إبريل 2018م
ناقش أعضاء ملتقى أسبار خلال شهر إبريل 2018 م العديد من الموضوعات المهمة، والتي تمَّ طرحُها للحوار على مدار الشهر، وشملت القضايا التالية:
- المحتوى المحلي.. توطين العمل والأعمال
- المرأة في القطاع السياحي ورؤية 2030.
- دعم القطاع غير الربحي ورؤية 2030.
- جولة ولي العهد -شركاء الرؤية 2030 والمحيط الجيوسياسي المضطرب.
المحور الأول
المحتوى المحلي .. توطين العمل والأعمال
المقدمة
تناولت الورقة الرئيسة التي قدمها أ. محمد الدندني، قضية المحتوى المحلي ودوره بناء المجتمع السعودي، واستغلال موارده البشرية والطبيعية، وذلك من خلال مناقشة إشكاليات المحتوى المحلي، وعلاقته بالموارد البشرية والتعليم الفني، توطين بعض الصناعات والأعمال، ضريبة الدخل، الشركات الوطنية، الاستفادة من التجارب الدولية ودعم المحتوى المحلي، التنظيمات والتشريعات والاجراءات التحفيزية، وعلاقة المحتوى المحلي برؤية المملكة 2030، بالإضافة إلى وضع عدد من التوصيات التي تسهم في دعم المحتوى المحلي.
الورقة الرئيسة: أ. محمد الدندني
توطين العمل والأعمال أو زيادة المحتوى المحلي غاية مهمة وأساسية في بناء أي مجتمع يريد أن يستثمر ويستغل موارده الطبيعية والبشرية للرقي والالتحاق بحضارة الْيَوْمَ شرقية كانت أو غربية. ناهيك عن دوره كمشروع وطني يشكل عمود الاستقرار في دولة تسعى للتحديث والتحول، وبنفس الأهمية عنصر مهم يعكِس ويساعد في تشكيل السياسة الخارجية أقلها كونه يعكس مدى الاعتماد على النفس؛ ومن ثم تقوية السيادة محلياً وإقليمياً ودولياً.
وهناك تعريفات كثيرة ومتقاربة للمحتوى المحلي، أبسطها أنه عبارة عن تنشيط وزيادة إنتاجية الفرد والشعب، وتهيئته لاستثمار واستغلال الموارد الطبيعية وزيادة قيمتها الإضافية بتبني كل ماهو حديث في طرق الإدارة والتكنولوجيا.
لقد طغت كلمة السعودة على مصطلح المحتوى المحلي لسنين طويلة. بينما هي جزء من المحتوى المحلي؛ ولذا ولدت عرجاء واستمرت لأنها لا تمثل المحتوى الوطني الحقيقي. أحد السلبيات للسعودة هي الزج بالخريجين لمناصب مهمه مع قلة الخبرة والترقيات السريعة. أما في مجال الموارد الطبيعية وما يمكن عمله من أنشطة كالتصنيع، والتجاره والخدمات، فقد أهملت لسنين والآن، ومع الرؤية نرى مصطلح المحتوى المحلي هو المهيمن، ونرى الحديث والسياسات عن تعدد مصادر الدخل، يبقى تأهيل العنصر البشري وهو الأهم حتى نخرج من سياسة الدولة الرعوية ويكتمل عقد المحتوى المحلي.
ثقافياً أنتجت السعودة ثقافة سلبية، وهي أنا سعودي أريد وظيفة. بينما يجب أن تكون الثقافة أنا سعودي أريد عملاً وأنا مؤهل.
- معوقات المحتوى المحلي:
– نوعية التعليم الأكاديمي والفني والمهني.
– عدم ارتباط خطط التنمية إن نفذت كاملة مع مخرجات التعليم بأنواعه.
– العادات والتقاليد، ثقافة شبه شاملة بنبذ العمل الفني، وإلى حد ليس بالقليل العمل المهني، وغياب وجود نظرة معيبة لمن لا يعمل.
– غياب التنسيق بين وزارات ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص، وبالرغم من وجود المراسيم والأوامر لكنها بلا جهة تحمل الصلاحيات والمسؤليات.
– عدم وجود قانون للحد الأدنى في الرواتب والأجور الشهرية أقلها في الأعمال المهنية ، ربما لكثرة الأجانب ونفوذ أهل المصالح .
– فترة التشدد أو ما يسمى الصحوة حولت المجتمع إلى الاهتمام بالعصبية الدينية وتركنا رسالة إعمار الأرض.
- الموارد الطبيعية:
بلادنا تنعم بثروات كثيرة نفط وغاز، تعدين، حج وعمرة، السياحة العلمية، السياحة الترفيهية، بالإضافة إلى العنصر البشري إن تم توجيهه الوجهة الصحيحة. ولتوطين العمل والأعمال وهو بيت القصيد يجب أن تكون قيمتها ومواردها مستغلة الاستغلال الأمثل لنصل إلى محتوى محلي ناجح. لذا فإننا نحتاج إلى:
– إعداد العنصر البشري المؤهل مع الاستفادة من العنصر الأجنبي ذو الخبرة والكفاءة.
– الاستحواذ على شركات أجنبيه بنسبة الأغلبية وتوطينها.
– الاستثمار في التكنولوجيا التي في طور البحث، حيث التكلفة محتملة وتوطينها وإدراجها في سوق المال كسوق موازي يستطيع الكل تملك أسهم فيها، وهكذا تملك المال لنقلها من طور الأبحاث إلى القيمة التجارية. الحافظات البحثية تملأ العالم وتحتاج التمويل، وأجزم ان نجاح ١٠٪ منها يغطي الاستثمار الكلي.
– حث الشركات على الاندماج للاستمرار وسرعة النمو .
– تشجيع الشركات على أن تخرج وتنافس إقليمياً وعالمياً لجلب العملات الصعبة، بدلاً من انتظار ميزانية الدولة ومشاريعها.
– تطبيق ضريبة على الدخل تسمح للدولة بتقديم خدمات جيدة، وصيانة وزيادة البنية التحتية، وتفعيل خصم ما يصرف على الأبحاث والتدريب من الضريبة.
– تسهيل الاستثمار النافع، وتسهيل زيارة المملكة للمستثمرين للبحث عن فرص مع استثمار داخل المملكة.
- حلول مقترحة
وفي النهاية أقترح بعض الحلول في سبيل دعم المحتوى المحلي:
– إنشاء وزارة أو هيئة ملكية ذات سيادة وصلاحيات ومسؤوليات تشرف على مشروع المحتوى المحلي وعلى كافة المنشئات (في القطاع العام أو الخاص).
– تخصيص أقسام للمحتوى الوطني في كل منشأة تخضع لرقابة هيئة المحتوى الوطني وبمعايير علمية وليست أرقاماً بلا قيمة.
– إنشاء كليات تقنية أو تطوير تُشبه البولي تكنيك في أوربا، خاصة الموجودة في بريطانيا وألمانيا.
– تقليص حجم ومسؤوليات الوزارات الخدمية، بحيث تصبح وزيراً على رأس فريق قوي متابع ومراقب، ونقل الصلاحيات والمسؤوليات للمناطق، إلا أن هذا لا يعفي الوزاره من المسؤولية. مركزية في السياسات ولا مركزية في التنفيذ.
– العمل على زرع ثقافة الالتزام في العمل وأخلاقياته، ومكافأة المنتج وعقاب المسيء.
– تفعيل دور الجمعيات المعنية وتطويرها لتُعنى بمنسوبيها مبكراً، أي من وقت وجود الطالب في الجامعه أو الكلية المهنية والفنية يتم السعي لضمه إلى هذه الجمعيات.
– إقرار أن الراتب والدخل حسب الإنتاج وليس الشهادة.
– العمل على إشراك المواطنين وإيمانهم بأنه مشروع وطني الكل له يسهم فيه معنويا وماديا.
سيعمل هذا المشروع على حل كثير من قضايانا الشائكة والتي يحمل بعضها مؤثرات أمنية وخلل اجتماعي. التحدي الأكبر أننا في بلد ٦٠٪ من سكانه من الشباب والخريجين بالآلاف إلا أن هناك انتشار للبطالة والبطالة المقنعة، وكذلك جود عمالة أجنبية تشكل أكثر من ثلث عدد السكان.
التعقيب الأول: م. خالد العثمان
في تعقيبه على هذه الورقة تحفظ أ. محمد الدندني على ما تبنته الورقة من تركيز على الجانب البشري في قضية المحتوى المحلي وتمحيص قضية السعودة كمفتاح لهذه القضية . العنصر البشري بالتأكيد يمثل أحد العناصر المهمة والمحورية في موضوع المحتوى المحلي ، لكنه كان وما زال برأيي العنصر الأضعف والأدنى في ترتيب الأولوية بين عناصر هذه القضية الأخرى ، بل إنه يأتي بالضرورة كنتيجة حتمية للتعامل المحترف والممأسس لقضية المحتوى المحلي. مشكلتنا كانت دائماً البحث عن سبل توظيف السعوديين وتمكينهم من الحصول على فرص عمل بأسلوب سطحي رقمي بعيداً عن التمكين والتوطين الحقيقي من مفاتيح المعرفة وسبل الإنتاج التي يمكن أن تضمن التوطين المستدام للمعارف والاستثمارات والوظائف ، وهي برأيي العناصر المتكاملة لتحقيق المحتوى المحلي .
تبنت رؤية المملكة 2030 موضوع تنمية المحتوى المحلي كأحد أهم محاور هذه الرؤية وأحد أهم مفاتيح تنويع مصادر الدخل والتحول الوطني الشامل . وأسست الدولة لهذا الغرض برنامجاً متخصصاً ضمن برامج الرؤية يتبع في ارتباطه الإدارية بمجلس الشئون الاقتصادية والتنمية بما يمنحه مستوى مناسباً من التمكين في التأثير على أداء الأجهزة الحكومية المختلفة لمصلحة هذا الهدف . لكن ما يعاب على الوضع الراهن غياب الرؤية الشاملة والفهم الموحد لدى القطاعين العام والخاص لموضوع المحتوى المحلي ونقص الأدوات التي تؤدي إلى تمكين تحقيق هذا الهدف السامي . فعلى سبيل المثال ، استقطاب الاستثمارات الأجنبية لتأسيس كيانات ومصانع ومراكز إنتاج في السعودية ليس كافياً لتحقيق المحتوى المحلي دون توطين حقيقي للمعارف والملكيات الفكرية والتقنية المرتبطة بتلك المنشآت. كما أن توظيف السعوديين والسعوديات في تلك المنشآت ليس كافياً إن لم يصاحبه تمكين حقيقي لهم لينهلوا المعرفة والعلوم التطبيقية العميقة المرتبطة بتلك الأعمال.
من جهة أخرى، أرى أن الورقة أغفلت جانب المنافسة التي تواجهها المؤسسات الوطنية من الكيانات الأجنبية، وهي في كثير من الأحيان منافسة غير عادلة ويشوبها أحياناً بعض الانحياز للطرف الأجنبي. وإن كان المعيار الأهم هو جودة السلعة أو الخدمة ، لكن تمكين المؤسسات الوطنية من بناء المعرفة واستقطابها وتعلمها وتوطينها يمثل وسيلة مهمة لتحقيق الغرض الأسمى بزيادة المحتوى المحلي. لا يمكن أن نركن إلى أن الشركات الأجنبية ستعمد من تلقاء ذاتها إلى نقل المعرفة وتدريب الكوادر والمؤسسات الوطنية دون أن تلزمها بذلك أنظمة وسياسات فاعلة. ولن تجد المؤسسات الوطنية فرصاً حقيقية لبناء المعارف والخبرات إذا لم توكل إليها المهام القيادية في تزويد منظومة الاقتصاد باحتياجاته من السلع والخدمات.
المشكلة الأخرى التي تواجه قضية المحتوى المحلي هو طغيان الدعايةالإعلامية على كثير مما نسمع ونرى من الجهات المختلفة حول هذه القضية. وأتصور أن برنامج “اكتفاء” التابع لشركة أرامكو على سبيل المثال هو إلى حد كبير فقاعة إعلامية تتجاوز بكثير واقع الحال في توطين المحتوى المحلي في عمليات الشركة. كما نجد أن هناك وزارات ومؤسسات حكومية وشبه حكومية تتحدث كثيراً وبشكل غير موضوعي عن المحتوى المحلي بينما هي تبادر إلى الاتكاء على العنصر الأجنبي في توفير احتياجاتها من السلع والخدمات، وتضع بأنظمتها وإجراءاتها الكثير من العقبات والعراقيل في سبيل تمكين الكيانات الوطنية. إلا أن برنامج “نساند” الذي أطلقته شركة سابك مؤخراً ربما يعتبر البرنامج الوحيد حتى الآن الذي يحمل ملامح مؤسسية واعدة لبناء كيانات وطنية تحقق مفهوم المحتوى المحلي، وتفتح الباب لتحفيز الإبداع والابتكار وصناعة المعرفة محلياً، لكنه بالتأكيد سيظل تحت المجهر حتى يحقق أهدافه المرسومة والمعلنة.
وفي النهاية أرى هدف زيادة المحتوى المحلي يجب أن يكون ذو منظور مستدام وليس قاصراً على الأرقام الخادعة بنسب السعودة وقيمة الاستثمارات الأجنبية. العنصر الرئيس في زيادة المحتوى المحلي هو امتلاك المعرفة، والتعويل هنا برأيي على هيئة الملكية الفكرية التي أجدها ما زالت غائبة عن المشهد العام في هذه القضية بالتحديد، ومجمل برامج الرؤية بشكل عام . وقبل ذلك ، فإن تحقيق هدف زيادة المحتوى المحلي بحاجة لبناء منظومة مؤسسية شاملة مستدامة تتمتع بسلطات تنفيذية فاعلة لفرض تحقيق هذا الهدف في المؤسسات الحكومية والخاصة بشكل متناغم بعيد عن الرؤى الشخصية والقناعات المتضاربة .
التعقيب الثاني: د. نوف الغامدي
ذهبت د. نوف إلى أن من أهم المستهدفات الداعمة لـرؤية 2030 تحويل الأهداف إلى مبادرات، تحديد الأولويات الوطنية، توليد 450 ألف وظيفة، الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والمساهمة في التحول الرقمي بالإضافة إلى “تعظيم المحتوى المحلي” وهو ما يعني القيمة المضافة الحقيقية التي ترافق التصنيع لترفع من نسبة مساهمة الأنشطة الاقتصادية في الناتج المحلي الإجمالي، سواء كان ذلك من خلال جذب الاستثمارات ونقل التقنية، أو توطين الوظائف، أو إحلال الواردات وزيادة الصادرات.
إن الاستثمارات الأجنبية في المملكة تنقسم اليوم إلى ثلاثة أنواع، أولها الاستثمارات المالية المباشرة، تليها الاستثمارات في حقوق الملكية وأسهم صناديق الاستثمار وسندات الدين العام، وثالثها الاستثمارات الأخرى في القروض والودائع والحسابات مستحقة الدفع.
أيضاً؛ منظمة التجارة العالمية في تقريرها الأخير عام 2016 أوضحت أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي فاقت 1.52 تريليون دولار أميركي، حيث جذبت الدول المتقدمة 57% من هذه الاستثمارات، لتحتل أميركا المرتبة الأولى بمقدار 385 مليار دولار، تبعتها بريطانيا بقيمة 179 مليار دولار، بينما جاءت الصين في المرتبة الثالثة بقيمة 139 مليار دولار. وأوضحت المنظمة في تقريرها أن مزايا الاستثمار الأجنبي المباشر في الدولة المضيفة لا يقتصر فقط على ضخ الأموال ونقل التقنية، بل يسهم أيضا في مضاعفة النمو الاقتصادي وزيادة المحتوى المحلي، ورفع وتيرة الصادرات كما حصل في الصين التي زادت صادراتها بعد انضمامها للنظام التجاري العالمي من 12% في عام 1990 إلى 30% في عام 2016، وذلك نتيجة لاستراتيجية التصنيع من أجل التوطين والتصدير.
هناك عدد من مبادرات برنامج التحول الوطني تسهم في توطين أكثر من 270 مليار ريال في المحتوى المحلي، وهو ما يعزز الارتقاء بالقيمة المضافة للمحتوى المحلي، والتقليل من الاعتماد على الواردات وخلق فرص العمل، تحقيقاً لهدف رؤية المملكة العربية السعودية 2030 في تعظيم المحتوى المحلي في قطاعات مختلفة.
قيمة الانفاق الحالي والمتوقع للقطاعات الاستراتيجية في المملكة حسب التقديرات ما يقارب 300 مليار ريال سنوياً، ونسبة المحتوى المحلي الحالية ما يقارب 20% أي حوالي 60 مليار ريال، وفي حالة تطبيق سياسة ناجحة للتوطين وزيادة المحتوى المحلي تستطيع المملكة تحقيق نسبة 55% تقريباً من المحتوي المحلي أي ما يعادل 165 مليار ريال في السنة، بما يساهم في إضافة 97 مليار ريال للاقتصاد الوطني.
إن برنامج التوطين من شأنه أن يخلق فرص عمل جديدة بما يقارب مليون وظيفة ويسهم في ضخ 105 مليارات ريال في الناتج المحلي الاجمالي. لذا لابد من إنشاء قواعد بيانات لتحديد الفجوات الإنتاجية المحلية في مجالات توريد السلع والخدمات والعمالة والتدريب، وربطها بخطط التنمية الاقتصادية والصناعية في المملكة، وتوحيد إجراءات تأهيل المصنعين والموردين المتعاقدين مع كافة الأجهزة الحكومية وشركات القطاعات الاستراتيجية، كتوفير آلاف الفرص الوظيفية للمواطنين، وتشغيل المنشآت الوطنية في مختلف القطاعات، دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة كركيزة مهمة للاقتصاد، وتسريع دورة السيولة في الاقتصاد الوطني، أيضاً الحفاظ على الاحتياطات من العملات، وإنشاء قواعد صناعية لمختلف الصناعات المرتبطة بالمستهدفة، توفير السلع والمنتجات بأسعار منافسة، إمكانية توطين قطاعات أخرى غير مستهدفة نتيجة لتوفر السيولة، وإيجاد سلاسل صناعية بشكل تخصصي لأجزاء آلات الإنتاج وقطع غيارها، وتحول المملكة إلى مصدر للصناعات الثقيلة والمتوسطة.
إن من أبرز ثلاث قطاعات تسهم بفاعلية في رفع المحتوى المحلي وتعظيمه هي: الصناعات العسكرية والسيارات وقطع غيارها والسياحة والترفيه، كما إن ضخ استثمارات في صناعات جديدة مبتكرة، والاعتماد على اقتصاد المعرفة يخلق فرصاً لتوطين الوظائف، وعلى المؤسسات التعليمية أيضاً أن تواكب حركة الاستثمار من حيث توجيه الطلاب إلى التخصصات في القطاعات الواعدة. ومن الأمور الجيدة دعم الدولة للمنتجات الوطنية من خلال نظام المشتريات. لذلك نجد الإدارات في الوزارات والمؤسسات العامة والهيئات تلتزم بإعطاء الأولوية للمنتجات الوطنية.
نجاح التجارب العالمية لبعض الدول كالصين وجنوب إفريقيا وماليزيا والهند والبرازيل وغيرها في تطوير المحتوي المحلي يعود إلى وجود قوانين للمحتوي المحلي، فمتطلباته من شأنها أن تحقق العديد من المميزات والإيجابيات لاقتصاد الدوله كزيادة الإستثمار الأجنبي المباشر ونقل التكنولوجيا، ورفع مستوى النمو الاقتصادي للقطاع الصناعي، وأيضاً زيادة توطين الوظائف وتحسين محتواها وخلق مخزون من الموارد البشرية القابل للتوطين مستقبلاً،. بالاضافة إلى زيادة توطين التكنولوجيا وزيادة الصادرات الصناعية وتخفيض نسبة الورادات الصناعية وأخير تخفيض سعر المنتج المحلي مما يحقق قاعدة قوية للتوسع في الإنتاج.
إن المحتوى المحلي كَانَ مختطفاً في السنوات الماضية من قبل فئة إحتكارية من رجال الأعمال والعقاريين الذين اعتمدوا على فئة من الاستغلاليين من موظفي الدولة، وساهموا في إصدار الأنظمة الفضفاضة، وسخروا هذه الأنظمة لخدمتهم وهو ما واجهته الدولة مؤخراً بكل صرامة. إذاً لابد من إظهار النتائج التي مازالت ضبابية وغير معلنة، فلا نعلم حتى الآن كم انخفضت الواردات مقابل تعويضها بإنتاج محلي؟. إضافة لغياب المعلومات عن نسبة مساهمة المنشآت الصغيرة والمتوسطة بالصادرات غير النفطية، وأيضًا لم تُعلن أي أرقام من قبل الشركات الكبرى عن ما يمثله المحتوى المحلي في أعمالها التشغيلية وصادراتها وخصوصاً الأيدي العاملة السعودية.
وأخيراً؛ أرى أن تطوير سياسات المحتوى المحلي تحتاج إلى فهم قدرات الشركات المحلية، وإيجاد حلول لمعوقات إسهامها في رفع نسبة المحتوى المحلي.
المداخلات:
مفهوم المحتوى المحلي
حول مفهوم المحتوى المحلي ذهب د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أنه يعني الوعاء الذي يفترض أن تكتمل فيه العناصر الرئيسة والخطوات الرامية إلى أن يصل إلى مرحلة تثبت لنا تحقيق نسبي، ويحق لنا القول أن لدينا محتوى محلي مكتمل الأركان؛ إضافة إلى المحافظة على هذا المقدار النسبي مع زيادة مضطردة تؤكد حالة من النمو المتزايد فيه .
ويرى د. إحسان أبو حليقة أنه يعني مستلزمات الإنتاج المحلية، بما في ذلك الموارد البشرية والمواد الطبيعية والخدمات الإنتاجية والمساندة. لكننا أهملنا تنمية المحتوى المحلي نتيجة لعدم إتباع الأصول الاقتصادية في صياغة خططنا. فمثلاً لم يكن المحتوى المحلي محل اهتمام عند التمويل أو منح الاعفاءات المحلية، وكان معظم الاهتمام على ملكية رأس المال، فإن كانت الشركة أو المؤسسة سعودية تشرع لها الأبواب. وهكذا أهملنا مكونات المحتوى المحلي في سبيل أن ينتعش رأس المال، إذ كانت حسابات الصناديق الحكومية المتخصصة للجدوى تطابق حسابات الرأسمالي المستثمر تستند وتعتمد وتتمحور حول الربحية. لذا فإن المحتوى المحلي هو توطين، والتوطين هو المحتوى المحلي. هي ممارسة علينا إتباعها روتينياً بأن نستخدم ما لدينا.
أكدت ذلك د. وفاء الرشيد بأن المحتوى المحلي local Content هو العنصر المهم والتحدي الأكبر، فتفكيك الأرقام ومن ثم تحليلها هو القاعدة لكل بناء أو تخطيط استراتيجي، لنستنبط منها معايير حقيقية وليست تخمينية. وافقها في ذلك أ. محمد الدندني حيث أشار إلى أنه يجب أن يكون لدينا أرشيف وطني مركزي دقيق وصحيح، يحوي كل المعلومات التي يحتاجها محتوى وطني يراد له النجاح.
وفي قراءة استقرائية لمعنى المحتوى المحلي يرى د. خالد الرديعان أن المفهوم يعني توطين المعرفة كأحد جوانب المفهوم، وزيادة إنتاج احتياجاتنا المادية بكوادر سعودية، وتقليص الاعتماد على العمالة الوافدة والأجانب عموماً. وكذلك تقليص الاعتماد على المنتجات الأجنبية التي يمكن صناعتها محلياً.
أهداف المحتوى المحلي
في تصور د. عبد الله بن صالح الحمود أن أهداف المحتوى المحلي تعني زيادة المكون السعودي في المشتريات الحكومية والخاصة ، مع زيادة وعي الأفراد في المجتمع لاستهلاك السلع والخدمات المحلية ، وأن ترتفع وتيرة القدرة التنافسية للشركات المحلية مما يجعلها قادرة على المنافسة عالمياً ، فضلاً عن مساهمة الشركات المحلية في سلاسل التوريد ، وأن زيادة المعرفة والقدرات الفنية لدى شباب المملكة مؤداه زيادة نحو توافر الفرص الوظيفية.
المحتوى المحلي والموارد البشرية
ذهب أ. محمد الدندني إلى أن العنصر البشري هو عمود الخيمه للمحتوى الوطني وهو الأصعب بنائاً، فلن ينجح أي مشروع بدونه. إن أكثر ما يقلقني هو الوقت في تأهيل العامل البشري وتسارع التحول والرؤية، وبنفس درجة القلق هو مستوى الوزارت المعنيه فهل بدأت بنفض غبار السنين عنها واللحاق بركب الرؤية الجديدة للملكة، أو ستضطر الدولة إلى الاعتماد على إدارة موازية للإدارة الحاليّة. أما القطاع الخاص حالياً فلا أراه جاهزاً فهو ليس ببعيد عن الاقتصاد الرعوي. يجب أن نقدر حجم المشروع وأن نبتعد عن الحلول التقليدية فالوقت ليس معنا.
وفي هذا الإطار تساءل د. مشاري النعيم إذا كان المحتوى المحلي البشري والثقافي غير جاهز فكيف يكون هناك توطين. أجاب عن ذلك أ. محمد الدندني أن الأمر ليس بهذه السوداوية، فالتعليم متوفر ومنتشر؛ نحن نحتاج فقط إلى فترة من التدريب. كوننا نبدأ بتعليم وتدريب فني بشكل جيد فهذه خطوة مهمة. أيضاً يمكن أن ينفذ التدريب على رأس العمل، ويذكر أن هذا البرنامج نجح قديماً في أرامكوا. المهم أن نبدأ. بلدنا حجمه اقتصادياً أكبر من العنصر البشري وهذا واضح؛ لذا لابد من آليات متوازية، ولا بأس من وجود عنصر بشري أجنبي، ولكن المشكلة أن لايكون مؤهلاً ونستمر وكأننا أكبر مركز تدريب في العالم.
ويرى د. حامد الشراري أننا في الاتجاه الصحيح في زيادة المحتوى المحلي، فمن ناحية الموارد البشرية لدينا برنامج خادم الحرمين للابتعاث الخارجي، بجانب مخرجات القطاعات التعليمية الداخلية التي ضخت الآلاف في سوق العمل. كذلك الرؤية التي هي خارطة طريق إذا تم تنفيذها على الوجه المطلوب ستسهم بكل تأكيد في زيادة المحتوى المحلي، فمن ناحية التصنيع الرؤية تشتمل على توطين ٥٠٪ من الصناعات العسكرية في٢٠٣٠، وهذا بحد ذاته أكبر مشروع محرك للمحتوى المحلي. هذا إذا ما علمنا أن الصناعات المدنية هي نتاج الصناعات العسكرية بعد انتفاء الحاجة منها عسكرياً، وهي قوة الهيمنة الاقتصادية، وهي حلقة تكاملية (صناعات عسكرية تتحول إلى صناعات مدنية، وصناعات مدنية تدعم الاقتصاد، واقتصاد يدعم الصناعات العسكرية من خلال البحث والتطوير وهكذا ..)
نحتاج إلى منظومة متكاملة من الإطار التنظيمي والتشريعي والسياسي والاستراتيجي (كالاستراتيجية الصناعية واستراتيجية التوظيف والخطط والسياسات ذات العلاقة بالتقنية والعلوم والابتكار. …) لزيادة المحتوى. وعلينا أن لا نستعجل النتائج نحتاج إلى سياسات صحيحة طويلة المدى وخارطة طريق واضحة (تمثلها حالياً الرؤية ٢٠٣٠) لكوننا نعيد بناء الاقتصاد من الريعي إلى المنتج، نحن نتحدث عّن إعادة هيكلة اقتصاد بلد وهذا يحتاج إلى وقت.
أضاف أ. محمد الدندني أنه بالفعل تحدٍ كبير، فهو نكون أو لا نكون. وباعتقادي ركيزة النجاح بجانب ما طرح أن يكون التوجه والتعامل بجعل المشروع مستدام، وهي نقطة محوريه، وكذلك أن يحمل المشروع صفة الشمولية الكاملة comprehensive integration.
وفي اعتقاد د. راشد العبد الكريم أن نسبة غير قليلة من مخرجات برنامج الابتعاث كانت دون المأمول بكثير. فصارت عبئاً على المحتوى المحلي، وكان يمكن بشيء من التركيز الاستثمار فيها بشكل أفضل. أعتقد أن كثيراً من الموارد البشرية بحاجة إلى (المهارات الناعمة) لتكون أكثر فاعلية في الإسهام في المحتوى المحلي.
بينما يرى د. حامد الشراري أنه ليس لدينا قاعدة بيانات عن حاجة سوق العمل لسنوات قادمة. وأذكر أنني قابلت نقيب نقابة المهندسين الأردنية وذكر أنهم يعرفون عن حاجة سوق العمل من المهندسين، وعدد الطلاب في كليات الهندسة للسنوات القادمة. هيئة الاحصاءات العامة عليها دور كبير ومحوري للربط والتوافق بين حاجة سوق العمل والتخصصات المطلوبة، من خلال توفير البيانات الدقيقة للسنوات القادمة. أما سياسة الابتعاث فهي بكل تأكيد تستخدم المحتوى المحلي والتوطين؛ لذا فهي بحاجة إلى ضوابط جيدة لاستثمار البرنامج بشكل أفضل.
وفي رأي م. خالد العثمان فإن الابتعاث غلب عليه حتى الآن الزخم الكمي وليس النوعي. ونحن بحاجة لمنظومة شاملة للمحتوى المحلي تأخذ في اعتبارها تحديد الموارد البشرية اللازمة ضمن برامج محددة لبناء القدرات التي تحتاجها تلك المشروعات الموجهة لتنمية المحتوى المحلي.
المحتوى المحلي والتعليم الفني
في اعتقاد د. مشاري النعيم فإن الخلل الأكبر يكمن في الأيدي المهنية التقنية. ويتفق معه أ. محمد الدندني، حيث أن منظومة التعليم الفني لم تقدم شيئا يذكر؛ لذا فإن التعاون وجلب المعلمين والمناهج من دول متقدمة أمر لا مفر منه. وترى د. وفاء الرشيد أنه لا توجد جاهزية للتوطين في بعض القطاعات، والتي قد تكون جذرية مثل المقاولات والمحاسبة والتكنولوجيا والاتصالات.
وأشار د. مشاري النعيم إلى تجربة مراكز ومعاهد التدريب التي لم تنجح وتحولت إلى مراكز شكلية، وقد نبعت الفكرة من تطور فكرة السعودة التي أثارها الأمير نايف رحمه الله، إلا أن ثقافة المجتمع حولت الفكرة إلى فرصة تجارية بدلاً من المساهمة في بناء قاعدة بشرية مهنية حقيقية. وكذلك تجربة كليات التقنية وإخفاقها الواضح وعدم قدرتها على إقناع المجتمع بجدوى مخرجاتها.
من جانبه يرى م. خالد العثمان أن فشل أو تعثر برامج التدريب وحتى الابتعاث أنها لم تكن موجهة إلى مجالات عمل محددة، ولم ترتبط بسياسات المحتوى المحلي. كما أن كل برامج التدريب والابتعاث يغلب عليها الطابع الكمي وليس النوعي.
