مارس 2018
ناقش أعضاء ملتقى أسبار خلال شهر مارس 2018 م العديد من الموضوعات المهمة، والتي تمَّ طرحُها للحوار على مدار الشهر، وشملت القضايا التالية:
- العنصرية.. وتأثيراتها على الوحدة الوطنية
- فائض الأطعمة.. هدر مالي وسلوك اجتماعي غير مقبول
- واقع الإدارة التربوية والنظرة المستقبلية لها في العملية التربوية التعليمية.
- (لجان التنمية الاجتماعية والدور المحلي المنوط بها في ضوء التحوُّلات التي تعيشها المملكة ).
المحور الأول
العنصرية.. وتأثيراتها على الوحدة الوطنية
تتناول قضية الأسبوع “العنصرية” وتأثيراتها على المجتمع السعودي ووحدته الوطنية”، من خلال تناول مفهوم العنصرية، ومناقشة أسباب وعوامل ظهورها، وأنواعها، وبعض مظاهرها المتمثلة في التعرُّف على الدور السياسي للعنصرية، والعنصرية في المجتمع الواحد، والعنصرية عند العرب والمسلمين، والعنصرية المجتمعية، والعنصرية ضد الوافدين، والعنصرية في الخارج، بالإضافة إلى بعض المقترحات لمواجهة العنصرية في المجتمع السعودي، وكيف يمكن الحد منها، ومن ثَمَّ القضاء عليها، وأخيرًا التوصيات النهائية.
¤ الورقة الرئيسة: أ. سمير خميس.
تظل “العنصرية” من الآفات الاجتماعية التي يصعب الحديث والنقاش حولها في المجتمع السعودي؛ لكونها مصطلحًا وافدًا، تبلوَر معناه مع تبلوُر الدولة القومية الحديثة مع ما بشرت به من مدنية قائمة على أساس المواطنة التي تضمن العدل والمساواة والشراكة في بناء الوطن.
كما أن العوامل الاقتصادية والطفرات المتتالية التي مرَّ بها المجتمع السعودي، وسارعت بتطوُّره من مجتمع “زراعي- رعوي” يستلهم قيمه وأحكامه من سلطة القبائل التي يخضع لها، إلى مجتمع حديث “مدني” دون المرور بالخطوات اللازمة التي لا بد أن يمرَّ بها أي مجتمع ينشد الحداثة والتمدن والعصرنة-ساهمت في خلق مزاج عام كرَّس “المدنية” في خدمة القبيلة، يدعم ذلك كله نظام سياسي “ريعي-أبوي”؛ الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان القضاء على مظاهر العنصرية التي ما تلبث أن تتفشى عند أقرب هزة اقتصادية، أو تهديد لقيم المجتمع وتصوُّراته، فضلًا عن القضاء على تجذُّراتها العالقة في النفوس.
ورغم أن مكافحة العنصرية من أهم البرامج التي تقوم بها الأمم المتحدة وبقية المؤسسات الأممية، لاسيما تلك التي عانت من نير الاستعمار والاستبداد طويلًا، يدعمها في ذلك إعلان الأمم المتحدة للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري الصادر في نوفمبر 1963م. وفي حين أننا نرى كثيرًا من الدول سارعت في سنِّ قوانين تجرِّم العنصرية، إلا أننا نجد أن القضاء السعودي في مكافحته للعنصرية اكتفى بنصوص الشريعة الإسلامية، معتمدًا في ذلك على عقوبات قضاته التعزيرية، الذين يخضعون في النهاية لقيم المجتمع الذي يعيشون فيه.
وكان أقصى ما تمَّ في هذا الشأن، هو “مناقشة مجلس الشورى مشروع إصدار قانون (التمييز العنصري) لمن يثبت أنه مارَسَه، أو النعرات القبلية، أو سَخِر من الأديان في السعودية.
ويهدف مشروع نظام مكافحة التمييز وبثّ الكراهية، الذي تَقَدّم به أعضاء مجلس الشورى (د.عبد الله الفيفي، ود.لطيفة الشعلان، ود.هيا المنيع، وآخرون)، إلى منع الاعتداء على أماكن أداء الشعائر الدينية، أو الإساءة إلى المقدسات المرعية، أو النيْل من الرموز التاريخية المشكّلة للهوية الحضارية، وحماية النسيج الاجتماعي من مخاطر التمييز بين أفراد المجتمع وفئاته في الحقوق والواجبات؛ لأسباب عرقية، أو قبلية، أو مناطقية، أو مذهبية، أو طائفية، أو لتصنيفات فكرية أو سياسية”.
ولعلنا هنا نلقي الضوء على تجربة “ماليزيا” البلد الإسلامي الذي حقق تقدُّمًا ملموسًا في مجالات عديدة، على الرغم من تعدُّد أعراقه التي عادة ما تنشأ بينها توترات تُوصف بـ”العرقية” على خلفية طرح عنصري أو حوادث عنصرية.
ففي عام 2013م أنشأت الحكومة الماليزية مجلسًا استشاريًّا للوحدة الوطنية “nucc”، إدراكًا منها لخطورة التمييز العنصري وآثاره على المواطنين بعد عقود من التنمية استسلمت فيها ماليزيا للمزاج “العرقي” المسيطر، وأعني به المزاج الملايوي الذي اعتبره رئيس الوزراء السابق “محاضير محمد” أحد العوائق التنموية، بما يُكرِّسه في الأذهان من أفضلية العرق الملايوي على بقية الأعراق الهندية والصينية الممسكة حقيقة بزمام الاقتصاد الماليزي، وتعتبر الشريان الحقيقي المغذي للاقتصاد الماليزي، على حد وصفه لتجربته الثرية في الحكم، التي استعرضها في كتابه الشهير “طبيب في رئاسة الوزراء”.
ورغم الجهود الماليزية المتأخرة حينًا، والمتعثرة أحيانًا أخرى؛ “أصدرت منظمة بوسات كوماس غير الحكومية المعنية بالشؤون الاجتماعية في ماليزيا، تقريرًا خاصًّا أوضحت فيه حجم العنصرية بين الماليزيين، وذكر التقرير أن التمييز العنصري في ماليزيا مازال مرتفعًا على الرغم من الجهود الحكومية المبذولة لتحقيق الوئام العرقي بين المواطنين الماليزيين.
وخلص التقرير إلى أن حالات التمييز العنصري في ماليزيا شهدت ارتفاعًا خلال العام 2016، وأكد أن التمييز العنصري على أساس العرق مازال قائمًا في المرافق التعليمية، والرعاية الصحية والمالية، والقوى العاملة باتجاه تصاعدي، كما شهد العام الماضي عدة حوادث عنصرية، برزت خلال فترة الانتخابات.
وأضاف التقرير أن أعمال الشرطة الدينية والأخلاقية الماليزية ازدادت؛ مما أدَّى لحدوث حساسية وانشقاق بين المسلمين وغير المسلمين، كما أن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وفرَّ منصةً للتعبير عن المشاعر العرقية، وبثّ الكراهية بشكل أكبر.
وحث التقرير في توصيات عديدة الحكومة الماليزية على التوقيع على اتفاقية القضاء على التمييز العنصري التابعة للأمم المتحدة، وأوصى التقرير باستخدام العقوبات كرادع للأفراد والسياسيين الذين يصدرون أية بيانات عنصرية.
يُشار إلى أن وزير القانون الماليزي السابق إبراهيم زيد، ونائبة رئيس الحزب الوطني السابق غان بينغ سيو ممن أشرفوا على هذا التقرير، إلى جانب عدة خبراء آخرين. من جانبها قالت سيو: إن الخطوة الأولى لتعزيز الانسجام العرقي هو التعليم؛ لذلك ينبغي عدم فصلها، ودعم المدارس الوطنية، ودعت إلى عدم تشجيع وجود المدارس التابعة للعرقيات، والتي لن تفيد الطلبة في التناغم والتعاون”.
مثال آخر: في كندا، حيث دستورها البالغ من العمر 133 عامًا، والذي يقر بالمساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن اللون والجنس والعرق، الأمر الذي انعكس على نهضة هذا البلد، لاسيما في مجالي الصحة والتعليم، ومع ذلك لم يمنع “مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة من إعداد تقرير يتناول مشكلات الكنديين الأفارقة، يرفع على أثره توصيات في هذا الشأن إلى الحكومة الفيدرالية.
وقد تتضمن هذه التوصيات تقديم الحكومة لاعتذارها عن فترة الاستعباد، والبحث في تقديم تعويضات عن المظالم التاريخية التي لحقت بالشعوب المتضررة.
وتقدم اليوم مجموعة عمل تابعة للأمم المتحدة تقريرها النهائي عن أحوال حقوق الإنسان بين المواطنين الكنديين المنحدرين من أصل إفريقي. وتستند الوثيقة إلى مشاورات جرت مع المسؤولين الحكوميين، وجماعات معنية على هامش بعثات إلى أوتاوا، وتورونتو، وهاليفاكس ومونتريال، في تشرين الأول 2016.
ويشير التقرير إلى أن العنصرية ضد العرق الأسود “موجودة في صميم العديد من المؤسسات الكندية؛ مما يساهم في عدم المساواة على صعيد الصحة، والإسكان، والتعليم والعمالة، ويُؤجِّج التمثيل المفرط للكنديين الأفارقة في نظام العدالة الجنائية”.
هذا، ويشجع التقرير المشار إليه الحكومة في أوتاوا على أخذ إجراءات خاصة لصالح الكنديين السود؛ من أجل تصحيح الفوارق على غرار التدابير التي تُنفذ لصالح الشعوب الأصلية. ويوصي بأن تنشئ كندا إدارة للشؤون الإفريقية الكندية، وأن تضع استراتيجية لمكافحة العنصرية ضد السود في نظام العدالة الجنائية.
يُذكر أنه كان تمَّ إلغاء تجارة الرق رسميًا في المستعمرات البريطانية داخل كندا في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، وكانت هذه التجارة نشطت في كندا منذ القرن السابع عشر”.
الهدف من إيراد هذين المثالين، هو أن كل دولة تخضع لثقافة مختلفة عن الأخرى، تعترفان بأنهما ليستا بمعزل عن أي مظاهر عنصرية، رغم ما يعلق في الأذهان من صورة وردية في كل مرة يُستشهد فيها بهذين البلدين.
واليوم، نجد أننا أحوج ما يكون إلى الاعتراف بـ”العنصرية السعودية” التي كانت في فترة كمون طويل، حتى ما لبثت أن وجدت في مواقع التواصل الاجتماعي رئة صالحة تشهق بها كل تراث وهوية، وتاريخ هذه البلاد الممتد إلى ما قبل أيام الجاهلية الأولى، وتزفره على شكل خطاب شوفيني استعلائي أحادي الرأي يبشر بسيادة السعودي، بالتحريض والسبّ والشتم والتجريح في كثير من مكونات الشعب ممن استوطن هذه الأرض، وممن وفد إليها راغبًا أو محتاجًا فنفع واستنفع؛ مشيعة بذلك ثقافة العنف اللفظي الذي قد يتطور إلى ما هو أسوأ، كأننا لم نردد يومًا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[ الحجرات: آية 13].
¤ التعقيب الأول: أ. جمال ملائكة.
العنصرية في الدولة الواحدة لا تأتي بخير. العنصرية تؤدي إلى البغضاء والحقد والكراهية، وقد تؤدي في نهاية المطاف إلى حروب أهلية ودعوات لتقطيع أوصال الدول؛ لذلك وجب محاربة العنصرية بلا هوادة وبقوة. وأهم الوسائل لمحاربة العنصرية، هي:
- تضمين المناهج-منذ نعومة الأظفار-ما يحث على الأخوة والتكاتف، وأنَّ البشر كلهم أبناء آدم، وذلك بأساليب تربوية مدروسة.
- التوعية المستمرة في المساجد، والخُطَب، والمحاضرات، إلخ.
- التوعية الإعلامية من خلال التمثيليات، والمسرحيات، وحلقات النقاش، إلخ.
- وَضْع التشريعات “الصارمة” والعقوبات “الرادعة” لمثيري الفتن والعنصرية.
أمَّا بالنسبة للعنصرية ضد الأجنبي/الوافد، فبالرغم من أنها لا تؤدي إلى حروب أهلية… إلخ، إلا أنها مقيتة وبغيضة، وتؤدي إلى كراهية للبلد الذي تُمارس فيه العنصرية، وتستدعي انتقادات عالمية، وطرد العقول الوافدة التي تسهم في تقدُّم الدول.
¤ التعقيب الثاني: د. عائشة الأحمدي.
بالرغم من مرور أكثر من نصف قرن على إعلان الأمم المتحدة اتفاق القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري عام 1963م، إلا أن الحديث يتجدد باستمرار حول داء (العنصرية)، وهو الداء الذي عانت منه المجتمعات كافة، على اختلاف أجيالها، ولا يوجد حتى اليوم مجتمع معافى تمامًا من هذا الداء؛ فواقع الممارسات يكشف لنا تغلغل العنصرية في واقع البناء الثقافي لأكثر المجتمعات تحضُّرًا، لكنها تبدوا أكثر وضوحًا وفجاجة في البلدان النامية. وهذا لا ينفي ما أثمرت عنه تلك الجهود من تقليص تفشي هذا الداء، لاسيما في المجتمعات التي كان لها السبق في سنِّ القوانين والتشريعات التي تُجرِّم العنصرية ضد أي دين، أو مذهب، أو أيديولوجيا، أو حتى لون بشرة، أو جنس، أو مناطقية وخلافها، وإثارة النعرات الطائفية أو المذهبية؛ للمحافظة على وحدة المجتمع، وتحاكم مَنْ يرتكب هذه الجريمة، وتصدر بحق مَنْ يثبُت عليه مثل هذا الفعل المشين أحكامًا قاسية.
وللأسف، فإن الحياة الاجتماعية العربية متشبعة بقضايا التمييز العنصري واستبداد الأقوياء، واضطهاد الأقليات العرقية، وخرق المبادئ الإنسانية في المجتمع. والمملكة جزء من هذا النسيج الذي ابتلي بهذا الداء، فتارة تجده في النظرات، وأخرى في العبارات، ومرة في القرارات، بل حتى في العقوبات التي تعتمد في بعض الأحيان على صفات معينة، وهو ما يحتم ضرورة التعجيل والإسراع في وضع قانون يجرِّم مثل هذه الممارسات العنصرية؛ أملًا في أن تحلَّ محلها قيم التنمية الإنسانية، التي ترقي القدرات الإنسانية بديلًا عن القيم المهبطة لتنمية المجتمعات وتقدُّمها، وتقليص الآثار السلبية لبعض العادات والأعراف الاجتماعية المعيقة للازدهار الإنساني. فالتعصب القبلي، والمفاخرة بالانتماءات القبلية، والنظرة الدونية لبعض شرائح المجتمع وفئاته؛ كلها تُشكِّل عاهات في جسد التنمية الحقيقية للإنسان .
إن الاعتماد على التوعية كحل لمكافحة العنصرية لا يمكن الركون إليه كحل نهائي في مواجهة العنصرية، التي تجذرت، وأصبحت جزءًا أصيلًا لدى البعض؛ بفعل الثقافة التي تربى عليها. ولن تنجح الإجراءات الناعمة في تخليص المجتمع منها، ما لم تكن هناك إجراءات واضحة وبينة للجميع، يرافقها توعية بالأخطار التي يحدثها هذا الداء على الفرد، والأسرة، والمجتمع.
لقد كان لمشروع سنّ قانون تجريم العنصرية في المجتمع السعودي، إرهاصات سابقة في مجلس الشورى السعودي، بداياتها عام 2009، عندما قدَّم الدكتور زهير الحارثي قبل تسع سنوات- مع تنامي ظاهرة الإرهاب والتعصب المذهبي والمناطقي والرياضي على أرض الواقع، وخوفًا على التجربة الوحدوية التي أوجدها المؤسس الراحل الملك عبد العزيز- مقترحًا يقضي بتجريم العنصرية والشعبوية، والحد من اللعب على وتر المناطقية والمذهبية والقبيلة، ومحاربة الآراء والأطروحات الشاذة، أعقبه محاولة أخرى قام بها عضو مجلس الشورى محمد رضا نصر الله وخمسة من رفاقه بتقديم مقترح عام 2015، على إثر حادثة «الدالوة» بالأحساء، التي راح ضحيتها 8 أشخاص، وأصيب 9 آخرون. تكوّن المقترح من13 مادة، يقضي باعتبار التمييز العنصري خنجرًا في خاصر الوحدة الوطنية، ويُعاقب من يَثبُت عليه بَثّه بغرامة تراوحت بين 500 ألف ومليون ريال، أتبع ذ لك بتشكيل لجنة داخل وزارة الداخلية تدرس تنامي ظاهرة التمييز العنصري بين أفراد المجتمع السعودي، إضافة إلى تشكيل لجنة مبدئية في المجلس مكونة من ستة أعضاء، بينهم رجل دين وقانونيّ؛ لوضع تصوُّر شامل لقانون يماثل ما يُعمل به في دول الجوار، أو الدول المتقدمة.
لكن هذا الحراك يظل دون مستوى التطلعات، لاسيما إذا ما عرفنا أن تركيبة المجتمع السعودي تقوم على عاملين أساسيين: الدين، والانتماء الاجتماعي القبلي. وفي ضوء ما تشير إليه نتائج بعض الدراسات التي عُنيت بتحليل محتوى مضامين وسائل التواصل الاجتماعي من تنامي هذه الظاهرة، وتلوث المحيطين الثقافي والاجتماعي بمعطياتها. ويزداد الأمر سوءًا في ضوء ضعف القنوات الداعمة للتوعية من خطر العنصرية في مؤسسات التربية والتعليم، وتشريب المناهج الدراسية، وتجريم كل من يمارسها، أو يحث على الكراهية؛ لذا يصبح الأمر أشبه بالمباح في بلد يقتدي بشخصية عظيمة، وبرسالة صاحبها، الذي كان يرفض العنصرية، وكانت أحد مبادئه:” لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى”. وفي جانب آخر كونها تضم عددًا كبيرًا من القبائل والمذاهب الإسلامية، وهذا التنوُّع الكبير لابد له من لمِّ الشمل، بتعزيز اللحمة لا توتيرها وتجيشها، بإثارة الفتن بين الحين والآخر.
¤ التعقيب الثالث: د. عبد الرحمن شقير.
اقتصر تعقيب د. عبد الرحمن شقير على منظور علم الاجتماع للعنصرية.وذلك كما يلي:
يرتبط مفهوم العنصرية بمنظومة مفاهيم اجتماعية تتقاطع معه، مثل: التعصب، وعدم قبول الآخر، والنفي الاجتماعي. وتعرِّف “موسوعة علم الاجتماع” (ج2 ص478) العنصرية بأنها:” تعني التعصب للسلالة”، ويُقصد بها:” المعاملة غير العادلة لجماعة سكانية معينة، لمجرد اتصافها ببعض الملامح الفيزيقية، أو الخصائص الأخرى التي يعدُّها المجتمع مؤشرًا على الانتماء إلى عنصر أو سلالة معينة”. أما التوجه العنصري فهو نظام من المعتقدات يدعم الممارسات العنصرية بشكل حتمي.
والعنصرية قد تأخذ شكلًا فرديًّا أو جماعيًّا، وقد كشفت نتائج دراسة مؤسسة أسبار أيضًا عن وجود تعصُّب لدى الشباب السعودي، وتمركزهم حول الذات، فعند سؤال عينة البحث عن أنفسهم مقارنة بغيرهم، أجاب 47,2% بأن “السعوديين أفضل من غيرهم”، وأجاب 38,3% بأن “السعوديين مثل غيرهم”، وأجاب 13,2% بأن “السعوديين أقل من غيرهم”، وهذا يؤدي إلى عدم تقبُّل الشباب السعودي للآخرين، ومن ثَمَّ سوف يعيق التعامل معهم بسهولة (أسبار، 1426هـ:ص 1439). وفي رأيي أن هذا الاتجاه غير مقبول في ظل زيادة تعرُّض الشباب للتقنية ووسائل الاتصال، وسهولة التعليم الجامعي والعالي؛ في المقابل نجد ما يغذي الأسباب التي قد تنتج العنصرية والتعصب، وخاصة في مجالات التشجيع الرياضي، وبعض الأطروحات في مزاين الإبل والشيلات، إضافة إلى البعد التاريخي للتعصب. كما أن أكثر عوامل تغذية العنصرية في المجتمع تكمن في صراع الثنائيات القبلية والدينية والمناطقية. وهي تزدهر مع تطوُّر التقنية ووسائل الاتصال، ولم ينجح الخطاب الديني في القضاء عليها؛ لانشغال جزء منه بالثنائيات المذهبية، كما أن عدم وجود نظام للحد من الكراهية والعنصرية، وكذلك عدم وجود ثقافة مجتمعية تدعم تقبُّل الآخر بسلاسة- أتاح المجال لتوارث قيم عدم تقبُّل الآخر، وصارت كل جماعة تنظر بدونية لغيرها.
يرى عالم الاجتماع البريطاني “أنتوني غيدنز” أن المجتمعات العصرية ترحب بالتعدُّد الثقافي، في حين يجده الأصوليون خطرًا على هويتهم الدينية، أو العرقية، أو القومية، أو أنه يهدد عاداتهم وتقاليدهم. ويرى “غدنز”- أيضًا-أن عدم التسامح أو التعصب يُعدُّ نتاجًا للتحولات العلمية والتقنية، وما أدت إليه هذه التحوُّلات من تكريس للفروق والتمايزات بين البشر في أساليب الحياة، وشيوع قيم جديدة لم يستطع الأفراد التكيُّف معها (عبد الوهاب،2006م:106،105).
وفي رأيي، فإن أهم التأثيرات السلبية على المجتمع من استمرار العنصرية والتعصب يكمن في عدم تكافؤ الفرص، واضطرار الفرد للانحياز إلى جماعات متعصبة أو عنصرية لتضمن له تحقيق مصالحه، مقابل أن يؤمن بمبادئها، وبث روح الإحباط الجمعي، وإفساد المزاج العام بأفكار تحقيرية وتمايزية، وإشغال الإنسان بتاريخه أو بعرقه أو بمذهبه؛ وهي أشياء ليس هو سببها، ولا في يده تغييرها.
¤ المداخلات حول القضية:
مفهوم العنصرية:
فيما يتعلق بمفهوم العنصرية، أشار د. راشد العبد الكريم إلى أننا يجب أولًا أن نحدد ماذا نعني بالعنصرية؟ فتعريفات الأمم المتحدة تميل إلى ربطها بالعرق، بينما نحن توسعنا فيها لتشمل تقريبًا كل تصنيف، وكل موقف من (الآخر)، بغض النظر عن دوافعه.
كما يجب أن نُفرِّق بين العنصرية كقناعة واتجاه attitude، والعنصرية كسلوك. فالنظام يمكن أن يحدَّ من السلوك، لكن من الصعب -وربما من المستحيل- أن يتعامل مع القناعة والمعتقدات، والإصرار على ذلك قد يقود إلى مكارثية، أو عنصرية مضادة، ومحاكمة للناس على نواياهم لا على أعمالهم. وأخشى أننا بالغنا في التحسس من العنصرية، حتى وجدنا مَن يقول: لا تقل كافر، أو غير مسلم؛ فهذه عنصرية.
أيضًا يجب عدم التوسُّع في مفهوم العنصرية، بحيث تشمل كلَّ صورة من صور التنافس الطبيعي. فكثير من المواقف ضد الأجانب ليس مصدرها العنصرية؛ إنما تقاطع المصالح، و”الصراع من أجل لقمة العيش”. وأعتقد أن أخطر أنواع العنصرية – وهي العنصرية الحقيقية-هي العرقية racism، فهي التي حذَّر منها الشرع، وهي الأخطر والأكثر حضورًا وتأصُّلًا وتناميًا. أما بقيتها فهي متغيرة وغير متجذرة، وغالبًا يسهل التعامل معها، وإذا سلمت من العنصرية القبلية أو العرقية فلا تعدو أن تكون تنابزًا بالألقاب وملاسنة.
ويرى د. خالد الرديعان أن العنصرية كسلوك، هي: تمييز عنصري، سواء أكان ممارسًا في النظام أم كان ممارسات فردية، والأخطر هو ما كان ممارسًا، ويشرعنه النظام.
وفي تصوُّر د. محمد الملحم، فإن قضية العنصرية تحتاج إلى حصر وتعريف؛ حصر لأحد جوانب العنصرية بمستوياتها المختلفة (شعوبية، إقليمية، قبلية، مذهبية، حزبية، لونية). ولدينا في السعودية (مناطقية – قبلية تربيع)، والأخيرة هي تصنيفات طبقية ضمن المجموعات القبلية stratification، وهي من الطوام الخفية. ثم يأتي التعريف، ويجب أن يُحدِّد الموضوع الجزئي (أو الموضوعات إن كانت أكثر من واحد) الذي سنتناوله، من خلال تعريف ينطبق على الحالة السعودية، بعيدًا عن تعريف الأمم المتحدة.
وأرى أن نركِّز على الوحدة الوطنية، والتي أعتقد أن القبلية والمناطقية على رأسها. ومن وجهة نظري، فإن الحل يكمن في خطط وطنية يتبناها مجلس الاقتصاد، وتعمل عليها مختلف الوزارات، ولكن الأهم من هذا كله هو نشر القدوة، ولا أظنه يكون بدون سن قوانين صارمة في حق المسؤولين الذين يتعاطفون مع هذا السياق بشكل أو بآخر.
أضاف أ. سمير خميس أن المأزق الحقيقي في التعريفات العالمية للعنصرية يكمن في أنها تعريفات منقولة لنا من ثقافات أخرى بمعتقداتها الدينية، وحمولاتها الثقافية والاجتماعية؛ الأمر الذي نجد معه بعض الحرج في تطبيق تلك التعريفات على أرض الواقع لدينا. من المهم الانطلاق من صميم هويتنا وثقافتنا عند تعريفنا للعنصرية؛ ومن ثَمَّ تكون بقية الخطوات من ذات الهوية والثقافة.
وذكر د. عبد العزيز الحرقان أن الأساس في الإسلام وفي المنظمات الدولية أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، والتفريق في إعطاء الحقوق أو إقرار الواجبات، بناء على العرق أو الجنس، هو ما نُسمِّيه بالعنصرية. وقد اتفقت معه د. عبير برهمين، حيث ترى أن التمييز السلبي بين الفئات على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو الدين، هو صلب العنصرية. فالأساس في الإسلام وفي المنظمات الدولية هو أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات. وللمتفيهقين المدعيين أن مبدأ ومصطلح العنصرية هو ليبرالي غربي. أقول: إن الإسلام دعا لنبذ العنصرية في كثير من المواقع في القرآن والسنة، منها: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”، “سلمان منّا أهل البيت”، ” دعوها فإنها منتنة”، وغيرها كثير… فأن تكون مسلمًا حقًّا يعني أنك غير عنصري، فكيف نزايد على الناس بتفاخرنا بأننا الدولة التي تُطبِّق مبادئ الإسلام السمحة، ونحن ننضح عنصرية بيننا كشعب، وبيننا والشعوب الأخرى؟! والأمر من ذلك أن تزايد العنصرية عبر منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، أصبح أمرًا شبه مسلم بقبوله مجتمعيًّا، وهنا الكارثة.
في الوقت نفسه يرى د. خالد الرديعان أن العنصرية تبرز عندما تكون موارد المجتمع شحيحة والتنافس عليها شديدًا. وأعتقد أنه متى ما انهمك أفراد المجتمع في أنشطة اقتصادية ومنتجة، ترسِّخ لديهم الحس الرأسمالي، خفت عندهم غلواء العنصرية. حيث يُلاحظ – مثلًا-أن التجار ورجال الأعمال هم من أقل الفئات تعصُّبًا وتزمُّتًا في مجتمعنا، والأكثر ميلًا لتقبُّل الأفكار الجديدة في المجتمع.
في حين أن د. الجازي الشبيكي تؤكد أهمية انعكاس القيم الدينية على أخلاق الناس وتعاملاتهم، سواء فيما يخص العنصرية والتعصب، أو غيرها من القضايا ذات الصلة.
أنواع العنصرية:
وحول الحديث عن أنوع العنصرية، أشارت أ. فايزة الحربي إلى أننا يجب ألا نغفل العنصرية الجندرية، فهي مرتفعة لدينا، سواء بحرمان الشباب من كثير من حقوقه، مثل: منعه من دخول بعض الأماكن، ومعاملة المرأة بعنصرية من قبل الرجل والمرأة على السواء في أغلب المجالات؛ على سبيل المثال: في العمل والحقوق.
وفي تصوُّر أ. محمد الدندني، أن عنصرية الأصل في مجتمعنا السعودي من أغبى أنواع العنصريات. لا يوجد قبيلة من أصل واحد، إنما هي أحلاف تتجمع من أجل البقاء، والأمثلة كثيرة على ذلك. ويقوم مدعي الأصل القبلي هذا بوصم أخيه بعدم الأصل، وكأن البشر والنَّاس تنبت نباتًا، وليس نتاج سلالات وقرابات وأجيال. ناهيك عن أن البعض يشترط توافق النسب في الزواج، وهذا تعدٍ على القرآن والسنة والعقل والمنطق، وقد أبطلت زيجات كثيرة لهذا السبب.
وأضاف د. خالد الرديعان، أن هناك أيضًا “البدون” ممن لا يحملون الجنسية السعودية، وهم من أبناء القبائل النازحة، ويقيمون في المملكة؛ فهؤلاء يشعرون بالتمييز الممأسس ضدهم. فكيف نعالج هذا الملف، فهو كالجرح المفتوح منذ عدة عقود؟ عَقّب على ذلك أ. محمد الدندني، بأن الكثير منهم جُنِّس قبل عدة سنوات، وغالبهم يسكنون حفر الباطن وما حولها، إلا أنني لا أعلم ما القرار فيمن لم يتحصل على الجنسية، هل الأمر مازال قائمًا لدراسة أوضاعهم، أو أن ملفهم قد أُغلق؟
ويعتقد د. حميد الشايجي أن التصنيف العرقي قد يكون هو في حد ذاته تصرفًا عنصريًّا. ويتفق معه في ذلك د. خالد الرديعان، حيث يرى أن هناك عدة دوافع أو أسباب تؤجِّج العنصرية في مجتمعنا؛ فوسائل التواصل الاجتماعي تقوم بدور ملحوظ في ذلك من خلال بعض الكتابات والتغريدات والمقاطع التي ينشرها أشخاص غير معروفين؛ للنيل من أشخاص أو جماعات معينة. بعض تلك التغريدات قد تأتي عفوية وربما غير مقصودة، لكن تناقلها ورواجها يثير حفيظة البعض، ويدفعهم لردود واستجابات أشد وأنكى، تعكس درجة متقدمة من المشاعر العنصرية. أحيانًا يتم التطاول على رموز دينية وسياسية وشخصيات عامة، من خلال معرفات مجهولة، بعبارات غاية في العنصرية.
وهناك التفاخر القبلي غير المحمود، والذي يلمز من قنوات بعض القبائل أو الجماعات. ويلعب الشعر الشعبي دورًا كبيرًا في عملية التفاخر والمدح والهجاء. وتلعب بعض القنوات الفضائية الشعبية دورًا في ترويج قصائد تحطُّ من قدر أشخاص، أو قبائل، أو جماعات معينة.
وكذلك عدم وصول بعض الفئات إلى مناصب نافذة، رغم وجود الأكفاء والمؤهلين من هذه الفئات. انتشر- على سبيل المثال- قبل فترة مقطع طريف على الواتساب لأحد مشاهير السوشيال ميديا الشعبيين، وهو رجل أسود يطالب بوجود وزير أسود في الحكومة، وقد صاغ مطلبه بصورة فكاهية، كقوله: إن “السود لا يمكن رؤيتهم”؛ ولذلك لا نجدهم في مناصب. والعبارة ملغمة، فهي تلعب على وتر اللون الأسود الذي لا يُرى، ووتر حرمان أقلية السود التي تضمُّ بعض الأكفاء كغيرهم.
هناك أيضًا سبب تاريخي يتعلق بتركيبة المجتمع السعودي وجغرافيته وتنوعه الثقافي؛ الأمر الذي يخلق فروقات بين السكان تدفع ببعضهم إلى اللعب على وتر تلك التباينات، واستخدامها بصورة سلبية؛ كمقولة: قبيلي/ خضيري، شدن، أصلي /طرش بحر، ناصبي/ رافضي.. إلخ.. وترد تلك العبارات وتوظيفاتها بصورة يُقصد منها الاستنقاص؛ مما يؤجج المشاعر العنصرية.
ومن الملاحظ أن بعض العلماء والدعاة لم يقفوا بدرجة حازمة من مروجي العنصرية، بل إنَّ بعض الرموز يؤجِّجون أحيانًا من حيث يعلمون أو لا يعلمون من خلال تفسيراتهم التي يُشتَمّ من بعضها نفسٌ عنصري؛ فعندما يفتي أحدهم ببطلان زيجة مختلطة بدعوى عدم تكافؤ النسب، فإن طرحه يبتعد عن سماحة الإسلام، وآية: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
السبب الأخير هو الفروق الحادة التي برزت بين البدو والحضر؛ بسبب وتيرة التحضر والتمدن. كثير من أبناء البدو والقبائل الذين سكنوا المدن أصبحوا جماعات مهمشة؛ بسبب عدم قدرتهم على الاستفادة من الاقتصاد الحضري، وانصراف أبنائهم عن التعليم، وتكدُّسهم في أحياء فقيرة وقليلة الخدمات. إن شعور أبناء القبائل بهذه الفروق خلق لديهم مشاعر مضادة لغيرهم؛ ما دفعهم للانكفاء على أنفسهم، والتباكي على مجد القبيلة.
أما فيما يتعلق بالعنصرية المذهبية فيرى د. عبد الرحمن شقير أن سبب ظاهرة الحقد المذهبي، وكثرة تصنيف المخالفين، ليس التعصب، كما تؤكد عليه الدراسات الكثيرة، فالتعصب نتيجة وليس سببًا؛ وإنما السبب الأقرب للواقع يكمن في انتشار ظاهرة تصنيف الجماعات التي نختلف معها، ثم وصمها بمفاهيم تقلل من شأنها، وجلب مصطلحات سلبية وإلصاقها بها، ثم يتحول التعامل بين الجماعة الواحدة المختلفة إلى جماعات متصارعة. وقد لاحظت في تويتر وفيسبوك أن بعض المتشددين يعرفون بأنفسهم في النبذة (البايو) بأنهم غيورون على الدين، ومهتمون بقضايا الأمة، ثم يذكرون أنهم سيركزون نشاطهم على فضح الليبراليين، والعلمانيين، وأصحاب الملل المنحرفة مثلًا. فتاريخنا زاخر بقائمة المِلل والنحل والمذاهب، وتراثنا الأدبي مشحون بوصم بعض القبائل والمناطق، واليوم يُعاد إنتاج الوصم باسم “التصنيف”، فأي فكرة تخالف المتعصب، فإنه يصنف الشخص أو الجماعة الدينية، ويصمها بلقب يحمل معه مضامين التحقير والانحراف عن المنهج الصحيح، ويلصقه بها، وينفيها اجتماعيًا.
لذلك يجب على المجتمع الحذر من فكرة “القائمة السوداء” و”القائمة البيضاء”، وعدم الاستسلام المطلق لأحكام من قبلنا، ولا أحكام غيرنا؛ لأن لها سياقًا وظروفًا وحيثيات، لسنا ملزمين بها. ومن حقنا أن نختلف مع المذاهب والجماعات، بل ونرفضها، ونحذر من أخطائها، ولكن لا ننفيها اجتماعيًّا ودينيًّا، فتضطر لأن تدافع عن نفسها فتنفينا اجتماعيًّا ودينيًّا، والقرآن يقول: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام: 108]، ويمكن قبول التصنيف في سياق علمي محايد، مثل فرز المناهج العلمية والمذاهب في حدود أنها مختلفة، ولكن بدون وصمها ونبذها وتحقيرها.
وفي الإطار نفسه، أورد د.عبد الرحمن الشقير مقالًا (1) بعنوان: “النفي الاجتماعي”، يتحدث فيه عن النفي الاجتماعي بوصفه مرادفًا للوصم، وذكر أن تعريفه في هذه المقالة سيكون: وصف شخص أو جماعة أو عرق أو حتى علة خلقية أو مهنة، بلقب يختزل فيه مجموعة سمات وخصائص سلبية، تنبذه وتنفيه اجتماعيًّا، أو تربطه بأذهان الناس مقرونًا بالانحراف، حتى ولو لم توجد إلا بنسبة ضئيلة فيه؛ وبناء على هذا التعريف، فإن الإنسان قد يدفع ثمن انتسابه لأي فئة اجتماعية حتى ولو لم يكن السبب في ارتفاع مكانتها أو انخفاضها، فقد يتميز أحد من هذه الفئات الموصومة في مجال معين، ولكن المجتمع سيذكره دومًا بما اختُزل في الذاكرة من وصم؛ لتحطيمه اجتماعيًّا ونفيه.
ولقد مرَّ النفي الاجتماعي والوصم في المجتمع العربي-في رأيي- بثلاث موجات؛ بدأت الموجة الأولى بالتصنيف القبلي في الجاهلية، فقد كان مجتمع ما قبل الإسلام يتكون من شعوب وقبائل، تتمايز فيما بينها بالتفوق الطبقي المكتسب من انتصارات الحروب، والجرأة على شن الغارات القبلية؛ ولذلك يغلب عليها روح الحذر والاستعداد الدائم للقتال والحروب، للمحافظة على مكانتها، أو لاستردادها إن سُلبت، يقول شاعرهم:
وأحيانًا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكان الإنسان العربي في مرحلة ما قبل الإسلام يعيش على أساس السمعة الاجتماعية، بوصفها مصدرًا من مصادر المكانة الاجتماعية، بل ومن أهم معايير القوة والنفوذ، ويمثل التصنيف الاجتماعي القبلي عمودها الأساسي؛ لذلك كان مقياس علو شأن الفرد أو هبوطه في السلم الاجتماعي مكتسبًا من شأن قبيلته، أو من شأن بطن من قبيلته؛ ولذلك كان الوصم القبلي أحد أبرز أدوات الحروب الإعلامية لتحطيم نفسيات القبائل الأخرى، وهو ما عُرف في الأدب العربي بالنقائض، والهجاء، والمثالب.
