله العساف أن التعويل على الفهم والتعاون المجتمعي؛ لأنَّ الشرع لم يعارض العوض مقابل الصلح، الذي استغلته مافيا الدماء من محامين، ومصلحين، ووجهاء، وبعض القضاة.

أيضًا أشار أ. عبد الرزاق الفيفي إلى أن السلوك السيئ لا يقتصر على أحد، ولابد من علاج أي ظاهرة بتجرُّد، وقد يكون هناك بعض مَنْ يُحسب على العلماء والدعاة والمثقفين، وكذلك من يُحسب على وجهاء القبائل ممن يمارس السلوك الخاطئ المذكور.

وأوضح د. عبد الله العساف أن مافيا الدم ليست حكرًا على فئة دون أخرى، ولا يوجد في الإسلام رجال دين – فكلنا رجال للدين- وهي السبب الرئيس في المبالغة في مبالغ التعويض، وليس الدية كما يعتقد الكثيرون؛ فالدية مقابل القتل الخطأ، أما العمد فهو تنازل بعوض.

وأكد أ. أمجد المنيف على أنه لا يعتبر الدية متاجرة؛ لأنها معلومة بوضوح، من خلال رقم محدد.. يُؤخذ أو يتم التنازل عنه. أما المتاجرة فهي في القتل العمد، حيث لا سقف للتعويض، ولا ضوابط شرعية أو قانونية.

و حول النشأة الاجتماعية للظاهرة، أوضح د. خالد الرديعان أن علماء الاجتماع لا يطرحون أسئلة حول منشأ الظاهرة، لكنهم يحاولون فهمها وتدارك سلبياتها في حال كانت مشكلة؛ إذ من المعلوم أن الظواهر الاجتماعية ليست كلها مشكلات، فبعضها ظواهر إيجابية، بل ومطلوبة أحيانًا إذا كانت سلوكًا حسنًا ومفيدًا.

من خصائص أي ظاهرة اجتماعية- حسب دور كايم- أنها قسرية وموضوعية، بمعنى أنها تفرض وجودها على الأفراد، ومن ثَمَّ يستجيبون لها، وهي أيضا تلقائية بمعنى أنها تنشأ دونما سبب مقنع أحيانًا، لكنها تنتشر بسبب التفاعل الاجتماعي، وتصبح حقيقة موضوعية. ويؤكد إيميل دور كايم أن أي ظاهرة اجتماعية لا يمكن دراستها بمعزل عن الظواهر الأخرى، فهي ترتبط مع بقية الظواهر الاجتماعية ارتباطًا عضويًا. الظاهرة تُفسر بظاهرة أخرى، وهكذا.

وبما أننا بصدد ظاهرة العوض المالي للتنازل عن حق القصاص، فإنه يجب ألا يغيب عن البال بنية المجتمع السعودي الذي يتأسس في غالبه على البنية القبلية، والأسرة الكبيرة الممتدة التي ينظر لها الأفراد كمرجعيات مهمة في مسألة التكافل الاجتماعي وحماية الأفراد، رغم وجود أجهزة الدولة التي تخدم الجميع، بمن فيهم “مجهولو الوالدين” ممَّن لا يُعرف لهم انتماء أسري أو قبلي tribal. هذا يقودني لاستنتاج مفاده: أنه لو ارتكب جريمة القتل “مجهول نسب” فإنه لن يكون هناك حفلات جمع مال وسماسرة دماء ممن يدندنون على وتر القبيلة والعصبة وانتماء القاتل إلى جماعة مرجعية، تستطيع أن تجمع له مبلغ العوض.

المبالغة في الديات والعوض ترتبط ارتباطًا عضويًّا بمسألة القبيلة والانتماء لها. وهذه ليست دعوة لتفتيت القبيلة أو تحجيم دورها حتى ننهي المشكلة، لكن مجرد عرض لإحدى سمات ظاهرة الديات المبالغ فيها، وكيف ترتبط بظاهرة أخرى.

الشواهد تقول: إن هذه الظاهرة تنتشر فقط في المجتمعات القبلية كمجتمعات الجزيرة العربية (السعودية، واليمن، ودول الخليج) -على سبيل المثال- لكننا لا نراها في مجتمعات أخرى تجاوزت القبيلة؛ كالمجتمع المصري، واللبناني- على سبيل المثال لا الحصر. في المجتمعات الأخيرة نلاحظ أن النسق القرابي عمومًا صغير، والامتدادات الانتمائية محدودة للغاية؛ فالفرد بالكاد يعرف أقاربه من الدرجة الأولى، وشبكة صغيرة أخرى من الأقارب الثانويين تنشأ عندهم بفعل المصاهرة.

والخلاصة أن الظاهرة التي نحن بصددها ترتبط عضويًا بظاهرة القبيلة وأعرافها .. أكثر من أي شيء آخر. وعندما نهذّب مفهوم القبيلة وأعرافها وما يُراد منها، فإننا قد نحدّ من المتاجرة بالدم، وهو ما لن يتأتى إلا بدور حيوي يقوم به شيوخ القبائل لمواجهة المشكلة، ووضع أعراف أخرى تتماشى مع مستويات التحضر وقوانين الدولة الحديثة، دون أن نلغي القبيلة، فلها وظائف أخرى نريد الحفاظ عليها.

وتساءلت أ.د. سامية العمودي: كيف تجاوزت الدول الأخرى القبيلة؟ وهل هناك دراسات وطرق يمكن اتخاذها واتباعها لإحداث تغيير مجتمعي يتجاوز القبيلة أم أننا مختلفون في هذا النمط؟ وأين دور التعليم ومناهجنا في تغيير الفكر القبلي؟ وهل هناك ما تم عمله أم أن بعضًًا من مناهجنا فشلت في هذا الجانب؟

وفي هذا الشأن ذكر د. خالد الرديعان أن القبيلة كمفهوم وممارسة متجذرة في مجتمعنا، ولا يمكن الخلاص منها. الذي يمكن القيام به هو سنّ القوانين والأنظمة لتحييد الأعراف القبلية التي قد تتعارض مع فكرة الدولة الحديثة. في بعض المجتمعات تقوم القبيلة بوظيفة الدولة وكأنها دويلة داخل الدولة، كما في اليمن وأفغانستان.

ويرى أ. مطشر المرشد أن المجتمع لا يزال قبليًا، ولا يمكن تجاوز القبيلة بهذه السهولة، والسبب الرئيس خلف تفشي الظواهر السلبية، والتي أصبحت تسيء للقبائل نفسها، هو المحاولات المستميتة لتهميش القبيلة وتفتيتها.

أما د. خالد بن دهيش فيرى أنه ليست القبيلة وحدها مَن تُسهم في عتق الرقاب من خلال وسطاء الصلح؛ فمثلًا: أبناء الملك عبد الله- رحمه الله- يشاركون في عتق الرقاب، فقد تم في صيف العام الماضي ٢٠١٦ عتق تسع  رقاب من القصاص صدقة من والدهم، وقد نجحت حملات أخرى في عتق رقاب من القصاص عبر تبرعات سخية من قبل أثرياء ووجهاء أو مواطنين، بعضها من خلال إمارة المنطقة؛ لتغطية المبالغ المطلوبة، ودفعها لأسر ضحايا القتل العمد؛ للتنازل عن القصاص، والاعتقاد أن وسطاء الصلح في القبائل لا يرغبون في التدخلات من خارج القبيلة لأهداف المتاجرة؛ للحصول على نسبهم المالية الكبيرة من خلال تجميع العوض المالي لعتق رقاب أبناء قبيلتهم.

وأشار د. حميد الشايجي إلى أن البعض يخلط أحيانًا بين جرائم وعقوبات الحدود وجرائم وعقوبات القصاص. فجرائم الحدود حق لله تعالى لا يجوز الشفاعة أو التوسط أو التهاون في تطبيقها (مثال: المرأة المخزومية التي سرقت، وجاء جماعة من بني مخزوم للشفاعة لها، وعدم تطبيق عقوبة حد السرقة عليها، وكان موقف الرسول- صلى الله عليه وسلم- رافضا لذلك).

بينما عقوبات القصاص هي العقوبات بالمثل في حالة إمكانية تحقيق القصاص التام. وهي حق للعبد، وصاحب الدم هو الوحيد الذي له الحق في طلب إنفاذ العقوبة بالمثل، أو التنازل مقابل ديّة، أو العفو لوجه الله. وهذا النوع من العقوبات يجوز فيه التوسط والشفاعة، والسعي لعدم تنفيذ العقوبة، والتنازل أو العفو عنها.

أما عقوبات التعزيز فهي اجتهاد من ولي الأمر أو مَن يفوضه – كالقاضي- لسنّ العقوبة الرادعة للجرائم الأخرى، والمستحدثة التي لم ترد في الحدود أو القصاص، وكذلك جرائم الحدود التي لم تكتمل شروط تطبيقها لوجود شبهة فيها، مع الأخذ في الحسبان حال المجرم (تمرُّسه في الإجرام من عدمه)، وحال الجُرم (مدى انتشاره، وخطورته، وضرره)، فيزاد في العقوبة، أو يخفف بناء على ذلك. ولولي الأمر الحق في إنفاذ أو إيقاف العقوبة التعزيرية.

وبناء عليه فالحديث في القضية الحالية لا يتناول عقوبات الحدود ولا عقوبات التعزير، أي ليس عقوبة القتل حدًا، أو القتل تعزيرًا التي لا تعد حقًا للعبد… بل عقوبات القصاص، التي هي حق للعبد، ومنها عقوبة القتل قصاصًا. والتي يجوز التوسط بها لتخفيفها.

ويلاحظ أن الطفرة المادية في المجتمع السعودي أحدثت ربكة كبيرة في التعامل مع قضية التنازل عن القصاص مقابل مبلغ مادي. حيث إن الأمر أصبح متاجرة بدماء ومصائر الناس في ظل وجود السماسرة المستفيدين والمنتفعين من ذلك. فهم حريصون على المال مثلهم مثل سماسرة العقار، ينظرون إلى نسبة العائد من أي عملية يقومون بها؛ لذلك من مصلحتهم أن يرتفع مبلغ الدية لترتفع نسبتهم؛ لذا يجب التركيز على تقليم أظافر السماسرة، لتخف عملية المزايدة في الديات. وأضم صوتي للمقترحات التي تنادي بإبطال دور السمسار.

وأضاف د. حميد الشايجي: يُلاحظ أن هذه الممارسة المادية البحتة، تمت المبالغة فيها بشكل كبير؛ مما أدى إلى إعاقة معالجة قضايا لمحدودي الدخل، كان بالإمكان فيها التنازل أو العفو. ناهيك عن النظرة العامة داخل وخارج المجتمع السعودي لهذه الممارسة. أذكر حصل حادث مروري أدى إلى وفاة وافد عربي، وقائد السيارة شاب سعودي يتيم، قدرته المادية محدودة، والخطأ عليه. طُلب مني الشفاعة للشاب لدى أسرة المتوفى. والمفاجأة أنهم من كثرة ما يسمعون عن مبالغ الديات الخيالية طلبوا مبلغًا (مليون ريال) ليتنازلوا، وهم لا يعلمون أن الحادث يُعتبر من القتل الخطأ، وأن الدية الرسمية له هي ٣٠٠ ألف ريال، وعندما بينت لهم ذلك تفاجئوا وانصدموا بعد أن كانوا يحلمون بالمليون. ما الذي جعلهم يذهبون لهذا الأمر؟ إنه المبالغات والممارسات الخاطئة من البعض لأمر الدية.

وفي تصور أ. عبد الرزاق الفيفي فإن صمام الأمن والأمان في أي مجتمع هو (نظامه) الذي ( يعتقده ) أفراده، ويرون فيه تحقق الاطمئنان، وكل محاولة لإضعاف ذلك النظام سيعود سلبًا على حالة الأمن، والعكس بالعكس. وعليه فإن الممارسات التي من وهناك للتشكيك والتحقير والتمرُّد على (النظام) الذي (يعتقد) كل الأفراد أو أغلبهم أنه هو صمام الأمن والأمان لهم ؛ يؤدي ذلك لمظاهر انفلات متعددة الصور والزوايا، ومنها الاعتداء بالقتل. والاعتقاد أن أعداء البلد إذا أرادوا صناعة انفلات أمني يهدر الأنفس بالقتل دون أن يخسروا ( دولارًا واحدًا )، فكل ما عليهم أن يزيدوا جرعات التنقص والاحتقار والتمرد على نظامنا ورجاله ؛ فنظامنا الذي نعتقد فيه الأمن والأمان والإيمان هو الإسلام، ورجاله هم ولاة الأمر، وعلماء الشريعة.

واتفقت أ. علياء البازعي مع طرح أ. عبد الرزاق، وأضافت أن هناك بنيانًا متينًا نستند عليه ولله الحمد، ومَن يُشكك في ذلك فلعله يرى صورة مشوشة قليلًا.، وبعض الممارسات التي نراها سلبية هي جزء من نسيجنا السلوكي الاجتماعي، وتغييرها يتطلب وقتًا طويلًا…لكن ليس بالضرورة أن تتغير للأفضل؛ فقد تأخذ شكلًا آخر يتناسب مع الفترة الزمنية.

وذكر د. خالد الرديعان أن الكثير من الممارسات هي جزء من ثقافة المجتمع، وتستمد وجودها من ظاهرة المحاكاة التي أكد عليها جبرائيل تارد؛ حيث يقلد الأدنى من هو أعلى منه. وبعض الممارسات يصعب اقتلاعها رغم سلبيتها المتناهية.

فقط سن القوانين وتطبيقها بعدالة على الجميع هو ما سينهي الكثير من الممارسات المرفوضة، حتى وإن تدثرت برداء الدين أو بوشاح القبيلة. وكمثال: تقول إحدى الروايات إن بعض أبناء وجهاء المجتمع ومتنفذيه يقبعون خلف القضبان بسبب جرائم قتل ارتكبوها، وهؤلاء أمام أسرهم خياران: القصاص وهو ما يرفضون، بل إنه مستبعد إن أردنا الدقة، أو دفع عوض مالي خرافي لا يرونه مبلغًا كبيرًا بحكم قدراتهم المالية اللامتناهية، وهي صفقة ينجحون بإتمامها في نهاية المطاف.

هذه الممارسة واحدة من الأسباب التي أسهمت كثيرًا في شيوع ظاهرة المغالاة في العوض المالي، الذي أفرز بدوره سماسرة الدم، وتجار الرقاب، ممَّن يعملون تحت يافطة “والصلح خير”.

ومن ناحيته أوضح د. عبد الله بن صالح الحمود أن مناقشة قضية الديات والمبالغة فيها تأتي في وقت استفحلت وطغت قضية الديات بأرقام ما أنزل الله بها من سلطان، ولاشك أن أي تجاوز يحدده الشرع أو القانون، يعد ظاهرة سيئة تضرب في خاصرة أي مجتمع.

الديات ذات العوض المقنن في أي مجتمع، جرى تقنينه استنادًا إلى طبيعة الجرم الذي يلحق بالمتضرر، وأخذًا بالظروف الاقتصادية والإمكانات الممكن الوفاء بها من قبل فاعل الجرم . ولهذا فإن أي تجاوزات تفوق ما حُدد له أو ما قُنن له، فهو يعدُّ من باب العبث بالمصلحة العامة.

وإذا ما تحدثنا على وجه الخصوص حول جرائم القتل، فلاشك أن العقوبة الرئيسة هي القصاص، أخذًا بقوله تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [ البقرة:179] أي بقاء؛ وذلك أن القاصد للقتل إذا علم أنه إذا قتل يُقتل يمتنع عن القتل، فيكون فيه بقاؤه وبقاء من همَّ بقتله، وقيل في المثل:” القتل قللَّ القتل”، وقيل في المثل:” القتل أنفى للقتل” ، وقيل معنى الحياة: سلامته من قصاص الآخرة، فإنه إذا اقتُص منه حيا في الآخرة، وإذا لم يُقتص منه في الدنيا اقتُص منه في الآخرة، ( يا أولي الألباب لعلكم تتقون )، أي تنتهون عن القتل مخافة القود.

  ومع ذلك أرسى الشارع قاعدة تعفي القاتل من هدر دمه عن ما هدر من دم نفس بريئة، وهي الدية المدفوعة لأهل القتيل، وبالتحديد هنا – على سبيل المثال- في المملكة العربية السعودية، والتي حُددت بمبلغ ( ثلاث مئة ألف ريال )، لاشك أن في ذلك مراعاة اقتصادية واجتماعية، رأى فيها المشرع مواءمة لطرفي القضية، دفعًا وقبضًا لهذه القيمة المقننة.

 من هنا لابد من الاقتناع والخضوع التام عما قننه ولي الأمر درءًا من الوقوع في تجاوزات لا يُحمد عقباها. وبالتالي لابد أن يرافق هذا التقنين ضوابط ومتابعة تحدُّ بنسبة كبيرة من عمليات المتاجرة بقضايا الاقتتال- إن صح القول- ، وهو أمر واقع، وأضحى ظاهرة تنذر بخطر قادم، قد يؤثر على مجتمعنا تأثيرًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، بل وأمنيًّا أيضًا.

ومن وجهة نظر مغايرة قال م. سالم المري: أختلفُ مع التوجُّه السائد في ضوء ما تمت الإشارة إليه حول هذه القضية، لعدة أسباب:

1-  مهما تعاطفنا مع عقوبة الإعدام (وأنا معها ولستُ ضدها)، إلا أننا نسير خلاف التوجه العالمي لحقوق الإنسان، ومعظم الدول أسقطت هذه العقوبة، ويومًا من الأيام سنجد أنفسنا مجبرين على الانصياع للتوجه العالمي، فنحن دولة مِن ضمن دول العالم، وكما أسقط الجهاد، وأصبح إرهابًا لن نستغرب أن يُعاد النظر في هذه العقوبة أو تُخفف.

2-  صاحب الدم حر في أن يتنازل عن القصاص، وهذا حق له، ولا يجوز مصادرة حقه. كما أنه من حق أهل القاتل السعي لطلب الصلح، وليس عليهم ملام.

3-  النفس البشرية ليس لها قيمة محددة، والدية المحددة بثلاث مئة ألف استهتار بقيمة الإنسان وحطّ من قدره، وعليه فإن المبلغ الذي يدفع في الإبقاء على حياة إنسان مهما كان ليس بكثير.

4-  نعم ضد المتاجرة بالدماء، وهذا يعني يجب تحريم مبالغ السمسرة والتشهير بمن يقبض لقاء هذا العمل غير أهل القتيل، وهي نادرة على أية حال، فغالبًا يقومون بالوساطات؛ طلبًا للأجر من الخالق.

5-  هناك خلط بين العداء للقبيلة وبين العداء لظاهرة دفع الأموال لإعتاق الرقاب، لا لشيء إلا لأن بعض القبائل لديها من التنظيم والقدرة المالية ما يجعلها قادرة على افتداء بعض المحكومين، وهذا يرضي أصحاب الحق.

وأستغرب من أي عاقل ينفي حق صاحب الدم في الركون للصلح والحكم بما يراه دية، حتى لو بالغ رغبة في إيجاع وإيلام القاتل ومن سيفتديه، كما أستغرب من أولئك الذين ينفون حق المحكوم عليه في طلب العفو وافتداء نفسه بما يستطيع.

وأوضح د. عبد الله بن صالح الحمود أن الصلح شيء، وطلب ديات مبالغ فيها شيء آخر. فالنفس البشرية التي طال شرها تجاه أنفس بريئة لابد أن تنال الجزاء الوارد نصًّا في كتاب الله ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أن النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ  فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ المائدة:45].

مَن قال إن الاتجاه العالمي أوجد بدائل نهائية لعقوبات القتل، سواء المؤبد أحيانًا أو غير ذلك، فذاك لا يعني إلغاء عقوبة الإعدام، فمسألة تنفيذ الإعدام في القتلة أمر قائم حتى في أشد الدول التي تدعي الديمقراطية( أمريكا ) مثالًا .

التنازل عن الدم لاشك أنه حق لأهل القتيل، وبالمقابل هناك حق عام تقوم به الحكومة نيابة عن المجتمع، وهو إنزال أي عقوبة ما حتى ولو تنازل أهل القتيل؛ درءًا لتفشي ظاهرة القتل أو الاقتتال.

مسألة تحديد أقيام الديات تشريعًا من المشرع أو حتى مطالبة من أهل القتيل، هي ضوابط واجتهادات مهما يكن تقديمها أو المطالبة بها، فلا تعني مقدارًا حقيقيًّا وعوضًا عما حدث من آلام لأهل القتيل، إنما يعد في النهاية إرضاء لأهل القتيل.

وأخيرا فإن مسألة طلب العفو هو حق يُطالب به القاتل، والأمر ينتهي إلى قرار أهل القتيل بطبيعة الحال.

وأورد أ. عبد الرزاق الفيفي مجموعة من النقولات المهمة حول القضية لتوضيح بعض من أبعادها:

  • تكمن فلسفة وأساس العقوبات في الإسلام (القصاص) في قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ أي التساوي بين الإثم المرتكب والعقوبة الرادعة. فقد عبر القرآن عن العقوبة بالمُثلات، فقال تعالى في عقابه الأمم السابقة: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ﴾ [ الرعد :6] ، أي أن العقوبات مماثلة للذنوب والآثام، فالعقوبات الإسلامية عامة تقوم على المساواة بين الجرم والعقوبة؛ ولذلك تُسمَّى (قصاصًا)، وتلك غاية وهدف تسعى إليه كافة النظم القانونية الموجودة في العالم، ولم يصل إليها إلا النظام الإسلامي.

       ولذلك تقرر في التشريع الإسلامي إقامة العقاب على أساس حماية المصالح الإنسانية المتمثلة في حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، واعتبار العقوبة من العدالة. وظهرت منطقية وحيوية ومضمون ومفهوم الآية الكريمة ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾، والملاحظ أن الآية الكريمة اختتمت بالنداء على {أولي الألباب} أي أصحاب العقول النيرة المفكرة، وليست الضالة المظلمة، وفي ذلك تكمن سمات المعالم الحضارية في الرقي بالفكر الإنساني.

       ورغم أن كافة النظم القانونية الوضعية الموجودة في العالم قد جرّمت الاعتداء على أي من هذه الأصول الخمسة، ولكنها فشلت في المحافظة عليها. حتى إن مجتمعات هذه النظم منها مَن انهار تحت وطأة الجريمة، ومنها من هو في سبيله إلى ذلك الانهيار، فمعدلات الجريمة بلغت أرقامًا قياسية مرعبة تنذر بكارثة محققة في تلك المجتمعات. وفيما فشلت هذه النظم الوضعية في تحقيق المقصود، نجحت الشريعة الإسلامية في السياسة الجنائية من حيث التجريم والعقوبة والمواءمة بينهما؛ فنرى أن الشريعة الإسلامية قد شرّعت العقوبات الزاجرة، ليكون فيها حفاظٌ على أرواح الناس ودمائهم ودينهم وأعراضهم، ولتكون رادعة لكل من تسوِّل له نفسه الاعتداء على هذه الحرمات.

       ومن هذه التشريعات قرار الشارع الحكيم بتشريعه (الدية) لا لأنها تصلح كمماثلة للآدمي، أو أنها ثمن يُدفع مقابل دمه أو بعض أعضائه، فالإنسان لا قيمة له إلا الإنسان؛ لأنه لو كان كذلك لاعتبر ذلك هبوطًا بمستوى الإنسان، وإهدارًا لآدميته، وهو ما لا يقبله التشريع الإسلامي، وإنما شُرعت الدية لصون الدم الإنساني عن الهدر، ولتفتح أبواب الرحمة والتسامح بين الناس، وتكون زجرًا للمجرمين والمخطئين اللامبالين بارتكاب الجرائم، ولتحفظ دمًا آخر أتيحت له فرصة الصون.

  • ومن هنا يتضح لنا فائدة القصاص أنها فائدة عامة تشمل المجتمع كله ولم تقصره على ولي الدم وحده (المجني عليه) بدليل قوله تعالى في بداية الآية (ولكم)؛ فالقصاص ليس انتقامًا لفرد، ولكن للمحافظة على حياة الجماعة والمجتمع المسلم كله.

       وتعتبر هذه الآية ردًا بليغًا على دعاة إلغاء عقوبة الإعدام، وتعضدها وتساندها وتؤكدها الآية (32) من سورة المائدة؛ لأن إلغاء هذه العقوبة يعني كثرة القتل في المجتمع وانتشار الفوضى؛ مما يؤدي إلى انهيار هذه المجتمعات، فلا خوف من الحرمان من الحياة، وبذلك تنتشر الجرائم الخطيرة التي تُهدِّد كيان المجتمع كله.

       والناس بمعاييرهم البشرية القاصرة‏,‏ حاول بعض المتعالمين التطاول على حد القصاص‏,‏ معتبرين أن قتل النفس الإنسانية لا يليق أن يمارسه المجتمع في عصر التنوير الذي يدعونه‏,‏ وهو في الحقيقة عصر الظلام‏؛ لأن الإنسان إذا عاش بأحكامه هو‏,‏ متجاهلا أحكام خالقه‏,‏ فإنه لا يمكنه أبدًا أن يري النور أو أن يحقق العدالة الاجتماعية‏.‏

       وانطلاقًا من هذه الفلسفة المادية المحضة بدأت بعض الدول الأوروبية في إلغاء عقوبة الإعدام‏,‏ فألغت بلجيكا العقوبة عمليًّا في سنة‏ (1863‏ م‏)،‏ وتبعتها هولندا سنة ‏(1870‏ م‏),‏ ثم إيطاليا‏ (1890‏ م‏),‏ والنمسا ‏(1918‏ م‏),‏ ثم كل من ألمانيا والدنمارك‏ (1930‏ م‏),‏ وتبعتها في ذلك بقية الدول الغربية بالتدريج‏.‏ ففي سنة‏ (1964‏ م‏)‏ أصدرت بريطانيا قانونًا بإلغاء الإعدام.

       وفي مقال بعنوان:‏’‏ ماذا جري في البلاد التي ألغت عقوبة الإعدام؟‏’‏ لخص الدكتور حافظ يوسف ما نشرته مجلة ريدرز دايجست ‏(READERSDGEST)‏  في سنة‏ (1995‏ م‏)‏ تحت عنوان:‏’‏ الجريمة في أمريكا هل تسير إلى الأسوأ ؟‏’‏ جاء فيه‏:‏ أنه بعد عشر سنوات من دراسة الجريمة في أمريكا توصل إلى ما يلي‏:‏

‏(1)‏ أن ثلث من أدينوا بجريمة القتل في الولايات المتحدة الأمريكية كانوا من معتادي الإجرام، الذين أُفرج عنهم تحت نظام التعهد، أو نظام الوضع تحت الرقابة‏.‏

‏(2)‏ في مدينة نيويورك تم الإفراج المبكر عن مجرم اعتاد اغتصاب النساء؛ بدعوي حسن سلوكه في داخل السجن‏.‏

‏(3)‏ تضاعفت فرص تعرض الفرد ليكون ضحية لجريمة عنف عدة مرات خلال الثلاثين سنة الأخيرة‏.‏

‏(4)‏ رغم الارتفاع الرهيب لمعدل الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية حاليًّا فإن هذا المعدل يزداد سوءًا باستمرار‏.‏ ففي ديسمبر‏ (1996‏ م‏)‏ سجلت‏ “هيئة العدالة للجميع‏”(‏ وهي هيئة أمريكية‏)‏ على شبكة المعلومات الدولية ‏(‏الإنترنت‏)‏ تقريرًا مفصّلا، جاء فيه‏:‏

‏- إنه خلال ثلاثين عامًا ‏(‏من ‏1966-1995‏ م‏)‏ وقعت خمس مئة وسبعون ألف‏ (570,000)‏ جريمة قتل في الولايات المتحدة الأمريكية‏ (‏بمتوسط حوالي عشرين ألف جريمة سنويًّا‏)‏ لم يُنفذ حكم الإعدام فيها إلا في ثلاث مئة مجرم فقط.‏

‏-‏ إنه في الفترة بين عامي ‏(1973‏م‏), (1995‏م‏)‏ تم إصدار الحكم بإعدام ‏(5700)‏ قاتل، ولكن لم يُنفذ الإعدام إلا في ‏(230)‏ فقط من هؤلاء القتلة‏.‏ كذلك أظهر استقصاء قام به معهد جالوب ‏(GALLOP)‏ في الولايات المتحدة الأمريكية سنة ‏(1991‏ م‏)‏ أن ‏(76%)‏ من الجمهور الأمريكي يحبذون تطبيق عقوبة الإعدام على مستحقيها‏,‏ في حين يعارضها‏ (18%)‏ فقط‏,‏ بينما كانت هذه النسب سنة‏ (1966‏ م‏)‏ على عكس ذلك‏,‏ فقد كان المحبذون لتطبيق عقوبة الإعدام‏ (42%)‏ والمعارضون لذلك ‏(47%).‏

وذكر أ. خالد الحارثي أن مصالح تنامي هيمنة ظاهرة الديات المليونية تتعارض مع حفظ الضرورات الخمس في نظرية الدين الإسلامي، كما تفوق أي مجهود يسعى للجمع بين مصالح القاتل ومصالح المقتول، دون هدم المنطق، وهدم عدل الوحي القرآني بمسوغات غير مقبولة . وأن هناك صناعة الثروات من خلال إعفاء القتلة المجرمين من أحكام الإعدام المستحقة، وتقديم مسوغات لقبول ذلك .

وعلق د. حميد الشايجي بأن جرائم القصاص حق للعبد، حيث يحق لولي الدم:

1-   المطالبة بالقصاص.

2-   التنازل عن القصاص مقابل دية.

3-   العفو لوجه الله دون دية.

فالأحكام في مثل هذه القضايا واضحة، والكلام هنا عن ما الذي أدى إلى المبالغة في مبالغ الديات؟ وكيف تتم معالجة ذلك؟

ومن وجهة نظر أ. مطشر المرشد  فإن هناك عوامل أخرى تسهم في تفشي ظاهرة المبالغة في الديات، ومن أهم تلك العوامل :-

  • عدم تدخُّل الجهات الرسمية للتشديد على لجان إصلاح ذات البين التابعة لإمارات المناطق، بأن يتم التعامل مع أشخاص معتمدين رسميًّا من الدولة كشيوخ ومعرفين، وأيضًا التوجيه بأن تقوم لجان الإصلاح بكتابة ميثاق عام وشروط وأساليب التدخل في قضايا الدم.
  • حب الظهور والبروز لبعض المهايطية الذين يعملون بشتى الطرق؛ لكي يقحموا أنفسهم في قضايا الصلح، وذلك للتصوير وذكر أسمائهم، ويحرصون على أن تكون الجاهية بقيادة أصحاب سمو وعليا القوم، وأيضًا ارتفاع حجم مبلغ الدية – كل هذا بغرض إشباع غرورهم وحبهم للتسلق، هم كذلك أصبحوا السماسرة المحترفين، ويحركون جميع أطراف القضية، ويحددون النسب والمبالغ التي تمرر لهذا وذاك …

ظاهرة الديات الفلكية انهكت أفراد القبائل ماديًّا، وجعلت من يهايطون يستسهلون إزهاق الأنفس، وهناك قبائل ترغب في أن يُحدد سقف الدية عرفيًّا باتفاق بينهم، وكذلك وضع آليات وشروط تدخل الوجهاء، لكن محبي البروز والتفاخر يحاولون باستمرار الحد من هذا التوجه .. والرأي أن تدخل إمارات المناطق لإعادة جهود إصلاح ذات البين إلى مسارها الصحيح، وإعادة اختيار أعضاء تلك اللجان بعد فلترتهم بشكل دقيق، وتوجيههم للتحرك نحو إقامة أنشطة توعوية للحد من هذه الظاهرة.