في السياق نفسه ذكرت د. وفاء الرشيد تجربة في القطاع الخاص تتعلق بمعاهد التدريب؛ حيث كانت هناك تحديات كبيرة لشركات البترول التي تتعامل مع شركة أرامكو في إيجاد كفاءات سعودية لتعمل بمصانعها وورش صيانتها، وبعد جهود تأسس معهد غير ربحي باستثمارات من كل هذه الشركات، يتخصص في التدريب الدقيق على التخصصات المطلوبة لديهم، ونجحت الفكرة حيث يتم تدريب أكثر من ٥٠٠٠ سعودي اليوم، بأرقام فاقت ٣٠٠ مليون، وبـ ١٤٠٠٠ طالب بين الدمام والخفجي. مدة الدبلوم سنتين يحق للطالب بعدها بالتجسير مع جامعة بريطانية الحصول على البكالوريوس.
وأرى أنه لا يمكن أن تتم عملية التوطين بلا فهم المحتوى المحلي، ولا يمكن النهوض بالمحتوى المحلي بلا كفاءات حقيقية تصب باحتياجات التوطين.
بينما يرى م. خالد العثمان أن تأسيس هذا المعهد لا علاقة له بالمحتوى المحلي، فهو معهد غرضه تأهيل الطاقات البشرية للعمل في مشاريع أرامكو، وهناك برنامح آخر مماثل له في مصفاة جازان. المطلوب التوسع في إنتاج السلع والخدمات محلياً باستخدام معارف موطنة محلياً، وموارد بشرية محلية، وإنتاج محلي.
أضاف أ. محمد الدندني أنه تم افتتاح معهد “إتقان” في الجبيل. تركيزه في جزئية ال inspection. هذه الحزئية ليست فقط في صناعة النفط بكل تخصصاتها، بل نحتاج لها في كل منتج و خدمه وهذا ما نفتقر إليه.
وحول تساؤل م. خالد العثمان ذكر أ. محمد الدندني أنه لابد من جودة المنتج صناعياً أو خدمياً، فكل الدول المتقدمة تحرص على هذا الامر، بالإضافة لجودة المنتج يدخل الفحص والاختبار في تقييم نسبة الإنتاج مادياً وهو وقت ومعدل الإنتاج degree of efficiency. لدينا محطة كهرباء تولد الطاقة أو مصفاة نفط أو أي مصنع ينتج أي مادة فيجب قياس الإنتاجية، وهذا له دخل مباشر في قيمة المحتوى المحلي. أيضاً جوده المنتج تدخل في الخدمات وفِي كل أمور الحياة من مطاعم وإعمار المنازل أو البنية التحتية عموماً، والطرق، ونسبة الحوادث، وتقليل الوفيات، وهنا يأتي عامل الأمن والسلامة في أي منشئة.
بالإضافه لهذا فعندما نقيم مصنع ونبحث عن أسواق يجب أن تكون جودة المنتج حسب معايير دولية وموثقة من شركة أو شركات مختصة وموثوقة؛ لذا يجب توطين هذه الخدمة لما لها من أهمية في تقليل الخسائر وجودة المنتج. ربما علينا أن ننمي هيئة المواصفات والمقاييس، ونجعلها الجهة المشرعة والمراقبة لهذا الأمر.
من جانبه ذكر م. خالد العثمان أنه يتفق مع هذا الطرح وأنه يعي علاقته بالمحتوى المحلي؛ الفحص والاختبار أحد الأدوات المهمة للحصول على منتجات وسلع وخدمات ذات جودة منافسة يعتد بها، خصوصاً مع احتمالية عدم القدرة على المنافسة السعرية مبدئياً.
وتساءل د. مشاري النعيم لماذا لا تتكرر التجربة بإنشاء معاهد تولد موارد بشرية متمكنة في قطاعات الأعمال الأخرى. في تصور أ. محمد الدندني أن وزارات وهيئات وشركات لم تتحرك، ولم تتقدم ولَم تحاول، المشكلة في القياده لهذه المنشئات. بينما ترى د. وفاء الرشيد أن ذلك سببه المؤسسة العامة للتدريب. في حين يعتقد أ. محمد الدندني أن فكرة المعاهد وكليات التقنية مرتبطة بالشركات الخاصة أو المختلطة، والأمر يحتاج دراسة لنوعية التخصصات المطلوبة.
أضاف د. حامد الشراري أن هناك توجه أعلن عنه وزير التعليم بإطلاق أول جامعة للعلوم التقنية التطبيقية بالمملكة، كجامعة متخصصة تحمل اسم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- وهي إحدى مبادرات الوزارة المضمنة في برنامج التحول الوطني 2020 المنبثق عن رؤية المملكة العربية السعودية 2030، وفيها يتم ربط الكليات التقنية، بالجامعة الجديدة، من خلال إطار تكاملي مع المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني.
توطين بعض الصناعات والأعمال
حول توطين بعض الصناعات والأعمال تساءلت د. وفاء الرشيد ما الهدف من توطين ٥٠٪ الصناعات العسكرية؟ لماذا لا يكون الهدف في خفضها والعمل هلى استحداث قطاعات اخرى تنموية للتوطين؟.
في اعتقاد م. خالد العثمان أن ذلك يهدف إلى تقليل الاعتماد على المصادر الخارجية، الاستقلالية الأمنية، وتحقيق عوائد اقتصادية محلياً، أضاف أ. محمد الدندني بأن هذا الإجراء يخلق فرصا للعمل؛ ومعلوم أن الصناعات العسكرية تولد صناعات مدنية كثيرة بجانب الأمر الدفاعي والأمني.
أضاف د. خالد بن دهيش؛ إن رؤية المملكة ٢٠٣٠ تضمنت رفع نسبة المحتوى المحلي في قطاع العمل والأعمال لقطاع النفط من ٤٠٪ إلى ٧٥٪، وكذلك توطين الصناعات العسكرية من ٢٪ إلى ٥٠٪، وينطبق نفس التوجه على الصناعات الأخرى بنسب مختلفة، وسيكون ذلك داعم قوي للاقتصاد الوطني. كما أن وزارة الطاقة والصناعة تعد الأستراتيجية الوطنية للصناعة وهي في مراحلها النهائية تحمل المزيد من نقل وتوطين الصناعات والتقنية للمملكة وفق استراتيجية وطنية ستكون واعدة لمستقبل مشرق لزيادة نسب التوطين في مختلف الصناعات.
الاتفاقات الدولية وتدعيم المحتوى المحلي
أورد د. عبد الله بن صالح الحمود احدى تغريداته التي يرى أنها تدعم المحتوى المحلي، حول زيارة سمو ولي العهد لمدينة بوسطن، والتي أسفرت عن سبع اتفاقيات تعاون وشراكات في مجالات الهندسة والطب والفيزياء والطاقة وتطوير المنتجات البحثية.
من جانبه علق أ. محمد الدندني بأن يعتمد على محتوى الاتفاقيات وأهلية الجانب السعودي من جامعات وشركات وغيرها للاستفاده منها. وأيضاً يعتمد على ما نرجوه من وجود محتوى محلي فعال بالتنسيق بين القطاعين العام والخاص.
المحتوى المحلي: ما بين السعودة والتوطين
أشار د. راشد العبد الكريم أننا بحاجة لدراسة تجربة “السعودة” وتقويمها للاستفادة منها في توطين المحتوى.
وذهبت د. عبير برهمين إلى أن كلمة “المحتوى المحلي” مدلولها هو أكبر بكثير من كلمة “سعودة”. فالأولى في مفهومي لا تقتصر على العنصر البشري المؤهل والفاعل وحسب بل تتعداه إلى عناصر الجودة المتكاملة من جودة المنتج وجودة المناخ وجودة آلية التعامل وجودة المراقبة والتسويق والمحاسبية. في حين أن مصطلح ” السعودة” قد تَسطّح وَطُبِّق بمبدأ تستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. المراقب بعين منصفة يجد أن مصطلح السعودة أصبح مرادفاً لمفاهيم كثيرة سلبية كالتستر التجاري، وسوء المستوى البشري والتسرب الوظيفي، وقلة الوعي في توظيف القوى العاملة الخارجية. وقد يكون الضغط بالقوة نحو التوطين قد اهتم بالكم دون الكيف أو تطوير القوى العاملة البشرية؛ ما أدى إلى تسطيح وتشويه مصطلح “السعودة” رغم سلامة المقصد ابتداء إلا أن التنفيذ كان مخيباً للآمال.
ويرى د. محمد الملحم أن السعودة ليست عصا نظام يقسر المواطن التاجر عليها، وإنما مشروع “تمكين” متكامل لكل الأطراف التاجر والشاب السعودي، لذلك يظل هذا التعبير “السعودة” كائن هلامي لم نتمكن من رؤية فائدته الحقيقية متمثلة على أرض الواقع إلى الآن.
وذهب د. حميد المزروع إلى أن السعودة الحقيقية بالقطاع الخاص تبدأ فعلياً عندما توقف وزارة العمل الاستقدام باستثناء الشركات المساهمة. في حين يرى د. محمد الملحم أن ذلك لو حدث فهو قتل فوري للاقتصاد، فبلدنا يقوم إنتاج اقتصادها على فئة كبيرة من العمالة الخارجية، ولابد من الانتقال المخطط المتقن المدروس.
وأشار د. حميد المزروع أن تقنين العمالة الأجنبية تحت مظلة الشركات المساهمة يقضي علي معظم المشاكل التي يواجهها سوق العمل، وليس هناك ما يمنع أن تستعين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من شركات متخصصة لتوفير العمالية المتخصصة لإدارة أعمالها، وبذلك نقضي علي تجار الإقامات والمحتالين علي الأنظمة، كما يسهل متابعة أعمالها وحفظ حقوق العاملين بها.
أضاف د. حميد الشايجي أنه لا يوجد بلد في العالم لا يوجد فيه عمال وافدون؛ بل هناك دول تشجع الهجرة الذكية، وتمنح الجنسية لفئات معينة. ففي الأردن على سبيل المثال، وهي بلد محدود الموارد ومصادر الدخل، كما أن الأجور منخفضه للمهن البسيطة، ومع ذلك يلاحظ وجود العمالة الوافدة وخصوصاً المصرية والسورية والخادمات من دول مختلفة، هذا وهي دخلها محدود، فما بالنا بدولة كالسعودية تتميز بدخل عال وفرص وظيفيه كثيرة.
وذهب أ. محمد الدندني أن المشكلة تكمن في أن الأجنبي يجد عملاً بسهولة وأبناؤنا عاطلون، فهناك ثقافة تحد من دخول السعودي لأعمال معينة. وهناك مشكلة أخرى عندما يخرج السعودي من سوق العمل بسبب تدني المرتبات، ولهذا الحد الأدني مطلوب في الأعمال المهنية والفنية؛ حد أدنى للمهنة بغض النظر عن كونه سعودي أو غيره.
بينما يرى د. حميد الشايجي أن العمالة الخارجية الرخيصة مطلب لأي بلد متقدم، أو اقتصاد مزدهر. بريطانياً مثلاً مليئة باليونانيين والأتراك عمال البناء، والهنود والبنغال عمال البقالات، أمريكا أيضاً، وأستراليا، وفرنسا، ويذكر أن العراق في الثمانينات كانت مليئة بالمصريين كمزارعين، مع أن العراقي فلاح ومزارع. لكنها الثورة الصناعية، وخاصة الصناعات العسكرية التي جذبت أبناء البلد؛ وقديماً عمل أجدادنا في الهند، وهكذا.. .
العنصر البشري والمحتوى المحلي
يرى م. خالد العثمان أن العنصر البشري ليس المفتاح الأول والأهم في منظومة المحتوى المحلي؛ بالرغم من اتفاقي التام مع مبدأ أن خلق الفرص الاستثمارية وتطوير الإنتاج يجب أن يدعم توظيف وتشغيل السعوديين أولاً. وكمثال على ذلك، فإن شركة يابانية استثمرت مليار ريال لإنشاء مصنع في الدمام بتقنية متقدمة لإنتاج عصير البطاطس ووظفت فيه طاقماً كاملاً من السعوديين. ثم قررت هذه الشركة لأسباب سياسية أو اقتصادية أو حتى مزاجية أن تغلق المصنع وتخرج من السوق فماذا ستكون النتيجة؟، سيبقى المصنع مغلقاً ويخسر كل العاملين وظائفهم وسيحدث نقص عصير البطاطس، والنتيجة أننا سنضطر إلى العودة لاستيراده كما كنا من قبل. وهنا أرى أن الخلل في أننا لم نلزم المصنع بتوطين المعرفة عبر تدريب الكوادر الوطنية على بناء وتشغيل المصنع، وفهم تقنياته وتفاصيله التشغيلية، وتسجيل هذه المعلومات محلياً.
السعودية هي المنتج الأكبر في العالم للمياه المحلاة، ومع ذلك وحتى الآن نضطر للجوء إلى الشركات الهندسية والفنية والمقاولين الأجانب الذين يملكون المعارف والتقنيات إن احتجنا لبناء محطة تحلية جديدة.
الرؤية والمحتوى المحلي
يعتقد م. خالد العثمان أن الرؤية تسعى إلى أننوفر محلياً احتياجاتنا من السلع والخدمات وقطع الغيار والمأكل والملبس وكل شيء.. وحتى تتحقق استدامة هذا التوجه يجب نقل وتوطين المعرفة. لذلك فإننا لو قارنا بين النموذجين التركي والمصري عند انخفاض قيمة العملة المحلية في السنوات القليلة الماضية. ففي النموذج التركي لم يعاني الناس من أي تضخم مؤثر لأن معظم إنتاج البلد محلي فلم تتأثر دورة الإنتاج بانخفاض سعر العملة. بينما في النموذج المصري التضخم أهلك الناس لأن الاقتصاد معتمد على الاستيراد، فارتفعت تكلفة السلع المستوردة مع انخفاض العملة المحلية.
وأضاف د. خالد الرديعان أن ما نقوم في قضية التمكين ودعم المحتوى المحلي يتسق تماماً مع رؤية المملكة ٢٠٣٠، وهناك إجراءات اقتصادية تم الأخذ بها وتطبيقها لتحقيق المحتوى المحلي، إلا أن ذلك يتطلب فترة من الوقت لكي تتضح النتائج بصورة تمكننا من الحكم على العملية.
الإنتاجية والجودة وزيادة المحتوى المحلي
أشار د. خالد الرديعان أن زيادة المحتوى المحلي مرتبط بشكل مباشر وغير مباشر بعوامل السعودة والانتاجية والجودة، ونحن ركزنا على العامل الأول وأهملنا العاملين الآخرين، سواء في الأنظمة أو في التطبيق. إن رفع الإنتاجية والجودة ثقافة يجب أن تنشأ في المجتمع في التعليم وفي المنزل، وسوف تؤتي ثمارها عندما يدخل الشباب سوق العمل. كما أننا إذا أردنا رفع نسبة المحتوى المحلي في الخدمات فإن رفع الإنتاجية والجودة سيكون لهما أكبر الأثر في ذلك.
التنظيمات والتشريعات
في تصور م. خالد العثمان أن من أهم وسائل دعم المحتوى المحلي السياسات والتشريعات. فانضمام دولة ما إلى منظمة التجارة العالمية يعني التزامها بحرية التجارة العالمية، لكن تظل هناك سبل ووسائل لحماية المنتجات المحلية. وأعتقد أن ما قام به دونالد ترامب مؤخراً من فرض ضرائب على الحديد الصلب المستورد هو من صميم تلك الإجراءات، والدول الأخرى وخصوصاً أوروبا والصين تعتبرها إجراءات من قبيل الحرب التجارية.
وذهب أ. محمد الدندني إلى أنه لا يجب أن يترك الأمر بلا راعي يحمل الصلاحية والمسؤولية، فلابد من إيجاد جهة واحدة مقننة، تضع السياسات وتقوم بالمراقبة. في النرويج البرازيل وماليزيا أنشئوا هيئة مرتبطة برئيس مجلس الوزراء، ولا ننسى أنه حتى في الدول الصناعية لديهم جهة تهتم بالمحتوى المحلي.
أضاف د. محمد الملحم أنه عندما أنشئ المجلس الاقتصادي الأعلى كانت تصوراتي الأولية عنه أنه سيتولى ذلك ليحافظ على نسق واحد في السياسات بدلاً من التباين بين الوزارت (أو المجالس واللجان العليا سابقا). كما أنه عندما يقر أية إجراءات فهو يعبر عن توجهات سياسة داخلية قائمة على أساس متين، وليست طموحات صاحب حقيبة وزارية قد تزول خلال سنوات معدودة.
علق على ذلك أ. محمد الدندني أن من أعظم قرارات خادم الحرمين الملك سلمان إلغاء كل المجالس واللجان وحصرها في اثنتين فقط. نحتاج لجمع هذه الجزر المتناثره في هيئة واحدة تشرف على المحتوى المحلي بصلاحيات سيادية لما للأمر من أهمية أو مسؤولية تساوي الصلاحيات، ويكون لها حق تنفيذ ومراقبة هذا المشروع في القطاعين الخاص والعام.
إشكالية التوطين
يرى أ. سمير خميس أن إشكالية التوطين تتبلور في احتياجه إلى وقت طويل حتى يتحقق، وتشابكه مع قضايا آنية يتوجب الإسراع في حلها كالسعودة والقضاء على البطالة ونحوها. فمثلاً؛ التطور الذي حققته مدن خليجية مثل دبي وأبوظبي أو الدوحة وغيرها من الأمثلة الخليجية الواضحة التي تدلل على سطوة المال في إحداث نقلة نوعية، لكن هل سيضمن المال ديمومتها أم امتلاك المعرفة وتوطينها؟. في هذا السياق أشار أ. محمد الدندني أن المعرفة والبناء عليها هو الأساس، وهي من ركائز الاستدامة والسيادة. المملكة ليست دبي أو الدوحة، أو كل الدول الخليجية الخمس باستثناء عمان.
حماية الصناعات والمنتجات المحلية
يرى د. مشاري النعيم أن من أسباب تطوير المحتوى المحلي هو حماية الصناعات والمنتجات المحلية، وعدم إغراق السوق بالمستورد الرخيص والمنافس. كما أن الحفاظ على جودة بشرية وإنتاجية يتطلب شروط حماية عالية جداً حتى في الأعمال المهنية.
اتفق معه أ. محمد الدندني في ذلك حيث يرى أنه لابد من حماية المنتج الوطني، ولكن ليس بالدعم المادي بحيث يكون منافساً حسب قواعد السوق. أما حماية العنصر البشري فهو مهم خاصة في ظل المنافسة غير العادلة مع الأجنبي الأرخص والأجهز.
ضريبة الدخل وعلاقتها بدعم المحتوى المحلي
ذهب أ. محمد الدندني إلى أهمية تطبيق ضريبة على الدخل وتوعية الناس بها وبأهميتها، لأن ذلك سيشعر المواطن أنها مصدراً لتطوير البنية التحتية التي تخدمه والانفاق عليها، مع تغيير النظرة النمطية عن التاجر والمصنّع السعودي، فهو سيتحول إلى دافع ضريبة يستفيد منها بشكل مباشر وغير مباشر.
بينما يعتقد د. خالد بن دهيش أن حكومتنا ملتزمة وبشكل واضح أنها لن تفرض على المواطن أي ضريبة على الدخل أو الثروة أو السلع الأساسية، وأنها سوف تحقق التوازن في الميزانية، وتنويع مصادر الإيرادات، وإدارة الميزانية بصورة رشيدة.
علق أيضاً م. خالد العثمان إلى أنه في وقت سابق أطلقت حملة عنوانها كن سعودياً واشتر بضاعة سعودية. تلك الحملة فشلت بسبب سوء جودة البضاعة السعودية في ذلك الوقت. لذا فإنه لا يمكن التعويل على الشعور الوطني والاجتماعي فقط عند المستهلك لاختيار المنتجات الوطنية؛ هذا بالنسبة للأفراد والمؤسسات الصغيرة، أما القطاع الحكومي والمؤسسات الكبيرة فمن المهم إلزامها بدعم التوطين بتشريعات وكوتات مفعلة وفاعلة، فهي الأقدر على دعم بدايات الاستثمار في مشاريع توطين المحتوى المحلي.
وأضاف د. محمد الملحم بأن ضريبة الدخل ليست هي الحل لتطوير بلد مترف، قد تكون مفيدة مرحلياً لكنها لا يجب أن تكون أساس، فعلاقتها بالجودة ترتهن بالسياسة وهذا مربك لدينا ولايجوز بعثه. لذا فإن تجنب هذه الضريبة (كأساس) قدر الإمكان هو الأفضل والأسلم لمجتمع مستقر مثل مجتمعنا. كما أن ضريبة القيمة المضافة مقبولة ولها مبرراتها المنطقية للاستثمار الوطني، ومع ذلك يجب أن تظهر آثارها أيضاً وإلا تحولت من استثمار إلى استنزاف للاقتصاد الذاتي.
في هذا السياق تساءل د. مشاري النعيم، كيف يمكن أن ينعكس موضوع الضريبة على التوطين؟. أجاب عن ذلك أ. محمد الدندني بأن انعكاسها يظهر في إحساس الموظف والمواطن أن يعمل بجد للمساهمة في نجاح المنشأة أو المؤسسة التي يعمل بها بسبب فرض الضريبة على المالك. وإحساس المواطن أيضاً بأن التاجر والمصنّع والمالك عموماً يساهم في بناء الوطن، وأن هذه الضريبة يستفيد منها الجميع، بالإضافة إلى أن الدولة ستضمن توفير المالك برنامج تدريب وبحث وتطوير للمشنأة أو المؤسسة، حيث أن هذه التكلفة ستستقطع من الوعاء الضريبي.
الاستفادة من التجارب الدولية في دعم المحتوى المحلي
اقترح د. خالد الرديعان أن ينظر إلى التجارب الدولية التي يمكن الاسفادة منها استنساخاً أو توطيناً، لتوفير الجهد والعناء حتى لا نبدأ من الصفر، مع ضرورة معرفة العثرات والصعوبات التي واجهت غيرنا لتلافيها.
وفي ذلك يى أ. محمد الدندني أن كثيراً من الدول لها تجارب في المحتوى المحلي وبدرجات متفاوتة من النجاح، كتجربة ماليزيا وتجربة البرازيل، وهما يعتبران من أنجح التجارب في الدول الغير متقدمة. وهناك أيضاً تجربة النرويج الرائدة في صناعة النفط، وقد أخذت عُمان أيضا بهذا المشروع. المحتوى المحلي مشروع مستدام ولذا تجد دولاً صناعية متقدمة لديها مثل هذا البرنامج كبريطانيا.
بينما يرى م. خالد العثمان أنه لا يوجد في الحقيقة ما يمكن الاعتداد به في التجربة الماليزية، خصوصاً فيما يتعلق بالمحتوى المحلي. هذه التجربة طغى عليها التسويق أكثر من الواقع الذي ما زالت فيه ماليزيا أبعد ما تكون عن الاكتفاء الذاتي، وأصبحت دولا أخرى في محيطها تنافسها بقوة في الأداء الاقتصادي. فماليزيا لم تستطع مقاومة الدورات الاقتصادية وهبوط سعر العملة. وأنا لا اقلل من نهوضها الاقتصادي لكنها واقعياً لا تمثل نموذجاً يحتذى به في موضوع المحتوى المحلي تحديداً.
وبرأيي التجربة التركية هي الأنجح في السعي إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحتوى المحلي إذا أردنا النظر إلى دولة ذات حجم مقارب نسبياً. وإلا فإن الصين بالطبع هي النموذج الأهم في النهوض الاقتصادي والاكتفاء الذاتي، بل والتحول إلى أن تصبح المهيمن الأول على مفاصل التجارة في العالم، إلى حد أن أمريكا اضطرت إلى استخدام وسائل حمائية لمقاومة الهيمنة الصينية.
علق على ذلك أ. محمد الدندني بأن الأتراك ساعدهم على ذلك تنوع الاقتصاد، إلا أن تجربتهم في توليد شركات المقاولات الضخمة من رحم البلديات تجربه رائدة.
وأضاف د. محمد الملحم هناك بعض التجارب الأخرى مثل الهند وكوريا الجنوبية وسنغافورة كتجارب آسيوية، وألمانيا كتجربة غربية.
المحتوى المحلي ودعم المشروعات الصغيرة
يرى د. عبد العزيز الحرقان أنه لا يوجد تكامل بين أجهزة الدولة لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل القاعدة لنمو المؤسسات الابتكارية، بل إن الواقع يُظهر أن ممارسات وزارة العمل ضد نمو هذه المؤسسات؛ بينما مبادرات وزارة التجارة محدودة جداً، ووزارة المالية لم تحدث نظام المشتريات في سبيل نمو المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وبالتالي التحديات أمام نمو المحتوى المحلي تتزايد.
وفي نظر د. محمد الملحم أن المؤسسات الصغيرة لا تحلم بالدعم الآن بل تتمنى إيقاف الضغوط، حتى مبادرات الشباب مثل فود ترك Food Truck فالنظام يفرض عليهم عدم الوقوف إلا في الأماكن التي تحددها لهم الأمانة. وهذا ما ذهبت إليه أ. مها عقيل من أن الرسوم والتعقيدات الإجرائية التي تفرضها الأمانة لتزيد من دخلها يعرقل ويحبط الكثير من هذه المشاريع.
وأضاف م. خالد العثمان أن هذه نقطة مهمة. فدعم المحتوى المحلي يتطلب حزمة من الإجراءات الموجهة لتخفيف الأعباء المالية والإجرائية على المشروعات الناشئة تنسجم مع أهداف تنمية المحتوى المحلي. وأذكر أن وزارة التجارة وهيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة أعلنت مؤخراً بعض الإجراءات لاعادة الرسوم على المشروعات الناشئة في الكثير من القطاعات، لكننا بحاجة إلى إجراءات أكثر عمقاً ودعماً وتحفيزاً موجهة بمعايير تنمية المحتوى المحلي. لذا فإنه لا يصح المساواة بين مستثمر مغامر صناعي يتحمل مخاطر كبيرة، ومستثمر في مجال المطاعم وغيرها من الأنشطة الاستهلاكية التقليدية.
إجراءات تحفيزية للاستثمار وتنمية المحتوى المحلي
أشار م. خالد العثمان إلى أن من الأمور المهمة أيضاً كنموذج للإجراءات التحفيزية لدعم الاستثمارات الموجهة لتنمية المحتوى المحلي اعتماد اتفاقيات الشراء المسبق أو الالتزام بالشراء ضمن نظام المنافسات الحكومية. فالمستثمر الصناعي أو التقني على سبيل المثال يتحمل مخاطر كبيرة في تأسيس نشاطه دون أي التزامات مسبقة من الجهات الحكومية التي تستخدم منتجاته. بعض هذه الحالات يكون المستخدم للمنتجات جهة وحيدة كما هو الحال في الصناعات العسكرية أو النفطية. أيضاً فإن اتفاقيات الشراء المسبق المشروطة بتحقيق معايير الجودة هي أحد أهم المفاتيح لتنمية الاستثمارات في هذه المجالات. هذا النموذج ليس بجديد على الدولة، وأحدث تطبيق له هو اتفاقية الشراء المباشر والمسبق للطاقة الكهربائية التي ستنتجها محطة الطاقة الشمسية في الجوف.
أضاف د. عبد الله صالح الحمود أن الجهة المنوط بها متابعة تطبيق أعمال ومناشط مراحل الوصول إلى رؤية 2030 هي الجهة التي تشرف على تنمية المحتوى المحلي دون غيرها .
ونقلاً عن موقع وحدة المحتوى المحلي وتنمية القطاع الخاص (نماء)1 ذكر م. خالد العثمان أن هذه الجهة التابعة لمجلس الشئون الاقتصادية والتنمية أُنشأت للمساهمة في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030، من خلال العمـل مـع كـافـة الجهـات ذات العلاقـة لوضـع الأولويات والإتفـاق عليهـا، بالإضـافـة إلى مراقبـة تنفيـذ المبـادرات التنظيميـة التـي من شـأنهـا أن تسـاعد في تنميـة القطـاع الخـاص، وتعـزيـز الصـادرات والإنـفاق المحـلي. حيـث تقـوم الوحـدة بوضع الأنظمـة والسياسات الجـديـدة بالإضـافة إلى وضـع الإستراتيجيـات الوطنيـة المتـعلقة بأهداف زيـادة المحتـوى المحلي وتطوير القطـاع الخـاص.
الأنشطة الرئيسة للوحدة تتمثل في تقييم أثر الأنظمة والسياسات الجديدة، مراقبة تنفيذ الأنظمة والسياسات، الحفاظ على تواصل مستمر مع القطاع الخاص للحصول على ردود فعل مباشرة، وتنسيق كافة الأنشطة ذات العلاقة بمواضيع نمو القطاع الخاص والمواضيع المتعلقة بزيادة المحتوى المحلي.
الموظف السعودي وعلاقته بتنمية المحتوى المحلي
في سياق الحديث عن العمل على زيادة ودعم المحتوى المحلي يتصور د. خالد الرديعان أن هناك جانب يتعلق بالموظف السعودي سواء كان في القطاع العام أو الخاص، ويتمثل ذلك بضرورة إيجاد طرق وأساليب لتحفيز الموظف على العمل، فالرؤية الشائعة عن الموظف السعودي بأن إنتاجيته ليست كما ينبغي لأسباب كثيرة. وأتساءل كيف نجعل الموظف السعودي مثل موظف “أرامكو”؟ فموظف هذه الشركة إنتاجيته عادة عالية.
علق على ذلك د. راشد العبد الكريم بأن الأمر يحتاج إلى معايير أداء واضحة، مثل مرتب مناسب، وبيئة عمل مناسبة. وفي رأي أ. محمد الدندني فإننا حتى نحقق ذلك يتطلب الأمر إضافة إلى ما ذكر د. راشد أن يكون هناك تحد وتعلم في مجال العمل. وأن يشعر الموظف بأهميته وأنه محل تقدير. فأغلب الموظفين ربما غير راضٍ عن نوع العمل، وأنه مجرد قضاء ساعات وانصراف.
وفي تصور د. حميد المزروع، فإن تعزيز الإنتاجية عند الموظف يرتبط بعدة جوانب منها: نوعية المؤهلات وملائمتها مع طبيعة العمل. ووجود ما يعرف بالوصف الوظيفي لكل مهنة. أيضاً وجود سلم وظيفي مالي وإداري واضح. وكذلك وجود أدوات أو معايير لقياس الأداء الوظيفي مقترن بالإنتاجية، ويعرف في بعض المهن بـ work assignment، وأخيراً توفير برنامج الولاء أو ما يعرف بـ loylity للموظفين لضمان أستمرار الموظفين باعتبارهم جزء من الكيان الاقتصادي وليس فقط عاملين.