ويبدو أن الحروب كانت تقوم لأسباب تبدأ تافهة، ثم تتفاقم بسبب التحديات والتطرُّف في الرأي، وتنتهي بكوارث عُرف بعضها تاريخيًّا باسم أيام العرب. كما أن هذا الفكر السلبي بنى حاجزًا حجب عن الإنسان العادي في العصر الجاهلي رؤية جماليات الحياة وفكرة التسامح؛ لأنه لما ظهر الإسلام، وجاء بفكرة تقبُّل الآخر وطبقها على أرض الواقع، ونزلت آيات قرآنية تدعمها، مثل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، أنهت الموجة الأولى، وشكلت صدمة في الذهنية الاجتماعية، فيما يبدو؛ لأنها تحمل معها فكرة إيجابية جديدة ورؤية مختلفة للحياة، ولطبيعة العلاقات الاجتماعية؛ مما جعل الإنسان العربي يعيد رؤيته للعالم من حوله، ولنفسه، وللوظيفة الاجتماعية للقبيلة؛ ولذلك تضاءلت فكرة أن الصراع هو أساس الحياة، وحل محلها أن السلم الاجتماعي والتعاون هو أساس الحياة.
ومن هنا ندرك أن الإسلام جاء بمفهوم جديد لم تألفه العرب من قبلُ، وهو التعارف والتعايش السلمي، بدلا من التناحر والتوجس؛ وإنما التفاضل والمكانة الاجتماعية تكون على أساس التقوى، وليس على أساس الصراع ومكانة القبيلة.
ويُعزِّز د مساعد المحيا هذا المفهوم، ويؤكد على ما أشار إليه د. راشد العبد الكريم من عدم التحسس المفرط من العنصرية على نحو يوجد عنصرية مقابلة تجاه من يهتم بدولته أو منطقته أو قبيلته، وكأن ذلك أمرٌ غير مشروع، بل قد يمتد الأمر ويصل بالبعض أن يدعو -انطلاقًا من نبذ العنصرية- إلى الإيمان بأن الناس سواسية، لا يوجد بينهم مؤمن ومشرك وكافر؛ مما يتعارض مع نصوص القرآن، ونصوص السنة الصحيحة والصريحة …وأن يتم التفريق بين التنابز بالألقاب والعنصرية التي حذَّر منها الله في كتابه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وحذَّر منها نبيه-صلى الله عليه وسلم-بقوله: (لا فرق بين عربي ولا أعجمي، ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى).
الدور السياسي للعنصرية:
وعن الدور السياسي للعنصرية، ذكرت د. وفاء الرشيد أن العنصرية لعبت دورًا مركزيًّا كقوة محركة لعملية تجارة الرقيق التي تمت عبر الأطلنطي، وأيضًا خلف تكوّن ونشوء الدولة القومية كما في أوروبا، وتلك التي تأسست على الفصل العنصري؛ كالولايات المتحدة في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين في جنوب إفريقيا. كما أن العنصرية كمفهوم وظاهرة اجتماعية أدت دورًا بارزًا في صياغة الأيديولوجيات السياسية التي كانت سببًا في التطهير العرقي في الكثير من التجارب الإنسانية، أبرزها تاريخيًّا ما حدث في أمريكا الجنوبية والكونغو. وأيضًا حديثًا في رواندا، وفي كثير من التجارب التي مازالت مستمرة، ومن خلال الاستعمار الأوروبي في أمريكا، وإفريقيا، وآسيا، وأستراليا.
وأورد د. خالد الرديعان بعض الأمثلة على التمييز العنصري والتطهير العرقي كما جرى ويجري في ميانمار (بورما) من طرد نحو 600 ألف مسلم ميانماري من بلادهم إلى بنغلاديش؛ بسبب أنهم مسلمون، وبدعوى أن ماينمار دولة بوذية. وليس الأمر كذلك، بل تم قتل الآلاف منهم، وحرق قراهم منذ 1948م وحتى اليوم. وهناك نحو نصف مليون بورمي يقيمون في المملكة بصورة لاجئين. كما يوجد عدد كبير منهم لجأ إلى إندونيسيا، وتايلاند، وماليزيا، يُقدَّرعددُهم بنحو نصف مليون كذلك. يدِّعي رهبان بورما البوذيون-وهم الذين يؤلبون حكومتهم- أن مسلمي بورما ليسوا من السكان الأصليين لبورما، وأنهم جاءوا من البنغال والهند، في حين أنه يوجد في إقليم أراكان البورمي مساجد تعود للقرن الخامس عشر الميلادي.
العنصرية عند العرب والمسلمين:
أشار أ. وليد الحارثي إلى أن تاريخنا العربي مرتبط بالعنصرية، فمن الجاهلية الأولى، كنّا نصم الشخص من الأجناس الأخرى بالأعجمي حتى تطبعت هذه الصورة لديهم ولدينا، وهكذا كانت العنصرية عندنا قديمًا. ما يحدث اليوم هو امتدادٌ لها بأشكال وألوان مختلفة، بعضها استطعنا التعامل معها، وبعضها لم نستطع حتى الآن، ومما يلفت النظر أن العنصرية أصبحت سمة سلبية من سمات الحياة اليوم.
من جانبه ذكر د. عبد الرحمن شقير أن بعض المسلمين، أعادوا إنتاج التصنيف القبلي الجاهلي بعد وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم-بخمس وعشرين سنة، وهذه هي الموجة الثانية من موجات النفي الاجتماعي، ولكنها حملت معها أيضًا بذور الوصم المبني على أسس مذهبية وملل فكرية؛ إذ اختلفت وجهات نظرهم، ثم تطرفت آراؤهم، ثم تحولت إلى عقيدة، وانتهت إلى عداوات، وانتهى بعضها إلى حروب دامية، كما حصل في صفّين والجمل، أفرزت مذاهب وعقائد لم تكن معروفة من قبلُ، وانشغلت كل فرقة بإشهار سلبيات الفرق والملل الأخرى، حتى تحولت إلى إيديولوجيات جديدة، حملت معها عواقب وخيمة على الأمة. وقد أسهمت بعض مؤلفات الملل والنحل والمذاهب، والرد على المخالفين التي أُنتجت فيما بعد في إنتاج معارف جديدة، وتشكيل وعي ديني لا يتسامح، ولا يتقبل الخلاف بسهولة، هذا فضلًا عن إسداء هذه المؤلفات خدمة توثيق عقائد ومقولات كثير من الملل والنحل المغمورة التي اندثر كثير منها، والتعريف برموزها. ومع يقيني بأن مبدأ مؤلفات الملل والنحل والانتصار للمذاهب مفيدٌ علميًّا وتاريخيًّا، وأنها جاءت في سياقات مختلفة وظروف سياسية متفككة، تعرضت الأمة الإسلامية بسببها لتشويه عقيدتها الصافية وتعاليمها النقية؛ مما تطلب نشأة علم الملل والنحل، ومع يقيني بأن هذه المؤلَّفات أيضًا تختلف جذريًّا عن محاكم التفتيش التي تصنف الأشخاص والجماعات الدينية، وتنفيها اجتماعيًّا، ثم تعذبها بسبب أفكارها؛ إلا أن بعض كتب الملل والنحل المتأخرة شكًّلت مصدرًا تاريخيًّا لمن يريد إثارة النعرات المذهبية والطائفية، وإذكاء روح العداء بين الجماعات الإسلامية.
وشهد العصر الحديث إعادة إنتاج للتصنيف والوصم، مثلَّت موجة ثالثة من خلال شخصنة التصنيف، ودخول المصالح الشخصية فيه، وتوسيع دائرته، عن طريق اللعب على الثنائيات المدمرة، مثل: ذكر-أنثى، وسني-شيعي، ومسلم-كافر، وأسود-أبيض، وقبيلي-وغير قبيلي، وهكذا من الثنائيات المناطقية والعرقية، وحتى الرياضية، وهي وإن كانت تتفاوت في درجة حساسيتها إلا أنها متجذرة في المجتمعات، وحاضرة بصمتٍ في الحياة اليومية، ولكن تكمن خطورتها هذه المرة في فكرة النفي الاجتماعي أو الوصم على مستوى الأعراق والدول والجماعات والأفراد، واتسمت بسرعة الانتشار، وسهولة تدخُّل أطراف خارجية معادية عبر التقنية ووسائل الاتصال. وتكمن الخطورة الأخرى أيضًا في تصاعُد النفي الديني الموجه للمسلمين بخاصة، ثم بدخول السياسات العالمية والإعلام العالمي كلاعب خفي في التضخيم من الخلافات، وجعل المسلمين في حالة توتُّر وقلق.
ومعروف أن أقوى وسيلة لتحطيم إنسان أو مجتمع نفسيًّا قبل القضاء عليه، أن تُشوَّه سمعتُه وتُحاك حوله الأكاذيب، وتُضخَّم السلبيات البسيطة بوصفها حقائق، حتى تنتشر في المجتمع، ثم يصله نظرة المجتمع إليه ورأيهم فيه، فيتأثر رغمًا عنه، ويضطر لأن يغير سلوكه دون وعي منه، ويتصرف بحسب نظرة المجتمع له لا بحسب حقيقته. وإذا انتشر في المجتمع الانطباع عن الفرد الذي تم تقييمه، وعرف نظرة الناس له، فإنه يتأثر بها دون أن يشعر، ويبدأ يقيّم نفسه ويتصرف من خلال نظرة الآخرين له، وليس من خلال ما يعرفه عن نفسه. وقد اكتوى بنار «الوصم» أشخاص وجماعات فضلاء هم منها براء. وتكمن خطورة الوصم في اختزال جماعة أو فرقة أو حتى شخص، في لقب يوحي بنبذه اجتماعيًّا، ويختزل سلبياته، وهذا الوصم بهذا الشكل فيه إجحاف وتكلُّف وظلم؛ لأنه بأي حال من الأحوال لا يمكن أن يعطي الحقيقة المطلقة، ولا الحقيقة النسبية.
ولو أعدنا قراءة التراث قراءة عقلانية متأنية، على أساس نظرية الوصم، للاحظنا وجود اختلاف بين المسلمين، بسبب التصنيف والوصم، يصل إلى حد التعصب والتكفير، بل والقتال أحيانًا. ومن يراجع تاريخ ابن الأثير، وابن كثير، وغيرهما، لوجد حالات قتال بين الحنابلة، والشيعة، والأشاعرة، وغيرهم؛ بسبب التعصُّب المذهبي، وتجريم المخالف.
وأوضح أن الوصم يقود للتعصب ضد الآخرين، وعدم قبول الآخر إلا في حدود ضيقة. وجميع أنواع التعصب المذهبي والفكري والقبلي لم تحصد منها أمتنا إلا مزيدًا من التخلف والانحطاط الفكري والعلمي. وفي تاريخ أوروبا حالات تعصبية مذهبية مرعبة لم تتخلص من أكثرها إلا بعد رد فعل عنيف على الدين قادها للعلمانية والإلحاد. ولا شك أن ديننا الصحيح يدين جميع عمليات النفي الاجتماعي، إذ جعل التقوى هي المعيار. ويشهد تاريخنا نموًا متزايدًا للجماعات الدينية التي يتوالد بعضها من بعض باستمرار، وهذا يتطلب تدخلًا لفهم الظاهرة، والحد منها قبل أن يُصاب المجتمع المسلم برد فعل لا يُحمد عقباه.
العنصرية ضد العرب والمسلمين:
أضاف أ. جمال ملائكة مُلاحظة تَذكر: أن العنصرية “ظهرت” ضد المسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا مؤخرًا نتيجة “التخطيط” الممنهج لتكريه الشعوب الغربية في المسلمين والإسلام، مثل: المسرحيات الإرهابية، والإعلام الذي ينفخ ضد الإسلام، وشخصيًّا لم ألاحظ هذه الظاهرة إلا بعد التخطيط المذكور، والذي بدأ بمسرحية سبتمبر 2001، والشعوب الغربية كانت ولا زالت إجمالًا تنفر من العنصرية؛ لذا علينا دراسة الأسباب التي أدت إلى أن يصلوا لهذه النقطة، وكيف؟
وقامت أ. عبير خالد بنشر أحد الفيديوهات المعبرة عن العنصرية التي تكمن في الانحياز لصالح الجنس الأبيض في أميركا وأوروبا. يرصد الفيديو معاناة أمريكا من جرائم إطلاق النار في المدارس، وأنها على الرغم من خطورتها إلا أنها تُواجه بتجاهل إعلامي؛ سببه أن المجرمين جميعهم كانوا بيضًا، بخلاف مالو كان ذلك الشخص مسلمًا أو عربيًّا، أو كان من ذوي البشرة السوداء.
وحول بعض التجارب الشخصية التي ربما مرَّ بها الأعضاء أو بعض السعوديات في أوروبا، ذكر د. خالد الرديعان أنه لا أحد ينسى الفتاة السعودية (ناهد المانع) التي قُتلت في “كولشستر إسيكس” العام الماضي؛ بسبب ارتدائها الحجاب.
وقد اختلفت معه أ. عبير خالد، حيث ذكرت أن الفتاة (ناهد المانع) لم تُقتل لأسباب عنصرية، فقاتلها (جيمس فيروذر) هو سفَّاح قتل قبلها رجلًا بريطانيًّا أبيض، وكان على وشك أن يقتل بعدها امرأة بيضاء، وقد ألقت الشرطة القبض عليه أثناء محاولته ارتكاب جريمته الثالثة أو الرابعة. أما عن تجربتي الشخصية فأنا أعيش في مدينة ليستر، وهي أكثر مدينة تنوُّعًا عرقيًا ودينيًّا في بريطانيا، ولم أواجه أيَّ عنصرية، ويوجد في المدينة أكثر من 70 مسجدًا، وأكثر من 30 معبدًا هندوسيًّا، و 10 معابد بوذية، ومعبدان يهوديان، وأربع كنائس.
تجارب خارجية في التعامل مع قضية العنصرية:
وحول بعض التجارب الخارجية للتعامل مع قضية العنصرية، يذكر م. خالد العثمان أن في سنغافورة -على سبيل المثال- نظام البناء يفرض على مطوري التجمعات السكنية أن يكون السكان مقسمين بنسب محددة بين مكونات المجتمع الثلاثة (الصينيين والهنود والمالاي)، والنسبة نفسها تُطبَّق في إشغال المدارس.هذا النمط من التعايش القسري وفق القانون فرض اختلاطًا بين الأعراق المكونة للمجتمع، وأسس للتفاعل بينهم، خصوصًا في شريحة الأطفال؛ فأزال كثيرًا من حواجز الكراهية بينهم، وأسس لمجتمع منفتح، متعاون، يحقق مفهوم الوحدة الوطنية التي نسعى إليها.
العنصرية ضد الوافدين:
وفي سياق الحديث حول العنصرية ضد الوافدين، أشار د. زياد الدريس أن هناك حملةً انطلقت عبر أحد المواقع الإلكترونية موسومة بـ “السعودية للسعوديين فقط! “، شعارها (Saudi Arabia is full.. go home) السعودية مكتفية.. ارجعوا إلى بلادكم. وفي رأيي، فإن هذا خطاب موجه إلى الوافدين الذين يعملون في السعودية، وربما كان المستهدف بشكل أكبر الوافدين غير العرب، من خلال استخدام اللغة الإنكليزية للشعار.
تضع الحملة في مطلع خطابها العبارة المأساوية التالية: (ما أصعبَ أن يعيش الإنسان كالغريب في وطنه، وتُهضم حقوقه كمواطن، حيث أصبحت للأجنبي امتيازات لا يحلم بها حتى في وطنه!). وتختم بالرقم (8 ملايين عامل أجنبي في السعودية). ثم يتحدث المنتدى عن أهداف الحملة هكذا: (لا نريد شعارات القصيبي ـ أي غازي القصيبي وزير العمل السعودي ـ بسعودة محلات الخضراوات، وسعودة الشغالات، وسعودة الطباخين، وسعودة محلات الذهب وحراس الأمن. نريد الوصول للقمة.. سعودة المناصب القيادية).
وأتساءل: هل نسي القائمون على الحملة أن الوصول إلى القمة يبدأ من القاعدة؟!. أجزم أن عشرات من العاملين السعوديين يستحقون القمة، وقد مُنعوا من الوصول إليها، لكني أجزم أيضًا أن آلافًا من العاطلين السعوديين يجب أن يبدؤوا من القاعدة، لكنهم امتنعوا عنها. هناك عدم وضوح في الرؤية لدى القائمين على الحملة، فهم يريدون نصرة العامل السعودي، وهذا هدف نبيل، لكنهم يزدرون العامل غير السعودي، وهذا أسلوب غير نبيل.
كما أن هذه الحملة تنطلق من البلاد التي انطلقت منها الرسالة النبوية، محمولة بأيدي العربي محمد- صلى الله عليه وسلم، ومساندة الحبشي بلال، والرومي صهيب، والفارسي سلمان. وتنطلق أيضًا في زمن يصبح فيه باراك حسين أوباما رئيسًا لأميركا كلها، وليس لإحدى شركات الخضار أو مكاتب الاستقدام فحسب. وربما أن هذه الحملة تنطلق من أهداف نبيلة؛ ولكن بشعارات عنصرية أشبه ما تكون بشعارات النازيين الجدد، الذين يرفعون شعار روسيا للروس فقط، وألمانيا للألمان فقط، وهكذا في البلاد التي انتشرت فيها ظاهرة النازيين الجدد. فهل يُعقل أن تظهر شعارات نازية في بلاد الحرمين.. الرحم الحنون؟ مخجلٌ أن نقول للناس: Go Home بعد أن ساعدونا في بناء وطننا، وما زال كثير منهم يواصل ذلك بكل كفاءة وإخلاص.
وإن كانت هناك مؤسسة أو مؤسستان أو عشر أو عشرون مؤسسة تديرها وتهيمن عليها عصابة من الوافدين العنصريين ضد توظيف الشباب السعودي، فهذا لا يبرر أن نقول لجميع الوافدين: (ارجعوا إلى بلادكم)، بل ولا حتى يجدي أن نقول هذا للوافدين العنصريين؛ لأن هؤلاء يقف خلفهم سعوديٌّ متستر انتهازي عاقٌّ لوطنه، هو المسؤول والمذنب والمستهدف المفترض بهذه الحملة. ولذا فقد أعجبني في أهداف الحملة أن تقوم بالتشهير بأسماء الشركات أو المؤسسات التي يتعرض فيها الشباب السعودي للتضييق العنصري، أو التهميش، أو التطفيش، فهذا التشهير من شأنه أن يخفف من هذه الممارسات، شرط أن تقوم المؤسسات الرقابية والحقوقية بدورها الردعي بعد التشهير.
وأعتقد أنه قبل أن تنطلق الشعارات العنصرية للحملة، كان يجب على أصحابها التأكد من أن السعودية ( Full) حقًا- كما ورد في الشعار-أي مليئة ومكتفية بما عندها من كفاءات وطنية. ويجب أن يدرك القائمون على الحملة أنه لم تمر طوال تاريخ البشرية بلاد حققت الازدهار بالاكتفاء “النقي” بأبنائها مهما كانت كفاءتهم. ثم إن السؤال الأهم: هل مطلب “الاكتفاء النقي” متوفر أو متحقق في أي بلد في العالم؟ وبلغة الأرقام، تبلغ نسبة البطالة بين السعوديين قرابة 11%، بينما يوجد 8 ملايين عامل وافد. فلو تم ترحيل كل العاملين الوافدين إلى بلادهم، فمن سيغطي الاحتياج الفائض إذا تم توظيف العاطلين السعوديين الــ11%؟. وفي إعلان صادر حديثًا، أن نصف مليون عامل أجنبي عاطلون عن العمل في السعودية؛ هذا الخطر ينبغي أن يكون هو المستهدف الأول للحملة؛ استهداف العاطلين، لا العاملين.
وأخيرًا، فإن هناك هدفين نبيلين كان يجب أن تقوم عليهما الحملة، لكنهما يتعارضان مع شعاراتها العنصرية، الأول: أن الأولوية للسعودي إذا تساوى في الكفاءة مع غير السعودي، والثاني: أننا بالكاد معنيون بالبطالة السعودية وحل مشكلاتها، فلا حاجة أن نزيد عبئنا بمشكلات البطالة غير السعودية، التي يجلبها الانتهازيون من أبناء الوطن العاقين. أزيلوا هذا الشعار العنصري: “السعودية للسعوديين فقط” من حملتكم. واجعلوا شعارها: السعودية للأكفاء فقط. الأكفاء من السعوديين وغير السعوديين.
وفي هذا الإطار، علقت د. عبير برهمين على شعار “السعودية للسعوديين” بأن المهايطية والمزايدين على أحقية السعوديين بالوظائف ليتهم يَصدُقون في مطالبتهم، فهناك 8 ملايين عامل، هل يستطيع السعودي القيام بأعمالهم ليحل مكانهم؟
تتعالى أصوات تندد بأن الوافدين يسيطرون على قطاعات بعينها، مثل: أسواق الأسماك والخضار، وأسواق الجوالات، وصدر القرار بسعودة هذه الوظائف، فهل أقبل السعوديون عليها؟! “السعودية للسعوديين” شعار يتحقق عندما يكون مَن يلبسنا، ويطعمنا، ويجمع قمامتنا، ويصنع سياراتنا وجميع احتياجاتنا سعوديًّا. وحتى ذلك الوقت، نحن بحاجة للعمالة الوافدة، شئنا أم أبينا، فَلِمَ ننظر إليهم بازدراء وعنصرية؟! هم يقدمون خدماتهم، ويأخذون مقابلًا لها بتراضي الطرفين.
ويرى د. خالد الرديعان أن غالبية المهن اليدوية والبسيطة، والتي نحتاجها يوميًّا هي موصومة اجتماعيًّا، مع أنها أعمال شريفة. هناك عنصرية حتى تجاه العمل؛ فهناك عمل مقبول، وعمل غير مقبول. وأضافت د. عبير برهمين أن كل الأعمال يجب أن تكون مقبولة طالما هي شريفة لا سرقة فيها، ولا تعدٍ. أصبحنا في زمن المختلس، والمرتشي، ومن يعمل تبييض أموال، أو يتعاطى السحر والشعوذة؛ يُحترم، وَيُعطى من الأهمية والاحترام أكثر مما يُعطى لصاحب المهنة الشريفة المتواضعة، للأسف!
وفي السياق نفسه، أورد أ.عبد الله الضويحي مقالًا للكاتب غازي القصيبي، نُشر في مجلة اليمامة قبل أكثر من ثلاثين عامًا تحت عنوان (حذار، حذار، حذار)، أطلق فيه الكاتب العديد من التحذيرات المتعلقة بالعنصرية ضد الآخر؛ مخافة أن ينزلق فيها المجتمع السعودي.
ومما ذكره أ. القصيبي؛ حذار من أن يصبح مجتمعنا كمجتمعات اليونان والرومان القديمة، يضمُّ مجموعتين من البشر: درجة أولى هم السعوديون، ودرجة ثانية هم غير السعوديين. وحذار من أن يصبح حرصنا على حب كل ما هو سعودي بغضًا لكل ما هو غير سعودي.
حذار من أن ننسى أننا كنا إلى ما قبل مرحلة النفط نطلب رزقنا في شتى أنحاء العالم العربي من دمشق إلى البصرة، وإلى الهند والسند. وحذار من أن نعتقد أن المال قد أضفى علينا تفوُّقًا على غيرنا ممن اضطرتهم الظروف أن يعملوا معنا.
حذار من أن نستخدم تلك النكات والتعليقات الجارحة السخيفة التي تسيء-دون قصد أو بقصد-إلى الأشقاء والأصدقاء، والتي تبكينا عندما تستخدمها صحافة الغرب عنَّا. وحذار من أن نقصر تقاليد الضيافة العربية على الربع والجماعة، ونلقي بفتات الخبز إلى غير الربع والجماعة.
حذار من أن ننسى أن من لدينا من غير السعوديين ليسوا غزاة ولا متسولين ولا متسللين، ولكنهم بشر ذوو كرامة، ذهبنا إليهم بأنفسنا وطلبنا منهم أن يأتوا للعمل في بلدنا. وحذار من أن نُطالب أن يلقى الضيف معاملة طبية أو ثقافية أو اجتماعية، تختلف عن معاملة المضيف.
وفي الإطار ذاته، أطلقت عائشة الأحمدي عدة تساؤلات: ماذا نسمي النظرة الدونية للأعمال التي يمارسها الوافد؟ وماذا نسمي ازدراء الأشياء التي يستخدمونها (جوال أبو كشاف)، زيّهم، حتى طريقة أكلهم، ونوعيات الأكل؟ وازدراء من يناسبهم؟ لماذا أبناؤنا رغم تفوق أبناء الوافدين يرفضون رفقتهم؟ ليس لشيء إلا لأنه وافد. لماذا نحن لا نسمح لهم بمخالطتنا في مناسباتنا؟ فنادرًا ما تجد أحد الضيوف هو أحد الوافدين رغم أنهم يشكلون30 في المئة من السكان؟! إذًا هي عنصرية ليست صريحة، ولكنها دفينة في سلوكياتنا.
وتعليقًا على ذلك، ذكر أ. محمد الدندني أن المهم في الأمر تسمية هذه التصرفات بأنها عنصرية؛ ولكنها – باعتقادي- عنصرية رفض لشعور المتعنصر بالنقص أمام الوافد؛ إمَّا لأن دخل هذا الوافد أعلى، أو أنَّ أولاده أذكى، ومتفوقون في الدراسة. أما التعنصر ضد العامل البسيط كعامل البلدية وغيره، فهو- في رأيي-احتقار للمهنة، وأعتقد أنها عنصرية أقل حدة في هذا المحل. وربما تكون هذه العنصرية ضد الوافد من قبيل الدفاع عن النفس؛ لأن المتعنصر يشعر بعدم الثقة أمام الوافد؛ لأنه في الغالب هو مَنْ يقوم بالعمل، وبالذات في الدوائر الحكومية، وفي منشآت القطاع الخاص التي تحتاج تمرُّسًا في مهن معينة.
ويعتقد أ. جمال ملائكة أن العنصرية ضد الأجنبي ليست بهذا الحجم؛ ولكن لا شك أنَّ هناك مشكلة لدى البعض بالنسبة للوافد. ويعتقد أنَّ العنصرية ضد الوافد تنبع من نفس الشخص العنصري ضد فئات مجتمعه الداخلي. وأتفق مع أ. جمال ملائكة في أن العنصرية موجودة، وتزيد وتنقص مع الأجنبي حسب الجنسيه والمهنة. أما فيما بيننا فأرى أن تُقسَّم أنواع العنصريه؛ مثلًا :عنصرية الأصل، أو الطائفة، أو اللون، وكذلك المناطقية وهي قوية. فالتقسيم يفيد في تحديد نوعية العلاج ووسائله. يجب أن لا نتحرج من مناقشة العنصرية، وتسميتها بشفافية وصراحة. وأن تُصنَّف وتُعرَّف رسميًّا من جهة رسمية تُعنى مع كافة المؤسسات المدنية والرسمية بهذه المشكلة وعلاجها.
العنصرية في المجتمع الواحد:
في تصوُّر م. خالد العثمان، فإن هناك عنصرًا آخر يمسُّ قضية العنصرية، وهو البيئة المُحفِّزة لعلاقات إيجابية وطبيعية بين الناس في المجتمع الواحد، والتي تؤسِّس للتعايش، ولو كان في إطار قسري. وفي رأيي، فإن النمط التخطيطي للبيئة العمرانية في السعودية يسهم في خلق تجمعات منعزلة، تكون أحيانًا قبلية أو طائفية أو غير ذلك، وهو وَضْعٌ لا يُرسِّخ ويُؤسِّس للتعايش القائم على الاختلاط بين شرائح المجتمع المختلفة، ويُكرِّس الفصل بين هذه الشرائح، ويفتح الباب لمقارنات حول مستويات الخدمة، وجودة الحياة بين تلك التجمعات والأحياء والمناطق؛ بما يخلق شعورًا بالتمييز أو النقص الذي يُحفِّز مشاعر الكراهية، ومن ثَمَّ العنصرية؛ فالمجتمعات المنفصلة تبني حولها أسوارًا افتراضية تمنع الأطفال من اللعب سويًّا، والجيران من التزاور، وتؤسِّس لانفصال كبير في التواصل الاجتماعي الذي يكرس التعايش… إلخ.
بالإضافة إلى أن التخطيط العمراني الذي يُكرِّس الطبقية، فيفصل مناطق الأغنياء عن الفقراء، وسكان القصور عن الفلل والشقق؛ هو تخطيط يؤسِّس للعنصرية الناجمة عن الفروقات الاجتماعية والمادية، كما أن الفصل بين مناطق سكن السعوديين والوافدين شكلٌ آخر من أشكال هذا الفصل. وأرى أن التخطيط العمراني الناجح هو ذلك الذي يزيل الفوارق والحواجز بين شرائح المجتمع وطبقاته ومكوناته المختلفة، ويؤسِّس للتعايش والشراكة والتفاعل المشترك في عناصر البيئة العمرانية؛ من طرق، ومدارس، ومساجد، وحدائق، ومراكز تجارية، وساحات، وغير ذلك.
عنصرية مجتمعية:
وعن وجود العنصرية في المجتمع السعودي، وأشكالها، وتأثيرها على وحدته الوطنية، وصورته لدى الآخرين؛ ترى د. عبير برهمين أن الشعب السعودي هو في الحقيقة شعب عنصري بدرجات متفاوتة، إلا مَن رحم ربي. من حيث الشعور بالفوقية والتميز، والأفضلية على الآخرين، واستحقاقه لأن يكون أفضل حالًا منهم. شعور يتملكنا في اللاوعي. فتأتي القيم الإسلامية والتعليم لتُهذِّب هذا الشعور، وتجعل الإنسان متحضرًا في كيفية تعاطيه مع الآخرين، في صورة سلوكيات وكلمات مهذبة، لا اعتداء فيها على الآخر. إلا أنه من الملاحظ مؤخرًا تصاعُد وتيرة العنصرية، وحدّة الكلمات المستخدمة في التخاطب، والتي تنضح بكم كراهية للآخر في سياق الحديث عن المواطنة أو الدين. وهذا التصاعد منتشر في شرائح عديدة من المجتمع، وعلى مختلف المستويات. إلا أن الدافع الأساسي للعنصرية- كما سبق وأسلفت- مرجعه هو الحسد، وضعف الإيمان بالله. فمن السهل التعبير عن الحسد وضعف الإيمان بسيل من الكلمات العنصرية، والشتائم والكلمات النابية، والتي تنتشر كالنار في الهشيم عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث لا حسيب ولا رقيب. ومن الصعب جدًّا على هذه الفئة أن تعمل على تطوير ذاتها، وتحسين بيئتها، وتطوير أسلوب حياتها. وباختصار: كلما زادت وتيرة العنصرية لدى شخص ما، كان ذلك مؤشرًا على مدى فشله في حياته، ومقدار حصيلته الحقيقية دينًا وخلقًا.
وأضافت د. الجازي الشبيكي، أنه مما يدعو للتأمُّل، أن دولتنا السعودية التي تستند إلى دستور قوي من الشريعة الإسلامية السمحة التي نادى بها نبيها- عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لا زالت هناك نعرات عنصرية قبلية كانت، أم طائفية، أم مناطقية. لدينا منهج تعليمي ديني مكثف، كان من المؤمًل أن يركِّز تطبيقيًّا على التخفيف من تلك النعرات والتعصبات، وأن يستثمر الوحدة الدينية القوية في البلاد لصالح الوحدة الوطنية. كما أن التمييز العنصري يتنافى مع كرامة الإنسان، وحقه في العدل والمساواة اللذين جاءت بهما تعاليم الدين الإسلامي العظيمة.
وأضاف أ. محمد الدندني أن العنصرية لها تأثير سلبي على الوحدة الوطنية، وعلى صورة المملكة، وذلك في نواحي عديدة؛ تتمثل في أن تهميش فئات من الشعب يؤدي إلى عدم الانتماء؛ وعدم الانتماء ربما وَلّد خللًا أمنيًّا بصورة أو بأخرى، وقد تؤدي إلى خسارة الدولة لكفاءات جيدة. كما أن بعض من لديهم الكفاءه لم يحصلوا على ما يستحقون أو لم يستفد منهم الوطن؛ بسبب مذهب أو منطقة، وهذان هما أشد أنواع العنصرية تأثيرًا في مسيرة التنمية، وفي اختيار قيادات مؤسسات حكومية أو شبه حكومية. أيضًا فإن ذلك يمكن أن ينعكس سلبًا على صورة الدولة والمجتمع أمام الرأي العالمي، ونحن نرى كيف وُضعت المملكة تحت مجهر كبير صُنع لها خصيصًا!
وفي ذلك ترى أ. فايزة الحربي أن إرساء قواعد النظام على الجميع، وتحقيق العدل والمساواة والشفافية في شتى المجالات والأعمال-يخلق تنافسًا شريفًا بين أفراد المجتمع؛ فيرقى به، ويلغي عنصرية المحسوبيات التي تنشر الفساد، وتحبط المبدعين، وتلجم إبداعاتهم، بل تُعطي فرصًا لمن لا يستحقها، وربما أساء للمكان الذي تبوّأه. كما أن التحلي بالخلق الإسلامي الصحيح، والعودة للتربية النبوية، تُلغي عنصريات الأعراق والأجناس والألوان المقيتة، التي قد تمثل جزءًا من ثقافتنا غير الجيدة عند بعض من أفراد المجتمع.
وفي إطار الحديث نفسه عن العنصرية المجتمعية، ونقلًا عن صحيفة عاجل، ذكر د. عبد الرحمن شقير أن هناك كتابًا صادمًا صدر عن وزارة العدل مؤخرًا (1). فبينما يعتبره البعض مرجعًا لـ”المبادئ القضائية” المستقرة في تاريخ السعودية- ولذلك كان له صدى واسع في مختلف الأوساط، لاسيما المشتغلين في مجالات التقاضي؛ نظرًا للجهد الكبير المبذول في إعداده وإخراجه- إلا أن آخرين لاحظوا على مضمون الكتاب أنه يحمل مبادئ تتناقض مع الاتجاه العام للدولة، فهو يُرسِّخ للتمييز في العقوبة، ويقلل من شأن المرأة.
ويُقدِّم الكتاب الذي يحمل عنوان: “المبادئ والقرارات القضائية” نصوصًا عديدة تثير الجدل، منها -مثلًا -: ما يتصل بالنظرة إلى المرأة، وعصمة الدم، والتعامل مع غير المسلمين في بعض القضايا، فضلًا عن استغنائه في قضايا إثبات النسب عن العلم الحديث، مستدلًا في ذلك كله بأحكام وقرارات قضائية صدرت خلال الـ46 عامًا السابقة.
ويتضمن الكتاب-الذي دشّنه وزير العدل الدكتور وليد الصمعاني في الثالث من يناير الماضي، في حفل أقيم بمركز التدريب العدلي، ونشرت وسائل الإعلام وقائعه- خلاصة أكثر من 20 ألف حكم قضائي، تعكس-بنصّ قوله- “تطوُّر الاجتهاد القضائي الذي يُبرز أسمى معالم العدالة في المملكة؛ بما فيه حماية الحقوق وصيانتها”. وحسب ما ذكر الوزير، في حفل التدشين، فإنَّ هذه الكتاب يؤكِّد أن “الجانب الموضوعي في القضاء له أهمية بالغة؛ ولاسيما فيما يتعلق بتقرير المبادئ التي تمثل استقرار الاجتهاد القضائي المستند إلى مراعاة القواعد الشرعية، والاعتبارات الواقعية”؛ مضيفًا: “تتأكد الأهمية إذا كانت هذه المبادئ صادرةً من أعلى المحاكم ومنتهاها، وهي المحكمة العليا”. ويقول الصمعاني أيضًا: “إن ثمرة المبادئ القضائية لا تقتصر على التطبيق في الدعاوى المنظورة من مختلف المحاكم، ومراعاة ما قررته تلك المبادئ من قواعد شرعية ونظامية وموضوعية وإجرائية، وما أكد عليه نظام القضاء في هذا الشأن؛ وإنما يمتد ذلك ليشمل المجالات العلمية والتاريخية، مع ما تمثله من قيمة قضائية مرجعية للمدونات والأنظمة واللوائح والقرارات المرتبطة بالشأن العدلي بشكل عام، وهي ثمرات لا يمكن أن تخفت الحاجة إليها أبدًا.
ولم يختلف حديث الوزير في حفل التدشين كثيرًا عما أورده في المقدمة التي صدر بها الكتاب، وجاء فيها: إن “مكانة المبادئ الفضائية تستدعي العمل على استخلاصها ونشرها للكافة؛ تحقيقًا للشفافية، وإبرازًا لجهود القامات الشرعية والقضائية في المملكة في عدة عقود ماضية”، مؤكدًا أن “وزارة العدل- وهي تضطلع بدورها في نشر هذه المبادئ- تؤكّد سعيها الحثيث على تحقيق كل ما من شأنه رفع المستوى اللائق بمرفق العدالة، بدعم وتوجيهات القيادة المباركة”.
غير أنَّ الكتاب نفسه يتضمن الكثير من النقاط التي تثير الالتباس، وتفتح باب الجدل، خاصة على صعيد تأثيرها المحتمل في تطوُّر المنظومة القضائية السعودية، ومدى التزامها برؤية “2030” التي تنطلق من ثوابت المجتمع السعودي، كما بيّنها ولي العهد في العديد من تصريحاته.
وعلى سبيل المثال: يصادق المبدأ رقم 956 على أنَّ وجود الابنة يمنع المطالبة بقتل الزوج القاتل، وفقًا لنص المبدأ (المصادقة على الحكم بصرف النظر عن طلب أولياء الدم بقتل المدعى عليه قصاصًا لقاء قتل زوجته؛ لوجود ابنة له من زوجته المقتولة، وإفهام الورثة بأنَّ لهم المطالبة بنصيبهم في دية مورثهم، والحكم بقتله تعزيرًا، وذلك بضرب عنقه بالسيف)، إلا أنَّ المبدأ 1006يذكر أنه (لا يُقتل زوج بزوجة قصاصًا إذا كان بينهما ولد، ويُنظر في الحكم المناسب للجريمة عند نظر الحق العام).
وكمثال آخر: يتطرق الكتاب إلى قضايا القصاص، فلا يجيز في المبدأ 1367 قتل مسلم بكافر، ولكن ذلك لا يمنع من تغليظ العقوبة بمضاعفة الجلد، وإطالة السجن متى ما رأى ولي الأمر أن مصلحة الأمة تقضي بذلك؛ ردعًا لمَن ارتكب جريمة القتل، وزجرًا لغيره عن الاندفاع في القتل، وفي تعازير الشريعة وعقوباتها بما دون القتل ما يردع الجرم، ويزجر عن الإجرام. والملاحظ أنه لم يظهر في المبادئ المصاحبة لهذا القول في صفحات كتاب المبادئ ما يقضي بنسخ هذا المبدأ، لكن يبدو أنَّ الأحكام الصادرة بقتل المسلم بالرغم من كون المقتول كافرًا، ليست من قبيل القصاص الذي يشترط له المبدأ ألا يكون المقتول كافرًا.