  • الحلول المقترحة في ضوء الإشكالات الراهنة:

اقترح د. عبد الله بن صالح الحمود مجموعة من المقترحات التي قد تكون من الأسباب في الخروج من هذه الظاهرة، ظاهرة المبالغة أو المتاجرة بالديات، وتتضمن ما يلي:

1-  أن تكون دية القتل بحد أدنى خمس مئة ألف ريال، وبحد أقصى مليون ريال، ويكون ذلك اتجاهًا يُدرس ويُقنن لدى المحاكم الشرعية، فقد يرى البعض أن فيه من التغير المقبول إلى حد ما لأهل القتيل، وقد يسهم في بعض مِن التجاوزات المشاهدة.

2-  ألا يتوسع أهل الخير في الشفاعة لأهل القتيل إلا في حدود ضيقة، ولحالات يتأكد فيها الأمر أن الجاني لم يكن متعمدًا من ناحية، ولم يكن ذا سوابق أمنية.

3-  أن تسعى الجهات المختصة بعدم السماح لأي فرد أو جماعة بجمع أموال؛ بغرض دفع ديات تتجاوز المقنن لها في المقترح، وهو مليون ريال.

4-  أن يكون تطبيق حد القصاص مُقدّمًا على قبول الدية، إلا إذا رأى أهل القتيل خلاف ذلك، سواء قبول دية أو العفو لوجه الله تعالى.

5-  أقترح أن يكون للحق العام تقنين حديث، سواء قبل أهل القتيل دية أم لا، وذلك أن يكون هناك حكم بالسجن لا يقل عن عشر سنوات، خصوصًا إن قبل أهل القتيل دية مدفوعة لهم.

وذكر د. عبد السلام الوايل أن ظاهرة المبالغة في الديات تحولت لصناعة. صناعة لها آليات وأساليب والأهم اقتصاد. إنها تجارة مربحة للوسطاء، الذين يأخذون بالنسبة وليس “قطوعه”. ولذا، فإن تصاعد المبالغ وزيادتها من صالحهم هم أولا. هذه الظواهر، صناعة التنازلات وأدوار الوسطاء، تحتاج دراسات كيفية، تستقصي مثل هذه الظواهر عبر المقابلات، وليس عبر استبيانات، مهما كانت معدلات الصدق والثبات لأسئلة الاستبيانات. دراسة اثنوغرافية لباحث يلازم(3) وسطاء من بداية قضية ما إلى نهايتها، كفيلة بفهم كيف أن قوى اجتماعية ذربة اللسان، وتراكم خبرات التواصل والتشبيك تمكنت من رفع “سعر” القتلى لعشرات الملايين.

واتفقت أ.د. سامية العمودي مع الرأي السابق، وأكدت أنه بالفعل حان الوقت لنعرف قيمة البحوث والإحصائيات، وهذا النوع من الدراسات الكيفية يحقق نتائج تمكّن من الفهم والتخطيط ووضع استراتيجيات وحلول، ويجب أن نهتم بمراكز الأبحاث من هذا النوع.

وباعتقاد أ. مطشر المرشد، فإن الجزء الاجتماعي مهم، ولكن نقطة البداية يجب أن تكون من خلال إعادة النظر في أسلوب اختيار وتأهيل وتمكين لجان إصلاح ذات البين التابعة لإمارات المناطق، وأيضًا وضع أطر تنظيمية تحكم تحركات الوجهاء وأصحاب النفوذ في المجتمع / أمراء وغيرهم. ويمكن القضاء على جزء كبير من الأمور السلبية من خلال التركيز على كيفية اختيار أعضاء لجان الإصلاح، ووضع آليات لمتابعتهم، والإشراف على أدائهم.

من ناحيته تحفظ د. خالد الرديعان على الإسراع في تطبيق عقوبة الإعدام رغم شرعيتها. ومبعث تحفظه هو خوفه من انتزاع اعتراف المتهم بوسائل غير مقبولة، كما أن إجراءات التحاكم قد يعتريها بعض النقص. السجن المؤبد قد يكون بديلًا مناسبًا؛ إذ ربما برزت أدلة جديدة تساعد على براءة المتهم، في حين أن التسرع في تطبيق عقوبة الإعدام يبطل هذه الفرصة التي لا تعوض.

وإذا كان لابد من الإعدام فليطبق فقط على الحالات التي وردت في القرآن، ولا يتعدى ذلك إلى حالات أخرى مما يقع تحت حد الحرابة الذي يجب إعادة تعريفه بشكل دقيق، بحيث يتماشى تمامًا مع النص القرآني.

أما موضوع الديات المبالغ فيها فيمكن ضبط الموضوع عن طريق الجهات الرسمية (إمارة المنطقة)، وألا يُترك لمن هبَّ ودبَّ ليتولاه من السماسرة والوسطاء، وشيوخ القبائل، وحتى الدعاة ممن يقومون بدور بارز في هذا الموضوع. إذ عندما يتقرر مبلغ الدية فإنه يفترض فتح حساب للدية تشرف عليه إمارة المنطقة، وتجريم جمع النقد واستلامه من قبل أي شخص، وكل من يريد المشاركة فليدفع للحساب المذكور مع تسجيل اسمه، ومقدار مساهمته في الدية.

هذا الإجراء سيحدّ كثيرًا من تدخل الوسطاء، على أن تحدد الإمارة شيوخ القبائل الذين تكون مهمتهم إقناع الناس بالمساهمة في حساب الدية دون أن يستلموا منهم نقدًا. يصعب بالطبع وضع سقف للعوض أو الدية؛ فالجميع سيطلب سقفها العالي، ومن ثم يُترك هذا الأمر لأهل القتيل الذين يُفترض إقناعهم بعدم المغالاة في العوض إذا كانوا قد قبلوا مبدأ العوض.

وعند الاستقرار على مبلغ معين ولنقل خمسة ملايين ريال، فإنه يحدد لها وقت لكي يتم جمعها ولنقل خلال سنة أو سنتين. وفي حال لم يتم جمع كامل المبلغ، وجُمع ثلاثة ملايين فقط في المدة المتفق عليها فإنه يقال لأهل القتيل: هذا ما تم جمعه، والخيار لكم إما أخذه أو تنفيذ الحكم.

هذا الإجراء مفيد بطريقتين: الحد من طلب مبالغ كبيرة غير معقولة، والقضاء على سماسرة الدم وتحجيم دورهم، ومن ثَمَّ توقفهم عن هذه التجارة البائسة.

وعند قبول العوض ودفعه لأهل القتيل فإنه يفترض- وكحق عام- أن يتم حجز القاتل في السجن فترة طويلة يقررها القضاة بناء على اعتبارات اجتماعية وقانونية؛ كعمره، وحالته الاجتماعية، وما إذا كان له أولاد أم لا، ونوع جريمته، وكيف ارتكبها، وأداتها، وظروف ارتكابها.

واتفق أ. عبد الرزاق الفيفي مع ضرورة تحقيق اليقين بثبوت حد القصاص على الشخص؛ فقد نجد في حيثيات أغلب القضايا ما يدرأ الحد، ويجعل من عقوبة السجن المؤبد حلًّا ناجحًا، ولكن لدينا في مجتمعنا العربي بالذات من طرق التفكير الانتقامية؛ مما تجعل لدى المعتدي جاهزية حتى لموضوع السجن المؤبد، ولكن عندما تضاف عقوبات عليه كالأشغال الشاقة جدًّا، قد تسهم في حل الأمر بشكل جزئي.

في حين قال د. عبد الله العساف: مازلت أؤمن بذلك “ولكم في القصاص حياة”، وكلمة حياة جاءت في سياق النكرة، أي حياة آمنة مطمئنة، هادئة، بها تنمية وصناعة واستثمار، وكل ما ينفع؛ فإيران، والصين، وأمريكا، وغيرها بها إعدامات ولم يعترض عليها أحد!!

كما أنه ليس هناك إكراه للمتهم على الاعتراف، وخصوصًا في مسألة القتل العمد. فدوائر التقاضي التي يمر بها المتهم بالقتل كفيلة ببيان هل اعترف رغمًا عنه. أما تحديد مبلغ معين فقد تم إقراره في عدد من المناطق، لكنه لم ينفذ؛ لأن المستفيد والنافذ لا يرغبان في تطبيقه.

التوعية الأسرية والاجتماعية والدينية في غاية الأهمية، لكن ليس لكل جريمة قتل، فما يثبت فيها التخطيط والاستدراج ليس لها إلا السيف، وما عداها يمكن التفاوض عليه في المتعارف عليه اجتماعيًّا، ولا تقبل المحاكم إصدار الصك فيما يتجاوز هذا المبلغ.

ومن جديد أوضح د. خالد الرديعان أنَّ عقوبة الإعدام عليها جدل عالمي قديم ويتجدد، والفكرة المطروحة هي عدم التسرع في إصدار حكم القصاص، إذ ربما برزت أدلة جديدة تمنع تطبيق الحكم، وتكون في صالح المتهم. وأضاف أنه يتفق كذلك في مسألة أن ما تقوم به بعض القبائل من ممارسات، وربما “هياط” هي ردود أفعال لقضية التفتيت detribalization التي تمارسها بعض أجهزة الدولة. إن القبيلة تظل وحدة اجتماعية مهما قيل غير ذلك، وبالتالي فهي تشعر بتضعضع دورها في خضم التحديث. وما هو مطلوب هو إعادة النظر بمفهوم ووظيفة القبيلة ودورها؛ لكي تتناغم مع توجه الدولة نحو التحديث والعصرنة.

وأوضح د. ياسر البلوي أن هذا الموضوع مهم جدًّا، وينطوي على خلاف عريض في أقوال العلماء حول هذا الأمر. وكم أرقَّ المجتمع وجود صور مؤسفة استغلت ضعف أولياء الحقوق؛ مما يستدعي سياسة الناس السياسة الشرعية لإعادة الأمور لنصابها. وهذا الأمر بُحث كثيرًا في اجتماعات هيئة كبار العلماء، وقد أُجِّل البت فيه؛ لأن التعرض له سيتسبب في إحجام المدعين عن الصلح.

وقد أحجم مجلس القضاء عن إثارة الأمر لعدم اختصاصه بسن القوانين الشرعية. وليت الأمر يتحول إلى مشروع توعية للمجتمع المحلي بفضيلة العفو والاقتصار على الدية الشرعية، وتجنُّب هذه المبالغ الضخمة التي تسيء للجميع، وتظهر العملية القضائية والتجاوب المجتمعي بصورة سلبية مشوهة .. ثم يحسم الأمر بصدور إرادة سامية من المقام السامي يحسم هذا الموضوع بألا يتعدى الصلح المالي عن سبع ديات؛ لمصلحة الأمة، وسمعة البلاد، والأحكام القضائية، وعملًا بقول الصحابة- رضوان الله عليهم- في هذا الأمر.

بينما ذهبت أ.د فوزية البكر إلى أننا نعيش في مجتمع مدني، ومن الواجب لمؤسسات الدولة أن تكون في مستوي تحديات العصر، وتضع القوانين التي تحد من هذه الفوضى الاجتماعية التي لا يستفيد منها إلا السماسرة والبعض من صغار النظام. ولذا فإنها تتفق مع اقتراح د. ياسر البلوي بأن يُصدر مرسوم ملكي، بألا تتجاوز مبالغ الصلح ثلاثُا أو خمسًا من مبلغ الدية.

ويعتقد أ. عبد الرزاق الفيفي أن أفضل وقت يمكن أن تُسنّ فيه قوانين حازمة بشأن هذه المبالغات هو الآن، في خضم لغة الترشيد الشمولية التي تعيشها البلد، والحاضنة الشعبية مستعدة.

وفي السياق ذاته قال د. مساعد المحيا: لديَّ تساؤل- أحسبه مهما – هل نحن نؤيد الصلح والعفو حين لا يتم إلا بمقابل؟ إن كنا نؤيد ذلك، فأحسب أن الحديث عن المبالغة في الدية هو كالحديث عن راتب لاعب كرة قدم.

الأصل في العفو أن يكون لله ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾[ الشورى:40] ، لكن حين يوافق أولياء الميت أو أحدهم على مبلغ مالي أو عيني مقابل عفوه، فإن ذلك يعني أن فرصة العفو قد فتحت.. والأمل في تحقق ذلك هو ما يجعل الوسطاء بغية الأجر أو المال يتحركون على نحو واسع لجمع المبلغ المطلوب.

دون شك نحن نستغرب ونستهجن هذه المبالغ، خاصة أنها من أجل قاتل، لكني أعود فأقول: ما دمنا نؤيد العفو عن القاتل بمقابل، فأخال حجتنا ضعيفة حين نستكثر المال لاسيما ونحن نرى كبار الأمراء والوجهاء يتدخلون لتحقيق العفو عن القاتل، كما أنني لست متفائلًا بأن ينجح أي تحديد للصلح حتى ولو صدر ذلك بقرار رسمي، فالذي سيُدفع تحت الطاولة أكثر مما سيُدفع فوقها.

وعقب د. عبد الله العساف بأنه علينا أن نبقي للصلح  موضعًا؛ ولكن بإطاره الصحيح والمقبول، وأن يكون لدى الأمراء والوجهاء والمتبرعين آلية يقبلون من خلالها المساهمة في دفع عتق رقبة الجاني، وبهذا يتم تخفيض أعداد من يتم قبول مساعدتهم، ويجب أن تأخذ العدالة مجراها، ففي هذا ردع وزجر لمن تسوِّل له نفسه بالقتل …

وفيما يخص الجانب التوعوي قال أ. مسفر الموسى: لا أميل إلى مصطلح (التوعية) كثيرًا، رغم ما قد يحققه من نتائج وقتية؛ لأنه باختصار ينظر إلى المجتمع بوصفه خاملًا منقادًا، ويسهل تشكيله ببضع كلمات.. متجاهلًا العوامل الوسيطة والمعقدة.. بدلا عن التوعية، فإن إعادة بناء الصورة النمطية للشباب هي من سيشكل وعيهم باختيارهم هم، وليس بإملاءات الفاعلين في الخطاب سواء كانوا دعاة أو مشائخ قبائل أو إعلاميين.

في السنوات الماضية برزت الممارسات الشعبية (المحرفة والمشوهة) للصورة النمطية للشاب المثالي في نظر الشباب.. هذه الصورة تجسِّد الشاب الشجاع (المطنوخ أو المهايطي) الذي لا يجزع لأي اعتبارات عرفية أو قانونية.. وقد ساهم في بروزها السياق الثقافي الشعبي العام الذي تم إنتاجه من خلال بعض المهرجانات والقنوات الشعبية، وأيضا بعض القصائد الشعبية.

هذا البروز في الثقافة الشعبية (المزورة) قابله ركود عام في الأنشطة المقابلة، والتي قد تجسِّد الصورة النمطية للشاب المثالي على هيئة (فنان، متفوق علميًّا، مكتشف، متطوع، منتج، رائد أعمال…..).. هذه الصورة المثالية غابت؛ بسبب خفوت دور الجامعات والمدارس اللامنهجي، وضعف مؤسسات المجتمع المدني. ففي الجامعات لا تستغرب أن يحتفل طلاب كليات العمارة وأقسام التصميم، ليس بسبب هواياتهم أو منتجاتهم واتجاهاتهم الفنية، وإنما بسبب انتمائهم القبلي، وما يتضمنه من قصائد الحماسة التي تكرس مفهوم الشاب (المطنوخ) على حساب الشاب (المبدع) في مجاله وتخصصه.

في العامين الأخيرين وخصوصًا هذا العام.. بدأت المهرجانات المتخصصة والنوعية تطغى.. في الفترة الماضية فقط احتفل السينمائيون بمهرجانهم الفيلمي في الدمام.. واحتفل المسرحيون في الرياض، وأصدقاء الضوء في جدة.. بالإضافة إلى العديد من الأنشطة الثقافية والاقتصادية المتخصصة.

هذه الأنشطة ستردم الفجوة بين الصورتين النمطيتين اللتين ستحددان قيمة الشاب المثالي بين الشخصية الشعبية المزورة والأخرى الإبداعية والمنتجة.. وسيختار الشباب نموذجهم من خلال تكريس الصورة التي يشاهدونها من خلال الحضور والتفاعل، أو حتى من خلال الخطاب العام الذي يتفاعل مع المهرجانات الفنية والعلمية والنوعية بكثافة. سيحمل الشاب بعدها كاميرته، أو روايته، أو أيًّا من أدواته الإبداعية، وسيتوجه إلى مجموعات الانتماء النوعي.. بدلا من حمل السلاح والتجمعات المرتبطة بالاعتزاز القبلي المبالغ فيه.

إن قضية المبالغة في الديات مركبة من مشكلتين: الأولى؛ تتمثل في انتشار جرائم القتل، والثانية؛ في تحويل مقاصد الصلح إلى وسيلة تكسُّب مالي، وعليه، فهناك مساران مقترحان لكل مشكلة على النحو التالي:

  • المسار الأول: ويخص المشكلة الأولى، ويتمثل في بناء النموذج، أو في إعادة الصورة النمطية المثالية في وعي الشباب.. بواسطة تكثيف نموذج الشاب المنتج والابتكاري والريادي والفنان.. من خلال المهرجانات والأنشطة النوعية للهوايات المختلفة.. في المقابل تفتيت محاضن الأنشطة المحفزة على النعرات القبلية، والافتتان بالشجاعة والقوة.
  • المسار الثاني: يخص المشكلة الثانية، ويقوم على خطوات إجرائية متتالية:

1-  تعيين جهة مسؤولة لجمع تبرعات عتق الرقبة، بحيث لا تختص بقضية محددة، وإنما عامة.. بحيث نتبرع للمبدأ وليس للأشخاص، ولا تكون مرتبطة بجماعة أو قبيلة.

2-   يحدد مبلغ التعويض .

3-  ترك المجال للجميع للدخول في الصلح بما يراه أصحاب القضية.. طالما لا يوجد لهم أي ارتباط بالقضية المالية.

4-  محاسبة مَنْ يثبت عليهم أي جمع للمال.. إذ هو محدد ومرتبط بالجهة الرسمية التي جمعته سلفًا تحد بند عتق رقبة.

وعقَّب د. علي الحارثي بأنه يتفق مع المسار الثاني المشار إليه على أن تكون الجهة الحاضنة لفتح الحسابات إمارات المناطق، كل منطقه تتعامل مع القضايا الناشئة في منطقتها. فأغلب القضايا التي خضعت لهذا النوع من الصلح بمبالغ الهياط وراءها مجموعة من المنتفعين والمتاجرين بدماء البشر . بل بعضهم يفتئت على أهل القتيل بالباطل. خذ مثلًًا: والد ووالدة المقتول ذهبوا للمحكمة، وبحضور القاتل، وعفوا عنه لوجه الله، وبدون تدخل أي مصلح. بعد أسابيع وإذا بالصحف تشيد بهم وباستجابتهم  للجنة الصلح التي سعت للصلح لتدخل خادم الحرمين الملك عبد الله. قام والد القتيل بتكذيب الخبر في الصحف جملةً وتفصيلًا، وأن عفوه كان لله، وليس بتدخل أي أحد. كان إعلانهم للخبر بداية لمشروع الحصول على نصف المبلغ الذي سيسعون للحصول عليه من الجهة. وغيرها كثير. وأتفق مع القول بتحديد سقف أعلى للدية لا يتجاوز (٢٠٠٠٠٠٠) مليوني ريال من أجل الإغراء للصلح؛ لأن القصاص لا يكون إلا في القتل العمد، والقاتل العامد لابد أن يأخذ عقوبة مغلًظة في الحق العام بعد العفو من أهل الدم أو الصلح، لا تقل عن خمس سنوات لا يشملها عفو، ويثبت حسن سلوكه في السجن والتحاقه ببرامج الإصلاح المتاحة في السجون طيلة مدة العقوبة؛ للتأكد من توبته وندمه وصلاحه ، وإذا كان أعضاء اللجنة بالسجن لا يَرَوْن صلاحه وندمه على فعله، فتُضاف سنوات لا تزيد في مجملها عن خمس سنوات أخرى . إن تطبيق هذه الاقتراحات ستنهي نشاط مجموعات المتاجرين بالدماء.

وتعتقد أ.د فوزية البكر أن من الضروري اتخاذ خطوات تؤدي تدريجيًّا إلى تجفيف خلايا السرطان هذه، ومنها:

  • عدم تجاوب إمارات المناطق بهذا الشكل الذي يجعل طلب قبيلة القتيل طبيعية، ومبالغ الصلح على أهل القاتل طبيعية؛ بمعني التخلي تدريجيًّا عن دعم أو احترام هذه المبالغات.
  • تفكيك خلاياها – إن وجدت- داخل الإمارات والأجهزة الحكومية.
  • وضع سقف لا يتجاوزه طالب الدم، تعتمد معاييره على نوع الحالة وظروفها، والظروف الاقتصادية للجاني، ثم الاستعانة بشباب متنورين من داخل هذه القبائل ودعمهم بالتوعية، ثم إشراكهم في هذه اللجان.

ويرى د. عبد الله العساف أن معالجة هذه القضية لا تتم بالأنظمة والقوانين، وقد تكون من خلال ما يلي:

  • دراسة الظاهرة من خلال الجاني: العمر، مستواه التعليمي، الاقتصادي، الثقافي، المنطقة، عوامل التأثير.
  • وضع برامج متنوعة للتغلب على هذه الظاهرة.
  • عدم استجابة أهل الخير في بذل وجاهتهم ومالهم؛ إلا بعد دراسة ملف القضية من مصدره، ثم اتخاذ القرار المناسب، فالبعض موته مكسب للمجتمع.
  • التوعية الداخلية، التي يجب عدم إغفالها؛ نحن من يدفع أبناءنا للقتل بقولنا عبارات تشجع على عدم التسامح.
  • إفشاء روح التسامح كقيمة إسلامية عظيمة، وتعويد أبنائنا على التغافل.

واقترح د. حميد الشايجي أن يتولى مركز أسبار إجراء دراسة علمية معمقة عن مشكلة المبالغة في الديات في المجتمع السعودي؛ فمثل هذه الدراسة ستدرس حقيقة حجم المشكلة وأبعادها المختلفة، وتقديم الحلول المبنية على أسس علمية واقعية. فالوقوف على العوامل المرتبطة بالمبالغات في الدية تحتاج في دراستها إلى دراسة متعمقة من كثب لرصد تطورها التاريخي في المجتمع السعودي، والتعرُّف على خصائص السماسرة وأساليبهم، والتعرف على موقف أصحاب الدم وطرق التأثير عليهم، والتعرف على أبعادها السياسية والاجتماعية والقبلية، ومقارنة الحالة السعودية بالمجتمعات الإسلامية الأخرى وخصوصا الخليجية، وعوامل ومتغيرات أخرى ممكن دراستها للخروج بنتائج دقيقة، يمكن من خلالها علاج هذه المشكلة بشكل صحيح.

المحور الرابع

( حدود الرؤية التوافقية في خطاب المثقفين السعوديين

  نظرة مجملة في دعوى الإصلاح )

الورقة الرئيسة: د. منصور المطيري.

مقدمة:

نقصد بالخطاب : المنطوق والمكتوب الذي يحمل وجهة نظر محددة من المتكلم أو الكاتب، وتفترض نية التأثير على السامع أو القارئ، مع الأخذ بعين الاعتبار مجمل الظروف والممارسات التي تم فيها ..).

و نقصد بالمثقف المهتم بالشأن العام المشارك في إبداء الرأي حوله، سواءً أكان كاتبًا، أم محاضرًًا، أم خطيبًا، أم غير ذلك.

ونقصد بالإصلاح كل موقف يرى فيه صاحبه خيرًا وصلاحًا للمجتمع.. فلا نقصد به مفهومًًا معياريًا، ولكن نقصد به الوصف.

………

معالجة الاتجاهات الفكرية في أي مجتمع لا يمكن أن تتم بشكل موضوعي بعيدًًا عن استحضار مفهوم الدولة ووجودها.. فالدولة في حقيقتها أداة لتحقيق آمال وأحلام ومصالح المجتمع . وهي أداة ينتجها المجتمع ضرورةً، ويشكلها حسب عقائده المتعلقة بحقيقة الحياة والوجود والغاية منهما، وما يترتب عليها من تحديد للمصالح والمفاسد.

وذلك أن أي مجتمع يتكون من عناصر لا تقتصر على مجموع الأفراد فحسب، بل تتعدى ذلك إلى شبكة العلاقات والصلات التي تكون بين هؤلاء الأفراد؛ ولأن هذه العلاقات لا يمكن أن تكون فوضوية فإن النظم الاجتماعية تقوم بتنظيم هذه العلاقات، بحيث تقيد السلوك فتبيح أمورًا وتمنع أخرى ..، وهذه النظم التي هي مجموع القوانين والأعراف والتقاليد في شؤون الحياة المختلفة لا بد أن تتأسس على تصور ورؤية مشتركة حول الوجود والحياة .. ولذلك تختلف المجتمعات في نظمها بحسب هذه النظرة.

هذا يجعل المجتمع داخل أجهزة الدولة وخارجها يتفاعل مع قضاياه تلقائيًّا، وبشكل لا يمكن منعه أو الاعتراض عليه، ومن هنا تنشأ الاتجاهات الفكرية، فهي في حقيقتها تفاعل المجتمع خارج الدولة مع قضاياه، هذا التفاعل قد يكون على شكل اعتراض أو تأييد للدولة بمفهومها الذي يتجاوز الحكومة بأجهزتها المختلفة.

ولأن الحياة متجددة ومتغيرة باستمرار، ولوجود الاحتكاك بالآخرين، ولتوسع المدارك والمعارف تأتي الرغبة في التغيير والإصلاح للأوضاع القائمة؛ وفي هذه النقطة تتفاوت الاجتهادات وتختلف الرؤى.

الدولة العربية والحقل الثقافي :

 قسم بعض علماء الاجتماع الظاهرة المجتمعية إلى حقول متمايزة، يختص كل حقل منها بفعل مجتمعي معين ( الحقل السياسي، الحقل الثقافي، الحقل الفني، الحقل الديني …) وذكر أنه يحكم كلًا منها آليات صراع معين؛ حيث إنها مع تمايزها ليست منعزلة بصورة صارمة، وإنما توجد رغبة لدى الفاعلين في كل حقل للسيطرة على الحقول الأخرى؛ بغرض زيادة رأس المال الرمزي.. ومن هنا فإن بعض المراقبين يرون أن الحقل الثقافي العربي عمومًا يتسم بصفتين رئيستين ومتلازمتين، هما:

  • أنه مؤدلج.
  • و أنه مخترق بالسياسي.

هذه الأدلجة ناتجة في بعض جوانبها عن تغول الحقل السياسي وسيطرته على الحقل الثقافي، كما يحدث مع باقي الحقول خصوصًا الحقل الديني. هذا أدى إلى أن يكون المنتج الثقافي أسير الأيديولوجيا ( = منظومة القناعات غير المبرهنة، والمتحكمة في الذهنية )، ويغلب عليه الطابع السجالي الهوياتي المفاصل والعنيف أحيانًا ، وهذا يعني انزواء المعرفة الحقيقية والمنطق العلمي الموضوعي .. فالأيديولوجيا تريد السيطرة ولا تريد المعرفة، وإن كانت قد تستخدمها.. ولذلك ساد في العالم العربي – ومنه السعودي- منطق الثنائيات، فسيطر على العقل العربي الحديث منذ لحظة الوعي بالتخلف عن الغرب دومًا ثنائيات: أصالة ومعاصرة، تراث وحداثة، رجعي وتقدمي، علماني وإسلامي.

هذا المنطق الذي وقعت فيه الدولة العربية الحديثة وتبنَّاه المثقفون العرب جعل المجتمع العربي في بعض البلاد ينشطر عموديًا من القمة إلى القاع عبر السنوات ليخلق شعبين في وطن واحد، بحيث انتهى الأمر في النهاية عندما انهارت الدولة في مصر إلى مقولة ( إحنا شعب وانتو شعب )، وإلى أن تحتج المرأة التونسية عارية أمام البرلمان خاتمة بذلك أيديولوجيا علمانية، بدأها أبو رقيبة برفع الحجاب بيده من على رأس المرأة التونسية .. هذان الحدثان يخبران عن حالة انشطارية فظيعة تُوِّجت في مصر بمذابح ، وتُوِّجت في بعض البلاد العربية بما هو أفظع ( لا أقول هنا أنها السبب الوحيد ).

الحالة الثقافية السعودية:

الحالة الثقافية السعودية لا تزال مختلفة كثيرًا عما يحدث في العالم العربي، فكل الحالات التي تقود إلى الانشطار تتكسر أمام هوية إسلامية معتدلة وقوية تخللت الدولة في تعليمها، وقوانينها ونظامها الأساسي، وثقافتها الشعبية ، وأمام ذاكرة لا تزال فاعلة عند بعض الأجيال تتعلق بفترات من التوحش والعنف، وغياب الدولة والقانون سادت الجزيرة.

إلا أن السعودي الفرد تعرض لما تعرض له العربي والمسلم، بل وغيرهم من سكان العالم، وهو أن الظرف العالمي المعاصر يتسم بكسر الحدود، وفرض التواصل، وتحدى المسلمات والمعتقدات، وجلب معه كثيرًا من المصالح وكثيرًا من المفاسد ؛ فكان التفاعل مع هذا الظرف طبيعيًًّا وضروريًا ، ولكن الشأن هو في كيفية التفاعل.

انقسم المثقفون السعوديون حيال هذا التحدي إلى قسمين رئيسين:

قسم سمَّى نفسه بالتنويري أو الليبرالي وأحيانًا بالعلماني.. وهم على درجات بحيث وصل البعض إلى حتمية سيادة الثقافة الغربية تحت وصف العالمية. وقسم آخر سمَّى نفسه بالإسلامي، وهم على درجات أيضًا.

الانقسام هذا في حقيقته ومحصلته النهائية اختلاف في القيم والمبادئ، فهو صراع يشبه تمامًا الصراعات الثقافية التي حدثت وتحدث في العالم العربي. والفرق بين ما يحدث في العالم العربي ، وما يحدث في السعودية هو أن الدولة الحديثة في أغلب بلاد العالم العربي تبنت واقعيًا قيم التنوير والعلمنة، في حين أن الدولة في السعودية منذ نشأتها تبنت الخيار الإسلامي، ولأن الدولة العربية الحديثة تواجه جماهير مسلمة بأيديولوجيا علمانية، فقد آلت إلى دولة ديكتاتورية وتسلطية، ولأن الدولة السعودية تواجه نخبًا وليست جماهيرًا فقد تبنت خيار الاحتواء والاستفادة من الخبرات العلمية والفنية بعيدًا عن الأيديولوجيا المخالفة.

و أمام ضرورة التفاعل مع الواقع، قام المثقفون من التيارين بالتعبير وإبداء الرأي في قضايا ملحة من وجهة نظر كل فريق، في محاولة لإقناع الدولة بتبني هذه الآراء، أو على الأقل التأثير عليها، وفي نظري فقد اعترى السجال الدائر بينهما خطآن منهجيان رافقا الجدال من بدايته في الخمسينيات إلى الآن:

1-  تجاهل حقيقة أن المجتمع السعودي مجتمع في حالة تغير من نظام إلى نظام آخر، فقد كان إلى بداية التسعينيات الهجرية تقريبًا مجتمع بادية وقرية، تسوده الأمية والبساطة وعدم التعقيد، ويسيطر عليه التدين الفطري الراسخ..فالحديث عن تأثير للتنوير في تلك الفترة لمجرد أن مجموعة قليلة من الأفراد تبنوا الليبرالية أو الماركسية أو غيرها، وارتبطوا بتيارات خارج الوطن أو داخل أسوار أرامكو- خطأ منهجي كبير.

2-  عدم إدراك أن القيم الإسلامية الكبرى ذاتها تواجه تحدياتٍ في التطبيق ضخمة وهائلة، بل وإعاقة متعمدة من قبل منظومة الحضارة الغربية السائدة.. فالنظرية الاقتصادية الإسلامية – مثلًا- ونظرية الحسبة ، ورؤية الشريعة لدور المرأة ومكانتها وسلوكها في ظل التحوُّل الذي صاحب المجتمع السعودي البسيط تحتاج في تطبيقها إلى محاولات جادة ومتواصلة ومنفتحة ومتراكمة حتى يصل المجتمع إلى حالة متوازنة، فالتجربة وتكرار محاولات الخطأ والصواب ضرورية لهذا التطبيق.

