الثقافة الوطنية بين النخب والجماهير
الورقة الرئيسة
* د.عبدالسلام الوايل *
لا يخل موضوع قضية هذا الأسبوع، رغم بساطته الظاهرة، من تعقيد مفاهيمي. والتعقيد يظهر في كلمات العنوان. و إن كان مفهومي “النخب” و “الجماهير” أكثر مفردات العنوان تعالياً أو “نخبوية” فإن التعقيد حقيقة يكمن في المفهومين الأكثر شيوعاً، أعني “الثقافة” و “الوطنية”. وسأحاول تقديم “تحرير” سريع لهذين المفهومين تمهيداً لخوض الموضوع.
فبينما يحيل التداول اليومي في لغتنا العربية لكلمة “الثقافة” لنتاجات نخبوية، فإن المعنى الأنثروبولوجي يدمج داخل دائرة هذا المفهوم طائفة واسعة من أوجه حياة الشعب تكاد تشمل كل جوانب الحياة من فنون و أدب و معمار و أزياء و طبخات و أساليب تفاعل و خلافه. الثقافة، وفقاً لهذا المنظور، تشمل كل ماطوره الإنسان زيادة عن حالته الفطرية. و لئن كان إشباع الجوع عبر الأكل أمر فطري للكائن الحي، فإن نوعية الأكل و طرق إعداده و تناوله أمور ثقافية بحتة.
أما المفهوم الملغز الآخر، فهو “الوطنية”. و مرجع التباس هذا المفهوم هو قلق مفهوم الدولة الوطنية، أو الدولة-الأمة Nation-State، في تناولاته اليومية لدى سائر أهل لغة الضاد. فبرغم مرور مايقارب القرن على قيام الدول الوطنية في عالمنا العربي إلا أن هذا المفهوم لم ينجح بعد في تعيين حدوده في المخيال العام ليميز نفسه عن الاشكال السابقة له، كالنماذج الإمبراطورية المتحققة في الدولة العثمانية و ماقبلها. و لذا، فإننا حين نذكر “الوطنية” فإننا نستعمل مصطلحاً له حدوده الدقيقة التي يجب أن تميزه عن غيره من المصطلحات الدالة على أشكال مختلفة من التنظيم السياسي.
و بناء على ماسبق، فإن قضية هذا الإسبوع يُفترض أن تشمل مختلف أساليب الحياة التي يتصف بها الشعب السعودي من منظور كل من النخب و الجماهير. و تبيّن الاختلافات بين المستويين.
يُلاحظ في هذا السياق أن النخب السعودية، على اختلاف أنواعها و مشاربها و أطرها الفكرية، تتعالى بشكل ما على أنماط ثقافية جماهيرية. نستطيع أن نعدد أوجه الثقافة السعودية لدى النخب. إنها الخطاب الديني المميز للحالة السعودية و اللباس و بعض الرقصات و أغاني المطربين الذين نراهم في افتتاحيات الجنادرية و آلة العود و أشعار فصيحة، استطاع خلف بن هذال وحده فرض نفسه كشاعر شعبي ضمن هذا النادي، و النتاجات الأدبية الرفيعة من رواية و قصة. الأشكال الأخيرة، و التي ينصرف إليها الذهن عادة حين ترد كلمة “ثقافة”، نخبوية بشكل مؤسسي، فهي عماد أنشطة المؤسسات الثقافية، كالنوادي الأدبية و جمعيات الثقافة و الفنون.
لكن وسائل التواصل الجماهيري حملت معها ثقافة الجماهير و صدّرتها و فرضتها. فالأدب الشعبي و الشيلات و الربابة و الاعتزاز بتربية الجمال و بعض لزمات اللهجات المحكية و حتى الصعود المؤزر للعناصر التقليدية للمائدة السعودية، كلها عناصر ثقافية لطالما تعالت عنها المؤسسات الثقافية و نجدها اليوم قادرة على فرض نفسها كسمات للثقافة السعودية. من الطريف في هذا الشأن رؤية فناني شوارع في مدن غربية ينجحون في جني المال من خلال الرقص على انغام شيلات و أغان لمطربين شعبيين. هذا تعبير عن أن الجماهير قدرت على فرض تصوراتها لما ترى أنه أهم السمات الثقافية السعودية.
لذا، فإن مؤسساتنا الثقافية مدعوّة لإدماج طيف واسع من الاشكال الثقافية و منحه المشروعية و المنصة اللائقة به ليقدم نفسه كأشكال ثقافية تلقى اعترافا مؤسسيا.