برنامج التحول الوطني
في هذا السياق أورد د. خالد بن دهيش خبراً من موقع صحيفة سبق الالكترونية1 تحت عنوان “برنامج التحول الوطني تكفل بموضوع الزام الجهات الحكومية بوضع مؤشرات لقياس الأداء لمبادراتها في الاستراتيجيه لكل قطاع حكومي”، تناول الخبر قضية نقل المعرفة وتوطين أحدث التقنيات في المملكة، حيث أن العنوان الأبرز في زيارة ولي العهد الحالية للولايات المتحدة، إذ اشترطت جُل الاستثمارات والشراكات التي وقعتها السعودية وأمريكا ضرورة توطين ونقل المعرفة والصناعة؛ لتحقيق الاستدامة، وتماشياً مع رؤية 2030. كما أن خلق الفرص لجميع أفراد المجتمع وضمان مستقبل مزدهر ومستدام. كانت الأولوية لولي العهد مهندس التغيير، وهو يخطط رؤية وخطة لمستقبل المملكة، وسمحت الشراكة القوية التي تجمع المملكة بالولايات المتحدة نحو توطين الصناعات؛ لمواجهة التحديات التي تتعلق بالقدرة على الاستدامة. وأعدت الحكومة السعودية، في إطار سعيها لتحقيق رؤية 2030 برنامجا متميزاً وحددت 10 قطاعات رئيسة للدخول في استثمارات فيها مع أمريكا، وهي: الدفاع، الطيران، الطاقة، البتروكيماويات، التقنية، التصنيع، النفط والغاز، التعدين، الاستثمار، والصحة، وركزت جهودها على تحقيق التوطين ونقل المعرفة والتقنية.
بلغ عدد المذكرات الموقعة بين الجانبين في القطاعات العشرة، 46 مذكرة، 13منها في النفط والغاز، و7 مذكرات في مجال الصحة، و6 مذكرات في مجال الدفاع، و6 مذكرات في التقنية، و4 مذكرات لقطاع الصنيع، و3 للتعدين و3 للبتروكيماويات، ومذكرتان للاستثمار، فيما كان نصيب الطيران والطاقة مذكرة واحدة لكل منهما. ويمكن ملاحظة التركيز الواضح على التوطين ونقل المعرفة من الجانب الأمريكي إلى السعودي من خلال الاتفاقيات الموقعة. ويمكن إجمالاً ملاحظة اشتراط الحكومة السعودية نقل وتوطين المعرفة والتقنية فيما عُرض من اتفاقيات ومذكرات تفاهم جرت بين المملكة والولايات المتحدة؛ وذلك لتحقيق الاستدامة، وتوليد الوظائف المتنوعة للشباب السعودي، وبما يتواءم مع رؤية المملكة 2030.
الشركات الوطنية ودعم المحتوى المحلي
أورد م. خالد العثمان عرضًا مختصرًا عن برنامج “نساند” الذي أطلقته شركة سابك لتنمية ودعم المحتوى المحلي في عمليات الشركة، حيث قامت الشركة فيينايرمنعام 2017م،بإنشاء وحدة تطوير أعمال المحتوى المحلي، تهدفإلى معالجة بعضالصعوبات التي يواجهه االمستثمرون، بدءًا من مرحلة الأفكار وصولًا إلى مرحلة التنفيذ، وسعياً إلى تحقيق أجندة التوطين الخاصة بشركة سابك وتطوير الصناعة المحلية، تضمنت الأجندة: التنسيق والعمل كواجهة لكل جهود التوطين عبر جمعية أعمال/ أقسام (سابك)، وتمكين الأهداف الأساسية لرؤية 2030 بمافي ذلك تقليل البطالة، والعمل على تمكين القطاع الخاص، ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة وتطويرها في المملكة، وزيادة إسهام التصدير في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، وتقليل الواردات، وزيادةالاستثمارالأجنبيفيالمملكة. وكذلك بناءالشراكاتوالتنسيقمعالجهاتالحكومية،والهيئاتالتنظيمية،ووكالاتالتمويل،ومعاهدالتدريب،وماإلىذلك. وأيضًا تمكينالقطاعالخاصوإنماءالمنشآتالصغيرةوالمتوسطةوتطويرها في المملكة، بالإضافة إلىجذبالشركاتالعالمية؛بمافيذلكمصنعو المعداتالأصلية؛بهدفالاستثمارفيالمملكة. والاستفادةمنبراءاتالاختراع/التقنية/التطبيقاتفي (سابك) لدفعتسويق المنتجاتفيالمملكة. إضافة إلى بناءقدراتالقوىالعاملة،باستخدامشبكة(سابك) الحالية منالمعاهد ومرافقالتدريب،أومنخلالإقامةشراكاتمعمعاهدأخرى.وتحديدالفرص وتمكينهابالانسجاممعالمحتوىالمحليفيالمملكةالعربية السعودية،وأهداف رؤية2030 م.
التوصيات
انتهت المناقشات إلى مجموعة من التوصيات، أهمها:
١. تعميم تعريف المحتوى المحلي بما يتناسب مع سياسات وأهداف المشروع بحيث يكون كل المهتمين والمنتسبين على فهم واحد.
٢. إعطاء التعليم الفني والمهني الاهتمام الأكبر وإنشاء كليات تقنية ومعاهد فنية كي تواكب مستوى متطلبات العمل والمرتبطة بمشروع التصنيع.
- محاولة ربط كليات التقنية والمعاهد مع الشركات القائمة والقادمة لضمان تناسق المخرجات مع طبيعة العمل وكذلك ضمان التدريب الأمثل أثناء الدراسة.
- وضع معايير اختبار وفحص لكل المنشآت الصناعية والخدمية والتجارية، لضمان الجوده في المنتج والخدمة، ولضمان إنتاجية الفرد والمنشأة.
- توعية المجتمع بطريقة علمية ومقنعة بجدوى المحتوى الوطني ومن ثم المنتج الوطني حيث الجودة والسعر والابتعاد عن الدعاية العاطفية.
- تحديد الحد الأدنى للأجور أقلها في الأعمال الجاذبة للسعوديين لاستقطابهم وخاصة في الأعمال الفنية والمهنية. وأيضاً وعند الحاجة استقطاب الأيدي العاملة الأجنبيه المؤهلة.
- حماية المنتج الوطني داخلياً وكذلك خارجياً خاصة مع الدول التي لها علاقات تجارية ومصالح حيث تضمن دخول المنتج السعودي.
٩. تفعيل وتمكين المرأة السعودية لدخول سوق العمل ما أمكن ذلك إدارياً وفنياً ومهنياً.
١٠. العمل على توحيد برامج المحتوى المحلي القائمه تحت مظلة واحدة ولتكن هيئة أو وزارة سيادية لما للمشروع من أهمية كمشروع وطني ضمن رؤية 2030.
١١. العمل على تطوير كوادر الوزارت ذات العلاقة، وجعل المحتوى الوطني ركيزة في أسلوب العمل والهدف. مع الحرص على تناغم هذا القطاع مع القطاع الخاص لتحقيق أعلى نسبة ممكنة من النجاح.
- تفعيل ضريبة الثروة في قطاع الصناعة والتجارة والخدمات ، لما لها من فائدة في الصرف على البنية التحتية والخدمات من تعليم ومستشفيات.. الخ.
- تطوير التشريعات المحفزة للاستثمار في المحتوى المحلي وأهمها آليات الشراء المسبق في نظام المنافسات الحكومية. علاوة على التشريعات الإعفائية والتحفيزية الأخرى.
الملخص التنفيذي
القضية: المحتوى المحلي.. توطين العمل والأعمال
تناولت الورقة الرئيسة التي قدمها أ. محمد الدندني، قضية المحتوى المحليودوره بناء أي مجتمع يريد أن يستثمر ويستغل موارده الطبيعية والبشرية للرقي والالتحاق بحضارة الْيَوْم. إضافة لدوره كمشروع وطني يشكل عمود الاستقرار في دولة تسعى للتحديث والتحول. وبنفس الأهمية عنصر مهم يعكِس ويساعد في تشكيل السياسة الخارجية ويعكس مدى اكتفائها ذاتياً؛ ومن ثم تقوية السيادة محلياً وإقليمياً ودولياً.
وذهب أ. محمد الدندني إلى أن مصطلح المحتوى المحلي من رؤية المملكة 2030هو المهيمن، ونرى الحديث والسياسات عن تعدد مصادر الدخل، يبقى تأهيل العنصر البشري وهو الأهم حتى يكتمل عقد المحتوى المحلي.
وقام برصد عدد من معوقات المحتوى المحلي، منها نوعية التعليم الأكاديمي والفني والمهني. عدم ارتباط خطط التنمية مع مخرجات التعليم بأنواعه. العادات والتقاليد التي تنبذ العمل الفني وتقلل من العمل المهني. وغياب التنسيق بين وزارات ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة في أن قضية تنمية المحتوى المحلي تبنتها رؤية المملكة 2030 كأحد أهم محاور هذه الرؤية، وأحد أهم مفاتيح تنويع مصادر الدخل والتحول الوطني الشامل،. إلا أن الورقة أغفلت جانب المنافسة التي تواجهها المؤسسات الوطنية من الكيانات الأجنببية. كما أن استقطاب الاستثمارات ومراكز إنتاج في السعودية ليس كافياً لتحقيق المحتوى المحلي دون توطين حقيقي للمعارف والملكات الفكرية والتقنية المرتبطة بتلك المنشآت. بالإضافة إلى أن توظيف السعوديين والسعوديات في تلك المنشآت ليس كافيا إن لم يصاحبه تمكين حقيقي لهم لينهلوا المعرفة والعلوم التطبيقية العميقة المرتبطة بتلك الأعمال .
ورصدت المداخلات التي دارت حول موضوع الورقة بعض القضايا المتعلقة بإشكاليات المحتوى المحلي، وعلاقته بالموارد البشرية والتعليم الفني، وتوطين الصناعات، ورؤية المملكة.. وغيرها.
واعتبر المناقشون أن المشكلة الأكبر بالنسبة للمحتوى المحلي هي عدم تأهيل العنصر البشري، فالخلل الأكبر يكمن في الأيدي المهنية حيث أن منظومة التعليم الفني لم تقدم شئ يذكر. كما أن تجربة مراكز ومعاهد التدريب لم تنجح وتحولت إلى مراكز شكلية بسبب أنها لم تكن موجهة إلى مجالات محددة.
وذهب البعض أن من الاجراءات المتبعة المهمة هي توطين بعض الصناعات والأعمال، لأن ذلك يهدف إلى تقليل الاعتماد على المصادر الخارجية، وتحقيق عوائد اقتصادية محلياً. بالإضافة إلى أنه يخلق فرصاً للعمل.
وتباينت الآراء حول أهمية تطبيق ضريبة الدخل وعلاقتها بدعم المحتوى المحلي. ففي الوقت الذي اعتبرها البعض مصدراً للتطوير والانفاق على البنية التحتية. ذهب البعض إلى أنها ليست حلاً آنياً، وتجنبها هو الأفضل لمجتمع مستقر مثل المملكة.
وناقش الأعضاء أيضاً الآليات المناسبة منها، مع وضع منظومة متكاملة من الإطار التنظيمي والتشريعي والسياسي والاستراتيجي سواء من خلال التدريب أو الابتعاث الخارجي؛ وكذلك الاستفادة من بعض التجارب الدولية استنساخاً أو توطيناً، لتوفير الجهد والعناء، مع ضرورة معرفة العثرات والصعوبات التي واجهت الدول الأخرى لتلافيها، كتجربة (ماليزيا، الهند، كوريا الجنوبية، سنغافورة، النرويج، ألمانيا، تركيا، البرازيل).
وحول العلاقة بين رؤية المملكة 2030 والمحتوى المحلي، اتفق الأعضاء على أن هناك اتساق بينهما، فهناك إجراءات اقتصادية تم الأخذ بها وتطبيقها لتحقيق المحتوى المحلي؛ إلا أن ذلك يتطلب وقتاً حتى تنضج النتائج ونتمكن من الحكم على العملية.
وفي النهاية خرجت المناقشة بمجموعة من التصويات، أهمها: أن يعطى التعليم الفني والمهني الاهتمام الأكبر، وإنشاء كليات تقنية ومعاهد فنية كي تواكب مستوى متطلبات العمل والمرتبطة بمشروع التصنيع، ومحاولة ربط كليات التقنيه والمعاهد مع الشركات القائمة والقادمة لضمان تناسق المخرجات مع طبيعة العمل وكذلك ضمان التدريب الأمثل أثناء الدراسة. والعمل على توحيد برامج المحتوى المحلي القائمه تحت مظلة واحدة ولتكن هيئة أو وزارة سيادية لما للمشروع من أهمية كمشروع وطني ضمن رؤيا 2030. بالإضافة إلى تطوير التشريعات المحفزة للاستثمار في المحتوى المحلي وأهمها آليات الشراء المسبق في نظام المنافسات الحكومية. علاوة على التشريعات الإعفائية والتحفيزية الأخرى.
1 http://namaa.gov.sa
1 https://sabq.org/6wkh4g
المحور الثاني
المرأة في القطاع السياحي ورؤية 2030
تناولت الورقة الرئيسة التي قدمتها د. عبير برهمين، المرأة في القطاع السياحي ورؤية 2030، من خلال التعرف على دور المرأة السعودية في هذا القطاع كمستثمرة أو كعاملة، وكيف يمكن تفعيل هذا الدور، وكذلك رؤية المجتمع لعمل المرأة في القطاع السياحي، ونماذج لوظائف المرأة في قطاع السياحة، وتسهيل وصولها إلى المناصب العليا. كما تمَّ مناقشة تطوير وتنمية قطاع السياحة والمناطق الأثرية في المملكة. وأخيرًا، تمَّ طرح مجموعة من التوصيات التي تهدف إلى دعم دور المرأة السعودية في مجال السياحة.
¤ الورقة الرئيسة: د. عبير برهمين.
في هذه الورقة أودُّ تسليط الضوء على عدة حقائق، منها: أن المرأة تمتلك مبالغ فلكية بين مجمدة ونشطة كرؤوس أموال تجارية وعقارية؛ لذلك لا عجب أن نتحدث عن دور المرأة في القطاع السياحي! وفي المقابل هناك سيدات عاطلات عن العمل، ويرغبن في الالتحاق بوظائف أو مهن تدرُّ عليهن مبلغًا يعينهن على متطلبات الحياة اليومية، فهناك عدد لا بأس به من السيدات تَعُلن أسرهن وأولادهن. فالهدف توجيه تمكين المرأة للمرأة؛ كونها أقربَ لفهم احتياجها المادي والمعنوي، وأقدر على خلق وظائف ومهن غير تقليدية، وتقبل عليها المرأة دون حرج. وهذا لا يعني أخذ مكان الرجل في المجتمع، بقدر ما يعني تعزيز مفهوم “المشاركة التكاملية الإيجابية”، والتي تدفع بعجلة التنمية إلى الأمام بسرعة أكبر تواكب سرعة هذا العصر.
في دولة بحجم شبه قارة، تتنوع فيها جغرافية المكان والإنسان والمناخ، تقع المملكة العربية السعودية. تجد في أطرافها المترامية آثار تاريخية تمثل حقبًا زمانية متنوعة ضاربة في عمق التاريخ، كلها تنبئ بمستقبل سياحي جاذب على جميع الأصعدة، تنتظر فقط أن تهيئ لها فرصًا استثمارية نوعية متطورة لتنقلها إلى مقدمة الوجهات السياحية الدولية. ومع التنوُّع الجغرافي، ومناطق الجذب السياحية تمتلك المملكة مقومًا بشريًّا لا يُستهان به، فما يزيد عن نصف سكانها هم من فئة الشباب ممن تتراوح سنهم بين (15-35) سنة من الجنسين، نصفهم من الفتيات والسيدات، ممَّن تشملهن خطط التنمية المستقبلية الواعدة ورؤية 2030 الطموحة، والتي تنصُّ على تمكين دور المرأة، وزيادة نسبة الفاعلات منهن في المهن والوظائف التنموية بأنواعها. إن مساهمة المرأة في القطاع السياحي في الدول المجاورة، مثل: الأردن، ومصر تتراوح بين 10-15% من إجمالي المهن في هذا القطاع، أمَّا محاولات المرأة في المملكة فهي ضعيفة، وتكاد لا تذكر؛ لعدم توفر إحصائيات دقيقة عن مدى مساهمتها في هذا القطاع.
وبلغة الأرقام، فإن السائح السعودي هو الأكثر إنفاقًا في العالم بمتوسط 6 آلاف دولار للرحلة الواحدة، يليه السائح الصيني فالأمريكي في المرتبتين الثانية والثالثة على التوالي. فحوالي 213 مليار دولار سنويًّا هو إجمالي ما ينفقه حوالي 4.5 مليون سعودي، يسافرون سنويًّا للخارج مع عائلاتهم؛ هذه الأرقام كبيرة إلى حد مخيف، وفي تزايد ما لم تُقنن بتوجيهها إلى الداخل، من خلال عوامل جذب منافسة وغير تقليدية، تُقدّم للسائح السعودي والأجنبي ما يرغب فيه كسياحة تنافسية متوافقة والأطر الدينية والاجتماعية الخاصة بشعب المملكة العربية السعودية.
نسبة كبيرة من السيدات بالمملكة مارسن وعرفن على الأقل نوعًا واحدًا أو أكثر من أنواع السياحة الخارجية؛ كالسياحة الترفيهية، أو السياحة العلاجية والتجميلية، وسياحة الأعمال، والسياحة الثقافية، والسياحة التعليمية والأكاديمية، والسياحة الرياضية. تعرضهن لهذه الأنواع من السياحة خلال الرحلات الأسرية أو أثناء الدراسة والابتعاث، يجعل أذواقهن وخبراتهن السياحية متميزة ومتفاوتة بين السياحة الاقتصادية أو السياحة ذات الرفاهية والمستوى الرفيع؛ وهذا يشكل مقومًا أساسيًّا لنجاح تجربة السياحة في المملكة، فكثيرات اتجهن حاليًّا إلى أعمال تتعلق بالسياحة ومتطلباتها، فبدأنا نرى في الساحة رائدات الأعمال، ومنسقات الرحلات العائلية أو النسائية.
إلا أن هناك عددًا كبيرًا من الوظائف والمهن مازالت بانتظار إقدام المرأة السعودية في عدة مجالات، مثل: وظائف الضيافة، والفندقة، والعلاقات العامة، والتسويق، والعمل كمرشدة سياحية لدى المتاحف والشركات السياحية، أو العمل كموظفة استقبال في مجال الفندقة ومكاتب التنسيق السياحي، أو كوكيلة سفر، أو مديرة فندق أو شركة سياحية؛ وهذه كلها متوافقة مع الرؤية، من حيث توفير وظائف جديدة، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة كرافد من روافد الاقتصاد والتنمية الحديثة. وحتى يتم استثمار هذه الطاقة ضمن فئة السيدات مازلنا بحاجة إلى العديد من عمليات التهيئة والإعداد في البنى التحتية والتعليم، فنحن بحاجة إلى معاهد وكليات متخصصة في مجال السياحة والفندقة، وهذه من شأنها أن تغير الشكل الاجتماعي العام، إذ يمكن للمرأة أن تساهم في الحد من البطالة والفقر، وخاصة في المجتمعات القروية والبدوية.
هناك تحدٍ كبير يقف عائقًا أمام تفعيل دور المرأة في القطاع السياحي، ألا وهو نظرة المجتمع إلى طبيعة المهن الجديدة في قطاع السياحة، وكونها ربما لا تليق بمكانتها، ليس لأنها معيبة؛ بل لأنها غير مألوفة في مجتمعنا المحلي، وكل ما هو غير مألوف يكون عادة غير مرغوب، ويقابل بالصد والمقاومة. أضف إلى ذلك انعزال بعض سكان المملكة في بعض المناطق، وعدم تعرُّضهم لثقافات مختلفة يجعل من الصعب تقبُّل كل ما هو مخالف للبيئة المحيطة وما هو سائد عرفًا. ويبقى السؤال الأهم هو: مَن مِن السيدات والفتيات ستقوم بخوض غمار هذا القطاع، خاصة في المهن المتواضعة في قطاع السياحة؟
ويبقى الرهان الأكبر على أن خوض المرأة تجربة قطاع السياحة والفندقة والآثار سيشكل نقلة نوعية وحضارية مختلفة؛ كون الإبداع والخروج عن المألوف والجماليات هي فنٌّ أنثوي بامتياز، يحتاج فقط لدعم مادي ومعنوي من المجتمع المحلي، لتشرق شمس حقبة جديدة.
¤ التعقيب الأول: د. عبدالعزيز الحرقان.
القطاع السياحي هو استثمار للبنية التحتية، وللخدمات المقدمة في المجتمع؛ لذلك فإن دور المرأة في القطاع السياحي يجب أن يسبقه تفعيل وتمكين لها، لتأدية الأعمال والوظائف التقليدية.
وأرى أن دور المرأة في القطاع السياحي لا يقتصر على الوظائف التقليدية، بل في كل مجالات العمل وتقديم الخدمات. إضافة إلى وجود نشاطات سياحية خاصة فقط للمرأة، قد تحتاج إلى تنظيم وتقنين خاص، مثل: الرقص الشعبي، والحرف اليدوية النسائية (مثل، نقش الحناء)، وهي بشكل عام نشاطات محدودة، ولا تؤثر على مسيرة عمل المرأة في القطاع السياحي.
ويجب الحذر عند العمل على تمكين المرأة في القطاع السياحي فقط؛ إذ إن ذلك سيجعلها حبيسة هذا القطاع، وباختيارات محدودة.
¤ التعقيب الثاني: أ. أسمهان الغامدي.
المرأة السعودية أصبحت ذات دور محوري في العديد من القطاعات الحكومية والخاصة. ونظرًا لما تملكه من تأهيل ومكانة، جاءت الإرادة السياسية منصفة لها، بوضعها في منزلة تليق بتأهيلها، وبرؤية المملكة الطموحة 2030.
واليوم نجد أن المرأة دخلت في قطاع السياحة كمستثمرة وكعاملة وكمستشارة، وأصبحت ذات دور مؤثر وصانع أحيانًا للقرارات، فالمرأة السعودية تملك إمكانيات وقدرات هائلة، وتعدُّ منافسًا قويًّا في المجال الاستثماري، وتستطيع أن تتقدم في مجال الاستثمار السياحي إذا ما قُدِّم لها الدعمُ اللازم.
ولكنَّ المتتبع للواقع يعلم يقينًا أن الاستثمار السياحي- بشكل عام للنساء والرجال-لا يزال هزيلًا جدًّا. وقد تكون هيئة الترفيه المُنعش الحقيقي للسياحة الداخلية، من خلال ما تبنته في العام الأخير من فعاليات وبرامج وأنشطة؛ لذا يجب أن يتم المزج في العمل والتجانس بين هيئة السياحة وهيئة الترفيه، لتسيير عجلة السياحة بشكل أفضل مما هي عليه.
كما أن المرأة لتنجح في مجال الاستثمار السياحي وفق رؤية المملكة 2030، فإن ذلك يستوجب من الغرفة التجارية صناعة فرص للمرأة المستثمرة، والوقوف معها ودعمها بشكل منهجي ومؤسسي، دون التفريق بينها وبين الرجل.
أمَّا ما يخصُّ الجانب العملي بعيدًا عن الاستثمار، فنجد أن المرأة نجحت في كسر حاجز نظرة المجتمع القاصرة تجاه عمل المرأة، وأصبحت تعمل كمرشدة سياحية في شركات السياحة والسفر، وتعمل كمنظمة في فعاليات هيئة الترفيه، ووجدناها في محافل المملكة الكبرى (مهرجان الجنادرية، ومعرض الكتاب) كمُنظِّمة ومرشدة ومسؤولة؛ الأمر الذي يدلل على أن المجتمع تحول قبل 2020، وأصبح مستوعبًا لدور المرأة، وواقعية شراكتها مع الرجل كشخص مؤهل وواع ومثقف، وقادر على تغيير الفكر السعودي ونظرته تجاه المرأة، ورغبته في توطين المهن والوظائف بكوادر سعودية بعيدًا عن جنسها.
بالإضافة إلى أن مقومات المملكة السياحية والأثرية متكاملة، وفيها إرث تاريخي كبير ومتنوع، وحتى نساند ولاة الأمر في رؤية المملكة الطموحة، يجب أولًا أن نستثمر كافة القدرات الوطنية المؤهلة في مجال السياحة، وأن يتم تنشيطها في المحافل الكبرى، والمناطق الدينية، والمناطق السياحية والتاريخية، كلّ وفق تخصصه وتأهيله.
من جانب آخر يجب على رجال الأعمال والغرفة التجارية مساندة المرأة ومساعدتها لخوض تجربة الاستثمار السياحي، ودعمها لمواجهة التحديات التي قد تقف أمامها، ودعم وتدريب المرأة داخل القطاع السياحي، بالشراكة مع هيئتي السياحة والترفيه في تقديم فرص استثمارية للسعوديات، في إطار النظرة المستقبلية للاستثمار السياحي والترفيهي.
¤ المداخلات حول القضية:
المرأة كعاملة ومستثمرة في القطاع السياحي:
يرى م. أسامة الكردي أنه لابد من الفصل بين المرأة كمستثمرة والمرأة كعاملة في المجال السياحي. فيما يخص الاستثمار ليس هناك حاجة إلى تمييز المرأة عن الرجل، باعتبار أن الاستثمار قرار يتخذه المستثمر أو المستثمرة حسب توفُّر الفرص. أما ما يتعلق بالعمل في القطاع، فأعتقد أن هنالك حاجة إلى تفعيل عمل المرأة في هذا القطاع، عن طريق تخصيص نسبة معينة لمشاركة المرأة في بعض الوظائف؛ بل وتخصيص وظائف لا تشغلها إلا المرأة فقط. بالإضافة إلى مجموعة أخرى من المحفزات، مثل: التدريب، وبرامج صندوق هدف، وغيرها من متطلبات السعودة.
ويرى د. عبد العزيز الحرقان أنه بالنسبة لمشاركة المرأة في سوق العمل كمستثمرة وسيدة أعمال، فإن هناك عددًا من السيدات المستثمرات في هذا القطاع، ولكنه لا يزال دون الطموح. الغرف التجارية لديها لجان للسياحة بحسب المناطق بالطبع. وبرأيي، لكي نقوم بتحفيز الاستثمار في القطاع السياحي أو أي قطاع آخر بين السيدات نحتاج جهة تضع تحفيز السيدات للاستثمار في القطاعات الواعدة ضمن أولوياتها، وألا يُعتبر هذا هدفًا ثانويًّا، خصوصًا أن السيدات السعوديات تملك رؤوس أموال مجمدة، حيث تصل لـ 16 مليار دولار بحسب تقرير من غرفة جدة في 2013. وأيضًا تملك سيدات الأعمال ما يتجاوز 75 مليار ريال في البنوك السعودية. وبالنسبة للعقارات تملك نحو 120 مليار ريال، ومتوقع أن الأرقام تضاعفت في 2018.
لذا فإنني أرى أنه لابد أن يكون تحفيز السيدات للاستثمار في القطاع من أولويات الجهات المسؤولة عن تحقيق الرؤية، وأن يتم إنشاء جهة استشارية داعمة للشركات والمؤسسات التي ترغب في زيادة نسبة السيدات العاملات لديها في القطاع الخاص، دون فرض ذلك بقرارات قد تتسبب في ردود فعل سلبية.
تفعيل دور المرأة في القطاع السياحي:
ذهب د. حميد المزروع إلى أن تفعيل دور المرأة في منظومة القطاع السياحي في المملكة يبدأ بتأهيل القطاع السياحي تشريعيًّا وإجرائيًّا؛ ومن ثَمَّ تأهيل المرأة لمتطلبات هذا القطاع الاقتصادي والثقافي المتنوع بطبيعة فعالياته، وبما أن المنظومة التشريعية فعليًّا قد انطلقت منذ حوالي 10 سنوات مع تأسيس الهيئة العليا للسياحة والتراث الوطني؛ فإن المرحلة الحالية تتطلب تأسيس الأقسام والمعاهد المتخصصة لتأهيل وتدريب المرأة؛ لتمكينها من العمل والريادة في هذا القطاع.
ويُلاحظ عدم وجود أقسام علمية تؤهل الطالبات لهذا التخصص، باستثناء كلية السياحة والآثار بجامعة حائل. ولعل المشكلة الفعلية في عدم إقبال الطالبات على هذه الكلية هي معوقات التدريب الميداني، وإشكالية الإشراف، والاختلاط. إلا أنني أرى أن المعاهد المتخصصة يمكن أن تمدَّ سوق العمل بالأعداد المناسبة من الراغبات في دخول هذا المجال، بالإضافة إلى إسهامات قسم الآثار بجامعة الملك سعود، حيث يضم حاليًّا حوالي 150 طالبة في برنامج الدراسات العليا، وقد استفادت من هذا البرنامج المئات من الطالبات.
كما أن هناك إشكالية أخرى تواجه كلا الجنسين في هذا القطاع، وهي عدم اعتماد تصنيف الوظائف بديوان الخدمة المدنية، وهناك جهود تُبذل لحلها.
نماذج لوظائف المرأة في القطاع السياحي:
عَدّد د. حميد المزروع بعض الوظائف والأعمال التي يمكن أن تسهم وتبدع فيها المرأة السعودية في قطاع السياحة مع تقبل المجتمع، منها:
– العمل بالمكاتب السياحية والحجوزات، ويشمل ذلك الفنادق.
– التسويق المرئي والرقمي.
– قسم المحاسبة.
– الإرشاد السياحي داخل المدن الرئيسة.
– إدارة الفعاليات والمهرجانات والمعارض.
– العمل داخل المتاحف ومحلات الهدايا، وتصنيع الهدايا التذكارية بأنواعها.
اتفق معه م. أسامة الكردي، بشرط ألا تُختصر مجالات عمل المرأة في القطاع السياحي في هذه الأعمال، وألا يُمنع الرجال من العمل فيها.
عمل المرأة في القطاع السياحي:
يرى د. عبد العزيز الحرقان أن البطالة بين السيدات في تزايد مستمر، خاصة في المناطق السياحية التي تعتبر مجالات العمل فيها محدودة وموسمية، وبالتالي فإن النشاط السياحي يعتبر مجالًا مهمًّا للتوظيف في هذه المناطق. إلا أن د. حميد المزروع يرى أن قطاع السياحة هو قطاع اقتصادي خدمي لا يمكن تأنيث جميع خدماته، ويمكن للمرأة أن تختار ما يناسب مهاراتها، عطفًا على دخل النشاط والمنطقة.
وذهبت د. ريم الفريان إلى أن عمل المرأة في القطاع السياحي مثله مثل عملها في أي قطاع آخر. وأرى أن هناك مستويات للوظائف، ولكي نتمكن من تحقيق الرؤية نحتاج أن نعمل على توظيف السيدات في كل المستويات، خصوصًا أن نسبة البطالة تتركز في السيدات الجامعيات، وحملة الشهادات العليا، مع شيء من التدريب الموجه للتخصصات المطلوبة في سوق العمل، والفرص للعمل، واكتساب الخبرة. إلا أننا لا نزال نرى أن الفرص الوظيفية للسيدات تتركز في الوظائف الدنيا، وإن وُجد استثناء في الوظائف الإدارية العليا، أو المناصب القيادية في القطاع الخاص.
بينما يعتقد د. رياض نجم أنه لا ينبغي التركيز على عمل المرأة في مجال السياحة كأولوية قبل أن يُطوَّر القطاع ككل. وعلينا الاهتمام بعمل المرأة في كافة القطاعات على حد سواء.