عدم إدراك هاتين القضيتين قاد الفريقين إلى التخندق في أيديولوجيا إما التغريب ؛ وإما الرفض بسد الذرائع أو غيرها.. وفي الوقت نفسه كانت الدولة تحاول المواءمة، وإيجاد الحلول لقضايا تعرف تعقيدها، وللتمثيل على ذلك، فإن الدولة نجحت في حل الإشكال المجتمعي بخصوص الصيغة المناسبة لتعليم الفتاة مع وجود بعض المسائل التفصيلية العالقة حتى الآن في هذه القضية.. وبقيت قضايا كثيرة لم تحلها الدولة، يتجاذبها التياران الموجودان على الساحة.

سمات الخطاب الثقافي السعودي بشكل عام:

أطرح هنا بعض السمات السلبية التي أراها واضحة:

  • الشعبية والنخبوية:

 لكل اتجاه سماته الخاصة، ويمكن القول: إن خطاب الاتجاه الإسلامي شعبي، أي يفهمه الشعب، ويتقبله ويتفاعل معه، في حين أن خطاب الاتجاه التنويري نخبوي، أي تنتجه وتتداوله نخبة من المثقفين، ولا يجد تفاعلًا من الجمهور .. إلا أن الوضع تغير بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ودخول وسائل التواصل الحديثة، ودخول الأعمال الفنية كالتمثيل في الموضوع، فنجد أن (طاش ما طاش) ثم خلفه سلفي يتبنى الأطروحة التنويرية الليبرالية المتعلقة بنقد الرموز الدينية والسخرية منها، وهي سخرية مؤثرة؛ أثرت في كثير من الأجيال الشابة. ومثل ذلك الاعتماد على الرواية ونشرها بما تحويه من قيم يتبناها التنوير. إضافة إلى مساحة الحرية التي حصل عليها في الصحافة واستغلاله لحالة المواجهة مع الإرهاب؛ ليوسع من هجومه مستعملًًا فرشاةً عريضة لونت جميع الأطياف بلون واحد.

  • الحدية والمفاصلة:

عكست لغة خطاب الفريقين في بعض نواحيه ومن بعض منتجيه حدية في الطرح ومفاصلة للفريق الآخر، ونبرة  اتهامية وتخوينية واضحة. ولا يعني هذا عدم وجود الأصوات المتعقلة والواعية، هي موجودة، ولكنها أضعف من الأصوات الأخرى؛ لكثرة التفاعل مع الأخيرة خصوصًًا على منابر الإنترنت.

  • العاطفية وتعميم المواقف السلبية، وعدم الاعتراف بفضائل الخصم.
  • القراءة المجتزأة للتاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع السعودي؛ لغرض تأييد الموقف، وإدانة الخصم.
  • غياب المضمون الحقيقي للخطاب . والسبب في ذلك الروح السجالية والخصامية عند الفريقين .. كما أن أحد أهم الأسباب يعود إلى وسائل التعبير عن الرسالة التي اقتصرت في الغالب على الإنترنت، والمقالة الصحفية، والمقابلة التلفزيونية.. واختفى فيها الكتاب الذي يتميز في العادة بطرح الفكرة بعد تمحيصها.
  • اجترار القضايا نفسها التي تشكل تحديًّا للدولة قبل أن تكون تحديًّا للتيارات، بنفس المنطق ونفس الحجج.
  • الجمهور النفسي:

لعل أخطر ما في سجال الفريقين هو تكوُّن ما يُسمى بالحشد أو الجمهور النفسي لكل فريق.. وهي حالة وُجدت في العالم العربي أشرنا لها سابقًا.. وهي حالة من السهل إيجادها في ظل هذا التنازع والصراع .. ويُقصد بالحشد أو الجمهور النفسي الكثرة التابعة من الجمهور التي تتسم بعدم الوعي، وذوبان شخصية الفرد في الجمهور، وسرعة الانفعال، وتحكُّم العاطفة، والتعصب، والتخوين . يدعي الدكتور الغذامي أن الصحوة ما هي إلا حشد دون مضمون من الأفكار.. فالمضمون الذي تبنته الصحوة كان موجودًا قبلها وبعدها، ( وأنا أختلف معه في جانب كبير من وصفه ). وبتطبيق المنطق نفسه على ما بعد الصحوة فإن ما يُسمَّى بالتنوير بدأ في خلق وتكوين حشده بين الشباب والشابات. وتدل حوادث متعددة على وجود شللية في المستوى الأعلى للتيار، تسهم في تكوين هذا الحشد، نذكر في هذا الصدد حادثة مدرسة البنات في مكة ، وحادثة الشيخ الشثري ، وقصة الشيخ يوسف الأحمد وغيرها.. انظر إلى ما كتبه أحدهم عقب حادثة مدرسة البنات- كما نقله الأستاذ عبد العزيز الخضر – في كتابه الشهير ( أن رجال الحسبة كانوا يتلذذون بشواء أجساد الطالبات، وأنهم سبب في منع إنقاذهم ..) .ولما أبدت اللجنة المستقلة المشكلة للتحقيق في الحادثة لاحقًا رأيها، وبرأت الهيئة، وأثنت عليها، واتهمت الصحافة بالتزوير، كانت الصورة قد تمكنت ووصلت إلى ذهن الجمهور، فهناك من يردد إلى الآن هذه الرواية.

كيف يمكن تفادي هذا الانشطار؟

ينبغي أن أشير إلى نقطة غاية في الأهمية أخرتها عمدًا .. وهي التفريق بين الانشطار الرأسي للمجتمع الذي يبدأ من تعارض مرجعية الفريقين في الاعتقاد والسلوك ليتشكل بذلك أكثر من هوية، وبين التعددية الثقافية التي تستظل بمظلة هوية واحدة عامة تتعدد تحتها الهويات الفرعية، كما تتعدد الآراء والاجتهادات .. الأول غير مقبول في مجتمع متحد تقريبًا في هويته الأساسية، والثاني مطلوب وضروري لحيوية المجتمع.

و من هنا فإن هناك انتقادات حقيقية للاتجاه التنويري السعودي، توقعه في مأزق كبير؛ كالمأزق الذي وقع فيه الاتجاه اليساري في الستينيات، أو اتجاه الحداثة في الثمانينيات .. ففي الستينيات كان يقال: كيف توفق بين دعوى الإسلام وبين دعوى الشيوعية؟ فكانت الإجابة عند البعض مخاتلة لا تقنع أحدًا، وهي أننا نتبنى الشيوعية كشعار، ولا نتبنى مضمونها.. و الشيء نفسه حصل لتيار الحداثة في الثمانينيات، فقد كان كتابٌ واحدٌ ينقصه الكثير من المنهجية كافيًا في إحراج الحداثيين، فالكتاب يقول: ما موقفكم كمسلمين من هذا السب والشتم للذات الإلهية من رموز الحداثة في العالم العربي؟ .. وهذا ما جعل عابد خزندار يقول – نقلا عن الخضر-: ( كانت الحداثة فقاعة ).. نفس المنطق الآن يُطبق على المنتمي للتنوير والليبرالية والعلمانية، فهذه مفاهيم ناجزة ومحملة بمبادئ ترسخت، وعرفها القاصي والداني، تميزت بتحييد الدين في أقل الأحوال، فضلًا عن ذمّه واعتباره من الأساطير، ولا ينفع في التعاطي معها المخاتلة أو تحجيمها إلى اصطلاح خاص لا يعرفه إلا قائله.. وأنا شخصيًّا لا أدري ما الذي يجعل المثقف السعودي يتشبث بمثل هذه المفاهيم، ويترك مساحة الاجتهاد الهائلة التي أتيحت له في الشريعة الإسلامية . وتفسيري أنه يجهل الشريعة بشكل كبير جدًّا.

يمكن إنهاء هذه الحالة المعيقة للمجتمع، بالاهتمام بالقضايا العامة التالية :

1-  على الدولة السعي لتفعيل طبيعتها القانونية .. الدولة القانونية تتسم بدستور يوضح هويتها، وبقواعد قانونية متدرجة، وباحترام للحقوق والحريات، وبالمشاركة الحقيقية المتمثلة في الشورى والرقابة .. هذه وحدها كفيلة بأن يتجادل الناس كيفما شاءوا تحت سقف هذا الدستور.

2-  الدولة تمثل الشعب، أو على الأقل ارتضاها الشعب وقبل بها، وهي من يمثل تطلعاته وآماله، ويرسخ هويته، وهي لا تمثل تيارات فكرية بل هي فوقها، ولكي تقلل الدولة من حدة الاستقطاب بين التيارات يجب عليها أن توسع من المشاركة، والنقاش، واتخاذ القرار في القضايا التي تهم الشعب .. وأن تتخلى تمامًا عن الفكرة العقيمة والقاتلة التي تقوم على التضخيم والتحجيم للتيارات الفكرية حسب الظرف والحاجة.. وتركز بدلًا من ذلك على المشاركة.

3-  منابر الدولة منابر للجميع حسب طبيعتها، ولا يصح الخضوع لنظرية الحقول التي أشرنا إليها أعلاه، بحيث يخصص اتجاه بحقل دون سواه . يجب أن تكون الفرص متساوية للجميع في منابر الدولة أو تلك التي تدعمها الدولة.. نعم قد يكون لكل اتجاه منبر خاص، على أن يعرف أن هذا المنبر خاص لهذا الاتجاه.

4-  يجب أن تَصعد المراكز البحثية إلى الواجهة لتعيد للمعرفة العلمية والموضوعية قيمتها وقدرها، وأن تبحث عن الأساليب المناسبة لعرض معرفتها العلمية الموضوعية على الجمهور، بحيث تتاح له الفرصة للمقارنة والتأمل؛ ليخرج بذلك من خندق الأيديولوجيا.

5-  تفعيل الحوار ، وجمع الرموز في مكان واحد، وعدم الملل من ذلك، وما يتبع ذلك من أدب الحوار والإنصات، وحق التعايش.. ولا يجب أن يُفهم من الحوار المجاملة في المواقف وإخفائها، بل لا بد من الصراحة في طرح الرأي.

التعقيب الأول: د. إبراهيم البعيز.

تسهم في تحديد ثقافة المجتمع ورسم معالمه خمس مؤسسات اجتماعية: النظام السياسي (بسلطاته الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، والنظام الاقتصادي، والدين، والنظام التعليمي، والإعلام. وتتفاعل هذه المؤسسات الخمس بما لها من قوة ونفوذ في المجتمع لتحديد ثقافة المجتمع بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتختلف هذه المؤسسات في حضورها وثقلها في المجتمع، وبالتالي مساهمتها في تشكيل تلك الثقافة. وتتباين المجتمعات في مدى أهمية وتأثير كل مؤسسة. ففي المجتمع السعودي (لأسباب تاريخية معروفة) كانت ولا تزال الهيمنة للمؤسستين السياسية والدينية؛ مما ترتب عليه أن يأخذ البعد الديني محورًا أساسيًّا في صناعة القرار، وكذلك في خطاب “الإصلاح”.

————

كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن الليبرالية والعلمانية في المجتمع السعودي، لكن لم يجرؤ  كثير من المثقفين السعوديين على تصنيف أنفسهم “علنا” بالليبرالية أو العلمانية، على خلاف ما هو حاصل في دول عربية وإسلامية أخرى، ناهيك عن دول أخرى غربية أو شرقية. كما نرى شواهد على الانزعاج الاجتماعي من التصنيفات التي تظهر بين الفينة والأخرى في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي؛ مما يشير إلى أننا في ثقافة لا تحترم الاختلاف والتعددية الثقافية والفكرية. فالمعنى الإيحائي (وليس القاموسي) للعلمانية والليبرالية في خطابنا الثقافي يعني الكفر والفسق، وغيرها من مصطلحات الشيطنة غير المقبولة اجتماعيًّا.

من أين ستأتي الرؤية التوافقية في خطاب بأهمية “الإصلاح” في ثقافة لما تحسم أمرها بعد في قضية التعددية والاختلاف.

————

حرصت أن أضع كلمة “الإصلاح” بين علامتي تنصيص؛ لأؤكد بأنني لم أر خطابًا أو سجالًا حول “الإصلاح” بين المثقفين؛ لأنني أعتقد أن الإصلاح أعمق بكثير من النقاشات المتداولة حول تمكين المرأة، أو فتح منافذ للترفيه، أو النزعات الطائفية والمناطقية.

الخطاب السائد والمهيمن يتركز في قضايا محسومة لدى كل شعوب الأرض، والمعارضون في هذه القضايا يشيرون إلى “خصوصية” المجتمع السعودي، لكنها خصوصية لا تصمد أمام القراءة الناقدة، كما عجزت أن تصمد أمام محك التجربة والتطبيق العملي. خصوصية مليئة بالتناقضات، فمثلًا : جهة حكومية تطالب المرأة بغطاء وجهها، وجهة حكومية أخرى تدفع لها لتكشف عن وجهها!

أعتقد أن عدم الحزم بالحسم حول تلك القضايا الهامشية حوَّلها إلى قضايا رمزية للقوة والنفوذ بين فئتين في المجتمع؛ مما جعل صانع القرار يتحرّج ويتأخر كثيرًا في البت فيها، وهنا (ليس كل تأخيره فيها خيرة). لذا أصبحنا مثل الغريق في شبر ماء، وانحرف الحوار والسجال بين المثقفين عن الإصلاح بمفهومه التنموي.

التعقيب الثاني: د. عبد السلام الوايل.

موضوع الإصلاح لدى النُّخب السعودية- ومن ضمنها المثقفون السعوديون- عريق وكثيف الحضور. ولقد قدم د. منصور في ورقته تعريفًا دقيقًا للخطاب. وبما أن الموضوع عن كل من: 1- المثقفين, 2- الخطاب، 3- الإصلاح. فإننا بالفعل نتحدث عن مجال “القول”، حيث تبرز الكلمات كمنتجات رئيسية ترمي لتغيير الواقع، أو المشاركة في تحسينه.

إشكاليات كثيرة تحيط بمفهوم “المثقفين” السعوديين. من هم؟ وكيف يمكن تحديدهم؟ لقد قدم د. منصور توزيعًا أيديولوجيا لهم في واقعنا المحلي، مثقف تنويري/تغريبي/ علماني مقابل مثقف إسلامي. وأظن أن مفهوم المثقف في الواقع السعودي يعود تاريخيًّا لنقطة أبعد من التقسيمات الأيديولوجية أعلاه، والتي هي مستوحاة من طبيعة الجدل في هذه المرحلة من عمر المجتمع السعودي.

يمكن ربط ظهور المثقف في المجتمع السعودي بظهور الصحافة. لقد كانت الصحافة هي الوسيلة التي استطاع المثقف السعودي من خلالها أن يقدم منظوره الإصلاحي للمجتمع. وفي هذا السياق يمكن تذكر كتابات حمزة شحاتة، وعبد الله العبد الجبار، وعبد الكريم الجهيمان، وغيرهم. كانت أطروحات هؤلاء متركزة أساسًا حول التعليم، والدفع بفئات اجتماعية أوسع لدائرة الفعل الاجتماعي. وبناء عليه، لقد قدمت الصحافة- التي كانت وسيلة جديدة وقتها- “المثقف” بوصفه- كما قال د. منصور في تعريفه للخطاب- صاحب قدرات، وصياغات لغوية ترنو للتأثير على الواقع، والمساهمة في صياغته. وفي هذا السياق، يظهر المثقف كمنافس لـ”الشيخ” الذي كان يحتكر مجال التغيير بالقول في المجتمعات الإسلامية بشكل عام قبل نشوء التعليم الحديث، وظهور الصحافة، وبروز هذه الفئة الاجتماعية الجديدة. وفي هذا السياق، وباتباع منظور كارل مانهايم، أحد مؤسسي علم اجتماع المعرفة، سيكون هؤلاء المثقفون الذين برزوا مع دخول التعليم الحديث والصحافة للمجتمع معبرين بدورهم عن قوى اجتماعية صاعدة وجديدة، هي تلك التي أفرزتها عوامل التحديث؛ كالتنظيمات البيروقراطية، وأساليب العيش الحديثة. إن المثقف في هذا البعد التاريخي المركز على بدايات ظهور التحديث مرتبط بقوى اجتماعية ناشئة، وبأساليب عيش جديدة للمجتمع.

لاحقًا ومع عمومية “التحديث” بما تضمنه من توسع للتعليم، وزيادة معدلات التحضر أصبح بالإمكان الحديث عن “انفلاق” في هذه القوى الاجتماعية الناشئة، بحيث أصبح بعضها محافظًا، وبعضها متطلعًا لمزيد من الانفتاح، وهنا أتفق مع وصف د. منصور.

و فيما كان خطاب الإصلاح يُعنى أساسًا بتحديث المجتمع؛ كتعميم التعليم، وتوسع الخدمات في البداية، فإنه تطور لاحقًا ليتضمن المجالات الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويُلاحظ أن خطابات الإصلاح السياسي تظهر عادة مع الأزمات الإقليمية، كمذكرة النصيحة التي أعقبت أزمة الخليج في بداية التسعينيات وبعضٍ من خطابات مماثلة أعقبت أحداث سبتمبر 2001.  ولقد كانت “أقوى” الخطابات الإصلاحية لجهة الذيوع والشهرة، إما ذات نفس نضالي أو مشيخي. فبعض منها ضم أكثر من تيار فكري في خطاب واحد، أحد خطابات 2002 ضم ثلاثة أقانيم فكرية: إسلامي، ويساري، وقومي.

و بشكل عام لا يزال المثقف السعودي ينتج خطابًا إصلاحيًّا. ويلاحظ أن المتغيرات الإقليمية أثرت عليه كثيرًا، بحيث يمكن اعتبار أن التركيز الأساسي لخطاب المثقف السعودي الإصلاحي يركز حاليًّا على ملف الفساد، ومحاولة إيجاد سبل عملية حقيقية لمحاربته. ويبدو أن هذا الملف تحديدًا هو محل توافق المثقفين السعوديين ذوي الطرح الإصلاحي من مختلف المشارب.

المداخلات حول القضية:

  • إشكالات حول .. حدود الرؤية التوافقية في خطاب المثقفين السعوديين، نظرة مجملة في دعوى الإصلاح:

ذكرت د. نوف الغامدي أنه- وعلى مستوى العالم العربي- تواجه أغلب المصطلحات الحديثة حالة من الغموض القاموسي والفكري، تساعد في عشوائية الاختلاف في المفاهيم. فمصطلح “الحداثة” نفسه ما يزال الأصل القاموسي الذي أخذ منه غير محدد، وغالبًا يُفهم من أصلين مختلفين؛ فالبعض يفهمها من المصطلح الأجنبي modernism  بمعنى الحداثة التي تشير إلى القطيعة مع الماضي الذي ظهر في منتصف القرن 19، والبعض الآخر يقصد به المصطلح الأجنبي modernity  الذي ظهر منذ عصر التنوير، وتعني التحديث دون قطيعة مع الماضي؛ كالتوجه لإقامة الدولة الوطنية الحديثة، التي تنشئ الوزارات والمدارس والمستشفيات والشؤون البلدية وفقًًا للنمط الحديث.

دخلنا مرحلة “الإصلاح” في السعودية ونحن بعيدون عن الاتفاق حول أصله اللغوي ومفهومه.

–         ما المفاهيم الإصلاحية؟ وما أفكارها؟

–         هل هناك خطابات إصلاحية واضحة المعالم؟

–         هل هناك مشاريع فكرية إصلاحية؟

–         مَن يطلقها؟

–         وهل ثمة رؤية واضحة للإصلاح، أم هي اجتهادات عملية وإجرائية، ودحرجة الحالة إلى الأمام كيفما اتفق؟

حقيقة الإجابة عن مفهوم الإصلاح يمكن توزيعها على ثلاثة مستويات:

١- منظور النظام للإصلاح.

٢- منظور الرأي العام.

٣- وأخيرًا منظور النخبة من الناشطين والمثقفين والإعلاميين.

ويحدث تفاعل بين المستويات الثلاثة لمفهوم الإصلاح، حيث تؤثر في بعضها البعض. فالنظام صاحب القرار قد تبنى الفكرة الإصلاحية، وهو يتأثر بالمجتمع الذي له استحقاقات محلية وإقليمية وعالمية، وكلاهما (النظام والمجتمع) يتأثران بأفكار النخبة عبر نفوذها الفكري، والإعلامي، والحركي.

على مستوى النخبة يكتنف مفهوم الإصلاح غموض غير صحي (تشتت وتناقض) بين التيارات المختلفة. ثمة اختلاف قطبي بين المفهوم السلفي للإصلاح، وهو قد يكون عبر الاستنجاد بالماضي، والرجوع للنمط القديم، وإزالة ما تراكم في الواقع من محدثات ومستجدات؛ وبين المفهوم الحديث للإصلاح، وهو التجديد والتحديث، ونفض غبار الماضي. فالسلفي قد يرى أن المفهوم الحديث للإصلاح هو إفساد؛ لأنه يبتعد عن عقيدة السلف، في حين يرى الحداثي أن المفهوم السلفي للإصلاح هو تخلف أسوأ من الوضع الراهن، وما بينهما تقع محاولات للتوفيق أو للميل بهذا الاتجاه أو ذاك حسب نوع المشروع الإصلاحي (اقتصادي، سياسي، اجتماعي، تعليمي…).

حتى داخل المفهوم الحديث للإصلاح تلتبس مفاهيم ودلالات مصطلحات حديثة أخرى: كالتغيير، والتطوير دون إتباع الخطوات المنهجية في رسم الحدود الوصفية والتطور الدلالي للمصطلح، التي تتخلص من شوائب إنشائية التعبير، وازدواجية المعنى بين اللغوي والاصطلاحي، بين العامي والنخبوي والرسمي.

فالتغيير (change) قد يشير إلى تبدل جذري (ثوري) في البنية الاجتماعية والاقتصادية، في حين التطوير (development) يشير إلى عملية النمو الطبيعي الصحي لمؤسسات الدولة والمجتمع، أما الإصلاح (reform) فهو يسعى إلى معالجة الأخطاء الكبيرة، وتغيير في المؤسسات دون تغيير أسس النظام. ورغم أن دوائر التطوير والإصلاح والتغيير تتداخل فيما بينها دلاليًّا، إلا أن لكل منها أفقه المفهومي الخاص.

و لا يوجد إطار مؤسسي يتم به تداول أولويات الإصلاح رغم وجود قليل من المؤسسات الرسمية كـ: مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، وهيئة حقوق الإنسان، ومؤسسات المجتمع المدني كـ: الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، وهيئة الصحفيين، والمؤسسات شبه الرسمية (كالأندية الأدبية).

فعندما تتناول تلك المؤسسات مفاهيم الإصلاح وأفكاره وأولوياته، يتم ذلك على طريقة العزف المنفرد. كما أن التيارات الفكرية الموجودة في الساحة هي أشبه بأطياف متماوجة يصعب رصدها إصلاحيًّا، لاسيما أنه لا يوجد تمثيل مؤسسي لهذه التيارات لكي تتداول أطروحاتها الفكرية والإصلاحية، وتدير خلافاتها، وتحدد أولوياتها، ولكي تُقيَّيم وتُدرَس.

سنظل في دائرة الاجتهادات الفردية، قد نعود من حيث بدأنا، وقد نتقدم إلى الأمام، لكن في الأغلب نستمر في دوامة أفكار ومفاهيم، ولا يكسر الدائرة إلا مفاجآت الواقع الداخلية أو الخارجية، كما فعل الربيع العربي الذي كان تأثيره في المفاهيم الحقوقية أكثر من تأثير الإعلام الرسمي، وخطابات النخبة الإصلاحية.

لقد فعَّل العامل الخارجي المجاور تأثيره أشد من العامل الداخلي؛ ليعيد صياغة الأولويات التي ينبغي أن تكون في خطاب الإصلاح. إنها مواجهة الثلاثي المظلم: الفقر، والقمع، والفساد. الفساد نما في ظل القمع، فظهر الفقر والبطالة، هذه هي رسالة الربيع العربي.

وتطرق أ. عبد الرزاق الفيفي فيما يتعلق بخطاب الإصلاح وتطوره إلى صورة جديدة تملك خصائص هي : التأثير – الانتشار – السرعة – التنوع. وأوضح أن خطاب الإصلاح تغيرت أدواته، بل وتغيرت قواعد ( اللعبة ) فيه، وبرزت رمزيات جديدة في خطاب الإصلاح، فلم يعد خطاب الإصلاح مقتصرًا على النُّخب الفردية والمؤسساتية، بل توسع الخطاب، وضم شريحة كبيرة من الشباب، كان جدار التحييد (الوصاية الفكرية) يقف حائلًا بينهم وبين المشاركة في خطاب الإصلاح، وكانت ( شبكات التواصل الاجتماعي ) هي المعول الذي هدم به الشباب ذاك الجدار، الذي حال بينهم وبين المشاركة في خطاب الإصلاح، وكان تأثيرهم وتفاعلهم في خطاب الإصلاح ذا أثر واضح وملموس؛ مما جعل أصحاب القرار يشاركون الشباب في طرحهم وتفاعلهم عبر حسابات ومنصات رسمية  تفاعلية؛ بهدف صناعة الصلة، وتبادل الأفكار والأطروحات الإصلاحية التنموية معهم دون أي اعتبارات.

ونجد أيضًا كثيرًا من الشباب يتجاوز طرحهم وفهمهم كثيرًا من المثقفين للقضايا المجتمعية؛ مما قد يسبب حرجًا لكثير من المثقفين ( من كل الأطياف )، الذين لما ينجحوا إلى الآن في مواكبة طرح الشباب، وتبادل الأفكار والآراء معهم. وذلك التفاعل القوي من الشباب، قد يصيب عقول بعض مَن يتبنى الخطاب الإصلاحي من المثقفين بالشيخوخة؛ مما يضطره أن يلبس عجزه جبة الحكمة!!!

ويعود السبب في ذلك إلى عجزهم في تطوير أدواتهم وتوسيع تصوراتهم حول الإنسان والمجتمع في عصره الجديد. بل قد لا يقف التحدي لدى المثقفين عند مواكبة الأفكار وتطورها…بل أصبحنا نرى ونشاهد قيادات شبابية ذات طرح إصلاحي وفكري واعِ جدًّا، تبادر إلى نشر رؤيتها وأفكارها حول الإصلاح المجتمعي من خلال قنوات التواصل الاجتماعي.

ويري أ. عبد الرزاق الفيفي أن من الجدير بالمثقفين، إذا أرادوا أن يكونوا مصدر إشعاع للشباب في أفكارهم ومشاركاتهم المجتمعية، فلابد من تبني الشباب ودفعهم للأمام، وإلغاء خطاب الوصاية الفكرية عليهم (التحييد)؛ حينها سيكون الخطاب الإصلاحي في المجتمع السعودي يجمع بين خصيصتين:

1-   حماسة الشباب وتجددهم.

2-   وحكمة الشيوخ.

لذلك قد نجد تحديًّا هائلًا، ولكنه ليس مستحيلًا في صناعة حدود لخطاب توافقي للجميع؛ بسبب توسع نطاق الخطاب الإصلاحي وانتشار رموزه، وتنوع مشاربهم، وتدخل مؤثرات خارجية في نمط الطرح الإصلاحي، في ظل عولمة وسائل التواصل الاجتماعي.

ومن ناحية أخرى، تعاني الساحة من خطاب تيارين تغريبيين متطرفين تدميريين  منسلخين عن الهوية الإسلامية، هما :

1-   تيار متطرف ( يزعم ) تحرير الإنسان عما يقيده عن التطور والتحضر عبر الاستئصال للمخالف.

2-   تيار متطرف ( يزعم ) الحفاظ على هوية المجتمع عبر طريق الاستئصال للمخالف.

كلاهما يمارس تغريبًا ما…بطريقته؛ فأحدهما تغريب مجتمعي للقيم والهوية والوعي، والآخر تغريب مجتمعي للنفس والدين والوعي، وبين الاثنين طيف كبير ممتد تركزت خطاباته الإصلاحية على ردود فعل ناتجة عن التيارين التغريبيين المتطرفين، وأفقده ذلك  التركيز عن أولويات الإصلاح التي ينتظرها الشارع السعودي العام.

ويعتقد أ. عبد الرزاق الفيفي أن لدينا خمسة تيارات، تحتاج لمزيد من المراجعات والفحص والتحليل؛ لأنها جميعا ( تزعم ) الإصلاح في خطاباتها، مع الفكر والعقل المسلم وشكل الممارسة؛ بهدف الانتقال إلى ما ينبغي في وجهة نظرها،  وهي على الإجمال كالتالي:

1-   تيار التقليد.

2-   تيار التجديد.

3-   تيار التمدن.

4-   تيار التغريب والانسلاخ.

5-   تيار التغريب والتكفير.

وقد يتناسب دمج بعضها إذا قرأناها من زاوية أخرى، والتفصيل كما يلي:

1-   تيار التقليد.

  • يسعى للتمسك بالقديم والأصول.
  • يشعر بالتهديد ( لأحكام الإسلام )، فيسعى للانغلاق والحماية.
  • لديه أزمة في غياب التصورات المعاصرة.
  • يحتاج لتطوير أدواته وتصوراته لمواكبة التيار الثاني ( التجديد )،                                           والتيار الثالث (التمدن).
  • داخله طيفان هما:
  1. طيف تقتصر أدواته وتصوراته على المصلحة العامة، والنصح لولاة الأمر، والحفاظ على ثوابت المجتمع من خلال سد الذرائع، وحريص على احتواء كل المكونات المتقاربة معه إذا كانت في أغلب الجزئيات، وهو محل ثقة ولي الأمر لنضجه.
  2. طيف تقتصر أدواته وتصوراته على ما يرضاه ولي الأمر دون أي اعتبارات أخرى أو قيود، وحريص على العداء لكل المكونات المختلفة معه، ولو في أصغر الجزئيات، ومازال يحتاج وقتًا لينضج.

2-   تيار التجديد.

  • يسعى للتحرر من الأفكار القديمة.
  • يشعر بالتهديد ( لحضارة الإسلام ) أكثر من الأحكام الشرعية، فيسعى للانفتاح والاجتهاد.
  • لديه أزمة غياب التصورات الأصيلة.
  • يحتاج لقبول الاندماج والتعاون مع الأول ومع الثالث.
  • تواجده إعلاميًّا على استحياء.

3-   تيار التمدن.

  • يسعى للتطوير والتحسين بلا قيود.
  • لا هوية واضحة تميزهم؛ لأنك تجدهم طيفًا ممتدًا ومختلطًا بالأول والثاني.
  • نشئوا كردة فعل؛ هروبًا من انسلاخ الرابع، وإعجابًا بمعاصرة الثاني، وتوجسهم من التيار الخامس، وتوتر العلاقة بينهم مع الأول.
  • تنبني توجهاتهم على ثوابت المجتمع، وقيم المواطنة.
  • هم في رحلة بحث عن هوية أكثر من أنها انطلاقة من مشروع فكري.
  • غالبا ما ينتهي بهم المطاف إلى معالم هوية مشتركة مع التيار الثاني.
  • لديهم قابلية للمشاركة بل والمشاركة القوية في قيادة المشروع التنموي بلا منازع، لو اجتهدوا في إدراك التصورات الإسلامية بشكل صحيح.
  • تواجده إعلاميًّا مميز.

4-   تيار الانسلاخ والتدمير (التغريب).

  • هو طحلب ينمو بين التيارات.
  • يسعى لإسقاط رمزية التيار الأول.
  • يسعى لتشويه اجتهاد التيار الثاني.
  • يحاول استدراج التيار الثالث، وتلويث مساره ليكثر به سواده.
  • تتقاطع مصالحه مع الخامس بشكل يجعل منهما حلفاء تدمير بامتياز.
  • همه الانسلاخ من هويته الدينية بعنف، وبأسلوب التدرج، وتارة بالصدمة لإيمانه بهوية الغرب بالجملة.
  • لا يؤمن بوجود مكتسبات سابقة.
  • لديه تشوهات في التصورات عن الإسلام، بنى عليها ممارساته وآراءه.
  • يستغل الإعلام التقليدي والإلكتروني.
  • حليفه المفضل غير المعلن التيار الخامس.

