” الشباب والابداع …من أين نبدأ “
الأحد 9 / 2 / 1439
الموافق 29 / 10 / 2017
الورقة الرئيسة
د.زينب إبراهيم
مدخل ..
بما أننا نعيش في هذه الحياة أدواراً مختلفة وأحياناً مختلطة على أمل انتظار القادم الأجمل فكلنا (بانتظار غودو) الذي لا يأتي ، نظل ننسج الآمال والقصص والحكايات في فصول حياتنا بانتظار هذا الغامض الذي سيأتي ومعه خلاص لمشكلاتتا ، باعتقادي أن (غودو) هم الشباب المبدعون حيث يعيش داخل كل مبدع درجة من الشغف بانتظار شيء ما ، وهذه الدراما الإنسانية كفيلة بأن تدفعنا للأمام في الحياة .
قرأت ذات مرة أن سقراط كان همّه اليومي هو التساؤل فقد كان يلقي أسئلة لا تنتهي على كل من يقابلهم ، فهو يسعى إلى أن يتعلم من الآخرين ما كان يزعم أنه تعلمه ، وهنا عدم ركونه إلى وجهة واحدة في التعاطي مع البحث الخلاق عن أجوبة لأسئلته الكثيرة عن الحياة جعلته مختلف ، فبداخله إنسان مبدع لا يهدأ ، وهذا ما يجب أن نفعله ، وهو تهيئة الفرصة للشباب المبدعين وعدم سجنهم وتقييدهم بقوانين المجتمع وبالأحكام المسبقة .
ومن خلال هذه المقدمة التي تحدثت عن ظروف الشباب ومايجول بداخلهم وان كان شيئا موجزا إلا أنه يوضح طرحاً عاماً عن آمال وآلام شباب الغد ، ولأن عنوان القضية قد أتى بصيغة سؤال متمثلا بعبارة مباشرة وهي:
بين الشباب والابداع …من أين نبدأ ؟.
نبدأ من ابداعات الشباب من ناحية ( الفرق بين الابداع والعبث ) حيث تقاس الدول المتحضرة بمدى اهتمامها بالشباب ، فهم ثروة الوطن والذراع الثالث للتنمية في البلد ، فالشباب مساهمتهم كبيرة في رقي مجتمعاتهم وتطورها ، والشاب المبدع هو الذي لديه القدرة على النظر للأمور بطريقة مختلفة، ورؤية مغايرة ، من أجل البحث عن حل للمشكلات بطريقة مبتكرة وجديدة ، منطلقاً من مكونات الابداع وهي العمل الإبداعي ، والعملية الإبداعية ، والموقف الإبداعي ، بمعنى التعامل مع الأشياء المعتاد عليها بطريقة غير عادية ، والمجتمع هو ما يعزز هذا الأبداع ويستفيد منه.
والشباب المبدع الرائد في أعماله وابتكاراته في مختلف المجالات الإبداعية ، سواء كانت علمية ، ثقافية ، اقتصادية ، اجتماعية ، رياضية ، يحتاج إلى من يحتضن و يهتم بإبداعه أياً كان .
قرأت ذات مرة أن الفنان الاسباني “سلفادور دالي” كان يعمل لأيام دون نوم ، ثم ينام لأيام أو حتى أسابيع ، كان أحياناً منتجاً وأحياناً أخرى كان يبيت بياتاً شتوياً فقط ولا يفعل شيئاً ، ولو أخضعنا “دالي” إلى المعايير الاجتماعية التي نحكم على الشباب من خلالها ، وطلبنا الحكم عليه من خلال سلوكه سيقول البعض إن طريقته في التعامل مع نفسه فاشلة ، وسيتساءل كيف يبدع وهو لا يستغل وقته جيداً ، ولكن الحقيقة أن دالي كان متفهماً لنفسه جيداً ، وعندما تدق لحظات الإبداع ، يبدأ بالعمل في الوقت الذي تشتهيه نفسه دون وضع أي اعتبارات ، فهو يفهم نفسه ، ويفهم متى يحتاج أن يعمل ، ومتى يحتاج أن يرتاح ، هنا يأتي فهم المبدع الشاب لذاته وكيف يطرح نفسه في بورصة الابداع .