رؤية المجتمع لعمل المرأة في القطاع السياحي:
يعتقد م. أسامة الكردي أن تقبُّل المجتمع السعودي لعمل المرأة أمرٌ تمَّ التعامل معه سابقًا، وأصبح من التاريخ. ويُلاحظ أن ردة فعل المجتمع كانت إيجابية جدًّا، ولم تُرصد أي ردود فعل سلبية، وليس هناك ما يمنع من انطباق هذا المبدأ على قطاع السياحة، حيث كانت ردة فعل المجتمع إيجابية لعمل المرأة في وظائف مقابلة الجمهور، مثل خدمات المطارات المختلفة. وإن كنت أرى أهمية أن يتم تعليم السعوديين والسعوديات إلى مستوى التعليم العالي ليتمكنوا من شغل الوظائف ذات الدخل المتوسط والعالي، وترك الوظائف ذات الدخل المنخفض للعمالة المستقدمة التي لا يبدو أننا سنتخلص منها في المستقبل المنظور.
وذكر أ. محمد الدندني أن تقبُّل المجتمع لعمل المرأة في هذا المجال لا أعتقد أنه يمثل عقبة، فقد أثبتت المرأة نفسها في مجالات عدة، فيها اختلاط منظم ومقبول. إلا أنه من الضروري العمل على تغيير الصورة الذهنية للمجتمع عن السياحة، وأنها ليست النادي الليلي، أو أن كلمة سياحة تعني الانفلات أخلاقيًّا.
بينما ترى د. ريم الفريان أن تقبُّل المجتمع لعمل المرأة يحتاج إلى وقت طويل، ناهيك عن عملها في مجال السياحة؛ فعلى سبيل المثال: لا تزال الجامعات تطلب موافقة ولي الأمر لخروج الطالبات من الجامعة، بينما لا تطلب ذلك من الطلاب. تصرُّف خاطئ وغير نظامي، لكنه يحدث. ولا نزال نرى سيدات مؤهلات علميًّا وعمليًّا مرؤوسات من قِبل رجال أقل خبرةً وعلمًا.
من جانبها ترى أ. مها عقيل أن المشكلة في قضية عمل المرأة في القطاع السياحي ليس قبول المجتمع لعمل المرأة؛ وإنما طريقة التعامل معها، فلا ننسى أن هذه المرأة العاملة ستتعامل مع مختلف شرائح وأطياف المجتمع، ومنهم مَنْ يتعامل مع البائع أو الموظف بطريقة سيئة، فيجب أن نعمل على ترسيخ حسن المعاملة في المجتمع. هذا بالنسبة للسائح الداخلي، أما السائح الأجنبي فيجب أن ننظر إلى عامل اللغة، وهذا يدخل ضمن التأهيل الجيد والتدريب.
معوقات تمكين المرأة:
يرى د. عبد العزيز الحرقان أن أهم معوقات تمكين المرأة هي سيطرة الثقافة والعادات على الإجراءات المتعلقة بالمرأة؛ فمثلًا: ينصُّ النظام على عدم اشتراط موافقة ولي الأمر للتوظيف، ومع ذلك تشترط ذلك كثير من الجهات، وأيضًا لابد من موافقة ولي الأمر للسفر لحضور مؤتمر أو دورة تدريبية، فيقف ذلك عائقًا أمام تطوُّرها المعرفي، وكذلك الفصل التام بين الرجال والنساء في العمل، ويكاد يكون القسم النسوي في مكان مستقل، ويكون قطاعًا مستقلًا بذاته وبهيكله الوظيفي.
سيدات الأعمال والاسثمار في مجال السياحة:
تساءل د. خالد الرديعان: لماذا لا تتجه سيدات الأعمال إلى الاستثمار في مجال السياحة؟ فهو نشاط اقتصادي مفتوح للجنسين. كما أن اتجاههن للاستثمار في السياحة سيولد فرص عمل كثيرة ليس للمرأة فقط ولكن للرجال كذلك، ويقع على هيئة السياحة العبء الأكبر في استقطاب رجال وسيدات الأعمال؛ فلماذا لا تعقد هيئة السياحة ورشة عمل تدعو لها سيدات الأعمال لمعرفة الفرص الكامنة في قطاع السياحة؟ ومن ثَمَّ توجه النساء للاستثمار فيها.
وصول المرأة إلى المناصب العليا في قطاع السياحة:
أشارت أ. عبير خالد إلى جانب مهم يتعلق بعمل المرأة في القطاع السياحي، ألا وهو تسهيل وصولها للمناصب العليا في هذا القطاع، وعدم اقتصار فرصها على الوظائف الدنيا.
من جانبه أكَّد أ.محمد الدندني أنه لا يجب أن نفكر في المحاصصة بين المرأة والرجل، نتكلم عن المرأة وكأنها أقلية، وهذا لا يصح! التمكين للرجل والمرأة بِأن تكون الفرص متساوية والتأهيل متساو، وعلى أي منهما شق طريقه في القيادة والمناصب حسب الكفاءة والجهد.
ويرى د. عبد العزيز الحرقان أن المحاصصة قضية خطيرة، وقد تؤدي إلى توظيف الشخص غير المناسب، ولكن المرأة السعودية لها خصوصية مختلفة، ويجب مراعاتها في كل قضايا التنمية الاقتصادية، خاصة أن هناك حواجز كثيرة وُضعت أمامها لعقود من الزمن، وتحولت لتكون جزءًا من الثقافة السعودية.
بينما ترى د. ريم الفريان أن في المرحلة التحوُّلية التي نعيشها، فإن التمييز الإيجابي-ولفترة محددة- هو أسلوب صحي لتغيير ثقافة وفكر المجتمع. لدينا نسبة كبيرة من البطالة تتركز بين السيدات، وأغلبهن من ذوات المؤهلات اللواتي لم يُعطين الفرص في سُلّم العمل للحصول على مناصب.
أذكرُ أنني عملت في تنمية الموارد البشرية في القطاع السياحي سابقًا، وقمتُ بالتدريب على مهن سياحية، وكان هناك إقبال كبير خصوصًا في المناطق، إلا أنه حتى اليوم ندخل مكاتب السفر والسياحة، ولا نزال نرى رجالًا فقط، مع أن السيدات هنَّ مَنْ يُحددن الوجهات السياحية.
السبب في نظر أ. محمد الدندني، ليس لأن المجتمع لا يملك جذور الحضارة، أو أن التحضُّر صعبٌ وبطيءٌ، ولكنه يرى أن المجتمع كان مُختطفًا ثقافيًّا، ولبس لباسَ التشدُّد، وسيطرت مدرسة معينة على فكر وثقافة المجتمع. لن يزول ذلك سريعًا، ولكن ليس بطيئًا لدرجة أن يكون عثرة في طريق تقدُّم المرأة، فتسارُع التحوُّل والتغيير سيدهش كلَّ الأطراف؛ لأن التربة صالحة.
في الوقت نفسه ذهب د. مساعد المحيا إلى أن القطاع السياحي لدينا، فضلًا عن ضعفه ومحدودية وظائفه، إلا أنه مجال يغصُّ بالكثير من المهام التي يصعب تقبُّل المرأة لها، أو تقبُّل المجتمع لوجود المرأة فيها، باستثناء وظائف معينة. المؤسف هو أن تستغل بعض المؤسسات والشركات في القطاع السياحي حاجة المرأة للوظيفة، وتطلب منها تقديم تنازلات عديدة في سبيل عمليات التسويق والجذب السياحي؛ لذا نحن نحتاج مع هذا التوسُّع في الاهتمام بالمرأة أن تكون البيئة التشريعية تحفظ لها حقوقها وكرامتها. وفي الوقت نفسه ينبغي أن نمكِّن الرجل فيما يحتاجه من وظائف، فالعدالة الاجتماعية ينبغي ألا تقوم على المحاصصة، ولا على لغة المظلومية التي يستخدمها بعض المهتمين اليوم بتمكين المرأة.
تطوير القطاع السياحي وبنيته التحتية:
في تصوُّر د. خالد الرديعان أنه حتى نضع حلولًا مناسبة لهذه المشكلة يُفترض بدايةً أن نعرف ماذا يريد السائح السعودي عندما يترك مدينته ويسافر؟ هل كل السياح السعوديين يريدون زيارة مناطق أثرية؛ للوقوف عليها، والإلمام بالتاريخ وما خلفه لهم الأقدمون؟
في اعتقادي، أن السعوديين ليسوا من هذا الصنف من السائحين. فالأسر السعودية غالبًا ما تبحث عن المناطق التي تتمتع بجو لطيف؛ هروبًا من صعوبة المناخ عندنا، خاصة في فصل الصيف. يبحثون أيضًا عن مناطق تسوُّق، وملاهي أطفال، ومسارح، وسينما. والبعض وخاصة الشباب يريدون أماكن لهو يصعب توفيرها في المملكة؛ يريدون أشياء كالتي يرونها في دبي والبحرين، وهذا غير ممكن بالطبع.
وبالرغم من إدراكنا أن المملكة تتمتع بأماكن تاريخية كثيرة يمكن زيارتها؛ إلا أن ما يجعل السياحة محدودة عندنا هو الطقس الحار جدًّا، وكذلك البنية التحتية للسياحة ليست كما ينبغي، بل إنها غير متوفرة في بعض المناطق. يُستثنى من ذلك الطائف وأبها، وإن كانت فنادقها وشققها المفروشة وخدماتهما السياحية غير مرضية تمامًا؛ لذلك يُفترض أولًا الاهتمام بالبنية التحتية للسياحة، وبعد ذلك نتحدث عن المرأة.
اتفقت معه في ذلك د. فوزية البكر وأ. مها عقيل، حيث يريا ضرورة تطوير البنية التحتية والخدمات الأساسية لتنمية قطاع السياحة عمومًا. فالبنية التحتية هي الأساس ثم تنظيمات السياحة، وعدم تداخل سلطات المؤسسات المختلفة حكومية وتطوعية. أمَّا العمل فالقطاع عريض، ويمكن أن يوفِّر الفرص للمرأة والرجل.
المملكة وجهة سياحية عالمية:
نقلًا عن موقع ويكيبيديا، ذكر د. خالد الرديعان أن السياحة في السعودية تُعتبر من القطاعات الناشئة، وتُعدُّ السياحة الدينية أهم ركائزها؛ كونها مهدَ الدين الإسلامي، وهو ما يجعلها محل جذب سياحي، حيث يقصد المسجد الحرام والمسجد النبوي ملايين المسلمين لأداء فريضة الحج ومناسك العمرة. وباتت السياحة تلقى دعمًا متزايدًا من الحكومة السعودية، ممثلة في الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، والتي من بين أهدافها: تطوير وتأهيل المواقع السياحية والتراثية، والارتقاء بقطاع الإيواء ووكالات السفر والخدمات السياحية، وتطوير الأنشطة والفعاليات في المواقع السياحية، فضلًا عن تنمية الموارد البشرية السياحية. وتسعى الهيئة لاستكمال مهمتها نحو تحويل السياحة إلى قطاع اقتصادي، يسهم بفعالية متزايدة في الناتج القومي الإجمالي، ودعم الاقتصاد الوطني.
لقد أسهم قطاع السياحة السعودي في تطوُّر الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تجاوزت 7.2% سنة 2011، وتجاوزت نسبة توظيف السعوديين فيه 26% من مجموع العاملين في القطاع السياحي، والذين يشغلون 670 ألف وظيفة مباشرة، كما أسهم هذا التوظيف بما نسبته 9.1% من إجمالي القوى العاملة بالمملكة في القطاع الخاص. ووفقًا لبيانات منظمة السياحة العالمية، فإن حصة المملكة العربية السعودية من عدد الرحلات السياحية إلى منطقة الشرق الأوسط قد بلغت 32%. كما كشف تقرير عُرض في المنتدى الاقتصادي العالمي أن السعودية حصدت 76 مليار دولار من السياحة في سنة 2013، أنفق منها السياح الأجانب 48 مليارًا، فيما أنفق السياح المحليون 28 مليارًا. وفي سنة 2008 أعلنت منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة عن اعتبار مدائن صالح (الحِجر) موقع تراث عالمي، وبذلك أصبح أول موقع في السعودية ينضمُّ إلى قائمة مواقع التراث العالمي. في سنة 2010 أضيفت الدرعية إلى القائمة، وفي سنة 2014 أضيفت جدة التاريخية إلى القائمة نفسها، كما تمت إضافة الفنون الصخرية في منطقة حائل سنة 2015، لتكون على قائمة التراث العالمي. كما حصلت المملكة على تصنيف الوجهة السياحية الرابعة ضمن المؤشر العالمي للسياحة بالنسبة لدول منظمة التعاون الإسلامي لسنة 2014.
الثقافة السياحية والأثرية:
يرى د. خالد الرديعان أنه حتى عهد قريب كنا نحطِّم بعض الآثار وما خلفه الأقدمون، خوفًا من تصنيم هذه البقايا؛ لذا فنحن حديثو عهد بالسياحة الثقافية.
وهو ما ذهبت إليه د. فوزية البكر، وأضافت أنه لا توجد في المدارس أية ثقافة متحفية على الإطلاق، فلم يتم تربية الأجيال على هذه الثقافة. أكد على ذلك د. خالد الرديعان حيث يتصور أننا بحاجة إلى غرس ثقافتين عند الأطفال لكي تنجح السياحة عندنا، سواء أكانت سياحة داخلية أم خارجية، وهما: الثقافة المتحفية، وثقافة الحفاظ على البيئة (النبات، والطير، والحيوان، والماء، والمكان)، إذا نجحنا في غرسهما فسوف يصبح للسياحة شأنٌ مهم كمورد اقتصادي.
وأضاف: نحن بحاجة إلى دراسة موسعة للتعرُّف على نمط السياحة المفضَّل عند السعوديين، وماذا يريدون؟ هناك دراسة قديمة نسبيًّا قام بها مركز أسبار تعود لعام 2005، ولذلك من الضروري عمل دراسة تتبعية لتلك الدراسة؛ لمعرفة الفروق، وتحديد اتجاهات الجمهور الجديدة بعد صدور رؤية المملكة 2030.
بينما يرى أ. محمد الدندني أنه لا توجد دولة تعتمد على السياحة الداخلية؛ لذلك لابد أن نهتم أيضًا بالسائحين الوافدين من خارج السعودية، فشواطئنا تفوق دولًا كثيرة، خاصة تلك التي على البحر الأحمر، فهي جاذبة للأوروبيين في فصلي الخريف والشتاء.
تنمية السياحة والآثار في المملكة:
يرى د. رياض نجم أن المملكة تأخرت كثيرًا في تنمية السياحة الداخلية، سواء للسعوديين والمقيمين أو للزوار من خارج المملكة. فمن الناحية التنظيمية، هناك تداخل بين أكثر من جهة حكومية لتنمية السياحة، خصوصًا بين هيئتي السياحة والترفيه، ولابد من حل هذه التداخلات لتطوير القطاع. كذلك فإن زيارة الأماكن الأثرية ثقافة في حد ذاتها، وهي غير موجودة في المجتمع السعودي، حتى إذا سافرنا للخارج. وحتى ننمي هذه الثقافة نحتاج للبدء في ذلك في المدارس.
السعوديون والانفتاح على المجال السياحي:
تساءل د.خالد الرديعان: ما مدى انفتاحنا كسعوديين على السياحة والسائحين القادمين من الخارج لزيارة المملكة؟ ثم ذكر-واتفق معه في ذلك د. فهد الحارثي، د. عبد العزيز الحرقان، د. عبير برهمين-أن تجربتنا في استقبال الحجاج والمعتمرين تجربة ممتازة ومتأصلة، ولها تاريخ طويل، لكن ذلك يندرج تحت السياحة الدينية، فنحن لا ننظر للقادم كسائح يودُّ استكشاف السعودية، بل كشخص يودُّ أن يؤدي شعيرة دينية؛ ومن ثَمَّ يحظى بكل الرعاية المطلوبة، سواء على المستوى الرسمي أو حتى الأفراد. في حين أن السائح الذي يفد للمملكة بغرض استكشافها والتعرف على ثقافتها، قد لا ينطبق عليه ما ينطبق على الحجاج والمعتمرين. ماذا لو جاءت مجموعة من السائحين الروس لزيارة الدرعية أو تمير أو واحة الأحساء؟ هل لدينا شركات خاصة تستطيع أن تقدم لهم برامج، بحيث ترتب لهم زيارة المواقع المطلوبة، مع توفير الأمان المطلوب لهم؟ ومن الذي سيدير هذه البرامج وينفذها؟ العمالة الوافدة أم السعوديون والسعوديات؟ وما مدى تقبُّلنا لعمل السعوديات في هذه الشركات كمرشدات سياحيات؟ وهل يوجد شركات ومؤسسات سياحية- ولو على مستوى صغير- تنسق مع الفنادق الكبرى، لتقوم بتوفير تنقُّل السياح، وتصميم برامج مجدولة لهم لزيارة بعض الأماكن؛ كالأسواق الشعبية، والمعالم الأثرية؟ هل نجد مثل هذه الشركات في فنادق الرياض مثلًا؟ وقبل ذلك؛ ما حجم السياح الذين يزورون المملكة لغير غرض الحج والعمرة؟ وأين يذهبون عادة؟ وما هي الأماكن المرشحة لتكون ضمن جداول الزيارات؟
تطوير السياحة في المملكة:
يرى د. خالد الرديعان أن البنية التحتية للسياحة، وضعف التنظيمات والتشريعات؛ هي من أسباب عدم الإفادة من السياحة كمورد اقتصادي، وضعف تطوُّر وتطوير السياحة لدينا.
ويعتقد د. عبد الله بن صالح الحمود أن هيئة السياحة والتراث الوطني، أهملت الجانب السياحي، وركَّزت على الجانب التراثي أكثر، وأشغلت نفسها بين تراخيص الفنادق والشقق المفروشة، ولم تعط المجال السياحي حقَّه الكامل لكي يكون لدينا منتجعات أو بيئات سياحية بالمعنى الحقيقي. عندما نذهب إلى المناطق المفترض أن تكون بيئات سياحية على أرض واقعها (جنوب السعودية، والساحل الشرقي، والساحل العربي) نجد أن الفنادق محدودة، والخدمات متدنية جدًّا.
أضاف د. مشاري النعيم، أنه كان ضروريًّا بناءُ ثقافة السياحة مجتمعيًّا أولًا قبل عمل أي شيء. هذه الثقافة أصبحت الآن واقعًا، وليس غريبًا أن نجد مَن لا يصرح للمرأة أن تكون مرشدة سياحية، بالإضافة إلى وجود صعوبات جمَّة تواجه السياحة نتيجة التأشيرة السياحية التي تجعل من الاستثمار غير مجدٍ.
السياحة مصدرٌ من مصادر التنمية
أشار أ. محمد الدندني إلى أن السياحة تُعدُّ من المصادر المستدامة في كل البلاد السياحية، إذا أخذ القائمون عليها بحُسن الخدمة، والتميز في كل نواحي هذه الصناعة.
ولنميز بين الآثار والسياحة العلمية والسياحة الترفيهية، ليس للفصل بينها؛ بل لإعداد الكوادر المختصة. فالآثار ممكن أن يُضاف لها السياحة العلمية، وقد وضعت هيئة المساحة الجيولوجية نُصب أعينها تفعيل ما تختصُّ به. ومعلومًا لدى أهل الاختصاص تميز المملكة بتراكيب جيولوجية رائعة، حيث تتمثل كل العصور الجيولوجية في تكوينات ظاهرة على سطح الأرض من الدرع العربي غربًا (الحجاز)، إلى التكوينات الرسوبية شرقًا وشمالًا وجنوبًا، ولا ننسى الشعاب المرجانية في البحر الأحمر.
من فوائد السياحة والآثار، أنها تقدم خدمات أخرى كثيرة، على سبيل المثال وليس الحصر: المطاعم، واستئجار السيارات، والحرف اليدوية، وربما هذه ترفع من نشاط الإنتاج الأسري. كل هذا يحتاج إلى جودة المنتج والخدمة. فالإبداع في هذه الصناعة ليس بالأمر الصعب، حيث يمكن تبني مسابقات دولية؛ كسباق السيارات، والدراجات، وغيرها…، وكذلك المشاركة في معارض دولية، وإرسال واستقبال وفود سياحية، مع إعلام رصين ومؤثر. بالإضافة إلى إعداد العاملين إعدادًا جيدًا، من خلال المعاهد والكليات بإدارة خبيرة.
- التوصيات المقترحة:
انتهت المناقشات إلى مجموعة من التوصيات، أهمها:
- العمل على استقطاب الشباب السعودي ذكورًا وإناثًا للعمل في المجال السياحي.
- تذليل الصعاب أمام الإناث السعوديات؛ لزيادة إسهامهن ومعدلات عملهن في هذا القطاع، وأن تقوم الغرف التجارية بالإسهام في توفير الفرص الملائمة للنساء المستثمرات سياحيًّا، ودعمهن.
- التركيز على تمكين عمل المرأة في القطاع السياحي على كافة المستويات، وعدم الاكتفاء بالوظائف الدنيا.
- أن يكون تحفيز السيدات للاستثمار في القطاع في أولويات الجهات المسؤولة عن تحقيق الرؤية.
- أن يتم إنشاء جهة استشارية داعمة للشركات والمؤسسات التي ترغب في زيادة نسبة السيدات العاملات لديها في القطاع الخاص، دون فرض ذلك بقرارات قد تتسبب في ردود فعل سلبية.
- الاهتمام بفتح معاهد وكليات متخصصة في مجالات السياحة والفندقة.
- عدم إهمال المناطق النائية والقرى والهجر من التطوير والجذب السياحي.
- تحقيق التجانس في العمل بين هيئة السياحة وهيئة الترفيه ووزارة التجارة لتطوير خطط الجذب السياحي، والعمل على تذليل الصعاب أمام المواطنين والمواطنات الراغبين في العمل في قطاعات السياحة.
- التثقيف الاجتماعي بمفهوم السياحة، بما في ذلك التثقيف المتحفي، والتثقيف البيئي.
- التأكد من أن التوسُّع السعودي في القطاع السياحي يحفظ للمرأة العاملة فيه حقوقها وكرامتها.
- تحسين البنية التحتية في كافة المناطق السياحية والأثرية.
- الملخص التنفيذي:
القضية: المرأة في القطاع السياحي ورؤية 2030.
تناولت الورقة الرئيسة التي قدمتها د. عبير برهمين، دور المرأة السعودية في القطاع السياحي من قبيل تعزيز المشاركة التكاملية الإيجابية مع الرجل، بحيث تسهم في دفع عجلة التنمية داخل الوطن.
وقامت الدكتورة عبير بتسليط الضوء على مساهمة المرأة في القطاع السياحي في المملكة، والتي ترى أنها ضعيفة جدًّا مقارنة بمساهمتها في هذه القطاع في دول مجاورة؛ كمصر، والأردن. وعلى الرغم من اتجاه العديد من سيدات الأعمال بالمملكة إلى أعمال تتعلق بالسياحة ومتطلباتها، ووجود رائدات أعمال ومنسقات للرحلات العائلية أو النسائية؛ إضافة إلى الوظائف أو المهن السياحية الأخرى التي ما زالت بانتظارها، إلا أن هناك تحديًا كبيرًا يقف عائقًا أمام تفعيل دور المرأة في قطاع السياحة، يتمثل في نظرة المجتمع إلى طبيعة المهن الجديدة في هذا القطاع، وكونها ربما لا تليق بمكانتها، بالإضافة إلى أن ثقافة سكان بعض المناطق تجعل من الصعب تقبُّلهم لعمل المرأة بشكل عام، وفي السياحة بشكل خاص.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة في أن المرأة السعودية دخلت في قطاع السياحة كمستثمرة وكعاملة وكمستشارة، وأصبحت ذات دور مؤثر وصانع قرار، بالإضافة إلى عملها في بعض الوظائف التقليدية، مثل: الضيافة، والإرشاد السياحي، والعلاقات العامة، والتسويق، والفندقة، وغيرها…، وكذلك في بعض النشاطات السياحية الخاصة بالمرأة، حيث تحتاج إلى تنظيم وتقنين خاص.
إلا أنها كي تنجح في هذا المجال وفق رؤية 2030 لابد أولًا من تفعيل تمكين المرأة في وظائف السياحة والآثار، وأن تقوم الهيئات والمؤسسات المختصة بدعمها بشكل مؤسسي ومنهجي لمواجهة التحديات التي تقف أمامها، مع صناعة فرص استثمارية للسعوديات، ومساعدتهن لخوض تجربة الاستثمار السياحي.
ورصدت المداخلات التي دارت حول موضوع الورقة رؤية البعض نحو ضرورة تخصيص نسبة معينة لمشاركة المرأة في بعض الوظائف، بل وتخصيص وظائف لا تشغلها إلا المرأة فقط، مع اهتمام الجهات المسؤولة عن تحقيق الرؤية بوضع تحفيز السيدات للاستثمار في القطاعات الواعدة، مثل المجال السياحي، ضمن أولوياتها.
بينما ذهب البعض إلى أن قطاع السياحة قطاع اقتصادي خدمي لا يمكن تأنيث جميع خدماته. كما أنه لا ينبغي التركيز على عمل المرأة في مجال السياحة كأولوية قبل أن يُطوَّر القطاع ككل، ويتم تأهيله تشريعيًّا وإجرائيًّا، ومن ثَمَّ تأهيل المرأة لمتطلبات هذا القطاع.
وتباينت الآراء حول ردة فعل المجتمع تجاه عمل المرأة في القطاع السياحي؛ فبينما يرى البعض أن تقبُّل المجتمع يحتاج إلى وقت طويل، وبخاصة مع سيطرة بعض الثقافات والعادات على الإجراءات المتعلقة بالمرأة؛ إلا أن البعض الآخر يرى أن تقبل المجتمع لا يمثل عقبة، فقد أثبتت المرأة نفسها في مجالات عدة، فيها اختلاط منظم ومقبول، وأن ردة فعل المجتمع لعمل المرأة بشكل عام كانت إيجابية.
واعتبر المناقشون أن التمييز الإيجابي-ولفترة محدودة- من خلال تسهيل وصول المرأة للمناصب العليا في هذا القطاع، وعدم اقتصار فرص عملها على الوظائف الدنيا؛ هي ظاهرة صحية لتغيير ثقافة وفكر المجتمع في المرحلة التحولية التي نعيشها. في الوقت الذي ذهب فيه البعض إلى ضرورة أن يكون التمكين للرجل والمرأة؛ بأن تكون الفرص متساوية، والتأهيل متساويًا.
وفي النهاية خرجت المناقشة بمجموعة من التوصيات، أهمها: ضرورة تذليل الصعاب أمام الإناث السعوديات لزيادة إسهامهن ومعدلات عملهن في هذا القطاع، وأن تقوم الغرف التجارية بالإسهام في توفير الفرص الملائمة للنساء المستثمرات سياحيًّا ودعمهن. وأن يتم تمكين عمل المرأة بالقطاع السياحي على كافة المستويات، وعدم الاكتفاء بالوظائف الدنيا. وأن يكون تحفيز السيدات للاستثمار في القطاع في أولويات الجهات المسؤولة عن تحقيق الرؤية. وكذلك إنشاء جهة استشارية داعمة للشركات والمؤسسات التي ترغب في زيادة نسبة السيدات العاملات لديها في القطاع الخاص. بالإضافة إلى التأكُّد من أن التوسُّع السعودي في القطاع السياحي يحفظ للمرأة العاملة فيه حقوقها وكرامتها.
المحور الثالث
دعم القطاع غير الربحي ورؤية 2030
مقدمة:
تناولت الورقة الرئيسة التي قدمتها د. نوف الغامدي، دعم القطاع غير الربحي، من خلال تناول مفهوم هذا القطاع، ومناقشة قطاع التعاونيات، والتنمية المستدامة، ومؤسسات المجتمع المدني، والاهتمام بالاستثمار الاجتماعي، والعلاقة بين العمل المدني والتنمية الوطنية، وعلاقة وزارة العمل بالتنمية الاجتماعية. وكذلك مناقشة بعض المشاكل التي تواجه القطاع غير الربحي، وفي مقدمتها بيروقراطية الشؤون الاجتماعية. بالإضافة إلى استعراض بعض نماذج المنظمات الدولية في تنمية القطاع غير الربحي، وأهمية تسهيل الإجراءات، واقتراح مجموعة من الرؤى التطويرية للقطاع غير الربحي.
¤ الورقة الرئيسة: د. نوف الغامدي.
تنقسم القطاعات الفاعلة في الاقتصاد التي تسعى بالتوازي لتحقيق التنمية الشاملة في الاقتصاد إلى ثلاثة قطاعات، تتفاعل مع بعضها بشكل متكامل لتحقيق أهداف الدولة والمجتمع في الوصول للتنمية المستدامة، وهذه القطاعات هي:القطاع الحكومي، والقطاع الخاص، والقطاع الثالث هو القطاع الخيري أو غير الربحيNGOبكل أشكاله.
يُعدُّ القطاع غير الربحي مكملًا للقطاع الحكومي، ومتكاملًا مع دور القطاع الخاص الهادف للربح، وتنظيميًّا تشرف وزارة العمل والتنمية الاجتماعية على القطاع غير الربحي، إلا أن ذلك غير كافٍ للارتقاء به، فهو يحتاج إلى فصل نشاطه عن الوزارة، وإنشاء هيئة عامة يرتبط بها، لتصبح مظلة تندرج تحتها جميع المؤسسات والمنظمات والأنشطة غير الربحية العاملة في المملكة، ويرتبط بها عدد من الجهات كالهيئة العامة للأوقاف، وتُسَّن لها الأنظمة والتشريعات التي تمكنها من أداء مهامها، ومواجهة التحديات، وتغيير الفكرة النمطية السائدة عن هذه المؤسسات أنها مجرد مُقدِّم للمساعدات المالية، ودفعها باتجاه تبني مبادرات لإنشاء مستشفيات، ومدارس، وجامعات، ومراكز تدريب وتطوير غير ربحية، والعمل على نشر ثقافة التطوُّع في المجتمع.
ومن المهم أن تأخذ المملكة دور الريادة عالميًّا في مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي لأسباب عدة؛ أولها: أن ديننا الإسلامي يحثنا على فعل الخير وبذل العطاء، وهو من صميم تعاليمه السمحة. ثانيها: أن العمل التطوعي والخيري جزءٌ أصيل متجذر في قيمنا العربية الإسلامية الأصيلة، والمملكة لديها تجارب رائعة في العمل التطوعي، خصوصًا في مواسم الحج والعمرة، ويمكن الاستفادة من هذه التجارب وتطويرها من خلال تحفيز الطاقات لابتكار أفكار جديدة، فالفرص متاحة وبشكل كبير؛ لذا لابد أن يسعى القطاع غير الربحي لإيجاد حلول تتناسب مع المتغيرات الاقتصادية. وثالثها أن لدينا توجهًا من خلال رؤية 2030 نحو دفع هذا القطاع ليصبح مساهمًا بنسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي.