5-   تيار التكفير والتدمير (التغريب).

  • هو طحلب ينمو بين التيارات.
  • يسعى لإسقاط رمزية التيار الأول .
  • يسعى لتشويه  اجتهاد التيار الثاني.
  • يحاول استدراج التيار الثالث لمعارك إعلامية.
  • تحالفاته ضمنية تبادلية مع التيار الرابع؛ لاشتراكهم في أهداف كثيرة، واشتراكهم في شعورهم بعقدة الأقلية.
  • همه الانسلاخ من هويته الدينية بعنف، وبأسلوب الصدمة، وإيمانه بمشروع الخلافة برؤية أحادية وبصورة واحدة، هي الخلافة القسرية دون أي أشكال أخرى حديثية وتشاركية.
  • لا يؤمن بوجود مكتسبات سابقة.
  • لديه تشوهات في التصورات عن الإسلام، بنى عليها ممارساته وآراءه.
  • يستغل الإعلام الإلكتروني.
  • حليفه المفضل التيار الرابع.

والتوصيات في هذا الإطار:

  • ضرورة تقارب التيارات: الأول، والثاني، والثالث؛ لإحداث التوازن المطلوب في خطاب الإصلاح التنموي.
  • ضرورة الوعي بأشكال وممارسات التيارين الرابع والخامس، وممارساتهما التغريبية والتدميرية للهوية الوطنية، والمجتمعية.
  • ضرورة مواجهة التيارين الرابع والخامس وفق مشروع وطني، يبتدئ بالناحية الأمنية والقانونية.
  • ضرورة تصنيف التيارين الرابع والخامس كتيارات إرهابية، ولابد من تجريمها، وتضمينهم في لائحة واحدة.
  • لكي نستطيع كتابة توصيف منضبط للتيارات المقبولة والمرفوضة، لابد من صناعة العباءة السياسية.
  • لابد من الاتفاق على الإطارات الرئيسة للهوية الوطنية في الخطاب الإصلاحي من التيارات: الأول، والثاني، والثالث، وفق محددات الإرادة السياسية.

ومن جانبه قال د. عبد الله بن ناصر الحمود في مداخلته: أتفق مع جل ما طرحه د. منصور المطيري، وأجزم أن فيه تحليلًا حصيفًا للمشهد الثقافي السعودي بفضاءاته العربية والإسلامية. ولكنني أستسمحه العذر في أن أختلف معه في موضعين:

  • الأول: موقفه الإيجابي – كما بدا- مما سُمِّي بمرحلة الصحوة.
  • الثاني: سياق خطابه الذي ما أن وصل عند نقطة حاسمة في التفريق بين الخطابين التنويري والإسلامي التقليدي إلا وشعرت أنه انتصر للخطاب الإسلامي التقليدي، باعتبار أن: (المضمون الذي تبنته الصحوة كان موجودا قبلها وبعدها). أما (ما سُمي بالتنوير فقد بدأ في خلق وتكوين حشده بين الشباب والشابات).

لا أسوق هذين الملحظين، للالتفاف على مداخلة الزميل العزيز، ولكن، فقط، لكونهما العنصرين الأبرزين في تجليات خطابنا الثقافي السعودي المعاصر، وتداخلاته مع الاختراق السياسي العميق الذي أشار إليه د. منصور، وجعله أحد مكونات تشكل الحالة الثقافية العربية.

نعم.. شهدت الثمانينيات الميلادية الماضية (تجييشًا لفكر الصحوة). وعمل رواد هذا التجييش على استقطاب الشباب والشابات.. واقتاتوا كثيرًا من فضاءات المظلة الرسمية الداعمة بكل قوة حينذاك. تماما، كما فعل ويفعل التنويريون بعد الحادي عشر من سبتمبر، وكما يقتاتون حاليًّا.

في الطرح الفكري الثقافي .. لا أتصور أن يتجرد المثقف من هويته وولاءاته وبراءاته الفكرية والثقافية. ولهذا الأمر.. أتفهم جيدًا موقف د. منصور من الصحوة.. ومحتواها.. لكنني (أختلف معه) في أن (محتواها) كان موجودًا قبلها وبعدها. فالصحوة.. صنعت محتوى لم يكن موجودًا ألبتة. وأظنه (بعدها) لم يلبث كثيرًا.

ربما، كان الانكفاء على (محتوى الصحوة) من بين أسباب تشكل الفكر المتطرف خلال التسعينيات، وتكبدنا لخسائر معنوية كبرى، ومادية وبشرية أيضًا. وربما أيضًا، أن هذا الذي جرى هو ما جعل بعض المتعجلين يرون أن (محتوى الصحوة) قاد بذاته لمرحلة الغلو والتطرف، وما نتج عنهما من إرهاب وبغي، وهو الأمر الذي ليس صحيحًا – في نظري- على الإطلاق، بل ربما منهجية إدارة التحول من الإسلامي الصحوي إلى الإسلامي التنويري، لم تكن تتحوط في هذا المجال، فتعجلت الخطى، ووقع المحذور.

وأضاف د. منصور المطيري أن من أهم النقاط التي وردت في تعقيب د. عبد السلام الوايل البعد الخارجي في الموضوع.. وهو بعد مسكوت عنه حتى الآن ، ولم يتعرض لدراسة كاشفة بعيدة عن الظنون ، وهو في الوقت نفسه مهم جدًا؛ لأنه  ذو شقين : شق تلقائي طبيعي يفرضه الاحتكاك والملاحظة، وشق مصطنع يفرض من خلاله أجندات على المثقف ليست بالضرورة أولوية أو ملحة في وطنه .. وهناك كتب كثيرة كشفت عن أن الدول العظمى مهتمة بالموضوع الثقافي بالذات كنافذة للتأثير على المجتمع المستهدف .. وقد ذكر بعض الدارسين – كالدكتور عزمي بشارة- أن بعض المثقفين العرب يلجأ إلى المنظمات الدولية للعمل معها، فيقع تحت تأثير رؤيتها ، وينفصم بذلك عن مجتمعه؛ لأن هذه المنظمات تنطلق من رؤية مغايرة. وإذا تجردنا للحقيقة فهناك أدلة تدل على أن الدولة تستخدم هذه الآلية .. ويمكن للمهتم أن يتأمل كثيرًا من الأحداث خصوصًا بعد الحادي عشر من سبتمبر ليرى بنفسه ..وكذلك بعض الأحداث قبل الحادي عشر من سبتمبر، وكانت في الاتجاه الآخر. وعلى كل حال فالبعض قد لا يلوم السياسي الذي يريد تغيير الاتجاه بسرعة؛ لضغط الأحداث عليه، وبالذات الدولية.

و لا شك من ناحية أخرى أن المثقف هو ابن الصحافة أو الكتابة العامة.. وأن المثقف أنجبته الصحافة .. ولذلك فهناك موقفان يتنازعان تقييمه :

  • موقف يرى أن وجود المثقف ضروري لتأثيره في الرأي العام، وقدرته على توجيه الجمهور.
  • و موقف آخر يرى أن المثقف يشكل مشكلة في حد ذاته؛ لأنه غير مختص، وليس خبيرًا ولا عالمًا .. فالمثقف بصفته مثقفًا يتجاوز اختصاصه حتى لو كان مختصًا، وذلك لاهتمامه بالشأن العام.

و هناك رأي أن للمثقف دورًا وحدودًا ينبغي ألا يتجاوزها.. هذا الدور هو إثارة المشاكل والقضايا التي يغفل عنها المجتمع، أو يتجاهلها بحكم العادات والتقاليد … ثم يترك حلها للخبير والمختص .. لأن بعض المثقفين بحكم سلطته الجماهيرية يحشر المجتمع في حلول ناقصة لعدم تخصصه.

يظن بعض المثقفين أن تعدد الآراء والمعتقدات هي الأساس الذي يبنى عليه تنظيم المجتمع ؛ والحقيقية أنه مع أهمية تعدد الآراء فإن هذا ليس صحيحًا، فالمجتمع يتم تنظيمه على أساس فكرة واحدة عامة هي الأساس والمركز الذي تدور تحته الآراء .. وأعتقد أن هذه القضية بالذات هي سبب أزمة المثقف العربي، ومنهم بعض السعوديين  .. فجزء من المثقفين العرب وقع في معضلة النفق الغربي .. فالغرب عبر تاريخه الطويل، وتفاعلاته المجتمعية، وتشكلاته المؤسسية، وصل إلى فكرة جوهرية وهي العلمانية، فأصبحت تعدد الآراء التي تقع تحت سقفها .. بعض المثقفين العرب يتبنى ويجر هذا الحل إلى مجتمع لا يتقبل هذه الفكرة، بل لديه فكرة مركزية أخرى تتعلق بالإسلام والشريعة.

و هذا أدى إلى انقسام المثقفين، كما أثر على شكل الدولة العربية، وجعلها دولة في صراع مستمر مع الجزء الأكبر من مواطنيها، تتبنى التغيير بالقوة. والمملكة بحكم طبيعة نشأتها سلمت من هذه المشكلة، إلا أنها برزت عند البعض متأخرة عن النشأة.

ولفت نظر أ. كوثر الأربش ما طرحه د. منصور المطيري من أن هناك طيفين مهمين انقسما في عملية الإصلاح إلى جبهتين: الليبراليين، والإسلاميين. ومن ثم تساءلت: أين الطيف الوسطي في القضية؟ هل مصطلح الاعتدال كان مجهولًا في المراحل الأولية؟ وإن كان هناك طيف يمثل الاعتدال، فما دوره إبان بزوغ شمس الثقافة على المملكة وما حولها؟

وفي تصور د. منصور المطيري فإن التيار المعتدل هو الفاعل على مستوى القرار .. فالدولة تأخذ برأيه وتستمع إليه .. ولكن لا حضور ملموس له على المستوى الجماهيري .. لأن التيارين المذكورين أحدثا نوعًا من التعبئة عند الجمهور، فلا يُسمع إلا صوتهما.. وهذا بغض النظر عن الحكم على صواب أو خطأ ما يطرحان من آراء، فهو شخصيًا يتفق مع كثير مما يطرح الاتجاه الإسلامي، ويخالف التيار الليبرالي كثيرًا.

لكن القضية الملحة هي في تغييب الحس النقدي الموضوعي ، وتحويل الفرد إلى تابع يفتقد القدرة على المحاكمة العقلية؛ بسبب وجود الأيديولوجيا، ويُقصد بها القناعات التي تنتشر أحيانًا دون التفكير في البرهنة عليها.

وفي سياق متصل، تساءلت أ. كوثر الأربش: هل للإعلام والميديا دور سلبي في وضع صورة “كاريكاتيرية” للمثقف، بحيث أظهره بذلك الكائن غريب الأطوار، المنفصل عن واقعه؛ مما عطل دور المثقف كمصلح لحسابه كحالة سيكوباتية؛ الأمر الذي عطّل فاعلية تأثيره على المجتمع?

وفي هذا الخصوص أشارت أ. إيمان الحمود إلى أن الإعلام حسب المفهوم الدولي هو مجرد ناقل للخبر، ومرآة تعكس الواقع إذا ما تم التعامل معه على هذا الأساس.

هذا لا يبرئ ساحته من عملية التشويه التي طالت المثقف، لكنني أرى بعض المثقفين يتحملون المسئولية الكبرى في تشويه صورتهم، أو في نقلهم كمحاربين دون كيشوتيين منشغلين بمصارعة طواحين الهواء، بعيدًا عن القضايا الحقيقية التي تشغل المجتمع.

فاعلية تأثيره على المجتمع طالما التصقت بفاعلية الخطاب الذي يستخدمه من أجل الوصول إلى هذا المجتمع، مع الأسف الكثير من مثقفينا يجهل الفرق بين خطاب النخبة وخطاب العامة النخبوي .. وهو ما يعني كيفية نقل العامة إلى مصاف النخبة عبر خطاب السهل الممتنع، البعيد كل البعد عن التنظير المتعالي فكريًّا وثقافيًّا.

وفي نظر د. عبد الله بن صالح الحمود فإنَّ الإعلام المتلون بالطبع هو مَن يظهر  المثقف غريب الأطوار ومنفصلًا عن واقعه، بينما يظهر لنا الإعلام الصادق – وإن كان محدود الوجود- حقيقة ما يرنو إليه ذلك المثقف المجاهد لخدمة دينه ووطنه. وهنا يمكن القول: إن الإعلام المتلون النفعي هو من يوصم المثقف الصادق بوصم يوحي للعامة أنه مثقف لا تأثير له، وأنه مجرد صوت بلا فاعلية تحقق للمجتمع ما يرجوه.

وبدوره تساءل م. حسام بحيري: ما مدى تأثير المثقفين في مجتمعنا المتغير؟ ولماذا نستخدم أساليب قديمة ليس لها فعالية لمحاولة التأثير على المجتمع ؟ كم من الأشخاص يتابعون أفضل المثقفين في بلدنا أو في العالم العربي ؟ ولماذا نركز على ثقافة الشعب بأكمله، من خلال استخدام بعض وسائل الإعلام التي- أصلًا- ليس لها ذلك العدد من المتابعين، ولا تنتمي لوقتنا الحاضر، في حين نستطيع أن نركز في نشر الثقافة، وتجديد الخطاب على الأشخاص المؤثرين في مجتمعنا من فنانين، ومشايخ، ورجال فكر ومجتمع، وهم بدورهم يستطيعون نشر الثقافة في محيطهم؟ العصر الحديث الذي نعيشه اليوم حيد النخب الإعلامية خصوصًا، واليوم هناك فنانون مغمورون، يكاد القليل منا أن يسمع بهم، لهم تأثير مباشر على عشرات أو مئات الآلاف من متابعيهم. هناك رجال دين من خارج الدائرة الرسمية، لديهم الملايين من المتابعين الذين يستطيعون التأثير فيهم. المنابر الإعلامية أبوابها أصبحت مفتوحة للجميع، والشيء الوحيد الذي يؤثر هو ملاءمة الخطاب أو الرسالة لعقول الناس واتجاهاتهم؛ لأن كل شيء نفعله اليوم في حياتنا الحاضرة متأثر بالأشخاص الذين نعرفهم في دائرتنا الضيقة، وهؤلاء أيضًا متأثرون بالدائرة المحيطة بهم من معارف وأصدقاء، وتستمر دائرة التأثير بسبب الثورة في تكنولوجيا وسائل الاتصال الحديثة. قوة تأثير وسائل الاتصال الاجتماعي على عقول الناس أصبحت جبارة، ولا يمكن تجاهلها، واليوم الشخص العادي يمضي وقتًا طويلًا يوميًّا يتصفح رسائله وحساباته في وسائل الاتصال الاجتماعي، ويتجاوب معها أولا قبل مشاهدة التلفاز أو سماع الراديو. أي خطاب تجديد ثقافي لابد أن ينطلق من هذا المنظور لنشر رسالته، ومحاولة التأثير على عقول الناس، ويمارس فن الاتصال بالجماهير، هذا هو الفن الإعلامي الجديد الذي لا مفر من إتقانه إذا أردنا النجاح في نشر رسالتنا.

أما د. مساعد المحيا فقال في مداخلته: لا أظن أن مشكلتنا هنا ابتداء هي الاختلاف بين النُّخب المثقفة لدينا وفقًا لرؤاهم نحو طبيعة وظائف مؤسسات المجتمع، ونظرتهم لما ينبغي أن يكون عليه؛ فتلك مشكلة أزلية ستبقى ما بقي المجتمع. بل أميل إلى أن الظروف المحيطة تشير إلى أنها تتسع وتزداد وتتعمق. ولا أخال التوافقية ترد إلا من باب مفهوم التعايش الثقافي، بمعني البحث عن المشتركات الثقافية التوافقية، والتعاطي معها.

أؤمن بنظرية اخترعتها، وأسميها “نظرية المدى الواسع للأطياف الثقافية”، وتعني الوسط بين تطرفين: أحدهما مفْرِط، والآخر فرِّط؛ وهذه النظرية تتسع لتشمل كل أفراد المجتمع، وهذه النظرية تقوم على تقسيم الطيف الواحد إلى مئة مكوّن، كل مكون ينتمي له أعداد كبيرة من المجتمع؛ حين يتم تقسيم كل مَنْ يُصنفون بالمجتمع المحافظ على مئة مكوّن وفقا لدرجة محافظتهم، وكذلك المؤمنون بالانفتاح وفقًا لدرجة انفتاحهم؛ حيث لن نجد مجتمعًا محافظًا واحدًا، ولا مجتمعًا منفتحًا واحدًا، “وهم من أسمتهم الورقة الرئيسة بالتنويريين، مع تحفظي على استحقاقهم دون غيرهم لهذا الوصف”.

حين يكون لدينا 200 صندوق يمكن وضع أفراد المجتمع في إطارها سنتكشف أننا نتحدث عن مجتمعات وليس مجتمعًا واحدًا، تتباين فيه الرؤى وتتعدد.. وهذا ما يعقد تصور الحلول الوردية التي تؤمل بالتوافق، وهو عندي بعد المشرقين .. إدراكًا مني لهذا التوصيف.

هذا التشخيص حين أضيف إليه مدى القبول ابتداءً بفكرة الإصلاح من قبل متخذ القرار- يصبح من الصعب تصوُّر تحقق الإصلاح مهما أُعدت من أجله البرامج أو العرائض.

ما نتحدث عنه حول خطاب حدود الرؤية التوافقية في خطاب المثقفين بالنسبة لكل أطياف المجتمع هي مشروعات كل طيف وتصوره للواقع والمستقبل. ومع أن عددًا من الأطياف من مختلف المستويات سبق وأن اجتمعوا في تحديد مطالب معينة، إلا أنها تظل عند تطبيقها تفاصيل تكمن فيها شياطين كثيرة، قد يكشر فيها كثيرون عن أنيابهم. كما أن واقع عدد ممن أسميهم اللبروفاشيين اليوم لا يمنحني أي تفاؤل إزاء أي روح توافقية تفاؤلية.

إذ هناك أنماط من التغوُّل بشأن شيطنة عدد من مختلف المحافظين والدعاة وطلاب العلم والحريصين على هوية المجتمع وهذا الوطن، واتهامهم بالدعشنة؛ بسبب موقف أو مواقف اجتهادية، أو بسبب رغبة في إقصاء الآخرين، وربما لشيطنتهم لدى صانع القرار. وفي المقابل هناك رفض يتنامى لعدد من الرموز التي تؤمن بالانفتاح على كل الممارسات التي لا تتسق وقيم كثير من أفراد المجتمع.

هذا التباين الذي يتسع مداه يصنع اليوم المزيد من التشظي في المجتمع .. ولذا يبقى دائما القرار الرسمي هو القادر اليوم على جمع كل هذه الأطياف تحت عباءة المؤسسة الرسمية، لكن هذا الاجتماع يظل شكلًا من التراضي المؤقت الذي قد ينفجر عند أي مشروع أو فكرة أو برنامج، لا يرضى عنه أي من هذه الأطراف أو الأطياف.

وعقب أ. عبد الرزاق الفيفي على ما طرحه د. مساعد بالإشارة إلى النقاط التالية:

1-  هناك فرق بين مصطلح التعايش والتقارب؛ فالتعايش يكون بين مجتمع فيه أكثر من نسيج، والتقارب يكون بين مجتمع ذي نسيج واحد، فأيهما نحتاج ؟

2-  بالفعل كما تمت الإشارة، فإننا لسنا مجتمعًا واحدًا، بل مجتمع داخله مجتمعات ؛ وهذه الميزة تكونت بعد تأسيس المملكة العربية السعودية على يد المؤسس العظيم الملك عبد العزيز- رحمه الله – وبارك في ذريته ؛ إذ استطاع ( بإرادته السياسية المطلقة والحازمة والواعية ) أن يخلق مجتمعًا واحدًا ذا طيف جديد، تميز بالوطنية والانتماء لرمزية قائد ذلك الخطاب الإصلاحي المبدع ( الملك عبد العزيز – رحمه الله )، ومع الزمن بدأ يتفتق ذلك المجتمع عن مجتمعات متغايرة في داخله من جهة نمط الحياة والتفكير والعمل والمهارات، بل حتى على مستوى شكل التعبد، واستمر ذلك الخطاب إلى عهد الملك فيصل – رحمه الله-  في رتم متقارب نوعًا ما؛ لضعف حركة المتغيرات، وبدأ بعد ذلك يأخذ أشكالًا في كل عهد بعده، متأثرًا بسرعة المتغيرات التي ولدت في بعض المراحل المتأخرة انشطارات فرعية داخل كل انشطارات أساسية في الخطاب الواحد.

3-   فيما يتعلق بالتغول الذي يهدف إلى شيطنة الآخر؛ فهذه إحدى أدوات التصدع في خطابنا الفكري.

4-  هناك اتفاق حول الطرح بأنه لابد من عباءة المؤسسة الرسمية لتحتوي ولتنتج لنا خطابًا إصلاحيًّا تنمويًّا؛ ولكن لابد أن تتولى الدولة التهيئة لحاضنة تفكير لصناعة تلك العباءة قبل استخدامها، ويأتينا هنا دور مراكز الأبحاث والدراسات والاستشراف ذات المنهجية العلمية؛ لتهيئة المتلقي للخطاب الإصلاحي الجديد، ولإنضاج رموز الخطاب الإصلاحي الذين يتنامون بشكل أفقي؛ بسبب ما خلقته وسائل التواصل الاجتماعي، من لغة جديدة لا تؤمن بالزمن والمسافات.

ومن ناحيته علق د. زياد الدريس على صراع الثنائيات الذي أشارت له الورقة الرئيسة، وتحديدًا بين التيار الإسلامي والتيار الليبرالي، بقوله: حربٌ داخلية نفتعلها نحن ولا تُفتعل لنا، هي الأشد شراسة والأكثر إيلامًا، إذ تقسم المجتمع إلى شطرين متنافرين، لا يريان إمكانية للتلاقي بينهما…لا دنيا ولا آخرة!

تلك هي الحروب المتعاقبة عندنا بين التيار الديني والتيار اللاديني، فالأول يريد أن يغمس الدين في غير موضعه، غافلًا عن القانون النبوي: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».

والثاني يريد أن يحشر الدين في المسجد فقط، وأن يتأكد من إغلاق أبواب المساجد على المصلّين بأحكام!

ينبغي تأكيد أن التصنيف الديني واللاديني هنا هو تصنيف ثقافي أكثر مما هو شرعي، إذ لا قبول في هذا النسق لإعطاء صكوك غفران لأتباع التصنيف الأول، أو توزيع صكوك نيران على أتباع الثاني. كما أن وصف الثاني باللاديني لا يعني انفكاكه من العلاقة بالدين، إلا إذا ظننا – بالمثل- أن ذاك الديني لا يغرف من متع الدنيا. هنا تتبدى إشكالية استيراد المصطلحات!

ولأننا لما نصل بعد إلى ما وصلت إليه أوروبا العصور الوسطى، وما أعقبها من حروب دينية مكشوفة، فإن حروب التيارين الديني واللاديني عندنا تتمظهر بمسميات انتقائية… ملطّفة دائمًًا على رغم فاشيّتها غالبًا.

يغيب عن ذهن كثيرٍ من المشاركين بإخلاص في تلك الحرب- أن مشعليها هم في الغالب لا يدافعون عن أفكار، بل عن مصالح ومنافع… طرفٌ منهم باسم حماية الدين، والطرف الآخر باسم تجديد الدين!

تمظهرت هذه الحروب «التنكريّة» خلال القرن الماضي تحت ثنائيات، مثل: الخلافة الإسلامية والنهضة العربية في عشرينيات القرن الماضي، ثم التضامن الإسلامي والقومية العربية في ستينياته، وفي الثمانينيات اشتعلت حرب الصحوة والحداثة.

وكأننا بعد كل ثلاثين عامًا، تزيد أو تنقص، من الحرب الباردة بين التيارين نكون على موعد مع اشتعالٍ جديد. إذ ها نحن الآن في عشرينيات القرن الجديد، ننغمس في جذوة التوتر من جديد بين الغريمين الدائمين، ولكن هذه المرة بأعواد ثقاب الربيع العربي، وبشعارَيْ: الإصلاح الحركي، ومضادّة الاستقرار السكوني. إذ كأننا أمام خيارين فقط: إما الإصلاح الذي يقضي على الاستقرار، ويشيع الفوضى؛ أو الاستقرار الذي يأبى الإصلاح، ويكرّس التخلّف.

كيف السبيل إلى إيقاف هذا التنازع المستديم بين تيارين، يمكن صنع آلية تقارب بينهما، تفوق ما نتصور وما يتصورون هم أيضًا، إذا رغبوا؟!

الحل الأمثل، وليس الأسهل، هو في أن تتمكّن البلاد من بناء تيار وطني «عربي/ مسلم» صادق، يكفينا شر نزاعات الزعامة المتبادلة بين التيار الديني واللاديني، ويملأ الفراغ الموجود في ساحات المزايدة الدينية والمدنية.

بيْدَ أن هذا الحل لن يُصار إليه إذا كان فعلًا هناك طرف ثالث متخفٍّ، يُشعل الصراع بين الطرفين، وينتفع به أكثر منهما!

وأشار د. زياد الدريس إلى مقالة سابقة له عن موضوع الإصلاح في الخليج؛ جاء فيها:” أنه ومنذ بدأت أعراض ما يُسمى بالربيع العربي، ظل السؤال الذي يردده البعض بإلحاح، هو: متى سيصل «الربيع» إلى دول الخليج؟

أصبح هذا السؤال أكثر تردادًا واحتقانًا بعدما عمدت بعض دول الخليج إلى مساندة الثوار في بعض دول الربيع العربي. وكأنَّ السؤال الغاضب إلى دول الخليج، هو: كيف تدعمون حركات انقلابية شاملة في بلداننا، وأنتم لا تسمحون في بلدانكم بمجرد حركات إصلاحية جزئية؟!

للإنصاف، فإن السؤال مبرر، ولكن بشكل جزئي. كما أن الجواب الذي يرد دومًا عليه هو جواب مقنع، ولكن أيضًا بشكل جزئي. فدول الخليج ليست في حالة من سوء الأوضاع تستوجب التغيير الانقلابي، لكنها أيضًا ليست في حالة مثالية تجعلها في غنى عن أي مبادرات إصلاح وتطوير هيكلي. والخليجيون يعرفون مثل غيرهم أن التأخر في الإصلاح يفضي عادةً للانتقال إلى الأطوار الأكثر تعقيدًا في ميكانيزم التغيير، الذي لا تحبذه المنطقة بمختلف أطيافها.

لكن، هل خلت منطقة الخليج من مبادرات وطنية، قدمت نفسها على أنها إصلاحية، أو صُنّفت على أنها كذلك، خلال العقود الماضية؟

من السياق التاريخي للتحولات الاجتماعية والثقافية في المنطقة سندرك أن الجواب الواضح هو: لا، لكن الأوضح هو أن تلك المبادرات- ولن نقول الحركات- الإصلاحية لم تأخذ مداها في التغيير والتطوير بما فيه الكفاية. وقد تحجّم الإصلاحيون الخليجيون في ما مضى بإحدى طريقتين: الاحتواء داخل جهاز السلطة، وبالتالي اكتساب القدرة على الإصلاح عن قرب .. لكن مع فقد القدرة أحيانًًا على استذكار بنود الإصلاح!

أما الطريقة الأخرى للتحجيم، إذا تعذّر تطبيق الأولى، فيقوم بها التيار التصنيفي من خلال إلصاق تهمة «الزندقة» على الإصلاحي الذي (يحمل أفكارًا تغريبية هدامة)، باعتبار أن معظم الإصلاحيين في الستينيات والسبعينيات هم من المصنفين في قائمة الليبراليين السوداء، وبالتالي نزع المصداقية عن هذه الدعوات، وإفقادها تأثيرها.

في ما بعد الثمانينيات حتى مجيء التحولات الربيعية / أو الخريفية / الجديدة في العالم العربي، ووصول حركات دينية إلى الكراسي العليا، أصبح القلق الإصلاحي لا يصوّب على الليبراليين، بل على الإسلاميين الذين ارتفع سقف طموحاتهم ومطالبهم خلال العامين الماضيين أكثر من أي وقت مضى، وبما أن الزندقة تهمة لا تصلح مع الإسلاميين أو على الأقل لن تكون فعالة ضدهم مثلما كانت مع الليبراليين، فقد كان لا بد من تصنيع تهمة تليق بأي إصلاحي تبدو عليه علامات التدين أو حتى الحد الأدنى من سمات الالتزام الديني. وبما أن الشعوب الخليجية ما زالت تنظر بريبة إلى الانتماءات الحزبية، فقد وجد التصنيفيون أن أفضل تهمة يمكن إلصاقها بأي إصلاحي أو حتى مجرد ناقد للأداء الحكومي هي «الإخونجية»، آخذين في الاعتبار بالطبع الفوبيا التي تشكلت ضد الإخوان المسلمين في أعقاب وصولهم لسدة الحكم، وما صنعوا أو أفسدوا فيها خلال الأشهر الماضية. لست هنا بصدد المقارنة أو المماثلة بين تهمتي التزندق و«التخونج»، لكني هنا أتناول مبدأ الاتهام لا نوع التهم.

من المهم التنويه بأن لعبة إلصاق التهم بالإصلاحيين ليست امتيازًا عربيًا، على صعيد الجغرافيا، ولا معاصرًا، على صعيد التاريخ. فالأنبياء تعرضوا لذلك، وخاتمهم نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- الذي اتُّهم بأنه مجنون، وشاعر، وطالب للشهرة والمال والجاه. كما أن عددًا من مفكري الإصلاح في عصر النهضة الأوروبي قد نالتهم تهم الزندقة (اسبينوزا)، والجنون (غاليليو)، والعمالة (فولتير). وكما سنلاحظ من الفحص التاريخي أنه في حين أن بعض الاتهامات نجحت في القضاء على الإصلاحي، فإن بعضها الآخر لم يفشل فقط، بل زاد المتهم قوة ومتانة ونفوذًا.

هذه القراءة لسوسيولوجيا ثقافة تصنيع التهم في المنطقة لا تنفي بالمطلق وجود زنادقة بين الليبراليين، وإخونجية بين الإسلاميين، لكنها تريد أن تنفي وجود التصاق مستديم بين الإصلاحيين وتلك التهم الإقصائية، حيث تقوم آلية المخادعة على التالي: اتهام كل صاحب خطاب إصلاحي ليبرالي بأنه زنديق، واتهام كل صاحب خطاب إصلاحي إسلامي بأنه إخونجي. ولو وصلت الأحزاب «السلفية» مثلًا إلى سُدّة الحكم، لارتبك صُنّاع التهم. لكنهم سيرتبكون قليلًا ثم ما يلبثون أن يصنعوا تهمة جديدة لهذا المتمرد الجديد. ومن الطريف ملاحظة أن الدول التي أصبحت تُدار بالفكر الإخواني، إذا أرادوا إقصاء أحدٍ ما من ذوي التوجه الإسلامي ألصقوا به تهمة «القاعدة»، أو السلفية الجهادية، وبالمثل في الدول التي لم يكن لديها مشكلة مع الزندقة يتلاشى تأثير استخدام هذه التهمة مع ذوي التوجه الليبرالي، ويتم استبدالها بتهمة العَمَالة؛ حتى تتماشى مع السياق الاجتماعي للمجتمع المحلي.

وإذا كان لابد من التحذير الوطني فليكن من الزنادقة والحزبيين، ولكن أيضًا من النفعيين الذين يرمون التهم على الناس جزافًا، والذين يعلّقون اللافتات المخادعة بأن (كل شيء على ما يرام)، في رد استفزازي مماثل على السوداويين التخريبيين الذين يريدون خداعنا أيضًا بقولهم إن: كل شيء على ما (لا) يرام!