ونلاحظ أن هناك خلط بين الابداع الحقيقي والعبث ، فالإبداع الحقيقي هو انعتاق من كل شيء إلا المعنى ، والعبث يخلو من المعنى وإن كان محركه الرغبة الإبداعية ، فهو ينطلق من طاقة بلا هدف ، أو طاقة لا تجد أفقاً حقيقياً لتحقيق المعنى .
احياناً يكون العبث مقيد بقيود أخرى ليس منها قيد المعنى ، وهذا يقودنا الى سؤال آخر ، ما هو المعنى؟ فالمعنى هو: إنطلاق من تصور أفضل للعالم وحياة الانسان .
فشخصية الشاب العميقة أقرب للأبداع ، والشخصية السطحية أقرب للعبث.
فالإبداع يحتاج الى عقول مستقلة وقادرة على التفكير والخروج من الصندوق والجرأة في الطرح ، أما العبث ينشأ نتيجة التبعية في التفكير واستسهال الأمور وعدم المسؤولية.
مثلاً: التفحيط عند مزاوليه إبداع ، ولكن حقيقته عبث لأنه يفتقد المعنى ، وكذلك ما نشاهده في السوشيال ميديا وأي نشاط مشابه ، يغيب الابداع ويسود العبث إذا لم نكن قادرين على الابداع الأصيل المشبع بالجمال.
والواقع أن هناك تحديات كثيرة (ماذا نستطيع أن نفعل) ، وعوائق تحول بيننا وبين الاستفادة من الشباب المبدعين ، واجمل هذه التحديات بالآتي :
1- تحديات تنظيمية:
التي تبرز من خلال غياب السياسات والاستراتيجيات والخطط العامة المتكاملة التي تهدف إلى تطوير منظومة المبدعين ، وعدم وجود تشريعات في النظام ، واختلاف الاهتمامات والأولويات وخاصة بين جهات التشريع وجهات التنفيذ ، وعدم وضع أنظمة خاصة بالإبداع ، واعتماد الاستراتيجية للمبدعين ، وإنشاء هيئة وأكاديمية للمبدعين.
2- تحديات مالية واقتصادية:
تتمثل في ضعف المردود المالي من الابداع وعزوف القطاع الخاص عن الاستثمار في المبدعين ، وغياب الحوافز للمبدعين.
3- تحديات اجتماعية:
العادات والتقاليد وسلطة القبيلة ورسم هالة فاشلة أمام صورة الاسرة وأسمها ، كذلك الفجوة الكبيرة بين جيل الآباء والأبناء ، فاختلاف طريقة التفكير والتعامل مع المستجدات مختلف.
4- تحديات نفسية:
تجنب المخاطرة ، الخوف من تجربة شيء جديد.
وأمام كل هذه التحديات نطرح سؤالاً ، ماذا نستطيع أن نفعل؟ ،
نحن نستطيع أن نفعل الكثير لمواجهة هذه التحديات وأوجز بعض الحلول كالآتي:
1- توفير الدعم بمختلف اشكاله من المعنوي والمادي إذا كنا فعلا جادين ومؤمنين بإبداعات الشباب وانطلقنا للعمل بدلا من التنظير فحسب.
2- التدريب والصقل المهني والأكاديمي.
3- التشجيع والتحفيز بمختلف اشكاليهما وتبني الطاقات الإبداعية المميزة.
4- في أسوأ الأحوال يجب ان لا نكون نحن كمجتمع حجر عثرة في طريق الابداع الشبابي “هذا بالنسبة لمن لم يستطيع توفير الدعم”.