لقد حظي القطاع غير الربحي في رؤية المملكة 2030 بنصيب جيد من الاهتمام، حيث أُوكل إليه تحقيق عدد من الأهداف؛ كرفع مساهمة القطاع غير الربحي في إجمالي الناتج المحلي من أقل من 1% إلى 5%، والوصول إلى مليون متطوع في القطاع غير الربحي سنويًّا، مقابل 11 ألفًا في الوقت الحالي. ورغم المدة الزمنية في التخطيط لتحقيق هذه الأهداف، إلا أنها تأتي في ظل عدد من الحقائق التي تشخِّص واقع العمل في القطاع غير الربحي، وتشكل تحديًا ليس باليسير للقطاع؛ وتتمثل هذه الحقائق في أن عدد المؤسسات في القطاع غير الربحي أقل من 1000 مؤسسة وجمعية غير ربحية، كما أن 0.3 % هي نسبة مساهمة مؤسسات القطاع غير الربحي في الناتج المحلي، وهي مساهمة متواضعة مقارنةً بالمتوسط العالمي الذي يبلغ 6%، و7%، وهي نسبة المشاريع التي تقدِّمها مؤسسات القطاع غير الربحي، وتتواءم مع أهداف التنمية الوطنية بعيدة الأمد. ومن الملاحظ ضعف مساهمة القطاع غير الربحي في المجالات الصحية، والتعليمية، والإسكانية.
من المؤكد أن نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، ونظام الهيئة العامة للأوقاف اللذين تم إقرارهما أخيرًا يساعدان في تمكين القطاع غير الربحي في التحوُّل نحو المؤسسية، وتعزيز ذلك بدعم المشاريع والبرامج ذات الأثر الاجتماعي، والعمل على تهيئة البيئة التقنية المساندة، ومواصلة العمل على تعزيز التعاون بين مؤسسات القطاع غير الربحي والأجهزة الحكومية. ولتحقيق رؤية المملكة 2030 في ظل هذه الحقائق، بكل ما يساعد القطاع غير الربحي على أداء دوره في التنمية بفعالية وكفاءة؛ لابد من نظام حديث للجمعيات والمؤسسات الأهلية، نظام وهيئة عامة للأوقاف، بيئة تقنية رقمية تساند القطاع غير الربحي في أداء أعماله، واستمرار العمل على تعزيز التعاون بين القطاع غير الربحي والأجهزة الحكومية ذات العلاقة بعمله، وتحفيز القطاع غير الربحي على تطبيق معايير الحوكمة الرشيدة، وتسهيل استقطاب الكفاءات وتدريبها، والعمل على غرس ثقافة العمل التطوعي، والاطلاع بشكل عميق على وثائق الخطط الوطنية للتنمية ومتابعة مخرجاتها، وإدماج مستهدفات الخطط الوطنية ضمن أهداف المؤسسات في القطاع غير الربحي في خططها، وجعل الإسهام في تحقيق هذه المستهدفات أحد أهم أدوات قياس فعالية وكفاءة هذه المؤسسات، وكذلك الاهتمام بالرصد والتوثيق والقياس للأعمال والأنشطة، والعمل على جعلها قدر المستطاع تتواءم مع أهداف التنمية ورؤية 2030، بالإضافة إلى العمل بفعالية على اتخاذ القرارات بناءً على تحليل البيانات.
إنَّ الرؤية تعمل على تسهيل تأسيس منظمات غير ربحية للميسورين والشركات الرائدة؛ لتفعيل دورها في المسؤولية الاجتماعية، وتوسيع نطاق عمل القطاع غير الربحي، وتمكين مؤسساته وجمعياته من استقطاب أفضل الكفاءات القادرة على نقل المعرفة وتطبيق أفضل الممارسات الإدارية، وأن يكون للقطاع غير الربحي فاعلية أكبر في قطاعات الصحة، والتعليم، والإسكان، والأبحاث، والبرامج الاجتماعية، والفعاليات الثقافية؛ وهذا ما يحقق أثرًا اجتماعيًّا وتنميةً مستدامة لهذا القطاع.
¤ التعقيب الأول: د. خالد الرديعان.
استدراكًا لما ذكرته د نوف حول وجود ثلاثة قطاعات فاعلة في الاقتصاد، وهي: القطاع الحكومي، والخاص، والقطاع الخيري غير الربحي. وجاء تركيزها على دعم القطاع غير الربحي وسبل ذلك؛ إلا أنني أرى أن هناك قطاعًا رابعًا يقع في منزلة وسط بين القطاعين الربحي وغير الربحي؛ وأعني به “القطاع التعاوني” فهو ربحي، ولكن ليس بطريقة القطاع الخاص الموغل في استهداف الربحية. ويشرف على القطاع التعاوني وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وهي مفارقة؛ إذ إنَّ من مبادئ التعاون الدولية السبعة أن تكون التعاونيات مستقلة عن الجهات الحكومية، بوجود اتحاد مستقل يُشرف عليها كما في سائر دول العالم.
وبالرغم من وجود مجلس سعودي للجمعيات التعاونية أُنشئ حديثًا، لكن إنشاء جمعية تعاونية بحاجة إلى موافقة وتصريح من وزارة العمل والتنمية؛ الأمر الذي ساهم في تراجع هذا القطاع وتقييده، ووضع العراقيل أمامه، رغم كل ما يُقال عن دعمه من قِبل الوزارة.
تجربة هذا القطاع غير ناجحة رغم أنه قطاع واعد جدًّا، وعامل مهم في تخفيف العبء عن المواطن متوسط الدخل الذي يمكنه المساهمة فيه، والاستفادة من السلع والخدمات التي يقدِّمها بسعر أقل مما يقدمه القطاع الخاص. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن التعاونيات تخلق عددًا كبيرًا من فرص العمل للسعوديين.
وقد خصصت الأمم المتحدة عام 2012 للاحتفاء بالتعاونيات التي أطلقت عليها “الاقتصاد الثالث”؛ وذلك لأهمية هذا القطاع الاجتماعي؛ بحكم أنه حلقة وصل بين التنميتين (الاجتماعية، والاقتصادية).
البيروقراطية الحكومية، وفساد الإدارة في بعض التعاونيات، وحماية مصالح بعض الفئات قيَّدت هذا القطاع، وجعلته عديم الجدوى؛ بدليل وجود جمعيات تعاونية سعودية يزيد عمرها عن خمسين عامًا، ومع ذلك لا تزال متعثرة، وليس لها أثر يُذكر، بل ولم تتوسع في نشاطاتها.
وبالتالي أتفق مع الدكتورة نوف في ضرورة فصل القطاع غير الربحي عن وزارة العمل والتنمية، وإنشاء مجلس أو هيئة خاصة به. وينسحب ذلك على القطاع التعاوني – وإن كان ربحيًّا إلى حد ما- وذلك بضرورة فصله عن الجهاز الحكومي، وجعله تحت إشراف “مجلس الجمعيات التعاونية”، والذي يُفترض كذلك أن يكون مستقلًا، وأن يتكون من أعضاء منتخبين، وأن تُوفَّر له مظلة حماية قانونية تجعله بمنأى عن تسلُّط أصحاب المصالح؛ ممن يرون في التعاونيات تهديدًا لمصالحهم التجارية.
ويُذكر أن اجتماع مجلس التعاونيات الذي عُقد في الرياض في ٢ ديسمبر 2017 أشار في خطته إلى ضرورة رفع عدد التعاونيات السعودية إلى 2000 جمعية للعشر سنوات القادمة، بدلًا من عدد 236 جمعية قائمة؛ لمواكبة رؤية المملكة 2030، وأن يساهم القطاع التعاوني فيما نسبته 3٪ من الناتج المحلي، وخلق أكثر من 200 ألف وظيفة.
تشمل الخطة كذلك اعتماد مركز تدريب تعاوني، يمكن أن يُطوَّر لاحقًا إلى معهد تعاوني يُمارس نشاطاته على مستوى السعودية، بالتعاون مع الجهات المختصة. كما أن المجلس وافق في اجتماع سابق على رفع عدد الجمعيات التعاونية النسائية إلى عشر تعاونيات، كجزء من قضية تمكين المرأة، وتماشيًا مع رؤية المملكة.
ما هو قائم الآن من تعاونيات لا يزيد عن 236، وإن كان هناك حديث عن 30 جمعية تحت التأسيس. وحقيقة، فإن هذا العدد صغير جدًّا، ولا سيما أن الحركة التعاونية قديمة في المملكة، وتعود إلى نحو ستين عامًا، تحديدًا إلى عام 1382هـ. إلا أن الغريب في الأمر هو عدم نجاحها بالصورة المطلوبة، رغم الإمكانات الجيدة للسوق السعودي، والقوة الشرائية عند السكان.
¤ التعقيب الثاني: أ. محمد الدندني.
مع اتفاقنا على أهمية هذا القطاع كأحد الأعمدة في تكوين مجتمع مدني متحضر، ممثلًا في أبسط مظاهره الحس الاجتماعي، وتكريس روح التكافل، والمساهمة في الناتج المحلي؛ إلا أنه من الواضح تدني نسبة مساهمة هذا القطاع. والتساؤل: هل وجود هذا القطاع ضمن مسؤوليات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إحدى عقبات تطوُّره؟ وهل يحتاج إلى وضعه تحت هيئة مستقلة؟
إنَّ تقديم المساعدات شيء يُحمد، ولكن ليس هذا هو أهم مهام الجمعيات غير الربحية، ولكن الحقيقة أن هذا هو مفهوم غالبية الناس عن الجمعيات غير الربحية، بجانب اعتقادهم أن هذه الجمعيات الخيرية بمفهومها الحقيقي هي عمل غير مرخص به إلا للدولة نفسها. فالأمر ليس واضحًا؛ لذلك نحتاج لجهد كبير للتعريف بهذا النشاط، وكذلك فوائد هذه الجمعيات.
ولتفعيل هذه الجمعيات، أرى النظر في النقاط التالية:
– وَضْع مفهوم محدد للجمعيات الخيرية.
– تطوير الجهة الحاليَّة تحت إشراف الشؤون الاجتماعية، بقيادة خبيرة وكوادر مؤهلة، أو إنشاء هيئة مستقلة بنفس المواصفات.
– تطوير الجمعيات الحاليَّة، ونشر ثقافة التطوُّع والاتفاق على نشاطاتها.
-لا يمكن استقطاب الكوادر كمتطوعين، ولكن يجب أن تُوظِّف هذه الجمعيات الكوادر المؤهلة كي تدير أعمالًا غير ربحية، فهي تحتاج الالتزام والاستدامة.
– تحديد مصادر المال اللازم من المتبرعين؛ الزكاة، والأوقاف.
– التنسيق مع الجهات الحكومية لتلافي تضارُب المشاريع (تعليمية، صحية…إلخ).
– تختص كل جمعية بالمنطقة التي تتواجد فيها، يجمعها اتحاد واحد لتنسيق ومساعدة بعضها البعض ماديًّا ومعنويًّا.
– الاستفادة من الدول ذات الخبرة في هذا المجال.
– تحديد هدف سنوي لهذه الجمعيات، يُحدَّد فيه نسبة المساهمة في الناتج المحلي.
– تشكيل لجنة في مجلس الشورى لنقل صوت الجمعيات، ومساعدتها في تحديث الأنظمة والتشريعات كلما احتاج الأمر.
– وبجانب الفوائد المادية من بناء وإشراف على مشاريع تعليمية وصحية وغيرها، هناك فوائد معنوية، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، منها:
– نشر ثقافة العطاء، ومن ثَمَّ الرقي بمجتمع مدني متحضر.
– دمج المجتمع بشراكة التنمية مع القطاعين العام والخاص.
– رَفْع درجة المواطنة والثقة بالنفس.
– نَشْر الوعي بين الناس حول ضخامة قطاع التنمية، وما تتكلفه الدولة لدعمه وتطويره.
¤ المداخلات حول القضية:
مفهوم القطاع غير الربحي.
يرى م. أسامة الكردي أنَّ هناك إشكالية في مفهوم القطاع غير الربحي؛ هل هو جمعيات المجتمع المدني، أو الجمعيات الخيرية، أو الأوقاف، أو الجمعيات الأهلية، أو جمعيات العمل التطوعي، أو الجمعيات التعاونية؟ أو كل ذلك؟ أجاب عن ذلك أ. محمد الدندني بأن هناك ترابطًا بين كل هذه المسميات، ولا أرى إشكالية في ذلك، فعنوان الورقة هو: (القطاع غير الربحي)، وكل ما ذُكر من مسميات ينطوي تحت الجمعيات الخيرية ما عدا الجمعيات التعاونية؛ لأنها ربحية. وكلمة تعاونية تعني الربح القليل بجانب العناصر التي تعني التعاون. أما الأوقاف فهي تعتبر أحد المصادر المالية للجمعيات غير الربحية. والعمل التطوعي يقع تحت الجمعيات غير الربحية.
أضاف م. خالد العثمان، أنه بالرغم من اتفاقه مع م. أسامة في أن تنازُع التعريفات يفقد وحدة المفهوم، لكنه يرى أن كلَّ عمل خارج القطاعين الحكومي والخاص هو يدخل تحت مسمى العمل المدني، ومَن تقوم به هي مؤسسات المجتمع المدني، وهذا يشمل كلَّ أشكال العمل المدني الخيري منه، والاجتماعي، والمهني، والتعاوني، والنقابي، وغير ذلك.
كما أن وصف العمل بأنه غير ربحي لا يعني بأنه يستهدف الخسارة أو الإنفاق المنفلت بلا رقابة. يجب أن يكون الربح هدفًا لكل العمل المدني عمومًا، والتعاوني خصوصًا؛ لكن الفارق عن القطاع الخاص أن الأرباح أو المكتسبات غير قابلة للتوزيع، بل تُوجَّه للتوسُّع في النشاط، أو التوسُّع جغرافيًّا.
أمَّا الاوقاف فهي نظام مهم في التنمية تأخَّر تفعيله كثيرًا، لكنه لا يندرج تحت مفهوم العمل المدني؛ وإنما هو نظام تمويل وإدارة مالية، يُمكن أن يُستخدم في جميع قطاعات التنمية الثلاثة (الحكومي، والخاص، والمدني).
في هذا السياق، ترى د. نوف الغامدي أن المؤسسات غير الربحية هي المفهوم غير الواضح في التشريعات المحلية، والبعض يعتبر كلَّ مؤسسة غير ربحية جمعية خيرية، وهذا تعريف غير دقيق، فالجمعية الخيرية تخصِّص جزءًا كبيرًا من دخلها للعمل الخيري؛ بينما لا يعتبر ذلك شرطًا لجميع المؤسسات غير الربحية التي ليس مطلوبًا منها أن تصرف أرباحها في العمل الخيري، وإنما في عمل يعود ريعُه لتطوير المؤسسة ذاتها.
من الأمثلة على ذلك: تستطيع الجامعات أو المستشفيات أن تكون مؤسسة غير ربحية، لكن عملها يُبنى على أسس اقتصادية، وفكرة غير ربحية تعني أن تحقيق رسالتها النوعية يسبقها تعظيم الأرباح، ومعظم دخلها يُستخدم في التطوير، وليس في توزيعه كصدقة، أو أرباح للملَّاك.
أتفق تمامًا أن غياب التعريف والتشريع للمؤسسة غير الربحية غير الخيرية أو غير التعاونية، يجعل مؤسسات، مثل الجامعات الأهلية غير الربحية كجامعة سلطان، تندرج تحت مظلة مسميات جمعيات خيرية، بينما واقعها غير ذلك.
وأرى أن الشؤون الاجتماعية لدينا تشرف أو تركِّز على الجمعيات الخيرية والتعاونية. وحقيقة ليس لديها تشريعات واضحة. أما الأوقاف فهي آلية تمويل لأي من المؤسسات والقطاعات الأخرى، لكنها تحتل مكانة رئيسة عند نقاش العمل غير الربحي. وتعاني هيئة الأوقاف من الانتقال نحو مفهوم “الأوقاف الحديثة” بجوانبه التنظيمية والتشريعية والاقتصادية الحديثة. فبعض المؤسسات التعليمية والثقافية والصحية لديها توجهات نحو تأسيس مفهوم الأوقاف، لكن الآليات لا تساعدها على ذلك بشكل ميسر وسهل، بدليل تعثُّر أوقاف بعض الجامعات دون أن نعرف المرجعية التي صرحت بها، وتتابعها وتحكمها. وربما تكون مفاهيم الأوقاف الدينية واضحة، لكن تظلُّ بحاجة إلى تأطير مرجعيتها، وتطوير وتسهيل أنظمتها الإجرائية المختلفة؛ كأنظمة الحوكمة، والتقارير المحاسبية السنوية، وغير ذلك.
العمل المدني والتنمية الوطنية:
أشار م. خالد العثمان إلى أن العمل المدني رافدٌ مهم جدًّا للتنمية الوطنية، ويمثل الركن الثالث من أركان مثلث التنمية، إلى جانب القطاع الحكومي والقطاع الخاص. وهو ما وافقته فيه د. نورة الصويان، وأضافت: إننا لا ننكر أن القطاع غير الربحي حقَّق إنجازات خلال السنوات العديدة الماضية، إلا أنه لا يزال ينقصه الكثير من الجوانب الأساسية والضرورية؛ وذلك من حيث إعطاء صلاحيات أكثر، وتحديد أوضح للمسؤوليات، وسنُّ قواعد ولوائح وأنظمة تشريعية وقانونية.
كما أرى ضرورة فصل القطاع عن الوزارة؛ مما سيسهم في مرونة وسرعة تطوُّره، وأعتقد أن أهم التحديات التي تواجه القطاع غير الربحي هو غياب المؤسسية في العمل، والعمل الاحترافي، والكوادر البشرية المهنية. وأتساءل: لماذا لا يُفتح المجال بشكل أكبر للاستفادة من خبرات المنظمات الدولية في هذا المجال، وخاصة في مأسسة العمل، وبناء القدرات؟
المنظمات الدولية وتنمية القطاع غير الربحي:
يرى د. محمد الملحم أنه يجب أن يُستفاد من هذه المنظمات الدولية في بناء مركز تطوير وبحث R&Dلتطوير وتنمية هذا القطاع، وتمكينه من التميز المؤسسي؛ لأنه لا يُتصوَّر أن تفيد كلُّ جمعية أو مؤسسة مباشرة من هذه المنظمات العملاقة. في حين يعتقد أ. محمد الدندني أن بناء مركز تطوير وبحث هي مهمة الشؤون الاجتماعية، إلا أنه لابد من الاستفادة من تاريخ هذه المنظمات العريقة. فمثلًا: منظمة أوكسفام تأسست عام 1942، وهي عبارة عن اتحاد من عشرين منظمة، ونشاطها في أكثر من 90 دولة بالتعاون مع منظمات محلية. بعض هذه المنظمات تُتهم بنشاط تبشيري، وهذا ليس صحيحًا في المطلق، ربما بعض أعضائها متدينين ولكنها لم تنشأ بوازع ديني، ونحن لا نحتاج للتعاون المباشر مع هذه المنظمات؛ كأن نقوم بفتح فروع لها في المملكة، ولكن ممكن أن يكون التعاون خارجيًّا، والتعاون يأتي بدراسة قوانينها، وطريقة العمل، وحوكمتها…إلخ. ومن وجهة نظر د. محمد الملحم، لا يهم أين يكون هذا المركز، ولكن المهم أن يكون هو المنصة platformالتي تستورد الخبرة وتوطنها، ثم تبثُّها للمؤسسات العاملة في المملكة.
وأضاف د. محمد الملحم أن كثيرًا من هذه المنظمات تستهدف الدول المحتاجة، فهي منظمات دولية؛ لذلك دورها في التنمية المحلية قد يكون محدودًا. فهل هناك مثالٌ لمؤسسة نهضت بمجال ما في دولتها محليًّا؟ فهذا هو النموذج الذي نتطلع إليه. من جانبها ذكرت د. نورة الصويان، أن لدينا مؤسسة الملك خالد التي تعتبر نموذجًا مناسبًا للقطاع غير الربحي، ومنطلقها تنموي. وأضاف إلى ذلك د. محمد الملحم، بأن هناك أيضًا مؤسستي الراجحي والسبيعي الخيريتين، خاصة بعد ظهور توجُّه لديهما مؤخرًا بتجاوز مجرد التمويل الخيري للفقراء، وبناء المساجد، إلى تمويل ودعم وتطوير المجالات التنموية الحضرية؛ كالتعليم، والتوعية، والثقافة الأسرية، وما إليها.
التخصص في عمل المؤسسات الخيرية:
يعتقد أ. محمد الدندني أن التخصص مفيد في عمل المؤسسات الخيرية، كما هو موجود في الجمعيات المحلية الأمريكية، حيث تتعدد التخصصات أو المجالات التي تهتم بها هذه المؤسسات، ومنها على سبيل المثال:
-الاهتمام بمجال التعليم: ويشمل تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة، والتعليم التقليدي إلى درجة تمويل أبحاث وطلبة دراسات عليا، ومساعدة الطلبة في التدريب في الشركات والمصانع.
– مجال الثقافة والمجال الإنساني.
-مجال الصحة: من بناء مراكز صحية ومستشفيات، ولها أنشطة فردية، أو مجموعات من أطباء وصيادلة لمساعدة غير المقتدرين لفحص حالتهم الصحية.
– مجال الحقوق المدنية: مثل: محاربة المخدرات، ومتابعة أبناء السجناء…وغيرها.
– مجال البيئة.
– شؤون الدين.
أضاف د. محمد الملحم إلى ذلك، الجمعيات التعاونية كتجربة الكويت في مجال التموين وبقالات الأحياء، وكذلك الحركة الكشفية ودورها في خدمة المجتمع وتوعيته، وجمعيات السكري والقلب، وبيوت الشباب ودورها في تشجيع الشباب على التنقل.
قطاع التعاونيات:
فيما يخصُّ قطاع التعاونيات ذكر د. خالد الرديعان بأن هذا القطاع عملي على عدة مستويات؛ فهو عبارة عن تجميع لجهود الأهالي في أنشطة اقتصادية خلاقة وربما مجزية، وهو كذلك عامل أساسي في توفير السلع والخدمات بمختلف أنواعها، وذلك بأسعار في متناول الجميع، بحكم أن الربح ليس هو الأساس في التعاونية.
كما أن انتشار التعاونيات يخفِّف من تكدُّس الثروة عند فئات اجتماعية بعينها، ويجعل جزءًا من الثروة مشاعًا بين أكبر عدد ممكن من الناس؛ فالتعاونية إمَّا أن يكون المواطن مساهمًا فيها (يحمل أسهمًا)، أو عميلًا يستفيد من خدماتها. وقد تأخذ التعاونية عدة صور بجانب التعاونيات الاستهلاكية؛ فهناك تعاونيات سكنية وعقارية، وزراعية، وصناعية، وتعاونيات نقل، ومشافٍ، وشركات اتصالات، وغير ذلك من المناشط الاقتصادية.
ولو أنَّ كل حي من أحياء مدننا – على سبيل المثال- أوجدنا فيه جمعية تعاونية استهلاكية، يشارك فيها ويديرها سكان الحي لخلقنا فرصًا في تنمية الولاء للحي وللدولة؛ مما ينعكس على الناحية الأمنية للأحياء. وفوق ذلك سيُقدَّم للسكان السلع والخدمات بسعر مناسب. وعندما يحمل ساكن الحي أسهمًا بالتعاونية التي في حيّه، فإننا بذلك نقدِّم له مصدرَ دخل سنوي ثابتًا، قد يغنيه عن التوجه للدولة.
ما أتحدث عنه هو جمعيات تعاونية مستمرة، لا تعيد رأس المال لحملة الأسهم، ولكنها تصرف لهم أرباحًا سنوية شبه ثابتة، وربما متصاعدة بعد خصم تكلفة التشغيل والإدارة والصيانة. وهذا هو النموذج الذي نحتاج إليه؛ نموذج الجمعيات التعاونية التي تعمل في عدة مجالات اقتصادية، تخفِّف من الاعتماد على الدولة، وتخلق فرص عمل وأرباحًا سنوية لعدد كبير من المشتركين فيها.
الاستثمار الاجتماعي:
أشارت د. نوف الغامدي إلى أنه لابد أن ينتقل المستثمرون إلى الاستثمار الاجتماعي؛ لأنه يقلل المخاطر الاجتماعية والإدارية، والبحث في الفرص الاجتماعية والإدارية. كذلك تقديم حلول عملية للتحديات الاجتماعية، وعلى الدولة تشجيع ودعم الاستثمار المبني على الأثر الاجتماعي؛ وذلك نتيجة الموارد المتزايدة لمواجهة الظواهر المجتمعية السلبية، وزيادة رأس المال لدعم الاحتياجات الاجتماعية، بالإضافة إلى بناء قدرات العاملين للاستثمار الاجتماعي في القطاع غير الربحي، وخلق مساحة للتغيير لتحقيق أهداف رؤية 2030. ومن المهم أيضًا تنمية سوق الاستثمار المبني على الأثر، من خلال بناء الأسواق الاستثمارية عبر:
– زيادة الموارد والدعم للمنظمات المبنية على الأثر.
– تطوير سوق الاستثمار المبني على التأثير.
– تشجيع المستثمرين الجدد للدخول في سوق الاستثمار الاجتماعي عن طريق الحوافز المالية والتنظيمية.
– زيادة فاعلية دور الحكومات كمشترٍ للنواتج الاجتماعية، وزيادة تدفق الاستثمارات.
– المشاركة كمستضيفين للسوق عن طريق تطوير نظام عمل قانوني وتنظيمي للمنظمات ذات الأثر، وتقليل العوائق القانونية والتنظيمية.
– بناء سوق استثمار ناجح وحيوي في المملكة، والتوسع في أدوار القطاع غير الربحي، وربطها بالواقع لإحداث نقلة نوعية للقطاع غير الربحي، بما يمكنه من سدِّ الفجوات التمويلية، وتحقيق الابتكار والنمو، وتطوير الاستدامة والاستقلالية.
علاقة وزارة العمل بالتنمية الاجتماعية:
أشار م. خالد العثمان إلى أن بعض دول الخليج تخصص وزارة للتنمية الاجتماعية دون ربطها بأي أنشطة أخرى؛ أمَّا عندنا فإن العمل والتنمية الاجتماعية تجمعهما وزارة واحدة! ويعتقد د. عبد الله صالح الحمود أن هناك ترابطًا بين الاثنين، وإن لم يكن ترابطًا ذا صلة غير مباشرة، فهو يتمثل في مَن يعمل ومَن لا يعمل ويستحق المساعدة، فالعمل يشرف عليه قطاع العمل، والمساعدات يشرف عليها قطاع التنمية الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، طرحت أ. علياء البازعي فكرة أن يكون هناك وزارة أو جهة تمنح هذا النوع من التراخيص، دون الحاجة إلى التسجيل في وزارة العمل والتنمية. من جانبه ذكر د. محمد الملحم، أنه ساهم مؤخرًا مع مجموعة من الشباب لتأسيس مركز للإرشاد المهني في مساعدة الطلاب على النجاح في اختيار التخصص بأسس علمية. وقد واجهتهم صعوبات كثيرة ومتعددة في الحصول على الترخيص، حتى انتهى بهم الأمر إلى تسكين المشروع في إحدى الجمعيات الخيرية. أضاف م. خالد العثمان أن المشكلة ليست فقط في رفض التسجيل؛ بل في تمكين العمل بعد التسجيل دون قيود التكبيل البيروقراطية.
ويعتقد د. محمد الملحم أن السبب في ذلك وجود صراع بين تأسيس المركز كمؤسسة ربحية كخيار أول أو غير ربحية كخيار ثان. الأول له مزية قلة القيود، وإمكانية التحكم لكنه لا يوفر الموارد؛ لأنه يعتمد على رأس المال، وهو غير متوفر لدى هذه المجموعة من الشباب. الخيار الثاني هو الأفضل لتوفر التمويل لكنه أكثر تقييدًا؛ ولأن المجال جديد على المجتمع، ويتضمن الكثير من التعلم والنمو، فقد كان هذا خيارًا غير مفضل أيضًا. أمام هذا الصراع لجؤوا إلى لجنة تنمية اجتماعية ليؤسس المركز من خلالها كحل وسط، فقد تم اختيار لجنة يتوفر بها إدارة منفتحة فكريًّا وراغبة في التجديد، ومع ذلك لا يزال الموضوع متأخرًا؛ لوجود ملفات عالقة بين اللجنة ووزارة العمل.
إلا أن م. خالد العثمان يرى أن هذا فهم غير دقيق لمفهوم التنمية الاجتماعية، وربما كان هذا الربط بهذا التفسير ممكنًا عندما كان يُطلق على الإدارة الشؤون الاجتماعية؛ أما التنمية الاجتماعية فهي تتجاوز بكثير إدارة شؤون المحتاجين والفقراء والعاطلين عن العمل.
ويرى د. خالد الرديعان أن ذلك يعتمد على تعريف وزارة العمل لمفهوم التنمية الاجتماعية؛ فهو في التعريفات الأكاديمية واسع جدًّا، أما مفهوم الشؤون الاجتماعية فيمكن حصره.
أضاف د. عبد الله صالح الحمود أنه ليس هناك بعدٌ حقيقي أو مختلف، فالشؤون الاجتماعية مرادفة للتنمية الاجتماعية؛ إنما كلمة (تنمية) أتت أخيرًا لجعل الخدمات الاجتماعية تعني توسُّع أفق العمل الاجتماعي، وجعل الشأن الاجتماعي يسير وفق عمل تنموي، وليس رعائيًّا فقط.
التنمية المستدامة:
يعتقد م. خالد العثمان أن التنمية الناجحة يجب أن تكون مستدامة. والاستدامة تنتج حسب فاعلية الإدارة المتخصصة، وليس اسمًا فحسب. وأضافت د. وفاء الرشيد أنه من المهم أن نعترف أننا لا نملك مجتمعًا مدنيًّا حقيقيًّا في البلاد بالمعنى العالمي، ولا مؤسسات غير حكومية بل شبه حكومية، ومن هذا المنطلق أرى أن التنمية المستدامة تُبنى لاحتياجات الحاضر ولا تغامر بمتطلبات المستقبل، وأن جماعات الضغط في المجتمع المدني هي من تقود التغيير وتمهد لاستدامة التنمية، كما أنه لا يمكن بناء أي مجتمع مدني حقيقي بلا استقلالية تامة عن الحكومات، والجمعيات المتخصصة هي مَن تملك قصص النجاح، وكذلك فإن كل الجمعيات التي ذكرت انطلقت من محتوى محلي إلى الدولي، فهي تجارب محلية تم تدويلها، بالإضافة إلى أن البناء التنموي على مؤشرات التنمية الدولية ومعاييرها مهم للتحليل، والتخطيط، والقياس. وثقافة الباحث ومدى اطلاعه النوعي وليس الكمي هو معيار النجاح.
نماذج جمعيات محلية تحولت إلى دولية:
تساءل د. محمد الملحم عن الجمعيات التي بدأت محلية ثم تحولت دولية، وماذا قدمت لبلدها تنمويًّا؟ وإلى أي مدى كان إسهامها؟
في هذا السياق، ذكرت د. وفاء الرشيد مثالًا لذلك بنك الفقراء في بنجلاديش، وله استثمارات دولية، وتم نقل الفكرة لدول أخرى بوجود البنك على البورد للتدويل. أضاف م. خالد العثمان أن بنك الفقراء مبادرة من منظمة “أجفند” التي يرأسها الأمير طلال بن عبد العزيز. وتكرر هذا النموذج الذي أسسه محمد يونس في نماذج أخرى، مثل: بنك الإبداع في الأردن، وبنك الأمل في اليمن.