دعونا نحذر من الوقوع في فخ انقسامات الحزبية البغيضة. وهذه الحزبية لها وجهان: الأول هو ما يقوم به البعض من الانغماس في تعاليم الحزب، وجعلها فوق الدين والوطن، والثاني هو ما يقوم به البعض الآخر من مطاردة الناس، وتجزئتهم بالقوة من خلال تصنيفهم على أساس حزبي إقصائي.

واهتم د. خالد الرديعان بتصنيف المثقفين السعوديين، فمن وجهة نظره يصنّف المثقف السعودي عادة ضمن إحدى الفئتين: إسلامي (سلفي)، أو تنويري، ويندرج تحت الأخير ما أتفق عليه بالعلماني والليبرالي (هذا للتوصيف فقط). ويحظى المثقف السلفي بدور أوسع رغم الجمود الذي يعتري خطاب البعض منهم. ويعزى اتساع دوره إلى ما هو متاح له من هامش تعبيري، يجده في وسائل الإعلام المختلفة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تفلت من كل عقال، ويجده كذلك في المؤسسة الرسمية الدينية والتعليمية، سواء كانت منابر مساجد أم في الجامعات ومؤسسات التعليم. ولا يوجد غالبًا محاذير من أطروحاته طالما كانت متماهية مع التوجه الرسمي المحافظ. وحتى مَن يوصمون أحيانًا بالتطرف أو تشدد الطرح يُتاح لهم مجال الحركة ولا يتم منعهم إلا في أضيق الحدود. يعود ذلك إلى اتساع قاعدتهم الجماهيرية، وهو ما يمكن ملاحظته في أعداد مرتادي محاضراتهم، وأعداد متابعيهم في وسائل التواصل الاجتماعي. مثقف من هذا الصنف محافظ، ولا يدعو للتغيير، بل أنه يقاومه. إنه يطبق قاعدة “ليس بالإمكان أبدع مما كان”؛ ومن ثَمَّ يحظى بقبول المؤسسة الرسمية رغم بعض هفواته أحيانًا. إنه يستمد شرعية أطروحته من شرعية الدولة نفسها، وبالتالي فهو أقل شغبًا مهما بدا لنا غير ذلك. يشكل هؤلاء نخبة واسعة تحصل على مزايا كثيرة يصعب التنازل عنها، وبالتالي ستكون أطروحاتهم في نهاية المطاف متماهية مع الخط الرسمي.

المثقف الآخر هو ما سنصطلح على تسميته بالتنويري (ليبرالي، علماني.. إلخ). هذا الصنف يراوح بين عدة اتجاهات فكرية؛ فهو يطمح للتغيير، وينافح من أجل ذلك في الصحف، ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي كل ما هو متاح له. يغلب على هذا النوع أن كتاباته نخبوية، ومن ثَمَّ قد تنتفي عنه صفة “المثقف العضوي” بالمفهوم الغرامشي؛ بسبب أنَّ مَن يقرؤون له قلة، وأن تأثيره ربما كان في دائرة مؤيديه الضيقة، رغم أنه معروف على نطاق واسع. هو بالطبع ليس أقلَّ وطنية من المثقف السلفي التقليدي، لكن الأخير يمارس عليه الوأد، ويجيش الآخرين ضده؛ إما بوسائل التواصل الاجتماعي، أو بالصحف بدعوى أنه – أي التنويري- تغريبي، وقد يُوصف “باللبرلة” أو “العلمنة” التي تم تشويه مضامينهما بصورة جعلت منهما وصمة، رغم قابلية المفهومين للتوطين، والإفادة منهما حتى من قبل المثقف السلفي. الخطاب التنويري يركز غالبًا على قضايا الإصلاح السياسي، والمرأة، والفساد، والتحديث. وبالطبع ليس هناك ما يجمع هؤلاء المثقفين (خطاب موحد)، فهم يعانون من التشرذم، ناهيك عن غياب المنبر الثقافي الذي يعبرون من خلاله. المؤسسة الرسمية حتى وإن كانت تؤمن بما يطرحه التنويريون إلا أنها لا تفسح لهم مجالًا كافيًا كما تفعل مع السلفيين.

مشكلة الصنفين السلفي والتنويري هو الحديّة التي ينظر بها كل طرف للآخر، وصعوبة التوفيق بينهما، واستقواء كل منهما بالمؤسسة الرسمية لإلغاء الآخر حسب ما هو متاح له. التوجس بينهما على أشده؛ وبالتالي تصبح العملية أشبه بمصارعة ثيران تتفرج عليها أغلبية صامتة، لا تبدي حماسًا كافيًا لأي منهما. إنها فقط تنتظر لتعرف لمن تكون الغلبة.

وليس من الضروري القول: إن كلا منهما على صواب تام فيما يطرح، أو يحاول إيصاله للجمهور رغم القواسم المشتركة التي يمكنهما الوقوف عندها، وتفعيلها بصورة تخلق خطابًا وطنيا يرضي جميع الأطراف.

ولعل ما يمنع الالتقاء هو غياب قنوات الحوار الجاد، وضعف المشاركة السياسية، وموقف المؤسسة الرسمية التي تتفرج على المشهد دون أن تبذل جهدًا كافيًا لخلق منصات حوار تبلور خطابًا وطنيًا جامعًا.

ومن جانبه قال أ. خالد الحارثي: إن خطاب الإصلاح يكمن في النظر بتجرُّد إلى مدى ارتباط الفكرة المقدمة من المثقف أيّا كان مع أي محاولات تزج بالوطن إلى التشظي أو الخطاب المتعالي على المجتمع، أو الخطاب التصنيفي الذي يجرّم حرية الفكر ومكانة العلوم في تنمية وترقي المجتمعات، أو الخطاب المتسلق للسيطرة على القيادة الفكرية للمجتمع ..

  • رؤية استشرافية لمستقبل حدود الرؤية التوافقية في خطاب المثقفين السعوديين

والخطاب الإصلاحي .

أشارت: د. الجازي الشبيكي إلى أن الطرح الذي تضمنته الورقة الرئيسة جاء بتسلسل تاريخي حديث واضح للعوامل التي تداخلت في خطاب الإصلاح عند المثقفين السعوديين، وانتهى بعدة مقترحات يمكن أن تسهم في حل تلك الإشكالية، ويأتي في مقدمتها دور الدولة  الذي يجب أن يكون مواكبًا للتغيرات الكبيرة التي لحقت بالمجتمع، ومتمشيًا مع متطلبات العولمة والتعايش العالمي، ومستندًا إلى الركائز الأساسية والثوابت الدينية الإسلامية.

إن التوافق والتوازن بين تلك الجوانب الثلاثة، وإن كان يبدو سهلًا من الجانب النظري، إلا أنه من أصعب المهام  لصناع القرار في دولة تريد الأخذ بأسباب التقدم والتطور والتحديث، ولديها الإمكانيات المادية المطلوبة، ولكن يُعيقها ضعف الجهد المبذول  في التركيز على تقليل الهوة الثقافية لدى أفراد المجتمع وجماعاته، بين متطلبات التحديث، وبين القيم والعادات والتقاليد والأعراف.

إن ذلك الأمر رغم صعوبته إلا أنه لم يكن مستحيلًا، لو تم إعطاؤه الأهمية المطلوبة منذ بدايات الخطط التنموية في بلادنا؛ لذلك لم تكن التوافقية العشوائية على مر السنوات الماضية لصالح متطلبات التنمية بالشكل المُخطط له.

كان على الدولة منذ البداية- وهي تتخذ قراراها بأن تكون دولة حديثة – أن تركز على القوانين الدستورية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ولكن ذلك يتطلب كما أشار د. جمال جهود علماء ومفكرين مؤهلين، ومن خلفيات متعددة تحت سقف الثوابت الموحدة؛ كي يضعوا دستورًا نموذجيًا لبلادنا، مستمدًا من الشريعة، وفي الوقت نفسه مُضاهيًا للقوانين الدستورية العالمية.

إن بذل الجهود في ذلك لو تم مبكرًا- وإن أخذ وقتًا وجهدًا كبيرًا- إلا أنه كان من الممكن أن يخفّف كثيرًا من الاحتقانات والتجاذبات والمعارك الخطابية بين المثقفين التي انعكست على مصالح  تنمية المجتمع، وأضعفت إلى حد ما من الإسراع في عملية التطوير قُدمًا.

ويرى أ. عبد الرزاق الفيفي أنه إذا أردنا أن نصل إلى خطاب توافقي متزن يحتوي الجميع في سفينة التنمية، فإننا نحتاج إلى ( استراتيجيات حماية – تفكيك – بناء )؛ لذلك الخطاب الإصلاحي كالآتي :

1-   ( استراتيجية حماية ) :

لحماية الخطاب الوطني الإصلاحي التوافقي المتزن، لابد من توحيد خطاب الإصلاح ضد التيارين التغريبيين المتطرفين، وذلك عبر الأدوات الآتية:

  • إرادة أمنية وتشريعية (من صاحب القرار).
  • رفع سقف الوعي مجتمعيًّا وسياسيًّا عبر المنابر في الإعلام والتعليم بخطورتهما على أمن الحاضر والمستقبل.
  • سنّ وتفعيل القوانين الحازمة ضد الاعتداءات والممارسات الفكرية للتيارين التغريبيين المتطرفين.
  • المواءمة بين التشريعات والقوانين، وبين الممارسات التي تنتهجها الدولة في الواقع الحياتي، بما لا يحدث تصدُّعًا في بنية الخطاب الإصلاحي الذي ارتضته.

2-   ( استراتيجية تفكيك )

لتفكيك مشهد الخطاب الإصلاحي بكل أشكاله الحالية، وإعادة تركيبه عبر الأدوات التالية :

  • إرادة سياسية وشعبية من رموز الخطاب الإصلاحي من كل الأطياف.
  • ( الميثاق التنموي ) عبارة عن طرح رؤية سياسية جديدة، تعلي قيم المواطنة وهوية الدولة، ولا تتعداها أو تعتدي عليها وفق إطارات الميثاق القانونية،                                                           ونظرًا لعدم وجود حاضنة حزبية أو نقابية تمثل مرجعية، تضبط ممارسات الفرد المنتمي لها، فيستلزم تعويضًا عن ذلك من كل راغب في المشاركة في خطاب الإصلاح التنموي أن يمتثل الإطارات القانونية للميثاق التنموي،                                    ولابد أن يضمن ذلك الميثاق للمشاركين في خطاب الإصلاح أمورًا تجعل منه حاضنة تفكير تنموي بامتياز، وهي:

‌أ-       العدالة.

‌ب- الحرية.

‌ج-   المنهجيات العلمية.

‌د-     الأمن.

هـ – المشاركة.

      مقابل أن يضمن المشارك في (خطاب الإصلاح) للدولة والمجتمع أمرين، هما:

‌أ-       عدم المساس بثوابت الدين وقيم المجتمع.

‌ب-عدم المساس بدستور الحكم ( إلا وفق ما يمنحه ولي الأمر ).

  • فك الاحتكار الرمزي لخطاب الإصلاح المرتبط بالأشخاص في كل طيف عبر شراكة مجتمعية تكون تحت مظلة رسمية تساوي بين الجميع، وتجعل من كفاءة الخطاب وإنتاجيته معيار تفضيل، لا بالعمر والأسبقية، والمناطقية، والانتمائية المذهبية أو الفكرية ؛ وقد يؤدي هذا الدور (مركز الحوار الوطني) شريطة أن تعاد هيكلته ومهامه وصلاحياته بما يتلاءم مع المرحلة.

3-   ( استراتيجية بناء )

لبناء خطاب إصلاحي في مجمله يتصف بالاتزان والكفاءة والفاعلية، لابد من الأدوات الآتية:

  • إرادة سياسية فقط.
  • تحديد وترتيب أولويات الإصلاح الوطنية التي تلبي طموح الفرد والمؤسسة والدولة؛ منطلقة من هوية الوطن وتطلعاته ٢٠٣٠م وفق أدوات ومنهجيات علمية.
  • نشر الوعي والتدريب على مهارات ( التفكير – التحليل – اتخاذ القرار – حل المشكلات – المنهجيات العلمية والمنطقية ) عبر الإعلام، والتعليم، وغيرها؛ لصناعة بيئة صحية وحاضنة للخطاب الإصلاحي الجديد الذي سترعاه الدولة، (ويمكن إعداد تصور بذلك بتصميم مناهج لكل المراحل التعليمية إلى الجامعية).
  • إعادة صياغة المناهج التعليمية والتخصصات الجامعية، بما يحقق تعزيز نوعي للهوية وفق معطيات المعاصرة والعولمة والتنافسية بفكر منفتح فكريًّا، ومعتدل فقهيًّا، ومتميز مهنيًّا (ويمكن إعداد تصور لذلك).
  • تفعيل وتطوير دور الفن بمفهومه الشامل والراقي والمحترم، وتنمية الحس الجمالي في أشكال العمارة والتراث، والاهتمام بالعلوم الإنسانية وتطويرها.
  • التعزيز من المعاني والمفاهيم التي تعيد ترسيخ وتأصيل هوية الفرد السعودي.
  • أخيرًا لابد من تحييد كل عاجز أو مخذل عن مسار التصحيح، مادام ينتهج في أطروحاته النقدية (لغة الجهل)، التي يولد منها التخلف والعجز والأنا والعنصرية وأدوات الشيخوخة المبكرة للفكر.

      هذا ولابد أن يبقى التفاؤل الواعي، والثقة في الآخر وفي وطننا حاضرين في أدبيات الحوار والتقارب، مهما اشتط أو ابتأس الحال.

أيضا يرى أ. عبد الرزاق الفيفي أننا نحتاج لمؤسسة تُعنى بجانب الفكر فقط، وتولي الاهتمام والرعاية والعناية ؛ ولكي تنجح تلك المؤسسة فلابد أن تشتمل على الآتي :

1-    استراتيجية وقائية

تشتمل على الأدوات التالية :

  • مركز رصد متطور لكل الحالات التي في دائرة ( احتمال التأثر – التأثر – الممارس ) منتشر في نطاق جغرافي عريض.
  • مركز متطور لتحليل المعلومات المرصودة.
  • تفعيل دور مراكز الدراسات والأبحاث الأهلية؛ لتقوم بدور التوعية النوعية.
  • تفعيل استراتيجية إعلامية وتعليمية متوازية، تهتم بالآتي ( نشر المفاهيم الإسلامية عن احترام الإنسان والحياة – مهارات التفكير والتحليل العلمي ).
  • مركز متطور لرصد الشبه والمغالطات إعلاميًّا، وفي كل وسائل التواصل الاجتماعي والرد عليها بلغة منهجية مقنعة، وتراعي اللغة ما بين البسيطة إلى العالية.
  • العمل على تحرير المصطلحات الشرعية التي وقعت فيها الشُّبه، ثم نشرها.
  • إعادة ( احترام ) العلم الشرعي وعلمائه حتى يكتسبوا الموثوقية في التأثير.

لابد من الرعاية والعناية بالشرائح الآتية من باب الوقاية؛ لأنهم قنابل موقوتة :

1-   أسر السجناء عمومًا، وبالذات أسر سجناء قضايا الإرهاب.

2-   مجهولي النسب بكل مراحلهم العمرية بنين وبنات.

3-   الموهوبين ( احتواء وتفعيل قدراتهم وفق مؤسسات ).

ما سبق يعتبرون خامًا جاهزًا للاستغلال من أي طرف إرهابي.

2-   استراتيجية علاجية :

وذلك في حالة من تأثر – أو / يمارس الإرهاب دون ارتكابه لجريمة قتل أو إيذاء بالغ، والتوصية بأن يتم عزلهم بشكل كامل؛ ولعزلهم الإيجابي شكل مهم كالآتي:

  • بالنسبة لمنطقة العزل، فلابد من الآتي:

–         عزل كامل عن المحيط.

–         ذات بيئة 5 نجوم في الترفيه والراحة، وذات طبيعة جميلة.

  • بالنسبة لآلية العزل:

–         لابد أن يُتركوا لمدة طويلة بدون أي نقاش أو إيحاء بالعلاج؛ حتى يألفوا الحياة الجديدة.

–         لابد أن تتم معاملتهم في أرقى مستويات التعامل.

–         لابد من رصد السلوكيات وأنماط التفكير في المرحلة الأولى.

–    ليتم بعد ذلك فرزهم عبر معايير ومستويات، هي ( إيمانه بفكرته – حدية تعامله – علمه – عبادته – حالته النفسية – مهاراته – قيمه في التعامل والعمل – إلخ….).

–         تصميم برنامج لكل شخص بناء على التحليل السابق.

–    ثم تحويلهم بالتدريج لمناطق عزل فردية بنفس مستوى الراحة والترفيه، والبدء معهم في خطة علاجية لها منهجية خاصة، إحدى أدواتها العلاج النفسي مع الأدوات الأخرى.

إذا تم إدارة ما سبق بشكل صحيح نضمن حينها أننا سنحولهم لجنود مكافحة إرهاب بإذن الله. وأخيرًا نحتاج أن تعمل تلك المؤسسة في دائرة السرية بنسبة ٨٠ ٪‏، وتُبقِي ظهورها بنسبة ٢٠٪‏.

في حين أوصى  د. خالد الرديعان بما يلي:

  • ضرورة ردم الهوة بين المثقفين السعوديين من مختلف الأطياف، وهو ما يتأتى من خلال منصات الحوار؛ التي يتبادلون من خلالها الرأي ومناقشته بحسن نية دون توجس طرف من الطرف الآخر بعد تغليب المصلحة الوطنية.
  • يفترض أن يشيع التسامح بين المتحاورين والمثقفين، وأن تتسع الصدور للرأي والرأي المخالف دون تخوين طرف لطرف.
  • يُفترض الابتعاد عن مصطلحات، مثل: التغريب، وزوار السفارات الأجنبية من قبل المحافظين في نقدهم لغيرهم، وذلك للابتعاد عن كل ما من شأنه تعميق الهوة بين المثقفين.
  • ضرورة عدم المس بالثوابت الدينية والوطنية ورموز القيادة، وأن يكون النقد موضوعيًا يتلمس الصالح العام فيما لا يثير البغضاء والفرقة، كما يرد في نظام الحكم الأساسي.
  • التنبه التام إلى مسألة المناوئين من الخارج، وتفويت الفرصة عليهم في بث الفرقة فيما بين المثقفين.
  • ضرورة تجديد الخطاب الديني، وإعمال الفكر في المستجدات، بحيث لا يكون الخطاب الديني جامدًا، الأمر الذي يوسِّع الهوة بين التحديث والخطاب الديني السائد.

ويرى د. إبراهيم البعيز أن التوافقية لا تتناقض مع التعددية؛ فمعظم الشعوب الناضجة سياسيًّا وصلت إلى قراراتها بالتوافق بعد حوار اجتماعي حول قضايا الشأن العام، حوار اتسم بالتعددية وعدم النزوع إلى إقصاء الآخر المختلف. وبالعودة إلى النقطة المتعلقة بالسياسة المكتوبة (المأمول) والسياسة الفعلية (الواقع)، يمكن الاستشهاد بإحدى مواد السياسة الإعلامية. المادة 14 التي تقول “تخصص وسائل الإعلام برامج ثقافية رفيعة المستوى، متعددة الاتجاهات للفئات المثقفة ثقافة عالية، من شأنها أن تلبي حاجات هذه الفئات الفكرية والثقافية، وتستديم اتصالها بالحياة العلمية المتطورة، ووقوفها على الآثار الفكرية (المتجددة)”. السؤال: لماذا عجزنا عن نقل هذه السياسة المكتوبة (المأمول) إلى سياسة على أرض الواقع؟

عجز مؤسساتنا الإعلامية عن تنفيذ هذه المادة يثير أسئلة كثيرة حول الفضاء المتاح لهذه الأفكار المتجددة، والتي من شأنها أن تكون مجالًا لحوار أو خطاب حول الإصلاح.

في حين يرى م. أسامة كردي أن مثل هذا الحوار لابد أن يكون في إطار مؤسسي، تُطرح فيه الأفكار، وتتساوى فيه فرص كافة أطياف المجتمع للحديث والتحليل والمشاركة واتخاذ الرأي والقرار؛ شريطة عدم التعدي على حقوق أيٍّ من هذه الأطياف. كما أن الإصلاح بدأ عام ١٩٩٣م عندما أصدر الملك فهد- رحمه الله- الأنظمة الثلاثة ( الشورى، ومجالس المناطق، والنظام الأساسي للحكم )، ولحق ذلك العديد من الإصلاحات في قطاعات الانتخابات ( البلدية )، والتعليم، والقضاء، والاقتصاد، والمرأة ( قرار ١٢٠ وعضوية الشورى )، وغيرها كثير، وما زال الإصلاح مستمرًا. وما كان هذا ليحدث لولا خطاب الإصلاح عند المثقفين وغيرهم، خلال وبعد حرب تحرير الكويت.

إن التغيير الجذري في أي مجتمع كان، يتطلب مجموعة من المتطلبات، وله مجموعة من الصفات، ومنها:

1-   ضرورة وجود قائد لهذا التغيير ( Champion )، وفِي حالتنا هؤلاء هم المثقفون.

2-   وجود تنظيم مهما كان رخوًا، يجمع هؤلاء المثقفين.

3-   استعداد هؤلاء المثقفين لاتخاذ خطوة إلى الوراء بعد اتخاذ مجموعة من الخطوات إلى الأمام.

4-   اهتمام حكومي بهذا التغيير مهما كان ضعيفًًا.

وذكر د. خالد بن دهيش أنه عندما يكون الإصلاح مطلبًا، ويكون وفق إطار مؤسسي، فمَنْ يقوم بتحديد الموضوعات ذات الأولوية للإصلاح؟ هناك موضوعات مهمة عند المثقفين، ويرون أن الإصلاح قد لا يقوم بدون البدء بها، إلا أنهم يعلمون أنها لن تكون موضع نقاش.

وأشارت أ. كوثر الأربش إلى أن التوافق الفكري والاجتماعي يختلف عن التوافق في السياسة. وهو ما نظر له ليبهارت فيما أسماه بالديمقراطية التوافقية. فهل ما ينطبق على السياسة يجري أيضًا على التوجهات الفكرية ؟ وهل يمكن طرح مثال لذلك؟

وتساءلت أ. كوثر الأربش: هل السنوات الطويلة من التعبئة بحاجة لمشروع ضخم باستراتيجية فاعلة، تقوم بحلحلة الكثير من الترسبات التي عطلت عجلة الوعي، وعلى إثرها تعطلت مشاريع تنموية كثيرة؛ بسبب الاحتراب الشرس بين التيارين. بمعنى مشروع تتبناه الدولة، وتنفق عليه ميزانية تكفي لإعادة حرث الأرضية الفكرية، لتجعلها جاهزة للتجديد.. أم أن هذا المشروع قائم من الأساس؟

وحول هذه النقطة أوضح د. منصور المطيري أنَّه يعتقد بضرورة هذا المشروع، وأن من الخطأ تأجيله، وقد تضمنت الورقة الرئيسة إشارة إلى بعض ملامحه التي تبدو (عامة وغير كافية). وفي ظنه أن الدولة كانت تستخدم لعبة تتوقع أنها في صالح المجتمع، وهي في نظره ليست كذلك، وهي محاولة إدارة الخلاف الثقافي بأمرين:

  • توزيع قنوات التأثير بين اللاعبين من التيارات.
  • تضخيم أحد التيارات ضد الآخر حسب ما تمليه الظروف، للتحكم في حجمها.

و هذا خطأ؛ حيث يجب أن يسود منطق المشاركة، ومنطق الدستور الحافظ للهوية، بحيث يكون للصراع سقف لا يتجاوزه.

وذهب د. مشاري النعيم إلى أن فريقي الثقافة في السعودية لديهما من القناعات ما يجعل كل فريق يعمل على تهميش الآخر، وهذا هو ديدن الأيديولوجيا؛ لأنها تدفع إلى الانتقائية، وعزل الأيديولوجيات الأخرى؛ لذلك فإن الوصول إلى توافق ثقافي مستحيل، بل وغير مرغوب فيه؛ لأنه يؤدي إلى سكون المجتمع.

يبقى موضوع الإصلاح، وهذا خاضع للأولويات التي يؤمن بها كل فريق، فأولويات الإصلاح بالنسبة للتنويري تختلف عن تلك التي يعتقدها الإسلامي، وهذا ينطبق حتى على النظر للمسألة الإصلاحية نفسها، كالتعليم مثلا.

وأوضح م. أسامة كردي أنه ليس ممَّن يرون أن خطاب الإصلاح قد توسع، وضم الشريحة الشبابية.. وليس ممَّن يرون أن الشباب استخدم أي معول لهدم الجدار الذي يمنعهم من المشاركة في خطاب الإصلاح.. والواقع يقولك إن القيادة تنبهت إلى هذا الأمر بدون أي تأثير خارجي منذ حوالي عشر سنوات، عندما تم تعيين بعض أمراء المناطق من الشباب.. وتطور هذا الأمر تدريجيًّا، إلى ما نراه الآن من مشاركة واسعة من الشباب والشابات في مختلف نواحي الحياة والإدارة في المملكة، وفي مختلف المستويات الإدارية إلى مستوى وزراء وأعلى.. وقد رأينا التأثير الإيجابي لهذا الأمر متمثلًا بشكل واضح في رؤية٢٠٣٠ ، وكذلك تمثل في طريقة متابعة تنفيذها، وما هو بحاجة إلى تفعيله هو حكمة الشيوخ تأكيدًا للاستفادة من خبراتهم؛ مع العلم أن الشيوخ عليهم فعلًا تبني الشباب، وإلغاء الوصاية عليهم.

وركز أ. جمال ملائكة على ما ينبغي عمله في موضوع الإصلاح والتوافق. حيث قال في هذا الصدد: لقد وضع د. منصور إصبعه على الخطوة الأولي في موضوع الإصلاح/التوافق، وهو أن يكون هنالك دستورٌ مُستمّد من بيئة وثقافة المجتمع، وهي في حالتنا “الإسلام”. وبالتالي فإنَّ الإطار والأساس للدستور هو الإسلام؛ فلا يستطيع أحدٌ أن يخرج عن هذا الإطار وثوابته بأي دعوى. التوافق هو في مصدر الدستور والتشريع، وسوف ينبع “الاختلاف” في تفسير بعض النصوص أو تفسيرها بما يوائم الواقع، والبيئة، والتغيرات، إلخ. عملية كتابة الدستور ستحتاج إلى عدد من المؤهلين، ومن خلفيات مختلفة تحت سقف الثوابت، ولا ضير في أن تكون “هيئة” كتابة الدستور ممثلةً لكافة الأفكار، وفي النهاية يتم الحسم بالتصويت، ولعل هذه هي الطريقة الوحيدة الأنسب؛ لأن الاتفاق بالكامل بين الأفكار والخلفيات مستحيل، ولكن على الأقل يتم مناقشة الأمر، ونحسب أن من يتم اختيارهم من التيارات هم “وسطيون”. وليقبل الجميع أن هذه مرحلة أولى في رحلة طويلة يتم البناء عليها مع الزمن.

و ذكر د. عبد الله بن ناصر الحمود حول الحالة الثقافية السعودية وقضايا الإصلاح أنه – وبالإضافة لما ورد بالورقة الرئيسة – فمن المؤكد أن المجتمعات تقوم على (فكرة واحدة) ينبغي تعهدها بالعناية والبيان، وأن يُبنى منها دستور رصين يتم التحاكم إليه.

لكن هذا الدستور أو هذه (الفكرة الواحدة) لا تصلح أن تكون (فكرية) في ذاتها؛ لأنها ستقود حتمًا إلى الاستقطاب. وهذا ما واجهته الحكومات الإسلامية على مر التاريخ، وواجهته كل دول العالم ذات البنى العقائدية، أو الدساتير المؤسسة على مداخل فكرية.

هذه، بالتأكيد،  ليست دعوة للتحرر من تدين الدولة أو تدين المجتمع، لكنها دعوة لتأمل هذا المشكل الحقيقي، في صياغة النظرة للكون والحياة على مستوى المجتمع أو الدولة، وكيف يمكن أن يكون الدستور إطارًا عامًّا للتفكير، وليس فكرًا بحد ذاته؟

أعتقد أنه لو نجحت المجتمعات المعاصرة في إيجاد آلية لفك الارتباط بين (الإطار) و(الفكرة) في دستور واحد لأمكن إيجاد حلول حقيقية للعديد من التجاذبات الراهنة في فضاء السياسي والديني والثقافي، ولأمكن الحديث عن تقارب المثقفين في المجتمع؛ ليمثلوا فسيفساء الإطار الدستوري.

أما إذا كان (الإطار) نفسه (فكرة)، فسوف يتطلب الأمر أن ينتمي المثقفون كلهم إلى ذات الفكرة أولا، وهذا الأمر هو موطن النزاع الفكري الراهن أصلًا.

وهذا النزاع ليس بين الإسلاميين والتنويريين مثلًا، ولكنه بين أقطاب الفكرة ذاتها، أيًّا كانت تنويرية أو إسلامية؛ لأن المرجعية الرسمية حين تنقاد إلى (فكرة) ما، (تبنى على فهم آحادي للفكرة) فهي مباشرة، تدخل مرحلة (التجييش)، و(الحشد)، وبالتالي ينبري ثلة من رواد (الفكرة) لجني أرباحهم من كل جانب، في الوقت الذي يشعر فيه الآخرون بـ (الإقصاء).

ومن هنا، تعود المجتمعات للمربع الأول، وتحدث إشكالات (حشد التيارات) من حين لآخر، بحيث كلما دخلت أمة لعنت أختها. وهنا، يكون الحديث عن دور المثقف في الإصلاح في الوطن العربي والإسلامي الراهن، ضربًا من ضروب الأمنيات؛ لأن الفرضية تقول: إن بجوار كل مثقف إصلاحي منتم ينعم بالثقة- مثقفين آخرين محبطين ليس لهم ذات الثقة.

وطرح د. عبد الله بن صالح الحمود تساؤلًا محددًا، وهو : هل لكتاباتنا هذه، ومطالباتنا المتعددة، نحو المطالبة بالتعدد الفكري، والمطالبة بمزيد من الحرية، والمقصود حرية الكلمة قبل حرية الرأي، هو لمناقشة نفتقد من خلالها هكذا أمورًا، وغيرنا من شعوب الأرض، خصوصًا شعوب دول نعتقد أو نجزم أنها تنعم بوفرة من النقد المتاح دون أدنى حدود، وبحرية مطلقة، ونحن لما نصل بعد إلى كل أو جزء أكبر من ذلك؟ أم أننا بدأنا بخطوات أولية، ونطمح إلى ما هو أكثر وأسمى مما هو متاح لنا؟

إذا كنا كذلك، بمعنى لدينا مساحة جزئية من النفاذ إلى نقد الحكومة أو نقد الآخر، وأننا نطمح نحو المزيد فذاك شيء، ويعد في الوقت نفسه إنجازًا كبيرًا للعمر التاريخي لنا في ثقافة وطرح الآراء والنقد عامة. أما إن كنَّا خلاف ذلك، بمعنى أننا لا نزال في طور الرغبة والتمني نحو امتلاك حرية التعبير والرأي، وأننا لانزال بعيدين كل البعد عن امتلاك ما نرجوه من حق للكلمة التي نرى فيها الحل والعقد لأمتنا، فذاك أمر بل قضية تحتاج منا إلى التوقف أمامها؛ لنفهم الأسباب التي حالت وتحول دون ذلك؛ أهي أسباب سياسية، أم أمنية؟ أم أننا كمثقفين ومفكرين يرى البعض أننا لا نزال في بناء فكري لم يصل درجة البلوغ؟

من هنا لابد أن نصل إلى إجابات لتصل بنا إلى مواطن الوضوح، حتى يتأكد الأمر للجميع، عن ماهية الأسباب التي تجعل منا نبحث ونسأل ونطالب، وقد مضت عقود من الزمن، ولم نفهم أو نعرف إلى أين نحن ذاهبون.