وفيما يتعلق بالنسب، يصف المبدأ 561 “الإحالة إلى المختبرات لإثبات الأبوة التي يُراد من إثباتها الزنا”، بأنها “تكلفٌ ينافي مقاصد الشريعة”، رغم أن كثيرًا من قضايا إثبات النسب حول العالم بات حسمها أكثر سهولةً ودقةً وسرعةً؛ باللجوء إلى تلك المختبرات.
أما المبدأ 577 فيقرُّ بأنّ “الحكم بحضانة ابنة بعد تجاوزها السنة السادسة عشرة من عمرها لأمها، مخالفٌ لأصول القضاء وما قرره الفقهاء”، بينما يشير المبدأ 577 إلى أنّه “إذا تجاوز المحضون الخامسة عشرة من عمره، لم يعد سنُّه سنَّ حضانة، ولمن يطالب ببقائه عند إقامة الدعوى عليه، حسب الوجه الشرعي والمقتضى النظامي”.
وفي القضايا المالية، يوضح المبدأ 84 أنَّ “مَن تعامل معاملة محرّمة فنتج عنها مال، فعلى المحكمة مصادرته وإيداعه بيت المال، حتى لا تكون المحاكم ملجأً لأهل الحيل الباطلة”، فيما يقرّ المبدأ 127 بأنه “إذا تحقق لدى الجهة المختصة صدق مدعي الإعسار الذي سبق أن قام بالسرقة، وتحقق لديها أنَّ بقاء السجين لا يحقق المصلحة المرجوة، فلا يظهر ما يمنع سماع إثبات دعوى الإعسار”.
وفيما يتعلق بالتصرُّف المطلق للأب في مال ابنه القاصر، يؤكّد المبدأ 149 أنّ “الأب لا يُطالب بإثبات الغبطة والمصلحة في تصرفاته في مال ولده القاصر، من بيع وشراء وغير ذلك؛ ومن ثَمَّ لا يُطالب باستصدار إذن من المحكمة ببيع أموال أولاده القُصّر”.
ووفق ما جاء في المبدأ 1731، يُمنع على المحاكم العامة أو الجزئية، إحالة أي قضية ذات أثر على القيم والأخلاق والعقيدة، إلى أي جهة أخرى نظامية لتتولى النظر فيها، الأمر الذي قد يُوسِّع نطاق تلك الجرائم، ويُبطِّئ من خطوات تحقيق العدالة في قضايا قابلة لتكييفات مختلفة وفق اجتهاد القاضي نفسه، فضلًا عن أنه يفتح الباب لخلط محتمل بين القضايا.
وتقضي “المبادئ القضائية” بـالتعزير لمجرد وجود “شبهة قوية”، دون أن تضع في المبدأ 1474 شروطًا لتوافر هذه الشبهة، ناهيك طبعًا عما يعنيه ذلك من إمكانية الاستغناء عن أدلة الإدانة والإثبات.
ويشير كتاب “المبادئ القضائية” إلى النساء بمفردات تحتمل التأويل السلبي؛ كالقول-مثلًا-: إنه يقلل منهن، فالمبدأ 588 ينص على: “قبول العفو عن القصاص، ولو كان من امرأة”، وهو نفس ما يتكرر في المبدأ 632، الذي يعدد حالات التنازل عن القصاص، مشيرًا إلى أنَّ “تنازل أحد الورثة عن القصاص، ولو كان من امرأة، مانع من إنفاذ القصاص”.
يُذكر أن كتاب مجموعة المبادئ والقرارات القضائية التي تصدر لأول مرة في تاريخ القضاء السعودي من المحكمة العليا، تتكون من كتاب يحوي 2323 مبدأ وقرارًا قضائيًّا، ومجموعة من ثمانية أجزاء لأصول القرارات والأحكام القضائية التي استُمدت منها المبادئ.
وحول قضية تجنيس أبناء السعوديات- كأحد مظاهر العنصرية المجتمعية، يذكر م. خالد العثمان أن مقترح تجنيس أبناء المواطنات الذي تجري مناقشته في مجلس الشورى أطلق معركة دائرة حاليًّا في وسائل التواصل الاجتماعي، معركة أغرقت الطرفين المؤيدين والمعارضين في حوار لا يخلو من عنصرية واتهام وتخوين. المؤيدون لا يقدمون حججًا موضوعية وآليات منصفة، بل حديثًا تغلب عليه العواطف، فيقابله المعارضون بحديث عاطفي أيضًا، يبالغ في حب الوطن، وتخوين وعنصرة كل من يُفكِّر في الانتقاص منه بمطالب التجنيس. وينسى الطرفان أن التجنيس يجب أن يكون وفق معايير موضوعية عملية، تتناول حالات مختلفة متباينة وليس بالتعميم المطلق، ومن تلك المعايير: وضع الدولة الأصلية القادم منها، ومدة الإقامة في المملكة، والقدرة المادية والاستثمارية، والمستوى التعليمي، وأشياء أخرى كثيرة، منها أيضًا الجوانب الإنسانية.
أضاف أيضًا أن بعض المطالبين بالتجنيس يرونه سبيلًا لرفع الضغوط المالية التي وقعت على أسر من الوافدين الذين قضوا في المملكة سنوات طويلة جدًّا، ولا يعرفون لهم وطنًا غير هذا الوطن. ومع أني أرى جدارة هذا المطلب، إلا أن البقاء في المملكة، وتخفيف الضغوط المالية الواقعة على هذه الشريحة- أمرٌ مختلفٌ عن التجنيس، ويمكن تحقيقه بوسائل إجرائية أخرى، منها: الإقامة الدائمة، والبطاقة الخضراء. المهم أن يكون التعامل مع القضية بالتفصيل المطلوب؛ لأن التعميم لن يؤدي إلى أية نتيجة منصفة وفاعلة، على الأقل في إفراغ القضية من النفس العنصري السائد فيها. واتفق معه أ. محمد الدندني في أنه مؤكد لن يكون قانونًا مطلقًا، لكنه تساءل؛ لماذا يُجنس أبناء السعودية، ولا يُجنس زوجُها ووالد أبنائها؟!
يعتقد م. خالد العثمان أن تجنيس أبناء السعودية من والد أمريكي يختلف عن تجنيس أبنائها من والد هندي. لا أقول: إن أحدهما أفضل من الآخر، لكن ظروف دولة الموطن تمثل أحد عناصر التحليل. كيف سيكون حال المواطنة السعودية إن اضطرت لمرافقة أبنائها إن لم يحصلوا على الجنسية، أو على ترتيب مريح، مخفف الأعباء للإقامة الدائمة؟ هذا مجرد مثال، والتفاصيل كثيرة جدًّا. بينما يرى أ. جميل ملائكة أن من حق السعودية المتزوجة من أجنبي أن يُجَنَّس أبناؤها أسوة بالسعودي.
وأشار د. عبد الله صالح الحمود إلى مقال أ. محمد آل الشيخ عن تجنيس أولاد الأم السعودية، والذي نُشر في صحيفة الجزيرة بتاريخ الأحد 25 فبراير 2018، تحت عنوان: “تجنيس أبناء المواطنات المتزوجات من غير السعودي”. حيث يدعو إلى أن يستوعب نظام الجنسية في المملكة-الذي مضى على صدوره نصف القرن- هؤلاء الأبناء، وفقا للتحولات الكبيرة التي يمرُّ بها المجتمع السعودي … وأننا في أمسّ الحاجة لنبذ العنصرية بشتى أنواعها.
تشريعات لمواجهة العنصرية في المجتمع:
يعتقد أ. محمد الدندني أنه لا يمكن القضاء على العنصريه إلا من خلال قوانين تحد منها، وكذلك مرجعية يُلجأ إليها ضد المتعنصر، وخاصة في مجال العمل. هذا لا يعني ألا تُحارب العنصرية إعلاميًّا، وفِي المناهج. ولنا في ديننا المصدر الأساس؛ لذا يجب تفعيل دور المسجد والدعاة.
وترى د. الجازي الشبيكي أننا إذا لم تردعنا تعاليم الدين في تنشئة أبنائنا على نبذ العنصرية، فإن من المفترض أن تكون هناك قوانين رادعة لمحاسبة ومعاقبة وتجريم كل أشكال الممارسات العنصرية التي تهدد نسيج الوحدة الوطنية. وإلى أن يتم إقرار مطالبات مجلس الشورى والجهات الحقوقية السعودية بهذا الأمر، ألا يمكن الاعتماد قانونيًّا على تصديق المملكة على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، كسند قانوني في المحاسبة بهذا الخصوص؟
ويضيف د. خالد بن دهيش، أن هذه الاتفاقية التي تهدف إلى القضاء على جميع أشكال التميز العنصري انضمت إليها المملكة في 23 من شهر سبتمبر عام1997(1) ولكنها قامت بتقديم مجموعة من التحفظات، أبرزها: تحفُّظ بوجه عام على جميع الأحكام التي تتعارض بشكل أو بآخر مع الشريعة الإسلامية. وتحفُّظ على إحالة أي نزاع إلى محكمة العدل الدولية؛ بهدف الفصل فيه. وكذلك وقَّعت المملكة على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأة (سيداو) في 7 سبتمبر عام 2000، ولكنها قامت أيضًا بتقديم مجموعة من التحفُّظات، أبرزها: تحفُّظ بوجه عام على جميع الأحكام التي تتعارض بشكل أو بآخر مع الشريعة الأسلامية، وتحفُّظ على المساوات بين الأبوين بشأن جنسية الأطفال، وتحفُّظ على إحالة النزاع بين الدول الأطراف بشأن تفسير أو تطبيق الاتفاقية إلى محكمة العدل الدولية.
وأشارت أ. عبير خالد إلى أن قوانين العدالة والتنوُّع تقاوم ظواهر العنصرية، وقد أبلت بريطانيا في ذلك بلاءً حسنًا، من حيث مقاومتها من الناحية الوظيفية. ومع ذلك فإن مقاومة العنصرية لا يمكن أن تتم مادام الحديث يتسم بالعمومية. وأعتقد أن وجود مختصين/مهتمين بالتنوُّع و Inclusivity في كل مجال / صناعة / industry سيساهم في تقليصها. مثلًا: لو أن لوزارة الثقافة والإعلام مركزًا مختصًا بمراقبة التنوُّع والتضمين الإعلامي لكافة مشارب المجتمع، فسيكون لذلك أثرٌ إيجابيٌّ ومكسبٌ ماديٌّ. كما أنه من الضروري أولًا عند إجراء التعداد السكاني القادم للمملكة أن يتم رصد بعض التفاصيل الإضافية عن الناس إلى جانب الأرقام، وهذه التفاصيل تشمل (الأعراق، والحالات الصحية “مثلًا : المصابين بأمراض معينة”، لون البشرة، المذاهب والمدارس الدينية… وغير ذلك)؛ ثم يتعين على الإدارة الإعلامية التأكد من أن كل صنف من المواطنين يلاقي تمثيلًا إعلاميًّا يتناسب مع تعداده. ويمكننا الاستفادة من تجربة مكتب الاتصال البريطاني Office of communication Ofcom.
وأضاف أ. سمير خميس بأن قوانين بريطانيا في مكافحة العنصرية من أنجع القوانين مكافحةً لها، ورغم نتائج “البريكست” إلا أن ردة الفعل المجتمعية نجحت في كثير من الأحيان في التخفيف من الطرح العنصري الذي رافقه. واتفق محمد الدندني مع أ. عبير، ومع أ. سمير، في أنه ليست القوانين فقط يمكن أن يكون لها دور في مكافحة العنصرية، ولكن درجة التحمُّل لدى الإنجليز لها دور كبير، فهم أفضل من باقي الأوربيين، وأفضل بكثير من الأمريكيين، فقد تجده عنصريًّا ولكن لا يصرح بها.
وأشار رياض نجم إلى أننا حتى نكون عمليين وواقعيين في مناقشة العنصرية، علينا أن نعترف أولًا أننا من أكثر الشعوب تطبيقًا وممارسة للعنصرية على جميع المستويات؛ كأفراد، وعائلات، ومناطق، وقبائل، وفي القطاع الخاص، وفي القطاع العام، بل في بعض الأنظمة والقوانين التي نسنها؛ لذا فإن هناك ضرورة للإسراع بوضع قانون يمنع التمييز في مجال العمل الحكومي والخاص، بناء على العرق أو المنطقة أو القبيلة وغيرها. وربما تُستثنى في البداية بعض الوظائف الحساسة أو القيادية، ولكن في أضيق الحدود.
وترى د. وفاء الرشيد أن القوانين- على الرغم من أهميتها- فإنها لن تجدي بمجرد تغييرها في مكافحة العنصرية؛ وإنما يجب النظر إليه في سياق حركة تنوير متكاملة، تدعو للتسامح والقبول، وإعادة الاعتبار للأفراد والمجموعات، والتي يجب أن تنعكس من خلال الفنون والآداب، وتبادل المنتوجات الثقافية بين كافة الكيانات. أما أ.سمير خميس فيرى أننا سنكون حالمين حقًا إن نحن فكرنا في القضاء على العنصرية. إن نجاحنا الحقيقي في التخفيف من غلوائها، وتقليل آثارها السلبية على الفرد والمجتمع- يحتم سنّ قوانين تمنع العنصري من إظهار تصرفاته العنصرية على الملأ، والتفاخر بها.
وفي النهاية، تساءل م. خالد العثمان: من هي الجهة المسؤولة عن ملف مكافحة العنصرية؟ هل يجب أن يكون أحد ملفات النائبة الجديدة لوزير العمل، كأحد ملفات التنمية الاجتماعية؟
في تصوُّر د. خالد الرديعان أنها يُفترض أن تكون جهة تتبع وزارة العدل أو وزارة الداخلية. واتفقت معه د. وفاء الرشيد في أن الجهة الأقرب هي العدل؛ لأنها هي من تسنُّ القوانين. بينما يرى م. خالد العثمان أن القضية تتعلق بحقوق الإنسان، ولكن ربما تكون الداخلية هي الجهة المسؤولة، باعتبارها قضية ذات بعد أمني، وإن كنتُ أرى أن التنمية الاجتماعية هي الأقرب؛ لكون وزارة للتنمية الاجتماعية وزارة ذات ذراع قوية. وأضاف د. خالد الرديعان أن المادة ٦٧ من نظام الحكم الأساسي تذكر أن السلطة التنظيمية تختصُّ بوضع الأنظمة واللوائح، فيما يحقق المصلحة، أو يرفع المفسدة في شؤون الدولة، وفقًا لقواعد الشريعة الإسلامية، وتمارس اختصاصاتها وفقًا لهذا النظام، ونظامي مجلس الوزراء ومجلس الشورى.
¤ التوصيات المقترحة:
- ضرورة تحديد مفهوم “العنصرية” بصورة إجرائية، ومعرفة كيف تؤثر سلبًا في الوحدة الوطنية؟
- ضرورة الحد من استخدام إطار العنصرية، واستهلاك قيم محاربة العنصرية لبناء خطاب معادي ضد بعض المشاريع التنموية؛ كالتوطين وخلافه، وتوجيه الأئمة والدعاة، وتفعيل دور المسجد والجامع في نشر الوعي بمضار العنصرية، وتأثيرها السلبي في وحدة المجتمع وتعايش أفراده.
- من الأهمية بمكان سنُّ قانون أو نظام يُجّرم العنصرية على غرار نظام الجرائم المعلوماتية، ومعاقبة كل من يبدر منه نشاط عنصري يهدد السلم الاجتماعي والتعايش بين أفراد المجتمع.
- من المهم أن يُضاف لمادة التربية الوطنية تعريفٌ بالعنصرية ومضارها، وربط ذلك بالتعاليم الدينية.
- بهدف تغيير النظرة السلبية تجاه بعض المهن؛ فإنه يُفترض إعلاء قيم الإنتاج والعمل، من خلال توطين بعض الجنسيات التي امتهنت بعض المهن المفيدة، وخاصة أبناءهم ممَّن وُلدوا وعاشوا في المملكة.
- ضرورة التركيز على المضامين الدينية في مسألة الزواج والمصاهرة بين الأسر، وأن الكفاءة المنشودة هي في الدين والتقوى والخلق الكريم، وليس في المحتد والأصل.
- الحد من المظاهر العنصرية المصاحبة للاجتماعات القبلية، ومزاين الإبل ومضامين الشعر النبطي، ومنع استعادة الأحداث التاريخية المؤجِّجة للعنصرية والتنابذ. وتفعيل النشاطات الاجتماعية والرياضية بين مدارس المناطق، والعمل على تثقيف الناشئة بمضار العنصرية المناطقية والقبلية.
- يلزم التفريق بين التغني بالوطن والتعالي على غير السعوديين؛ فالأخير مرفوض، ويخلق أعداءً.
- اللجوء للقضاء لمن يشعر بالضرر بسبب ممارسات عنصرية ضده، وذلك لتكريس قيمة القانون، وحفظ الحقوق، وإشاعة قيمة العدل.
- يُراعى في التخطيط الحضري أن تكون الأحياء متنوعة بتنوع السكان؛ عرقيًّا، ومناطقيًّا، وقبليًّا، ومذهبيًّا.
- النظر في إمكانية الاعتماد قانونيًّا على تصديق المملكة على اتفاقية (سيداو) للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، مما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية.
الملخص التنفيذي:
القضية: العنصرية .. وتأثيراتها على الوحدة الوطنية.
تناولت الورقة الرئيسة التي قدمها أ. سمير خميس، قضية العنصرية وتأثيراتها على المجتمع السعودي ووحدته الوطنية، وكيف أنها تعدُّ من الآفات الاجتماعية التي يصعب الحديث والنقاش حولها في المجتمع السعودي، فقد ظلت العنصرية كامنةً إلى أن وَجدت في مواقع التواصل الاجتماعي بيئةً صالحةً للانتشار والنمو.
كما تطرقت الورقة لأشكال العنصرية في المجتمع، والعوامل والأسباب التي أدَّت إلى ظهورها، وكيف يمكن الحد منها؛ ومن ثَمَّ القضاء عليها.
وألقت الورقة ومناقشاتها الضوء على بعض نماذج من الدول التي حققت تقدُّمًا في مواجهة العنصرية، مثل: ماليزيا، وكندا، وسنغافورة؛ بالإضافة إلى النماذج الأخرى المعبرة عن التمييز العنصري والتطهير العرقي، كما جرى في أمريكا الجنوبية، والكونغو، ورواندا؛ وما تم خلال الاستعمار الأوروبي في أمريكا، وإفريقيا، وآسيا، وأستراليا؛ وما يجري في بورما، وإفريقيا الوسطى… وغيرها.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة في أن العنصرية في الدولة الواحدة لا تأتي بخير، فهي تؤدي إلى البغضاء والحقد والكراهية، وقد تؤدي في نهاية المطاف إلى حروب أهلية، ودعوات لتقطيع أوصال الدول؛ لذلك وجب محاربة العنصرية بلا هوادة، وبقوة.
وأن أهم التأثيرات السلبية على المجتمع من استمرار العنصرية والتعصب يكمن في عدم تكافؤ الفرص، واضطرار الفرد للانحياز إلى جماعات متعصبة أو عنصرية لتضمن له تحقيق مصالحه، مقابل أن يؤمن بمبادئها، وبث روح الإحباط الجمعي، وإفساد المزاج العام بأفكار تحقيرية وتمايزية، وإشغال الإنسان بتاريخه أو بعرقه أو بمذهبه، وهي أشياء ليس هو سببها، ولا في يده تغييرها.
وناقشت المداخلات التي دارت حول موضوع القضية بعض الموضوعات المتعلقة بالعنصرية، من حيث مفهومها، وأشكالها سواء كانت ضد الأجانب، أو كانت عنصرية مجتمعية. وفي الوقت الذي يرتبط فيه مفهوم الأمم المتحدة للعنصرية بالعرق، فقد تم التوسع في هذا المفهوم في المجتمع السعودي، حيث بات يشمل كلَّ تصنيف، وكلَّ موقف من الآخر، بغض النظر عن دوافعه.
وتباينت الآراء حول أشكال العنصرية في المجتمع، وأسبابها. فعلى الرغم من أن الإسلام والمنظمات الدولية يؤكدان على أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، وأن التمييز السلبي بين الفئات، والتفريق في إعطاء الحقوق أو إقرار الواجبات، بناء على العرق أو الجنس هو صلب العنصرية؛ إلا أن هذه الأشكال وغيرها تتفشى بشكل كبير داخل المجتمع، وهو ما يمكن أن يكون له تأثير على الوحدة الوطنية، وعلى صورة المملكة لدى الآخرين، وأمام الرأي العام العالمي، وقد يؤدي إلى خسارة الدولة لكفاءات جيدة.
واعتبر البعض أن عدم تجنيس أبناء السعوديات من غير السعودي شكلًا من أشكال العنصرية في المجتمع السعودي؛ إلا أن هناك مَنْ يتصور أن هذه القضية التي تجري مناقشتها حاليًّا في مجلس الشورى، وخلقت معركة على مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيد ورافض؛ ينبغي أن يتم التعامل معها بشيء من التفصيل لا بالتعميم المطلق، وأن يتم معالجتها وفق معايير موضوعية عملية، تتناول كل الحالات حسب اختلافها وتباينها.
بالإضافة إلى أن هناك شكلًا آخر من أشكال العنصرية داخل المجتمع السعودي، تتمثل في الحملات التي تنطلق بين الحين والآخر على مواقع التواصل الاجتماعي ضد الوافدين. إلا أن هناك مَنْ يرى أن العنصرية ضد الوافدين ليست بهذا الحجم، فربما أنها تنبع من شعور بالنقص أمام الوافد؛ بسبب الدخل، أو التفوق العلمي. وقد تنبع هذه العنصرية من نفس الشخص الذي يمارسها ضد فئات مجتمعه، فهي تنقص وتزيد ضد الأجنبي حسب جنسيته ومهنته. أما فيما بين السعوديين بعضهم البعض فيمكن أن تكون بسبب الأصل، أو الطائفة، أو اللون، أو المناطقية.
واتفق المناقشون على ضرورة إيجاد تشريعات لمواجهة العنصرية في المجتمع السعودي، فلا يمكن القضاء عليها إلا من خلال قوانين تحدُّ منها، وتحاسب وتعاقب وتجرِّم كل أشكال الممارسات العنصرية والتمييز في مجال العمل الحكومي والخاص، والتي يمكن أن تهدد نسيج الوحدة الوطنية.
وفي النهاية خرجت المناقشة بمجموعة من التوصيات، أهمها: تحديد مفهوم “العنصرية”، ومعرفة كيف تؤثر سلبًا في الوحدة الوطنية، وفي تعايش أفراد المجتمع، وأن يُضاف لمادة التربية الوطنية تعريفٌ بالعنصرية، وربط ذلك بالتعاليم الدينية، وتوجيه الأئمة والدعاة، وتفعيل دور المسجد والجامع في نشر الوعي بمضار العنصرية، وسن قانون أو نظام يجرّم العنصرية، مع معاقبة كل من يبدر منه نشاط عنصري يهدد السلم الاجتماعي، والتعايش بين أفراد المجتمع. بالإضافة إلى العمل على الحد من المظاهر العنصرية المصاحبة للاجتماعات القبلية، والنشاطات الاجتماعية والرياضية، وضرورة التفريق بين التغني بالوطن والتعالي على غير السعوديين. وأخيرًا أن يُراعى في التخطيط العمراني تنوُّع الأحياء بسكان متنوعين عرقيًّا، وقبليًّا ومذهبيًّا، ومناطقيًّا.
المحور الثاني
فائض الأطعمة.. هدر مالي وسلوك
اجتماعي غير مقبول
المحور الثاني
فائض الأطعمة.. هدر مالي وسلوك
اجتماعي غير مقبول
¤ الورقة الرئيسة: م. خالد العثمان.
المملكة العربية السعودية هي الدولة الأكثر إهدارًا للطعام في العالم نسبة إلى عدد السكان. تبلغ قيمة الأطعمة المهدرة في السعودية حوالي 50 مليار ريال سنويًّا، حوالي ربع هذا الرقم يُهدر في شهر رمضان خصيصًا. السعوديون يهدرون حوالي ثلث مشترياتهم السنوية من الأطعمة المتنوعة، وخصوصًا الأرز الذي يعدُّ أحد أهم السلع الرئيسة المستوردة، ويبلغ معدل إهدار الطعام في السعودية 427 كيلوغرام في السنة للفرد الواحد. هذه الأرقام تضمنتها تصريحات وزير الزراعة، وتناقلتها وسائل الإعلام المحلية والعالمية، خاصة بعد تقدُّم السعودية على دول كانت معروفة بتفوقها في هذا المضمار، حتى بلغ حجم الهدر العالمي 1.3 مليار طن سنويًّا، تعادل 4 أضعاف كمية الطعام المطلوبة لحل مشكلة الجوع في العالم.
المشكلة أن هذا الواقع غير المقبول يحدث في بلد هو مهد الإسلام، ومهبط الوحي، الذي تتضمن تعاليمه نصوصًا واضحة في القرآن والسنة حول تحريم الإسراف، بلد يعاني شحًّا في المياه في بيئته الصحراوية، جعلته المنتج الأكبر في العالم لمياه البحر المحلاة، بلد يعيش حراكًا جادًّا من الدولة؛ لمحاصرة قنوات الفساد، وإهدار المال العام، وتحقيق توازن مالي مستهدف. بلد يعلن في كل المحافل الدولية التزامه باتفاقيات حماية البيئة العالمية والمناخ ، بالرغم من واقع مرادم النفايات. يجب معالجة النفايات العضوية التي تبلغ حوالي 60% من إجمالي النفايات البلدية. إن قضية هدر الطعام قضية مهمة جدًّا، تتطلب جهودًا كبيرة على كل المستويات لمعالجتها معالجة جذرية، خاصة في ظل غياب أي حراك حقيقي في هذا المضمار، سوى من بعض الجهود الخيرية المتناثرة، التي لا تمثل إلا نزرًا يسيرًا من المطلوب والممكن عمله.
أسبابُ تقدُّم المملكة على غيرها في هدر الطعام عديدة ومتنوعة، تشمل مظاهر الكرم والتفاخر والوجاهة الاجتماعية في الولائم والمناسبات والاحتفالات، وتفاقم النمط الاستهلاكي المنفلت في الشراء من الأسواق والمراكز التجارية، وسوء وسائل النقل والتخزين والعرض للأطعمة في مختلف مراحل التسويق والعرض والاستهلاك، والتزايد الملحوظ لظاهرة اللجوء إلى المطاعم والمقاهي لتناول الطعام؛ إما في ظل المشاغل العملية التي تحول دون إعداد الطعام في المنازل، أو حتى على سبيل الترفيه والتواصل الاجتماعي، وغير ذلك من الأسباب. في المقابل، فإن الواقع يشهد غيابًا شبه تام لأية جهود فاعلة للتوعية من مخاطر وعواقب إهدار الطعام، وفرض مخالفات رسمية على مثل هذه الممارسات، فضلًا عن عدم وجود توظيف خيريّ لجمع وإعادة استخدام ما هو قابل للاستخدام على غرار مبادرات جمعية إطعام الخيرية المشكورة – وإن كانت محدودة التأثير-، وكذلك توظيف استثماري تقني لتدوير الأطعمة المهدرة والنفايات العضوية لإنتاج محسنات التربة والأسمدة وحتى الطاقة.
هذه الورقة مجرد محاولة لتعليق الجرس في قضية دينية، أخلاقية، اقتصادية، بيئية، اجتماعية، تطال جميع أفراد المجتمع، والأمل أن يسهم تناول هذه القضية بالنقاش في الملتقى في تحقيق دفع حقيقي لجهود فاعلة في تسريع معالجة هذا الهدر المخزي.
¤ التعقيب الأول: د. الجازي الشبيكي.
قضية فائض الأطعمة من القضايا المهمة على كل المستويات: الديني، والإنساني، والاجتماعي، والاقتصادي. فنعمة الطعام من النعم الكبيرة التي امتن الله –سبحانه- على عباده بها، وأوجب شكرها بالمحافظة عليها، والبعد عن الإسراف فيها، ولنا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحابته وأتباعه الأسوة الحسنة، بحرصهم على الاعتدال في أمرهم كله، من غير إسراف ولا تبذير.
إن مجرد التأمل والتفكير بعقلية ومنطقية وإنسانية في كمية أطنان الطعام المُهدرة بالملايين مقابل مَنْ يموت جوعًا من المحرومين في العالم- يستلزم منَّا استشعار خطورة الوضع، وسرعة وجدية التحرك على كافة المستويات الحكومية، وغير الحكومية.
كما أن غرس تلك الأخلاقيات والقيم في نفوس النشء وسلوكياتهم منذ الصغر-سواءً من قِبل الأهل أو المدرسة- يُعدُّ مُتطلبًا تربويًّا ضروريًّا، خاصة إذا اقترن بأساليب التطبيق العملي، مع التحفيز والثواب، والعقاب المتدرج بحسب السن.. إلى جانب القدوات التطبيقية من الأهل والمعلمين، وغيرهم من القدوات.
ثم تأتي أهمية بذل الجهود لرفع مستوى الوعي الاجتماعي بأهمية تقنين استهلاك الأطعمة إلى مستوى كفاية الأشخاص من دون إسراف، وهذا- بنظري- يحتاج أن تسبقه دراسة دقيقة وشاملة من قِبل أمانات المُدن، بالتعاون مع الجامعات والمراكز الإحصائية؛ لمعرفة الأسباب والعوامل التي أدَّت إلى بروز ظاهرة هدر الطعام والإسراف فيه، ورصد أكثر الجهات المجتمعية هدرًا وإسرافًا، وأكثر الأطعمة التي يُلاحظ فيها الهدر.
ومن ثَمَّ وضْع خطة واضحة مُلزِمة التنفيذ من قِبل أمانات المدن في الشؤون البلدية، وبمتابعةٍ ومراقبةٍ وإشرافٍ من المجالس البلدية في كل مدينة.
وهذا وحده لا يكفي بمعزل عن القوانين والإجراءات الرادعة للمخالفين، سواء من الأفراد أو المؤسسات أو الجماعات أو غيرهم. ويمكن هنا الاستفادة من الدراسات العلمية الميدانية التي قام بها عدد من الجامعات أو الكليات، كسبًا للوقت. بالإضافة إلى المقترحات التي تقدم بها عدد من أعضاء مجلس الشورى في دوراته المتعددة بهذا الخصوص، مثل: الدكتور أحمد آلمفرح، والدكتور ناصر الداوود، وغيرهما. وفي مرحلة التنفيذ أيضًا يتم التنسيق مع كلٍّ من وزارة التعليم، ووزارة الإعلام، والجمعيات الخيرية، والأندية التطوعية، وفق آلية عمل منسقة ومتكاملة وواضحة.
إنَّ التشجيع وبذل الحوافز والجوائز -على مستوى مديري التعليم، ووزراء الجهات ذات العلاقة، وأمراء المناطق والمحافظات- للجهات التي تُطبِّق التعليمات بشأن الإقلال من هدر الطعام- يُعدُّ عاملًا مهمًّا ومحفِزًا للتنافس والاستمرارية. كما أن المتابعة والتقييم والتقويم المستمر لأدوات وأساليب التنفيذ وتغذيتها الراجعة، كلها من متطلبات نجاح أي جهود تُبذل في هذا الخصوص.
وأختم بتذكير نفسي وإياكم، بأن يبدأ كلٌّ منَّا بنفسه ومن حوله في إعادة النظر في سلوكياتنا المبالغ فيها في إعداد وتحضير كميات الطعام في ولائمنا ومناسباتنا الخاصة، اتباعًا لقاعدة: “إذا أردت تغيير شيء ما في العالم حولك، فابدأ بنفسك”.
¤ التعقيب الثاني: د. عائشة حجازي.
تتمحور قضيتنا هذا الأسبوع حول الهدر في فائض الطعام، وكلمة الهدر هنا ما هي إلا مرادف آخر لمعنى التبذير والإسراف، الذي نهانا عنه ديننا الحنيف، كما أن النفس السوية تمقته ولا تقبله.
ما يحصل من هدر أو إسراف في الطعام في السعودية هو سلوك تجاوز الفردية، فأصبح له واقع اجتماعي، وانتشر بشكل مقلق، فالأرقام التي أوردها المهندس خالد مؤشرٌ خطيرٌ لما وصلنا له. كثيرون تجدهم يستهلكون من الطعام أكثر من حاجتهم، فلا هم يأكلونه، ولا هم يتصدقون به. وكثير من الهدر في الطعام يكون في المناسبات والاحتفالات والأعياد، وهنا يظهر سبب آخر وهو حب الظهور والتفاخر. هذا التنافس غير المحمود والتقليد الضار دون النظر لعواقب هذه الأفعال، ولوجود من يُعزِّز هذا السلوك ويمتدحه ويثني عليه، وينشره بين الناس كنوع من الفخر؛ نجم عنه توسُّع رقعة مَن يمارسون هذا الفعل لأجل الحصول على المديح والثناء.
بعض العادات والتقاليد أصلَّت لمثل هذا السلوك، فالبعض يرى أن من حقِّ كل ضيف ذبيحة كاملة على الأقل، علمًا أن هذا الضيف لا يمكن بأي حال من الأحوال الطبيعية أن يأكل ذبيحة كاملة في وجبة واحدة، كيف ونحن نعلم أن الوضع الآن تجاوز تقديم الذبيحة إلى تقديم أصناف متنوعة من الطعام؟!
يرى البعض أن تقديم كمية من الطعام في حدود المعقول أو تزيد قليلًا، ستتسبب في أن يتعرض للنقد، وأن فعله نوع من العيب، فهو يبتعد عن هذا بأن يفعل على الأقل كما يفعل الآخرون؛ حتى لا يكون سلوكه مخالفًا للسلوك العام. على الرغم من أن الدين الإسلامي قد أشار-بوضوح وصراحة – إلى تجنُّب الهدر في الآية: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: آية 31]، إلا أنه يظهر أن هناك عدم فهم كامل لمقاصد الآية، والنهي عن الإسراف، فنجد مَن يسوق المبررات التي تدل على جهل كبير.
كما أن للتنشئة الاجتماعية دورها في ممارسة هذا التبذير، من خلال ما يتم في المنزل، فيراه الطفل ويتعوده، ويراه حسنًا؛ لأنَّ أسرته تفعله، فنجد أغلب الأسر تقدم على وجبة الطعام أصنافًا متنوعة، وبكميات كبيرة تكفي وتزيد، فتقوم الأسرة – وبكل جهل- برمي المتبقي من الطعام في سلة المهملات، على مرأى من الأطفال الذين يتعلمون ويعتادون هذا السلوك الخاطئ، فيألفونه ويمارسونه.
على الرغم من سواد الصورة وقتامتها، إلا أنني أرى بصيصًا من الأمل في آخر الطريق، حيث نرى ونسمع ونقرأ الانتقادات الدائمة لمثل هذا الفعل، واستنكار مِن شريحة كبيرة من أفراد المجتمع للهدر والتبذير الحاصل، وهذا مؤشر إيجابي، فأول العلاج الاعتراف بوجود المرض.
ومن المجهودات التي تمت لمعالجة هذه المشكلة بعض النتائج التي خرج بها مؤتمر إطعام الدولي، ومنها: التسريع في سنِّ القوانين الخاصة بهدر الغذاء من خلال تشريعات تنظيمية، ووجوب إدراج برامج حفظ الطعام في المناهج التعليمية منذ الصغر، وأهمية تكثيف دور الإعلام النوعي في نشر خطر هدر الطعام، وكذلك تعاون جمعيات الطعام في نشر ثقافة حفظ النعمة، إضافة إلى وجوب أن تتضافر الجهود حتى يتم حل المشكلة.
¤ التعقيب الثالث: أ. علياء البازعي.
اللحظات التي تنتابنا ونحن نفرغ أواني الطعام من الفائض، والشعور بالألم والخوف، وعبارة: “أستغفر الله…الله لا يعاقبنا”، نقولها ونحن نلقي بالطعام في القمامة، هي لحظات سريعًا ما تنتهي، ننساها أمام إغراء عروض السوبر ماركت، وأمام” اشتر وجبة كبيرة بسعر وجبة صغيرة”، و”اشتر واحدة والثانية مجانًا”، وغالبًا ما تكون هذه العروض فوق حاجة الفرد والأسرة، ناهيك عن هاجس إكرام الضيف وتقديم كمية طعام تكفي عشرات الأشخاص، ربعها يكفي ويفيض؛ بحجة أن ” العين تأكل”.
والنتيجة أن يجتمع في الثلاجة بقايا متنوعة ما بين خضار وفاكهة فسدت، وبقايا وجبات سريعة كانت فوق الحاجة، وتكون نهايتها جميعها في صندوق القمامة. ما سبق هو تصوير بسيط لواقع في بيوتنا الكبيرة والصغيرة، وهو نمط يتكرر في كثير من البيوت حول العالم.
هناك دول سعت بعزم لحل هذه المشكلة، فوضعت أنظمة ومحاذير على نفايات الأطعمة. وعلى سبيل المثال، كوريا الجنوبية التي بالفعل خفَّضت نسبة فائض الأطعمة لديها، ونجحت في خفض كمية الفائض من 5.1 مليون طن في عام 2008 إلى 4.82 مليون طن في 2014.لا أدعي الفهم في هذا الجانب، لكن أرى أنه ليس نجاحًا كبيرًا في 6 سنوات. وتعتبر كوريا من الدول التي تطبِّق الأنظمة بصرامة، ولا تتهاون…ناهيك عن نوعية و كميات أكلهم. وبالنظر إلى طرق الطبخ وكميات الطعام المهدر، نجد أن اليابان أيضًا تعاني ليس من فائض الأطعمة المنزلية، لكن من هدر كميات من الأطعمة، والتي لم تصل حتى لتاريخ الانتهاء، أو تفسد بسبب وجود أنظمة صحية صارمة تتعلق بالمطاعم والسوبر ماركت. المثال من دولتين لهما جهود ظاهرة في هذا المجال، ومازالتا تعانيان ولم تجدا حلولًا جذرية.