أضاف أيضًا د. خالد الرديعان أن بنك الفقراء أو غرامين هو بنك بنجلاديشي لا علاقة له بأي جهة، وفكرته هي إقراض الفقراء ألف دولار لكي ينشئوا أعمالهم البسيطة الخاصة بهم، وخاصة الأسر المنتجة. وبسبب فشل الرجال في توجيه المبلغ للإنتاج، فقد ركز محمد يونس على النساء الريفيات، والتي بلغت نسبتهن نحو96٪ من مقترضي البنك. وسبب اختياره النساء هو جديتهن وسعيهن لنجاح أعمالهن، وإعادة القرض. الرجال كانوا يستخدمون القرض لأغراض أخرى؛ كتناول الكحول، وشراء سلع استهلاكية.
وذكر د. حميد المزروع أنَّ هناك مؤسسات محلية ناجحة في هذا المجال؛ كمؤسسة الشيخ سليمان الراجحي الخيرية، لها مشاريع خيرية متنوعة، يديرها مجلس إدارة مستقل، يجمع ما بين مفهوم إدارة الأوقاف، ودعم المشاريع الخيرية بجميع أنواعها.
التوجه الحكومي في تنمية القطاع غير الربحي:
في تصوُّر د. يوسف الرشيدي، أن التوجه الحكومي في تنمية القطاع غير الربحي ربما يسهِّل الإجراءات، ويجعله أكثر استقطابًا للأفكار والمبادرات، وبقاء التراخيص تحت وزارة العمل أتوقع أنه لن يستمر، وستصبح الإجراءات أقل تعقيدًا، وأسرع في القادم من سنوات. ولا شك أن بقاء التراخيص مربوطة بقرار الوزارة لن يزيد القطاع إلا سوءًا، وحتى تنجح الجمعيات والمبادرات وتستمر ويكون لها فاعلية؛ لابد أن تكون مستقلة عن القطاع الحكومي تمامًا. فأيًّا كانت الجهة المتحكمة في إدارة هذا القطاع الحيوي يجب أن تكون متماشية مع التحوُّل الذي يحصل في المملكة، وتكون سريعة التجاوب، مع التركيز على نوعية الجمعيات والمبادرات التي منها فائدة مستقبلية في تطوير القطاعات الأخرى في المملكة.
والأمثلة كثيرة عن تجارب إطلاق جمعيات مهنية، إلا أن هذه الأفكار قُتلت ولم تر النور بسبب التعقيدات، أو انتهى بها الأمر؛ بسبب أنها لا تتماشى وتوجهات وقناعات القائمين على التراخيص في الوزارة. وفي رأيي أن الأمور ستصبح أكثر انفتاحًا، وسنرى قطاعًا غيرَ ربحي عالمي الأداء في المستقبل القريب.
البيروقراطية في الشؤون الاجتماعية:
يرى م. خالد العثمان أن تعيين د. تماضر الرماح نائبة لوزير شؤون التنمية الاجتماعية يمكن أن يكون مفتاحًا للتغيير، إلا أن د. يوسف الرشيدي يعتقد أن المشكلة ليست في الأفراد، بل في آلية التعاطي مع التراخيص، ولا أرى أن تعيين امرأة ممكن أن يزيل التعقيدات، فالبيئة نفسها بيروقراطية، وعسرة الإجراءات، وفيها شيء كثير من المزاجية. أضاف د. خالد الرديعان: إنني مع مجموعة من الزملاء حاولنا استخراج تصريح لمركز دراسات غير ربحي منذ ما يزيد عن ٨ شهور من وزارة الثقافة والإعلام، ومع ذلك وضعوا عدة عراقيل أمام التصريح.
من جانبه نادى م. خالد العثمان بضرورة تحرُّر العمل المدني من قيود الوزارة. لكن د. محمد الملحم لا يرى أن هذا هو الحل، فالأمر يحتاج إلى طرح أمثلة يمكن أن نقيس عليها تحرر من الوزارة، فانطلق؟
وفي هذا الإطار، ذكر م. خالد العثمان أن الأمثلة في الدول الأخرى، بما فيها المنظمات السعودية التي لجأت إلى دول أخرى للتسجيل فيها، بعيدًا عن قيود البيروقراطية المحلية.
وتساءل د. خالد الرديعان: لماذا يُعرقل قيام مؤسسات مجتمع مدني؟ ما الضرر أو الخطر الذي قد ينشأ من وجودها؟ إذا كنا نتجه لرسملة المجتمع، فلابد من فسح المجال واسعًا أمام منظمات المجتمع المدني، ومن شروط الرأسمالية: اختفاء، أو على الأقل التخفف من فكرة الشمولية.
مؤسسات المجتمع المدني:
أشار د. خالد الرديعان إلى أن أي مؤسسة مجتمع مدني لابد أن تحصل على تصريح من جهة حكومية، بل إن التصريح لابد من تجديده بعد فترة من الزمن، وهو ما يعني أنه يمكن تعليقه أو إلغاؤه. وأرى ضرورة أن نتجنب استخدام “مؤسسة مجتمع مدني” ونبحث عن مصطلح آخر؛ بحكم أن مؤسسات المجتمع المدني نبتت أساسًا في مجتمعات أخرى، تختلف بنيتها السياسية والاجتماعية عن بنية مجتمعنا. نحن نستعير مفاهيم قد لا تناسب الوضع القائم عندنا، أو أن دلالتها تصبح مختلفة.
إن مفهوم المجتمع المدني هو مفهوم نشأ وتأسس، واكتسب معناه في التجربة التاريخية الغربية؛ ولذا فإنه من المهم – كما يقول الجابري- “أن تكون البداية هي التعرُّف على مضمون ذلك الشعار كما هو مترسِّخ في وعي أهله”. هذا التذكير يساعد كثيرًا في عدم التورط في أحلام سريعة، تتعلق بإمكانية نقل التجربة الغربية بمجرد هيكلتها على شكل قوانين وتشريعات.
ويتكون المجتمع المدني1 من مجموعات أو منظمات تعمل لصالح المواطنين، ولكنها تعمل خارج القطاعات الحكومية والربحية. تشمل المنظمات والمؤسسات التي تشكل المجتمع المدني: النقابات العمالية، والمنظمات غير الربحية، والكنائس، ووكالات الخدمات الأخرى التي تقدم خدمة مهمة للمجتمع، ولكنها تطلب عمومًا القليل جدًّا في المقابل. ووفقًا لهذا لتعريف يُشار أحيانًا إلى المجتمع المدني على أنه القطاع المدني، وهو مصطلح يُستخدم للتمييز بينه وبين القطاعات الأخرى التي تُشكِّل مجتمعًا فاعلًا. على سبيل المثال: تتكون الولايات المتحدة من ثلاثة قطاعات: القطاع العام، وهو الحكومة وفروعها؛ القطاع الخاص، الذي يشمل الشركات والمؤسسات؛ والقطاع الأهلي، الذي يشمل المنظمات التي تعمل لصالح الجمهور، ولكن لا تحفزها الأرباح أو الحكومة.
وورد في التعريف السابق أن الكنائس في الغرب تدخل ضمن منظمات المجتمع المدني، ولأنها كذلك وبسبب عدم الاقبال على بعضها (مصلون، أتباع…إلخ)؛ فإنه يُشترط عند بيعها ألا يحولها المشتري إلى نشاط تجاري، وأن تكون ضمن دائرة العمل غير الربحي. هذا مكَّن بعض الجاليات من شراء مثل هذه الكنائس، وتحويلها إلى مساجد، وحسينيات، ومعابد بوذية… إلخ.
القطاع غير الربحي وتسهيل الإجراءات:
في تصوُّر م. أسامة الكردي، فإن أول المتطلبات لتطوير ودعم القطاع غير الربحي؛ هي تسهيل إجراءات تسجيل مؤسسات هذا القطاع، بما في ذلك إلغاء تحديد الحد الأدنى لعدد المشاركين، وأي رأس مال مطلوب، بل وأرى إلغاء الحاجة إلى التسجيل، والاكتفاء بإبلاغ الجانب الحكومي عن إنشاء الجمعية أو المؤسسة، وترك مسؤولية التحقق على الجانب الحكومي. أمَّا المسح الأمني فيمكن أن يتم لاحقًا بدون تعطيل بدء عمل الجمعية أو المؤسسة.
وذكر م. خالد العثمان إضافة إلى ذلك؛ إلغاء الحاجة إلى الموافقة المسبقة على تشكيل المجالس وتعيين المسؤولين، وإلغاء الموافقات الأمنية…وغير ذلك. إلا أن د. محمد الملحم يرى صعوبة تجاوز الموافقات الأمنية، فهي لمصلحة الجميع عند فساد النية، فكل شيء يمكن أن يُستغل بشكل أو بآخر، كما أن الموافقات الأمنية لا تمثل مشكلة؛ لأنها تُطلب مرة واحدة ولا تتكرر. وفساد النية كاستغلال الجمعيات لأهداف سياسية مثلًا، أو بهدف الحصول على المال واستغلاله لأغراض شخصية. كلها معالم فساد لا يتعامل معها إلا الجهات الأمنية، فالتصريح للجمعيات دون مراجعة أمنية على الأفراد أو الحسابات المالية أمرٌ خطير.
ولتجاوز الخلاف حول هذا الأمر، يمكن استحضار افتراضاتنا عن المجتمع المدني، وهو يفرض وجود جهات أمنية متحضرة، وتملك كفاءة إدارية، ووعيًا ثقافيًّا ومهنيًّا كافيًا.
ويعتقد أ. محمد الدندني أن الإجراءات الأمنية الآن لا تستغرق وقتًا طويلًا، حيث تتوفر السجلات الإلكترونية، وبالتالي سيكون القرار سريعًا، المهم أن نعرف الأمور التي تؤثر على الموافقة، أو بمعنى آخر درجة شموليتها..
رؤى تطويرية للقطاع غير الربحي:
أشارت د. عبير برهمين إلى أن الأطر والسياسات الإجرائية بما فيها الهدف الذي تُنشأ من أجله الجمعيات المدنية غير الربحية، يجب أن يُراجع ويُمنح كثير من المرونة في التعاطي معه، وعدم الحكم بإلغائه أو شطبه. تم استغلال كثير من هذه الجمعيات الخيرية أو المدنية وغير الربحية في جَمْع الأموال في السابق؛ لتمويل جهات إرهابية، وتم استيعاب الدرس. فلا يصح أن نمنع قيام العديد من الجمعيات الخيرية أو المدنية وغير الربحية بحجة أنها قد تمول الإرهاب. وأتفق تمامًا مع ما طُرح في أنه حتى المناصب الحكومية يمكن استغلالها في فساد إداري أو مالي بناء على طبيعة الأفراد والمسؤولين. بل إن القطاع العام والحكومي يكاد يكون أكثر فسادًا في بعض الأحيان. وهذا يقودنا إلى ما تناولته بداية د. نوف في ورقتها من أنه لابد من نظام حوكمة خاص بهذا القطاع الثالث، يعتمد مبدأ الشفافية والمرونة، وسرعة الإنجاز بدقة، ويسمح كذلك بمكافأة المحسن ومعاقبة المسيء.
مازال دور الجمعيات والمؤسسات الخيرية أو المدنية وغير الربحية مغيبًا بعض الشيء على أرض الواقع، ومازال دور كثير من هذه الجمعيات الخيرية هو القيام بدور همزة الوصل بين المحسنين والمحتاجين بشكل كبير، مُغْفِلين دور التنمية المستدامة والتي تعتمد على رفع الكفاءات البشرية في المقام الأول. وأكاد أجزم أنه لا توجد جمعيات تقوم بعملية التدريب والتأهيل المستمر للأفراد.
وأرى أن مسميات الجمعيات الخيرية أو المدنية وغير الربحية قد تكون مضللة للبعض؛ لأنها مُستقاة من التسميات الغربية، والتي لها هي الأخرى أجندات معلنة وغير معلنة. إلا أن كثيرًا منها مُوجَّه فعلا للتنمية والتأهيل وفق احتياجات الناس، ولكن خارج البلاد؛ كدول العالم الثالث، والدول المنكوبة بالحروب والكوارث. ومجال عمل هذه الجمعيات الخيرية أو المدنية وغير الربحية في كثير من الأحيان يُلمح فيه وجود أجندة خفية، وإن كان ظاهرها لا يدل على ذلك.
إن ما ننادي به هو وجود منظمات المجتمع المدني غير الربحية الموجهة للداخل أكثر من الخارج، وهذا برأيي يتماشى مع الرؤية المستقبلية الطموحة للمملكة. وتأهيل الكادر البشري، وتقديم الدورات المستمرة التي تقوم بسدِّ الفجوة بين مخرجات التعليم مع سوق العمل- مثلًا- هو مطلب أساسي. وكذلك توفير المساكن للمواطنين والمقيمين، باعتباره نوعًا من الأمان الاجتماعي الذي يفتقر له أكثر من نصف المجتمع حاليًّا. بالإضافة إلى أن تمويل الأبحاث والدراسات العلمية في شتى فروعها هو أساس انطلاق التنمية، فالجامعات بنظامها الحالي، وتمويل الأبحاث فيها وقيوده هو عامل تثبيط، لا تحفيز ولا توعية. وأيضًا توفير الوظائف في قطاعات شتى عبر إنشاء الجمعيات التعاونية قد يكون إحدى الوسائل الناجعة لتقليص حجم البطالة الحالي. يبقى أن نعرف أن المسؤولين عن هذا القطاع الثالث يجب عليهم أولًا أن يستفيدوا من تجارب الأمم التي حققت نجاحات على أرض الواقع، ونقل التجربة بعد إدخال التحسينات التي توافق حاجتنا وبيئتنا المحلية.
وأضاف د. خالد بن دهيش الأهداف الاستراتيجية لبرنامج التحوُّل الوطني 2020 تضمنت الهدف الاستراتيجي (تعزيز التنمية المجتمعية، وتطوير القطاع غير الربحي)؛ وذلك من خلال البرامج التالية:
– تشجيع العمل التطوعي.
– تعزيز قيام الشركات بمسؤوليتها الاجتماعية.
– دعم نمو القطاع غير الربحي.
– تمكين المنظمات غير الربحية من تحقيق أثر أعمق.
– تمكين المواطنين من خلال منظومة الخدمات الاجتماعية.
– تحسين فاعلية وكفاءة منظومة الخدمات الاجتماعية.
وقد استعرض البرنامج التحديات القائمة، وحدَّد المؤشرات، ووضع المقارنات مع بعض الدول الرائدة في مجال تعزيز التنمية المجتمعية، وكذلك في مجال تطوير القطاع غير الربحي، بعد أن أستعرض البرنامج الوضع الراهن بالمملكة، وتم وضع استراتيجية التنفيذ بعد تحديد المؤشرات المستهدفة.
¤ التوصيات المقترحة:
انتهت المناقشات إلى مجموعة من التوصيات، أهمها:
- ضرورة إفساح المجال أمام قيام التعاونيات، وتخفيف شروط إنشائها، على أن تصدر تصاريحها من مجلس الجمعيات التعاونية، وليس وزارة العمل والتنمية الاجتماعية.
- التوسُّع في التعاونيات الاستهلاكية في الأحياء السكنية، على أن يساهم في إنشائها سكان الحي.
- فصل التنمية الاجتماعية عن وزارة العمل، أو تأسيس هيئة مستقلة للتنمية الاجتماعية، مع تبسيط الإجراءات المتعلقة بتأسيس مؤسسات المجتمع المدني.
- الاهتمام بضرورة تعريف المقصود “بمؤسسات المجتمع المدني” تعريفًا إجرائيًّا، مع الأخذ في الاعتبار التوجهات العالمية بهذا الخصوص.
- وضع نظام للعمل المدني بحيث يكون شاملًا تعريفه، وسُبُل حوكمته، وآليات تحقيق المرونة اللازمة لتحريره من البيروقراطية الراهنة.
- رفع القيود عن استقبال الجمعيات الخيرية الدعم المالي من المحسنين؛ بشرط تطبيق الشفافية في طريقة إنفاق الأموال.
- توفير الدراسات والمعلومات عن النماذج العالمية لعمل مؤسسات العمل المدني.
- إنشاء مراكز تدريب وتطوير وطنية متخصصة في هذا القطاع (سواء كمؤسسات مستقلة، أو ضمن الجهات الإشرافية).
- عمل برامج توعية للتعريف بالعمل المدني وشرائحه وأهميته، وتحفيز العمل التطوعي.
- 10.ضرورة رفع قيود عن بعض استثمارات مؤسسات المجتمع المدني وغير الربحية؛ بغرض تغطية تكاليفها حتى لا تحتاج إلى دعم من الدولة.
- الملخص التنفيذي لقضية:
دعم القطاع غير الربحي ورؤية 2030
تناولت الورقة الرئيسة التي قدمتها د. نوف الغامدي “دعم القطاع غير الربحي ورؤية 2030” باعتباره مكملًا للقطاع الحكومي، ومتكاملًا مع دور القطاع الخاص، تشرف عليه وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وهو أمر غير كافٍ للارتقاء به، فهو يحتاج إلى فصل نشاطه عن الوزارة، وإنشاء هيئة عامة يرتبط بها، وتُسنُّ لها الأنظمة والتشريعات التي تمكِّنها من أداء مهامها ومواجهة التحديات، وتغيير الفكرة النمطية السائدة عن هذه المؤسسات أنها مجرد مُقدِّم للمساعدات المالية.
كما طالبت برفع وتيرة الاهتمام والرعاية بالقطاع غير الربحي؛ من خلال الدعم بالبيئة التقنية، والتدريب، وتجسير العلاقة مع المؤسسات الحكومية خاصة الأوقاف، والتماهي مع الخطط الوطنية، والقياس والرصد وتأسيس الكفاءات، ودمج التطوُّع. وطالبت بتفعيله في أهم المجالات المؤثرة: التعليم، والصحة، والإسكان، مع استثمار موسم الحج كتجارب قائمة، وكميدان تنفيذ ثري بالفرص.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة في أن تجربة هذا القطاع غير ناجحة رغم أنه قطاع واعد جدًّا، وعامل مهم في تخفيف العبء عن المواطن متوسط الدخل، الذي يمكنه المساهمة فيه، والاستفادة من السلع والخدمات التي يقدِّمها بأسعار أقل من القطاع الخاص. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن التعاونيات تخلقُ عددًا كبيرًا من فرص العمل للسعوديين.
كذلك فإن البيروقراطية الحكومية، وفساد الإدارة في بعض التعاونيات، وحماية مصالح بعض الفئات- قيَّدت هذا القطاع، وجعلته عديم الجدوى؛ بدليل وجود جمعيات تعاونية سعودية يزيد عمرها عن خمسين عامًا، ومع ذلك لا تزال متعثرة، وليس لها أثر يذكر، بل ولم تتوسع في نشاطاتها.
بالإضافة إلى أنه لا يمكن التعويل كثيرًا على الحوكمة في سياقها البنائي، وإنما التطبيقي. كما أن وسم القطاع بالمساعدات والتبرع فقط قاصرٌ، وضرورة تعديل المفهوم الشائع عن القطاع غير الربحي، مع الاهتمام بالتوعية بهذا القطاع، والعمل على تطويره، وتطبيق نظام التوظيف فيه بدلًا من التطوُّع القاصر نوعيًّا، وزيادة موارده، والتنسيق بين المشاريع، وإقامة اتحاد للجمعيات. بالإضافة إلى الإفادة من التجربة الدولية، مع الترويج لهذا المجال خارج المملكة كفرصة للسمعة الدولية.
ورصدت المداخلات التي دارت حول موضوع الورقة رؤية البعض نحو ضرورة الاهتمام بقطاع التعاونيات، فهو عبارة عن تجميع لجهود الأهالي في أنشطة اقتصادية خلَّاقة، وعامل أساسي في توفير السلع والخدمات بمختلف أنواعها، بحكم أن الربح ليس هو الأساس في التعاونية.
وتمَّ طرح فكرة الاستثمار الاجتماعي؛ لأنه يقلل من المخاطر الاجتماعية والإدارية، وعلى الدولة تشجيع ودعم الاستثمار المبني على الأثر الاجتماعي؛ لمواجهة الظواهر المجتمعية السلبية.
وذهب البعض إلى ضرورة فصل القطاع غير الربحي عن وزارة العمل، وهو ما سيسهم في مرونة وسرعة تطويره. مع ضرورة التخصص في عمل المؤسسات الخيرية كما هو معمول به في الجمعيات الخيرية الأمريكية، حيث تتعدد المجالات التي تهتم بها هذه المؤسسات؛ كـالتعليم، والثقافة، والصحة، والمجال الإنساني، والحقوق المدنية، والدين…وغيرها.
وتباينت الآراء حول الاستفادة من المنظمات الدولية في بناء مراكز تطوير وبحث لتطوير وتنمية هذا القطاع، وتمكينه من التمييز المؤسسي. وهناك مَنْ يرى أن هذه المنظمات تستهدف الدول المحتاجة، فهي منظمات دولية؛ لذلك دورها في التنمية المحلية قد يكون محدودًا.
وفي النهاية خرجت المناقشة بمجموعة من التوصيات، أهمها: إفساح المجال أمام قيام التعاونيات، وتخفيف شروط إنشائها. التوسُّع في التعاونيات الاستهلاكية في الأحياء السكنية بحيث يساهم في إنشائها سكان الحي. فصل التنمية الاجتماعية عن وزارة العمل، أو تأسيس هيئة مستقلة للتنمية الاجتماعية، مع تبسيط إجراءات تأسيس مؤسسات المجتمع المدني. وضع نظام للعمل المدني، بحيث يكون شاملًا تعريفه، وسُبُل حوكمته، وآليات تحقيق المرونة اللازمة لتحريره من البيروقراطية الراهنة. توفير الدراسات والمعلومات عن النماذج العالمية لعمل مؤسسات العمل المدني. عمل برامج توعية للتعريف بالعمل المدني وشرائحه وأهميته، وتحفيز العمل التطوعي. وكذلك ضرورة رفع القيود عن بعض استثمارات مؤسسات المجتمع المدني وغير الربحية؛ بغرض تغطية تكاليفها حتى لا تحتاج إلى دعم من الدولة.
المحور الرابع
جولة ولي العهد.. شركاء الرؤية 2030 والمحيط الجيوسياسي المضطرب
مقدمة:
تناولت الورقة الرئيسة التي قدَّمها أ.عبد الرحمن الطريري والتعقيبات والمداخلات التي تمت عليها جولة ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان الخارجية، والتي شملت دول: مصر، وبريطانيا، وأمريكا، وفرنسا، وإسبانيا، من خلال استعراض المكاسب المختلفة المتحققة من خلال هذه الجولة، منها: إقامة تحالفات إقليمية ودولية، والمعطيات الاستراتيجية، وأهم الجوانب الأمنية في زيارات ولي العهد، والبعد التقني والثروة المعلوماتية في هذه الجولة، وكذلك تسويق المملكة خارجيًّا في مختلف المجالات، وتغيير الصورة الذهنية عن المملكة، بالإضافة إلى استشراف بعض الجولات المستقبلية لولي العهد.
¤ الورقة الرئيسة: أ. عبدالرحمن الطريري.
يأتي اختيار القاهرة كمحطة خارجية أولى، كرسالة إلى العالم العربي، وتركيا وإيران في المقام الأول؛ أن الدائرة الأولى للأمن السعودي هي الدائرة العربية، والتي يأتي على رأسها: مصر، والأردن، واليمن، بالإضافة لبعض دول الخليج؛ وتأكيدًا على الثابت في السياسة الخارجية السعودية منذ عهد المؤسس حتى اليوم، حيث كانت مصر المحطة الخارجية الأولى للملك عبد العزيز، والملك سلمان، وللأمير محمد بعد توليه ولاية العهد.
وبالتالي العلاقات مع مصر استراتيجية، مهما اعتراها من خلافات أو اختلافات في وجهات النظر، لكن الدعم الاقتصادي لمصر اختلف منذ تولي الملك سلمان عما قبله، وأصبحت السعودية تستهدف الاستثمارات عوضًا عن الدعم المباشر، بالإضافة للقيام بمشاريع تنموية تحمل اسم المملكة، مثل جامعة الملك سلمان في سيناء، أو المنحة المخصصة لتطوير مستشفى القصر العيني، من حيث البنية التحتية، والأجهزة.
كما أن المشاريع الاقتصادية التي أعلن عنها سمو ولي العهد، وعلى رأسها نيوم والبحر الأحمر، قال عنها في إحدى تصريحاته في الولايات المتحدة: إن أحد أهم أهداف الزيارة هو جلب مستثمرين أجانب، لكن هذه المشاريع لن تقتصر منفعتها على المملكة، بل ستسفيد منها الدول المجاورة، وعلى رأسها مصر والأردن، وهي نظرة جديدة ورائدة حول التنمية في الشرق الأوسط.
تلا مصر زيارة ثلاث دول أوروبية، هي: بريطانيا، وفرنسا وإسبانيا، بالإضافة لزيارة امتدت لما يقارب الثلاثة أسابيع في الولايات المتحدة الأمريكية، هذه الدول من أهم الدول التي تملك شراكات اقتصادية مع المملكة، وترغب في أن تسهم في الاستفادة والإفادة من مشاريع 2030، بالشروط التي وضعتها المملكة؛ بزيادة المحتوى المحلي، وتوطين البحث العلمي.
بريطانيا تمثل عقل السياسة الغربية، والتأثير فيها يحقق منافع في الولايات المتحدة وفي أوروبا، حتى بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي مارس المقبل، كما أن خروجها من الاتحاد الأوروبي بآثاره الاقتصادية، وسعي الولايات المتحدة لخفض تواجدها في الشرق الأوسط مع الاندفاع الروسي نحو الشرق الأوسط، يجعل بريطانيا مضطرة لتواجد أكبر في الشرق الأوسط، خصوصًا في المنطقة الآسيوية من العالم العربي.
كما أن بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، تمثل نصف الدول التي وقَّعت الاتفاق النووي مع إيران، والأقرب لوجهة النظر السعودية من التدخلات الإيرانية، وبدرجات متفاوتة، بعكس روسيا والصين وألمانيا، التي تعتبر أقرب للموقف الإيراني، خصوصًا بعد إعلان الحكومة الألمانية التي شُكِّلت أخيرًا عن حظر تصدير السلاح للتحالف العربي في اليمن.
الموقف الأمريكي يبدو أكثر تشدُّدًا، يليه البريطاني فالفرنسي، لكن الموقف الأوروبي بشكل عام يسعى للحفاظ على المصالح الاقتصادية مع إيران، عبر الإبقاء على الاتفاق النووي، لكن في ردات الفعل على الصواريخ الباليستية التي هاجمت المملكة من اليمن، يسعى الأوروبيون للفصل بين الإبقاء على الاتفاق النووي، والتصدي للتدخلات الإيرانية في البلاد العربية، وتزويدها للميليشيات الانقلابية في اليمن بالصواريخ التي تستهدف المدنيين في المملكة.
كما أن التنمية والاستقرار في الشرق الأوسط، والتي لا تتحقق دون القضاء على الإرهاب، ومسببات ظهوره وانتشاره، يجعل من التصدي للمشروع التوسعي الإيراني ضرورة، ولعل تكرار تشبيه المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية بالنازية وهتلر، لهو رسالة ذكية لدى المتلقي الأوروبي على وجه الخصوص.
بالإضافة إلى أن التواجد الإيراني يؤثر في لبنان وسوريا والعراق واليمن، ويؤثر على المصالح الأوروبية، وتحديدًا في مناطق اهتمام لدى بريطانيا وفرنسا، كما أن الوجود الإيراني يفتح المجال لنفوذ روسي يزاحم هذه الدول؛ مما يجعل التصدي لهذه الميليشيات مصلحة غربية على المدى الاستراتيجي، ومتوافقة مع رؤية المملكة لانتشال الدول العربية مما أصابها خلال السنوات الماضية.
ولعلَّ سمو ولي العهد أبرز في لقاءاته فشل فكرة دمج إيران في المجتمع الدولي، والتي سوَّق لها الرئيس أوباما، هذا ما تقوله التجربة بعد ثلاث سنوات، بل إن المليارات التي استعادتها إيران لم تحقق مشروعًا تنمويًّا واحدًا داخل إيران، كما أن الاستقرار داخل إيران اليوم أسوأ مما كان عليه قبل ثلاث سنوات، وحتى المكونات الأكثر ولاءً للنظام؛ كالمكون الفارسي خرجت في مظاهرات، وتم قمعها من قِبل النظام.
أمَّا اختيار سمو ولي العهد لواشنطن كمحطة ثالثة في جولاته الخارجية، وبالمدة الطويلة التي استغرقتها، فيؤكد الرغبة في تعزيز الشراكة والحلف الاستراتيجي بين المملكة والولايات المتحدة، لكن بشكل يمثل الثابت والمتطور في العلاقة، ولعل الحفل الذي أقامته السفارة السعودية، واستضافت فيه كثيرًا من المسؤولين الأمريكيين السابقين، في تكريم للشراكة بين البلدين، والتي أسهمت في تحرير الكويت، وتعبير عن الرسوخ في العلاقة بين البلدين على المستوى الاستراتيجي. ولعل كلمة الأمير بندر بن سلطان في الحفل، وحِرْص الأمير محمد على لقاء مسؤولين سابقين- مثل: الرئيس بيل كلينتون، والرئيسين السابقين بوش الأب والابن-لتأكيدٌ على ذلك.
كما أنَّ التطوُّر في العلاقة بين البلدين وضح جليًّا عبر الاتفاقيات بين البلدين، والتي حملت تنوُّعًا في المجالات، والتركيز على مجالات البحث العلمي وتوطين المعرفة، ومنح الشركات الأمريكية فرصًا للاستفادة من موقع المملكة الجغرافي في إدارة عملياتها التجارية في الشرق الأوسط، وإبراز الجانبين الثقافي والترفيهي كمجال جديد في التعاون بين الطرفين. كذلك تعدُّ الاتفاقيات مع شركات، مثل six flags للقيام بمشاريع في “القدية”، والاتفاقيات في مجال السينما، مؤشر على الاهتمام المطرد لدى القيادة السعودية لتعزيز قوتها الناعمة، والذي يؤكد عليه أيضًا الفعاليات الثقافية والفنية التي قامت بها “مسك”، ومركز الملك عبد العزيز الثقافي “إثراء” خلال محطات الزيارة.
في زيارة فرنسا يبدو الاهتمام جليًّا من الجانب الفرنسي في مجالين رئيسين، وهما: مجال الطاقة المتجددة والنووية، ورغبة فرنسا في الاستفادة من الفرص الواعدة للمستثمرين الأجانب في هذا المجال، وكذلك رغبة الرياض وباريس في الاستفادة من الخبرة الفرنسية في الجانب السياحي والثقافي، آخذين في الاعتبار موقع فرنسا كأحد أكثر دول العالم استقطابًا للسياح، فضلًا عن الذهنية الرأسمالية التي أتى بها الرئيس ماكرون من خلفيته المصرفية، ولعل اختيار متحف اللوفر ومطعم ريشيلو للعشاء لرمزية للأمرين معًا.
وبالتالي سيكون التعاون مع فرنسا في مجالات سياحية، مثل: مدائن صالح، والبحر الأحمر، كما تم توقيع اتفاق مع دار الأوبرا في باريس لمساعدة السعودية على إنشاء أوركسترا وطنية ودار للأوبرا، بالإضافة للتعاون المتوقع في مجالات الطاقة. كما يهم فرنسا أيضًا تطوير التعاون مع السعودية على مستوى مكافحة الإرهاب، خصوصًا مع ما تعرضت له من هجمات خلال السنوات السابقة، والجدية الكاملة من المملكة في التصدي للإرهاب بمختلف أشكاله.