وترى أ. ولاء نحاس أن للمثقفين دورًا مهمًا في تغيير وتبسيط لغة الخطاب الثقافي من خلال تبادل الخبرات مع مَنْ هم أقدر على إيصال الرسالة للجيل الجديد؛ فالمثقف قادر على الحصول على العلم بطرق ربما لا يملكها الآخرون ممَّن هم أقدر على التواصل، وبالتالي لا عيب من نشر العلم والمعرفة التي حصل عليها بطرق أخرى، أو بلسان آخرين.

وذكر أ. مسفر الموسى أن الجمهور أصبح أكثر فاعلية في الخطاب الثقافي، ومن ثَمَّ فإنه لا يرى حرجًا في القول: إنَّ هناك تبادلًا للأدوار.. أحيانا الجمهور يقود ويوجه النخب الثقافية. والمثقف يستجيب للجمهور من عدة أوجه.. إما طمعًا في الجماهيرية وتسويق الذات.. وإما خوفًا من أيديولوجيا الجماهير.. هذان الاتجاهان ظهرا بشكل لافت مع بروز وسائل التواصل الاجتماعي.

ويمكن تصنيف سلطة الجماهير تحت موضوع العوامل المؤثرة في وظيفة المثقف أو على إنتاج الخطاب الثقافي. ويمكن أيضًا اعتبار الخوف من الخسائر جراء مخالفة جماعة الانتماء الفكري عاملًا ثانيًا.. ويمكن تسميته أيضًا بالنفعية.. سواء كانت هذه النفعية هي الشعور بالانتماء في حد ذاته.. أو تتجاوزه إلى مرحلة التكسب المادي. وفي هذه الحالة يغلب المثقف رأي الجماعة أو الصمت على أقل تقدير، حتى لو كان له رأي مختلف.

أما م. خالد العثمان فيرى أن حوار المثقفين ليس حالة خاصة في المجتمع، بل هو انعكاس لواقع حالة الحوار بين مختلف شرائح ومكونات المجتمع..  الفارق أن حوار المثقفين يوظف عبارات ومصطلحات أكثر تقعرًا وترتيبًا وتنميقًا من تلك السائدة بين الأقل ثقافة أو عامة المجتمع..  وبالعموم فإن حالة الحوار هي اللا حوار بصورة عامة.. إذ يجنح كل طرف إلى فرض وجهة نظره بما يتاح له من وسائل تتراوح بين النقاش إلى الجدل إلى الصراع، الذي قد يمتد ليأخذ أشكالًا أكثر تماسًا وعنفًا، بل وحتى إرهابًا..  والمشكلة أن الإصلاح الذي يفترض أن يكون هدفًا جامعًا لتلك الأطياف المتباينة والمتنافرة بات سببًا لمزيد من الفرقة والاختلاف كنتيجة مباشرة للاختلاف حول تعريف الإصلاح وتوجهاته ومضامينه..  فما يعده البعض إصلاحًا إنما هو إفساد عند البعض الآخر.. والحديث هنا ليس عن قضايا محورية شائكة بالضرورة..  بل إنَّ هذا الواقع يمس حتى شئونًا سطحية بسيطة، لا يصح أن تكون أساسًا للاختلاف والخلاف، وإهدار الوقت والجهد والموارد في نقاشات جدلية بيزنطية، ما تلبث أن تنتهي محسومة بقرار سيادي حاسم.. المثل الأقرب هو ذلك الجدل الذي طال فكرة تعديل أيام عطلة نهاية الأسبوع، الذي تشعب فيه الجدل والاختلاف حتى قارب الوصم بالتكفير والعلمانية، والتشبه بالغرب واليهود وأزلامهم..  ثم ما لبث أن هدأ النقاش واستكان الجميع طائعين خانعين لقرار سيادي حسم الخلاف..  بل إن بعض أولئك الذين كانوا رافضين لذلك التعديل انبروا بعد صدور القرار مصفقين مهللين بحكمة القرار وجدوى تطبيقه على المجتمع!!

إذًا ما الحل ؟؟

الحل في رأيه ينطلق أساسًا من تفعيل القنوات التشريعية وترسيخ ومأسسة دور الدولة في حسم القضايا الخلافية والجدلية التي تمس حياة الناس ومصالحهم وشؤونهم.. المناداة بكتابة دستور للدولة مطالب مشروعة، ومحل اعتبار؛ لكنها لا تعني شيئا دون تفعيل وحوكمة وتطبيق حاسم.. إذ إن ترك تلك القضايا بعيدًا عن الحسم يتركها تتراكم وتتنامى لتزيد من الفصل والتباعد بين الفئات المختلفة.. ولا حاجة لأن نثير الانتباه إلى مخاطر هذا الاختلاف على اللحمة الوطنية والتكامل المجتمعي، الذي هو أساس استقرار الدولة، ورخاء المواطنين.

ومن جانبها ترى أ. فاطمة الشريف أن أحد المؤشرات التي يمكن الالتفات لها أيضًا لإصلاح الحوار هي اللغة، فمن المتابعات اليومية للحوار في مواقع التواصل الاجتماعي بين (النُّخب) و( العامة أو الجماهير )، وبين ( النخب والنخب ) نستطيع تقييم حالة الحوار الصحية، وأشكال اللغة المستخدمة بين جميع الأطياف المجتمعية، على اختلاف المستوى الثقافي والتيار الأيديولوجي الذي تتبناه أو تصطف معه على الأقل – إن صح التعبير- .

تبرز اللغة المستخدمة في ذلك الخطاب لتطرح إشكالًا مُتشعبًا غاية في الخطورة؛ لأنه ببساطة يكشف عن تدني مستوى اللغة الحوارية، وعمق الأزمة التي تتخبّط فيها الهوية (إقصاء الآخر مثلًا)، وتدير لها النخب أظهرها بمقترحات لا تكشف عن إحساسها العميق بخطورة تركها دون حلول حقيقية، تكون أكثر فاعلية مما نسمعه ونراه اليوم.

الغرب دعا إلى مشروعه للحوار الديني والتقارب الحضاري، وأخذ زمام المبادرة فيه، وقطع فيه أشواطًا ومراحل معتبرة؛ حتى يتجاوز المجتمع الإنساني صراعه باسم الدين وصدامه باسم الحضارة، لتحقيق أهدافه الاستراتيجية في إدامة تميّز دوله، وتفرّد مجتمعاته حضاريًّا.

وفي المقابل لا تزال النُّخب العربية تقبع في غياهب جبّ الصراع الفكري، الذي انتقل للعلن مع ثورة الإنترنت وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، ليصبح صراعًا نخبويًّا، يكشف عن الوجه الحقيقي له، ويمس الهوية بمقوماتها وثوابتها.

إن تقويم لغة الحوار أولًا، وفرض القوانين التي تحمي وتجرم التجاوزات وحمايتها هي أولى مراحل إصلاح الحوار؛ ليتبقى الخلاف المتجاوز بين الأطياف الفكرية المختلفة أحد الإشكالات التي يُمكن احتواؤها تشريعيًّا وأكاديميًّا دون أن تُخلف أزمة.

تعقيب ختامي:

في تعقيب ختامي، قال د. منصور المطيري: في الورقة التي طرحتها، وفي تعقيبي توضيح للصورة الكاملة للشكل العام لحدود الرؤية التوافقية في خطاب المثقفين السعوديين، والخطاب الإصلاحي ( بينا حينذاك المقصود بالخطاب، والمثقف، والإصلاح )، فقد قلت: إن هناك اتجاهين على درجات ؛ أي أنهما يتدرجان ويلتقيان في منطقة معينة، وقلت في تعقيبي: إن الاتجاه المعتدل هو الأكثر، وهو الذي تستشيره الدولة، وتأخذ برأيه .. البعض يجهل أن الاتجاهات الفكرية في أي بلد تشبه الخط المستقيم يقع بعضها في اليمين، ويقع بعضها في اليسار، ثم هناك منطقة الوسط، ومع أن منطقة الوسط هي الأغلب إلا أنها تشكل منطقة خاضعة لاستقطاب الطرفين، وذلك لسبب بسيط هو أنها مطمئنة؛ لكونها الأكثرية ولقناعتها أنها تمثل الهوية الأساسية، وهناك سبب آخر يخصُّ المملكة بالذات، وهو أنها ممثلةٌ في مؤسسات الدولة .. ( ملاحظة: من ناحية الحجم: المثقفون ذوو الاتجاه الليبرالي قليلو العدد، قليلو الأتباع، ولكنهم أصحاب صوت وضجيج؛ بسبب الإعلام، وبسبب تعاطف- إن لم نقل دعم- الخارج لهم .. وأما الاتجاه الإسلامي فهو غالبية كاسحة، وهم يمثلون تقريبًا هوية المملكة، وأكثر ولاءً للبلد ). الإشكالية ليست في الكثرة أو عدمها، الإشكالية في الأيديولوجيا؛ صيرورة الاستقطاب وشكل المجتمع المستقبلي هي الحالة الخطرة التي يجب أن تتفاداها السياسة والثقافة معًا في المملكة، وقد ضربت مثالين من مصر، وتونس على انشقاق قيمي وأيديولوجي من القمة إلى القاع، علمًا أن هذين البلدين كانا في بداية القرن الماضي، وعند دخول المستعمر يمثلان هوية إسلامية واحدة، وقد ذكر بعض المؤرخين أن الانقسام الأيديولوجي في مصر بدأ بسياسة متعمدة، اتخذها المستعمر البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر، حين فتح حرية الصحافة على مصراعيها، ثم قام بنفسه بتشجيع الاتجاه الليبرالي فيها على حساب الاتجاه الفكري العام. وتمثل الأيديولوجيا أداة الاتجاهات الواقعة في الطرف لممارسة عملية استقطاب منطقة الاعتدال؛ وذلك لطبيعتها الجاذبة للجماهير، وقد عرَّفتُ في الورقة الرئيسة الأيديولوجيا، وقلت بأنها القناعات والأحكام غير المبرهنة المتحكمة في الذهنية، بحيث تصدر الأحكام في ضوئها. ويمكن التمثيل على تغلغل الأيديولوجيا في الاتجاه الليبرالي- مثلًا- بأمرين ذُكرا في بعض المداخلات السابقة:

  • اتهام الاتجاه الإسلامي بتهم عامة سلبية، مثل القول بأنه صحوي كهنوتي، يحتكر الدين والحقيقة والثقافة، ويعادي التطور والتقدم، وأنه يتمسح بالدين ليبرر تمرده على المجتمع، وأنه لم يشارك ولا دخل له في تطوُّر وتنمية المملكة، بل هو المعيق للتطور…وكل ذلك يُساق على شكل اتهامات بالخيانة، وموقف حدي كاره.. وهو بالفعل يعبر عن موقف نفسي للمثقف الليبرالي وجمهوره، ناتج عن أيديولوجيا.. ويدل على أن هذا الموقف موقف أيديولوجي غير مبرهن أن حقيقة الصحوة عبارة عن فترة لها سمات تنوعت داخلها الاتجاهات الفكرية، وليست جماعة ولا اتجاهًا فكريًّا واحدًا .. وأن ما سُمِّي بالصحوة أو الأصولية عمت العالم العربي والإسلامي، والعالم الأوروبي والمسيحي واليهودي في الفترة نفسها التي حصلت فيها الصحوة في المملكة. وسُمِّيت بهذا الاسم؛ لأن كل الأمم بدأت تبحث عن هويتها الحقيقية بعد تجربة للاتجاهات المتحررة والشيوعية التي انطلقت من عقالها بعد الحرب العالمية الثانية في الخمسينيات والستينيات وجزء من السبعينيات، ولم ترو عطش الإنسان لليقين والسعادة.. ويدل على أنها أيديولوجيا معادية لخصمها أن أصحاب الاتجاه الإسلامي من العلماء والدعاة شاركوا في صياغة كثير من الأنظمة والقوانين ، وأداروا كثيرًا من الوزارات والمؤسسات، وعلى رأسها بعض الجامعات، فيصبح الانتقاص من دوره عبارة عن موقف عدائي.
  • أورد البعض إحالة إلى كتاب لاسم غير معروف، وأظنه اسمًا مستعارًا يتكلم عن الصحوة، وأيده البعض .. وهو مثال لصياغة التاريخ صياغة تجزيئية مزورة، تتعامى عن محيط من الأحداث والأشخاص والرموز، تصنع حركة المجتمع، وتؤثر في كل ظواهره؛ لتنتقي شخصيات أو أحداثًا بعينها من الاتجاه المخالف، وهو هنا الاتجاه الإسلامي؛ لتربط به كل هذه الشرور دون أن تذكر موقفًا واحدًا لهذه الشخصيات يدل على أنها مسترزقة، أو متطرفة، أو غير ذلك من الصفات السلبية .. الشيخ الجليل منَّاع القطان، والمفسر الكبير محمد الراوي- رحمهما الله- أصبحا عند المؤدلجين بأيديولوجية عداوة الصحوة متطرفين ومسترزقين ( وعند الله تجتمع الخصوم ) . هذان من أعلام المسلمين، فلم يكن هناك مجمع إسلامي علمي أو دعوي إلا وكانا عضوين فيه .. شمل علمهما ودعوتهما المسلمين في أقاصي الأرض، يكفي أن نعرف أن مفتي عام المملكة الآن درس سنتين على يد الشيخ مناع القطان، وكذلك استفاد من مدرسة الشيخ الراوي في التفسير .. الأدلجة هي التي تروِّج لمثل هذا التزوير في التاريخ؛ لأن موقفها لا يستقيم إلا بخلق هذا العدو المتجذر في التاريخ.. وأرى أن هناك اتجاهًا تمكنت منه هذه الأيديولوجيا، لا ينقصه سوى التنظيم والسلاح ليفتك بخصمه.

هناك قضية أخرى مهمة جدًّا، وهي أن صاحب الأيديولوجية الليبرالية يتعمد بشكل متكرر الخلط بين التطرف والصحوة .. والتطرف مفهوم معروف ومحدد عند الاتجاه الإسلامي قبل أن يستعمله الاتجاه الليبرالي، فهو أول من انتبه إلى وجود تطرف بمعنى تكفير وقتال المسلمين، وبمعنى الأخطاء الموجودة في فهم الولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكُتبت في ذلك كتبٌ بل رسائل جامعية كثيرة .. ( ملحوظة: حديثي عن الطرف في خط الاتجاهات الفكرية لا يتضمن التطرف والإرهاب؛ لأنه خارج النطاق المقبول في المجتمع والدولة، ولأنه عدو لكامل الخط الفكري وللكيان بأكمله ).

و بالنسبة لمشكلة الأدلجة عند بعض الأطياف القليلة في الاتجاه الإسلامي فتكمن في الشك المستمر في أن كل الليبراليين عملاء للغرب، وأنهم يحققون رؤيته بخطط بعيدة المدى، وخصوصًا في شأن المرأة وقضيتها، يغذي ذلك تهور بعض المنتمين للاتجاه الليبرالي، وتحديهم لبعض الأحكام الشرعية الثابتة، والاستهانة بها والسخرية منها.

و لا بد في النهاية من ذكر قضية مهمة، فهناك فرق بين الأيديولوجيا وبين القناعة المؤسسة على دليل، والأدلة تختلف باختلاف الموضوع الذي يُدلل عليه .. فمثلًا الموقف من حجاب المرأة، سواء كشفت وجهها أو غطته لا يعبر عن أيديولوجيا؛ لأنه مبني على دليل، فالحجاب ثابت بالقرآن، بدليل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ [ الأحزاب: 59]، فإذا طالبت بذلك فأنا ناصح ومبلغ بالحكم، ولست أدعو إلى أيديولوجية تعادي المرأة .. لكن لو قلت: إن قيادة المرأة للسيارة حرام فأنا هنا مجتهد وصاحب رأي، إلا إذا وقعتُ في عداوة وكره صاحب الرأي الآخر، بحيث لا ألتفت إلى ما عنده من بينات وأدلة.

الحالة المحذورة من الانقسام المستقبلي لا يخرج المجتمع منها إلا تحديد الهوية عن طريق الدستور، والمشاركة السياسية بحدها الأدنى على الأقل، وإشاعة المعرفة الموضوعية.. وهنا تأتي أهمية المراكز البحثية والعلمية.

المحور الخامس

رؤية 2030: تحوُّل النظم والإدارة أم تحول المجتمع

الورقة الرئيسة: د. مشاري النعيم.

التساؤل الذي تطرحه هذه الورقة هو: هل المطلوب، من أجل مواكبة رؤية 2030 أن يتحول المجتمع على المستوى القيمي والحياتي (نمط الحياة)، أم أن التحول الأهم يجب أن يكون على مستوى التشريعات، والنظم، والكوادر الإدارية؟  هل كان أمرًا مهما أن تكون الرؤية موجهة لتبني نظام إداري جديد، يشكل انقلابًا على الواقع، ويوظف الموارد، ويصنع العدالة الاجتماعية، أم أن الرؤية تنتظر من المجتمع أن يتكيف مع معطياتها، وما ستقدمه له؟

كل المجتمعات تمر بمراحل انتقالية صعبة على المستوى الاقتصادي، وعلى مستوى أسلوب ونمط الحياة بشكل عام، تؤدي إلى تقلبات عديدة وكبيرة لمنظومة التقاليد والأعراف التي تحكم المجتمع من الداخل، وتحدد ملامحه المعتادة، وبالتأكيد هذه المرحلة تكون صعبة على الجميع، فليس من السهولة أن يحدث هذا التحول دون “ضحايا”، وعندما أقول ضحايا فأنا أقصد أولئك غير المستعدين للتغيير، الذين كانوا يعتقدون أن الحياة ستستمر على نفس الوتيرة للأبد. عبر التاريخ كانت الانتقالات المجتمعية الصعبة تمر عبر “عنق زجاجة” يقصر أو يطول حسب الاستعدادات الداخلية التي يظهرها المجتمع لتقبُّل التغيير، وهذه الحالة رغم صعوبتها وضحاياها إلا أنها تعتبر ضرورية لتجديد المجتمع، وبث روح مقاومة ومبدعة فيه.  ويبدو أننا في المملكة وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها التغيير مطلبًا أساسيًّا، فالثقافة المجتمعية النمطية التي اعتادها المجتمع لم تعد صالحة لمتطلبات العصر، وهذا يعني أننا مقبلون على قرارات وخيارات قد لا ترضي الجميع، لكن يجب أن نستعد لها؛ لأن الخيارات المتاحة لنا محدودة جدًّا.

نسق القيم في المجتمع السعودي تأثر وسيتأثر بعدد من العوامل نتيجة لرؤية 2030، وهي عوامل بعضها غير مباشر، وستحدث بشكل طبيعي؛ نتيجة للتحول المستمر الذي هو جزء من بنية المجتمعات. أمَّا التحول الأخطر فهو المفروض بقرارات سياسية مباشرة، تهدف لتهيئة المجتمع لتقبُّل أنماط حياتية جديدة، كان يرفضها المجتمع ويقاوم وجودها. أما التحوُّل الأخير فهو تحول تشريعي وإداري طبيعي، وفي اعتقادي أن التحول الأخير، على الرغم من أهميته؛ كونه يهيئ المجتمع على مستوى القيم المهنية، ويحقق معايير الكفاءة والعدالة والإتقان، إلا أنه لم يحظ بالتركيز المطلوب.

في الحالة الأولى، العامل الاقتصادي يشكل عصب التغير الاجتماعي، أي أن الناس عادة ما تتنازل عن منظومة التقاليد والأعراف التي تؤمن بها تدريجيًّا أو بشكل مفاجئ؛ نتيجة للحالة الاقتصادية. أحد الأمثلة المهمة التي تؤثر في الاستقرار الاجتماعي هو السكن، فقد توصلت إلى أن الأسرة السعودية سيكون عليها تقبُّل حلول صعبة في المستقبل؛ نتيجة لهذا التوسع الخارج عن الحاجة في مساحات السكن الذي حدث في الماضي، ويحدث الآن من قبل بعض فئات المجتمع، ولن يكون بمقدور الأجيال القادمة تحمُّل نفقات هذه الزيادات، ونحن نعيش هذا التحول الآن، فقد أصبحت معايير السكن مختلفة؛ نتيجة لضغوط اقتصادية وتحولات اجتماعية داخلية، وأعتقد أن المستقبل ينبئ بمزيد من الضغوط، ومن التحولات، ويجب أن تكون الأسرة مستعدة لها.

وإذا كان التغير في ظاهرة السكن واضحًا، ويمكن مشاهدته بالعين المجردة، إلا أن هناك متغيرات كامنة لا نشعر بها لكنها تبدلنا من الداخل بشكل متدرج، هذه المتغيرات تشكل “إزاحات” لا يمكن الإحساس بها مباشرة وفي وقتها، لكن مجموع الإزاحات يصنع تغيرًا جذريًّا، وينقلنا من حالة لأخرى، وهذا ما حدث ويحدث الآن للمجتمع السعودي، فنحن نمر بتحول بطيء لكنه مؤثر على المسافة الزمنية، وما ستحدثه الرؤية، وما يتبعها من قرارات، ومن تغييرات في البنية المجتمعية والاقتصادية ستؤدي إلى تبدُّل نمط الحياة بشكل كامل، وستصنع منظومة قيم وتقاليد قد تكون مهجنة، تجمع القديم والمستحدث، ولكن بكل تأكيد لن نكون مثل ما كنا عليه في السابق. هذا النوع من التحوُّل في نسق القيم لا يمكن إيقافه، ويصعب التكهن بنتائجه؛ لأنه يمثل حالة التكيف الطبيعي مع الظروف والمعطيات المحيطة، وهو ينعكس على الثقافة المادية، ويصنع هويتها وخصائصها، فهو غير مقصود، ولا يحمل أي تصور معياري.

الحالة الثانية للتحول القيمي غالبًا ما تكون مقصودة ومعيارية، ولها أهداف محددة، وعادة ما تكون مرتبطة بالقرار السياسي مباشرة، وسأبدأ من تاريخ 12 أبريل 2016م، مع التغيير الشامل في صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد كان من الواضح أن الرؤية تحتاج إلى نسق قيمي مختلف عن السابق، وكان من الضروري تحييد المتحسبين الرسميين.  لقد تبع ذلك تأسيس هيئة الترفيه التي تحتاج إلى فضاء أوسع من الحرية والتحرر من قيود النسق القيمي المهيمن، الذي لم يكن بالضرورة هو النسق السائد لكنه كان نسقًا مفروضًا بشكل أو بآخر. قد يكون من السهل فرض قرارات وقيم جديدة على الناس، ولكن لا توجد أي ضمانات لعدم مقاومتهم لها وتشويهها؛ لذلك من السابق لأوانه الحكم على هذه التحولات القيمية المفروضة؛ لأنها بحاجة إلى وقت طويل؛ حتى يتضح تأثيرها. لكن الأكيد أن بناء نسق من القيم المقصودة لإحداث تغيير في البنية القيمية السائدة للمجتمع تعتبر مغامرة غير مضمونة النتائج.

النمط الثالث من التحول مرتبط بالقيم المهنية المجتمعية المطلوب نموها وتطوُّرها، وهذا النمط يصطدم بالنظام الإداري القائم في المملكة (فقد كان من الضروري أن يصاحب الرؤية تغيير شامل على مستوى التشريعات، وعلى مستوى النظم والكوادر الإدارية) بقوة.  ولو أخدنا مثالًا واحدًا، وهو كيف تُدار المناطق؟ وكيف هي “الإدارة المحلية”؟ سوف نرى حجم المشكلة الحقيقي. فما زلنا نحاول أن نتفلت من “المركزية” دون جدوى، ونحاول أن نبتكر حلولًا جزئية؛ لأننا لا نستطيع أن نتبنى الحلول الجذرية. الخطط العمرانية، والتعليمية، والصحية، وغيرها تُنفذ على المستوى المحلي من خلال توظيف المؤسسات المحلية القائمة، وكلنا يعلم ومتيقن أنَّ هذه المؤسسات (مجالس المناطق) لا تعمل، وليس لها دور حقيقي، ولا يمكن أن تقوم بعمل تنفيذي؛ لأنها ببساطة مجالس شكلية وفخرية، وليست مؤسسات تنفيذية حقيقية، في حين أن المؤسسات التنفيذية الأخرى مفككة ومشتتة، وتتبع جهات أخرى حتى لو كانت شكلًا ترجع للحاكم الإداري.

المشكلة الأكبر هي أنه لا يوجد جدية في تغيير هذا الواقع الغريب، رغم أن نجاح خطة التحول تعتمد بشكل أساسي على إحداث تغيير حقيقي في العمل المؤسسي على المستوى المحلي، وتبني أخلاق مهنية جديدة قائمة على ترسيخ قيم الكفاءة، وهذا غائب تمامًا، لذلك دعوني أقول: إن “الإصلاح يبدأ من التحوُّل إلى الإدارة المحلية، وبناء قيم مهنية متجردة”.  وبما أنَّ التحول القيمي المهني موجه لمحاربة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية؛ لذلك هو التحوُّل الأبطأ والمتعثر إلى حد كبير، فالناس لا يملكون فرضه، ومتخذ القرار يغض الطرف عنه، ولم يدعمه بقرارات سياسية مباشرة كما حدث مع حالات أخرى.

أخيرًا فإن أنماط التحوُّل في نسق القيم في المجتمع السعودي تشكل حالة من التردد الواضح (إذا ما استثنينا التحول العفوي).  الخوف من المستقبل، والخوف من التغيير، مع الرغبة في المحافظة على “الخصوصية” التي غالبًا ما يتغنى بها الكثير؛ لتمييز مجتمعنا وما يجرى فيه عن العالم. نحن نفتقد لجرأة التغيير، ونخاف من خوض التجارب الجديدة، ولعل هذه الصفات هي التي ميزتنا خلال عقود طويلة، لكنها تواجه الآن هزة كبيرة تصيب الكثيرين بالقلق.

التعقيب الأول: م. أسامة كردي.

بل تحول المجتمع … ويكفي دراسة الرؤية نفسها وتقاريرها التفصيلية، ثم متابعة إجراءات تطبيقها للوصول إلى هذه النتيجة. وهذا يأتي في إطار أن التطور الإداري الحكومي هو جزء لا يتجزأ من تحول المجتمع، باعتبار الدور الرئيس والواسع الذي تلعبه الحكومة في المجتمع بشكل عام.

كما يمكن الوصول إلى هذه النتيجة باستعراض القطاعات التي تمسها الرؤية، فمن الاقتصاد بشكله العام، إلى مالية الحكومة، إلى تطوير موظفي الحكومة، إلى تفعيل وتطوير وزيادة برامج الرياضة والترفيه والثقافة، إلى تمكين المرأة. ولابد من التنويه هنا أن الرؤية لا تعالج كافة قطاعات المجتمعية، وقد يكون هناك حاجة إلى تطوير الرؤية نفسها قريبًا لإضافة قطاعات جديدة.

وهنا تأتي أهمية البحث في طريقة وأسلوب وجدولة تنفيذ برامج ومبادرات الرؤية، وبرنامج التحول الوطني باستخدام علم ( التغيير البنيوي) ‏Structural Change للمجتمع والذي نسير عليه حاليا .. للتغيير البنيوي في المجتمعات عدة آثار وعدة متطلبات، منها: وجود القائد الرائد لهذا التغيير، ومنها التدرج في هذا التغيير- وبالذات التغيير الاجتماعي-، ومنها توقع بعض التراجع في وسط تقدم التغيير .. ومن هنا تأتي أهمية التواصل المستمر مع المجتمع بشكل عام؛ لاطلاعه على تفاصيل الرؤية وبرامجها وتطورات تنفيذها .. حيث لوحظ أن ما يحدث في إطار التواصل موجه بدرجة تكاد تكون تامة إلى مثقفي المجتمع والمؤثرين فيه فقط .. ولا ننسى أن من قواعد التغيير البنيوي سقوط أو إزاحة المعارضين لهذا التغيير المطلوب مجتمعيًا، باعتبار أن التغيير هو سمة أي مجتمع، مما عرف في مجتمعاتنا بأن ( بقاء الحال من المحال ).

و لابد هنا من ملاحظة خلط بعض أفراد المجتمع بين متطلبات الرؤية، ومتطلبات ميزانية الحكومة للعام ٢٠١٧ ؛ مما يؤكد الحاجة إلى التنسيق بين الرؤية والميزانية، حيث لوحظ انخفاض مستوى هذا التنسيق؛ مما سيؤثر على تنفيذ بعض متطلبات الرؤية، أو على الأقل تأخير تنفيذها.

و لتأكيد هذا التغيير الذي يتم في مجتمعنا .. فلابد من ذكر بعض الشواهد على هذا التغيير، يذكر منها: الحراك الكبير في مجال الإسكان، وزيارة الأوركسترا اليابانية للمملكة الفترة الماضية، وبرامج الترفيه الواسعة، وارتفاع مستوى الاهتمام بالفن التشكيلي وفنانيه، كما يذكر منها تفعيل دور الشباب والشابات في دوائر حكومية متعددة؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع ملحوظ في فعالية الإدارات الحكومية وأسلوبها، وسرعتها في أداء أعمالها.

التعقيب الثاني: م. خالد العثمان.

محاولة د. مشاري النعيم كاتب الورقة الرئيسة للإجابة عن التساؤل الذي طرحته الورقة حول (ما هو المطلوب من أجل مواكبة رؤية  2030؟) – جاءت – وبكل براعة لتثير مزيدًا من التساؤلات والملاحظات حول هيكل الرؤية وما تضمنته، وثائقها من خطط وبرامج ومبادرات وأهداف، وغير ذلك. والحقيقة أن كل تلك التساؤلات والملاحظات تدور في رأيي في فلك واحد يتعلق بمدى استعداد المجتمع لتقبُّل معطيات ومتطلبات تنفيذ البرامج والخطط الرامية لتحقيق الرؤية. الجواب عن هذا التساؤل يطال عددًا من مستويات التأثير، ألخصها فيما يلي:

  • المستوى الأول: مستوى الوعي والفهم لمجمل الرؤية وبرامجها وخططها التنفيذية. فكم فردًا من أفراد المجتمع بشرائحهم المختلفة تحقق لديه الفهم والوعي لتلك الرؤية، وما ترمي إليه؟ وهل هي مؤثرة وكافية تلك الرسائل الإعلامية والمؤتمرات الصحفية لبناء الوعي الكافي للتعامل مع الرؤية كما يجب، انطلاقًا من فهم حقيقي، ووعي كاف بما ترمي إليه من مكتسبات؟
  • المستوى الثاني: مستوى القناعة، وهو ما يؤسس لتفاعل مختلف شرائح المجتمع مع توجهات الرؤية وبرامجها بشكل طوعي إيجابي متفاعل، بدلا من التفاعل السلبي النابع من الإلزام والفرض وسياسة الأمر الواقع. وهو ما يفرض الحاجة إلى وسائل مقنعة للقياس، تعرض للعامة نقاط تأثير متتابعة ناتجة عن تطبيق الرؤية؛ حتى تكتسب بالتدريج مزيدًا من الثقة والقناعة من الناس.
  • المستوى الثالث: مستوى التكامل والتعاضد، وهو ما يؤسس لمفهوم وحدة الهدف والمصير، بما يحقق التكامل بين توجهات وبرامج وخطط مختلف الشرائح على كافة المستويات، لتكون جميعها موجهة ومتماشية مع توجهات الرؤية. ويمثل هذا المستوى في رأيي تحديًّا مهمًا في ظل تنامي حالة التفكك والتشرذم بين أفراد المجتمع على أسس طبقية، ومناطقية، وقبلية، وطائفية، وثقافية، واجتماعية، واقتصادية، ومصلحية، وهلم جرا. هذا التشرذم الذي يغذيه خطاب شعبوي بات ينتشر انتشار النار في الهشيم خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.