التعقيب
* د.زياد الدريس *
تعقيب على قضية (الثقافة الوطنية بين النخب والجماهير)
أشكر الصديق د. عبدالسلام على ورقته القصيرة لكن المكتظة بالمفاهيم والتساؤلات المعرفية العميقة.
انشغل د. عبدالسلام بتعريف وتحديد المفاهيم الأربعة المتراصة في العنوان القصير، وقد راق لي كثيراً انحيازه في تعريف (الثقافة) إلى الاختيار الذي لا يحبذه المثقفون، لأنه يفقدهم شيئاً من فخامتهم(!)، وأعني به التعريف الواسع والرحب للثقافة بأهازيج الإنسان وفنونه وتقاليده وطبخاته، وهذا بالمناسبة هو التعريف الذي اختاره وأشاعه الباحث الفرنسي الشهير كلود ليفي ستراوس، منتصف القرن الماضي، وارتكز في بنيته على ترميزة: النئ والمطبوخ.
(بالمناسبة، فقد اعتمدت منظمة اليونسكو تعريف شتراوس للثقافة عند إعدادها للائحتي صون التراث العالمي: المادي وغير المادي (الشفوي).
من جهتي، سأنشغل قليلاً بمحاولة تعريف النخبة، المتحوّل، إذ في كل عصر وحقبة لا بد من إعادة تعريف (النخبة).
ففي عصور الازدهار العلمي والمعرفي تكون النخبة هي العلماء والمفكرون، كما هو حاصل في عصور النهضة الإسلامية أو الأوروبية. وفي العصر الذي تهيمن فيه الرأسمالية بنفوذها الطاغي كما لمسناه في العقود الأخيرة تكون النخبة هم رجال الأعمال ورؤساء الشركات الكبرى. والآن، ونحن في عصر وسائط التواصل الاجتماعي، توشك (النخبة) المؤثرة أن تكون من لديهم حساب فعّال في «تويتر» و «فايسبوك» و «يوتيوب».
إذاً فالنخبة ليست دوماً حكراً على (المثقفين)، كما نزعم ونأمل!، خصوصاً عندما يتبدّل مفهوم النخبة في المجتمع.
تعريف (النخبة) يتأثر بعامل آخر، غير الأهمية القيمية، هو عامل القوة والنفوذ. ما الذي يجعل المثقف نخبوياً إذا كان سيكون أقل تأثيراً وتغييراً للمجتمع من قدرة شاب “تويتري” على التغيير؟!
رأي آخر وأخير حول ماهية النخبة، لا يرى أنها هذا ولا ذاك، لأن العولمة حين كسرت هيبة السلطات الأبوية (سلطات الأب والحاكم ورجل الدين والمعلم) لم تترك للنخبة أيضاً هيبتها التي كانت لها، ولم يعد المجتمع قادراً على تقبّل وجود نخبة من المجتمع تعلو فوقه وتطغى عليه.
لا شك أن العولمة ونواتجها من الثورة الاتصالية قد ساهمت بشكل كبير في كسر هيبة النخبة، وأوشكت أن تجعل الجماهير هم النخبة المؤثرة، أما من كانوا يصفون أنفسهم بالنخبة فقد تحولوا الآن إلى متفرجين!
وبذا لم يعد إنتاج (الثقافة الوطنية) حكراً على فئة محددة من المجتمع، تصنعها وتنتجها وتحميها من (الاختلاط) الشعبوي، كما ألمح د. عبدالسلام في ورقته، بل أصبحت تمثّلات الثقافة الوطنية مشاعة، (لا أريد أن أقول: لمن هبّ ودبّ، فهذه لغة استعلاء ثقافي مجردة من السلاح الآن!)، بل مشاعة لكل من يصنع نتاجاً يندرج تحت التعريف الثقافي الفضفاض. ولأجل هذا فإن الحدود بين الثقافات الوطنية للشعوب في هذا العالم الجديد قد تضاءلت، وستزداد تضاؤلاً مع الأيام بسبب التقارب السيبري بين الشعوب، مما يخلط السمات الثقافية بين الشعوب بعضها البعض، فلا تعود الحدود الجغرافية حامياً لخصوصيات الثقافة الوطنية. وعندها سيُصبِح الحديث عن (ثقافة وطنية) أشبه ما يكون بعزلة أو غيتو نشاز.
لا شئ يمكن أن يحمي خصوصية الثقافات الوطنية من الانقراض سوى النزوع المتنامي والمفاجئ لدى الشباب الجديد بالعودة إلى (الهويات الصغرى) والانغماس في ما تبقى واْستُعيد من سمات الشخصية الوطنية، زيّاً ومأكلاً وأهازيج، عناداً لديكتاتورية العولمة في جعل العالم والنَّاس متشابهة!