ونعود لمشكلتنا.. ونحن أصحاب أكبر رقم في هدر الطعام.. ماذا علينا أن نفعل؟
1-على مستوى الدولة:
-تعليق جرس هذه القضية، بحيث تكون قضية وطنية بالدرجة الأولى، وخصوصًا لما تنتهجه الدولة حاليًّا من ترشيد للإنفاق في جوانب عديدة.
– سنّ القوانين، وفرض الغرامات على الجهات التي تهدر الأطعمة بشكل كبير.
– سنّ قوانين تخصُّ البيوت والمطاعم، بأنه يجب فصل الفائض من الطعام عن بقية المخلفات، ووضعه في أكياس خاصة (في كوريا: يُغرَّم مَنْ يضعُ فائض الأطعمة في غير الأكياس المخصصة، وأسعارها مرتفعة أيضًا عن بقية أكياس القمامة)، وذلك تمهيدًا لتحويله إلى سماد من خلال أجهزة مخصصة، وتُوفَّر بأشكال وأحجام مختلفة للاستخدام المنزلي أو المركزي.
-سنّ قوانين تخصُّ مطابخ الذبائح لتحديد الكميات، ولا مانع من رفع سعر طبخ الذبيحة كاملة مع الأرز، و(لا علاقة لسعر شراء اللحم بالكيلو بذلك).
2-على مستوى الجمعيات والأفراد:
– تكثيف الحملات التوعوية في المدارس، والمجمعات التجارية والسكانية.
– تشجيع أنشطة المسؤولية الاجتماعية في هذا المجال، وربطها بالوازع الديني لدى الأفراد، وتحميل المطاعم والسوبرماركت هذه المسؤولية.
على الرغم من أن قلوبنا تمتلىء بحُسْن الظن برب العالمين، إلا أنه لا مانع من التذكير بالآية الكريمة: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾[ النحل: آية 112]
¤ المداخلات حول القضية:
فائض وهدر الطعام: الأرقام والإحصاءات.
فيما يتعلق بالأرقام والإحصاءات التي وردت في الورقة الرئيسة، والمتعلقة بنسبة إهدار الطعام في المملكة سنويًّا، وبيان أن المملكة تأتي في مقدمة الدول الأكثر إهدارًا للطعام في العالم؛ شكك د. عبد الرحمن الشقير في هذه الإحصائيات والأرقام التي أوردها م. خالد العثمان؛ بسبب عدم وجود إحصاءات رسمية ترصد الهدر في فائض الأطعمة، وإنما هي تخمينات صحفية على الأرجح. نتفق أنه حصل بعض الإسراف فعلًا في السابق، ولكن حصل أيضًا وعي وترشيد، أسهم في خفض سلبيات هذه القضية. لذا فإننا أمام قضية فيها سلبيات، وتحتاج مزيدًا من بذل الجهد لترشيد الاستهلاك في الطعام، والتعرُّف على مبادرات مؤسساتية موجودة، تهتم بجمع فائض الأطعمة، وتدوريها بشكل صحي.
بينما تؤكد نوف الغامدي أن هذه الأرقام ليست تخمينات صحفية، وإنما بُنيت على دراسة قُدِّمت من قِبل وزارة الزراعة في ورشة (الحد من الفقد والهدر الغذائي) (1) (2)، والتي أُقيمت بالرياض في شهر ربيع الآخر 1437هـ. حيث ذكرت الدراسة أن هناك 50 مليار قيمة هدر الطعام في المملكة، منها 16 مليون وجبة مُهدرة فقط في الرياض والشرقية، وأنَّ هناك 250 كيلوجرام مُهدَرة تقريبًّا للشخص الواحد سنويًّا. ومن الملفت أن تعداد المملكة وقت عرض الدراسة كان 21 مليون نسمة، مقابل 30 مليون حاليًّا.
أكد ذلك أيضًا م. خالد العثمان، وأنها أرقام تضمنتها دراسات لجهات دولية، وأوردتها جهات محلية. وعلى أي حال، فالهدر موجود حتى لو تباينت الأرقام. ونحن لسنا بصدد بناء جدوى اقتصادية، بل تأسيس سياسات للتعامل مع النُّفايات وفق المبادئ الخمسة التي تُسمَّى 5R : (Reduce تقليل- Reuse إعادة الاستخدام- Recover استرجاع – Recycle تدوير – Residuals التخلص الآمن).
وفي تصوُّر د. نوف الغامدي، فإن هذه قضية رباعية الأبعاد: بُعد استراتيجي كاقتصاد مُهدَر، وبُعد اقتصادي من خلال أرقام وإحصائيات تُهدِّد الاقتصاد والأمن الغذائي، وبُعد اجتماعي كثقافة سلوكية، وبُعد ثقافي في التعامل مع الفائض.
ويُعزِّز ذلك د. مساعد المحيا، الذي يشير إلى أن ما نشاهده على المستوى الشخصي، وما نعيشه من إسراف لا إخاله سيتوقف بأي جهد توعوي، وستستمر هذه الإحصاءات في تنامٍ ما لم يستشعر الناس من أنفسهم خطورتها وضررها، وبخاصة الولائم والمناسبات التي تعجُّ بالسلوك والممارسات الافتخارية.
عادات اجتماعية:
أشار أ. محمد الدندني إلى أن أسباب هذه الظاهره كثيرة، وترتبط بثقافة عامة وعادات اجتماعية لدينا، تقلُّ وتكثر حسب مستوى التعليم والثقافة، وأيضًا كون الإنسان ملتزمًا في حياته بعادات ومُثل طيبة، مستقاة من العقل وتعاليم الدين الحنيف.. إلخ. وأرى أننا شعبٌ- في العموم- نعاني من ضعف الالتزام في أمور كثيرة، وهذا الأمر وراء كثير من الظواهر السلبية في مجتمعنا.
وفي تصوُّر م. حسام بحيري، فإن العادات الاجتماعية أسهمت في خلق سلوك هدر الطعام، وهذه العادات الاجتماعية دخيلة علينا، بدأت مع ظهور عصر الطفرة الأول، فبدأنا نرى سلوكياتٍ جديدة، تتمركز حول الاستهلاك الزائد عن حده. الجيل القديم كان يُقدِّر الطعام جيدًا؛ لأنه عاش في عصر مختلف. كما أن الوعيين الاجتماعي والإعلامي للحد من هذه الظاهرة وقعهما ضعيف، ولم يأت بأي نتيجة. نحتاج فعليًّا إلى تغيير سلوكياتنا. لماذا لا نطلب ونُشدِّد على المضيف في ألا يتكلف في تقديم الطعام؟ لماذا لا نُقدِّم كميات طعام معقولة في عزائمنا؟ في معظم الحفلات والولائم ترى تقريبًا نفس نوع الطعام (أرز ولحم) بكميات هائلة، مع اختلاف بسيط في الأنواع التي تُقدَّم. ظاهرة أخرى نراها، هي دعوة أعداد كبيرة من الأشخاص فوق طاقة إمكانيات الداعي في مناسبة عادية، وهنا سيتم دائمًا الاعتماد على شراء الطعام، وما تبقى منه سينتهي في سلة المهملات أيضًا.
بينما يرى أ. محمد الدندني أن هذه العادة ليست دخيلة؛ لأننا لم نكن مبذرين لضعف الوضع المادي، وقلة ما في اليد. والغريب أن الأرز الذي نُعَدُّ من أكثر سكان العالم استهلاكًا له، لم يكن شائعًا، ولا يُعتمد عليه كوجبة رئيسة. وعلَّق على ذلك م.حسام بحيري، مؤكدًا أننا- حقيقة- لم نكن مسرفين في الماضي، وأصبحنا مسرفين بعد الطفرة، وهذه العادة الدخيلة علينا لم تكن موجودة في ذلك الوقت حتى في منازل الأغنياء. حتى أن الأرز لم يكن الغذاء الطبيعي لأهل الجزيرة العربية تاريخيًّا.
وأضافت د. نوف الغامدي: إذًا نحن أمام مشكلة أخرى من هدر الموارد؛ كالطاقة والمياه والتربة، وبالتالي أضرار بيئية. هل هي مشكلة عدم وعي؟ وافقتها أ.د فوزية البكر في أن المشكلة تكمن في إهدار الموارد، وعدم الوعي بهذا الهدر، وعدم وضوح بعض المفاهيم، مثل: التنمية المستدامة، والاستعانة بمصادر وطاقات بيئية محلية. وهو ما قصده أ. محمد الدندني بقوله: إننا شعبٌ لا نحبُّ الالتزام، حيث إنه وراء كثير من السلبيات. وفي الإطار نفسه، يعتقد م. حسام بحيري أنها مشكلة عدم اكتراث الكثير بأضرار هدر الطعام، سواء ثقافيًّا أو اجتماعيًّا أو شرعيًّا.
ويرى د. خالد الرديعان أن القضية لا تكمن في هدر طعام ومال، بقدر ما هي متواضعات اجتماعية حتمت الإسراف في الأطعمة، وهي الظاهرة التي تفشت في العقود الأخيرة، بسبب الوفر الذي أعقب الطفرة النفطية؛ مما كشف عن بعض تشوهاتنا.
جزء من عادة الكرم عندنا أن يكون الطعام كثيرًا لنقنع الضيوف بأهميتهم، وأن لدينا الكثيرَ منه، وأنهم يستحقون أكثر من ذلك. وحتى عندما كان الطعام قليلًا في السابق كنا نقلق من ألا يأكلوا حدَّ الشبع، فكنا نقول لهم- وهم يتناولون الطعام-: “لا تستعجلوا، ما وراءكم أحد”. في حين أن عشرات الأفواه كانت تنتظر متى ينتهي الرجال، لتلتهم ما تبقى من الوليمة. وعندما يفيض الطعام عن الحاجة، وهو أمر نادر، فإنه يتم توزيع ما بقي منه على المحتاجين من الجيران. بل إن بعض الجيران كان لا يطبخون طعامًا في ذلك اليوم؛ انتظارًا لما سيصلهم من بقية الوليمة.
وفي السياق نفسه يرى أ. سمير خميس أن الناس تبالغ في الكرم؛ لأنه ليس لديهم ما يفعلونه، هم يريدون الخلود بأي طريقة كانت، يتخذون الكرم طريقًا؛ لأنه الأقرب للسلامة، وأكثر أمانًا من أي طريق آخر قد يؤدي للتهلكة. لا مؤسسات مجتمع مدني، ولا مشاركة شعبية، ولا مجلس شورى منتخب، ولا طريقة آمنة للتعبير عن بعض الآراء الحرة، فكأنَّ الكرم والبذخ هما الطريق الأسهل.
ويرى أ. محمد الدندني أن هذه الزاوية المثيرة التي عرضها أ. سمير تُقبل من منظور المنطق، إن كانت صادرة عن مركز اجتماعي، وصل من خلال البحث إلى هذه النتيجة. أمَّا أن يكون تفريغ أمور لا يستطيع القيام بها، فهذه طريقة غريبة في التنفيس عن النفس. يستطيع الطاعم بهذه الوليمة الكبيرة أن يطعم مئات من المحتاجين، ويكسب شهرة ومركزًا اجتماعيًّا، بل ويُشكر على ذلك أيضًا. وأعتقد أن من كان يُفكِّر بهذه الطريقة أو يعيها، فلا أظنه سيكون مسرفًا.
وفي إطار الحديث عن عادة الكرم وعلاقتها بإهدار الطعام، تساءلت د. نوف الغامدي: هل وظَّفنا الكرم الحاتمي شرَّ توظيف؟ فـشتان بين الكرم بنية المدح والثناء واتساع رقعة الصيت، وبين الكرم الذي أشار إليه القرآن في عدة مواضع، وأراد منه الإحسان إلى الضيف وتقديره، والمقصود في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [سورة هود: الآية 69].
الكرم فضيلة من فضائل الأزمان، وليس البذخ المبالغ فيه، بحيث نتخذ من حاتم مثلنا، ونبالغ في البذخ والعطاء والسخاء؛ تقليدًا أو تبعًا ومنهجًا أكثر من كونه تقديرًا للضيف، قال تعالى: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ استنكارًا من عدم إكرام الضيف، وليس من عدم المبالغة في الكرم والسخاء، مبالغة وصلت بنا إلى هدر الطعام في مقابل مجاعات تجتاح العالم، فلا نحن وفرَّنا الطعام المهدر لهم، ولا نحن أعدنا تدوير مخلفات الأغذية كوقود، أسوة بدول فعلت ذلك.
وأضاف د. خالد الرديعان أن البذخ استثمار لبناء سمعة جيدة reputation، والمجتمع يتقبّل ذلك دون إنكار لما يقوم به البعض من ضيافة تتجاوز المألوف. الكرم يمسح جميع عيوب الرجل حسب العرف الدارج، ولا يهد سمعة الرجل إلا البخل؛ هكذا هم العرب.
من جانبه ذكر م. خالد العثمان أن التعويل على التوعية لن يجديَ في علاج مشاكلنا، ومنها قضية هدر الطعام. من الضروري تأسيس حلول وإجراءات وفق سياسة العصا والجزرة؛ بين التحفيز على تقليل الاستهلاك وترشيده، والفرز، وغير ذلك من جهة؛ والعقوبة على الإهدار والإسراف، وإلقاء العبء على الأجهزة البلدية في جمع ومعالجة النفايات من جهة أخرى. بينما يعتقد د. خالد الرديعان أنه يصعب ضبط سلوك الأفراد الخاص جدًّا؛ كالكرم وما يجري داخل مساكنهم. الظروف الاقتصادية هي التي ستغيرهم. نستطيع كبح جماح مَنْ يقودون السيارات بجنون بحزمة قوانين، لكن يصعب تطبيق القاعدة ذاتها في سلوكيات أخرى. وراهن د. خالد الرديعان على أن التغيرات الاجتماعية ستحدث، لكن ذلك يحتاج إلى وقت أطول.
وأضاف أ. محمد الدندني نحن لا ندعو لمحاربة الكرم، فهذا من أفضل ما لدينا، ولكن يحتاج هذا الكرم إلى أن يُوجَّه توجيهًا صحيحًا. وتساءل: لِمَ لا نستطيع تغيير سلوك المجتمع والأفراد؟ والتاريخ الحديث مليء بالأمثلة شرقًا وغربًا، وتستطيع الدولة مع أجهزتها المختصة عمل الكثير. أمور كانت لا تناقش، واليوم تناقش، وفِي طريقها للتشريع والتقنين. نعرف قوة القرار السياسي في بلادنا والتزام الناس، بجانب هذا هناك ميزة مهمة في ثقافتنا، وهي القدوة الحسنة. مثلًا: عندما يرفض رجل ذو مكانة تصرُّف داعيه لوليمة فيها إسراف، فأعتقد أن هذا سيكون له صدى كبيرٌ ومؤثرٌ.
عادات بدوية وقبلية وثقافة مجتمعية:
يذكر د. خالد الرديعان أنه لاحظ أن الهدر في الطعام والبذخ الزائد يكثر عادة في المجتمعات ذات الرواسب البدوية والقبلية تحت مظلة الكرم، بعكس سكان المدن ممن لديهم حس أعلى بعملية الادخار والاقتصاد. البدوي بطبيعته يصرف بدون حساب، ولا يميل إلى الادخار، وحساب العواقب فيما يتعلق بالرزق كما يفعل سكان المدن. ومن يدخر عند البدو أو يظهر أنه كذلك، فقد يُوصم بأوصاف سلبية.
وأضاف أنه قد يسأل سائل: لماذا البدوي هكذا، أي غير مبالِ بالمادة، وربما مبذر؟ وهذا سؤال مشروع. هناك عادة حسنة عند البدو والقبائل عمومًا، وهي “العونة” والتكافل الاجتماعي؛ نجدها في مساعدة مَنْ يريدُ الزواج، ومن عليه دية أو غارم، بحيث يجمع له أقاربه وعصبته مبالغ أحيانًا أكثر من كافية، كنوع من العون الاجتماعي. ومع أن هذه العادة جيدة، وتشير إلى نوع من التكافل والتعاون، إلا أنها في الوقت نفسه تُكبِّل الأفراد بديون؛ فما يُدفع لك كفرد ستعيده مرة أخرى بصورة فرد لغيرك في مناسبات مختلفة. هذه الظاهرة لا نجدها عند الحضر الذين انفصلوا عن تأثيرات القبيلة، وبالتالي نجد هؤلاء أكثر ميلًا للادخار وترشيد الإنفاق، بحكم أنهم لا يحصلون على عون من المحيطين بهم إلا نادرًا. خلاصة ذلك: أن الثقافة السائدة تتحكم في سلوكنا بدرجة كبيرة، والفكاك منها قد يسبب لنا أذى معنويًا. ما نحن بحاجة إليه هو تفكيك الثقافة ونقدها، وبيان مواطن قوتها لتعزيزها، ونقاط ضعفها ووهنها لعلاجها أو التخلص منها.
اتفقت معه د. عبير برهمين، حيث ذكرت أن عدم وعينا كمجتمع يجعل ممارساتنا- حتى الدينية منها- عن غير فهم. فموائد الرحمن الرمضانية وفي مواسم الحج، الهدف منها إطعام الطعام، إلا أن المفاخرة والمباهاة تداخلت مع نوايانا الحسنة فأبطلتها. منذ زمن كان إفطار الصائم في مكة يعني أن تُخرِج طبقًا مما تأكله في بيتك، وتشارك عابر السبيل أو الضيف أو الجار دون تكلف؛ بل بكل ألفة ومودة، حتى أن البعض يسهم بجرعة ماء أو مذقة لبن دون حرج. اليوم من لا يمد المائدة الطويلة بكل ما لذَّ وطاب يُنظر إليه شزرًا. بل حتى إن البعض يطالعك باشمئزاز، إن قلت: لا أرغب في شراء كوبونات إفطار صائم، كما لو أنك ارتكبت جُرمًا؛ جَهلًا ومزايدة. وأصبحت موائد إفطار الصائم هي لعمال النظافة والفقراء، فصارت الصدقة بابًا لجرح مشاعر مَنْ لا يجد قوت يومه. ولعل مناظر فائض الطعام الذي يُرمى يكاد ينطق ليصرخ في وجوهنا: ألا تبطروا نعمة الله! وهناك ظاهرة أخرى لبعض الحجاج والمعتمرين الوافدين من بعض الدول العربية- خاصة في رمضان- في الحرم المكي، إذ يعمد الفرد منهم إلى تجميع ما يفوق قدرته على استهلاكه؛ طمعًا ومنعًا لغيره، لتجده نهاية اليوم قد رمى بنصف ما جمعه في النُّفايات. وهذا ليس من باب الكرم ولا الصدقة في شيء.
أيضًا، وفي تعليقها على هذا الطرح، اتفقت أ. عبير خالد مع د. خالد الرديعان في أن الحل باختصار يكمن في تفكيك الثقافة ونقدها، والتخلص من مواطن الضعف فيها، والتي لا تتماشى مع الوضع الحالي. قد نحتاج لوقت طويل كي ننجح في ذلك، وقد نحتاج لتوظيف فاعل جدًّا للإعلام والمحتوى الاتصالي في مرحلتي التفكيك والمعالجة الثقافية لظاهرة البذخ في الطعام والمال وغيره.
واختلف د. مساعد المحيا في حصر ذلك في غير الحضر؛ إذ المُشاهَد أنَّ كثيرًا من مظاهر الإسراف توجد في حفلات الكثيرين من سكان المدن الحضرية الذين يبالغون في الاهتمام بأنماط الحلوى والأطعمة ذات التكلفة العالية، وبخاصة في الفنادق والمطاعم الفاخرة والجيدة، ثم تُرمى في الحاويات.
وذكر د. خالد الرديعان: نحن شعبٌ عانى من الندرة والجوع في مراحل تاريخية، وكنا نقتسم اللقمة بين بعضنا البعض مهما صغرت، وكنا نترك بلادنا، ونهاجر إلى الخليج، والهند، والشام، ومصر؛ بحثًا عن لقمة العيش، وللبقاء على قيد الحياة. وأجزمُ أن التشوهات التي جاءت لاحقًا جاءت مع النفط والوفرة؛ لأن المقاييس الاجتماعية تغيرت. في السابق كان مقياس الثروة هو الحيوانات والمزارع، وهي ثروة مرئية visible للجميع، فالكل يعرف ما لدى فلان وفلان. ومع النفط والغنى وسكنى المدن، أصبحت ثروة الأفراد خفية invisible، فهي في البنوك والصكوك، ولم نعد قادرين على معرفة ثروة أحد. وبحكم ولعنا بالصيت والشهرة والهياط-لمردودها الاجتماعي- لم يكن أمامنا من وسيلة لعرض ثرواتنا إلا بمثل هذه الموائد التي تُصنع وتُقدَّم في مناسباتنا. لعل الوضع الاقتصادي الذي نعيشه الآن قد دقَّ ناقوس الخطر، لنعود إلى وضعنا الطبيعي، وبساطتنا التي افتقدناها في خضم التحديث والعصرنة.
وتعليقًا على ما سبق، يرى أ. محمد الدندني أن هذا دليل على أننا لا نرتكز على وعي يسّير أمورنا؛ هو يعرف أنه إسراف، وهو يعرف أنه يقود السيارة بتهور، وهو يعرف أنه يتأخر عن عمله ولا ينجز المطلوب منه، هو يعرف أن أولاده يطلبون طعامًا من المطاعم كثيرًا وخاصة الوجبات السريعة، وغيرها…. ومع أن الإعلام والنصيحة لا غنى عنهما، إلا أنني أرى أنهما لن يُؤثِّرا كثيرًا؛ فالموضوع شمولي، وهو عدم الاكتراث، وعدم الالتزام. هنا الخلل الشامل، ونحتاج لسبر الخلل بعمق، ووضع الحلول. وأضاف إلى ذلك د. خالد الرديعان، أؤمن جدًّا بحتمية العامل الاقتصادي في إحداث تغييرات اجتماعية بنيوية؛ فالقضية تحتاج إلى وقت.
الأضرار والآثار السلبية:
وحول الأضرار والآثار السلبية الناجمة عن مشكلة هدر الطعام وآثار بقايا الطعام، ذكر م. خالد العثمان أن كمية النُّفايات الإجمالية في المملكة تبلغ حوالي 26 مليون طن في السنة، بمعدل زيادة يبلغ حوالي 3% سنويًّا؛ من هذا الرقم تُمثِّل النُّفايات العضوية حوالي 55%، أي حوالي 15 مليون طن سنويًّا. والنُّفايات العضوية- بالطبع- تتكون بشكل رئيس من بقايا الأطعمة، والمكونات الاستهلاكية العضوية. هذا بالطبع هو الرقم الوارد إلى المرادم، ولا يشمل النفايات التي تُرمى خارج المرادم البلدية النظامية. ووفق استراتيجية إدارة النفايات التي أعدتها هيئة تطوير الرياض، تبلغ كمية النُّفايات في الرياض فقط حوالي 10000 طن يوميًّا، أي حوالي 4 ملايين طن سنويًّا، تمثل النفايات العضوية منها نفس النسبة؛ أي حوالي 2 مليون طن سنويًّا.
وفي تعقيبه على ذلك، تساءل د. عبد الرحمن الشقير: هل يقابل ذلك جمعيات لإدارة فائض الأطعمة بشكل صحي، وشركات إعادة تصنيع فائض الطعام؟ في إطار ذلك، ذكر م. خالد العثمان أنه نقلًا من موقع جمعية إطعام، فإن عدد الوجبات التي حفظتها الجمعية في 2017 بلغت أكثر من 3 ملايين وجبة، استفاد منها أكثر من 20000 شخص. بالرغم من هذا الجهد إلا أنه لا يُمثِّل إلا نزرًا يسيرًا من الأرقام الموثقة عن كميات الطعام المُهدَرة. إضافة إلى أن هناك جمعيات لحفظ النعمة في بريدة، وحائل، والجبيل، وجدة، وربما في مدن أخرى، لكن هي أيضًا قائمة على جهود خيرية شخصية وموارد مالية محدودة، ولا تُحدث شيئًا معتبرًا من الأثر المأمول.
كما أضافت د. نوف الغامدي أننا لدينا مشكلة بيئية كبيرة، تتمثل في كيفية التعامل مع مخلفات الطعام وإعادة تدويرها بشكل مستدام، حيث يمكن-مثلًا- تحويل مخلفات الطعام إلى سماد، ويخزن في منطقة محددة، وبالتالي تصبح ثقافة منزلية. لماذا لا تُعمم مثل هذه التجارب من الدولة؟ وتساءلت عن تأثير هذا الهدر على البصمة الغذائية. وفي اعتقاد م. خالد عثمان، أن المقصود الأمن الغذائي وليس البصمة الغذائية، فإهدار ما قيمته 50 مليار ريال من الأطعمة ليس إهدارًا ماليًّا فقط ، بل واقعًا يتعارض مع كل الجهود الساعية لتحقيق الأمن الغذائي. إلا أن أ. محمد الدندني يرى أن البصمة الغذائية مهمه جدًّا، وهي للأسف أيضًا سيئة. أما تناقض الأمر في الإسراف والهدر مع الأمن الغذائي، فهذا ما يوجب ما ذكر م. حسام عن التصحيح السياسي.
حلول فردية ومجتمعية:
وفي إطار الحديث حول الحلول الفردية والمجتمعية المقترحة للحد من هذه الظاهرة، والعمل على التخلص منها داخل المجتمع السعودي، يقترح د. خالد الرديعان وضع ثلاجات في بعض المساجد، تُوضع فيها بقايا الطعام للعمال والمارة والمصلين. وذكرت فايز الحربي أن بعض المطاعم والأسواق يشجعون ذلك لكنهم قلة. واتفق معهما أ. محمد الدندني في أنها عادات جميلة، ليتها تُعمم. ولكن ذلك يدعو للتساؤل: هل نحن بصدد حل يتعامل مع الإسراف كحقيقة حتى نفكر في حفظه وتوزيعه؛ أو تقليل الفائض، ونقلل من الحفظ وطرق التوزيع، حتى لا ينتهي في صناديق القمامة؟
وحول التعامل مع مشكلة الإسراف في طلب الطعام في “المطاعم” بكميات كبيرة، سواء تم استهلاكه أم لم يتم استهلاكه، يتصور د. خالد الرديعان أنه لا يوجد مشكلة في وجبات المطعم، إذ يمكن حمل المتبقي بعد تغليفه، وتناوله لاحقًا أو إعطاؤه شخصًا آخر، وهذا شائع الآن بين السعوديين. بينما يذكر أ. محمد الدندني أن البعض يخجل أو يستنكف أخذ باقي الأكل للبيت، أو يعطيه من يحتاج.
واقترح د. خالد الرديعان تدبيرًا مناسبًا لحفظ الطعام يمكن تطبيقه في المنازل، يتمثل في إمكانية عدم الطهي يوميًّا، إذ يمكن الطهي مرة كل يومين أو ثلاثة أيام، بحيث يتم استهلاك جزء من الطعام، وحفظ المتبقي مبردًا للاستهلاك لاحقًا، وهذا فيه توفير للجهد والطاقة والطعام، بل ويخفف الأعباء على الأسر التي ليس لديها شغالات.
وفيما يخص الولائم المنزلية، ففكرة البوفيه مفيدة جدًّا بدلًا من الذبائح بالطرق التقليدية؛ وذلك لداعي التوفير، ليستهلك كل شخص حاجته؛ ولداعي نظافة الطعام المتبقي لاستهلاكه لاحقًا. وقد لوحظ انتشار ذلك في ولائم الأفراح والمناسبات، لكن يبقى اقتناع شريحة واسعة من السكان بهذه الطريقة. أيضًا، من العادات الشائعة في مجتمعنا شراء كميات كبيرة من الخضار والفواكه (بالصندوق)، قد لا يتم استهلاكها بالكامل، ويضطر إلى رميها لاحقًا، ولعل الشراء بالوزن وحسب الحاجة ليوم ويومين هو أفضل طريقة لتجنُّب الهدر. فالأوروبيون- مثلًا- يشترون حبتين من الخضار أو الفاكهة، وربما حبة واحدة؛ نحن لا نريد هذا الأسلوب، ولكن التوسط في الأمر هو المطلوب. من المهم كذلك وضع قائمة بالمشتروات قبل الذهاب إلى السوق، وشراء ما يحتاج بالقائمة فقط؛ لتجنُّب الهدر، وشراء ما ليس له حاجة ملحة. واقترح أ. محمد الدندني أن يكون في البيت حافظات بلاستيكية بمختلف الأحجام. عندما يزيد الأكل نضعه في الحافظات، ثم نضعه في الثلاجة حتى يتم إعطاؤه لأي أحد.
وترى د. نوف الغامدي أن هذه المقترحات ربما تتحدث عن تغيير العادات الاستهلاكية. وهو ما أكده د. خالد الرديعان، حيث ذكر أن جزءًا من سلوكنا يتعارض تمامًا مع متطلبات المجتمعات عالية الحضرية. وتيرة التحضُّر عندنا عالية، وتتصادم في الوقت نفسه مع قيم اجتماعية تقليدية؛ مما يخلق صعوبات للأفراد. وأضافت أ.علياء البازعي أن تغيير العادات الاستهلاكية أساسٌ لمحاربة الهدرين الغذائي والمالي؛ فوضع قائمة أسبوعية للطعام والشراء، على أساسها يُوضع حدٌ للمصروفات وللهدر في آن واحد.
من جانبه، اقترح أ. جمال ملائكة أحد الحلول التي يمكن أن تأخذ وقتًا، إلا أن لها تأثيرًا كبيرًا على المدى الطويل، وهي تضمين مناهج الروضة والابتدائية جرعات تربوية بطرق فنية أمورًا، مثل: موضوع هدر وفائض الطعام، والنظافة، واحترام الطوابير والمواعيد، ومعاملة المربيات والسائقين.. إلخ.
وفي إشارة إلى تعقيب د. الجازي، ذكر د. علي الحارثي أن الحل الأمثل أن يبدأ الإنسان بنفسه وبأسرته وبمن حوله من الأقارب ما استطاع إليه سبيلًا. القدوة الحسنة من أزكى وأغزر التأثير في تغيير السلوك الخاطئ، خاصةً إذا ارتبط بالمفهوم الديني، وما أكثرَ الآيات والأحاديث التي تحثُّ على ذلك! وما أشير إليه من أننا أصبحنا متصدرين العالم في الإسراف والهدر، هذه مأساة! وأرى أن المباهاة والتفاخر، والخوف من النقدين القبلي والاجتماعي؛ هي من كرَّس ويكرِّس هذا السلوك المقيت.
وأضافت د. عبير برهمين: إننا شعب متعلم، لكننا شعب بغالبيته غير واع، وتغالبنا الكثير من القيود الاجتماعية والمفاهيم الاجتماعية المغلوطة، ولو أن كل أسرة بدأت بنفسها لتكونت ثقافة مجتمعية راقية. واتفقت معها د. نوف الغامدي، حيث ذكرت أن ثقافة المنازل، وحتى ثقافة الطعام، كانت مبنية على إعادة تدوير الطعام والاستفادة منه في أطعمة أخرى، وظهرت أكلات شعبية على هذا المبدأ، مثل: الهريسة، وغيرها. فثقافة التعامل مع الطعام الفائض لابد أن تكون ثقافة أسرية، وثقافة مجتمع، وسلوك مؤسسي. فبعض الجهات في إسبانيا تعمل على تدوير الفواكه وتحويلها إلى مربى؛ للاستفادة منها.
حلول قانونية وإعلامية:
في تصوُّر أ. محمد الدندني، واتفق معه د. علي الحارثي؛ أنه لابد أن يكون للدولة دورٌ مباشرٌ؛ كسنِّ بعض القوانين الممكن تطبيقها، بجانب جهود الإعلام في ذلك، من خلال القيام بعمل حملات للتوعية، خاصة في مناسبات رمضان والأعياد والصيف، وهي أكثر الفترات التي تكثُر فيها حفلات الزواج، وما بها من هدر ومبالغة.
بينما م. حسام بحيري يعتقد أنها مسؤولية اجتماعية وإعلامية أكثر من كونها قانونية. وإذا أرادت الدولة إيصال رسائل توعوية بهذا الشأن للمجتمع، تستطيع أن تتعاقد مع مختصين إعلاميين لنشر رسالتها، والوصول لأكبر عدد ممكن من المواطنين؛ فالوسائل الإعلامية الحكومية ليس لديها الانتشار الإعلامي التي كانت تتمتع به في الماضي.
وأضاف م. خالد العثمان أن نسبة كبيرة من فوائض الأطعمة تأتي من الفنادق والمطاعم. هذه الجهات أصبحت خاضعة لرسوم جمع النفايات البلدية التي فُرِضت مؤخرًا. الأمل الآن أن تنعكس هذه الرسوم إيجابًا على معدلات الشراء والاستهلاك الرشيد، وليس فقط تحميل هذه الرسوم تكاليف إضافية في فواتير هذه الجهات على المستهلكين. وفي السياق نفسه، ذكر د. خالد الرديعان أن إحدى المفردات السابقة لرسوم البلديات تضمنت مقترحًا لفرض رسوم جَمْع النفايات على أساس ربطها استهلاك الكهرباء في الوحدة السكنية. وأرى أن هذه الطريقة غير عادلة، ولا تُحفِّز من ترشيد الاستهلاك الغذائي؛ لأنها لا تستهدف كميات الأطعمة والنُّفايات مباشرة، بل تسترشد استهلاك الكهرباء الذي يرتبط عادة بعدد السكان في الوحدة السكنية. البديل أن يكون فرض رسوم جمع النفايات مرتبطًا بكميات النفايات المسلمة.
مبادئ مقترحة لحل مشكلة هدر الطعام:
اقترح م. خالد العثمان مجموعة من المبادئ لحل مشكلة هدر الطعام؛ الغرض منها فهم الدورة الشاملة لما يُسمَّى الإدارة البيئية المتكاملة التي تحقق مفهوم الاقتصاد الدائري. وهي ذات صلة لصيقة بقضية هدر الطعام، حيث إن نسبة المكون العضوي الناتج من فوائض الأطعمة في النُّفايات يمثل أكثر من 55%. أول هذه المبادئ هو تقليل كمية الفوائض غير المستهلكة من الأطعمة، والتي تصبح نفايات بعد ذلك. لتحقيق ذلك يلزم اتخاذ العديد من الإجراءات بين التوعية، والتحفيز، والغرامات، وغير ذلك. من ذلك-بالطبع- معالجة السلوكيات المنفلتة من مباهاة ومظاهر، وجشع، وغير ذلك.
المبدأ الثاني: هو إعادة الاستخدام. وهو ما تقوم به الجمعيات الخيرية وبنوك الطعام عبر استلام فوائض الأطعمة وتهيئتها وتغليفها، وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين. وهو جهد يحتاج إلى كثير من الدعم والمأسسة؛ لتحقيق الاستدامة والاستقرار له، مع تدعيمه بالموارد اللازمة لرفع كفاءة الأداء فيه، مثل: تزويده بالتجهيزات اللازمة لتخزين الأطعمة في بيئات مبردة مناسبة؛ لإطالة عمر هذه الأطعمة، وتحسين فرص إعادة استخدامها.
المبدأ الثالث في صناعة إدارة النفايات يتعلق بمفهوم الاسترجاع، ويعني ذلك العمل على استخلاص واسترجاع المواد التي يمكن أن تدخل في استخدامات أخرى، أو دورات انتاجية أخرى. في حالة النُّفايات العضوية هذا المبدأ أقل وضوحًا عنه في حالة بقية أنواع النفايات، لكن هناك تجارب في دول أخرى تقوم على استخلاص مكونات وعناصر عديدة من النُّفايات العضوية، وتحقيق عوائد استثمارية منها. من ذلك-مثلًا- استخلاص المكونات الحيوانية لإنتاج الجيلاتين والزيوت الحيوانية، وبعض المكونات الكيميائية التي تدخل في صناعة مستحضرات التجميل، واستخلاص العناصر النباتية لتهيئتها كأغذية للحيوانات والبهائم.
المبدأ الرابع: هو المبدأ الذي يمثل حديث العالم المتقدم، ويحمل صلب القيمة الاقتصادية والاستثمارية لهذا القطاع ” التدوير”، ويعني تفكيك عناصر النفايات إلى مكوناتها الأصلية، أو تحويلها إلى منتجات جديدة قابلة للاستخدام المباشر، أو قابلة لأن تكون عناصر مدخلة في دورة إنتاجية جديدة. التدوير هو الأساس الذي يتحقق به مفهوم الاقتصاد الدائري، وهو المصطلح الذي بات طافيًا في العالم المتقدم، ويعني إغلاق دورة الإنتاج بشكل كلي، بحيث لا يصبح هناك أي نفايات تمامًا بشكل فعلي. كما أن التدوير له تطبيقات متنوعة ومتعددة، ووفق تقنيات مختلفة تتفاوت بين التعقيد والبساطة، وبين التكاليف الفلكية والاستثمارات البسيطة العملية. وتتفاوت الحلول بحسب تركيبة النفايات وخلطتها ومكوناتها، ومدى تطبيق ممارسات الفرز المسبق واللاحق، وتكاليف الجمع والنقل، والرسوم الحكومية، والحوافز، وعوامل كثيرة جدًّا. إضافة إلى أن التدوير مفهوم صناعي يتطلب ليس فقط الاستثمار في بناء معامل التدوير، بل يتطلب قبل ذلك إكمال الدورة الصناعية بدعم حكومي موجه، وذلك عبر ضمان الحصول على المدخلات، وهي في هذه الحالة النُّفايات، وبعد ذلك ضمان تصريف وتسويق المنتجات في السوق الاستهلاكي. في حالة النفايات العضوية التي تتكون من فائض الأطعمة، في الغالب- بحسب موضوع القضية- فإن مجالات التدوير تتراوح بين تحويل النفايات بالوسائل البيولوجية والتخمير إلى سماد ومحسنات للتربة، وكذلك تحويل النفايات العضوية إلى غازات تُستخدم في إنتاج الطاقة. وللعلم فإن النفايات العضوية هي المكون الأكثر خطرًا في خلطة النفايات البلدية؛ لأنها تتحلل في المرادم، وتنتج سوائل تتسرب في طبقات التربة، وتؤثر على جودة المياه الجوفية، وكذلك تنتج غازات قابلة للاشتعال، كما أنها تمثل بيئات خصبة للأمراض والبكتيريا، وتجمع الحيوانات الضالة والقوارض. فالتدوير منهج حتمي إن أردنا معالجة مشكلة النُّفايات في المملكة عمومًا، والنُّفايات العضوية على وجه الخصوص.