من جهة أخرى، فإن الحديث الشائع عن التحوُّل في نمط الحياة كنتيجة طبيعية لتطبيق الرؤية والدورة الاقتصادية بات واضحًا أنه يزيد من حالة الاحتقان والتذمر بين الناس، خاصة أولئك الذين يعيشون شعورًا متزايدًا وقناعة متنامية بأنهم الحلقة الأضعف في كل المنظومة، وأنهم باتوا يدفعون ثمنًا أفدح نسبيًّا من ذلك الذي تدفعه الطبقات الأكثر قدرة وملاءة . هذا الشعور يغذيه – كما قلت- الحديث الشعبوي من جهة، ومن جهة أخرى غياب الخطاب الحصيف والتوعية الإيجابية من فريق إدارة الرؤية، مثل ذلك: حديث وزير المالية الأخير عن بديهية الإفلاس في الهيكل التجاري، وقبل ذلك الحديث عن برامج تصحيح الدعم  التي وبالرغم من أنها تحمل الكثير من الإيجابيات، إلا أنها لم تحظ بالتسويق الملائم الذي يزيل المخاوف والقناعات السلبية لدى الناس. حديث د. مشاري عن السكن يقود أيضًا إلى الدور السلبي الذي تلعبه وزارة الإسكان بخطابها الإعلامي المنفصم بالكلية عن واقع الحال في إدارة ملف الإسكان، والقدرة على إحداث أثر فارق في معالجة الأزمة، بعيدًا عن المخاوف والمحاذير التي خلقتها برامج التمويل والدعم المعتمدة على البنوك التجارية والقطاع الخاص.

المشكلة الأكبر في رأيي، أن هذا التعاطي والتعامل الذي يقع في إطار التحوُّل الذي تفرضه الرؤية لن يكون تحوُّلًا حقيقيًّا في القيم والمبادئ المجتمعية على المدى الطويل، لكنه في الغالب الأعم تحوُّل مؤقت قائم على التكيف قصير المدى مع ظروف التقشف التي فرضتها الدورة الاقتصادية الراهنة، وهو تكيف ما يلبث أن يسقط وينفلت في اللحظة التي تعود الدورة الاقتصادية فيها إلى النمو الإيجابي، وهو ما سيقود بالضرورة إلى تعطُّل وفشل توجهات الرؤية مع تغير الدوافع الحقيقة لها في المفهوم المجتمعي العام.

المداخلات حول القضية:

  • ملامح من واقع الرؤية وإشكالات التطبيق:

أشار  د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن مسألة التحول عامة هي عملية تأخذ أكثر من طابع ونهج، نحو تحقيق ما يراد للنتائج أن تتأتى كما رسمت الخطط والأهداف لها. وهنا بكل تأكيد تبرز مدى الإمكانات الدالة أولًا على كيفية التطبيق، وأخيرًا ما يتأمله المجتمع من منافع يرى فيها تحقيقًا لتطلعاته. فالتحول الاجتماعي أو الاقتصادي هو أمر يرتبط بظروف وكفاءة المجتمع المعني بذلك. وهنا تأتي العديد من التساؤلات عن كيف ومتى الوصول إلى تحوُّل وطني، خصوصًا إذا رأينا أن قواعد هذا التنظيم المراد منه تحوُّل جذري هي قواعد، المجتمع حديث عهد بها.

وأشار د. مشاري النعيم إلى ندرة الدراسات الاجتماعية التي تناولت التحول المجتمعي في المملكة؛ فلا يوجد هناك رصد حقيقي يمكن التعويل عليه لفهم التحوُّل الذي حدث في منظومة القيم.

إزاحات التغيير التي تحدث ببطء يقابلها مقاومة ثقافية يمارسها المجتمع بوعي ودون وعي؛ ليحقق توازنًا مرحليًّا تقبله كل فئات المجتمع، لكن التغير يكون قد حدث، ولكن بتوازن.

ما يحدث الآن هو تحول في أجزاء منه؛ نتيجة لقرارات سياسية، تضعف المقاومة الثقافية المجتمعية، وتقلل من دورها وتأثيرها.

ومن جهة أخرى، فإن رؤية 2030 ستواجه تحديًّا للنظام الإداري، والسبب عدم التوافق بين الرؤية والتشريعات؛ والخلل موجود على مستويين:

  • الأول: مستوى التشريعات التي لا تتناسب مع التحول الاقتصادي المطلوب؛ لأنها قديمة، وتزيد التعقيدات، ويوجد بها ثغرات كبيرة تزيد من فرص الفساد.
  • الثاني: على مستوى الكفاءات الإدارية، فنحن أمام رؤية بنفس الفريق التقليدي السابق تقريبًا، وهذا يزيد من فرص الفشل؛ لأن هذا الفريق لم يستطع إحداث تغيير محسوس في السابق.

وكل رؤية تحتاج تحضير فعال لكل عوامل النجاح، أي أنها ليست مجرد أحلام وتطلعات، بل يجب أن تتحول إلى برنامج عمل شامل، وبفريق مؤمن بالرؤية، وليس فريقًا تقليديًا بيروقراطيًّا؛ لأنه سيستمر في أداء دوره التاريخي البعيد عن التنمية الحقيقية، وبالتالي من الصعوبة بمكان الحكم على ما تمَّ حتى الآن أنه سيقود إلى تحقيق رؤية ٢٠٣٠، كما هو مرسوم لها.

وبالنسبة للمؤسسات الحكومية بشكل عام قائمة على المركزية، فمثلًا الوزارات لها فروع في المناطق لكنها مشتتة، ويفترض أنها تُدار من قبل حاكم المنطقة لكن الواقع يقول: لا. فكل وزارة لها مشاريعها وموازناتها لكنها لا تتكامل تنمويًّا، وهناك هدر كبير نتيجة لعدم التنسيق.

النظام الإداري بشكل عام يحتاج إلى إصلاح شامل، ويجب التوجه إلى الإدارة المحلية، بحيث تتحول الوزارات إلى جهات إشراف وتخطيط، وتكون الموازنات على مستوى المناطق، وتتحول الإمارة إلى جهاز تنموي تنفيذي؛ هذا سيرفع من درجة التنافس بين المناطق كل حسب الموارد التي يملكها، وتقوم الحكومة بدعم المناطق الأقل نموًا، والأقل موردًا.

وذكر د. خالد الرديعان أن رؤية تمثل 2030 فرصة ذهبية للتحوُّل الاجتماعي والقيمي، فيما يعود على الجميع بالخير. ما يهم في هذه الرؤية هو التحوُّل المجتمعي المتعلق ببعض القيم الاجتماعية.. صحيح أن الرؤية ستكون لها جوانب مؤلمة، لكن ذلك سيكون طبيعيًّا بحكم أن الخطة تتعامل مع بشر اعتادوا على وضع رتيب لعدة عقود، سيتغير إلى وضع جديد غير مألوف؛ مما يستدعي درجة عالية من التكيف مع توقع الأسوأ، والاستعداد له، بل وتخفيف سلبياته بكل ما هو متاح من وسائل.

وبالطبع فإن العناصر المحافظة في المجتمع ستكون أول من سيعاني من الرؤية؛ فنحن بالرؤية سننتقل من مجتمع تقليدي بسيط جماعي النزعة إلى مجتمع حديث ومنتج، أو هكذا تريد لنا الرؤية.

هذا التحول سيضرب بعض القيم الاجتماعية الراسخة. ولعل أهم قيم ستتعرض للتغير هي القيم المرتبطة بمفهوم العمل والإنتاج، والمبادأة والإنجاز، والعلاقة فيما بين الأفراد.

هذا سينعكس على مفهوم “الجماعية” مقابل الفردانية، والأخيرة ستكون عنصرًا أساسيًّا في عمل الرؤية.. وللتفصيل يمكن الإشارة إلى مفهوم الجماعية بركون الفرد للجماعة المرجعية (أسرة، قبيلة، إلخ)، وتوزيع المسؤولية على الجميع دون أخذ زمام المبادرة على المستوى الفردي.. أما في حالة الفردانية فسيكون معيار النجاح هو الإنجاز على مستوى الفرد، والعمل ضمن مجموعة متناغمة دون الركون تمامًا إلى الجماعة؛ مما سيلقي بمسؤولية على الفرد.

ينعكس هذا التحوُّل على مستوى الأسرة الصغيرة كذلك؛ إذ سيتقلص دور رب الأسرة والأب والقائم عليها فيما يتصل بعلاقته بأبنائه البالغين على سبيل المثال.. قيم الرأسمالية والإنجاز ستكون حاضرة وبقوة، وستعمل على تقليص دور رب الأسرة وبعض وظائفه.. ينطبق ذلك على المرأة والفتاة عمومًا، إذ ستحصل على هامش أوسع فيما يتعلق بحرية العمل واختيار التخصص، وستكون مسؤولية المرأة مضاعفة باتساع أدوارها الاجتماعية: زوجة، وربة بيت، وموظفة منتجة. قد لا يكون هذا في صالح المرأة في البداية بحكم تضاعف مسؤوليتها، وهذا ما تم الإشارة إليه أعلاه من أننا سنمر بمرحلة تكيّف تستوجب تغيرًا في علاقات الجندر، وكيف تتأسس في المجتمع بحيث تُعاد صياغتها في ظل الوضع الجديد المتحول.

وفيما يتعلق بقيم العمل فإن الرؤية ستعيد تشكيل هذه القيم لتتناغم مع فكرة الإنتاج والمسؤولية الفردية… سيصار بذلك إلى تقليص أعداد العمالة الوافدة تدريجيًّا، ليأتي اليوم الذي لا نجد أعدادهم بهذه الكثرة التي تستنزف الاقتصاد الوطني. وسيقوم السعوديون بمعظم الأعمال بعد فترات من التدريب على المهن المختلفة. وبالطبع فالتعليم الجامعي لن يكون أولوية كما في السابق، وسيحتم سوق العمل نمطًا جديدًا من التعليم، يركز على مهارات العمل.

ويستوجب ما ذُكر انتفاضة في نظام التعليم التقليدي في المراحل دون الجامعة، ليواكب خط الرؤية. ولا جدال في أن التغيرات الاقتصادية الجذرية تفعل الكثير فيما يخص الجوانب الاجتماعية الأخرى، وتنسحب عليها بدرجة كبيرة، وهذا من أبجديات التنمية.

وعقب د. مشاري النعيم بأن ما ذكره د. خالد يفترض أن يحدث، لكن في الحالة التي نعيشها ستكون مجرد أحلام وأمنيات؛ لأن التغيير القيمي قد يكون في غير مساره الصحيح. أما الفردانية وسط حمى مزاين الإبل، وتصاعد صوت القبيلة، والتشجيع الذي تلاقيه على المستوى الرسمي والاجتماعي، فهذا يشير إلى “تشوهات الفردانية” بدلا من التحول السلس والمنطقي من مجتمع جمعي إلى مجتمع فرداني تنافسي.

ومن جديد أوضح د. خالد الرديعان أن التحول القيمي لا يحدث بين ليلة وضحاها، فهو يحتاج عدة سنوات.. لكن من الضروري البدء من الآن والاستعداد لما هو أسوأ؛ حتى لا تتراكم سلبيات الرؤية لتحدث خللًا اجتماعيًّا يصعب تداركه.

سيكون هناك تباطؤ في التوافق والتكيف مع الرؤية؛ بسبب أنها جاءت دون مقدمات كافية.. لكن المجتمع السعودي- وفي ظل الأحداث التي تمر بها المنطقة- هو على درجة عالية من الوعي التي ستمكنه في النهاية من تجاوز كل السلبيات.

يبقى أمور مهمة للغاية يلزم أن تفطن لها الحكومة: مكافحة الفساد بكل ضراوة، والحد من هدر الموارد المالية، والأمر الآخر إشاعة مبدأ العدالة الاجتماعية؛ لكي يكون المواطن في صف الدولة في كل خطوة تخطوها حتى لو كانت خطواتها مؤلمة له في المدى القريب. الخمس سنوات القادمة ستكون عنق زجاجة لكن ضروري الخروج منها بطريقة آمنة؛ ليس بالأمنيات ولكن بالعمل الدؤوب. الطفرة الاقتصادية في العقود الماضية بقدر ما جلبت رخاءً وبحبوحة، إلا أنها خلقت أنماطًا وسلوكيات سلبية كثيرة، تتعلق بثقافة الاستهلاك، وازدراء بعض المهن، والاستعلاء على الغير. الرؤية كمفهوم ستعيد التوازن، وتعيد تصحيح النظرة إلى كثير من الأشياء. والرؤية عمومًا تظل تجربة إنسانية لكنها قابلة للتصحيح؛ فالنسق الاجتماعي يصحح نفسه بعد كشف عيوبه.

وتعتقد أ.د فوزية البكر أن الرؤية جاءت في وقت مناسب؛ لأن المد المتطرف الخطر لم يُبق ولن يذر، وأصبح تهديده جماعيًّا؛ ولذا تشبث الناس بفكره التحوُّل طبعًا مع ما رافقها من ضجيج إعلامي أرغم الناس على سماع وقع طبولها.

في حين يرى د. عبد الله بن صالح الحمود أن هناك فرقًا في المقارنة بين الماضي والحاضر لمسألة القبول أو التكيف. اليوم المتطلبات الاقتصادية مختلفة عن ذي قبل، فضلًا عن أن الاحتياجات الأساسية اليوم هي أعلى ممن كانت عليه في الماضي، خصوصًا أن الكماليات في الماضي شيء لا يُذكر تجاه الإنفاق المالي، بخلاف ما نحن عليه اليوم من كماليات تعد أساسيات أرهقت الأنفس قبل الجيوب.

وبدورها أوضحت أ.د فوزية البكر أنه ومع هذا يبقي أن الفكرة الحقيقية للتحول ونواتجها المباشرة مهنية ومالية واقتصادية تصبُّ في قنوات محدودة ومعروفة، وهذا يهدد كامل الرؤية بانتفاء المصداقية. الناس مستعدون للتغير ليجدوا مقاعد لدراسة أبنائهم، ووظائف لهم بعد التخرج، لكنهم يحتاجون إلى قنوات مشاركة حقيقية، تُسمع المشرع أصواتهم.

هناك قلق كبير من الأطراف المهملة تنمويًّا؛ فقرع الرؤية ونواتجها يركز على الحواضر فقط رغم أن غالبية الشباب دون ١٦ هم من سكان المناطق الريفية والنائية، الذين لا حضور لهم في المشهد السعودي، وهذا أكثر ما يقلق.

وبسبب فقد مصادر التنمية المجتمعية تمكن ( المطوع ) البسيط، سواء كان مجرد مجتهد ورجل دين ( ومعظم قياداتنا الدينية هي كذلك ) أو كان متطرفًا، أو ناقمًا، أو سارقًا أن يتمكن من المجتمعات المهملة باسم الدين، ويسيطر على عقول معلميها، وطلابهم وآبائهم، وهنا يجب أن نقلق، ونتساءل: هل عرفوا من فكرة التحول سوى نقص البدلات، وغلاء أسعار السلع الأساسية ؟

وذكر د. مساعد المحيا أن الرؤية بالفعل تحتاج أن يتواءم الناس معها، كما أنها تحتاج فعلًا إلى أن يمارس كل مهتم ومتخصص نقدها وآفاقها المستقبلية؛ فمن أهم ما ينبغي أن يقوم به كل مهتم ومتخصص هو الممارسة النقدية لما اشتملت عليه، والناس قد لا يرون منها إلا أنها قصقصت بعض أجنحتهم؛ لذا ينبغي أن لا يقابلها المعنيون بالثناء غير المسوغ وغير المحدد في جوانب مما يتوقع لها أن تكون إيجابية فيه.

نحن اليوم نلحظ تراجعًا في عدد من البرامج الاقتصادية، وقلقا لدى المستثمرين، وانخفاضًا في حركة الاقتصاد، جعل العديد من المؤسسات تتخلى عن بعض موظفيها برغم أن الرؤية تبشر بمزيد من الوظائف.

وأضاف د. مساعد المحيا قوله: إن من أهم ما لم تشر إليه الرؤية هو الشفافية في العمل الإداري ومأسسته؛ مثلًا-  ونحن نتحدث الآن- : لا أحد يمتلك بيانات الدخل الرسمي من البترول خلال الربع الأول، ولا أظن وجود كفاءات مهتمة بالتخطيط تستطيع وضع أي تصور لأي مشروع دون بيانات حقيقية وصحيحة، ومثلًا: لا أحد يعلم على وجه الدقة أين تصرف كل الموارد؟ وكم ننفق على الحرب في اليمن، والحرب على داعش؟  وهل يُتاح لأي جهة أن تناقش المسؤول عن صرف هذه المبالغ؟ وكيف صرفت؟ ولمن …؟

الوزارات والهيئات الحكومية تشتكي توقُّف مشروعاتها برغم أهمية عدد منها، فهل يعني ذلك أن هذا مؤقت أم سيستمر؟ برغم فعلًا حاجتنا لرؤية بهذا الطموح، وبرغم جديتنا في تنفيذها، وهو أمر مبشر؛ إلا أني قلق من عدم وجود جهات يحق لها أن تساءل كل مسؤول عما يقوم به، ومدى كفاءته في تنفيذ ذلك، والعمل على محاصرة أدوات الفساد والفاسدين.

إن وجود ثلاثة أجهزة رقابية لم تكن كافية في حصار الفساد؛ لذا أنشأ الملك عبد الله هيئة مكافحة الفساد، برغم بعض جهدها النوعي والموسمي إلا أني أميل أنها انضمت للجهات الثلاث، وأصبحت تمارس عملها في إطار يبتعد عن المهمة الرئيسة لها.

إن الرؤية تحتاج إلى تحوُّلات كبيرة في جانب الأنظمة والإدارة، تضمن لها أن تكون في نهاية المطاف مشروعًا مجتمعيًّا مُقنعا؛ فالجمهور عامة اليوم لا يزال قلقًا، ويثير الكثير من التساؤلات، بل إن قراءة فاحصة لما تشتمل عليه الشبكات الاجتماعية تجد فيها ما يجعل فكرة الاقتناع أمرًا بعيد المنال.

وبدوره نبه م. أسامة كردي إلى ضرورة عدم الخلط بين متطلبات وإجراءات ميزانية ٢٠١٧ ( مثل الرسوم والضرائب ) وبين متطلبات وإجراءات الرؤية، مع إدراك العلاقة بينهما، بل إن بعض إجراءات الميزانية قد تؤدي إلى تأخير تنفيذ بعض متطلبات الرؤية.

في المقابل ذهب د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن الرؤية هي مما يحفز الموازنة العامة للدولة وغيرها لفرض المزيد من الضوابط المالية (رسوم، أو ضرائب). ومن ناحية أخرى فإن النسق الاجتماعي أساس لتصحيح توجهات المجتمع. ولكن يظل أمر إدارة الرؤية تجاه مجتمع لم يعتد على الكثير مما أتت به الرؤية، إذا لم تُدر بآلية هادئة، وبعملية تدريجية، وإلا ستفقد الرؤية الكثير ممَّا كان البعض يتأمل منها.

وفي السياق ذاته يرى د. علي الحارثي أن التغيير القيمي الاجتماعي القسري يرفضه المجتمع، ويتنادى ويتكالب ضده؛ فها هم خطباء المساجد ينددون بالترفيه وهيئته، وبتحجيم دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهيئته، ومعهم الغالب من رجال التعليم وتأثيرهم الأقوى، ومعهم نسبه عالية من المجتمع ضد السلطة وقراراتها، والإعلام غير الموثوق به على الإطلاق، وحتى التغيير البطيء الصامت سيتباطأ أكثر حينما يجد المجتمع أنه يواجه تغييرًا قسريًّا. الجانب الآخر هو الجانب الاقتصادي، قرارات الرؤية منصبة على الطبقتين الكادحتين ( الوسطى المهرولة للتلاشي، والفقيرة المسحوقة ) وهما تمثلان غالبية المجتمع، بينما الطبقة الغنية ومعها السياسيون، وأصحاب النفوذ الإداري، وأصحاب المناصب العليا، وغيرهم حتى وإن طالهم قرار تخفيض الرواتب، إلا أنهم يتمتعون بمزايا، وعطايا وهبات، ومنح وإكراميات، وإجازات، وأعياد، ومناسبات، إلى أن وصل بعضهم من العبث المالي إلى درجة الهياط، وهذا من المال العام في نظر المجتمع، فضلًا عن الفساد المستشري؛ إذ لا تستطيع هيئة مكافحة الفساد الدخول إلى أروقتهم. فكيف يتقبل المجتمع هذا التغيير؟

جانب آخر أشار إليه د. خالد الرديعان، وهو أن التغيير الاقتصادي والقيمي للرؤية لم يجانبه تغيير سياسي، وهو من مطالب المجتمع الأساسية التي نادى وينادي بها من قبل الرؤية؛ حتى يستطيع من خلال التشريعات الحصول على حقوقه المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، وبالتالي يستطيع المراقبة والمتابعة والمساءلة والمحاسبة ( من أين لك هذا؟ وأين صُرف هذا؟ ولماذا؟ وكيف؟ و…….).

المجتمع يرى بأطيافه المختلفة – وبصراحة ووضوح- أن التحوُّل والرؤية غامضة ومحيرة، بل يرى بعضهم أنها مدمٍرة اقتصاديًّا وقيميًّا واجتماعيًّا، وفي النهاية قد تكون مدمرة سياسيًّا، ويدلل بعضهم على أن الوزراء لم يفهموا ويستوعبوا لا التحول ولا الرؤية من بداية ظهورهم في المؤتمرات الصحفية الأولى، إلى تصريحاتهم المتتابعة والمتناقضة بين فينةٍ وأخرى، حتى الإعلام المطبل بدأ يتوارى. إن أي تغيير إذا لم يشارك المجتمع بأطيافه المختلفة في بنيته وبنيويته، وتفاصيله، وكيفية إدارته، والرقابة على تنفيذه، فإن مصيره الفشل.

وعقَّب م. خالد العثمان بأن ما طرحه د. علي الحارثي يعكس ما ذكره في تعقيبه عن غياب الفهم والوعي اللذين يؤسسان للقناعة بالرؤية والتفاعل معها.. بالطبع اللوم يقع على فريق إدارة الرؤية في عدم تبني خطاب وبرنامج توعوي، يزيل المخاوف، ويعالج ردود الأفعال السلبية من القرارات المتعلقة بالرسوم، وغيرها.. جزء من المشكلة في مثل ردود الأفعال هذه هو الخلط الحاصل الذي أشار إليه م. أسامة كردي بين الإجراءات المتعلقة بالميزانية وتلك الخاصة بالرؤية، والأخرى التي ركبت موجة الرؤية لخلق تغيير اجتماعي، ليس بالضرورة دافعه اقتصاديًّا، بما في ذلك التحولات التي المشار إليها بخصوص هيئة الأمر بالمعروف، وهيئة الترفيه مثلًا.

أما د. عبد الله بن صالح الحمود فأشار إلى أن د. علي الحارثي في حديثه قدَّم تحليلًا لتداعيات الرؤية؛ حيث يرى أن غالبية المجتمع، وهم من الطبقتين الوسطى والفقيرة ستعود إليهم الرؤية بالسلبية دون غيرهم من الطبقة المخملية. ولاشك أن الرؤى العامة التي تأتي متسارعة، ولا ترتبط بأسس تعالج ما يطرأ عليها من سلبيات هي رؤى يُحكم عليها بالفشل منذ بدايات انطلاقتها.

السؤال هنا: ما الحل ونحن نسير وفق رؤية كهذه؛ كونها رؤية أتت على عجالة من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تتضح أن لها ما يساندها في حال فشلها، سوى أن حساب المواطن الذي أجمع عليه الكثير أنه علاج وقتي ولمدة زمنية قد لا تتجاوز العام؛ بسبب تضخم محلي وعالمي ليس بالأمر السهل تجاوزه.

وبدوره أوضح د. علي الحارثي أن الحل، أولًا : أن يتقبلوا النقد البناء، حتى ولو طال التطوير أو التعديل الرؤية بمجملها، وقد نصحونا مَنْ أخذوا برؤى مكنزي من الدول الصديقة أنهم لم يروا خيرًا من ورائها . وثانيًا: العمل على الإصلاح السياسي حتى يشارك المجتمع في القرارات ويتحمل المسؤولية، وثالثًا: العدالة والمساواة والمراقبة والمساءلة.

ومن جديد ذهب د. عبد الله بن صالح الحمود أن الرؤية لا تزال يكتنفها الغموض، سواء كان الأمر يحتاج إلى مزيد من الإيضاح عنها، أو أن البعض من نتائجها قد يوقع ضررًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا، ربما بسبب ما تحمله من كم هائل من التوجهات ذات المطالب أكثر من المعطيات. إذ يتضح من الرؤية أنها أتت متسارعة من جانب، ومن جانب آخر أنها أتت بكم هائل من المطالب، ولهذا بقدر ما يقال: إنه قد لا يُكتب لها النجاح، بقدر ما يُعتقد أن هناك أضرارًا قد تنجم حال التطبيق، وأضرارًا قد يُصعب الأمر الخروج منها بيسر وسهولة.

ومن ناحية أخرى ذكر د. خالد بن دهيش أن من أهم ما أتت به الرؤية أن وضعت برنامجًا للتحول للعام ٢٠٢٠، يلزم الجهات الحكومية بوضع خطط استراتيجية قابلة للقياس بمقاييس عالمية، ووضعت جهة رقابية تقيس الأداء ومدى التقدم في تنفيذ هذه الخطط، وتعالج معوقات التنفيذ، وتضع الميزانيات التقديرية بأسلوب البرامج، وليس بأسلوب البنود، وتقوم بالمساءلة والمحاسبة والشفافية في الطرح.

في السابق كان هناك خطط تنموية خمسية جيدة، ولكن للأسف لم يكن هناك متابعة تقوم على القياس العلمي لما تحقق، وتقوم بالمحاسبة والمعالجة وتصحيح المسار، إضافة إلى الأسلوب القديم ( البنود ) في إعداد الميزانية.

ويعتقد د. حامد الشراري أن الرؤية وبرنامج التحول جلهما يتركز على الجانب الاقتصادي …مع إعطاء زخم أقل للتحول الاجتماعي، لكن هذا الأمر لا يجهله أو يهمله متخذو القرار – القائمون على تنفيذ الرؤية- ولعل لهم مبرر قوي حول هذا التوجه.. فالتحول الاقتصادي، والحاجة الملحة لاقتصاد يرتكز على مصادر مختلفة – أرى أنه أداة مؤثرة، وتقود تحوُّلًا في النظم والإدارة حتى في التحول الاجتماعي، مع الحاجة لبعض القرارات السيادية – ذات النظرة الشاملة – التي تسهم بفاعلية في هذا التحول، وتتجاوز روح الممانعة (المقاومة ضد التغيير) التي اتسمت بها بعض فئات المجتمع، وتحارب من أجلها، بالرغم من التأثير السلبي للتطبيق على المدى القريب، والذي تعمل الحكومة للحد منه؛ بسبب الإصلاح الهيكلي للاقتصاد وتوابعه؛ كالمبادرة بإنشاء حساب المواطن.

السؤال: ما هي نظرة فئة الشباب للرؤية، وهم الفئة الأغلب المستهدفة (٧٠٪‏ من المجتمع شباب- كما ذكر سمو الأمير محمد بن سلمان في لقائه بالعربية العام الماضي)؟ هل استثمرت المؤسسات أو الجهات الوطنية ذات العلاقة بالشباب لخدمة الرؤية، وتفعيل برامجها ومبادراتها، وإشراكهم فيها؟

ومن جهتها قالت د. نوف الغامدي: نحن نتحدث عن سسيولوجيا السيادة، أي العلاقة بين السيادة والاقتصاد والمجتمع، فالثروة التي هي بؤرة علم الاقتصاد لا توجد إلا في مجتمع، ولا تنتج إلا عن طريق الأيدي العاملة، ولا تتناول إلا بين أفراد تربطهم نظم وأوضاع اجتماعية، لا يوجد شيء يغير المجتمع سريعًا مثل الاقتصاد. التقاليد والأعراف الاجتماعية تأخذ وقتًا طويلًا في التحول، والسياسة قد تتغير ولا يتغير المجتمع معها، لكن في حالة الاقتصاد فإن التأثير على الأفراد والمجتمع يكون بالغًا، ومؤثرًا في تشكيل طبيعة حياتهم. الأزمات الاقتصادية تزداد في العالم، واليوم طرقت أبواب السعودية والخليج بأكمله.

العقبة لدينا تكمن في ضرورة الإنتاج عبر القطاعات الاقتصادية الأخرى. ففترة التنمية والرخاء الطويلة لا تعني بالضرورة فاعلية الاقتصاد، فهي قد اعتمدت على الجني المباشر من الريع والثروات الطبيعية. وجني الثروات الطبيعية والمعدنية أمر رائع، وجائزة لا مثيل لها. لكن أحد أبواب حسن استقبالها، كان ينبغي أن يكون استثمارها في صناعة اقتصاد حقيقي ومنتج. لقد كان التحذير من أثر ريوع المعادن السلبي على الاقتصاد قديمًا، منذ آدم سميث، أبو الاقتصاد الحديث، الذي كتب مرة عن المعادن أنها «دخل الرجال الذين يحبون أن يجنوا ثمار ما لم يبذروه». هذا فضلا عن الجوانب السلبية على قدرة المجتمع: كإضعاف قيمة العمل، وشيوع الاستهلاك، والتواكل.

والآن وبعد التحول إلى اقتصاد الريع، غاب الوعي الإنتاجي، وحل محله الوعي الاستثماري. أصبح النطاق الاقتصادي السعودي يعتمد بثقل على قطاعات تُستثمر في عوائد الريع، وتبحث عن عقود وفرص تديرها الدولة، وتدير امتيازاتها. وهذا ما أنتج طبقات اقتصادية سعودية، هي في حقيقتها طبقات معيقة للنمو. ارتفاع أسعار العقار غير المبرر، وفقاعات القطاع المالي التي أضعفت الاقتصاد، وسياسات الاستثمار التي تجلب المصنوع دون صناعته، واستيراد الغذاء دون إنتاجه، والاستهلاك قبلًا وبعدًا، كلها تمثل سياسات نتاج الريع التي رسمت وعيًّا اقتصاديًّا، لا بد من تبديله حال الانتقال إلى مراحل جديدة.

إن الخطط الجديدة مثل الانفتاح على الخصخصة تبدو حلولًا سريعة وملائمة، فأهم ما يميز القطاع الخاص أن الإنتاج يكون هو الحاكم على الدخل وكفاءة الأداء. لكن الأزمة المالية في العقد الأخير، أخبرتنا أن الإصلاح الاقتصادي العالمي اتجه إلى التأميم عوضًا عن الخصخصة، فالأخيرة قد تحول البلد إلى ساحة للإقطاعيات الضخمة، وتؤثر في النهاية على العدالة الاجتماعية، ومصير الطبقة الوسطى. لذا التحديث الاقتصادي الحقيقي يعتمد بثقل على الدولة، خصوصًا في مرحلة تحوُّل، ومن ذلك التحديث في بنية الدولة بكافة أبعادها: الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي.

إن إعلان الرؤية المستقبلية لم يحمل في تفاصيله سوى قرار وحيد، يتمثل في رفع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل من 22% إلى 30%، رافقته تأكيدات من ولي ولي العهد السعودي بأن مثل هذه القرارات لابد أن تنبع من المجتمع.

التجارب العالمية وحتى العربية والخليجية تؤكد أن حصول المرأة على حقوقها، ومنحها حريتها في التنقل والعمل وفي تقرير مصيرها، لم يكن دائمًا نتيجة نضالها من أجل هذه الحقوق وحسب، وإنما أيضًا لاقتناع أصحاب القرار بدورها، باعتبارها تمثّل نصف المجتمع. ولا يبدو واردًا أن تنجح العمليّة التنموية في المملكة العربية السعودية في ظلّ واقع يُقصى فيه مكوّن رئيسي في المجتمع، وهو بالمناسبة ما أكّده الرجل الثالث في المملكة وقائد الرؤية المستقبلية، قبيل الإعلان الرسمي عنها، إذ أشار إلى أن “البلاد لا يمكنها أن تزدهر وهي تحدّ من حقوق نصف المجتمع”.