5- رفع قيمة العلوم الإنسانية والآداب ، ومنح بعثات في هذا المجال بقدر ما نحتاج الى الابتعاث للجامعات المتقدمة لدراسة الهندسة والعلوم الطبيعية والطب .
وبناء على ما سبق ، نحن نعلم أن شبابنا يمتلكون من الطاقات والابداعات ما يؤهلهم للوصول للعالمية ، ولكن ماهي فرص الابداع التي أمامهم ، بمعنى (ماذا يحتاجون -وماذا نريد منهم) .. هذا السؤال كبير بحجم طموحنا نحوهم ونحن نعلم أن الاهتمام بالشباب المبدعين هو اهتمام بالإنسان باعتباره قيمة عليا بالمجتمع له الدور الكبير في بناء الوطن وتطوره.
لذلك يحتاج الشباب المبدعون منا الآتي:
– يحتاج المبدعون إلى رعاية تمكنهم من تنمية طاقاتهم وهذا يتطلب وجود خدمات متكاملة تتجه إلى اكتشاف المبدع وتطويره.
وهذه الخدمات هي:
– إقامة مسابقات دورية أو معارض علمية خاصة بالمبدعين نستطيع من خلالها معرفة ، المبدعين واعمالهم الابداعية.
– تشكيل لجنة من المختصين في النواحي العلمية ومن البارزين ، مهمتها تقويم العمل الإبداعي لدى المبدعين الشباب في مختلف المجالات.
– افتتاح اكاديميات للمبدعين في جميع المجالات
– إعداد برامج هادفة لكي تشبع في الشباب المبدع رغبة حب الاستطلاع.
– تنمية شخصية المبدع من خلال رعايته والعناية به ، وتوفير الخدمات النفسية والتربوية والصحية والاجتماعية.
– وجود صحافة خاصة بالشباب ، تنقل كل المستجدات من كل مكان من أجل مساعدة المبدعين في مواكبة ما يجري حولهم ، وكذلك وجود مجلات علمية يساهم المبدعون في الكتابة فيها.
– الحرية في إبداع ما يرونه مناسباً لهم ويعود على المجتمع بالفائدة.
– الحاجة للتعبير الابتكاري.
– الحاجة إلى الانتماء.
– الحاجة إلى المنافسة.
– الحاجة إلى الشعور بالأهمية.
– استثمار ابداعاتهم وتوظيفه،
والحياة لكي تستقيم لابد أن تكون تبادلية ، فلك حق وعليك حقوق .
لذلك يأتي دورنا وحاجاتنا تجاه هؤلاء الشباب ، فماذا نريد من المبدعين؟ نحن نريد منهم ما يتوافق مع حاجة المجتمع وما يتناسب مع قدراتهم كالآتي :
1- توظيف طاقاتهم توظيفا إيجابيا نحو الابداع والجهد الخلاق.
2- تحمل مسؤوليتهم نحو مجتمعاتهم.
3- احساسهم بأهمية ما يقومون به لمستقبلهم ومستقبل اوطانهم.
4- العمل الجاد المواكب للتطلعات والآمال.
5- عدم الاستسلام للمعوقات والعقبات التي قد تعترضهم رغم الجهد لتوفير ما يلزم.
6- السعي للتغيير البناء والانعتاق من الأفكار النمطية العميقة.
وختاماً..
من حق الوطن أن يستفيد من إبداعات الشباب ويجني من خيراتهم ، كما أن من حق الشباب المبدع على وطنه أن تهيء له الأسباب والبيئة الصحية ليبدع وينتج ، ومن حقنا كمجتمع الاستمتاع بأي إبداع من شبابنا، فهذا يعزز من الانتماء لدى الجميع وهو بمثابة رابطة وعهد بين الشباب المبدع و بين مجتمعه.