المبدأ الخامس والأخير هو التخلص الآمن. ويعني التخلص من الجزء الذي يتعذر الاستفادة منه في المراحل السابقة. ويعتبر ارتفاع نسبة الجزء الذي يذهب للتخلص الآمن مؤشرًا على فشل تطبيق المبادئ الأربعة السابقة. كما أن التخلص الآمن في حد ذاته يمثل تحديًّا بيئيًّا لضمان تحقيق عنصر الأمان في التخلص، وتقليل الآثار السلبية على البيئة. يتم التخلص الآمن بإحدى طريقتين: إما الردم في المرادم الهندسية المؤمنة والمبطنة، ومن ثم الدفن والتغطية، وتطوير تلك المواقع كحدائق وساحات عامة؛ أو الحرق، وهو من ناحية يمكن أن يكون مصدرًا للطاقة، ومن ناحية أخرى ينتج عوادم خطرة يلزم التعامل معها بحساسية عالية.
تجارب عالمية للتعامل مع مشكلة هدر الطعام:
واستعرض البعض نماذج من التجارب العالمية في التعامل مع قضية فائض الطعام، حيث ذكر د. خالد الرديعان أنه رأى تجربة في تركيا، تتمثل في تخصيص مطاعم عامة للمحتاجين يأتون للأكل بها، وهي ملحقة بالجوامع الكبيرة، ويتم إحضار الطعام من أهل الخير الذين يفيض عندهم أطعمة، كما أنهم يدعمونها نقدًا كذلك. هل يوجد لدينا مطاعم من هذا النوع؟ طبعًا لا. وأتوقع أنها لو وُجدت فإنه سيكون هناك من يقاوم وجودها من أصحاب المصالح.
وذكرت د. نوف الغامدي أن فرنسا قامت بإصدار قانون ضد إهدار الطعام، وحظرت على المتاجر عدم التخلُّص من الطعام غير المباع، وفرض عقوبة بالسجن عامين وغرامة بقيمة 75,000 يورو للمخالفين. وفي الدانمارك، هناك تطبيق “تو غود تو غو” لبيع الفائض من الطعام من المطاعم. وفي ألمانيا، يتم تجميع بقايا المواد الغذائية وتحويلها إلى طاقة.
أضاف د. خالد الرديعان، أنه انتشر منذ فترة مقطع لماكينة منزلية صغيرة بحجم الغسالة الصغيرة، تحول فائض الطعام إلى سماد للنبات. اتفق معه م. خالد العثمان بأن هذا الجهاز موجود فعلًا، لكنه يواجه الثقافة التي تستكثر إنفاق مبلغ يقارب 4000 ريال على مثل هذا الجهاز، مقابل إهدار أضعاف هذا المبلغ، ورمي فوائض الأطعمة في القمامة.
¤ التوصيات المقترحة:
تفعيل دور الإعلام بمختلف وسائطه النوعي والتقليدي والجديد، في التوعية بسلبيات هدر الطعام، والبدائل المأمولة.
العمل على إعداد وتنفيذ برامج وأنشطة تطوعية للشباب من الجنسين، ونشاطات عملية للطلبة والطالبات للحد من الهدر الغذائي؛ كاستلام فائض الأطعمة وتوزيعها. إضافة إلى ما تقوم به الجمعيات الخيرية (نشاط تطوعي)، وتخصيص أسبوع “حفظ الطعام” بالسعودية مع جهات مختلفة لاعتماد هذا الأسبوع، على غرار أسابيع التوعية المختلفة.
تربية الأبناء تربية صحية فيما يتعلق بحسن الاختيار لنوع الأطعمة، ونشر ثقافة الأكل الصحي، والحفاظ على الطعام من الهدر بين الطلاب، وتضمين ذلك في المناهج الدراسية.
التسريع في سنّ القوانين الخاصة بهدر الطعام، من خلال تشريعات تنظيمية، وربطها بفتاوى دينية تُحرِّم الإسراف والتبذير في الطعام.
إعادة تدوير النفايات والتوعية بأهمية ذلك؛ لما لها من فائدة بيئية، وإيجاد فرص عمل للشباب (من خلال تخصيص أرض للجمعيات الخيرية لإنشاء مصنع من قبل أمانات المدن).
دعوة أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والمزارع الإنتاجية، والفنادق ومن في حكمها؛ لإعداد خطة لتقليل الفاقد في الأغذية المهدرة.
زيادة الوعي في قواعد التسوق، ووضع خطة للاستهلاك، وتشجيع التسوق التكافلي.
تعزيز العمل الاحترافي في جمعيات حفظ الطعام، ودعمها بالموارد اللازمة لرفع كفاءة الأداء في الاستفادة من فوائض الأطعمة، وتعميم جهودها على مختلف مناطق المملكة.
وضع قاعدة بيانات أو تطبيقات، لتسهيل وتطوير قنوات التواصل بالأسر والعمالة المحتاجة؛ لتزويدهم بفائض الطعام مباشرة.
تخصيص مواقع ثابتة مجهزة في مراكز الأحياء، تقوم باستلام الأطعمة من المتبرعين، وتسليمها مباشرة للفئات المستفيدة، أو لمن يقوم بهذه المهمة.
التواصل مع قاعات الأفراح والفنادق والمخيمات والاستراحات؛ لاستلام الفائض من الأطعمة، وتوزيعه بصورة نشاط تطوعي، يمارسه البعض كالمتقاعدين، إضافة لما تقوم به بعض الجمعيات الخيرية.
اعتذار رموز الدولة، مثل أمراء المناطق عن قبول الدعوات التي فيها إسراف، واشتراط العقلانية في كمية الأكل، والتواصل شخصيًّا مع شيوخ القبائل وأعيان القرى، والمناصحة بالحد من الهدر المبالغ فيه.
ممارسة ثقافة الاعتدال من قبل رجال الأعمال وقدوة المجتمع القادرين على البذخ، بما يشجع على الاقتداء بهم من قبل أطياف المجتمع، بممارسة قيم جديدة تحد من مظاهر البذخ والإسراف.
الملخص التنفيذي لقضية:
فائض الأطعمة.. هدر مالي وسلوك اجتماعي غير مقبول
تناولت الورقة الرئيسة التي قدمها م. خالد العثمان، مشكلة هدر وفائض الطعام، وذكر أن المملكة تأتي في مقدمة الدول الأكثر إهدارًا للطعام في العالم نسبة إلى عدد السكان. فالسعوديون يهدرون حوالي ثلث مشترواتهم السنوية من الأطعمة المتنوعة، وأن معدل إهدار الطعام في السعودية يبلغ 427 كيلو غرام في السنة للفرد الواحد.
وتناولت الورقة بعض أسباب تقدُّم المملكة على غيرها في هدر الطعام، حيث شملت مظاهر الكرم، والتفاخر، والوجاهة الاجتماعية. وفي المقابل فإن الواقع يشهد غيابًا شبه تام لأية جهود فاعلة للتوعية من مخاطر وعواقب إهدار الطعام، وفرض مخالفات رسمية على مثل هذه الممارسات.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة، في أن قضية فائض الأطعمة من القضايا المهمة على كل المستويات: الديني، والإنساني، والاجتماعي، والاقتصادي. وبالتالي فهي تحتاج إلى بذل الجهود لرفع مستوى الوعي الاجتماعي بأهمية تقنين استهلاك الأطعمة إلى مستوى كفاية الأشخاص من دون إسراف. وهذا وحده لا يكفي بمعزل عن القوانين والإجراءات الرادعة للمخالفين، سواء من الأفراد، أو المؤسسات، أو الجماعات، أو غيرهم.
كما أن ما يحصل من هدر أو إسراف في الطعام في السعودية هو سلوك تجاوز الفردية، فأصبح له واقع اجتماعي، وانتشر بشكل مقلق. فالأرقام التي وردت في الورقة الرئيسة مؤشر خطير لما وصلنا له؛ بسبب بعض العادات والتقاليد التي أصَّلت لمثل هذا السلوك.
وعلى الرغم من سواد الصورة وقتامتها، إلا أن هناك أمل نتيجة كثرة وتعالي الانتقادات الدائمة لمثل هذا الفعل، واستنكار شريحة كبيرة من أفراد المجتمع للهدر والتبذير الحاصل، وهذا مؤشر إيجابي، فأول العلاج الاعتراف بوجود المرض.
وناقشت المداخلات التي دارت حول موضوع القضية أبعادها ومظاهرها؛ حيث تصور البعض أن هذه الظاهرة لها عدة أبعاد: بُعد استراتيجي كاقتصاد مهدر، وبُعد اجتماعي كثقافة سلوكية، وبُعد ثقافي في التعامل مع الفائض. وربما أن البُعد الاجتماعي هو أكثرها بروزًا وتأثيرًا في وجود مشكلة هدر الطعام. أيضًا فإن جزءًا كبيرًا منها متعلق بعادة الكرم عند المجتمع السعودي.
واعتبر البعض أن الوعيين الاجتماعي والإعلامي للحد من هذه الظاهرة وقعهما ضعيف، ولم يأت بنتيجة؛ ولذلك فمن الضروري تأسيس حلول وإجراءات، مع الاتفاق على صعوبة ضبط سلوك الأفراد، وخاصة فيما يتعلق بمسألة الكرم.
أيضًا، تم طرح بعض الأضرار والنتائج السلبية الناجمة عن مشكلة هدر الطعام وآثار بقايا الطعام، مثل كمية النفايات العضوية التي تتكون بشكل رئيس من بقايا الطعام والمكونات الاستهلاكية العضوية، وهو ما يقترب من حوالي 15 مليون طن سنويًّا.
واقترح المناقشون مجموعة من الحلول التي تنوعت ما بين حلول فردية ومجتمعية، أو حلول قانونية وإعلامية؛ للحد من هذه الظاهرة.
كما أكد البعض أنه لا بد أن يكون للدولة دورٌ مباشر في هذه القضية، من خلال سنّ قوانين، وعمل حملات إعلامية للتوعية.
وأخيرًا تم استعراض بعض التجارب العالمية لحل مشكلة هدر وفائض الطعام في كلٍّ من تركيا، وفرنسا، والدانمارك، وألمانيا.
وفي النهاية خرجت المناقشة بمجموعة من التوصيات، أهمها: تفعيل دور الإعلام في التوعية المجتمعية بسلبيات هدر الطعام. وإعداد وتنفيذ برامج وأنشطة تطوعية للشباب من الجنسين، وفرض جزاءات رادعة على المطاعم وقصور الأفراح والفنادق التي تمارس هدر الطعام.
بالإضافة إلى التسريع في سنّ القوانين الخاصة بهدر الطعام. وضرورة الاهتمام بإعادة تدوير النفايات والتوعية بأهمية ذلك.
والتأكيد على أهمية تفعيل خطب الجمعة والدروس والمحاضرات، للحديث عن الإسراف والهدر، وربطها بتعاليم الدين والصحة العامة، مع العمل على تقنين وتنظيم موائد إفطار رمضان بإشراف من أئمة المساجد.
المحور الثالث
واقع الإدارة التربوية والنظرة المستقبلية لها في العملية التربوية التعليمية
المحور الثالث
واقع الإدارة التربوية والنظرة المستقبلية لها في العملية التربوية التعليمية:
تتناول الورقة الرئيسة التي يقدمها أ.د راشد العبد الكريم قضية الإدارة التربوية “الواقع والنظرة المستقبلية”، من خلال التناول بالنقد والتطوير لواقع الإدارة التربوية في المدرسة، ومناقشة مسمياتها وتخصصاتها، والمهام والمسؤوليات، ومشاكل المعوقين لها، والممارسات التي تحدُّ من فعاليتها، وبعض رؤى وممارسات التطوير، مثل ابتعاث المعلمين لنقل التجارب الخارجية في الإدارة التربوية، وكذلك ربطها برؤية 2030، وأخيرًا بعض التوصيات المقترحة.
¤ الورقة الرئيسة: أ.د. راشد العبد الكريم.
مع اختلاف أنواع المؤسسات، إلا أن من المتفق عليه أن للإدارة دورًا فاعلًا في نجاح أي مؤسسة. فالإدارة – بتوجهاتها الحديثة – تضع الرؤية، وترسم الأهداف، وتحفز على العمل. ولعله ليس من المبالغة في شيء إذا قيل: إن المكون الأول لنجاح أي مؤسسة هو (الإدارة). إلا أنه مع تلك الأهمية للإدارة، يمكن أن تكون الإدارة أيضًا عامل فشل رئيس، أو معوقًا رئيسًا لنجاح المؤسسة. والإدارة التربوية للمدرسة ليست استثناءً.
وحيث إننا في خضمّ بحث عن سُبُل تطوير لنظامنا التربوي، فإن من العناصر الرئيسة التي يجب التوجه لها بالنقد والتطوير الإدارة التربوية على مستوى المدرسة.
واقع الإدارة التربوية في المدرسة:
يغلب على الإدارة التربوية للمدرسة التوجه التقليدي للإدارة. فغالبًا لا يتجاوز دور مدير المدرسة حدود تسيير الأمور الروتينية للمدرسة. ولو كان المدير ذا حسٍّ إبداعي، ورغب في التطوير، فإن تطويره في الغالب يكون في حدود الإطار التقليدي المسموح به، والذي في الغالب لا يتجاوز الشكليات، أو الأمور الثانوية. يكاد ينعدم الأثر التربوي الإيجابي من الإدارة التربوية في المعلمين والطلاب؛ لفشل النموذج الإداري المدرسي في إيجاد بيئة تربوية داخل المدرسة تهيئ لمثل هذا الأثر.
الدور التربوي للإدارة المدرسية يكاد يكون مفقودًا؛ بسبب ضعف التأهيلين المعرفي والمهاري لكثير من المديرين، وعدم وجود قنوات نظامية تساعد على إيجاد هذا الدور وتفعيله. فكثير من المديرين لا يلمُّ بالأدوار القيادية التربوية الحديثة لمدير المدرسة، وإن ألمَّ بها نظريًّا فغالبًا لا يمتلك المهارات اللازمة لممارستها. وفي حال امتلاكه لتلك المهارات فمن العسير عليه في كثير من الأحيان ممارستها في ظل ثقافة “إدارة تسيير الأمور” الشائعة في النظام التعليمي.
من الأسباب الرئيسة لضعف دور الإدارة التربوية، عدم وجود الصلاحيات اللازمة لاتخاذ القرار التربوي. فالملاحظ أنه لا تكاد توجد مساحة لمدير المدرسة ليتخذ القرارات، وإنما هو يسير في إطار لوائح وأنظمة لا يستطيع أن يتخذ فيها قرارًا إلا بشيء من المخاطرة التي قد يكون ثمنها في بعض الأحيان مكلفًا بالنسبة له. فمثلًا: قد يعاني مدير المدرسة من معلم مهمل أو غير صالح للعمل؛ بسبب أن النظام لا يمكِّنه من اتخاذ قرارات حاسمة معه. فكل ما يمكنه هو الرفع بأمره للجهات الأعلى، وغالبًا ما تمرُّ سنوات دون اتخاذ أي إجراء.
والمتأمل في واقع الإدارة التربوية-سواء على المستويات العليا، أو الوسطى، أو الإدارة المدرسية-يرى أنها لا تتعدى في أحسن أحوالها دور الإدارة العامة التقليدية. فكثير من مسؤولي الإدارة التربوية (بما فيهم مديرو المدارس) لا يتعدى دورهم متابعة تنفيذ المهام والإجراءات الروتينية، بحيث إنك لو سألت أحدهم عن خطة المدرسة فلا تجد عنده إلا جدولًا بهذه المهام وتواريخ استحقاقها. وقد جاءت موجة (الجودة) فوجدت فيها الإدارة التربوية نوعًا من التنفيس من ناحية التركيز على الجانب التوثيقي الورقي، وإبراز دور العمليات، والانشغال بها على حساب الغايات، غالبًا.
الأسباب: يمكن تلخيص الأسباب في سببين رئيسين:
الأول: غياب مفهوم الإدارة الحديثة القائم على مفهوم القيادة التربوية، والعمل الفريقي التشاركي، وما يلزم ذلك من إعطاء صلاحيات، وتخطيط مؤسسي استراتيجي. وقد يكون من أسباب ذلك اختيار المديرين من المعلمين المتميزين في الجوانب التنظيمية، وعدم إعدادهم في مجال الإدارة التربوية.
الثاني: عدم وجود أنظمة إدارة تربوية محدثة، تتوافق مع متطلبات الإدارة التربوية الحديثة، وتراعي اللامركزية، وتوفِّر الحوافز، وتعطي الصلاحيات الحقيقية لمديري المدارس ومجالسها. وقد يكون من أسباب ذلك الرؤية التقليدية للإدارة بشكل عام، وللإدارة التربوية بشكل خاص لدى الوزارة.
ولتطوير الإدارة التربوية للمدرسة لا بد من النظر بعين الاهتمام للجوانب التالية:
تطوير نظام الإدارة التربوية للمدارس، بحيث يعطي نوعًا من الاستقلالية للمدرسة.
– الاستفادة من المفاهيم الحديثة في الإدارة التربوية.
– تحديد ميزانيات كافية للمدارس.
– إعطاء صلاحيات حقيقية لمديري المدارس.
– إيجاد مجالس إدارة فاعلة للمدارس .
– إيجاد نظام حوافز لمديري المدارس.
– إيجاد نظام محاسبية accountability للمدارس.
¤ التعقيب الأول: د. خالد بن عبد الله بن دهيش
بالرغم مما يتم من تحسين وتطوير مستمر للإشراف التربوي على المدارس، إلا أن التحسُّن حتى الآن لم يتحقق لأسباب عديدة، ذكر منها د/ راشد الأهم. ومن الأسباب الأخرى: تأخُّر التحسين بسبب البطء فيه، وكثرة تعاقب الوزراء ونوابهم ووكلائهم في وزارة التعليم أدَّى إلى ضعف العمل المؤسسي بكثرة التغيير والتعديل في المشاريع التطويرية بالوزارة، والتي نأمل أن تستقر مع برنامج التحوُّل الوطني 2020، ورؤية المملكة 2030 المبنية على التخطيط الاستراتيجي المتضمن مقاييس تقيس مؤشرات الأداء، والمتابعة المستمرة من جهات أعلى، مثل مجلس الاقتصاد والتنمية.
لذلك، فإننا نحتاج أولًا أن نُحرِّر مصطلح الإدارة التربوية المرادف لمصطلح الإدارة التعليمية، فالإدارة التربوية أشمل وأعم من الإدارة التعليمية التي محورها يدور حول كل ما تقوم به إدارة المدرسة في سبيل تحقيق رسالة المدرسة التعليمية، بينما يكون مجال الإدارة التربوية أوسع وأشمل من ذلك، إذ يتصل بالنظام التربوي ككل.
أغلب القطاعات الحكومية تعاني من الإدارة المركزية على حساب الإدارة اللامركزية، والتعليم أول مَنْ يعاني من الإدارة المركزية، بالرغم من وجود مزايا وعيوب لكل نوع، إلا أن بُعد المدارس وانتشارها واحتياجها للقرار السريع لمعالجة القضايا اليومية المتعددة، وحاجة إدارة المدرسة للاستقلال والإبداع والابتكار في إدارتها، وهذا يستلزم منحها المزيد من الصلاحيات، وإعطاءها هامشًا كافيًا من الحرية.
كما أن وزارة التعليم توجهت في السنوات الأخيرة إلى تغيير مُسمَّى مدير المدرسة إلى قائد المدرسة؛ لكي يكون قائدًا يتصرف بما يراه وفقًا للظروف والأحوال، مع المحافظة على الإطار العام الذي يُنظِّم العملية التعليمية بالمدرسة.
كذلك قامت الوزارة في السنوات الأخيرة، بتخصيص ميزانية تشغيلية لكل مدرسة، ومنح قائد المدرسة صلاحيات مالية تشغيلية تتضمن المحاسبية، وبالرغم من محدودية الميزانية التشغيلية، إلا أنها خطوة جيدة تحتاج إلى التوسُّع في منح مزيد من الصلاحيات التعليمية التي يحتاج إليها قائد المدرسة.
وأذكر أن بالوزارة مشروعًا لإحداث مجلس لإدارة المدرسة يُشكَّل من أولياء الأمور، والطاقم الإداري والتعليمي، والطلاب؛ للنظر في موضوعات محددة داخل المدرسة، برئاسة قائد المدرسة.
كما يُذكر أن الوزارة في العام الماضي وهذا العام، قامت بابتعاث ما يقرب من ألف متدرب من قادة المدارس، ومن المعلمين، والمشرفين التربويين، سنويًّا- تقريبًا لمدة خمسة أعوام، لدول متقدمة، حيث يتم تدريبهم داخل المدارس لمدة عام دراسي؛ لمعايشة واقع إدارة المدرسة في مدارس متطورة في دول متقدمة تعليميًّا، مثل: أمريكا، وبريطانيا، وكندا، وأيرلندا، وأستراليا، ونيوزلاند، وفلندا، وغيرها من الدول التي لغتها الإنجليزية، حيث يشاركون في القيام بالمهام التعليمية والإدارية والتشغيلية داخل المدرسة التي يتدربون فيها. وأطلقت الوزارة عليه برنامج تطوير القيادة المدرسية (خبرات)، وتهدف الوزارة من ذلك إلى إكساب قادة المدارس أو المرشحين لذلك مهارات وآليات العمل في إدارة المدارس التي قضوا فيها عامًا دراسيًّا كاملًا، ثم العودة للوطن وقد أصبحوا مؤهلين للعمل بإدارة المدارس، والاستفادة منهم في تطوير الإدارة المدرسية وأنظمتها ولوائحها، وقيامهم بالتدريب لبقية قادة المدارس الذين لم تتح لهم الفرصة؛ كونهم أصبحوا مدربين مؤهلين للإدارة المدرسية، وناقلين لواقع إدارة أفضل المدارس بالدول المتقدمة تعليميًّا إلى مدارسنا.
¤ التعقيب الثاني: د. سارة عبد الله المنقاش.
فيما يتعلق بقضية ضعف الإدارة المدرسية، أرى أنها تؤثِّر سلبًا على العملية التربوية، ولكن من المسؤول عن هذا الضعف؟ هل هو المدير نفسه؟ أم النظام الذي لم يؤهله بشكل جيد، ولم يعطه الصلاحيات الكافية؟ في نظري، لا يقع اللوم على المدير، وإن كان يتحمل جزءًا بسيطًا من المسؤولية. فمدير المدرسة لا يمتلك التأهيل الكافي لتولي المنصب، بل أحيانًا يقبله على مضض؛ نتيجة للضغوطات الكبيرة عليه. فهذا المنصب يفتقد لأدنى المميزات التي تجعله مغريًا لكثير من المعلمين. ففيه مسؤولية كبيرة، ومهام متنوعة، وأعمال روتينية مرهقة قد يمتد انجازها لما بعد وقت العمل الرسمي.علاوة على ذلك، فإن غياب الحوافز والدوافع التي تُشجِّعه على الإنجاز بكفاءة وفعالية يشكل عائقًا كبيرًا. فقد حللت الكثير من الدراسات العمل اليومي لمدير المدرسة، واتفقت على أنه يتصف بثلاث صفات: (تنوُّع المهام ما بين تخطيط، وإشراف، وتنظيم، ورقابة، واتصال، وغيره؛ وقصر المدة الزمنية المطلوبة لإنجاز كل مهمة، مما يجعل المهام متعددة وكثيرة؛ وكثرة المقاطعات من قبل الآخرين، أو بسبب عوامل خارجة عن إرادته، مثل: مقابلة ولي أمر، أو مشكلة تتطلب حلًا سريعًا). فمدير المدرسة مثقل بأعباء كبيرة جدًّا، ليس لديه الوقت الكافي للتطوير والتغيير. وإن امتلك الوقت فليس لديه الصلاحيات الكافية، فهو عاجز عن اتخاذ القرار بأبسط صورة لتطوير العملية التعليمية.
فمن أبسط حقوق المدير-مثلًا-إعطاؤه صلاحيات تصميم هيكله التنظيمي، بما يتناسب مع حجم مدرسته ومتطلباتها، وإعداد خطته الاستراتيجية بناءً على تشخيص واقعها الحالي، بالإضافة إلى حقه في التعيين والإقالة بما يتوافق مع ثقافة مدرسته التنظيمية. ولكن الملاحظ التدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون مدرسته. فالهيكل مفروض على المدير. كما أن الخطة مُصمَّمة له مسبقًا في قالب معين، والتعيين والإقالة والنقل لا يد له فيه. والعجيب في الأمر أن يتم تغيير مُسمَّاه إلى قائد للمدرسة بدلًا من مدير لها، وشتان بين المفهومين. فالقائد هو الذي لديه القدرة على الابتكار والتطوير والتجديد والتأثير على الآخرين، وهذا لا يتحقق إلا بأمور عديدة، أهمها: توفير الصلاحيات الواسعة التي تُمكِّنه من ذلك. الأمر الآخر هو أن لدينا ثقافة إدارية عجيبة، وهي أن مَنْ يصلح للتدريس يصلح للإدارة أو العكس، فمن يتميز في التدريس سيصبح مديرًا ناجحًا، وهذا خطأ كبير. فلكل مهنة متطلباتها ومهاراتها الخاصة؛ لذلك نجد المدير يتخبط عشوائيًّا، معتمدًا على التجربة والخطأ؛ مما يؤثر سلبًا على العملية التربوبة برمتها. فلا بد من تأهيل المدير وإعداده الإعداد الجيد، ولا نقصد في ذلك عدد من الدورات أو البرامج التدريبية في الإدارة؛ إنما أن يحصل على ماجستير في الإدارة التربوية، ومنحه رخصة مهنية تتجدد كل خمس سنوات وفق ضوابط ومتطلبات معينة. إضافة لما تفضل به أ.د راشد العبد الكريم من مقترحات ضرورية، مثل: الصلاحيات الكافية، والحوافز المغرية، والاستقلالية التامة، والميزانية المناسبة لجعل هذا المنصب جاذبًا لكثير من المعلمين، ومجالًا يتنافسون على الترشيح له؛ مما ينعكس إيجابيًّا على تميز المدارس، وتطوير العملية التربوية.
¤ التعقيب الثالث: د. يوسف بن عبد الله الرشيدي.
توضِّح الورقة الرئيسة المُقدمة أهمية ودور الإدارة في نجاح وتميز أي مؤسسة بغض النظر عن القطاع، وناقشت أهمية الإدارة التربوية والنظرة المستقبلية لها في العملية التربوية والتعليمية. ولا شك أن الإدارة التربوية تستخدم نفس مقومات وأساليب الإدارة التي تتبع في المصارف والمصانع وغيرها من قطاعات، مع مراعاة المحتوى أو البيئة، فلكل بيئة ثقافة وسلوكيات ومهام تحتاج إلى تكييف المنهاج الإداري بما يتطلبه العمل.
وبعيدًا عن التنظير، فإن الإدارة المدرسية تنقسم إلى نوعين- من وجهة نظري-: النوع الأول: الإدارة ذات الطابع التقليدي، والتي تركِّز على تسيير الأعمال، وإتمام واستكمال المتطلبات المتمثلة في المهام والمسؤوليات من أعمال روتينية يومية من متابعة وغيره، دون إضافة أو نقصان. وهذا نمط لا يُذم من الناحية التطبيقية، ولكن له من السلبيات ما أسهم في قتل طموح وآمال العاملين في قطاع التعليم، من إداريين ومعلمين موهوبين، ممن يتوقون إلى تقديم كل ما هو مختلف ومتفرد في النشاط الصفي واللاصفي؛ كونهم يتصادمون مع النمطية والتقليدية والتطبيق الحرفي للقوانين. والنوع الثاني: هم القادة من المديرين ممن يعملون منتهجين المنهج الإبداعي المبادر من خلال القيادة، وإدارة الفريق بروح إيجابية تركز على المخرجات، وإيجاد أفضل الوسائل والأدوات الإدارية لإنفاذ أعمالهم، وهذا لا نراه كثيرًا؛ كون الإدارة الإبداعية مجهدة، وتتطلب أعمالًا مضاعفة على الإدارة والأفراد معًا. مع ما ذكر من معوقات، مثل قلة الدعمين المادي والمعنوي من إدارات التعليم؛ كونها تريد من المدارس استيفاء متطلبات محددة باشتراطات معينة، وهذا يحدُّ من الحراك الإبداعي لدى كثير من المديرين أصحاب المبادرات.
ولعلنا هنا لو حددنا ما المعوقات التي تعيق مديري المدارس من المبادرة والإدارة بالأسلوب القيادي؛ لوجدنا أن من أهم هذه الأمور: عدم وجود دعم فعلي من قبل إدارات التعليم لتبني هذه الأعمال من خلال الدعم المادي. أضف إلى ذلك أنه لا يوجد في التعليم مسميات أو مراتب وظيفية داخل المدارس، مثل: مدرس أول، رئيس قسم، وغيرها… تعزز الجانب الإداري، وتُنمِّي وتُنشئ القيادات الداخلية ليشكلوا فريقًا مساندًا للمدير ووكلائه أو مساعديه، وهذا يقتل الجانب التحفيزي الذي لو وُجد لَمكّن المدير من القيادة بالتحفيز، للوصول إلى حالة من التميز الإداري الذي من الممكن أن ينعكس إيجابًا على أعمال المدرسة.
وفي نظري أن الجانب المهاري لا يعدُّ عائقًا للتميز والإبداع؛ كون المهارات الإدارية من الممكن أن تُبنى وتُنمَّى من خلال الجهود المؤسسية والفردية.
وأذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور راشد في وجوب إعطاء مديري المدارس ومعلميهم مساحات من الحرية في إدارة شؤونهم الإدارية؛ ليتمكنوا من تطبيق الأعمال الريادية في الأنشطة الصفية واللاصفية، ولا يُقيدون برؤى وأفكار وتوجهات إدارات التعليم التي عادة ما تكون تقليدية.
وأضيف إلى ذلك أيضًا، أنه يجب أن تكون هناك آلية لاختيار المدير، والمحفزات المصاحبة لهذا الدور الإداري. فمديرو المدارس ليسوا استثناء عن الآخرين في القطاعات الأخرى؛ وعليه يجب أن تكون هناك جدارات ثابتة لهذا الدور، وأن يُوضع وصف وظيفي دقيق لذلك، وتتم عملية بناء الدور القيادي للمدير على ذلك، ويُجهز مسار مهني تطويري يركز على المهارات والجدارات الإبداعية في الجانب الإداري؛ للوصول بهم- كمديرين- إلى الطموح والدور الحقيقي المراد منهم تأديته في تطوير قطاع التعليم من خلال المدارس.
¤ المداخلات: مسميات العملية التربوية:
ذهب د. عبد الله الضويحي إلى أنه تم الانشغال في العملية التعليمية التربوية بتغيير المُسمَّيات على حساب المضمون، فتعددت المسميات ما بين (مفتش، ثم موجه تربوي، ثم مشرف تربوي، ثم قائد أكاديمي)؛ و (مدير المدرسة، ثم قائد المدرسة)؛ (أخصائي اجتماعي، وأبدلناه بالمرشد الطلابي، ثم المرشد الأكاديمي). وتساءل: ما مدى تأثير هذه المسميات على العملية التربوية، وتحديدًا الإدارة التربوية؟. وهل تغير المضمون وطبيعة العمل وفقًا لذلك؟ أم اكتفينا بالمسميات؟. في هذا الجانب، يرى د. خالد بن دهيش أن تصحيح المسميات لتتوافق مع المهام التربوية والأدوار المطلوبة منهم داخل المؤسسة التعليمية، هذا جزء من التطوير المطلوب للعملية التعليمية التربوية. ولكن تأثيرها على عملية التطوير تأثير نسبي من مدرسة لأخرى، فتطوُّر العملية التعليمية ومتابعة المتغيرات في هذا المجال لا تُغفل، بل تُدرس ويُطبق المناسب منها بعد تكيفه وفق البيئة التي سيُطبق فيها إذا لزم الأمر، وتُنظم البرامج التدريبية اللازمة لتحقيقه. ولابد الأخذ بعين الاعتبار أن عدد المعلمين والمعلمات بلغ 550 ألفًا منتشرين في 33 ألف مدرسة، تغطي التجمعات السكانية في كافة أرجاء المملكة؛ لذلك فإن أي تطوير يحتاج لوقت وجهد حتى يظهر أثره، ويمكن قياسه.
وأضافت د. سارة المنقاش أنه يوجد الكثير من المصطلحات والاتجاهات الحديثة التي تتحدث الأدبيات الأجنبية والتجارب الدولية عنها وعن نجاحها، ونتمنى تطبيقها في تعليمنا، ولكن البنية التحتية يجب أن تكون مُحدَّثة لاحتضان مثل هذه التوجهات حتى نستطيع تطبيقها بشكل فاعل، وإلا أصبحت مجرد تسميات، مثل تغيير مُسمَّى المدير إلى قائد؛ لأنه اتجاه حديث، فذهبنا لتغيير المسمى، وفشلنا في التطبيق. فبعض الأقسام الأكاديمية في تخصص الإدارة التربوية في الجامعات السعودية طرحت هذا التعديل على غرار المعمول به دوليًّا، وتم الرفض من أغلب الأعضاء؛ لأننا- ببساطة- غير مستعدين لذلك. بخلاف ما حدث في أمريكا، معظم الأقسام الأكاديمية هناك غيَّرت مُسمَّى القسم من إدارة تربوية إلى قيادة تربوية، عندما أدركوا استعدادهم لذلك.
التغيير يجب أن يكون بالتدريج حتى يلقى نجاحًا، فكم أخذت هذه الدول من الوقت لتُحدِّث أنظمتها بما يتناسب مع بنيتها التحتية؟
تخصص الإدارة التربوية:
أشار م. خالد العثمان إلى أن في أقسام الإدارة في الجامعات، وكذلك في فروع اختصاصات معهد الإدارة هناك تخصصات إدارية عديدة، منها- على سبيل المثال- : إدارة عامة، إدارة أعمال، إدارة مستشفيات، إدارة صناعية، إدارة بيئية، إدارة طيران، إدارة هندسية .. وغيرها). وأتساءل: أليس غريبًا أنه لمَّا تُبادر أية جامعة أو كلية أو معهد بعدُ لإقرار تخصص مستقل للإدارة التربوية ؟
علق على ذلك د. خالد بن دهيش بأنه على مستوى البكالوريوس، فإن كليات التربية تدرس الإدارة التربوية، وعلى مستوى الدراسات العليا تمنح كليات التربية درجة الماجستير والدكتوراه في الإدارة التربوية. كما أن هناك دبلومًا في الإدارة المدرسية لمدة عام بعد المرحلة الجامعية. وأضاف د. عبد الله الضويحي أنه كانت هناك دورات لفصلين دراسيين في كلية التربية بجامعة الملك سعود- عندما كانت (جامعة الرياض)- نهاية السبعينيات لمديري المدارس. وأكدت د. سارة المنقاش أن هذه الدورات كانت موجودة إلى وقت قريب، كانت تدرس في قسم الإدارة التربوية بجامعة الملك سعود، وكانت تطرح للمديرين فقط دون المديرات، ثم ألغيت، فقد أثبتت عدم جدواها، وبسبب مشاكل مالية، حيث تُصرف لها مكافآت لأعضاء هيئة التدريس، وأصبحت على حساب البرامج الصباحية. وجاري العمل حاليًّا على تطويرها، وفصلها عن الأقسام الأكاديمية لتكون تحت مظلة المركز التربوي للتطوير المهني، وهو مركز جديد يتبع كلية التربية. وعلى الرغم من أن هذه الدورات في مضمونها نافعة، إلا نفعها محدود إذا لم تقرن بصلاحيات واسعة وبنية تنظيمية جيدة؛ لأنَّ ما يُدرس فيها هو الوضع المثالي للقائد المدرسي، بينما ما هو موجود في الواقع هو المدير التنفيذي المُكبّل بأعباء روتينية يومية، يستطيع تنفيذها أي سكرتير يحمل شهادة ثانوية.
إشكاليات الإدارة المدرسية:
اعتبر د. محمد الملحم أن موضوع الإدارة التربوية من العوامل المهمة والأساسية لنهضة التعليم والارتقاء به؛ لقد كان التربوي الراحل د. محمد الأحمد الرشيد يردد مقولة: “وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة”، وأنا أعقب عليها: “وراء كل تربية عظيمة إدارة قيادية عظيمة”، ولم أقل معلمًا عظيمًا؛ لأننا شاهدنا المعلمين العظماء يتساقطون في ظل الإدارة المتهلهلة والمتآكلة، سواء يتساقطون في تخليهم عن قيم العمل والانتماء للمهنة وذوبانهم في القطيع، أو في تسرُّبهم من التعليم إلى غيره؛ للفكاك من الألم الذي يعيشونه في تناقضات المؤسسة التعليمية.
سبق أن نُشِر لي في صحيفة الجزيرة مقالات ثلاثة، تشير إلى موضوع اليوم، أولها: “بين مدير ووزير” ألقى الضوء على أزمة الجو النفسي المشحون بالتهديد والتلويح بالعصا للمعلمين، وبقية السلك الإداري التعليمي، في صورة مجدبة من الحس أو الفكر التربوي لدى متخذي القرار الإداري التربوي.
وثاني المقالات، حذر من مغبّة الوقوع في هالات التطبيقات المتقدمة دون استعداد حقيقي لها، متمثلًا في التطرف في معالجة المركزية بـمجالس التعليم المحلية دون وعي بأهمية التدرُّج والتوعية، وتهيئة الجو العام للقادم “الديمقراطي” الجديد، مع توفير القيادات الواعية المؤهلة بعد التسرُّب الكبير؛ مما قد يحيل المشروع الجديد إلى مسخ مشوَّه(بفتح الواو)، ومشوِّه (بكسرها) في آن معًا.
أمَّا ثالثها فقد وضحت فيه بجلاء أهم سبب لنفور القيادات التربوية (والمدرسية) المتميزة من العمل القيادي، وبقاء الميدان لفئة الظهور والبروز الاجتماعي، ممَّن لن يقدموا للتعليم أكثر من فرقعات إعلامية وصور مبهجة، تخدعنا ولا تحذرنا، وتغشنا ولا تصدقنا. وقد تركز السبب في نظام الرواتب والمكافآت لشاغلي الوظائف التعليمية، والذي لا يعطي أي اعتبار لوظيفة القائد التربوي، فراتبه هو نفسه راتب المعلم، بدءًا من مدير المدرسة وانتهاءً بمدير التعليم، أو مدير العموم بالوزارة.
وختامًا، فإن أبرز مأساة تترجم إشكالية القيادة المدرسية لدينا اليوم هي تسمية مدير المدرسة بقائد المدرسة، ليكون اسمًا دون مسمَّى، وصورة دون حقيقة، وهو أمر مُخجل جدًّا، فطالما أن صلاحياته لم تتغير، فإن بقاء التسمية “مدير مدرسة” دون تغيير أهون بكثير من تغيير التسمية ليظهر مشروعها خاويًا قاحلًا؛ مما يوحي بتخبط القرار، وضياع البوصلة.