التأكيد على الرفع في نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل، لا يعني التوجّه نحو تمكينها اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، خصوصًا وأن التّعويل على التغيّر المجتمعي ومنحه مهمة القبول بمنح المرأة حقوقها؛ مما يؤهلها للاضطلاع بدور فاعل على المستويين: الاجتماعي، والاقتصادي، لا يبدو حلاّ مثاليًا لملف شائك.

عند مقارنتنا الرؤية المستقبلية للمملكة العربية السعودية بنماذج لمخططات مستقبلية لدول مجاورة: كالبحرين، وقطر مثلًا، نلاحظ أن محور المرأة كان رئيسًا، وتضمن التأكيد على تمكين المرأة، على الرغم من أن المرأة في هذه الدول تتمتع بمجموعة من الامتيازات تفوق فيها المرأة السعودية بمراحل، لكنها مع ذلك كانت تمنح مجموعة من الامتيازات، وحتى تقدّم لها فرصًا؛ من أجل أن تتبوّأ مكانًا أفضل مما هي فيه.

تمكين المرأة لا يكون برفع نسبة مشاركتها في سوق العمل وحسب، ذلك أن هذه النسبة لا تعني بالضرورة تمتُّعها بحقها في العمل في كل القطاعات، ولا يعني أيضًا أنها حصلت على جانب من حقوقها المسلوبة. رفع نسبة مشاركة المرأة السعودية في سوق العمل لابد أن تصاحبه قرارات تهيئ لها الأرضية المناسبة؛ من أجل إثبات ذاتها، وربما حتى اقتحام مجالات جديدة كانت ممنوعة منها، من ذلك: منحها حقها في القيادة، ذلك أن المواصلات تعدّ أحد أهم أسباب عزوف المرأة السعودية عن العمل في بعض القطاعات؛ لذا فالرؤية لم تقدم جديدًًا للمرأة، وهي نصف المجتمع.

  • نحو تعظيم المردود المُتوقع من رؤية 2030:

أشار د. ناصر القعود إلى أن رؤية ٢٠٣٠ جاءت لترسم الخطوط العريضة، وتحدد الأهداف للوصول إلى اقتصاد متنوع، والخروج من هيمنة النفط على الناتج الوطني وعلى الإيرادات المالية؛ انطلاقًا من المزايا الكامنة لموقع ومكانة المملكة ومواردها البشرية، وتضمنت بعض المؤشرات المستهدفة، مثل: مساهمة المرأة في العمل، ونسب البطالة، ومساهمة بعض القطاعات الإنتاجية والخدمية، ولا خلاف على ما ورد في الرؤية من طموح وتفاؤل. ولتحقيق الرؤية لابد من برامج بتواريخ محددة يمكن قياس الإنجاز فيها، ومدى مساهمتها في تحقيق الأهداف الرئيسة للرؤية، وفِي مقدمتها: تنويع القاعدة الاقتصادية، وإيجاد فرص عمل منتجة للداخلين لسوق العمل من المواطنين والمواطنات. ومن هنا جاء برنامج التحوُّل الوطني ٢٠٢٠، والذي ركَّز أكثر على تنويع الإيرادات أكثر من تنويع القاعدة الاقتصادية؛ مما قلل من الحماس الذي واكب صدور الرؤية، رغم ما تضمنته من ترشيد لموارد المياه والطاقة، وهذا البرنامج سيتبعه برنامج ٢٠٢٥، وبرنامج ٢٠٣٠ ، ونجاح هذه البرامج هو الذي سيحدد مدى الوصول إلى تحقيق الرؤية، التي لا خلاف على ضرورة السعي لها.

ومن وجهة نظر د. خالد بن دهيش، فإن التحوُّل لابد وأن يكون شاملًا للمستويين: مستوى التشريعات، والنظم والكوادر البشرية؛ وبنِسَب متباينة، ووفقًا للأهداف التي تسعى الرؤية لتحقيقها؛ للوصول إلى تحقيق رؤية المملكة ٢٠٣٠.

للمملكة تجارب في التخطيط التنموي منذ عام ١٩٧٠، تحقق من خلالها الكثير من أهدافها، وتعثر أيضًا الكثير من الأهداف الطموحة وفقًا للدورات الاقتصادية والحروب التي مرت بها المملكة والعالم.

إن الأولوية لأي إصلاح اقتصادي وما يتبعه من إصلاح سياسي واجتماعي وإداري وتشريعي- يجب أن يكون الإنسان – رجلًا وامرأة- على السواء، المتعلم تعليمًا مناسبًا ( علميًّا وتقنيًّا )، والمثقف، والمتحضر خلقًا وسلوكًا، والمتمسك بالشريعة الإسلامية الوسطية السمحة من خلال نظام تعليمي، بعيد كل البعد عن التدخلات المؤدلجة وتوجسات الثقافة الدينية، مع إطلاق يد الإدارة التربوية للعمل لتطوير النظام التعليمي القادر على مواكبة متطلبات تحقيق الرؤية بإرادة حاسمة ذات كفاءة عالية، تلم شتات الجهود التطويرية والحلول المتناثرة.

فالإنسان هو نواة المجتمع، فمتى تمَّ إعداد هذا الإنسان الإعداد الذي تحتاجه المرحلة ومتطلباتها؛ كونه العمود الفقري والقاعدة الأساسية للتنمية الاقتصادية. وعلى هذا الأساس يكون التعليم له الأولوية القصوى في الرؤية.

وتطرقت أ.د. سامية العمودي إلى أن تشكيل الوعي المجتمعي بصورة معينة، ثم تحويله والانتقال إلى مفاهيم جديدة – يحتاج كل ما سبق طرحه؛ لكنه أيضًا يحتاج إلى أن تحدث صناعة التغيير وزيادة الوعي بالرؤية من خلال التعليم والإعلام؛ فلا تستطيع أن تقيم أوركسترا يابانية، وتقدم محمد عبده- وأنت تكتب في مناهجك ما يعزز التحريم المطلق؛ المجتمع بحاجة إلى رؤية محدثة في مناهجنا وفتاوانا ومنابرنا؛ لتواكب صانع القرار والتطلع إلى التغيير؛ ولذلك لابد من تعزيز الرؤية بالفكر الذي يعرض الأحكام والاجتهادات، وتحديث الخطاب الديني، وكسر الجمود الذي تبنيناه لعقود، من الناحية الاقتصادية هناك ضبابية للعامة، وتضارب فيما نقرأ، ويبقى من المهم القول بأن على مَن يريد للرؤية أن تحقق أهدافها أن يدرك أن التحول الفكري الناضج هو القاعدة الرئيسة لمكتسبات وطنية يتأملها الجميع.

ومن ناحيته، يرى أ. مسفر الموسى أن مناقشة تحوُّل النظم والإدارة أم تحول المجتمع في ضوء رؤية 2030، تدخلنا إلى صلب فكرة “لا ضريبة بدون تمثيل No taxation without representation” الشهيرة. وليس القصد هو الضريبة في حد ذاته، وإنما ما تطلبه الرؤية من تضحيات وتغيرات سلوكية من المواطن الفرد والمجتمع.

الأنظمة الإدارية هي جزء من هذه التحولات القسرية التي تنبع من تأثير الرؤية الجديدة. طال الأمد أو قصر، ستنتج هذه الرؤية حالة وعي عامة بمبدأ المشاركة والعدالة، وضرورة التمثيل.

الصمت الدائم عن هذه الحقوق كان مبنيًا على عقد اجتماعي يقوم على معادلة الرخاء، وعدم الإلزام مقابل عدم المطالبة بالتمثيل، والمشاركة في صناعة القرار؛ لذلك، فإن الرؤية حتى تصل إلى مبتغاها، يجب أن تؤسِّس لنظام إداري شامل – (متكامل وليس شموليًّا) – يستوعب المجتمع الحديث.

وذكرت أ.د فوزية البكر أن القضية الحالية ذات شقين مهمين، وهما: التغير الإداري، والتغير القيمي. طبعًا في الدراسات الثقافية تنعكس البنية الثقافية على أية ممارسات إدارية مهما كانت متقدمة؛ فالواسطة والفزعة لابن العم أو الجار أو للقبيلة تسبق الأحقية في الكرسي أو المقعد الدراسي، إلخ. ولهذا فالتغير القيمي يؤثر كثيرًا على المناهج الإدارية لمؤسسات الدولة المنوط بها تحقيق الرؤية.

التعليم يمكن أن يلعب دورًا كبيرًا جدًّا في الدفع بالقيم الفردانية، التي تؤكد على الجدارة، والعمل، والتجرد مما يمكن أحيانا ضبطه بالقانون؛ لكن لا نعرف إذا كانت سلة التعليم الحالية قادرة على التركيز على بناء الإنسان، بدلا من التركيز على المقرر، وإعادة وتكرار الموروث الثقافي دون تنقية.

التغيير القيمي يجب أن يجعلنا نقتنع بأن لا جدوى من وضع ذبائح كثيرة وأطباق لا حدود لها في العزائم والأعراس، لكن لا نستطيع ذلك أمام ضغط المجتمع مثلًا، والتغيير القيمي يجب أن يدفعنا لاحترام قيمة الادخار مقابل الإنفاق على الكماليات، يعني إعادة ترتيب الأولويات، لكن لا نستطيع أمام الضغط الاجتماعي.

وأكد د. حميد المزروع على أهمية التوعية الإعلامية الموجهة  للفئات العمرية الصغيرة ( المدرسية )؛ كونها تسهم من ناحية في إبراز أهمية تطبيق أهداف الرؤية بشقيها:  الإداري، والاجتماعي، والأهم من ذلك توعية الجيل المعاصر بأهمية احترام ثقافة العمل والإنتاجية، وأنها في النهاية ستسهم في تأمين مستقبلهم الوظيفي والأمني.

إن معظم مشاكلنا إدارية في المقام الأول، لدينا الكفاءات البشرية والموارد الطبيعية. ما نحتاجه تطوير التشريعات والأنظمة المناسبة، ووضع الكفاءات المناسبة لتطبيقها ومتابعتها.

بينما يرى د. خالد الرديعان أن الإعلام والخطب لا تكفي؛ فالمسألة منوطة بالدرجة الأولى بنظام التعليم حتى يواكب الرؤية ومتطلباتها.. نظام التعليم بحاجة لاقتلاعه من الجذور، وغرس نظام جديد يقرن المعلومة بالممارسة، والأقوال بالأفعال؛ ولا يكفي أن نعلِّم النشء أهمية الأمانة في الوقت الذي تتكاثر فيه فلول اللصوص والفاسدين. ويفترض وجود هيئة تتابع تنفيذ الرؤية، وتتعرف على مشكلاتها، والصعوبات التي تصاحب تطبيقها، وتشير إلى عوامل العرقلة.

وتتطلب الرؤية كذلك تغييرا بنيويًّا في النظام السياسي. هذا يعني ضرورة إحداث تغيير في نظام الحكم الأساسي (مراجعة مواد النظام، وإضافة مواد جديدة) بحكم أن نظام الحكم هو بمثابة الدستور الموجود في دول أخرى، والذي يخضع للتطوير والتغيير عند الضرورة.

لعل أهم تغيير مقترح هو ضرورة تعيين رئيس وزراء لا يتولى أي منصب آخر، ويناط به مهمة مجلس الوزراء وأعمال كل وزير، من خلال الصلاحيات الممنوحة لوزارته.

ومن التغييرات التي ربما هي مناسبة للمرحلة أن يكون نصف أعضاء مجلس الشورى منتخبين، مع زيادة عدد أعضاء المجلس لضمان التمثيل المجتمعي والمناطقي بصورة لا تخل بالوحدة الوطنية، أو تزرع بذور الفرقة، من خلال مواد ترد في نظام الحكم الأساسي تؤكد على الوحدة الوطنية وأهميتها، ودور القيادة التاريخي والوطني في تكريسها والدفاع عنها. يلزم كذلك توسيع صلاحيات مجلس الشورى على أن يُناط به مراجعة جميع قرارات الدولة، وصلاحية الموافقة أو عدم الموافقة عليها، بما في ذلك قرارات الحرب، والموازنة العامة، والاتفاقات الدولية.

ومن المقترحات أيضًا: خضوع جميع الوزراء للمساءلة حول أعمال وزاراتهم، وحجب الثقة عن المقصر، وإقالته إذا استلزم الأمر، وذلك بقرار من رئيس الوزراء، على أن لا تزيد فترة الوزارة عن أربع أو خمس سنوات، وأن يكون التجديد للوزير مرة واحد فقط في منصبه. وقبل تعيينه يفصح عن جميع ممتلكاته، ويقدم بيانًا شاملًا بذلك؛ للحد من الفساد وتقليصه.

ومن المقترحات إنشاء محكمة دستورية عليا مستقلة عن سلطات رئيس الوزراء ووزارة العدل، ترتبط مباشرة بالملك وولي العهد، تكون مهامها تفسير مواد نظام الحكم الأساسي وضمان تطبيقها، وللفصل في القضايا التي تخص مجلس الوزراء والوزراء وبقية المجالس. ويتم انتخاب أعضاء المحكمة من القضاة والمستشارين؛ لضمان استقلاليتها التامة.

التغييرات في النظام السياسي – كما هو مقترح- ستكون عاملًا أساسيًا في تكريس النزاهة والشفافية، وعدم استغلال المنصب، وضمان تطبيق رؤية المملكة بكل عدالة.

وأكد د. مساعد المحيا أن الاستحقاقات السياسية أحد أهم التحولات التي تتسق وملامح الدولة السعودية الرابعة، من خلال الكفاءات الشابة القادرة على صناعة التغيير؛ فلا يمكن أن تكون الرؤية ذات برامج اقتصادية فقط دون تحولات سياسية تستلهمها وتقودها.

كذلك فإن المجتمع يمكن أن تظل الرؤية لديه أمرًا مخيفًا كالبعبع الذي ينتزع منه استقراره.. وذلك حين تكون كالبندقية التي تطلق أعيرتها النارية كلما أحس بالأمن؛ فهو لا يفتأ يسمع بأخبار الضرائب الجديدة وربطها ببرامج الرؤية؛ هو يحتاج لكل ما يمنحه الشعور بالأمن المعيشي وربط ذلك بالرؤية، مثلًا صوّت مجلس الشورى مؤخرًا في جلسة طارئة على مشروع ضريبة القيمة المضافة، ولكن الجمهور لم يبلغه من ذلك إلا الدخان والمشروبات الغازية والطاقة.

وأكد م. أسامة كردي على أن التعليم من أهم ما يمكن إضافته إلى الرؤية، وليس الحديث عن تخصيص التعليم كما يتم حاليًّا، وإنما الحديث عن رفع جودة التعليم؛ بالاهتمام بأسلوب التعليم، وبالمدرس، وبالكتاب، وبمبنى المدرسة.

وأشار د. خالد بن دهيش إلى أن مؤسسات التعليم بالمملكة انشغلت بمواكبة التوسع الكمي الهائل للتعليم، في حين لم يواكب ذلك توسع نوعي بالمستوى المطلوب، بالرغم من وجود العديد من البرامج الناجحة لتحسين نوعية التعليم وجودته، وأصبح التحوُّل من الأسلوب التقليدي بطيئًا؛ من حيث أهداف التعليم، وسياسته، وهيكلته، وبناه التنظيمي، خاصة أن سياسة التعليم بالمملكة مضى على إعدادها ٤٥ عامًا . ونتيجة لذلك ظهرت الانتقادات على فاعلية هذه السياسة التعليمية وكفاءتها، وعدم مواكبتها لمظاهر التطور والنمو بالمستوى المطلوب، لمقارعة الأنظمة والسياسات التعليمية في الدول المتقدمة. إضافة إلى أن التحديات التي تواجه النظام التعليمي لا يمكن التصدي لها بالأساليب التقليدية، إذًا لابد من اعتماد منهجية تربوية علمية في التخطيط الاستراتيجي التعليمي طويل المدى، وتبني سياسات تعليمية وقرارات تتصف بالمرونة والعقلانية، وتوفير بدائل متعددة في الأنظمة يتم الاختيار فيما بينها وفقًا لكفاءتها وفاعليتها وكلفتها، وابتكار حلول إبداعية للمعضلات ومواقع الاختناق التي يعاني منها النظام التعليمي وسياسته، والأمل في الله، ثم بما تضمنته الرؤية للتعليم 2030، وبرنامج التحول الوطني للتعليم 2020 ؛ لإحداث التحوُّل والتطوير، أو الإصلاح للتعليم ( العالي والعام ) الذي اعتُمد له  ثمانية أهداف استراتيجية.

ويرى أ.د. صدقة فاضل أن رؤية 2030 هي دون شك عملية تنموية شاملة تحتاج إليها بلادنا أمس الحاجة. ولكنها لا يمكن أن تحقق أهدافها دون أن تتلازم وإصلاح إداري وسياسي مناسب ومتدرج، يقدره ولاة الأمر. حبذا لو يُوكّل لمجلس الشورى أمر متابعة تنفيذها بالمشاركة مع الجهات التنفيذية المعنية؛ وهذا يتضمن الرقابة العامة عليها. وهذا يجب أن يعنى : إعطاء مجلس الشورى هذه الصلاحية؛ أي إضافة هذه الصلاحية إلى صلاحياته المتواضعة.

وفي تصوُّر د. عبد الله بن صالح الحمود فإنه في الأصل ولتقوية قبول الرؤية، تأتي مسألة تصحيح السلوك الاستهلاكي الذي أشار اليها د. مشاري هي مطلب أساس، وواجب الإتيان به من لدن أي مجتمع، بينما صدور تنظيم أو قانون جديد هو شيء آخر، بمعنى أن سنَّ ضوابط مبكرة وقبل الوصول إلى مرحلة جديدة وهي 2020، ويحدث ما يحدث من ضرائب ورسوم تقنين قبل الوصول إلى ذلك العام، فالأمر هنا لن يُقارن بقضية ترشيد الاستهلاك، بل يعني فرض أشياء على الأمر الواقع، وبالتالي لا علاقة بسياسة الترشيد بذلك.

وفي هذا الصدد يرى د. مشاري النعيم أنه من الضروري ترشيد التغيير، ودراسة كافة جوانبه، وإحداث ثورة في التعليم تُرسِّخ القيم المرغوبة لإحداث تغيير متوازن؛ ففرض التغيير قسرًا دون تهيئة كافة الجوانب لإنجاحه فيه مخاطر كبيرة. كما أن المسالة ليست فقط وضع خطط، بل تهيئة الظروف التشريعية والبشرية لنجاح الخطط.

وأوضح أ. أسامة نقلي أن هنالك مدرستين للتفكير في شأن فرض التغيير: مدرسة تعتمد على التدرُّج، ومدرسة تعتمد على التغيير الفوري واستيعاب ردة فعله في فترة زمنية قصيرة. والاعتقاد أننا جربنا مدرسة التدرُّج منذ بداية الخطط الخمسية في العام ١٩٧٠م، وهي تحمل نفس المضامين الطموحة بتخفيض نسبة الاعتماد على النفط إلى ٢٥٪‏، مقابل زيادة الموارد الأخرى في ناتج الدخل القومي إلى نسبة ٧٥٪‏ ؛ إلا أنه سرعان ما تنزوي هذه الخطط مع أول زيادة في أسعار النفط، وأكبر مثال طفرة نهاية السبعينيات، ثم طفرة بداية الألفية الثانية، وكل ما يُخشى على رؤية ٢٠٣٠ هو طفرة نفطية أخرى تشغلنا عن برامج الرؤية، وتعيدها للأدراج.

وذكر د. عبد الله بن صالح الحمود أن الخطط الخمسية السابقة لم تأت وفق متابعة حثيثة وتقييمات فاعلة، وهذا ما تطرق له د. خالد بن دهيش ، ولم ترافق الخطط الخمسية رقابة على المنفذين لها، فضلًا عن أن مستشاري تلك الحقبة يبدو أنهم لم يقدموا آراء ارتبطت بنجاح أو فشل تلك الخطط، إلا إن كان ذلك حدث ولم يتم التجاوب، ربما بسبب زيادة أسعار النفط نسي الجميع أحوال الخطط وما أتت به .

ويفترض منذ الشروع في الخطط الخمسية، ألا تكون أسعار النفط مؤثرة على خطط يُراد منها بناء مستقبل مغاير عن الرعوية، أسعار النفط تقيم تقديريًّا في كل سنة مالية للدولة بسعر معين، وهو سعر غالبًا يقلّ في حدود 30 % عن السعر الحقيقي وقت التقييم، وبالتالي لا يُفترض أن تنسف أي خطة وطنية أو يضعف تطبيقها؛ بسبب زيادة في مداخيل لا علاقة لها بتنويع مصادر الدخل.

في حين أوضح د. خالد الرديعان أن أسلوب التغيير الفوري والسريع مدرسة قائمة.. لكن يفترض ألا يكون هذا التغيير جزئيًّا، بمعنى أنه يتناول نسقًا معينًا، ويترك بقية الأنساق.. لكي ينجح هذا التغير يُفترض أن يكون شاملًا بقدر المستطاع؛ حتى تتحرك جميع أجزاء العجلة وبنفس الرتم.

أما د. سعد الشهراني فأشار إلى أنه – وفي الفترة الماضية-  اتخذت قرارات جريئة على المستوى الوطني ( الكلي – الفوقي )، واعتُمدت مبادرات، ولا بأس من إعادة  ذكرها هنا:

–         إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، خصوصًا إنشاء المجلسين.

–         قرار القيادة السياسية بضبط المشهد السياسي الاستراتيجي الخليجي والعربي حزمًا وعزمًا.

–         برنامج التحول الوطني.

–         رؤية 2030.

–         الإصلاح المالي.

كل هذه البرامج والمبادرات مجتمعة ومتفرقة ستحدث – بلا شك- تأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة مباشرة وغير مباشرة، وفي المدى القريب والمتوسط والبعيد. وبعضها سلبي – بلا أدنى شك- خاصة على  المستوى الجزئي ( الفرد، والمجتمع، وقطاع الأعمال )، ولكن المأمول والمستهدف أن تحدث هذه المبادرات تأثيرات إيجابية كثيرة على المستوى الكلي أولًا، وربما مباشرة ولاحقًا على المستوى الجزئي عندما نبدأ نجني الثمار الاقتصادية بالذات.

من أهم ما يجب تحقيقه بصرف النظر عن العبارات المنطقية والاستراتيجية في البرنامج والرؤية (أن يصبح الاقتصاد الوطني اقتصادًا منتجًا، ومولدًا للفرص وللوظائف والدخول الخاصة والعامة في أقصر وقت)؛ ولذلك فإن الخطط والبرامج التنفيذية للرؤية هي المحك. لكن إذا كانت هذه هي التأثيرات المستهدفة، فما هي الشروط الضرورية لنجاح الرؤية؟

عنوان القضية ( التنظيم والإدارة والمجتمع ) يلخص بطريقة ما هذه  المتطلبات فيما دون السياسي، إلا أن من أهمها المتطلبات السياسية، وقد أشارت لها بعض المداخلات أعلاه، وتتلخص في قبول مفهوم التنمية السياسية والمشاركة السياسية بمعناها الملائم لنا في المملكة العربية السعودية، والشفافية، والمساءلة، والمحاسبة، وضبط حدود السلطة على المال العام والممتلكات العامة.

و هذا شرط ضروري للقبول الاجتماعي و( ركوب المجتمع عربة الرؤية ) من خلال تغيير الأنماط والسلوكيات، والقيم المعيقة للتنمية، قد يمكن تجاوز هذه المتطلبات السياسية، ولكنها ستبقى عائقًا بدرجة أو بأخرى. أما الإصلاحان التنظيمي والتشريعي فهما ضرورة أيضًا، بما يعزز دور القطاع الخاص، ويجعله منتجًا ومشغلًا رئيسًا لليد العاملة السعودية، فضلًا عن اعتماد المبادئ الإدارية التي تجعل الموظف العام والخاص منتجًا ومسؤولًا.

الإشكالية في التحولات الاجتماعية، فالمجتمع حتى الآن مفعول به  وليس فاعلًا؛ بسبب طغيان  برامج الإصلاح المالي وفجائيتها وحجمها، وتكاثفها على المواطن  في فترة وجيزة؛ مما جعله ساخرًا، متألمًا، شاكيًا، متسائلًا، متذمرًا، في الوقت الذي نريده أن يكون داعمًا لهذه السياسات والمبادرات والبرامج التي نحن مجمعون على أهميتها وضرورتها.

والسؤال الملح هنا هو: كيف نعيد للمجتمع توازنه؟ وكيف نحفزه لمساندة الدولة؟ وكيف نزرع القيم المعززة للإنتاجية والادخار؟ المصارحة والمكاشفة، والقدوة السياسية، ومنع منابع وممارسات الفساد الكبير، وإعادة النظر في حجم الأعباء التي فُرضت على المواطن خاصة ذوي الدخول المتوسطة والمحدودة- قد تكون من أهم محفزات المجتمع للتحوُّل في الاتجاهات المعززة لنجاح الرؤية، وقد يكون حساب المواطن بديلًا ضعيفًا لإعادة النظر في الأعباء التي حملت للمواطن أخيرًا، إلا أنه هو نفسه غامض، ولا يزال حتى هذه اللحظة  محل التندر والتساؤل والتشكيك.

لا بأس من الصدمة وتحميل المستهلك تبعات قراراته غير المرشدة، ولا بأس من ضرب المسرفين والمهايطين في جيوبهم، ولكن الذي لا يملك سكنًا، والعاطل، والأسر المتعففة التي تآكل دخلها، والذي لا يفي أصلًا بمتطلبات الحياة الحرة الكريمة… أين هم في الصورة ( في الرؤية ) الآن وليس غدًا ؟!

وذكرت د. نوف الغامدي أن واقع المرأة يظل مع توجهات رؤية المملكة مرتبطًا بمدى التوجه الحقيقي لوضع السياسات التنظيمية التي تكفل المشاركة الفعالة للعنصر النسائي في اتخاذ القرارات، لذلك لابد من :

  • تفعيل دورها القيادي بمنح الصلاحيات للمرأة السعودية، للقيام بالدور الإداري المطلوب في صنع القرار، عبر تعزيز ثقافة المجتمع وثقته بقدرة المرأة.
  • تفعيل الأنظمة واللوائح التي من شأنها تسهيل مهمتها.
  • زيادة تمثيل القيادات النسائية في الوزارات واللجان والمجالس الإدارية؛ لأن بكل وزارة أو قطاع يوجد مستفيدون ومستفيدات، ومن باب أولى أن يتولى أمر المستفيدات نائبة تهتم بأمورهن.
  • دور وسائل الإعلام في تصحيح النظرة السلبية عن المرأة في المجتمع.
  • تكثيف برامج التدريب للقيادات النسائية قبل وأثناء ممارسة الدور القيادي.

بينما ترى أ. إيمان الحمود أن الرؤية في مجملها مشروع طموح، يخرج بالمملكة من مفهوم الدولة الريعية الذي أفسد أجيالًا من الشباب، لكنها في المقابل فتحت عيون هؤلاء الشباب على أمور مهمة، وأبرزها المشاركة في صنع القرار، مادام أنه سيشارك من جيبه الخاص في صنع الاقتصاد وتنويع مصادره؛ لذلك فلعل المشكلة الأساسية في الرؤية تكمن في آلية التنفيذ، والتي تفتقر إلى مبدأ “هات وخذ “، وهو يعني مقايضة الواجبات بالحقوق، وأبرز تلك الحقوق وأكثرها إلحاحًا من وجهة نظرها هي تلك المتعلقة بالمرأة .

مع ازدياد الحديث عن قيادة المرأة مؤخرًا يبدو أن الدولة تتجه لإصدار هذا القرار ليس من باب الرد على الانتقادات الدولية، ولا حتى من باب تحسين أوضاع النساء، بقدر ما يدخل في باب مبدأ المقايضة، خاصة مع الحديث عن بدء فرض الضرائب على السيارات الفارهة.

أما أ. مها عقيل فتعتقد أنه مازال هناك الكثير من الضبابية وسوء الفهم – إن لم يكن سوء الظن للرؤية وبرنامج التحول- ولذلك فالشفافية مطلوبة، وزيادة وعي المواطن بما هي الفائدة المرجوة والمنتظرة له هو. كما أن التغيير يبدأ من الأعلى للأسفل، فإذا كنّا نتحدث عن تغيير السلوك الاجتماعي من تبذير، وترشيد الاستهلاك، وغيرها، فالمفترض أن القدوة ومن هم في المناصب القيادية والإدارية تقود هذا التغيير. وليكن هناك المزيد من المحاسبة خاصة إذا كانت ستفرض ضرائب. بالإضافة إلى أنه أصبح من الضروري إشراك جميع فئات المجتمع في اتخاذ القرارات وخاصة التي تمس حياتهم بشكل مباشر. لا يمكن فرض واقع على المجتمع دون توقع نوع من ردة الفعل من أفراد المجتمع، كلّ بحسب رأيه وتقديره للأمر.

ومن المهم أن تكون هناك شفافية ووضوح حول الخطوات القادمة من تغيير، وما تأثير ذلك على المواطن، أي الابتعاد عن التغيير المفاجئ والقرارات التي تصدر بين ليلة وضحاها، وإشراك المواطن في الحديث عن الرؤية والتحول، وأن يعبر عن مخاوفه، ويطرح أسئلته على المسؤولين مباشرة، ويسمع أجوبة شافية ومحددة.

وأضاف أ. مطشر المرشد أن البدء ببرامج التحول الوطني وإعادة هيكلة الوزارات والاقتصاد بشكل عام يجب أن يكون وفق أهداف الرؤية، وللأسف نحن بدأنا التحول وإعادة الهيكلة مسبقًا، وقبل أن نختار الرؤية وأهدافها، والتساؤل: هل تم اختيار الرؤية بناء على معطيات محلية وبمشاركة خبرات وطنية تمتلك دراية كافية حول التركيبة الاجتماعية وتنوعها، وأيضا التوزيع السكاني، والميزة التنافسية لكل قرية ومدينة أو منطقه في البلاد؟

المشاركون في مناقشات هذا التقرير:

)                   حسب الحروف الأبجدية (

  • د. إبراهيم إسماعيل عبده (مُعِدّ التقرير)
  • د. إبراهيم البعيز
  • م. أسامة كردي
  • السفير أ. أسامة نقلي
  • د. الجازي الشبيكي
  • أ. أمجد المنيف
  • أ. إيمان الحمود
  • أ. جمال ملائكة
  • د. حاتم المرزوقي
  • د. حامد الشراري
  • م. حسام بحيري
  • د. حسين الحكمي
  • د. حميد الشايجي
  • د. حميد المزروع
  • أ. خالد الحارثي
  • د. خالد الدخيل
  • د. خالد الرديعان
  • م. خالد العثمان (رئيس اللجنة الإشرافية على ملتقى أسبار)
  • د. خالد بن دهيش
  • د. زياد الدريس
  • م. سالم المري
  • أ.د. سامية العمودي
  • اللواء د. سعد الشهراني
  • أ. سمير خميس
  • أ.د صدقة فاضل
  • أ.د. عبدالرحمن العناد
  • د. عبدالرحمن الهدلق
  • أ. عبدالرزاق الفيفي
  • د. عبدالسلام الوايل
  • أ. عبدالله الضويحي
  • د. عبدالله العساف
  • د. عبد الله بن صالح الحمود
  • د. عبدالله بن ناصر الحمود
  • أ. عبد المحسن القباني
  • اللواء د. علي الحارثي
  • د. علي الحكمي
  • أ. علياء البازعي
  • أ. فاطمة الشريف
  • أ. فضل البوعينين
  • د. فهد الحارثي
  • أ.د. فوزية البكر
  • أ. كوثر الأربش
  • د. مساعد المحيا (رئيس لجنة التقارير)
  • أ. مسفر الموسى
  • د. مشاري النعيم
  • أ. مطشر المرشد
  • أ. مها عقيل
  • د. منصور المطيري
  • د. ناصر القعود
  • د. نوف الغامدي
  • أ. هادي العلياني
  • أ. ولاء نحاس
  • د. ياسر البلوي

تحميل المرفقات: التقرير الشهري 25

تحميل المرفقات