تعقيب:
د.نوال عبدالله الضبيبان
كل الشكر والتقدير للدكتورة المبدعة زينب ابراهيم على هذا الطرح الشيق والأصيل لموضوع الابداع والشباب لما له من أهمية ملحة، متجددة وغير محدودة خاصة وان 70% من المجتمع السعودي من فئة الشباب تحت سن 30 وهو عمر الفتوة والانجاز، بحسب ما أشار ولي العهد الامير محمد بن سلمان في اخر تصريح له قبل أمس بمنتدى مبادرة مستقبل الاستثمار بتاريخ 24/10/2017م. علما ان الابداع ليس له سن معين ولا جنسية محددة ولا ميعاد، ولا يعترف بالفوارق الاجتماعية أو الاقتصادية، ولا يخضع لحدود الزمان أو المكان، ولا ينتقي او يصطفي أحدا دون غيره من تلقاء نفسه إذ أنه حالة خاصة وفريدة، تتلبس انسانا- ما- فتحيله الى إنسان متجدد ومتفرد في عطائه وافكاره وانجازاته وخدماته للمجتمع. وهي ثروة إنسانية تسعى الدول المتقدمة لاقتنائها واستقطابها من جميع بقاع الأرض.
والإبداع قرار ذاتي وهذا خلاصة أبحاث عديدة قمت بها ابتداء من رسالة الدكتوراه والتي كان موضوعها
Exploring the Relationship Between Self-regulation and creativity. وكانت الدراسة الأولى عام 2005م في محركات البحث العالمية والتي تناقش موضوع الابداع من جانب متفرد واصيل بعكس النمط المشاع في ذلك الوقت ودخلت فيها عدة مسابقات في أمريكا ومتواجد نسخ منها في جامعة الباما، امريكا وجامعة هون كونك، الصين.
كما أن الشكر موصول لسعادة الدكاترة الافاضل د. عبد الله الحمود والدكتورة هند الخليفة ومديرة الحوار الدكتورة فوزية البكر.. نفع الله بكم جميعا..
مما لاشك فيه ان قضية الابداع والشباب قضية هامة وحيوية للغاية لأن الابداع طاقة فطرية ذكية تميز بين الافراد والمجتمعات وهي لا تنضب ولا تفنى او تزول فهي باقية ببقاء الانسان. اوجدها الخالق عزوجل في النفس البشرية لعمارة الأرض ولمزيدٍ من التمتع ببهجة الحياة وروعتها.
يقول (هارول أندرسون) في الابداع: في كونه عمليّة إنتاج تشهد كلّ لحظة من لحظاتها ولادة جوهرة ذات قيمة آنية، ليس ذلك فحسب بل تكمن الأهميّة في كون الإبداع ضرورة من ضرورات الحياة.
وجدت الموهبة والابداع لتكون مقياساً للتنافس بين الأفراد والعقول والدول، وإلى تحقيق أعلى درجات التمدن الإنساني والسيطرة بين الدول، وبلوغ ذلك حقيقة قد لا يدركها إلا فئة محدودة ومتميزة في المجتمع بحوالي 2% من افراده فقط وهي تخدم وترتقي بباقي 98% من المجتمع وهذه النخبة الذين يتربعون على قمة “هرم ماسلو” لخدمة مادونهم وهي التي تحمل هم الامة على عاتقها.
هذه الموهبة نعمة من الخالق عز وجل وهبها عباده لتكون أمانة فيصقلها وينميها سواء كان الفرد او الاسرة او المجتمع، فهي قدرة بشرية طبيعية وطاقة متجددة متطورة وذات قيمة متميزة بحق. ومن هنا يظهر التمدن والتحضر الحقيقي واحترام وجود الانسان والتعامل معه كثروة لا تقدر بثمن بالتمييز بينهم بحسب ابداعاتهم وقدراتهم وخدماتهم لمجتمعاتهم وللإنسانية.