وترى أ. فايزة الحربي أن الإدارة المدرسية لها دور في رفع الكفاءات في العملية التربوية؛ لأنها هي القدوة ورأس الهرم. فإذا امتلكت الإدارة خبرة تربوية واجتماعية، فهي بذلك تستطيع الإنجاز بجدارة، ومواكبة التطوير. وكذلك إذا توفرت لها جميع الاحتياجات من ميزانية، ومن صلاحيات، ومن توفُّر كادر إداري متعاون معها، وبيئة مناسبة، فهي سوف تتعامل مع الجميع بارتياح تام. أما إذا كانت الإدارة لديها خبرة، وافتقدت التعامل الحسن، فمهما توفرت لها المقومات الأخرى فلن تنتج ولن تحقق الرضا لدى منسوبيها؛ لأن أسلوب الضغط والقوة غير مقبول من الجميع، ولن يحقق الإنتاج المأمول. إذا تعاملنا بالمشاعر وبمعاملة النفس البشرية فسوف ننجح، وننتج جيلًا قادرًا على الاستمرار في التطوير وتثبيت الأسس التربوية، وتحمُّل المسؤولية والأمانة في الوطن.
مهام ومسؤوليات قائد المدرسة:
في تعليقه على ذلك، تساءل د. عبد الله الضويحي: هل مسؤوليات ومهام قائد مدرسة ابتدائية مثل قائد مدرسة ثانوية؟ وهل قائد مدرسة طلابها بالمئات في مدينة كبرى كالرياض – مثلًا -يتساوى مع قائد مدرسة ابتدائية في هجرة لا يتجاوز عدد طلابها أصابع اليد الواحدة؟
وفي إجابته على ذلك، يرى د. يوسف الرشيدي أن المهام والمسؤوليات من الممكن أن تكون واحدة؛ كونهم يقومون بنفس الأعمال، ولكن المحتوى ومتطلبات كل مرحلة تختلف باختلاف المخرجات المطلوب الوصول لها.
ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار الإمكانات والدعم المتاح بين المحافظات وتصنيفها، وما هو متاح للمدير من مال، وبنى تحتية، ومجتمع؛ هو الفارق الحقيقي. ففي الرياض-مثلًا- يكون المتاح للمدير من دعم مالي، وخبرات محلية ممكن أن يستعين بها من خبراء ومهنيين وأولياء أمور، لا يُقارن بمن هم أقل حظًّا بالمحافظات البعيدة والهجر.
وذهب د. خالد الرديعان إلى أنه لابد من إضفاء مزيد من البعد الإنساني على العمل التربوي، وخاصة قيادة المدرسة.
قائد المدرسة ليس موظفًا يؤدي عملا فقط، ولكنه كذلك أبٌ ومربي، ومعلم جيل، وبالتالي يُفترض أن يكون عنده مساحة واسعة للتفكير والعمل والإبداع.
وأكدت د. سارة المنقاش أنه من الضروري أن يكون لكل مدرسة رؤية ورسالة وأهداف خاصة، تختلف عن المدرسة الأخرى، وذلك حسب الحي الذي تقطن فيه، حتى وإن كانت داخل المدينة الواحدة، وطبعًا تكون تحت مظلة رؤية وأهداف الوزارة. السبب في ذلك تفشي ظواهر معينة في بعض الأحياء، مثل: المخدرات، والجهل والأمية، وعدم احترام الأنظمة، والعنصرية، وغيرها. فهدف المدرسة يجب أن يكون تربويًّا وليس تعليميًّا فقط، وأن تُكتب هذه الرؤية، وتُعلن الأهداف لجميع منسوبي المدرسة وأهل الحي؛ للسعي لتنفيذها معًا.
وفي السياق نفسه، ذكر د. خالد الرديعان أنه من الأهمية أن تكون رسالة ورؤية المدرسة واضحة، تترجم بصورة أهداف تسعى المدرسة إلى تحقيقها ضمن منظومة كاملة من الخيارات، كما أشرت أعلاه. لست مع المركزية التي تُطبِّقها وزارة التعليم، وأميل كثيرًا إلى اللامركزية المناطقية؛ لإضفاء مرونة تامة على العمل التربوي موضوع هذه القضية، وذلك حسب احتياجات كل منطقة، وطبيعتها الثقافية والإيكولوجية والجغرافية. ولا يجب أن يكون العمل متشابهًا وبالأساليب نفسها. ولايجب أن يُطبَّق على الجميع بنفس المسطرة. كما لابد من أخذ التبيانات المناطقية في الحُسبان في مسألة الإدارة التربوية. كل ذلك يعني ضرورة إعطاء صلاحيات واسعة لإدارات التعليم في المناطق وقادة المدارس لكي يبدعوا في أعمالهم. وسيكون من المفيد جدًّا أن يُخصَّص لكل إدارة تعليم في كل منطقة ميزانية خاصة بها للمرونة، مع ضمان وجود آلية فاعلة للمراقبة والتدقيق؛ منعًا لأي فساد مالي، أو إداري.
أضافت د. ريم الفريان، قياسًا على الإدارة التربويه (K-12) في الولايات المتحدة فهي ليست مركزية، ويُتاح للمدارس بعض الحرية في كيفية العمل والقيم للمدرسة، بحسب المنطقة وقضاياها وظواهرها، والمدير لديه صلاحيات أكبر من صلاحيات المدير أو القائد لدينا. وهناك مدارس فكرية مختلفة، ولكن الأساسيات واحدة، ومهارات محددة يجب على الطلاب إتقانها، لا تقتصر على العلوم المعرفية ولكنها تمتد للسلوكيات. وافقها في ذلك د. عبد العزيز الحرقان، في أنه يجب إعطاء المدارس الاستقلالية والحرية، ولو على مستوى المنطقة أو المحافظة.
من جانبه أكد د. محمد الملحم أن هذا هو النموذج الغالب في كل دول الغرب (بريطانيا، أستراليا، فرنسا). وهو يعدُّ نموذجًا ممثلًا لديموقراطية التعليم، ومؤكدًا لمبدأ التشاركية مع اختلافات بسيطة في أسلوب التنفيذ، ونكهة مركزية أحيانًا، لكنها لا تعكر الجو الديمقراطي تمامًا.
الدراسات والبحوث في الإدارة المدرسية:
في تصوُّر د. خالد الرديعان، فإن الكثير من الدراسات والمشروعات في مجال تطوير الإدارة المدرسية موجودة، ولكن يستلزم الأمر تهيئة الكفاءات المؤهلة والمتمكنة من القدرة على التطبيق. والقدرة على نقل التجارب الناجحة وتطبيقها كما عايشوها، بما يتناسب وطبيعة المجتمع. إلا أن د. سارة المنقاش ترى أن الدراسات عديدة لكنها حبيسة الأدراج؛ لأن تطبيقها غير ممكن في ظل الإمكانات والظروف الحالية للإدارة المدرسية، فكما ذكر الدكتور يوسف: مَنْ سيتم ابتعاثهم لا يستطيعون التغيير بدون الدعم المادي والمعنوي والنظامي، حتى وإن امتلكوا المهارات والخبرات الكافية. الوضع كمَنْ يرسل مهندسين متمكنين للتدريب على أجهزة تقنية عالية المستوى؛ لأنها توفِّر الطاقة والوقت والجهد، ثم يعود لأرض الوطن لتطوير العمل، وتوفير الطاقات والجهود، ولكن الأجهزة نفسها التي تدرب عليها غير موجودة؛ فهل ستنفعه مؤهلاته؟ وأي تغيير يستطيع إحداثه سوى المطالبة مرة أخرى بالتطوير، وعمل الدراسات، ونعود من جديد ندور في حلقات مفرغة.
ويعتقد د. خالد بن دهيش أننا في مرحلة تختلف كثيرًا عن السابق، في ظل ما نرى من وضوح في الأهداف، ومن خطط استراتيجية، وآليات للمتابعة والمحاسبة، ومعالجة المعوقات؛ لذلك لابد من أن نتفاءل خيرًا كثيرًا، وأن هناك نقلة نوعية قادمة في جميع المجالات، خاصة التي تركِّز على الإنسان الذي هو نواة المجتمع الحيوي، خاصة في مجال تعليمه وصحته، ليعيش في ظل اقتصاد مزدهر. اتفقت معه في ذلك د. سارة المنقاش، في أنه ربما القادم أجمل في ظل رؤية 2030، ففيها من الأهداف التي لو تحققت باحترافية لنهض التعليم في مملكتنا الحبيبة لينافس الدول العالمية. وفي اعتقادي، أن ما ذهبتُ إليه من تحليل لواقع الإدارة المدرسية لم يأتِ من فراغ؛ إنما من خلال التقائي يوميًّا في المحاضرات بعدد كبير من مديرات المدارس والمشرفات التربويات، وغيرهن من الممارسات في سلك التعليم، وقد رجعن لمقاعد الدراسة ليكملن دراساتهن العليا، لعلهن يجدن مخرجًا من مشاكلهن التي يعانين منها في العمل. فيتم تدريسهن أسس الإدارة التربوية والمدرسية الحديثة، ويتم عرض الخبرات العالمية المميزة عليهن، ومن ثَمَّ ربطها بالواقع الفعلي، ومدى إمكانية التطبيق، فنصطدم بعوائق رهيبة تزيدهن إحباطًا. فلعل المسؤولين يتداركون ذلك مع الرؤية الجديدة، وينقذون ما يمكن انقاذه. في حين يرى د. عبد الله الضويحي أنه إذا كانت المديرات يكملن دراستهن العليا وتأهيلهن هربًا من مشاكل وهموم الإدارة المدرسية، فهذه مشكلة أكثر من كونها بحثًا عن تأهيل عالٍ، يساعدهن في حل تلك المشاكل والتفاعل معها.
مشاكل المعوقين للإدارة:
أشار د. خالد الرديعان إلى أن هناك مشكلة أخرى تعيق أي خطوات للنهوض بالتعليم. هذه المشكلة تتلخص في قضية “التربُّص” بالمسؤول، سواء أكان وزيرًا أو وكيل وزارة أو مدير إدارة تعليم.
إن تصيُّدَ أخطاء المسؤول والبحث عما يعيق عمله يعدُّ سمة بارزة، إذ تقوم شرائح من المتربصين بدور معيق، وربما هدّام في وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال النقد غير البناء. ويتأسس هذا النقد على قضية تصنيف المسؤول والزج به في أتون قضايا فكرية وأيديولوجية، ليس لها علاقة بالتعليم. لو توقفت هذه الظاهرة أو خفت حدتها، فلربما اجتمع المعنيون بالتعليم على كلمة سواء تبني ولا تهدم.
واتفقت معه د. عبير برهمين في أن الفئة المعيقة والهدَّامة موجودة، لكن القائد الناجح يحيط نفسه بالقادة الناجحين ليرتقوا جميعًا بالعمل، فإن لم يتمكن القائد من التعرُّف على فئة المعيقين والهدَّامين، فربما نحتاج لإعادة النظر في أساس الاختيار.
وأضاف د. محمد الملحم أن التربُّص الأيديولوجي هو ظاهرة حديثة في العشرين سنة الماضية، وذروتها في العشر سنوات الأخيرة. لكنها قبل ذلك وحاليًّا كان (وعاد الآن تقريبًا) التربُّص للتسلق. وهذه الظاهرة ليست غريبة ولا هي غير متوقعة، بل نتيجة طبيعية لغياب التقييم الأصيل لأداء القيادات واعتماده على “السمعة”، والإعلام، وما يتناقله الناس، وكمية الشكاوى (ليس نوعها). إنها معايير كسولة جدًّا، تؤدي إلى خنق المسؤول المخلص. أما الوصولي فهو يغلق كلَّ هذه الأبواب، وهذا يتنافى مع طبيعة التغيير تمامًا.
ويعتقد أ. محمد الدندني أن خنق المسؤول والتربُّص به ليس فقط من الشكاوى، وكثرة الكلام على منصات التواصل الاجتماعي، وإصدار الأحكام بلا معرفة، وهنا لا يصبح نقدًا بنَّاءً. التربص والخنق نتيجة حتمية للمركزية المفرطة، حيث يضيع وقت واضعي السياسات والأنظمة، وخاصة المسؤولين في التعامل مع النظام الحالي، الذي هو عقبة في طريق التطوير والتغيير. لا نملك ترف الوقت، وأمامنا مرحلة مليئة بالتحديات، وبالذات مع رؤية 2030. التعليم ليس فقط القاعدة، بل الأعمدة والسقف لأي خطة تنمية، فكيف إن كانت تنمية وتغييرًا؟!
ممارسات تحدُّ من فعالية الإدارة التربوية:
وفي تقدير د. خالد الرديعان أن مما قد يحدُّ من فعالية الإدارة التربوية بعض الممارسات التي تهزُّ من صورة قائد المدرسة والمعلم. ففي مقطع تمَّ تداوله على شبكات التواصل الاجتماعي، لوحظ أن أحد قادة المدارس اعتذر للتلميذ وقبّل رأسه؛ بسبب خطأ أو عقوبة بدرت من معلم أو من قائد المدرسة تجاه الطالب، وذلك بعد ضغوط ورسائل إساءة لطاقم المدرسة.
من الضروري جدًّا حفظ هيبة قائد المدرسة والمعلم كذلك، وعدم تعريض طاقم المدرسة عمومًا لوسائل التواصل الاجتماعي والتشهير بهم، وجعل القضايا التي تتم داخل المدارس مادة مباحة للعامة، تتناولها كيفما تشاء.
رؤى تطويرية:
تعتقد د. عبير برهمين أن سياسة التغيير في وزارة التعليم لم تكن موفقة بشكل كبير؛ لأنَّها ركزت على تغيير ملامح الشكل الخارجي، وغفلت عن الجوهر. في سياسات التغيير يجب دراسة الوضع كما هو عليه، ومحاولة تحديد أبعاد الفجوة بين الوضع الراهن والوضع المستقبلي الذي نطمح إليه، ومن ثَمَّ العمل على ردم هذه الفجوة بمنهجية متدرجة، آخذة في الحسبان تغيير البيئة والظروف المحيطة، والتمويل اللازم، والأهم الموارد البشرية المؤهلة والكفوءة. كان يُفترض إعداد القادة ومَنْ يديرون التغيير بداية؛ باختيار العناصر المميزة، والعمل على إكسابهم المهارات اللازمة لمرحلة التغيير من وسط التعليم ذاته، من مبدأ: ” أهل مكة أدرى بشعابها”، فلا أحد يقدر على تشخيص الواقع أفضل منهم. هذه العناصر كان يجب أن يكونوا مجموعة متكاملة ومتجانسة، تجمع بين الشباب الطموح القادر على استيعاب التغيير بمرونة كافية، ومن هم أصحاب الخبرة والدراية ممن أمضوا سنوات طويلة في العمل الميداني، وعدد من القيادات القادرة على اتخاذ القرارات بموجب صلاحياتهم.
تحديد الأولوية في أي النقاط تستحق البدء بها هي فنٌّ في حد ذاته. وله نظريات عدة قد تعتمد البدء التدريجي المتسلسل، أأأو البدء بتغيير أكثر من محور في الوقت نفسه، أو العمل على التغيير من أعلى التسلسل الوظيفي لأسفل أو العكس، ولكل نمط سلبياته وإيجابياته التي يجب أن تُؤخذ في الحسبان.
كما أن تحقيق معايير الجودة في التعليم يفترض أن يحقق الحد الأدني من الخدمات المقدمة، لنقول: إن لدينا تعليمًا ممنهجًا مؤطرًا يماثل ما قد يُقدَّم في أي دولة لها نظام خاص بالتعليم. إلا أن فهمنا وتطبيقنا لهذا المفهوم كان مختلفًا، فجعلنا أعمال الجودة مقتصرةً على جمع الوثائق، والعمل الورقي؛ للوصول لكلمة “معتمد أكاديميًّا” دون الاهتمام بتحقيق الجودة فعليًّا. ولقد عمل الخبراء على تكديس المعايير اللازمة- من وجهة نظرهم- لتحقيق الاعتماد الأكاديمي من مصادر مختلفة في العالم، دون النظر لمدى ملاءمتها لوضعنا التعليمي الواقعي، فأرهقنا أنفسنا بإلزامها، بما لا يخدم العلم ولا التعليم، ناهيك عن التربية وأصولها.
وأضاف د. سعود كاتب أن التعليم في العاصمة الأمريكية واشنطن كان في ذيل القائمة وفق معظم المعايير، حتى تولت إدارته “ميشيل ري”، ونقلته في فترة وجيزة بشكل تحدثت عنه بإعجاب معظم وسائل الإعلام، ومنها: التايم، والنيوزويك. هذه التجربة تم تدريسها لنا في جامعة هارفاد، ولخصتها في أحد مقالاتي1، تضمنت ثلاثة مفاهيم أساسية نحتاج إليها لتحسين التعليم، منها: إسناد العمل للشخص المناسب، بغض النظر عن (الجنس)، أو (الأصول العرقية)، بل الفيصل هو المؤهل في (الإدارة التربوية والتخطيط) في قمة الهرم المعني بالتعليم. نظام المحاسبية accountability والصلاحيات المصاحبة له، والذي يسمح بزيادة الحوافز للمحسن ومعاقبة المسيء بما يستحق بما فيها الفصل. وأن محور التغيير هو الإنسان، فتغيير أحوال الطلاب ومعالجة مشاكلهم مؤشرات واضحة وبسيطة يمكن قياسها وتحقيقها. ورغم اختلاف الظروف بالتأكيد، إلا أن هناك دروس مستفادة، أهمها: أن شخصًا واحدًا يتمتع بالقيادة والمعرفة قادر على عمل المستحيل.
الابتعاث لمعايشة ونقل تجارب الإدارة التربوية:
وفيما يتعلق بابتعاث 1000 معلم ومعلمة إلى الخارج سنويًّا، لنقل تجارب الإدارة التربوية، ذهبت د. سارة المنقاش إلى أن تدريب المعلمين والمعلمات الإدارة في بيئة غير البيئة المدرسية التي اعتادوا عليها أمرٌ غير مجدٍ، ومحبط لهم في الوقت نفسه. فالبيئتان مختلفتان تمامًا، والمعروف أن دور مدير المدرسة في الدول المتقدمة مختلف تمامًا عن المملكة من ناحية سعيه في تمويله لمدرسته، والتصرف في هذه الميزانية، والتعيين والإقالة، وإقرار الأنشطة، وتعديل المناهج وتحديثها، وغيرها. وكل ذلك يتم بإشراف الولاية، لكن لديه صلاحيات كافية. فكيف سيتدرب معلمونا على ذلك وهم لن يستطيعوا ممارسته، فما الجدوى من بذل هذه الأموال الطائلة، لابد من تهيئة بيئة مدرسية مماثلة، وتسليحهم بالإمكانات اللازمة، ثم إرسالهم لاكتساب المهارات للتنفيذ والممارسة.
بينما يعتقد د. خالد بن دهيش أن خطوة الابتعاث هذه ممتازة، وتوجُّه قابل للتطبيق؛ للمعايشة التي سيستفيد منها هؤلاء القادة، فهي أفضل مما تقوم به الوزارة من التأهيل والتدريب والدبلومات في الإدارة المدرسية النظرية، فنتائجها لم تؤت ثمارها بالصورة المطلوبة. أما تهيئة البيئة لهؤلاء بعد عودتهم، فالمؤَمَّل أنهم هم مَنْ سيحملون لواء التغيير والتطوير للوائح والتنظيمات، وتطوير البيئة المناسبة.
وأشار د.عبد الله الضويحي إلى أن هذا النوع من التطوير، وبما يتناسب مع تأهيل المبتعثين، وما اكتسبوه من خبرات- يحتاج لدعم وتغيير كامل في نظام التعليم لدينا، فهل نحن مؤهلون لذلك؟ علق على ذلك د. يوسف الرشيدي بأنه من المفترض عندما اتّخذ القرار لابتعاثهم للتدريب والاطلاع على التجارب المتقدمة في التعليم، أنه وُضع على أساس تغيير قادم في المنهج والأسلوب، وإلا فلن تكون هناك فائدة؛ كون هؤلاء بالنهاية لا يملكون قرار التغيير، ولو طَلبوا ذلك.
واستعار د.خالد الرديعان أحد مفاهيم عالم الاجتماع ماكس فيبر، وهو مفهوم “النموذج المثالي” ideal type، حيث ذكر أن هذا النموذج في البيروقراطية، ورغم النقد الذي وُجِّه له، قد يقدم لنا بوصلة ومؤشرات مفيدة عن كيف تكون الإدارة الناجحة. فإن وجود نموذج مثالي في الإدارة التربوية يظل مطلبًا أساسيًّا، وحبذا أن يكون هناك أكثر من نموذج، على أن تكون هذه النماذج مكتوبة ومدونة للاسترشاد بها، شريطة أن يقود المدرسة متخصصون في الإدارة عمومًا، والتربية على وجه الخصوص؛ مما اصطلح عليه “إدارة تربوية”. كثرة النماذج تخرجنا من رتابة الواقع واللوائح الجامدة والموحدة، وتقدِّم لقادة المدارس فرصًا للاختيار والإبداع، وتطبيق ما يناسب كل مدرسة، وكل مرحلة عمرية حسب احتياجاتها.
استقلالية الإدارة المدرسية وصلاحيات المدير:
أشار د. راشد العبد الكريم إلى أنه لا يخفى على الجميع أن ما تعاني منه الإدارة المدرسية في الميدان تعاني منه أيضًا (الإدارة التربوية) في الوزارة، فكثيرًا ما تكون الرؤية المالية والبيروقراطية، والرؤية الشخصية للمسؤول الأعلى، أكثر تأثيرًا من الرؤية التربوية الفنية.
كما أننا ركزنا على النمو المهني للمديرين، وأعتقد – في إطار الإمكانات المادية المتاحة- أننا نجحنا إلى حد كبير، ووضعنا معايير لاختيار المديرين، وأدخلنا فكر التخطيط الاستراتيجي في المدارس (وإن كان الوضع لم يكن مناسبًا بسبب المركزية الخانقة)، لكن فكر التخطيط انتشر في المدارس. ولقد طرحت الوزارة مشروع صلاحيات مدير المدارس، والتي تعطي صلاحيات جيدة – وإن كانت غير كافية- لمديري المدارس، بما في ذلك ميزانيات المدارس، لكنها لم تُنفذ بسبب ضعف الميزانيات، وعوائق إدارية. حاولنا وضع (حوافز) للمديرين ولم ننجح؛ لكون المدير في الأساس (معلمًا)، ويتم تكليفه دون أي مميزات.
إذا لم تكن وظيفة مدير المدرسة مستقلة – وليس معلمًا مكلفًا – ولها مميزات، لا أعتقد أن الوضع سيتحسن كثيرًا. لو تُعطى المميزات المادية لبعض موظفي الوزارة لمديري المدارس، لحصلنا على أفضل المديرين. وهناك مَنْ يقول: إن بعض موظفي الوزارة – من ملاّك المدارس الأهلية أو مَنْ لهم علاقة بهم – لا يريدون للمدارس الحكومية ولا لإدارتها أن تتطور، حتى لا تنافس المدارس الأهلية.
ويؤكد د. مساعد المحيا أن الدورات التي تتيحها وزارة التعليم لمعلميها في عدد من الجامعات تسهم كثيرًا في تطوير كفاءتهم ومهاراتهم وقدراتهم .. لكن عددًا من المديرين الذين يحضرون هذه البرامج التدريبية يشتكون من أن جوانب عديدة مما تعلموها لا يمكن أن يتم تطبيقها؛ مما يضعف القيمة المهارية لهذه الدورات التدريبية، إضافة إلى أن بعضهم لا يُتاح له أن يقوم بالوظيفة الإدارية؛ الأمر الذي يثير تساؤلات عن مدى أهمية الحصول على هذه البرامج التدريبية.
ويرى د. محمد الملحم أن المشكلة الكبرى في صلاحيات مديري المدارس؛ هو غياب النضج الفكري “الإداري” لدى كثير منهم في فهم عمقها والوعي بها.
وفي ضوء ذلك تساءل د. عبد الله الضويحي: هل يستطيع مدير أو قائد المدرسة لدينا ممارسة بعض الصلاحيات خارج التعليمات؟ وماذا ستكون ردة فعل المسؤول، حتى وإن كانت ممارسته صحيحة وسليمة وذات فائدة؟ وهل يستطيع- مثلًا- تحويل المدرسة لأشبه ما تكون بالمركز الاجتماعي للحي دون أن يُحاسب؟ علق على ذلك د. محمد الملحم بأنه لا يمكنه ذلك، حتى في بريطانيا-مثلًا- تحكمه قواعد للصلاحيات، لكنها تعطي مساحة جيدة، فلا يستطيع-مثلًا- شراء أرض إضافية لمدرسته دون موافقة مجلس أعلى من مجلس المدرسة.
وتتوقع د. ريم الفريان أن المديرين أو قادة المدرسة الحاليون أشبه بوظيفة المشرف الذي ينفذ ويتأكد من تطبيق النظام. والقائد يختلف مفهومه عما يقوم به مدير المدرسة.
وأشار م. خالد العثمان أن التغيير الجذري بحاجة لاستراتيجية طويلة المدى. وهو كذلك مرتبط بمستويات متعددة ومجالات متنوعة تتطلب التغيير. لا يمكن أن نتوقع إحداث تغيير جزئي عميق في مجال الإدارة التربوية-مثلًا- دون أن يكون ضمن رؤية شاملة للتغيير المجتمعي والثقافي. ورؤية 2030 تُمثِّل إطارًا مهمًا للتغيير والتحوُّل، إلا أنها ما زالت بحاجة إلى تبني مسارات أخرى موازية تتعلق بالعمقين الثقافي والاجتماعي كأساسين مهمين وفاعلين من بين أسس التنمية الاقتصادية الشاملة.
التطوير في الأداء المدرسي:
أشار د. عبد الله الضويحي إلى أن عمر التعليم لدينا من عمر هذه الدولة، عقود من الزمن، ومليارات من الريالات تم ضخُّها فيه لرفع مستوى التعليم، ومن ضمنه الإدارة المدرسية، آلاف المبتعثين للتأهيل في مجاله، وتحديدًا في الإدارة المدرسية، الآلاف أيضًا يحملون تأهيلًا عاليًا في الإدارة المدرسية؛ ومع ذلك لا يزال دون مستوى طموحاتنا وتطلعاتنا. وأتساءل: هل اصطدم هؤلاء المؤهلون بواقع لم يستيطعوا التعامل معه؟ هل المسؤول القيادي نفسه لم يستوعب هذه التطلعات؟
في هذا الإطار، يرى د. راشد العبد الكريم أنه لا توجد جدية في تطوير أداء المدرسة الفعلي. والمبادرات غالبًا في الوزارة، وتصل رسميًّا لإدارة التعليم، وتصل شكليًّا للمدرسة، ولا تصل للفصل رسميًّا. علق على ذلك أ. محمد الدندني بأن المشكلة شمولية تمسُّ كل الوزارات، وهي سلوك وجدية وإيمان بمشروع له نتائج معينة متوقعة، ومرتبطة بمشروع وطني أكبر يعتمد على مشروع التعليم الفني والأكاديمي. ولدينا ضعف في العنصر البشري وهو المعلم، وهو من اختير ليكون مديرًا أو وكيل مدرسة. ولدينا أيضًا كثافة المنهج، كأننا نريد تخريج نموذج علماء الحضارة الإسلامية، فهو فَقِيه، وقاض، وعالم في الرياضيات. وأضاف د. محمد الملحم بأن غياب الروح المؤسسية في التغيير، وسيطرة نفوذ الإنجاز الشخصي للمسؤول الأول سببٌ رئيس لفشل أغلب هذه المحاولات.
في السياق نفسه، ذكر د. عبد الرحمن الهدلق أن هناك إنفاقًا كبيرًا بعشرات المليارات من الريالات على التعليم. وقد جاء قطاع التعليم في الميزانية الحالية في المركز الثاني بعد القطاع العسكري، بمخصصات بلغت 192 مليار ريال، مقارنة بـ 228 مليار ريال في ميزانية 2017م السابقة.
وتساءل: كيف يتم صرف هذه الأموال؟ خاصة أننا كأولياء أمور طلاب نعلم أن معظم الأدوات في المدارس؛ كالحاسب، والبروجكتور، والمعامل، والمناشط الطلابية في المدارس- تُجمع لها الأموال من بيع المقاصف، ومن تبرعات المعلمين والمعلمات، وأحيانًا من أولياء الأمور، أضف إلى ذلك نوعية المباني المستأجرة الهالكة، والتي تُستخدم كمدارس؛ مما يؤثِّر سلبًا على العملية التعليمية. والغريب أن هناك عشرات المباني المدرسية التي بُنيت، ولم يتبق عليها إلا الدهان وتركيب الأبواب، ورغم ذلك متروكة منذ أكثر من ٤ سنوات لم تُستكمل.
أعتقد بعد كل هذا ينبغي ألا نلوم قادة المدارس كثيرًا إن لم ينجحوا في مهمتهم وإدارتهم للمدارس بشكل فعَّال، في ظل التخبط المالي، وغياب الحوافز، والنظرة الاستراتيجية لمستقبل التعليم، وتكريس المركزية، والحرفية التقليدية في تطبيق النظام.
نماذج التعليم داخل الفصل وخارجه:
أشار م. سامي الحصين أن هناك نظرية ظهرت 2006 تقريبًا باسم connectivisim لها 6 مبادئ، أهمها: أن التعليم الآن خارج الفصول أكثر من داخلها، وأن التعليم مستمر لا يتوقف، وأنه لا يوجد من المهارات التي تُعلَّم في المدارس لا يمكن تعليمه خارجها. وقد طوَّرها بروفيسوران كنديان، وألقيت في أحد مؤتمرات الأمم المتحدة.
وذكر د. محمد الملحم أن الأصل هو التعليم خارج الفصل، وأن فكرة المدرسة، والفصول، والمعلمين هي تكيّف مع التوسُّع البشري. في الولايات المتحدة تنتشر المدرسة المنزليةhome school، وكثير من الدول المتقدمة اليوم في الشرق تُقدِّم الخدمة التعليمية بالنمط التقليدي (اليابان -هونغ كونغ- كوريا). مع توفير نماذج حداثية. ولكن لا يمكن أن تحدث ثورة كلية قريبًا؛ لعدم استقرار هذه النماذج في إطار إنتاجي واسع mass production بلغة الإدارة الصناعية. وعمومًا فإن الطموح للأفضل حلم كل مبدع، لكن الواقعية هي الأسلوب الحكيم للتغيير الناجح، وشواهد عكس ذلك كثيرة جدًّا.
وذكر د. خالد بن دهيش أنه خلال زيارته لأستراليا قبل 9 سنوات اطلع على تجربتهم في مجال التعليم خارج الصف أو المدرسة، من خلال تطبيق تقنية التعليم عن بعد للمرحلة الابتدائية؛ وكان ذلك بسبب ظروف البعد لبعض التجمعات السكانية، وصعوبة فتح المدارس فيها. في ذلك الوقت كانت البنية التحتية للإنترنت ضئيلة جدًّا، يصعب معها تطبيق هذا النموذج. ولكن الآن يمكن تطبيق أسلوب التعليم خارج الصف أو المدرسة عند الحاجة لذلك الأسلوب، وعلى سبيل المثال: فإن الجامعة السعودية الإلكترونية حاليًّا تُقدِّم التعليم Distance learning using technology، أو التعليم المدمج Blended learning، وتمنح درجة البكالوريوس.
من جانبه، أضاف م. خالد العثمان أنه قبل عدة سنوات طرحت مقترحًا على وزارة التعليم لتطوير نموذج تصميم المدارس كوسيلة لتطوير بيئة التعليم. المقترح كان ببساطة أن يذهب الطالب إلى المعلم بدلًا من أن يذهب المعلم إلى الطالب، وبالتالي يكون لكل مادة ومعلم ما يشبه المعمل أو المختبر أو المعهد، يُقدم فيه علوم ومعارف تخصصه، ويذهب الطلاب متنقلين من معمل إلى آخر بحسب توزيع حصصهم المدرسية. هذا النموذج يُحقِّق مكاسب كثيرة، ليس أقلها تحقيق احترام المعلم وتأصيل مكانته، علاوة على فرص تجهيز تلك المعامل بوسائل تقنية أكثر فعالية وتطوُّرًا وتنوُّعًا، بما في ذلك فرص تطبيق حصص دراسية عن بُعد بوسائل اتصالات إلكترونية تفاعلية.
الإدارة التربوية ورؤية 2030:
وتساءل د. فهد الحارثي، و م. خالد العثمان: كيف يمكن تطوير طواقم العمل، وتفعيل دور الإدارة التربوية لتأهيل الشباب لهذا التحول وفق رؤية 2030 ؟
علق د. محمد الملحم بأنه لا يمكن تحقيق ذلك بدون وجود إدارة فاعلة جيدة متقنة واعية، تستطيع أن تفهم الفكر الحديث والأساليب المتقدمة. لا يمكن أبدًا أن تسير العجلة بدون روح قيادية، ونحن نتكلم عن “تربية” و”تعليم”. إلا أن م. خالد العثمان أبدى تخوفه من طغيان جانب التكنولوجيا على التعليم والتطوير وكل مناحي الحياة. فالقيم والمواهب الإنسانية يجب أن تنال حظَّها من المعادلة.
وفي رأي د. عبد الله الضويحي، فإن التعليم وإن احتاج للتقنية؛ لكنه يحتاج للقيم أيضًا؛ لأن التعليم والإدارة ملكة وموهبة، وسيطرة التقنية قد تلغي الإبداع الذاتي، وأعني الإبداع في التعامل مع التقنية. ويعتقد أ. محمد الدندني أن التعليم الجيد- والذي يستحث التفكير والإبداع-كفيلٌ بتنمية المواهب، والتعامل مع التقنية. مع التأكيد على أهمية القيم والتربية، ودون مبالغة أو تخوف من ضياع القيم بسبب العلم والتقنية.
الإدارة التربوية (نظرة مستقبلية):
وحول الحديث عن مستقبل التعليم، يعتقد د. خالد الرديعان أنه يُمكن الاستفادة كثيرًا من التقنيات الحديثة في هذا الجانب أخذًا في الاعتبار ما أشير إليه بشأن “التعليم المنزلي” الذي سيُوفِّر مبالغ طائلة في إنشاء المدارس، والمواصلات، والخدمات التي نجدها عادة في مدرسة؛ حيث يستطيع الطالب من خلال التعليم المنزلي التواصل مع المعلم وزملائه عبر التطبيقات الذكية والتقنيات الحديثة دون أن يبرح منزله. وستكون المقررات مرنة؛ بحيث يتعلم التلميذ ما يميل إليه دون التقيد بمقررات معدة سلفًا، مع وجود حد أدنى لمواد تكون مشتركة أو إجبارية. إن إدخال شيء كهذا قد ينسف مفهوم التعليم التقليدي رأسًا على عقب؛ بحيث يكون الحديث عن “المدرسة الذكية”. القضية بالطبع لها جوانب تربوية واقتصادية واجتماعية. يُفترض أن نفكر في التعليم كذلك من منظور اقتصادي، فهو يستهلك جزءًا لا يُستهان به من الدخل الوطني، وإدخال الأساليب الذكية في التعليم سيخلق وفرًا ماليًّا يُوجَّه إلى قطاعات أخرى.
¤ التوصيات المقترحة:
- تحرير مصطلح الإدارة التربوية المرادف لمصطلح الإدارة التعليمية، باعتبارها- أي ( الإدارة التربوية )- أشملَ وأعمَّ.
- تطوير نظام الإدارة التربوية للمدارس بالاستفادة من المفاهيم الحديثة، بما يعطي نوعًا من الاستقلالية والصلاحيات للمدرسة وإدارتها، ووضع أكثر من نموذج لإدارة المدرسة، على أن تكون هذه النماذج مكتوبة ومدونة للاسترشاد بها.
- إعطاء صلاحيات واسعة لإدارات التعليم في المناطق (اللامركزية المناطقية)؛ لإضفاء مرونة تامة على العمل التربوي، وذلك حسب احتياجات كل منطقة، وطبيعتها الثقافية والإيكولوجية والجغرافية.
- التوسُّع في منح مزيد من الصلاحيات التعليمية والحوافز لقائد المدرسة؛ بسبب تباعد المدارس والإدارات، وحاجتها للقرار السريع والصلاحيات، في ظل تخصيص ميزانية تشغيلية لكل مدرسة.
- وجوب إعطاء مديري المدارس ومعلميهم مساحات من الحرية في إدارة شؤونهم الإدارية، على أن تكون هناك آلية لاختيار المدير والمحفزات المصاحبة لهذا الدور الإداري. مع الاهتمام بتأهيل المديرين وإعدادهم الإعداد الجيد، ليس من خلال الدورات أو البرامج التدريبية؛ وإنما التأهيل الأكاديمي المتخصص، ووضع رخصة مهنية تتجدد كل خمس سنوات وفق متطلبات معينة.
- أن يكون لكل مدرسة رؤية ورسالة حسب الحي الذي تقطن فيه، وإن كانت داخل مدينة واحدة تترجم بصورة واضحة أهداف تسعى المدرسة إلى تحقيقها، ضمن منظومة كاملة من الخيارات تحت مظلة رؤية وأهداف الوزارة.
- إنشاء مجالس للتربية والتعليم في المدن الكبيرة وفي المحافظات، منتخبة من فئات المجتمع المتنوعة من الأكاديميين والمثقفين ورجال الأعمال، تكون رافدًا لإدارات التعليم، خاصة فيما يتعلق بالإدارة المدرسية، والمخرجات التعليمية.
- إنشاء مجلس يمثل الشركات الكبرى (حكومية، خاصة، أو مختلطة)، يضمُّ في عضويته ممثلًا للتربية والتعليم؛ لنقل رؤيتها لهذه الشركات، والاطلاع على برامجها وخططها، كلٌّ في مجاله؛ كونها الموظِف الأكبر، ولتكون شريكة فيما يتعلمه الطالب، والتركيز عليه.
- تهيئة الكفاءات المؤهلة والمتمكنة من القدرة على تطبيق الدراسات والمشروعات في مجال تطوير الإدارة المدرسية، ونقل التجارب الناجحة كما عايشوها بما يتناسب وطبيعة المجتمع.
- أنسنة الإدارة التربوية؛ للخروج من الرتابة والقواعد الجامدة، بإضفاء مزيد من البعد الإنساني على العمل التربوي، وخاصة قيادة المدرسة.