إن الجولة الخارجية لسمو ولي العهد، تأتي في وقت يمرُّ فيه العالم العربي بحالة تراجع لعدة دول عربية، منذ ما سُمِّي بالربيع العربي، وهو ما فتح ثغرات للأطراف غير العربية في المنطقة (تركيا، وإيران، وإسرائيل)، بالإضافة لوجود خلاف بين أربع دول عربية مع قطر، ودخول معركة التحالف العربي في اليمن عامها الرابع، مع سعي السعودية في المسير نحو خطة تَحَوُّل تستهدف تقليل اعتمادية المملكة على النفط، والتنوُّع مع مختلف الشركاء بشكل يحقق الهدف الأسمى للمملكة؛ وهو توطين المعرفة. وقد نجحت الجولة في تحسين صورة المملكة بشكل كبير، وزيادة القناعة بأن السعودية قاطرة تطوُّر الشرق الأوسط.
¤ التعقيب الأول: م. حسام بحيري
لا شك أن زيارة سمو ولي العهد الأخيرة للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا، كانت مختلفة تمامًا عن زيارات المسؤولين السعودين التي عهدناها في الماضي، والتي دائما تركِّز على الأهداف السياسية أكثر من الأهداف الاقتصادية، وكانت في الغالب تنتهي بتوقيع بعض الصفقات والاتفاقات الاقتصادية التقليدية في ختام أي زيارة رسمية، ولكن اليوم نحن نعيش في عصر مختلف تمامًا عن الماضي، نتغير فيه للأفضل، ولفعل ذلك لابد أن نحتضن فكرًا جديدًا مناسبًا لحاضرنا الذي يلعب فيه الاقتصاد الدور الأهم، وليس السياسة.
زيارة سمو ولي العهد كانت ناجحة لأسباب عديدة، أهمها: هيمنة الجانب الاقتصادي أكثر من الجانب السياسي، وعلى الرغم من وجود عدد من الملفات والأحداث السياسية والصراعات المختلفة الدائرة في المنطقة، لكن الاتجاه السياسي السعودي للتعامل مع هذه الملفات ثابت وواضح، واتجاهه معروف. الهاجس الأكبر من الزيارة هو النهوض بالاقتصاد، والتنمية البشرية السعودية لتكون في درجة مساوية- إن لم تكن أفضل-مقارنة باقتصادات الدول المتقدمة.
الدول الغربية التي زارها سمو ولي العهد رأت سعودية جديدة منفتحة على العالم، تريد أن تتغير للأفضل، والحملات الإعلانية الناجحة التي سبقت الزيارات تمكَّنت من جعل السعودية مصدرًا للاهتمام، ومادة للأحاديث بين مختلف وسائل إعلامهم، والتي أوضحت بدون شك لمواطنيهم أن المملكة اليوم أصبحت دولة منفتحة على العالم، تريد أن تتشارك وتتعاون مع الغرب في المجال الأهم الذي يسعى إليه الجميع، وهو الاقتصاد والتنمية البشرية؛ وهذا ساعد كثيرًا في تغيير الصورة النمطية السلبية التي تعود على سماعها المواطن الغربي، وكانت دائمًا تلاحق زيارة أي مسؤول سعودي كبير لدولة غربية.
الغرب اليوم يعيش في عصر الاقتصاد المهيمن، الذي أصبح العامل الأهم في اتخاذ أي قرار سياسي، ونرى ذلك بوضوح في كيفية تعامل أمريكا مع الصين الخصم القديم الذي هزمها في الحرب الكورية في أوائل الخمسينيات، وناصبها العداء لعقود، وكانت في عزلة سياسية واقتصاد هزيل سبَّبَ عددًا من المجاعات، حتى جاءت ثمانينيات القرن العشرين عندما حصل الانفتاح الاقتصادي الصيني، وفتحت أسواقها للعالم، وتمكنت من خلال التعاون الاقتصادي المشترك من جَعْل الغرب يعتمد عليها بدرجة كبيرة جدًّا اقتصاديًّا وماديًّا، ولا ننسى أن الصين قدمت قروضًا ضخمة تتجاوز النصف ترليون دولار لمساندة الاقتصاد الأمريكي من آثار الانهيار الاقتصادي في أواخر عام 2007، والهدف من ذلك هو الحد من انكماش التبادل التجاري، والاعتماد أكثر على الصين كشريك اقتصادي لأمريكا. وعندما حاول الرئيس ترامب الأسبوع الماضي فرض رسوم على المنتجات الصينية لم يستطع؛ لإدراكه أن الضرر سيكون كبير جدًّا على الاقتصاد الأمريكي، الذي أصبح يعتمد اقتصاديًّا على الصين كثيرًا، وهذا شكَّل انتصارًا كبيرًا لسياسة الانفتاح الصينية؛ لأنها ليست فقط تمكنت من وضع نفسها كشريك أساسي للغرب، ولكن أيضًا لأن مواقفها السياسية أصبحت تُؤخذ بجدية. ونرى اليوم بوضوح انتشار نفوذهم السياسي في قارة آسيا؛ لأنهم أصبحوا يشكلون أهمية اقتصادية للدول الآسيوية أكثر من أمريكا والغرب، فكان من الطبيعي أن تغير عدد من الدول الآسيوية، مثل: الفلبين، وفيتنام، وماليزيا، وإندونيسيا بوصلتها باتجاه الصين؛ لأن الفائدة الاقتصادية العائدة عليها أكبر وأهم.
اليوم أصبح واضحًا لدينا أننا لكي نحقق النجاح في مستقبلنا لابد من إزاحة العوائق التي دائمًا ما وقفت أمام تسخير المزايا التي تتمتع بها السعودية، ولم تتمكن من الاستفادة منها، مثل: فتح المجالات أمام المرأة السعودية لتكون شريكًا مساويًا في التنمية، والاستفادة من قدرات شبابنا -التي طالما أهدرناها- في تطوير اقتصادنا في المجالات: المهنية، والتدريبية، والتخصصية؛ لأننا اعتمدنا على طاقات أجنبية أكثر من اللازم في قطاع العمل والأعمال، والوقت الآن قد حان للاستفادة من مقدراتنا الوطنية، والتعاون مع أصدقائنا بشكل مدروس وسليم؛ لأن نجاحنا السياسي المستقبلي سيعتمد كثيرًا على قوتنا الاقتصادية.
¤ التعقيب الثاني: د. فهد العرابي الحارثي.
مقاربتي التي أتناول فيها الأبعاد الاستراتيجية لجولة سمو ولي العهد في أوروبا وأمريكا تقع ضمن ثلاثة أبعاد استراتيجية رئيسة، هي: (البعد السياسي والأمني، والبعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي والثقافي).
البعد السياسي والأمني:
تميزت جولة سمو ولي العهد بالتكثيف الشديد في النشاطات والفعاليات والاجتماعات طيلة الأيام التي استغرقتها الجولة، وهي حوالي 25 يومًا، وقد تنوعت هذه النشاطات بين السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي؛ فشملت فعاليات سياسية عليا ومتوسطة، كما شملت شركات ورجال أعمال من مختلف المجالات. ولم يكن من بد في أنَّ البعد السياسي والأمني كان حاضرًا– وبقوة- في لقاءات واجتماعات تتم على ذلك المستوى من التمثيل القيادي العالي الرفيع، والمؤثر في صناعة القرار.
وفِي كل محطات الجولة كانت حاضرةً بطبيعة الحال مشكلات المنطقة الداخلية والخارجية، وما تواجه من تحديات ومخاطر، في اليمن، وسوريا، وليبيا، والعراق، ولبنان، وغيرها. ويعتقد كثير من المراقبين أن سمو ولي العهد كان واضحًا في مناقشاته، وهو وضع النقاط على الحروف حول كل المشكلات الماثلة، سواء منها الموشكة على النهاية أو المنجذبة نحو التطور. فدعمنا للشرعية في اليمن سيستمر (حربًا أو سلمًا)، ليس فقط حفاظًا على أمننا، ولكن أيضًا خدمة لأمن العالم، إذْ لا يمكن أن نَغفل عن استفحال خطر منظمتين إرهابيتين خطيرتين على حدودنا؛ واحدة في شمال اليمن، والأخرى في جنوبه (الحوثيون والقاعدة). ولا يغيب عن بال أحد في الوقت نفسه خطر هذه الأوضاع على مستقبل الممرات المائية والتجارة العالمية، وهو الخطر الذي لن يسلم منه أحد على هذا الكوكب.
وهنا كما نلاحظ يتداخل البعد السياسي مع الأمني، الذي يمتد إلى الإرهاب العابر للقارات، وبالنظر إلى إحدى شعبهِ الرئيسة في المنطقة وهي إيران، وتمويلها وتدريبها للمجرمين من الإرهاربين الذين وصل خطرهم وإيذاؤهم إلى إفريقيا وأمريكا الجنوبية. فضلًا عن تدخلاتها المستمرة في شؤون المنطقة، وزعزعة الأمن فيها. فالإرهاب الإيراني، الممول من جيوب الشعب الإيراني، هو الذي يهدِّد السلمين الاجتماعي والسياسي في العالم، وهو الذي يفاقم الأوضاع في سوريا والعراق واليمن، ويزرع الانتحاريين والمخربين في البحرين، والكويت، والسعودية، وغيرها. لذا فإن إيران هي العدو الأول لسكان هذا الجزء من العالم، ولفحش العداوة مع طهران جعلتنا نعلن صراحة أن الخطر الإيراني على المنطقة برمتها يمكن أن يكون مجال التقاء مع إسرائيل.
وهناك الوجه الآخر للتطابق في الآراء والموقف تجاه إيران، وهو وجه الإدارة الأمريكية الحالية، وزيارة ولي العهد لأمريكا أكملت الخيوط الأساسية في مسقبل أمن المنطقة، كما لاحظنا أن موضوع إيران كان موضع اتفاق في محطات الجولة الأخرى في أوروبا وبلا أي مواربة. وهكذا يصبح الوقوف في وجه مخاطر إيران أكثر قوة، وربما أكثر صرامة.
كما ظهر أنَّ هناك دوائر إعلامية وسياسية جعلت من تصريحات سمو ولي العهد المتعلقة بمستقبل العلاقة مع إسرائيل موضوعًا للإساءة إلى سياسات السعودية (العربية)، وتكاد تلك الدوائر تصعد بهذا الموضوع إلى مستوى الخيانة القومية، مفيدين في ذلك من ضعف الذاكرة عند الكثيرين، ومستندين إلى عواطف مزيفة ومزوَّرة فيما يتصل بماضي العلاقة مع قضية فلسطين وحاضرها ومستقبلها.
لقد تحدث ولي العهد عن العلاقة مع إسرائيل، وعن مصالح مشتركة بين الطرفين، ولكنه لم ينس أن يضيف دائمًا أن هذا سيحصل إذا تحقق للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي العدل والاستقرار اللذان يوافق عليهما الطرفان. فما الذي يخرج في تصريحات ولي العهد عن “مبادرات السلام” التي أطلقتها السعودية، ووافق عليها العرب والفلسطينيون، منذ “فاس” الأولى وإلى مبادرة “بيروت” وما تلاهما؟ كل المبادرات التي أطلقها العرب والفلسطينيون تتوخى السلام مع إسرائيل، والاعتراف بها، وإقامة نظام اقتصادي وسياسي يحقق النمو والاستقرار لجميع بلدان المنطقة كلها. الفرق أن ولي العهد كان واضحًا وشجاعًا عن غيره، فتحدَّث صراحة عن إمكانية قيام مصالح مشتركة.
البعد الاقتصادي في الجولة:
أعلن سمو ولي العهد في بداية الجولة، وكرَّر ذلك في مناسبات لاحقة، أن من أهداف جولته البحث عن “شركاء” أكفاء ينخرطون في منظومة الفعاليات الاستثمارية والفنية والتقنية التي ستكون “الرافعة” الرئيسة للطموحات الكبيرة، والبرامج الحيوية، والأهداف المثلى للرؤية 2030.
نحن لا نستطيع بغير هذا “المفتاح” الذي وضعه ولي العهد لجولته أن نفهم كيف يمكن أن تستمر زيارة الأمير للولايات المتحدة وحدها حوالي 19 يومًا، لم يستغرق العمل السياسي منها سوى 3 أيام، والباقي كان زيارات لأهم المدن الكبرى والشركات العملاقة التي يبحث فيها سمو ولي العهد عن ضالته في التنمية والتطوير والبناء (الشركاء الأقوياء الأكفاء)، بالإضافة إلى اللقاءات والاجتماعات مع كبار رجال الأعمال، مع الفعاليات الاقتصادية المختلفة. فالتجربة الأمريكية هي الأقوى، والصداقة مع الولايات المتحدة هي الأمثل والأكثر رسوخًا.
ولقد فعل ولي العهد في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا، مثل الذي فعل في أمريكا. وكان يطرق دائمًا ثلاثة محاور في مقارباته حول مستقبل التنمية والرؤية:
المحور الأول: هو رؤيته للإمكانات والثروات الكامنة في بلاده، تلك الثروات التي لم تُكتشف، أو لم يُلتفت إليها أثناء الغرق في عسل النفط، وهي تشكِّل- حسب قوله- حوالي 90% من الفرص والثروات الحقيقية والمتوقعة، مثل: السياحة التي تشمل “نيوم الحلم”، ومشروع “البحر الأحمر”، و”القدية”، والمناطق الأثرية؛ فضلًا عن الحج والعمرة…إلخ. وينوّه سموه بأن في مجال السياحة وحدها هناك 230 مليارًا تُصرف خارج السعودية، وقد تصبح 400 مليار في 2030 إن لم نتدارك الأمر.
وهناك مشروع توليد الطاقة الشمسية الذي وقَّعه الأمير مع “سوفت بنك” في نيويورك، وسيكون أكبر مشروع من نوعه في العالم، وسيحقق عوائد لا تقلُّ عن 40 مليارًا للخزينة السعودية سنويًّا. وفِي مجالات الطاقة لا يغيب عن البال المشروعات والاتفاقيات المختلفة.
هذا فضلًا عن توقيع عدد من الاتفاقيات في مجالات تقنية وبحثية مختلفة (جامعة MIT مثالًا)، والتي تهدف إلى توطين الصناعات، حيث يذكر أن من أهداف الجولة دعم وتعزيز مشروع توطين 50% من الصناعات العسكرية.
وكل هذه الأفكار والأهداف إنما ترمي في النتيجة إلى توسيع رقعة المحتوى المحلي، الذي-فضلًا عن عوائده الاقتصادية-فهو سيخلق مئات الآلاف من الوظائف للشباب.
ولابد هنا من الإشارة إلى الاتفاقيات في مجال الاستثمار في التقنية (المثال: سيسكو، قوقل، وغيرهما)، والتقنية اليوم هي بوابة المستقبل، والرؤية 2030 توليها أهمية كبرى.
المحور الثاني: موضوع التخصيص، وطرح النسبة المُعلَن عنها من أرامكو قريبًا.
المحور الثالث: صندوق الاستثمارات العامة، الذي نتيجة لكل هذه الأفكار والاستراتيجيات سيُصبِح أكبر صندوق في العالم بلا منازع، فسمو ولي العهد يذكر أن موجوداته ستكون فوق 2 تريليون دولار، وأن 50% من موجوداته ستُستثمر في الداخل، والباقي سيُستثمر في الشركات الناشئة في مختلف أنحاء العالم.
جولة سمو ولي العهد كانت، بكل هذه الأشياء، تأكيدًا على موقع السعودية الثابت على خريطة العالم الاقتصادية وبالتالي السياسية، وكانت إعلانًا لشعبه بمستقبل مبهر، بالنفط وبدونه، وقد ردد سموه في غير مناسبة بأنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء من دون أن يقف خلفه شباب بلاده وأهلها كلهم.
البعد الاجتماعي والثقافي:
قبل أن يقوم سمو ولي العهد بجولته كان قد شرع في اتخاذ عدد من القرارات والإجراءات الشجاعة والسريعة في بلاده لتهيئة بنية اجتماعية وثقافية، اعتبرها الناس في الداخل والخارج “ثورية” بالمعنى الإيجابي للمصطلح، وأنا سميتها في إحدى تغريداتي “زلزالية”؛ أما سمو ولي العهد فقد سمَّاها هو مشروع بناء “معايير اجتماعية وثقافية جيدة أو تنافسية “.
وبعد أن اطمأن إلى نجاعة ما أنجز على هذا المستوى، قام بجولته الخارجية، وقال للعالم: نحن تغيرنا إيجابيًّا، وأصبح المواطن السعودي “يعيش حياة طبيعية” منقحة مما ليس من الثقافة الأصيلة الصافية للمجتمع، وهو- أي المجتمع السعودي-في هذه الحالة قابل للتعايش والتفاهم والتعاون مع الآخرين، فهو فضَّل أن يتخذ صيغة لحياته تلائم العصر الذي نعيشه، ونريد أن ننافس فيه. ولا شك أن مجتمعنا هكذا سيكون أكثر قبولًا “للاختلاف” والتعدد والتنوع، وسيكون جاهزًا لاستقبال 50 مليون سائح أجنبي في العام 2030 كما تتوخى الرؤية، وسيرحب بالمستثمرين من الشركات الكبرى والناشئة، وسيجد هؤلاء بيئة استثمارية منضبطة مشجعة، وسيجد أطفالهم وعوائلهم مجتمعًا متسامحًا وطيبًا وكريمًا، ومستوعبًا لاختلاف الثقافات.
قال الأمير للغرب: نحن مكَّنا المرأة، ومنحناها الكثير من حقوقها، ومازلنا نسير في هذا الطريق. نحن وقَّعنا اتفاقات مع أهم الجامعات في العالم للمساهمة في تطوير التعليم؛ لإعداد الكوادر الشابة التي ستنهض بالتنمية، وستساعد الشركات المستثمرة على تحقيق أهدافها. ونحن شجَّعنا الترفيه، والثقافة، والفن، والموسيقى، والسينما، والمعارض، والمهرجانات، والمسرح، والأوبرا؛ لكي تقوم شراكاتنا التنموية معكم على شروط الاستدامة، وليس العقود المؤقتة أو محددة المدة، نريد للأموال المستثمرة أن تقيم وتنمو في بلادنا ليستفيد الطرفان. كان يعلم سموه أنه بغير هذه القرارات والإجراءات “الزلزالية” لن تتحقق البدائل التي تتوخاها الرؤية 2030.
وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي أيضًا كان أول ثمار الجولة الميمونة التي بشرت بما جرى ويجري في السعودية تحسُّن “الصورة الذهنية” عن السعودية والسعوديين. وقد قلت في لقاء تليفزيوني قبل أيام بأن ما تحقق في هذا الجانب لا تستطيع أن تنجزه ملايين الدولارات. وقد ساعد الأمير في ذلك أنه قرن القول بالفعل، فكانت الصدقية في توجهه للمجتمعات الغربية بالغة التأثير، إلى جانب ما يتمتع به من كاريزما عالية، وما ينطوي عليه من إيمان حقيقي بما فعل ويفعل.
وختامًا، فإن في الأبعاد الاستراتيجية الثلاثة التي أقمت عليها مقاربتي لجولة سمو ولي العهد، ظهر لنا جميعًا من خلال التغطيات الصحفية والإعلامية، العدد الهائل للاتفاقيات الضخمة التي أبرمها سموه مع كبرى الشركات في العالم، وهي تلخص المفتاح الاستراتيجي للجولة برمتها؛ وهو البحث عن شركاء ينخرطون في العجلة المتسارعة للنمو في البلاد، ولا حاجة لأن نضيف أهمية ما تحقق على مستوى دعم وترسيخ علاقات المملكة مع أصدقائها في العالم، وبالتالي رفع مستوى التنسيق معهم فيما يتصل باستقرار المنطقة، وأمن العالم الذي لا ينحصر في محاربة الإرهاب، ولكن يشمل أيضًا ردع أشرار العالم، وناشري الفوضى في جنباته وأنحائه، وهنا ينبغي أن نشيد بالاتفاقيات العسكرية التي شملت كل أقطار الجولة، فالطموح التنموي المستدام يحتاج إلى قوة رادعة تحميه، وتقهر خصومه وأعداءه.
¤ المداخلات حول القضية:
جولة الأمير محمد بن سلمان الخارجية ورؤية المملكة:
ذهب د. خالد الرديعان إلى أن المملكة، ورغم كل ما يحيط بها من قلاقل وتوترات في المنطقة، فإنها تتقدم بسرعة، وتسير بخطى حثيثة نحو المستقبل، نحو رؤية 2030. وما يقوم به سمو ولي العهد هو محاولة جادة للنهوض بالمجتمع السعودي لجعله في مصاف المجتمعات المتقدمة، ومحاولة لملاحقة الزمن لكي تتبوأ المملكة الموقع الذي يليق بها كدولة رائدة في المنطقة.
ويرى أ. محمد الدندني أنه نظريًّا يجب أن يكون لكل دولة- مهما بلغت قوتها أو ضعفها- مشروعها الوطني، والذي تتمحور حوله السياسة الخارجية والداخلية، كل الدول العظمى والدول الناجحة تأخذ بهذا المنهج. والأمير محمد بن سلمان يُؤْمِن بأهمية مشروع التحوُّل ورؤية 2030، لتحقيق مشروع وطني يدعم مكانة المملكة، ويحقق طموحها في التطوُّر والتقدم الداخلي، والذي بلا شك سيكون داعمًا كبيرًا لتحقيق مركز إقليمي قوي، ويضعها دوليًّا في أي معادلة تخصُّ منطقتنا، وهي موجودة ولكن يريدها مستدامة، وذات صفه استراتيجية لدى الآخرين، وليست تكتيكية أو مرحلية.
في هذا السياق، أشار د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن الجولة التاريخية التي قام بها سمو ولي العهد، هي جولة تعدُّ تاريخية بكل المقاييس، جولة أثبتت أن السعودية رغم التحديات التي تعيشها إلا أنها قادرة على المضي قدمًا في مواصلة البناء التنموي، وصولًا إلى تنمية متعددة الاتجاهات والمجالات، ولا يخفى على أحد أن رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني هما اتجاهان نحو بناء متكامل سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا.
من هنا يمكننا القول: إن المملكة العربية السعودية وهي تعيش وتعايش هذا الحراك المتعدد الأوجه، إنها دولة وضعت نُصب أعينها القدرة والكفاءة نحو بناء دولة تتميز بالنوعية، وكفاءة الثبات، والذي يشاهد أو يسمع عن تعدُّد الملفات التنموية التي تُطرح ويعمل عليها كفاءات سعودية من خلال الخطط المرسومة، لابد له أن يُدرك أن السعودية في طريقها لتكون دولة متكاملة النمو، لتصل إلى الدرجة المستحقة لها، وهي التنمية الشاملة”؛ فكلمة تنمية تعني أن الهدف المرسوم للبلاد هو تحقيق أعلى درجات التحقق والكفاءة للمحتوى المحلي، محتوى حُدِّد له سقف يُفترض أن ينمو باطراد مستمر.
بانوراما جولة ولي العهد الخارجية:
رصدت د. نوف الغامدي ملامح وأسباب وأهمية زيارة كل دولة من الدول العربية والغربية (أوروبا، وأمريكا) التي زارها سمو ولي العهد خلال جولته الخارجية، والاتفاقات الموقعة في كل بلد، والفرص الاستثمارية، العائدات المتوقعة من هذه الزيارات، وعلاقتها بتحقيق رؤية 2030:
زيارة جمهورية مصر العربية:
عندما يقوم ولي العهد ببدء جولته بزيارة إلى مصر، فإن ذلك تتويج لإيمان السياسة السعودية بالدور الكبير الذي تضطلع به مصر التي تمرُّ بمرحلة التعافي السياسي بعد ثورتها التي جاءت خطأ بالإخوان المسلمين إلى السلطة، وكانت المملكة الأكثر قربًا من القاهرة في كل الأزمنة، والعلاقات السعودية المصرية تتجاوز كل المراحل، فالحقيقة السياسية تؤكد أن التناغم السعودي المصري مطلب مهم، والتجربة فيما يخصُّ العلاقات مع مصر ترسِّخ أن هاتين الدولتين تشكلان مفاتيح مهمة لكل أبواب المنطقة التي يبدو للآخرين أنه لا يمكن تجاوزها.
الاتفاقيات الموقعة هي الاتفاق المعدل لاتفاق إنشاء صندوق سعودي مصري للاستثمار بين صندوق الاستثمارات العامة في السعودية، ووزارة الاستثمار والتعاون الدولي بمصر، حيث سيتم تأسيس الصندوق بإجمالي مبلغ 16 مليار دولار لضخّ الاستثمارات السعودية في تلك المشروعات في عدد من محافظات مصر، على أن يتم اختيار المشروعات من خريطة مصر الاستثمارية التي أعدتها وزارة الاستثمار بالتنسيق مع باقي الوزارات والهيئات الحكومية، ووُقِّعت مذكرة تفاهم بشأن تفعيل هذا الصندوق السعودي المصري للاستثمار.
كما وقعت برنامجًا تنفيذيًّا للتعاون المشترك لتشجيع الاستثمار بين الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة في مصر، مع الهيئة العامة للاستثمار في السعودية؛ بهدف تبادل فرص الأعمال والاستثمار؛ لزيادة الاستثمارات المتبادلة بين البلدين، ولتسهيل التعاون في مجال الاستثمار، وتبادل القوانين والتشريعات واللوائح وكافة التطورات المتعلقة بمناخ الاستثمار في كلا البلدين، وعقد منتديات وورش عمل ولقاءات مشتركة عن الاستثمار، وتبادل بعثات الأعمال بين الطرفين لتشجيع الاستثمار، وتنظيم اللقاءات التوافقية بين رجال الأعمال والشركات في البلدين، والعمل على إزالة الصعوبات التي قد تعوق تنفيذ الاستثمارات التي ينفذها مستثمرو أيّ من الجانبين لدى الجانب الآخر.
زيارة بريطانيا:
في الزيارة الثانية توجه ولي العهد السعودي إلى بريطانيا، التي كتب وزير خارجيتها “بوريس جنسون” مقالًا في صحيفة التايمز البريطانية يتضح من خلاله أن التاريخ مرجع للرؤية الصحيحة في العلاقات الدولية، فقد وضَّح وزير الخارجية في مقاله؛ كيف التقى “ونستون تشرشل” بالملك عبد العزيز:«قبل 73 عامًا تقريبًا في مثل هذا اليوم، سافر ونستون تشرشل إلى واحة الفيوم في مصر لعقد اجتماع مع ملك المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن سعود، وكتب تشرشل عن هذا اللقاء قائلًا: قدم لي ساقي الماء الخاص به كأسًا من ماء البئر المقدسة بمكة، لقد كان ألذَّ ما تذوقتُ في حياتي».
لم تكن هذه الكلمات هي الوحيدة، ولكنها كانت مدخلًا معبرًا عن تلك الأهمية التي تضعها بريطانيا للمملكة، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي يثير إعجاب العالم كله وليس بريطانيا، في قدراتها السياسية في إحداث تلك التحوُّلات عبر إصلاح حقيقي تضمن تجديدًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، منح المجتمع السعودي مسارات أكثر انفتاحًا في الكثير من المسارات المجتمعية المطلوبة؛ لوضع المجتمع السعودي على المسار الصحيح عبر إخضاع المجتمع للمنطق، عبر قبول أوسع لمصادر التغيير ومنهجيته السياسية. وزير الخارجية البريطاني أيضًا عبَّر بكل وضوح عن أن قيادة المملكة للرأي العام الدولي حول إيران وتدخلاتها في المنطقة يشكل عاملًا مشتركًا بين المملكة وبريطانيا، فما أكثر دلائل الموقف البريطاني من ربط الأمن القومي البريطاني بالشراكة مع المملكة!
كما أن الزيارة صنعت فرصًا استثمارية للشركات البريطانية للمساعدة في تحقيق الرؤية في مجالات؛ كالتعليم، والترفيه، والرعاية الصحية، حيث لدى الشركات البريطانية خبرة عالمية المستوى بهذه المجالات، تشمل خارطة الطريق هذه خططًا لأن تصبح المملكة العربية السعودية مركزًا عالميًّا للاستثمار، لديه اقتصاد أكثر تنوُّعًا، وهذه الزيارة تتيح فرصة لبحث السبل التي تمكِّن للمملكة بالعمل مع حي المال في مدينة لندن من تحقيق هذا الهدف، وتنمية استثماراتها في المملكة المتحدة في قطاعات، مثل البنية التحتية.
واللقاء شهد قوتين ولقاء مملكتين على طاولة التفاهم والنقاش حول ما يدور في المنطقة، ومستقبل المنطقة، ووضع الحلول للحد مما ينتجه العنف والتطرف. المملكتان يهمهما المستقبل والشباب والمرأة ودورها في نهوض المجتمعات، وبريطانيا مهتمة كثيرًا بما يقوم به سمو ولي العهد من جهود جبارة لإحياء مجتمع ينبض بالشباب من رجال ونساء، وهم الشريحة الكبرى في المملكة. زيارة ولي العهد تضمنت اجتماعات مع كبار المسؤولين في بريطانيا، وهو ما يعني أن هناك اتفاقًا على سلسلة من الصفقات الحيوية للاقتصاد في البلدين، تصل قيمتها إلى أكثر من 100 مليار دولار.
زيارة الولايات المتحدة الأمريكية:
في المحطة الثالثة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان كانت أمريكا وجهته التي التقى خلالها الرئيس الأميركي. والعلاقات السعودية الأمريكية ذات طابع استثنائي من حيث نمطها الاستراتيجي، فالكثير من الملفات المشتركة بين البلدين تصنع ذلك العمق التاريخي لهذه العلاقة، الرئيس الأمريكي الذي يبدى ثقته بالمملكة في مسارها الاقتصادي والسياسي الجديد، استمع إلى سمو ولي العهد بكل إنصات، فما تقوم به المملكة في المنطقة يتقاطع والمصالح المشتركة بين البلدين. وكانت هناك لقاءات سياسية، شملت كل المؤثرين في السياسة، بدءًا بالرئيس وأعضاء الكونجرس، مرورًا بالوزراء وأعضاء من الحزبَين الرئيسَين (الجمهوري، والديمقراطي)، ولقاءات صحفية مع أغلب الصحف الكبرى المهمة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولم ينس ولي العهد أن يقوم بتجديد التواصل مع الرئيسَين الأمريكيَّين السابقَين بوش الأب وبوش الابن، وكذلك مع وزير الخارجية السابق جيمس بيكر، من خلال الاجتماع بالرئيسَين والوزير في مقر إقامة الرئيس بوش الأب في تكساس، وقد تصدر الخبر واجهات وسائل الإعلام الأمريكي ليلحق به لفتة إنسانية، تظهر الدور الإغاثي الذي بادر به متطوعون سعوديون، عندما تعرضت بعض المنازل لإعصار (هارفي)، حيث قام الأمير محمد بن سلمان بزيارة لأحد المنازل التي تعرضت للإعصار، وأُعيد بناؤها بجهد إغاثي من سعوديين؛ ليؤكد أن هذا العمل عكَس الصورة المشرفة للسعوديين في تعاطفهم مع جيرانهم، وهو ما كان حديث وسائل الإعلام، كما جاء توقيع ولي العهد على أول قمر صناعي سعودي، مستخدمًا عبارة (فوق هام السُّحب) ليتصدر تغطيات الإعلام المحلي والدولي.