الموهبة تفوق في الحواس والإدراك العقلي إلى حد الابتكار والاختراع ونسج ما يتكون في العقل الباطني من صور وخيالات وطموحات جريئة يقوم الموهوب بتجسيدها في الحقيقة وخلقها حتى تتكون صورة ملموسة ومحسوسة مما يراه في عقله ويشعره به في داخله. وهنا يظهر دور المجتمع والذي يتمثل باحترام وتقدير هذه الإمكانيات وإتاحة الفرصة لرعايتها ودعمها وبلورتها… وكم وكم من متميزين وموهوبين ومبدعين هاجروا وتركوا أوطانهم خلفهم بكل الحسرة والألم حيث انه كان لاخيار لهم غير ذلك، بسب عدم احترامهم او الثقة فيهم كما ينبغي!؟ لإظهار ابتكاراتهم واختراعاتهم التي من المتوقع ان تمر ببعض مراحل الفشل والتأخر حتى تنضج…
فالموهبة خلط بين الإدراك الحسي والمعنوي والعقلي تحتاج من يرعاها وينميها لأنها لا تورث ولا تكتسب فقط بل هي خليط من كل شي بشكل متفرد تختلف نسبته من انسان لأخر…
وما خلصت اليه بعد سنين طويلة من التفكر في ماهية الابداع وكيفيته وكيف نكتشفه وننميه الى ان الابداع قرار ذاتي … لكل من أراد ان يستخدمه ويوظفه…. هذا وبصرف النظر عن مستوى الذكاء او عمر الانسان او نوعية التعليم الذي يتلقاه الفرد.. فهم نخبة نادرة وقليلة ومتفردة وهي التي تقود المجتمعات في الدول المتقدمة كل بحسب مجاله او تخصصه..
ويقول وليام براون” لا تقل أنا فاشل، بل قل كانت محاولة فاشلة.. فالفشل حدث وليس شخص”
والمبدع بحق هو من يسعى للأبداع والتميز كإثبات للذات والوجود وكمشاعر فطرية وجب تفريغها واحترام لذاته ومجتمعه ولمن يحيط به من البشر…
نعم كلنا تواجهنا العقبات والسلبيات والاحباطات في حياتنا ولكن في الاغلب الاعم نحن ننعم بنعم عظيمة والاء جسيمة وجب شكر الله أولا على هذي النعم من خلال خدمة وعمارة الارض واثبات الوجود بأعمال الحب والخير والنفع والرخاء للذات وللأخرين (واما بنعمة ربك فحدث). والله عزوجل له المثل الأعلى في الابداع والتفرد (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) .
لذا نجدها فطره إنسانية في شخصياتنا وكل ما علينا إخراجها واستثمارها في الواقع بجد وصبر واجتهاد….
وللإبداع دوافع عديدة ذاتيّة داخليّة وبيئيّة خارجيّة وماديّة ومعنويّة واكثرها اصالة وصدقا ورسوخا من كانت دوافعه ذاتية ومعنوية متخطيا بها احباطات وعوائق مجتمعه وعالمه. ونقلاً عن رويتر في دراسة أجريت على 300 مليونير والتي كشفت عن أنّ 40% منهم يعانون من صعوبات التعلم مثل القراءة (الديلكسيا) وهذا لم يعيقهم من التقدم والتميز الاقتصادي المذهل.
ونتائج الدراسات والأبحاث تؤكد ان الإبداع على مستويات شتى، منها البسيط الذي يقدر عليه الكثير من الناس، ومنها المتوسط الذي تقدر عليه قلة من البشر، ومنها العالي الذي ينتجه العباقرة.
وهي من أهم الصفات الإنسانية التي تغير تاريخ الدول، فالمجتمع لا يمكن تغييره تغييراً نوعياً عبر التخطيط، بل عبر أعمال المبدعين.