- الاطلاع على تجارب دول أخذت بالتقنية بجدية، وطبقت نظريات تربوية وتعليمية خارج الواقع، والتفكير في التعليم عن بُعد لتجاوز عوائق ومشكلات وصول الخدمة التعليمية، مع الحذر من مغبّة الوقوع في هالات التطبيقات المتقدمة دون استعداد حقيقي لها.
- إعداد القادة ومن يديرون التغيير من مجموعة متكاملة ومتجانسة من وسط التعليم ذاته، تجمع بين الشباب الطموح القادر على استيعاب التغيير، وأصحاب الخبرة الميدانية، والقيادات القادرة على اتخاذ القرار بموجب صلاحياتهم.
- حفظ هيبة قائد المدرسة، وعدم تعريض طاقم المدرسة عمومًا لوسائل التواصل الاجتماعي، والتشهير بهم، وجعل القضايا التي تتم داخل المدارس مادة مباحة للعامة، تتناولها كيفما تشاء.
- الحرص على أن تتمتع القيادات الإدارية- ممَّن تعمل على تطبيق الأفكار، ووضعها موضع التنفيذ- بفكر منفتح غير تقليدي، ويتم اختيارها وفقًا للكفاءة والإنجازات المجربة، بعيدًا عن العلاقات والشللية، والواسطة والمحسوبية.
- حثّ كليات إدارة الأعمال وكليات التربية في جامعاتنا السعودية على توجيه طلبة الدراسات العليا، وبعض أبحاث الترقية للأساتذة نحو القضايا الإدارية التربوية في مدارسنا، من واقع تطبيقي في ضوء رؤية 2030 وخططها التنموية، من خلال أبحاث ودراسات بينية مشتركة، آخذة في الاعتبار الاستفادة من تجارب ناجحة سبقتنا في هذا المجال.
الملخص التنفيذي
القضية: واقع الإدارة التربوية والنظرة المستقبلية لها في العملية التربوية التعليمية.
طرحت الورقة الرئيسة التي قدمها أ.د راشد العبد الكريم قضية الإدارة التربوية “الواقع والنظرة المستقبلية”، من خلال التناول بالنقد والتطوير لواقع الإدارة التربوية في المدرسة، ومناقشة مسمياتها وتخصصاتها، والمهام والمسؤوليات، ومشاكل المعوقين لها، والممارسات التي تحدُّ من فعاليتها، وبعض رؤى وممارسات التطوير، مثل ابتعاث المعلمين لنقل التجارب الخارجية في الإدارة التربوية، وكذلك ربطها برؤية 2030.
كما تناولت بعض أسباب ضعف الإدارة التربوية، وغياب مفهوم الإدارة الحديثة، وعدم وجود إدارة تربوية حديثة تتوافق مع متطلبات الإدارة التربوية الحديثة، وأن واقع الإدارة التربوية لا يتعدى دور الإدارة العامة التقليدية، الذي لا يتعدى تنفيذ المهام، والإجراءات الروتينية.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة، في أن أكثر ما تعاني منه الإدارة التربوية؛ هو الإدارة المركزية، بالرغم من أنها من أكثر القطاعات احتياجًا للإدارة اللامركزية، إضافة إلى عدم وجود دعم فعلي من قبل إدارات التعليم ماديًّا أو معنويًّا، وانشغال القائمين على العملية التعليمية بتغيير المسميات على حساب المضمون، وبدون إدراك لمدى الاستعداد لهذا التغيير، وكان يُفترض أن يتم تحديد أبعاد الفجوة بين الوضع الراهن والوضع المستقبلي الذي نطمح إليه، مع الأخذ في الحسبان تغيير البيئة والظروف المحيطة، والتمويل اللازم، والأهم الموارد البشرية المؤهلة والكفوءة. مع أهمية إعداد القادة ومَنْ يديرون التغيير، بداية من اختيار العناصر المميزة، والعمل على إكسابهم المهارات اللازمة لمرحلة التغيير من وسط التعليم ذاته. ووجوب إعطاء مديري المدارس ومعلميهم مساحات من الحرية في إدارة شؤونهم الإدارية، دون تقييدهم برؤى وأفكار وتوجهات إدارات التعليم التي عادة ما تكون تقليدية.
وناقشت المداخلات التي دارت حول موضوع القضية بعض إشكاليات الإدارة المدرسية، مثل: تغيير مُسمَّى مدير المدرسة بقائد المدرسة، بالإضافة إلى مشاكل المعوقين للإدارة، ووجود بعض الممارسات التي تحدُّ من فعالية الإدارة التربوية.
وتطرقت المداخلات إلى وجود دراسات ومشروعات في مجال تطوير الإدارة المدرسية تستلزم تهيئة الكفاءات المؤهلة والمتمكنة من القدرة على التطبيق. إلا أن هناك مَنْ رأى أن هذه الدراسات غير ممكنة التطبيق في ظل الظروف الحالية للإدارة المدرسية، حتى مَنْ سيتم ابتعاثهم لا يستطيعون التغيير بدون الدعم المادي والمعنوي والنظامي، حتى وإن امتلكوا المهارات والخبرات الكافية.
واقترح المناقشون مجموعة من الرؤى التطويرية لإيجاد إدارة تربوية فاعلة جيدة متقنة واعية، تستطيع أن تفهم الفكر الحديث والأساليب المتقدمة، وتتوافق مع رؤية 2030؛ من هذه الرؤى: ضرورة استقلالية الإدارة المدرسية، وإعطاء المدير صلاحيات واسعة، والابتعاث لمعايشة ونقل التجارب الخارجية، والاستفادة من المفاهيم الحديثة للإدارة التربوية، وتهيئة الكفاءات المؤهلة والمتمكنة من القدرة على تطوير الإدارة المدرسية، ونقل التجارب الناجحة كما عايشوها بما يتناسب وطبيعة المجتمع.
وكذلك التوسع في منح مزيد من الصلاحيات التعليمية والحوافز لقائد المدرسة، وإعطاء مديري المدارس ومعلميهم مساحات من الحرية في إدارة شؤونهم الإدارية.
بالإضافة إلى إعداد القادة ومَنْ يديرون التغيير من مجموعة متكاملة ومتجانسة من وسط التعليم ذاته، تجمع بين الشباب الطموح القادر على استيعاب التغيير، وأصحاب الخبرة الميدانية، والقيادات القادرة على اتخاذ القرار بموجب صلاحياتهم.
المحور الرابع
(لجان التنمية الاجتماعية والدور المحلي
المنوط بها في ضوء التحوُّلات التي
تعيشها المملكة )
المحور الرابع
لجان التنمية الاجتماعية والدور المحلي المنوط بها في ضوء التحوُّلات التي
تعيشها المملكة:
¤ الورقة الرئيسة: د. حميد الشايجي.
تعتبر التنمية بمفهومها العام والشامل عملية واعية موجهة لصياغة بناء حضاري اجتماعي متكامل، يؤكد فيه المجتمع هويته وذاتيته وإبداعه. والتنمية بهذا المفهوم تقوم أساسًا على مبدأ المشاركة الجماعية الإيجابية، بدءًا بالتخطيط واتخاذ القرار، ومرورًا بالتنفيذ وتحمُّل المسؤوليات، وانتهاءً بالانتفاع بمردودات وثمرات مشاريع التنمية وبرامجها. ويرى “هوبهاوس” أن التنمية الاجتماعية عبارة عن تطوُّر البشر في علاقاتهم المشتركة، وهذا ما يسميه بالتوافق في العلاقات الاجتماعية، فتغير البناء الاجتماعي لا يعنى شيئًا بالنسبة له ما لم يحدث تغيير في طبيعة العلاقات الاجتماعية؛ ولهذا يُنظر إلى التنمية الاجتماعية على أنها تنمية علاقات الإنسان المتبادلة.
وتعدُّ التنمية عملية ديناميكية مستمرة، أي أنها ليست حالة ثابتة أو جامدة. كما أنها ليست ذات طريق واحد أو اتجاه محدد مسبقًا، وإنما تتعدد طرقها واتجاهاتها باختلاف الكيانات، وباختلاف وتنوع الإمكانيات الكامنة في داخل كل كيان، وعلى ذلك فهناك شرطان لعملية التنمية:
1) إزاحة كل المعوقات التي تحول دون انبثاق الإمكانيات الذاتية الكامنة داخل كيان معين (الفرد- أو المجتمع).
2) توفير المؤسسات التي تساعد على نمو هذه الإمكانيات الإنسانية المنبثقة إلى أقصى حدودها.
ولتحقيق هذين الشرطين لابد من التدخل الاجتماعي الرسمي وغير الرسمي، لتحقيق تنمية المجتمعات المحلية. وقد نال موضوع تنمية المجتمع المحلي في المملكة العربية السعودية اهتمامًا كبيرًا، واهتمت به قطاعات حكومية وأهلية كثيرة ومتنوعة (اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وزراعية، وصحية، وغيرها). ولقد أخذت المملكة بأسلوب تنمية المجتمع المحلي منذ عام (1380هـ)، وقبل إنشاء وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وكان ذلك عن طريق وزارة المعارف، حيث أُنشئ مركز التنمية الاجتماعية بالدرعية كمركز تجريبي، وبعد إنشائه شُكلت لجنة من الأهالي للعمل، وأُسست جمعية تعاونية، وكُوّن تجمع شبابي كان نواة لنادٍ هناك، كما أقيمت دار للفتاة أصبحت فيما بعد مدرسة للبنات، وقد اعتبرت هذه المنجزات مؤشرات طيبة لنجاح التجربة. وفي عام (1381هـ) أُنشئت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، التي أخذت على عاتقها التوسع في المشروع، وذلك بإقامة عدد من المراكز في المناطق الحضرية والريفية على حد سواء.
وتعتبر مراكز التنمية الاجتماعية-على ضوء ما ورد في القواعد التنفيذية للائحة التنظيمية لمراكز التنمية الاجتماعية الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم 161 في 11/5/1428هـ- “مؤسسات اجتماعية تقوم على أساس إقناع المواطنين بحاجات مجتمعاتهم المحلية إلى النمو والتطوير، وإشراكهم في بحث احتياجاتهم ومشاكلهم، وتخطيط برامج الإصلاح اللازمة، ومشاركتهم ماديًّا وأدبيًّا في سبيل تنفيذ هذه البرامج” (موقع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية)1. ولتقوم مراكز التنمية بتنفيذ يرامجها تم استحداث جهتين تنفذ مراكز التنمية من خلالهما عملية تنمية المجتمعات المحلية، تمثلتا في: لجان التنمية الاجتماعية، والجمعيات التعاونية. تعمل جميعها على تشجيع المجتمع السعودي على الأخذ بأسباب التنمية من أجل تحسين مستوى المعيشة، والعمل على الحد من التباينات والمشكلات الاجتماعية الناتجة عن التغير الاجتماعي السريع، ودعم الروابط الأسرية، والاهتمام البرامجي برعاية وتربية الأطفال وتنشئتهم على أسس قويمة، وتنمية القدرات الذهنية والبدنية للشباب؛ هذا في الجانب الحكومي. وفي الجانب الأهلي، تعزيز دور الجمعيات الأهلية للمشاركة في تنفيذ مشروعات اجتماعية واقتصادية، تسهم في المحافظة على الاستقرار الاجتماعي للمملكة.
وتعدُّ مراكز التنمية الاجتماعية مؤسسات اجتماعية تنشئها وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وتديرها، وتشرف عليها. تهدف إلى تنمية المجتمعات المحلية تنمية اجتماعية متكاملة وشاملة، وفق الأساليب العلمية الحديثة المستندة إلى احتياجات المواطن في تلك المجتمعات. وتقوم المراكز على أساس مشاركة الأهالي في تلمسّ احتياجاتهم، ومشاركتهم ماديًّا ومعنويًّا وبشريًّا في تنفيذ مختلف البرامج التنموية: الاجتماعية، والثقافية، والتدريبية، والترفيهية، والرياضية، والصحية، والزراعية، والبيئية، التي تسهم في سدّ احتياجات المجتمع المحلي وتنميته، وتحقيق أمنه وسلامته.
أمَّا لجان التنمية الاجتماعية الأهلية: فهي لجان مكونة من عدد من المواطنين؛ بهدف تلمسُّ احتياجات المجتمع المحلي التنموية، والعمل على تحقيقها بالمشاركة مع الدولة ممثلة في وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، تشرف عليها مراكز التنمية الاجتماعية، وتعمل على حث الأهالي وتشجيعهم على تكوينها لبحث الاحتياجات العامة لمناطقهم ومجتمعاتهم المحلية، والعمل على تلبيتها من خلال برامج التنمية المتنوعة التي تقترحها اللجان، ويسهم فيها أفراد المجتمع ماديًّا ومعنويًّا وبشريًّا، ويجوز أن تنشأ في المدينة الواحدة أكثر من لجنة. وللوزارة تقديم إعانة تأسيس لكل لجنة بما يكفل لها البدء في أعمالها الإدارية والاجتماعية. ولقد صل عدد مراكز التنمية الاجتماعية2 في المملكة إلى (41) مركزًا، يعمل بها أكثر من (502) لجنة للتنمية الاجتماعية الأهلية.
وتطويرًا للدور المنوط بمراكز التنمية الاجتماعية فيما يتصل بتنمية المجتمع المحلي، تدور البرامج حول سكان المجتمع المحلي؛ بهدف إثارة الشعور بالمشكلات الاجتماعية في المناخ الاجتماعي المحيط، ووضع الاختيارات الممكنة والمتاحة لإيجاد الحلول المناسبة لهذه المشكلات، وابتكار المحاور التي تستوعب طاقات الأهالي وتحفيزهم على إنشاء مشروعات الجهود الذاتية، بالإضافة إلى الاستفادة من الخبرات الأهلية المعطاءة، صاحبة الوعي الاجتماعي والابتكار البرامجي؛ لتقديم مبادرات لتحقيق التنمية المحلية، والتي تتمثل في حثّ المشاركة الواسعة من فئات المجتمع المحلي ذات الاستنارة المعرفية والاجتماعية، ووضع برامج جديدة ومستحدثة لتدريب المواطنين على حل المشكلات، وتنمية إمكانات الاعتماد على الذات من خلال برامج تطبيقية ميدانية.
ولقد أطلقت وكالة التنمية الاجتماعية عددًا من المبادرات التنموية، التي تنفذها مراكز ولجان التنمية الاجتماعية، مثل:
مبادرة إرشاد: تسعى إلى تحقيق الاستقرار الأسري، من خلال السعي لعلاج المشكلات الأسرية.
مبادرة دلوني: تسعى إلى مساعدة المواطنين للوصول إلى الخدمات الاجتماعية المتاحة في المجتمع.
مبادرة تأهيل: تسعى إلى تهيئة المقبلين على الزواج، وتعريفهم بأساسيات التعامل بين الزوجين.
مبادرة جاري: تسعى إلى تحقيق المزيد من الترابط الاجتماعي بين الجيران، في ظل التوسُّع العمراني.
مبادرة ضيافة: تسعى إلى تهيئة كوادر بشرية متخصصة لمتابعة مراكز ضيافة الأطفال.
مبادرة الرائدة الاجتماعية: تسعى إلى التثقيف الاجتماعي والمساندة الاجتماعية للأسر في منازلها.
مبادرة إنتاجي: تسعى إلى تنشيط برامج الأسر المنتجة، ومساعدتها على التسويق.
مبادرة إحسان: تسعى إلى دعم النساء المطلقات؛ لتحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي لهن.
مبادرة توفيق: تسعى إلى تحقيق عملية التوفيق بين الراغبين في الزواج.
مبادرة نهارية: تسعى إلى تقديم رعاية نهارية وتأهيل للأطفال المعاقين والتوحديين، ودعم أسرهم.
مبادرة تجميل: تسعى إلى إكساب الفتيات مهارات وإتقان التجميل وتصفيف الشعر.
مبادرة مهارة: تسعى إلى إكساب الفرد المهارات الأساسية في الاحتياجات المهنية البسيطة.
مبادرة حرفتي: تسعى إلى إكساب المرأة حرفة، وتطوير المهارات المهنية التي تمتلكها، وصقل قدراتها الإنتاجية التنافسية المستدامة.
مبادرة هواية: تسعى إلى إكساب الهوايات التي يمتلكها الشباب والفتيات، وصقلها، وتطويرها.
وتعتمد اللجان في تمويلها على الدعم المالي الجزئي من الوزارة، ويجوز للّجان جمع التبرعات وقبول الهبات والوصايا والأوقاف، وفقًا للأنظمة المرعية التي تنظم ذلك. كما يجوز لها – بعد موافقة الوزارة – استثمار أموالها التي تزيد على احتياجاتها في نشاطات يكون لها عائد مالي يساعدها على تحقيق أهدافها، بما لا يتعارض مع الأنظمة والتعليمات الصادرة في هذا الشأن.
الصعوبات والمشكلات التي تواجه عمل لجان التنمية الاجتماعية:
على الرغم من الدور البارز الذي تقوم به لجان التنمية الاجتماعية، من ناحية البرامج والأنشطة المتعددة، ودور المؤسسات الأهلية والمبادرات المحلية التي تلعب دورًا بارزًا في دعم لجان التنمية الاجتماعية وتعزز من موقعها؛ إلا أن هناك العديد من التساؤلات والإشكالات والمعوقات التي تواجه لجان التنمية، تتمثل في:
– ضعف فاعلية بعضها.
– اقتصار تواجدها على بعض المدن والبلدات.
– أنها لم تغط مختلف الأنشطة التي وُجدت من أجلها في المجتمع.
– لم تلب إلى الآن طموحات وتطلعات أبناء المجتمع.
– بعضها لم يلب تطلعات وزارة العمل والتنمية الاجتماعية.
– من المفترض أن تتحول إلى لجان أهلية مستقلة بعد أكثر من نصف قرن من إنشائها.
– القصور في علاقة لجان التنمية الاجتماعية بالمجتمع؛ بسبب ضعف اللجان ذاتها، وعدم تواصلها الفعال مع المجتمع.
– أن الكثير من أبناء المجتمع لا يعرفون دور هذه اللجان؛ مما يعني أنهم لا يقدمون دعمًا معنويًّا أو ماديًّا مناسبًا لها؛ بسبب ضعف وعيهم بدورها.
– هناك المعوقات الإدارية؛ كضعف خبرة بعض العاملين فيها، وقلة فاعليتهم.
– اعتمادها في عملها على التطوع، وما يشوب ذلك من عدم الاستقرار والديمومة.
– العقبات المالية؛ كنقص الموارد سواء من الجهات الرسمية أو الأهلية، ومحدودية دعم الوزارة للمشاريع المقترحة.
– اللوائح التنظيمية التي صدرت بخصوص لجان التنمية الاجتماعية لم تُفعَّل بصورة كاملة، وخاصة من جهة الصفة الاعتبارية لهذه اللجان.
– إشكالية بيروقراطية العمل في لجان التنمية، وضرورة السعي لكسره؛ حيث إن ذلك يعيق الإبداع.
– هناك تسلط أحيانًا من قبل القائمين في اللجان على المشاريع التطوعية التي تُقدَّم لهم من بعض المجموعات التطوعية لاحتضانها.
غياب الوعي لدى بعض المسؤولين الرسميين حول دور اللجان ومهامها التنموية؛ مما يؤدي إلى بروز الكثير من الاجتهادات الشخصية التي تعيق عمل اللجان، وتحد منها.
هناك معوقات رسمية وإدارية ومالية واجتماعية؛ كاستخراج التراخيص للمشاريع، حيث تُواجه اللجان بأنماط بيروقراطية، تجعل من إقامة مشروع في غاية التعقيد والصعوبة.
تجدر الإشارة إلى أهمية الرؤية الوطنية 2030 وتأثيرها على العمل التنموي والاجتماعي، وهنا تبرز أهم الأمثلة التي تحتاج إلى تأمل وبحث ودراسة، ومن أهمها: كيف يمكن صياغة رؤى وأهداف لجان التنمية الاجتماعية وفق رؤية وأهداف واستراتيجيات الرؤية الوطنية الشاملة؟ ولا شك أن العمل التنموي والاجتماعي يقف الآن تجاه تحقيق الرؤية الوطنية في موقف الضغط والتحدي لمواجهة كل العقبات والصعوبات التي تحول دون تحقيق تلك الرؤية، وبخاصة في الظروف الحالية، وضرورة مواجهة ومعالجة الصعوبات والمشكلات التي تعاني منها لجان التنمية الاجتماعية.
وأخيرًا فإن هناك ثلاث مهام ومسؤوليات يتوجب الاهتداء بها في سلوك وأداء القائمين على هذه المراكز ولجان التنمية الاجتماعية، وهي:
أولًا: الاهتمام بتحويل المجتمع المحلي من كونه نسقًا فرعيًّا أو حتى شبه نسق إلى أن يصبح نسقًا متكاملًا مترابطًا، يعتمد على سلوك التفاعل الاتصالي بين جماعات ومنظمات المجتمع، كي يكون هو صاحب الصيغة الفعالة في صنع القرارات المحلية بفعل هذا التواصل، ولإمكانية تحمُّل مسؤولية تنفيذ القرار.
ثانيًا: الاهتمام بتضمين البرامج التدريبية تدريب جماعات ومنظمات المجتمع المحلي على تعرُّف مشكلات الواقع وتشخيصها، ووضع سُبُل المعالجة المناسبة، وإكسابهم اتجاهات ومهارات جديدة تزيد من إمكانات الثقة في الذات، وتبني منهجية علمية لحل مشكلاتهم المحلية، وإمكانات التقييم والمتابعة.
ثالثًا: الاهتمام بالعمل على ربط حركة المجتمع المحلي بحركة المجتمع العام، من خلال عملية الفعل الاجتماعي والتدخل المقصود، حينئذ تصبح مهمة مراكز ولجان التنمية الاجتماعية هي تنظيم جهود مواطني المجتمع المحلي لمواكبة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية؛ لتحقيق العدالة الاجتماعية، والتكافل بين كافة جماعات ومنظمات المجتمع. مع ضرورة بناء قدرات الجهات العاملة في القطاع الثالث وحوكمتها، وتمكين العمل التطوعي، وتوسيع القطاع وتوجيهه للعمل في مجالات التنمية، وتنظيم وتمكين العمل الاجتماعي والتنموي، وضرورة الارتقاء بالتدريب لمنسوبي الوزارة حتى يكون الأداء في مستوى التطلعات والخطط الموضوعة للارتقاء بمستوى الخدمة الاجتماعية المُقدَّمة.
¤ التعقيب الأول: د. حسين محمد الحكمي.
أشار د. حسين الحكمي في بداية تعقيبه إلى اللائحة التنظيمية للجان التنمية الاجتماعية1، والتي جاء في المادة الرابعة منها: تعمل المراكز على حثّ الأهالي – في المناطق التي تقع في نطاق عملها – على تكوين اللجان، وتشجيعهم على ذلك لبحث الاحتياجات العامة لمناطقهم ومجتمعاتهم المحلية، والعمل على تلبيتها من خلال برامج التنمية المتنوعة التي تقترحها اللجان، ويسهم فيها أفراد المجتمع ماديًّا ومعنويًّا وبشريًّا، ويجوز أن تنشأ في المدينة الواحدة أكثر من لجنة.
وأضاف أنه من خلال البيانات التي أوردها د. حميد في ورقته، والأربع عشرة مبادرة التي ذكرها، فإن مَن يطلع عليها يشعر بأن الدور المنوط باللجان كبير، وأثره يُفترض أن يكون ملموسًا وملاحظًا وواضحًا ومؤثرًا، لاسيما أنه يمسُّ الشأن الاجتماعي مباشرة. الواقع المُشاهَد أن الدور لهذه اللجان لما يصل بعدُ للمأمول منها، ربما للتحديات التي ذكرها د. حميد في ورقته دور في ذلك، وربما هناك أسباب إضافية.
تمرُّ المملكة بمرحلة تحوُّل، وتحتاج لتكاتف جميع مؤسسات المجتمع الحكومية منها والأهلية. كما أن ما يدور من تغيرات في النسقين الاقتصادي والسياسي وتأثيراتها على النسق الاجتماعي تتطلب أن يتم تفعيل الأدوار المطلوبة من اللجان، وأن تكون هناك أدوارٌ إضافية مؤقتة تتواءم مع المتغيرات الحالية.
عندما يتحدث أي شخص في قضية من القضايا المجتمعية، نجد أن هناك مَنْ يقول: إننا بحاجة لزيادة الوعي، وأرى أن من أدوار اللجان نشر الوعي بشكل عام، والعمل على معالجة المشكلات أو الوقاية منها. نعلم أنَّ هناك تحديات مجتمعية، مثل: البطالة، وصعوبة امتلاك مسكن، والتطرف الفكري، والطلاق، وصعوبة الزواج، والانحرافات السلوكية، وسلوكنا المروري الذي ينتج عنه وفيات وإصابات كثيرة، هذه وغيرها تحتاج إلى برامج وأنشطة مستمرة، وليس فقط محاضرة أو ندوة أو منشور. وعلى وزارة العمل والتنمية الاجتماعية أن تعيد ترتيب الأولويات، ويتم وضع خطط مناسبة ومستمرة لمعالجة أي مشكلة أو للوقاية من أي خطر. وضرورة تفعيل دور اللجان بالتعاون مع بقية الإدارات الحكومية والأهلية -كما ينص النظام – فدورها الآن لا يتناسب مع المرحلة التي يمرُّ بها الوطن.
¤ التعقيب الثاني: د. عبد الله بن صالح الحمود.
ذهب د. عبد الله الحمود إلى أن التنمية الاجتماعية- باعتبار مفهومها العام والشامل-هي عملية واعية موجهة لصياغة بناء حضاري اجتماعي متكامل، يؤكد فيه المجتمع هويته وذاتيته وإبداعه، وأن التنمية بهذا المفهوم تقوم أساسًا على مبدأ المشاركة الجماعية الإيجابية، بدءًا بالتخطيط واتخاذ القرار، مرورًا بالتنفيذ وتحمُّل المسؤوليات، وانتهاءً بالانتفاع بمردودات وثمرات مشاريع التنمية وبرامجها. من هنا يتضح للجميع أن مسألة وجود لجان تنمية اجتماعية داخل الأحياء هو منهج سليم وقويم لرفعة المستوى الاجتماعي للحي، والنهوض بمستوى العلاقات الاجتماعية بين ساكني الحي الواحد، فضلًا عن بناء ترابط أخوي داخل الحي؛ مما يزيد من المحبة والألفة بين الجميع، لاكتساب بناء إنساني مؤمل.
وقد أشار د.حميد في ورقته إلى أن المملكة العربية السعودية قد أخذت بأسلوب تنمية المجتمع المحلي منذ عام (1380هـ)، وقبل إنشاء وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وكان ذلك عن طريق وزارة المعارف؛ مما يؤكد لنا أهمية النهوض بمثل هذه المشاريع، وأنَّ مشروعًا اجتماعيًّا كهذا يُمثِّل بناءً اجتماعيًّا منشودًا، ستتأتى من خلاله ثمرات تسهم في توافر منظومة اجتماعية تدعم العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وتوجد ترابطًا يعدُّ مسلكًا حقيقيًّا في جعل ثقافة التطوُّع طريقًا للتعاون المجتمعي.
ومن خلال مشاركتي السابقة في لجنة الحي التابع لنا، فقد رأيت أنها تتجه نحو تقديم مزيد من التنظيم، وتفعيل الدور المفترض الاضطلاع به لهذه اللجان الاجتماعية، التي تعدُّ رافدًا حقيقيًّا لرفعة الدور الاجتماعي في المجتمع. وأناشد وزارة العمل والتنمية الاجتماعية أن تقدم مزيدًا من الدعم والمؤازرة لهذه اللجان الواعدة التي تعدُّ إحدى ثمرات الرقي بمستوى الحي السكني اجتماعيًّا واقتصاديًّا وتعاونيًّا.
وقد قدمت وقتها العناصر الأساسية التي تعدُّ الطريق نحو تأسيس منهج لأعمال هذه اللجان، وأحد الضوابط التنظيمية لتقويم هذه اللجان الاجتماعية، هذه العناصر هي:
أولًا: لجنة التنمية الاجتماعية بالحي: وهي مؤسسة اجتماعية يمكن لكل فرد من سكان الحي المشاركة في أنشطتها وبرامجها، التي تهدف إلى تقديم الخدمات الاجتماعية، والاستشارات التربوية والثقافية لجميع سكان الحي بمختلف فئاتهم العمرية من الجنسين، كلّ بحسب رغبته وميوله وهواياته، وتوظيف تلك المشاركة للارتقاء بمستوى الحي، وتعزيز دور العلاقات الاجتماعية بين قاطني الحي في إطار تعاليم الشريعة الإسلامية السمحاء.
ثانيًا: رؤية اللجنة: أن تكون اللجنة منشأة اجتماعية، ليصبح كل فرد من أفراد الحي مميزًا في قدراته، أنموذجًا لغيره، له بصماته الواضحة في تنمية مجتمعه نحو العديد من المجالات.
ثالثًا: رسالة اللجنة: إيجاد علاقة إيجابية بين الفرد والحي الذي يعيش فيه، وتشجيع مشاركة أفراد الحي في جهود تنمية وتطوير حيهم، والمحافظة على مكتسباته ومنجزاته المادية والاجتماعية، وتنظيم البرامج والنشاطات التي تخدم مجتمع الحي.
رابعًا: قيم اللجنة: التعاون، العمل بروح الفريق الواحد، التركيز على الهدف.
خامسًا: الأهداف العامة للجنة: السعي الدؤوب نحو إيصال خدمات اللجنة إلى الأهالي في مناطق سكناهم، واستيعاب جهودهم في العمل لتحقيق أفضل مستويات الخدمة الاجتماعية في الحي، ويتأتى ذلك من خلال الأهداف التالية :
تحقيق الترابط الاجتماعي وحسن الجوار، وتهيئة وسائل المشاركة الاجتماعية بين قاطني الحي.
التدخل الودي في إصلاح ذات البين عند نشوء قضايا خلافية، والتي قد تنشأ داخل نطاق الحي .
الإسهام في معالجة المشكلات والظواهر السلبية التي قد تظهر في الحي؛ للمحافظة على القيم الإسلامية، وتقاليد المجتمع؛ لجعل الحي بيئة آمنة.
العمل على رفع مستوى الوعي العام لدى سكان الحي، وتنمية روح التفاعل مع مكتسبات التنمية والمحافظة عليها، وتطوير بيئة الحي .
العناية بالشباب والفتيات، وتوفير الإمكانات اللازمة لدعم ممارسة هواياتهم الهادفة وتنمية قدراتهم، والاستفادة منها في حدود إمكانيات اللجنة .
استثمار الطاقات النسائية الموجودة في الحي، وتوفير السُّبل الملائمة-قدر الإمكان-لتزاول المرأة نشاطات وبرامج هادفة لبناء الأسرة الصالحة داخل مجتمع الحي.
تقديم النصح والمشورة والمعلومات النافعة لطالبيها من مجتمع الحي من الأفراد والأسر، في مختلف المجالات: الصحية، والوقائية، والاجتماعية، والدينية .
التنسيق مع الوزارات والمصالح الحكومية لسد احتياجات الحي الخاصة والعامة.
سادسًا: نشاطات اللجنة: (النشاط الاجتماعي، الثقافي، التدريبي، الترفيهي، الرياضي، الاقتصادي، الصحي، التطوعي، البيئي، والأمني).
سابعًا : تشكيل فرق عمل منبثقة من مجلس إدارة اللجنة: (لجنة الخدمة الاجتماعية والأنشطة والبرامج، لجنة أصدقاء الحي، لجنة التعاون الحكومي، لجنة تنمية العضوية والموارد المالية، لجنة التطوير والتنظيم، اللجنة الإعلامية والتوعية، اللجنة الأمنية، ولجنة الدراسات والبحوث والمعلومات).
¤ المداخلات حول القضية:
العمل الخيري والعمل التطوعي:
ترى د. عائشة الأحمدي أن مفهوم العمل الخيري يختلف عن العمل التطوعي؛ فالعمل الخيري هو عمل قد يعتمد في جزء كبير منه على الجانب الوجداني للفرد، بينما العمل التطوعي هو قيمة وجدانية مؤسسية ترتبط ارتباطًا جوهريًّا بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، وهي لها وجهان: الوجه الأول في مسؤولية أفرادها، والوجه الآخر في التنظيم المؤسسي؛ أي في تشريعات المؤسسة، وفِي الأنشطة التي تتبناها.
وعرف د. عبد الله صالح الحمود العمل الخيري بأنه: هو ما ينفقه الفرد من المال أو ما هو عيني تجاه المنظمة. أما العمل التطوعي فهو ما يُقدمه الفرد من جهد شخصي تجاه المنظمة. وفي اعتقاد د. عبد الله ناصر الحمود، فإن العمل الخيري هو إنفاق المرء من ماله أو جهده أو وقته أو علمه أو رأيه، في أمر يحتسب فيه الأجر من الله، ويعود بالنفع الخاص أو العام من احتياجات الدرجة الأولى، بحيث يقضي حاجة من حوائج الناس؛ كالمأكل، والملبس، والعلاج، والمسكن، والفتيا. أمَّا العمل التطوعي فهو القيام بالمجان بأمر يُؤخذ عليه الأجر عادة، وهو من الأمور غير الأولية لتحقيق مصالح خاصة أو عامة؛ كالتدريب على المهن والحرف للهواة غير ذي الحاجة، وإدارة المناسبات، وتنظيم المهمات.
وذهب د. خالد الرديعان إلى أن الأعمال التطوعية لا تتصف بالديمومة المطلوبة، وهو ما يجعل نشاط اللجان الاجتماعية غير مرئي بدرجة كافية من قِبل المستفيدين منه، وأقصد سكان الأحياء.
بينما يعتقد د. عبد الله صالح الحمود أن لجان التنمية الاجتماعية في الأحياء يتوافر فيها المتطوع والعامل بأجر. والمتطوعون ينقسمون إلى قسمين: قسم هم أعضاء مجلس إدارة اللجنة، وهم متطوعون. والقسم الآخر: متطوعون مساندون لأعمال المجلس وأمانته. أضاف د. خالد الرديعان بأنه عمل شخصيًّا في اللجنة التابعة لحي (الازدهار) بالرياض، ولاحظ هيمنة العمل الخيري على نشاطاتها، وهو رغم أهميته لا يكفي، إذ لابد من تطبيق مفهوم التنمية المستدامة.
من جانبها، أشارت د. نورة الصويان أنه سبق لها أن شاركت مرات متعددة مع مراكز التنمية في تنفيذ بعض البرامج، واتفقت مع د. عبد الله بن صالح الحمود في غلبة طابع العمل الخيري على كثير من برامج هذه المراكز أكثر من العمل التنموي الاحترافي. إضافة لنمطية الأنشطة والبرامج. وبالنسبة للجان، فإن دورها غير ملموس على أرض الواقع، إلا بشكل محدود.
معوقات لجان التنمية الاجتماعية:
ذهب د. خالد الرديعان إلى أن من المعوقات الملحوظة للجان الاجتماعية: ضعف تواصل هذه اللجان مع سكان الحي، وعدم استخدام وسائل وتواصل مناسبة. وتساءل: لماذا لم ينبثق من اللجان الاجتماعية أعمال أكثر احترافيةً، خاصة في المجال الاقتصادي؛ كجمعيات تعاونية؛ مما سيكون له تأثير ملموس، وهو ما يدفع بسكان الأحياء للتفاعل مع هذه اللجان الاجتماعية؟ أجاب عن ذلك أ. محمد الدندني: ربما لأننا لما نصل بعدُ إلى مرحلة مجتمع مدني، الأنا قوية لدينا، والانعزال، فالجيران قليلًا ما يتعارفون ويجتمعون، فكيف بجمعيات تعاونية؟! ورسميًا مع وجود تنظيم لها، لكنها غير محببة، أو لا يُراد لها أن تكون فاعلةً.
وبرأي د. نورة الصويان، فإن أبرز معوقات تفعيل دور المراكز، ضعف معارف وقدرات ومهارات الأفراد فيها، في مجال العمل المجتمعي المنطلق من خلفية تنموية مستدامة، وافتقاد لمهارات العمل الاحترافي في هذا المجال. وافقها في ذلك د. راشد العبد الكريم أن من أبرز المعوقات عدم تأهيل البعض. وأضاف إلى ذلك؛ من المعوقات أيضًا: تركيز اللجان على الأنشطة الإعلامية والشكليات، وعدم التواصل الفعلي مع أفراد المجتمع.
من جانبه يعتقد م. سالم المري أن من المعوقات الكبيرة للجان التنمية في الأحياء-إضافة إلى المستوى المتدني لقدرات موظفي الوزارة المشرفين على هذه اللجان-أنها في الغالب محتكرة من قِبل مجموعة من الأشخاص، ولا يتم الإعلان عنها بشكل واضح، لكن ما يحصل أن العملية تتم بهدوء وبشكل سري،- بالرغم أنه حسب اللائحة وجود إعلانات واضحة في الحي يعرف عنها الجميع-ثم توضع الأسماء، وترسل وتؤخذ عليها الموافقات، حتى العاملون الأجانب يتم تعيينهم بالمحسوبية، والكثير منهم ليسوا من أهل الحي. ولهذا السبب لا ترى إقبالًا على هذه اللجان؛ لأنها لا تُمثِّل الناس، ولا تمثل الأحياء، ولم يعد للسكان ثقة فيها، وهذا لا يقتصر على حي بعينه. وكان القائمون عليها ينتفعون من الإعانات التي تقدمها لها الدولة، أما وقد توقف الدعم عنها حاليًّا، أعتقد أن الأمور ستتغير.
في هذا الإطار، ذهب د. حميد الشايجي إلى أنه لا يتفق مع م. سالم في أن لجان التنمية الاجتماعية محتكرة. فمن المتعارف عليه أن طبيعة العمل في مثل هذه اللجان عمل تطوعي، والتطوع يتطلب الاحتساب؛ ولذلك يحتاج إلى أشخاص لديهم الرغبة في التبرع بجزء من وقتهم لصالح حيّهم، وعادة ما يُلاحظ أن هناك رجالًا ونساءً وشبابًا مستعدين للاحتساب والبذل والعطاء دون انتظار المقابل المادي، فهم من يُقبِل ويحرص على الانخراط في هذا النمط من العمل التطوعي. وعادة اللجان لا تستخدم الأسلوب الإقصائي في العمل التطوعي، بل تُرحّب بكل مَن يريدُ البذل والعطاء من كافة فئات المجتمع المحلي، ولي تجربة طويلة في مجال العمل التطوعي داخل وخارج المملكة، وتعاملت مع فئات مختلفة من الأشخاص.