زيارة فرنسا:
أمَّا المحطة الرابعة فكانت فرنسا التي تعدُّ من الشركاء التجاريين الرئيسين للمملكة، حيث تحتل المرتبة 14 في جانب الصادرات، والمرتبة 8 من حيث الواردات، كما ساهمت الاستثمارات الفرنسية مساهمة فاعلة في العديد من المشروعات التنموية في مختلف القطاعات بالمملكة.
وشكلت الزيارة منطلقًا مهمًا للعلاقات التجارية بين البلدين، كما أن الزيارة تعدُّ محطة جديدة من محطات العلاقات المتميزة بين المملكة وفرنسا، خصوصًا على المستوى الاقتصادي، فحجم التبادل التجاري بين المملكة وفرنسا بلغ أكثر من تسعة مليارات دولار، فيما بلغ إجمالي حجم رأسمال الاستثمارات السعودية الفرنسية المشتركة في السوق المحلية نحو 80 مليار ريال، لـ 179 ترخيصًا صادرًا لهذه الاستثمارات، حيث بلغت حصة الشريك الفرنسي من هذه الاستثمارات 39 % بـ 31 مليار ريال.
فرنسا تُصنَّف في المرتبة الثانية برأسمال 31 مليارًا على مستوى العالم بعد أمريكا البالغ حجم رأس المال الأجنبي لها 76 مليار ريال، في حين جاءت ثالثًا اليابان بـ 24 مليار ريال، وبريطانيا رابعًا بـ 13 مليار ريال، وأخيرًا الصين بـ 8 مليارات ريال. ولقد أبرمت الرياض وباريس خلال الزيارة 20 اتفاقية اقتصادية، بقيمة تتجاوز 20 مليار دولار، على هامش زيارة ولي العهد، وكانت من الصفقات المبرمة مذكرة تفاهم بين شركتي الطاقة “أرامكو” و”توتال” لبناء مجمع كبير للبتروكيماويات في الجبيل.
زيارة إسبانيا:
أخيرًا كان ختام الزيارات لإسبانيا التي كانت ختام نجاح زيارات ولي العهد، فالمملكة العربية السعودية وإسبانيا تربطهما علاقات قوية ومتينة تعود إلى أكثر من 60 عامًا، بدأت عام 1957مـ. إن ما يعزِّز علاقات التعاون بين البلدين الصديقين هي الاتفاقيات القائمة بينهما حاليًّا، ومنها: اتفاقية في المجال الثقافي وُقِّعت عام 1404هـ، تشمل التعاون في مجالات: التعليم العالي، والبحوث، وتعليم اللغات، وتشجيع التعاون بين الجامعات؛ واتفاقية أخرى للتعاون في المجال الجوي، وُقِّعت عام 1408هـ؛ ومذكرة التفاهم بشأن المشاورات الثنائية السياسية بين وزارتي خارجية البلدين التي تم توقيعها في مدينة الرياض واحدة من أهم الاتفاقيات الثنائية بين البلدين؛ واتفاقية تشجيع وحماية الاستثمار بين المملكتين.
كما تم تأسيس صندوق استثماري بين رجال الأعمال في البلدين، تصل قيمته إلى خمسة مليارات دولار للاستثمار المشترك في البلدين. ولا ننسى التعاون الثقافي، فقصر المؤتمرات في العاصمة الإسبانية مدريد احتضن أيامًا ثقافية سعودية تحت عنوان:”ألوان من المملكة العربية السعودية”، اشتملت على عروض ثقافية وفنية متنوعة، تعكس مدى أصالة الحضارة في شبه الجزيرة العربية.
كما أن اللجنة السعودية الإسبانية المشتركة عملت على تعزيز ورفع مستوى حجم التبادل التجاري بين البلدين، الذي بلغ نحو 20.85 مليار ريال سعودي، وتمثل الصادرات السعودية إلى إسبانيا 11.07 مليار ريال سعودي، وتمثل الواردات السعودية من إسبانيا 9.78 مليارات ريال وفقًا لإحصائيات 2016، ويبلغ حجم الميزان التجاري بين المملكة وإسبانيا أكثر من 3.5 بليون دولار أمريكي سنويًّا، وتعدُّ المملكة العربية السعودية ثاني أكبر بلد في الشرق الأوسط تصدر لها إسبانيا، بمبلغ 770 مليون دولارً سنويًّا.
أمَّا عدد المشاريع المشتركة فقد بلغ 51 مشروعًا، منها: مشروعان تجاريان، وأربعة تراخيص مؤقتة، و35 في الخدمات، وعشرة في الصناعة، بينما بلغ عدد المشاريع الإسبانية في المملكة 70 مشروعًا، منها 46 مشروع خدمات، و17 ترخيصًا مؤقتًا، وسبعة مشاريع صناعية، وعدد المشاريع الشاملة بلغ نحو 121 مشروعًا، منها 81 مشروع خدمات، و17 مشروعًا صناعيًّا، ومشروعان تجاريان، و21 ترخيصًا مؤقتًا.
المملكة تعمل على الاستفادة من التجربة الإسبانية في مجال التحوُّل الاقتصادي، وتشجيع شركات القطاع الخاص الإسبانية على الاستثمار في قطاع التعدين في المملكة، ورفع حجم التبادل التجاري، وبذل الجهود المشتركة لتوسيع وتنويع المنتجات التجارية المتبادلة بين البلدين، مع العلم أن حجم التبادل التجاري بلغ 270 مليار ريال بين البلدين خلال السنوات العشر الماضية، إضافة إلى التزامهما بدعم المبادرات الجديدة الرامية إلى تحديد الآليات الممكنة لتسهيل التبادل التجاري، وذلك من خلال تشجيع تبادل البعثات التجارية بين البلدين، والمشاركة في الفعاليات الاقتصادية التي تُقام في البلدين، ومبادرات “رؤية المملكة 2030″، وتشجيع الاستثمارات المتبادلة، والشراكة بين القطاعين الخاص والعام، وخصخصة الخدمات، وشركات القطاع العام السعودي، ومساهمة الشركات الإسبانية في المشاريع الضخمة الجديدة.
جولة ولي العهد الخارجية وإقامة تحالفات إقليمية ودولية:
أشار م. أسامة الكردي إلى أن زيارات سمو ولي العهد تهدف إلى بناء تحالفات دولية وإقليمية بغرضين: الأول سياسي لمواجهة تحالف إيران وروسيا وتركيا؛ ومن هنا تأتي زيارة أمريكا وأوروبا ومصر، ولاحقًا العراق، حيث بدأت علامات تطوير العلاقة مع العراق، وفي انتظار ما تسفر عنه الانتخابات العراقية القادمة. أما الغرض الثاني فهو اقتصادي، والمهم فيه توفير وسائل نجاح تطبيق رؤية المملكة 2030 .
وفيما يتعلق بموضوع الاتفاق النووي، فقد أصبح ترامب من أهم أعداء هذا الاتفاق، ودورنا هنا يكاد أن يكون داعمًا فقط بعد أن اقتنعت أوروبا بدرجة عالية بقصور الاتفاق في نقاط عديدة، منها ثلاث مهمة، هي: قصر مدة صلاحية الاتفاق (10 إلى 15سنة)، وعدم شموليته للتفتيش في المواقع العسكرية، وعدم شموليته للصواريخ الباليستية، وهي أهم وسائل إيصال القنابل النووية إلى أهدافها.
وبإمكان المراقب العادي ملاحظة الاستقبال المنقطع النظير لسموه في الدول التي زارها، ويلاحظ في هذا تنوُّع وارتفاع مستوى الشخصيات المهمة التي التقى بها، مستخدمًا سموه الأبعاد السياسية والاقتصادية خلال هذه الزيارة كأدوات لتطوير العلاقات، وقد كانت الرؤية والتطورات التي مرَّت وتمرُّ بها المملكة أحد أهم هذه الأدوات.
في الوقت نفسه، يرى م. حامد الشراري أن زيارة الأمير محمد تتويج لزيارته لأمريكا قبل سنتين تقريبًا، ولتحديث وتفعيل لتلك الاتفاقيات والتفاهمات السابقة بعدما اتضحت الرؤية لتوجهات المملكة المستقبلية التي يقودها سموه بتوجيهات من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، والإصلاحات الجريئة التي اتخذت، منها: الانفتاح الثقافي والاجتماعي المتزن، وبما لا يتعارض مع مبادئ ديننا الحنيف، وإعطاء المرأة فرصة أكبر للمشاركة في صناعة القرار وتنمية الوطن…إلخ. هذه الزيارة المهمة والطويلة إلى أمريكا يرافقه وفد ضخم وعالي المستوى، التقى خلالها كبار المسؤولين، ورؤساء الشركات الكبرى الأمريكية، من ضمنها زيارة مهمة جدًّا لشركات ذات ثقل عالمي في الصناعة والتقنية، ولوادي السليكون الأشهر في صناعة التقنية، والذي يعتبر قلب العالم النابض للصناعات التقنية المتقدمة. خلال تلك الزيارة تمَّ بحث العديد من الملفات الحيوية، والاتفاقيات والشراكات السياسية والاقتصادية والتقنية، منها سبق أن اتفق عليها عند زيارته السابقة، وزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان للولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت تهدف لتعزيز هذه الرؤية واستقطاب الاستثمارات لتفعيلها، وفي مقدمتها جذب الاستثمارات في مجال التقنيات المتقدمة.
هذه الزيارة -بالتأكيد -لن تكون الأخيرة، ستتبعها زيارات أخرى، فسموه هو عرَّاب رؤية المملكة 2030 الطموحة، وإنجازها وإنجاحها لا يمكن إلا بمتابعة تنفيذ الاتفاقيات المرتبطة فيها مع الدول العظمى، والمستثمرين الدوليين، وتذليل الصعاب التي قد تواجه تنفيذها؛ لكونها الاستراتيجية الأهم في تنويع مصادر الدخل، والتحول من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج.
كما أن الجهود الخارجية المباركة والمثمرة التي تقوم بها الحكومة، ممثلة في قائد المرحلة الأمير محمد بن سلمان في اختزال الزمن للإنجاز، تستلزم جهودًا داخلية متوافقة ومتضافرة مع تلك الجهود، من خلال إيجاد بيئات تمكينية محفزة ومرنة، تساهم في حصول المملكة على التقنيات الحديثة وتوطينها، وتفعيل واستثمار تلك الاتفاقيات مع الدول المتقدمة على أكمل وجه.
البعد التقني والصناعات المستقبلية في زيارات ولي العهد:
في تصوُّر د. حامد الشراري، فإنَّ جلَّ زيارات الأمير محمد بن سلمان ولي العهد مرتبطة بالصناعة والتقنية وتوطينها، التي هي إحدى المحركات الرئيسة لاقتصاد المستقبل، وتحقيقًا لرؤية المملكة 2030.
ويُذكر أن توقيع الأمير محمد بن سلمان ولي العهد عبارة “فوق هام السحب” على القطعة الأخيرة التي ستُركب على القمر الصناعي السعودي الأول قبل إطلاقة ليحلق في الفضاء، والذي يمتلك قدرات عالية ومتقدمة للنطاق العريض (Ka-Band) بما يُؤمِّن للقطاعات العسكرية والأمنية والمدنية شبكة فضائية للاتصالات المرئية والإنترنت والهاتف والاتصالات الآمنة، تشمل منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا. هذه العبارة ترددت في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير، وهي مؤشر حقيقي عن البدء في تفعيل رؤية الأمير التقنية المستقبلية؛ النابع من إيمانه بأن عالم الاتصالات وتقنية المعلومات هو المحرك للاقتصاديات المستقبلية، وأحد أذرعة توطينها مشروع المستقبل مشروع “نيوم ” الاستثماري الضخم.
كما أن إطلاق تلك العبارة جاء متزامنًا مع مَنْح هيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية (FCC) أول رخصة لبناء شبكة الإنترنت الفضائي العالمي-خدمات النطاق العريض broadband-لشركة “SpaceX” باستخدام جيل جديد من الأقمار الصناعية ذات المدارات الأرضية المنخفضة، وستستخدم الشركة (4425) قمرًا صناعيًّا وفقًا لخطتها المقترحة في بناء هذه الشبكة.
الثروة المعلوماتية واقتصاد المعرفة في جولة ولي العهد:
ذكر د. خالد الرديعان أن أكثر ما لفت انتباهه في زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة زيارته إلى وادي السيلكون (سان فرانسيسكو)، ومقابلة أساطين الشركات الكبرى “قوقل”، و”مايكروسوفت”، وغيرها من شركات المعلومات المهمة في هذا الجانب؛ وهو ما يعني اهتمام سموه بما اصطلح عليه بالثورة المعلوماتية واقتصاد المعرفة، وكل ما من شأنه نقل المعرفة إلى المملكة وتوطينها.
والمملكة تتقدم في هذا الجانب العلمي والتقني كثيرًا مقارنة بدول عربية عريقة؛ ومما يدل على ذلك أن براءات الاختراع السعودية المسجلة كما في تقرير رسمي أمريكي، بلغت نحو 646 براءة اختراع سعودي، في حين أنها لم تتجاوز ٤١ براءة اختراع لتسع دول عربية، هي: مصر، وسوريا، والجزائر، ولبنان، والأردن، والسودان، والعراق، والمغرب، وتونس، التي يبلغ عدد سكانها مجتمعة 300 مليون نسمة.
المعطيات الاستراتيجية لزيارات ولي العهد إلى الخارج:
ويرى د. سعد الشهراني أن الفترة القصيرة الماضية أثبتت أن سمو ولي العهد يمارس القيادة التحولية في المجالات الثلاثة الحيوية: الأداء السياسي، والتغيير الاجتماعي، والتخطيط لاقتصاد جديد.
الزيارات الخارجية لولي العهد جاءت في هذا السياق، وقدَّم نفسه والمملكة الجديدة للعالم، ولصنَّاع ومتخذي القرار في الدول الفاعلة في النظام الدولي. ولعلَّ أهم المعطيات الاستراتيجية لهذه الزيارات يتركز فيما يلي:
تأكيد وتحديث الشراكات السياسية والاقتصاد والدفاعية مع الدول الغربية، وإعطاؤها دفعة قوية جدًّا للعقود القادمة.
تقديم المملكة للعالم على أنها في مرحلة تحوُّل يَطال كل شيء تقريبًا، مع الحفاظ على الهوية، والمكانة، والقيم، والمصالح الوطنية.
أخذ التعهدات من الشركاء الغربيين بالوقوف مع المملكة في مواجهة التهديدات الإقليمية.
تأسيس الاتفاقيات التي وقعتها المملكة على مبدأ المصالح المتبادلة المشتركة والمتوازنة، وأنها في الاتجاهين، وليست في اتجاه واحد.
أهم الجوانب الأمنية في جولة ولي العهد الخارجية:
في السياق الأمني، يرى أ. محمد الدندني أن المملكة تمرُّ بتحديات، وعلى رأسها إيران ومشروعها الظلامي، المشروع التدميري الفوضوي الذي لا يُؤْمِن بالدولة المركزية إلا لديه، وهو على العكس من مشروع المملكة التنويري لها وللمنطقة؛ لذا فإن ضمان الاستقرار حولنا يساعد في تعجيل مشروعنا الوطني.
وذهب د. خالد بن دهيش إلى أنه قد تمت الإشارة في جميع البيانات للقاءات التي عُقدت بين سمو ولي العهد وقادة تلك الدول على استعراض تاريخ العلاقة والتعاون في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية بينها وبين المملكة، وعمق هذه العلاقة منذ توحيد المملكة. فمثلًا علاقة المملكة مع أهم دولة ذات ثقل في العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، والتي وصفها الرئيس ترامب بأنها صداقة عظيمة وعميقة، ومرتكزة على أسس مشتركة في كافة المجالات، وأنهما يعملان بشكل جدي لوقف تمويل الإرهاب، والحد من المحاولات الإيرانية التفوق في بناء ترسانة من الأسلحة النووية المدمرة، والحد من ترهيبها لدول المنطقة، ومحاولاتها السيطرة من خلال استعراض قوتها في المنطقة، باسترجاع ما سبق أن تحدَّث به بعض من مسؤوليها بأنهم سيطروا على عدة عواصم عربية بالمنطقة، إلى جانب نظرتها الفوقية على دول الخليج العربي.
إنَّ مما يدعم استقرار المنطقة والمملكة بصفة خاصة لتكون دولة جاذبة للاستثمار، هو التخلص من هذه التهديدات والتدخلات الإيرانية في دول المنطقة، حتى تتمكن المملكة من تسخير مقدراتها في بناء اقتصاد يقوم على الاعتماد على تأهيل شبابها وثرواتها في بناء الصناعات النوعية والتقنية، التي تركز على المتطلبات المستقبلية للمنطقة والعالم، والاستفادة من إمكاناتها السياحة والترفيهية، والحد من الاعتماد الكلي على النفط.
لذا فإن التعاون المشترك مع الدول المتقدمة التي زارها سمو ولي العهد في كافة المجلات يركِّز على أن استمرار استقرار أمن المملكة وجيرانها سيزيد من ثقة تلك الدول التي تمت زيارتها بشكل خاص، والعالم بشكل عام، في قوة الجانب الاقتصادي والاستثماري للمملكة؛ مما ينعكس على تحقيق محاور رؤية المملكة 2030: مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر، وطن طموح. فبدون ضمان الأمن والاستقرار، وإزالة المخاوف والتهديدات؛ فإن المملكة ستجد صعوبات في تحقيق رؤيتها الطموحة في الوقت الذي حددته، وربما بمؤشرات أقل من الطموحات.
السياسة السعودية اليوم:
أشارت د.نوف الغامدي إلى أن السياسة السعودية اليوم أصبحت قادرة على إحداث التغيير في إطارين مهمين: داخلي، وخارجي، وذلك بفضل التغلب التدريجي على الكثير من المعوقات والتعقيدات التي كانت تتشكل حول نمطية المملكة وتقليديتها وقيمها المشحونة بطريقة غير مناسبة. في أولى الزيارات الرسمية الخارجية لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، منذ توليه ولاية العهد، اتجهت أنظار العالم إلى هذه الزيارات التي انطلقت من مصر، ثم بريطانيا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وأخيرًا إسبانيا، لتنتهي بالحدث الأقوى محليًّا وعربيًّا ودوليًّا، وهو القمة العربية 2018، والتي أطلق عليها الملك سلمان- حفظه الله – “قمة القدس”. وحقيقة السعودية اليوم تمثل أيضًا محورًا رئيسًا على الصعيد العالمي، ما يمنح “القمة العربية” هذه مزيدًا من القوة. وهذا يعني أن النتائج المرجوة ستظهر في نهايتها، على الرغم من كل المعطيات السلبية التي تسود المنطقة حاليًّا.
واستطاع سمو ولي العهد كسب تأييد الرأي العام الدولي بعد أن أدخل المملكة في مرحلة انتقالية، استحقت التأييد من العالم، والواقع يشهد كيف غيرت المملكة اليوم هذه المفاهيم، فولي العهد الذي يُكسِب المملكة ثقة دولية تعيد المجتمع الدولي إلى التاريخ، وإلى الدور السعودي الذي يستشعر الخطر الدولي الذي تسببه دول مارقة في المنطقة مثل إيران، فها هو العالم كله يؤمن أن السياسة السعودية في هذا الجانب تثبت صحة توقعاتها، فقد رسمت الخطر الحقيقي الذي يتربص بدول العالم كله، إذا ما سمح لإيران أن تنفِّذ طموحاتها في المنطقة، حيث سيكون ذلك خسارة حقيقية سوف تتوجع منها الدول الكبرى قبل غيرها.
لا تفكر السياسة السعودية اليوم بالطريقة ذاتها التي كانت سائدة قبل عقدين من الزمن، فمتغيرات التاريخ تتطلب الخروج إلى أفضل التجهيزات لمعالجة الأبعاد المجتمعية الداخلية والأبعاد الخارجية؛ فعلى المستوى الداخلي يتلقى المجتمع السعودي اليوم- وعبر رؤية 2030- التحوُّلات المجتمعية الضرورية لبناء ونحت الثروة السعودية بتاريخها، وبشقيها البشري والثروة الطبيعية، فالمطلوب في هذه المرحلة معالجة حقيقية لتعقيدات المسارات المتأزمة التي ولدتها التحولات التي شهدها العالم، وهذا باختصار ما يحدث في المملكة، فالتكهنات المشحونة بالقيم غير الدقيقة عن المملكة تنتهي اليوم مع تضامن طبيعي يقود المملكة إلى مركز متجدد لدورها التاريخي.
جولة ولي العهد الخارجية، وتسويق المملكة في مختلف المجالات:
ذهب د. رياض نجم إلى أن زيارات سمو الأمير محمد بن سلمان إلى عدة دول، تختلف من حيث النوع عن الزيارات السابقة في الجوانب التالية، منها: أنها كانت فرصة لتسويق المملكة على أنها دولة لها تراث تاريخي وثقافي وإنساني، ولا تنحصر اهتماماتها في الاقتصاد والسياسة. وكذلك العمل على تغيير الصورة النمطية عن المملكة بأنها دولة نفط، ولا ترغب في الاندماج الثقافي مع باقي الدول، بالإضافة إلى الزيارات التي تمت لكبرى الشركات في التكنولوجيا والطاقة والاستثمار، والاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي وُقعت معها، والتي سيكون لها أكبر الأثر على المديين المتوسط والبعيد، من حيث استقطاب استثمارات أجنبية من هذه الشركات، وتوفير فرص عمل للشباب السعودي.
جولة ولي العهد الخارجية والصورة الذهنية للمملكة:
في اعتقاد د. حميد المزروع، أن المؤتمرات والمقابلات الصحفية التي أجراها سمو ولي العهد كان لها أدوارٌ جوهرية متنوعة في تحسين الصورة الذهنية عند الغرب بشكل خاص، والعالم بشكل عام، بأن المملكة ماضية في إصلاحاتها الاقتصادية والاجتماعية، والانفتاح المتلائم مع قيم المملكة باعتبارها أرض الحرمين. وفِي ظني، تركت هذه الرسائل مضامين إعلامية مؤثرة، وستُحسِّن من نظرة العالم للمملكة العربية وفق رؤيتها، بالإصلاح والاعتدال، وكعاصمة للعالم الإسلامي.
وهو الأمر الذي لفت نظر د. سامية العمودي في هذه الزيارة، حيث إن سمو ولي العهد قام بعمل منظومة من السفراء، فنقل رسائل قوية جعلت العالم يعيد حساباته ونظرته للسعودية، وأزال المفاهيم الخاطئة التي كان الغرب يرانا من خلالها. كما أن تمكين المرأة كان واضحًا، ومشاركتها الفعلية كسرت النمطية المعتادة، وغيَّرت النظرة تجاه وضع المرأة في كافة المحاور، وهذا مكسب كبير يتحقق لأول مرة.
جولة ولي العهد الخارجية والتحوُّل الاجتماعي والثقافي:
أشار أ. محمد الدندني إلى أنه لا يرى استعجالًا في التحوُّل الثقافي للمجتمع السعودي من انفتاح يسميه البعض تغريبيًّا أو ليبراليًّا، حيث إن التحوُّل الاجتماعي مربوط بآليات التغير الاقتصادي، وهو متدرج بطبيعة الأمر، وهو العامل الأهم في تغيير المفاهيم الاجتماعية، وليس التغيير من أجل التغيير. واللافت للنظر في زيارات سمو ولي العهد للخارج هو الجزء التعليمي والفني في الزيارة، وأعتقد أن سمو الأمير يُؤْمِن بأن ركيزة المشروع الوطني هو التعليم، والمملكة كي تستطيع مواكبة التحوُّل والرؤية يجب أن تراعي حجم الاقتصاد ونوعه، مع مخرجات التعليم، وبهذا فقط ينجح المحتوى المحلي.
وهو ما ذهب إليه د. سعد الشهراني، حيث يرى أهمية التأني في التحديث، ونقل الثقافة والقيم الغربية، وإحداث التغيير الاجتماعي والثقافي بأسلوب غير أسلوب الصدمات و(الغصب)، حتى لا تكون مقاومة التغيير عنيفة، وحتى لا يكون هناك فِصام وشرخ بين الدولة والمجتمع، أو بين فئات المجتمع.
التغيير الاجتماعي من أصعب التحوُّلات على مرِّ التاريخ؛ ولذلك لا يجب أن يكون مفروضًا، ولا كثيفًا، ولا شاملًا؛ بل متدرجًا، ومراعيًا للأغلبية الاجتماعية وكافة فئات المجتمع.
بينما د. سامية العمودي لا ترى التأني في التغيير الذي يراه البعض متسارعًا، فطبيعة مجتمعنا وما وصلنا إليه في العقود الماضية تحتم التغيير بالصدمة، وهذا تفرضه الأحداث، ومن التجربة يتأقلم المجتمع أسرع مما نتوقع، ونكتشف أننا تأخرنا.
جولات مستقبلية لولي العهد:
تساءلت أ. مها عقيل عن: ماذا يجب أن يأتي بعد هذه الجولة لتحقيق أهدافها، والعقود التي وُقعت؟ وما هي الدول الأخرى التي ربما على سمو الأمير زيارتها؟ عقَّب على ذلك م. حسام بحيري بأن الاتجاه نحو آسيا مطلوب، خصوصًا أنهم متقدمون في مجالات التقنية والتصنيع، ولا يشكلون أيَّ عبء سياسي على المملكة.
أضاف د. حامد الشراري أنه سبق أن قام سمو الأمير محمد بزيارة إلى الصين -ثاني أكبر اقتصاد في العالم- نتج عنها إنشاء لجنة مشتركة سعودية صينية رفيعة المستوى، وتوقيع 17 اتفاقية متنوعة لتعزيز وتعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، من ضمنها: تعاون في مجالات الصناعة والتعدين والتقنية، وقرض تنموي للمساهمة في تشييد عدد من الكليات المهنية هناك.
وقد يكون من المناسب أن يكون هناك اتجاه إلى الهند، وعمل اتفاقيات تركز على توطين التقنية الناعمة (البرمجيات) بوجه خاص، وعقد اتفاقيات مع الشركات والمعاهد التقنية المتقدمة هناك، مثل IIT في مدينة بنجلور الهندية. الأهم متابعة تنفيذ الاتفاقيات واستثمارها على أكمل وجه، وهو ما اتفقت معه فيه أ. مها عقيل.
¤ الملخص التنفيذي:
القضية: جولة ولي العهد.. شركاء الرؤية 2030 والمحيط الجيوسياسي المضطرب.
تناولت الورقة الرئيسة التي قدمها أ.عبد الرحمن الطريري جولة ولي العهد الخارجية إلى مصر، وبريطانيا، وأمريكا، وفرنسا، وإسبانيا؛ والتي حملت العديد من الرسائل إلى العالم، في مقدمتها: أن الدائرة الأولى للأمن السعودي هي الدائرة العربية، وأن التنمية والاستقرار في الشرق الوسط لا يتحققان دون القضاء على الإرهاب ومسببات ظهوره، وهو ما يجعل من التصدي للمشروع الإيراني ضرورة.
وذهب أ.عبد الرحمن إلى أن جولة ولي العهد حققت العديد من المكاسب السياسية والاقتصادية؛ فعلى الصعيد السياسي، ظهر أن من المكاسب المهمة: تعزيز الشراكة والحلف الاستراتيجي بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية، وترسيخ العلاقة بينهما، وكذلك بين المملكة والدول الأوروبية التي تمت زيارتها، خاصة فيما يتعلق بتقريب وجهات النظر حول التدخلات الإيرانية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فقد تم تغيير بوصلة الدعم السعودي المباشر لمصر إلى استثمارات وإقامة مشاريع تنموية. بالإضافة إلى جلب المستثمرين الأجانب، وعقد شراكات اقتصادية مع الدول التي ترغب في أن تسهم في الإفادة من مشاريع 2030. كما برز الجانب السياحي والثقافي والترفيهي كمجال جديد للاستثمار في المملكة.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة في تميز جولة ولي العهد بالتكثيف الشديد في النشاطات والفعاليات والاجتماعات، وتنوعت النشاطات بين السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي.
ورصدت المداخلات التي دارت حول موضوع الورقة أهم المكاسب التي حققتها جولة ولي العهد الخارجية، حيث جاء في مقدمتها: إقامة تحالفات دولية وإقليمية؛ بغرضين: سياسي لمواجهة تحالف إيران، وروسيا، وتركيا. واقتصادي، والمهم فيه توفير وسائل نجاح تطبيق رؤية المملكة 2030.
إن معظم زيارات ولي العهد الخارجية مرتبطة بالصناعة والتقنية وتوطينها، التي هي أحد المحركات الرئيسة لاقتصاد المستقبل، وتحقيقًا لرؤية المملكة، بالإضافة إلى الاهتمام بالثروة المعلوماتية واقتصاد المعرفة، وكل ما من شأنه نقل المعرفة إلى المملكة.
واستعرضت المداخلات كيف أن ولي العهد نقل صورة المملكة الجديدة إلى العالم، وأن المواطن السعودي أصبح يعيش حياة طبيعية، وقابلًا للتعايش والتفاهم والتعاون مع الآخرين، وأكثر قبولًا للاختلاف والتعدُّد والتنوع، وجاهزًا لاستقبال السائحين، والترحيب بالمستثمرين من الشركات الكبرى والناشئة.
وذهب البعض إلى أن ولي العهد طرق خلال جولته ثلاثة محاور في مقارباته حول مستقبل التنمية والرؤية، تلخصت في: رؤيته للإمكانيات والثروات الكامنة في المملكة، والتخصيص واقتراب طرح النسبة المُعلن عنها مع أرامكو، وكذلك صندوق الاستثمار المزمع إنشاؤه وموجوداته التي ستصل إلى 2 تريليون دولار.
المشاركون في مناقشات هذا التقرير:
(حسب الحروف الأبجدية)
- د. إحسان أبو حليقة.
- م. أسامة كردي.
- أ. أسمهان الغامدي.
- د. الجازي الشبيكي (رئيس الهيئة الإشرافية لملتقى أسبار).
- د. حامد الشراري.
- م. حسام بحيري.
- د. حميد المزروع.
- د. حميد الشايجي.
- د. خالد الرديعان.
- م. خالد العثمان.
- د. خالد بن دهيش.
- د. راشد العبد الكريم.
- د. رياض نجم.
- د. ريم الفريان.
- د. سامية العمودي.
- د. سعد الشهراني.
- أ. سمير خميس.
- د. عبد الرحمن الطريري.
- د. عبد العزيز الحرقان.
- د. عبد الله بن صالح الحمود.
- أ. علياء البازعي.
- د. عبير برهمين.
- أ. عبير خالد.
- د. فهد الحارثي.
- د. فوزية البكر.
- أ. محمد الدندني.
- د. محمد الملحم.
- د. محمود رمضان (مُعِدّ التقرير).
- د. مساعد المحيا.
- د. مشاري النعيم.
- أ. مها عقيل.
- د. نورة الصويان.
- د. نوف الغامدي (رئيس لجنة التقارير).
- هادي العلياني.
- د. وفاء الرشيد.
- د. يوسف الرشيدي
تحميل المرفقات: التقرير الشهري 37