بينما أ. محمد الدندني يرى أن الظاهرة العامة عدم وجود رقابة ومتابعه حتى في العمل التطوعي. كما لا يوجد تقارير عن نشاط هذه الجمعيات الخيرية، فلا نظام محاسبي دقيق، ولا مدقق حسابات، ولا تُنشر على الملأ.
الجمعيات التعاونية:
أشار د. حميد الشايجي إلى أن الجمعيات التعاونية من الروافد الثلاثة التي حرصت وزارة الشؤون الاجتماعية (سابقًا) على استخدامها لتنفيذ برامجها التنموية، وهي: مراكز، ولجان التنمية الاجتماعية، والجمعيات التعاونية. أكد ذلك أ. محمد الدندني بأنها ستكون منافس قوي للبقالات، وسيكون من السهل تشغيل شباب وشابات الحي، وأرى من الأفضل أن تكون تحت إدارة مجالس الأحياء الموجودة في بعض المدن.
أضاف م. سالم المري أن هذه تعتبر إحدى المبادرات الواردة في الخطة الاستراتيجية لمجلس الجمعيات التعاونية التي وافقت عليها الجمعية العمومية للمجلس بالمملكة، وذلك في اجتماعها غير العادي الذي انعقد في 14/3/1439هـ الموافق 2 ديسمبر 2017م، ونصت المبادرة على: (التفاوض مع وزارة التجارة والاستثمار، ووزارة العمل والتنمية الاجتماعية على إمكانية تولي المجلس امتياز فتح مراكز تسوُّق في الأحياء، مع أخذ مصالح المواطنين أصحاب البقالات القائمة في الاعتبار). ولكن وزارة العمل والتنمية الاجتماعية رفضت اعتماد الخطة الاستراتيجية للمجلس بما فيها مبادراته؛ مما اعتبره المجلس تعديًّا من الوزارة على صلاحياته، حيث إن اللائحة تنص على أن تُرسل قرارات الجمعية العمومية لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية للاطلاع والتأكد من أنها لا تشمل أي مخالفات نظامية. والوزارة لم تشر إلى أي مخالفة نظامية، ولم يجد فيها القانونيون في المجلس أي مخالفات نظامية. ومجلس الجمعيات-بالتأكيد-مؤهل وقادر على تحقيق هذه المبادرة على أرض الواقع، بتعاون وتسهيل الجهات الرسمية المعنية.
ولكن المجلس حاليًّا شبه معطل؛ لكونه ليس له نظام يحميه، ويعتمد على لائحة وزارة العمل والتنمية الاجتماعية التي تتغير على حسب أمزجة المسؤولين في الوزارة؛ مما جعله عرضة لهيمنة الوزارة التي لا يبدو أنها مقتنعة بأهمية عمل مجلس الجمعيات التعاونية. ولذلك يعاني العمل التعاوني في المملكة من التهميش، وعدم الاهتمام من قبل الوزارة لأسباب، مثل: عدم الثقة في المجلس، والتشكيك في قدرات ونزاهة أعضائه بسبب الخوف بأن ينزع الصلاحيات من الوزارة، إضافة إلى افتقار الوزارة للكادر القادر على القيام بالأعمال المطلوبة لتسهيل أعمال القطاع التعاوني.
وباختصار-فيما عدا بعض المبادرات التي يقوم بها مجلس الجمعيات مع وزارة الزراعة-فإن القطاع التعاوني في المملكة بوضعه الحالي تحت وزارة العمل والتنمية الاجتماعية مُبعَد ومُكبَّل، ولا يستطيع القيام بدور فاعل (كما يجب) في مجال التنمية الاقتصادية في المملكة.
بالنسبة للتجربة التعاونية في الظهران هي حديثة وتحت التطوير، حيث تم تأسيس جمعية الظهران التعاونية منذ سنتين تقريبًا، وتعتبر من أكبر الجمعيات في المملكة، ومن ضمن مشاريعها مركز استهلاكي تعاوني (لبيع المواد الغذائية والاستهلاكية)، إضافة إلى مجمع تعليمي، ومركز نسائي شامل جميع الخدمات المطلوبة للمجتمع النسائي في المنطقة.
وهناك تجارب ناجحة وقائمه للمراكز الاستهلاكية التعاونية، مثل: “زادكم” في جدة، و”التعاونية الاستهلاكية” في عنيزة، و”التعاونية الاستهلاكية” في الخفجي. وجميع هذه الجمعيات قادرة بالتأكيد على فتح مراكز استهلاكية في الأحياء على مستوى جيد من التنظيم والخدمات وضمان النوعية، ولكنها بحاجة إلى موافقة وتسهيلات ومساعدة من الجهات الرسمية المعنية. ولو تمت الموافقة الرسمية على هذه المبادرة، وأُعطي مجلس الجمعيات الصلاحيات والدعم اللازم، فأنا- كأحد أعضاء مجلس إدارة مجلس الجمعيات-متأكد أنه سيستطيع تنفيذ هذه المبادرة على المستوى المطلوب من الجودة والاحترافية.
وزارة العمل والتنمية الاجتماعية:
في هذا الإطار، تساءلت د. الجازي الشبيكي: ما هي الآليات المناسبة لتفعيل دور لجان التنمية الاجتماعية من قِبل الوزارة ؟ علقت د. عبير برهمين على ذلك بأنه لا يوجد تعاون بين المجالس البلدية ولجان التنمية الاجتماعية. وعن تجربة خاصة، قمنا بمد جسور التعاون لمجلس بلدي مع لجان التنمية الاجتماعية، للعمل على تطوير سُبُل التنمية المحلية. لكن عدم وضوح الإجراءات، وتحكُّم بعض الأفراد في هذه اللجان، وتعاملهم معها وكأنها شركة عائلية، إضافة إلى كونها خارج إطار صلاحياتنا كمجلس بلدي- قلَّص دورنا إلى مجرد وسيط يعمل على المساعدة عن بُعد، أو التطوع ببعض الدورات التدريبية في نطاق خبراتنا.
وأضافت أنه يجب أن يكون هناك إطار عام، يصف حدود التعامل والمظلة الرسمية للأنشطة والمرجعية العامة، وتترك الأمور التنفيذية واللجان للأهالي، بحيث يمكّن أفراد المجتمع من المشاركة في صنع القرار فيما يخصُّ التنمية الاجتماعية، حسب احتياج الحي أو المنطقة، كما لو كان مجلسًا بلديًّا مصغرًا مع ميزة تنفيذية. بشكل أساسي، هناك بعض اللوائح العامة لسياسة الدولة تمنع لجان التنمية من الإبداع، فجمع التبرعات- على سبيل المثال- من الأهالي لهذه المراكز ممنوع، علمًا بأنه لو تُرك الموضوع للأهالي لوجدنا من يتبرع بجهده أو ماله أو وقته بشكل تكافلي، ولا يتقاطع ذلك مع الجهات الحكومية الأخرى، هو فقط يحتاج لزيادة الوعي بين الناس.
العمل على تشجيع الفرق التطوعية بصورة ممنهجة هو السبيل، فلجان التنمية والمجلس البلدي كلاهما يعتمدان على العمل التطوعي الذي أساسه رأس المال البشري. وبرأيي، لو عمل كل طرف على تطوير مهارات العمل التطوعي، وتوجيهه لمشاريع تنموية محلية، بحيث يكون التدريب والتأهيل المستمر لدفعات من المتطوعين أحد ركائزه؛ لمهدنا السبيل للعمل المستدام. كذلك فإن التواصل والحوار الفعال بين لجان التنمية والمجلس البلدي من شأنه أن يسهل كثيرًا من العقبات، فالكل يعمل تجاه الهدف نفسه، وإن كان كل منهم يتبع مرجعية مختلفة. الموضوع ليس تنافسًا هدَّامًا، بل يجب أن يكون تسابقًا محمودًا لتعزيز التنمية المجتمعية، يتكامل مع الآخر ولا يثبطه.
رؤية شاملة للتنمية الاجتماعية:
ذهبت د. الجازي الشبيكي إلى أن هناك جهات متعددة تقدِّم خدمات اجتماعية، (جمعيات خيرية، أندية تطوعية، لجان تنمية اجتماعية، مجالس بلدية)؛ ونحن بحاجة إلى مَنْ يضع رؤية المملكة وخططها أمامه بشكل واضح ودقيق، ويقوم بالتنسيق بين كل تلك الجهات، ويستفيد من مقوماتها، ويمنع تضارب وازدواجية خدماتها. وهذه بنظري مسؤولية وزارة العمل والتنمية الاجتماعية بالتعاون مع وزارة التخطيط؛ استرشادًا بتوجيهات مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وأخذًا بالمقترحات التي يُطلب من مجلس الشورى إبداؤها في هذا الشأن.
أضاف أ. محمد الدندني: إننا-بالتأكيد- نحتاج وضع رؤية شاملة للتنمية الاجتماعية، حيث إننا لم نعتد على هذه الأمور، و لو أنها موجودة-وبوضوح-في ديننا. يجب أن نبدأ من التربية في المنزل، وتعويد الأطفال للعطاء ولو داخل المنزل أو المدرسة، وتُوضع برامج تثقيف لذلك، وهناك دور مهم للمهتمين من خلال منابر أخرى؛ كالمسجد، وعدم حصرها في الإمام. فيمكن استبدال الدرس الديني المعتاد بدعوة أحد المختصين لتقديم محاضرة-ولو قصيرة-في موضوع التنمية الاجتماعية.
العمل التطوعي والبيروقراطية:
أشار السفير أسامة النقلي إلى أنه يخشى على العمل التطوعي من التأطير والتنظيم، وربطه ببيروقراطية الحكومة، حينها سيفقد العمل التطوعي فحواه ومحتواه، وسينفض عنه المتطوعون، ويتحول إلى جهاز شكلي لا فائدة منه. إن جمال العمل التطوعي في تلقائيته. وبالرغم من اتفاقها مع هذا الطرح، إلا أن د. الجازي الشبيكي ترى أن كلَّ جهد بشري مشترك يخدم المجتمع لابد له من إطار تنظيمي يساعده في تحقيق أهدافه، وفق الرؤية الشاملة المتكاملة لذلك المجتمع، وإلا فسيكون هناك ازدواجية، وتكرار واستنزاف لقوى وطاقات المتطوعين من غير تحقيق الفاعلية المطلوبة. فمثلًا؛ لو قررنا- كمتطوعات ومتطوعين في إحدى لجان التنمية الاجتماعية- أن نتطوع لترميم المنازل القديمة في الحي أو أحد الأحياء المجاورة، وبذلنا الجهد لتحقيق ذلك الهدف، وبعد الانتهاء من عملنا اتضح أن هناك خطة مُسبقة من الأمانة أو البلدية لإزالة تلك البيوت؛ لأنها غير آمنة، ألسنا هنا بحاجة لمعلومات وتنسيق وخطط تكاملية مسبقة ؟
العمل التطوعي لا يمكنه العمل منفردًا، أو بدون اطار تنظيمي وخطط متكاملة مع غيره من القطاعات في المجتمع.
المجالس البلدية ومراكز التنمية:
يذهب د. حميد الشايجي إلى أن هناك مبالغة وتوجسًا غير مبرر يقتل روح المبادرة، فالإنسان عدوُّ ما يجهل؛ لذا يجب على المجتمع المحلي بكافة أطيافه أن تُتاح له فرصة العمل لخدمة مجتمعه وتنميته، دون الحاجة إلى التخوين أو الإقصاء، فالحي يحتاج إلى كافة ساكنيه دون تمييز لتنميته، والمشكلة أن التواصل ضعيف مع بعض اللجان الفاعلة، فمدينة كالرياض – مثلًا- فيها مجلس بلدي واحد وعدة لجان تنمية، وكان في الإمكان أن تكون هناك لجنة في كل حي، والمجلس البلدي يقوم بالتواصل مع جميع لجان تنمية المجتمع المحلية.
كما أن هناك أحياء لا توجد فيها لجان تنمية، وأحياء أخرى بادر بعض سكانها لتشكيل اللجنة دون علم أو مشاركة بقية أفراد الحي، وهنا يأتي دور مراكز التنمية في تنظيم الممارسة، وإتاحة الفرصة لجميع سكان الحي للمشاركة في تشكيل اللجنة، والترشح لمجلس إدارتها، وذلك بالإعلان المسبق باستخدام عدة وسائل، ومنها: الملصقات الإعلانية، ومساجد الحي، وعمدة (مختار) الحي، وغيرها من الوسائل؛ حتى تُتاح الفرصة للجميع للعلم والمعرفة بأنشطة الحي. ولعل إدخال عمدة الحي في هذه المهمة يكون له انعكاس إيجابي في تفعيل الدور الحقيقي لهذا المنصب. لذلك لا بد أن تُفعّل الوزارة دور مراكز التنمية الاجتماعية في الإشراف على اللجان وتفعيلها، مع ضرورة تأهيل هذه المراكز وتزويدها بالكوادر المؤهلة لمواكبة التغيرات، وحتى تستطيع القيام بعملها الإشرافي خير قيام.
في السياق نفسه يعتقد د. خالد الرديعان أن تفعيل دور عمدة الحي ليكون وسيطًا بين اللجنة والسكان هي مسألة محورية. العمدة لا تراه إلا في مراكز الشرطة، وهذا ربط لمهماته بالجانب الأمني. ما نحتاجه هو تفعيل دور العمد الاجتماعي، ولعل لجان التنمية الاجتماعية تستفيد منهم في هذا الجانب.
كذلك، لابد من خلق الألفة المطلوبة بين سكان الحي الواحد، فهم غرباء عن بعض رغم تقاربهم مكانيًّا. نريد من اللجان الاجتماعية أن تقوم بشيء ما بهذا الخصوص؛ لجعل الحي أسرة واحدة، فهذا مفيد جدًّا على المستوى الأمني، ويخفف العبء على الأجهزة الأمنية.
اللوائح التنظيمية للمجالس البلدية:
حول وجود لوائح تنظيمية ومسؤوليات محددة للمجالس البلدية، جاء تساؤل أ. محمد الدندني. ويرى أن تفعيل دور الأمانات و البلديات وحسن الاختيار، مع وجوع أهداف ولوائح تنظيمية واضحة قد يفي بالغرض. وفي تصوُّر د. حميد الشايجي أنه بالإمكان تطوير هذه الوظيفة، وجعلها أكثر فاعلية، فبعض العمد حصل على الدكتوراه في علم الاجتماع، فالتغير وارد. ولكن المشكلة أن هناك تقاطع صلاحيات، فالمجالس البلدية تتبع وزارة الشؤون البلدية، بينما مراكز التنمية الاجتماعيه تتبع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية.
من جانبها، أكدت د. عبير برهمين أن هناك أكثر من لائحة تنظيمية لنظام المجالس البلدية، وبالإمكان الاطلاع عليها من الصفحة الرسمية لوزارة الشؤون البلدية والقروية، وبها أيقونة خاصة بكل ما يتعلق بالمجالس البلدية.
إن عدم معرفة عدد كبير من الشريحة المثقفة والمتعلمة بدور وصلاحيات العمل بالمجلس البلدية-هو مؤشر واضح على عدم إلمام فئات المجتمع الأخرى بالمجالس البلدية. ومن هنا كان هذا منطلق أحد مبادرتنا في مجلس بلدي العاصمة المقدسة، حيث عُقدت ورشة عمل يوم الإثنين 2/ رجب 1439هـ لمدة ثلاثة أيام، الهدف منها تثقيف الناس بدور المجلس البلدي، حيث تتناول الورشة محاور: (التعريف بنظام المجالس الجديد، اللائحة التنفيذية للمجالس، إجراءات عمل المجالس، الدليل التنظيمي للمجالس، إبراز دور المجالس البلدية إعلاميًّا والتواصل مع المواطنين، تجربة توأمة العمل البلدي بين المجالس البلدية بالمملكة). وكان تنظيم هذه الورشة بمبادرة اللجنة النسائية التي طالبت بها لتثقيف وزيادة وعي المواطنين، وبمباركة المجلس البلدي الذي تجاوب مع مبادرتنا.
اختيار مجالس الإدارات في لجان التنمية المحلية:
أشار د. مساعد المحيا إلى أنه لا يوجد نظام يلزم لجان التنمية المحلية بآليات تجعلها تصل لكل ساكني الحي، لكن يمكن أن يكون الاختيار من عينة مهتمة بالحي، وقد تكون عينة عمدية، ومن يتم ترشيحهم تذهب أسماؤهم إلى الوزارة، ثم تذهب للمسح الأمني في وزارة الداخلية، وبعد الموافقة يُبلغ المتقدمون فيحضرون، ثم يحضر مندوب يمثل الوزارة، ويتم الاقتراع السري بترشيح المجلس. وأرى أن تتبنى الوزارة دعوة أهل الحي، وهذا يتطلب تكلفة مادية للإعلانات والتسويق عبر الشبكات الاجتماعية، مع الأخذ في الحسبان أن القليل من الناس-بل من النخب-من يرغب في ذلك، خاصة أنه عمل تطوعي.
في تعليقه على ذلك، أكد م. سالم المري أن هناك لائحة تنظيمية وقواعد تنفيذية للائحة منشورة على موقع الوزارة، وتنص المادة الحادية عشرة من القواعد على كيفية الإعلان عن الترشيح والرفع بها، ولكن الوزارة تترك الوضع للجنة الحالية للقيام به، فلا يعلنون لأهل الحي إعلانًا حقيقيًّا، ثم تُقدم القائمة للوزارة، وهكذا يتم توارث هذه اللجان.
المشكلة في الحقيقة تنفيذية بحتة؛ بسبب تقصير الأجهزة المعنية في الدولة في ثلاثة أمور أساسية ومهمة، وهي: عملية اختيار أعضاء مجلس الإدارة، والمحاسبة (ضبط المصروفات)، وحقيقة البرامج على أرض الواقع. وفي رأيي، تقوم مراكز التنمية التابعة للوزارة بتبني الإعلان عن الترشيح لأهل الحي، والإشراف على العملية من قبل شخص مؤهل من الوزارة، وأن يحضر مدير مركز التنمية المعني عملية الانتخاب، وتعطي الدولة الناس الحق في تمثيل أحيائهم بالطريقة التي يرونها، ويتم إبعاد المتنفعين.
إشكاليات وزارة العمل والتنمية الاجتماعية:
يرى م. سالم المري أن أحد أهم مشاكل لجان التنمية هي الوزارة نفسها. فوزارة العمل والتنمية الاجتماعية تفتقد للكوادر المتخصصة والمؤهله فنيًّا وإداريًّا، وسبق لي أن حضرت عدة اجتماعات في القطاع التعاوني ولجان التنمية، يحضرها مسؤولون من وزارة العمل، والملاحظ أن مستواهم الفني والإداري أقل بكثير من معظم المجتمعين، ومع ذلك هم لديهم الصلاحيات. أيضًا هناك سبب آخر، وهو أن فلسفة وزارة العمل تقوم على مبادرات لا تكون فيها الطرف المسؤول مباشرة، بل تكون مشرفًا وعن بعد، وتفتقر للدراسات الدقيقة. وبالتالي فإن الحل يبدأ من وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وإلا فإننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة، تضيع فيها جهود الدولة في قضايا أساسية ومحورية للتنمية؛ كتوطين الوظائف، والتنمية الاجتماعية، والقطاع التعاوني.
المرأة ومسؤوليات العمل الاجتماعي.
في تصوُّر م. خالد العثمان أن تعيين امرأة على رأس هرم مسؤوليات العمل الاجتماعي في وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، ربما يكون مفتاحًا لتفعيل هذا المحور التنموي المهم. ولعل التمكين الذي تلقاه المرأة هذه الأيام يمنحها قوة لإحداث بعض التغيير الإيجابي، مسنودًا بدعم القيادة.
بينما يرى د. خالد الرديعان أن القضية ليست قضية امرأة أو رجل على رأس الهرم. القضية هي أن مفهوم “التنمية الاجتماعية” لا يزال مفهومًا مضطربًا؛ فوزارة العمل اختزلته في المساعدات، وبرامج الأسر المنتجة، والعون الاجتماعي. المفهوم- بتقديري- أوسع من ذلك بكثير، ليشمل تغيير منظومة التفكير والقيم بما يخدم التقدم.
وذهبت د. وفاء الرشيد-من خلال تجربتها في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية-إلى أن أفضل وزير مرَّ على الوزارة هو ماجد القصبي، بالرغم من قصر مدته بالوزارة، ولا أظن أن الموضوع جندري بقدر ما هو خبرة وقدرة على التغيير. الوزارة تحتاج كفاءة من القطاع الخاص لم تمتهن بيروقراطية الحكومة.
التنمية الاجتماعية مفتاح التنمية الاقتصادية:
يرى د. خالد الرديعان أن التنمية الاجتماعية هي مفتاح التنمية الاقتصادية، والأخيرة هي التي تم التركيز عليها في العقود الأخيرة دون اهتمام كاف بما تعنيه التنمية الاجتماعية. وأعتقد أن الفشل والصعوبات التي واجهت التنمية الاقتصادية مردها إلى الفشل الذريع في تجذير وتفعيل التنمية الاجتماعية، وتحويلها إلى ممارسة وواقع. التنمية الاجتماعية تعني أيضًا خلق التناغم بين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي وثقافي.
مستوى أداء قطاع التنمية الاجتماعية:
أشار د. عبد الله صالح الحمود إلى أن قطاع التنمية الاجتماعية لا يزال دون المستوى المأمول لخدمة الوطن اجتماعيًّا. لذلك لابد أن يُفعل الدور الاجتماعي من خلال برامج إنسانية واجتماعية، أيضًا مشاركة القطاع مشاركة مباشرة في دفة العمل الاجتماعي. الوقت يسير بوتيرة متسارعة، والدور الإداري والفني للوزارة في قطاع التنمية الاجتماعية يسير ببطء مضر.
بينما ذهبت د. وفاء الرشيد إلى أن هذا التهالك بالوزارة بسبب أشخاص مؤدلجين يخونون كل عمل خيري يمكن عمله، ويحاولون تعطيل أي عمل. في حين أن د. الجازي الشبيكي ترى أنه يصعب تعميم فكرة التخوين والأدلجة، فالأمر-بنظري- يتعلق بمستوى الوعي ونقص الكفاءة الإدارية، وتجاهل التخصص، وضعف التنسيق والتواصل بين الوزارة والجهات ذات العلاقة. اتفقت معها د. وفاء الرشيد في مسألة صعوبة التعميم، إلا أن هذا الرأي نابع من تجربة شخصية مع الوزارة، وفي المقابل فأنا عملت في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على برامج تنموية، تنفذ للدولة لمدة ٩ سنوات، ورأيت الفرق في الطرح والتطبيق. واليوم أنا أعمل مع جمعية سند لسرطان الأطفال، وأتعامل معهم طوال العشر سنوات السابقة في الاستثمارات للجمعية، واستحداث موارد ثابتة لها، وإدارة مشاريعها الخيرية. هناك خلل كبير في التطبيق، وانتقائية واضحة في القوانين من كفاءات غير مؤهلة، ولا تفقه عن التنمية شيئًا.
من جانبها، أكدت د. الجازي الشبيكي أنها تتفق مع د. وفاء في ذلك، فنحن عانينا في عملنا في جمعية النهضة من ضعف مستوى الكوادر العاملة في تلك الوزارة، وحاولنا مرات عديدة أن ننظم لهم دورات ترفع من ذلك المستوى، ومما زاد من سوء أوضاع الوزارة في الآونة الأخيرة التعاقب السريع في تغيير الوزراء والمسؤولين فيها، وبالتالي تغير الخطط والبدء من جديد، وبتعيينات داخلية، وخطط واستراتيجيات جديدة.
العاملون في مراكز التنمية الاجتماعية:
أشار د. حسين الحكمي. أنه بحسب موقع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، فإن عدد المراكز حتى الآن هو 41 مركزًا يعمل فيها كموظفين أكثر من 500 شخص، أي ما يقارب 10 أشخاص في كل مركز. العمل الاجتماعي ينطلق من مكنون داخلي لدى كثير من الناس لحبهم للخير أو للتكاتف والتعاون، وهذا شيء محمود، لكن الاحترافية في أعمال المسؤولية الاجتماعية تتطلب الاستمرارية sustainability وهو ما تفتقده الأعمال التطوعية، حيث إن الشخص يمكن أن ينسحب من العمل في أي وقت، وهنا لابد من أن يكون هناك فريق عمل متكامل ومتخصص في كل مركز من المراكز. الأمر الثاني هو التخصصية، العمل في مراكز التنمية الاجتماعية مهم جدًّا، ويجب أن يعمل فيه ويدير برامجه وأنشطته متخصصون، وهم دارسو الخدمة الاجتماعية social work، فهم أقرب الناس لهذا التخصص، وخصوصًا مَنْ لديهم فَهْم ومعرفة في طريقة خدمة الجماعة، التي تعد إحدى الطرق الأساسية في الخدمة الاجتماعية .
كما أن إشراك الأهالي مهمٌّ ومفيدٌ، ويثري العمل ويطوِّره؛ لأن الهدف تطويري وتحسيني، ومعالجة المشكلات القائمة، لكن أحيانا بعض الأهالي لا يعي بشكل كامل المصالح العامة والسياسات الاجتماعية والمتغيرات الدائرة، وهذا يتطلب أن يكون هناك موظفون متخصصون ودائمون، يقومون بالعمل بمساندة الأهالي والمتطوعين، لا أن يقع العمل كله على محبي العمل الخيري من المتطوعين والأهالي.
على وزارة العمل والتنمية الاجتماعية أن تدعم هذه المراكز بميزانيات مناسبة، لتنفذ برامجها وأنشطتها؛ لأن الدعم الحالي لا يكفي. وأن يقوم العاملون بالتعرُّف على احتياجات المجتمع من خلال الاستطلاعات والدراسات والمقابلات، ووضع برامج تتناسب وحاجة المنطقة التي يغطونها، بالإضافة إلى تنفيذ برامج أساسية مستمرة توعوية وعلاجية ووقائية، تخدم المجتمع ككل، وتتميز بالاستمرارية.
ويشير د. مساعد المحيا إلى أن البرامج لا تُدعم من الوزارة إلا اذا كان فيها أن اللجنة ستجمع تبرعات تمثل أحيانا نصف تكلفتها، يعني أن الوزارة لا تسمح؛ وإنما تطلب وتشترط البحث عن دعم.
أما ما يتعلق بأندية الحي التي تقدمها وزارة التعليم، فمن واقع عملي قبل فترة في إحدى هذه اللجان، حيث أنشأنا لجنة نسائية في لجنة الحي، وحيث إن لدينا ناديًا نسائيًّا في إحدى المتوسطات؛ فقد عملنا من أجل وجود قدر من التعاون والتنسيق، في إطار رغبة الأخت المسؤولة عن القسم النسائي في أن تتواصل مع مسؤولة نادي الحي في المتوسطة، وقد بذلت جهودًا من أجل أن نتعاون وأن تتكامل رسالتنا للحي، رجاله ونسائه وشبابه وفتياته، وأن نستفيد من مكان المتوسطة في تنفيذ عدد من البرامج، وأن نستفيد من الخبرات الموجودة في الجانبين، لكن يبدو أن هذا الأمر يحتاج لتنسيق جيد بين الوزارتين، إذ هناك تقارب كبير بين مناشط اللجان والأندية.
أما بشأن التعاون بين اللجان والمساجد، فيبدو أن هذا كان ولا يزال موجودًا ..فقد كنا نحرص على أن يكون تنفيذ بعض البرامج الاجتماعية بالتنسيق والتعاون مع بعض المساجد والجوامع في الحي.
التوصيات المقترحة:
قام الأعضاء باقتراح خطة عمل action plan تُقدَّم إلى وزارة العمل والتنمية الاجتماعية بخصوص رفع مستوى العمل في لجان التنمية الاجتماعية.
أولًا: من المهم، أن تعلن الوزارة للمجتمع- بشكل واضح- خطتها المنبثقة عن رؤية المملكة وبرنامجها التحوُّلي الوطني، وتنشرها في كافة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
ثانيًا: على الوزارة أن تُعيد النظر في مدى الحاجة إلى العديد من برامجها وخدماتها في ضوء تلك التغييرات التخطيطية الوطنية، بعد إجراء تقييمي شامل لتلك البرامج والخدمات من واقع دراسات علمية ميدانية.
ثالثًا: إذا استدعى الأمر بعد ذلك التقييم والمراجعة، الاستمرار في تقديم خدمات وبرامج لجان التنمية الاجتماعية، فعلى الوزارة إسناد تلك المهمة للمتخصصين من الجهات ذات العلاقة، أخذًا في الاعتبار الاستفادة من الدراسات والتجارب المماثلة الناجحة محليًّا وعالميًّا.
رابعًا: مراكز التنمية الاجتماعية التابعة لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية عليها دور كبير في تحفيز الأهالي على قيام لجان تنمية في أحيائهم، عن طريق تشجيع العمل التطوعي والمسؤولية الاجتماعية.
خامسًا: النظر في مدى إمكانية تغيير اسم لجان التنمية الاجتماعية، الذي يتسم بالجمود، وربما التداخل في الاسم مع مراكز التنمية الاجتماعية، إلى (ملتقى الحي التنموي) بحسب اسم الحي؛ مما يُشعر أهل الحي بالارتباط بالعمل التطوعي لتحسين أوضاع حيهم، ويخلق نوعًا من التنافس في التميز في العمل بين أحياء المنطقة .
سادسًا: تؤكد رؤية المملكة المستقبلية على تمكين المواطنين، وعلى دور المجتمعات المحلية في تحقيق التنمية، وعلى التفاعل المتبادل بين صناع القرار والمواطنين، وهذا لا يتم بشكل فعال إلا من خلال التأكيد على لجان التنمية، أو مراكز أو أندية الأحياء، وفق خطط ورؤى واضحة.
سابعاً: على ملتقيات الأحياء الاهتمام بالتوازن في الأنشطة والتنويع، لتشمل: الجوانب الروحية، الجوانب الصحية، الجوانب العقلية، الجوانب الاجتماعي، والجوانب الرياضية، وغيرها.
ثامنًا: تفعيل دور لجان التنمية في إحياء الروح المدنية لدى الأفراد، وذلك عبر نوعية البرامج والأنشطة، ومن خلال تسليط الضوء على العديد من القضايا الحياتية المرتبطة بحاجات أهالي الحي.
تاسعًا: جعل نشاط التعاونيات ضمن اهتمامات التنمية الاجتماعية في الأحياء؛ لخلق فرص اقتصادية لسكان الحي.
عاشرًا: إعادة النظر في دور عمدة الحي ليكون عمله فاعلًا، بحيث ينسق مع لجنة التنمية الاجتماعية في الحي، ويكون عمله جزءًا منها.
حادي عشر: استهداف فئات المجتمع المختلفة، لاسيما الشباب، لتبني مشاريع وبرامج التنمية الاجتماعية، وذلك من خلال فتح قنوات التواصل معهم في الجامعات والمدارس والمؤسسات المختلفة، وإتاحة الفرصة لهم للتمثيل الفعلي والجاد في تبني المشاريع وإدارتها وتنفيذها.
ثاني عشر: السماح بجمع التبرعات من الأهالي للإنفاق على البرامج والأنشطة التي تنفذها اللجان الاجتماعية في الأحياء، مع وجود آلية مراقبة دقيقة للمال، بحيث يُوجَّه لأغراضه الحقيقية.
ثالث عشر: زيادة الاعتماد المالي المقنن لموازنة لجان التنمية الاجتماعية سنويًّا، والذي يصل إلى مئة ألف ريال، أمام المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، ودعمًا لخطط ومشاريع هذه اللجان.
رابع عشر: السماح للجان التنمية الاجتماعية، بإصدار برنامج (عضوية اللجنة) برسم سنوي قدره ١٥٠ للعضو العامل، و 50 ريال للعضو المناسب، على غرار العضوية في الجمعيات الخيرية.
الملخص التنفيذي
القضية: لجان التنمية الاجتماعية والدور المحلي المنوط بها في ضوء التحوُّلات التي تعيشها المملكة.
تناولت الورقة الرئيسة التي قدمها د. حميد الشايجي، قضية لجان التنمية الاجتماعية ودورها في تنمية المجتمع المحلي من خلال تلمسّ احتياجات المجتمع المحلي التنموية، والعمل على تحقيقها بالمشاركة مع وزارة العمل، وهي تُعدُّ إحدى جهتين استحدثتهما مراكز التنمية الاجتماعية، تنفذ من خلالهما عملية تنمية المجتمعات المحلية.
وذهب د. حميد إلى أنه بالرغم من الدور البارز الذي تقوم به لجان التنمية المحلية، إلا أن هناك العديد من الصعوبات والمشكلات التي تواجه هذه اللجان، منها: ضعف فاعلية بعضها، وعدم تغطيتها مختلف الأنشطة التي وُجدت من أجلها في المجتمع، واقتصار تواجدها على بعض المدن والبلدات، بالإضافة إلى بعض المعوقات الإدارية والمالية والتنظيمية، وغياب الوعي بدورها لدى المواطنين والمسؤولين.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة في أن لجان التنمية الاجتماعية لها دور مهمٌّ داخل المجتمع، حيث تُعدُّ إحدى ثمرات الرقي بمستوى الحي السكني اجتماعيًّا واقتصاديًّا وتعاونيًّا، ولكن الواقع يشهد أن الدور المأمول لهذه اللجان لم يصل لحد مناسب، فهي تحتاج إلى مزيد من الدعم والمؤازرة من قبل وزارة العمل والتنمية الاجتماعية.
ورصدت المداخلات التي دارت حول موضوع القضية بعض معوقات لجان التنمية الاجتماعية؛ من حيث تركيزها على الأنشطة الإعلامية والشكليات، وعدم التواصل الفعلي مع أفراد المجتمع، وضعف معارف وقدرات ومهارات القائمين عليها.
وتباينت الآراء حول بعض إشكاليات لجان التنمية المحلية؛ فهناك مَنْ رأى أن هذه اللجان مُحتكرة من قبل مجموعة من الأشخاص، ولا يتم الإعلان عنها بصورة واضحة؛ في حين ذهب البعض إلى القول بأن طبيعة العمل في هذه اللجان تطوعي، ولا تستخدم اللجان الأسلوب الإقصائي في العمل التطوعي. كما أن هناك لائحة تنظيمية وقواعد تنفيذية للائحة منشورة على موقع الوزارة، تنص على كيفية الإعلان عن الترشح والرفع بها.
واعتبر البعض أن مشكلة هذه اللجان في الحقيقة تنفيذية بحتة؛ بسبب تقصير الأجهزة المعنية في الدولة، سواء من حيث عملية اختيار أعضاء مجلس الإدارة، أو المحاسبة (ضبط المصروفات)، أو حقيقة البرامج على أرض الواقع.
وناقش الأعضاء أيضًا الآليات المناسبة لتفعيل دور لجان التنمية الاجتماعية من قبل الوزارة، ووضع رؤية شاملة للتنمية الاجتماعية، وطريقة اختيار مجالس الإدارات في مجالس التنمية المحلية، ومشكلات العمل التطوعي وبيروقراطية الحكومة.
وفي النهاية خرجت المناقشة بمجموعة من التوصيات، أهمها: أن تعلن الوزارة للمجتمع-بشكل واضح-خطتها المنبثقة عن رؤية المملكة وبرنامجها التحولي الوطني، وتنشرها في كافة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. وأن مراكز التنمية الاجتماعية التابعة لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية عليها دور كبير في تحفيز الأهالي على قيام لجان تنمية في أحيائهم عن طريق تشجيع العمل التطوعي والمسؤولية الاجتماعية، أيضًا تفعيل دور لجان التنمية في إحياء الروح المدنية لدى الأفراد، وذلك عبر نوعية البرامج والأنشطة، ومن خلال تسليط الضوء على العديد من القضايا الحياتية المرتبطة بحاجات أهالي الحي، بالإضافة إلى زيادة الاعتماد المالي المقنن لموازنة لجان التنمية الاجتماعية سنويًّا، والذي يصل إلى مئة ألف ريال، أمام المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، ودعمًا لخطط ومشاريع هذه اللجان.
المشاركون في مناقشات هذا التقرير:
(حسب الحروف الأبجدية)
- د. إحسان بو حليقة.
- م. أسامة كردي.
- أ. آمال المعلمي.
- د. الجازي الشبيكي.
- أ. جمال ملائكة.
- د. حامد الشراري.
- د. خالد الرديعان.
- د. خالد الفهيد.
- م. حسام بحيري.
- د. حسين الحكمي.
- د. حميد الشايجي.
- د. حميد المزروع.
- م. خالد العثمان (رئيس اللجنة الإشرافية على ملتقى أسبار).
- د. خالد بن دهيش.
- أ. د. راشد العبد الكريم.
- د. رياض نجم.
- د. ريم الفريان.
- د. زهير رضوان.
- د. زياد الدريس.
- م. سالم المري.
- أ. سمير خميس.
- أ.د صدقة فاضل.
- د. عائشة الأحمدي.
- د. عبد الرحمن الشقير.
- د. عبد العزيز الحرفان.
- أ. عبد الله الضويحي.
- د. عبدالله بن صالح الحمود.
- د. عبير برهمين.
- أ. علياء البازعي.
- اللواء د. علي الحارثي.
- أ. فاطمة الشريف.
- د. فهد العرابي الحارثي.
- أ.د. فوزية البكر.
- د. محمد الملحم.
- أ. محمد الدندني.
- أ. د. محمود رمضان (مُعِدّ التقرير).
- د. مساعد المحيا (رئيس لجنة التقارير).
- د. مشاري النعيم.
- د. مها المنيف.
- أ. مها عقيل.
- د. نوف الغامدي.
- أ. هادي العلياني.
- د. هند آل الشيخ.
- د. هند الخليفة.
- د. وفاء الرشيد.
- د. يوسف الرشيدي.
تحميل المرفقات: التقرير الشهري 36
1 http://www.almarefh.net/show_content_sub.php? CUV=434&Model=M&SubModel=137&ID=2447&ShowAll=On
1 http://nabdapp.com/t/49574097
1 http://hrlibrary.umn.edu/arab/b010.html
1 المصدرhttp://www.alriyadh.com/1122169
2 المصدرhttp://www.alhayat.com/m/story/20919298
1 http://www.al-madina.com/article/301995
https://mlsd.gov.sa/ar/services/6132
1https://www.boe.gov.sa/printsystem.aspx?lang=ar&systemid=188&versionid=203