يشير “كونانت conant “فيقول : ” إن عالماً واحداً لا يعوضه عشرة رجال، وبحسب ما يشير ألكس أوزبون ان :كل الناس قادرون على التفكير إبداعياً إذا لم يتم منعهم من ذلك بالتربية والتعليم!!!
ومن أولى مراحل الابداع العصف الذهني Brain strome والمراد به إتاحة الفرصة للإنسان كي يفكر بعيداً عن أي ضغط أو مؤثر سلبي أو قوالب مجتمعيه ، ليُخرج كل ما عنده بطلاقة تامة ودون قيود … والهدف هو كشف الإبداع الكامن ، وإظهار حساسيته وحله المبدع للمشكلة التي لا يشعر بها الانسان النمطي.
والعصف الذهني الذي قد يأتي بنتائج باهرة لكنها غير متوقعة، وغير منسجمة مع الأساليب المألوفة والمتعارف عليها.
واليكم هذه القصة الحقيقية…. في امتحان الفيزياء في جامعة كوبنهاجن بالدانمارك، جاء أحد أسئلة الامتحان كالتالي: كيف تحدد ارتفاع ناطحة سحاب باستخدام الباروميتر (جهاز قياس الضغط الجوي)، كانت الإجابة الصحيحة: هي بقياس الفرق بين الضغط الجوي على سطح الأرض وسطح ناطحة السحاب.
إحدى الإجابات استفزت أستاذ الفيزياء، وجعلته يقرر رسوب صاحب الإجابة بدون قراءة بقية إجاباته على الأسئلة الأخرى.
كانت الإجابة المستفِزّة هي: نقوم بربط الباروميتر بحبل طويل، وندلي بالخيط من أعلى ناطحة السحاب حتى يمس الباروميتر الأرض. غضب أستاذ المادة لأن الطالب قاس له ارتفاع الناطحة بأسلوب بدائي ليس له علاقة بالباروميتر أو الفيزياء.
تظلم الطالب مؤكداً أن إجابته صحيحة 100% وحسب قوانين الجامعة، ونظرا لذلك تم تعيين خبير ومستشار في تخصص الفيزياء للبت في القضية.
وكانت نتيجة تقرير الخبير كالتالي: أن إجابة الطالب صحيحة لكنها لا تدل على معرفته بمادة الفيزياء، وتقرر إعطاء الطالب فرصة أخرى لإثبات معرفته العلمية، فتمّ إحضار الطالب أمام الخبير الفيزيائي، الذي أعاد طرح السؤال نفسه شفهياً، فكّر الطالب قليلاً، وقال: ” لدي إجابات كثيرة لقياس ارتفاع الناطحة ولا أدري أيها أختار “. فقال: ” هات كل ما عندك “. فأجاب الطالب :
يمكن إلقاء الباروميتر من أعلى ناطحة السحاب على الأرض ، ويُقاس الزمن الذي يستغرقه الباروميتر حتى يصل إلى الأرض ، وبالتالي يمكن حساب ارتفاع الناطحة ، باستخدام قانون الجاذبية الأرضية ، وعندما تكون الشمس مشرقة ، يمكن قياس طول ظل الباروميتر وطول ظل ناطحة السحاب ، فنعرف ارتفاع الناطحة من قانون التناسب بين الطولين وبين الظلين ، أو إذا أردنا حلاً سريعاً يريح عقولنا ، فإن أفضل طريقة لقياس ارتفاع الناطحة باستخدام الباروميتر هي أن نقول لحارس الناطحة : ” سأعطيك هذا الباروميتر الجديد هدية إذا قلت لي كم يبلغ ارتفاع هذه الناطحة ” ؟ . أما إذا أردنا تعقيد الأمور، فسنحسب ارتفاع الناطحة بواسطة الفرق بين الضغط الجوي على سطح الأرض وأعلى ناطحة السحاب باستخدام الباروميتر.
كان الحَكَم ينتظر الإجابة الأخيرة التي تدل على فهم الطالب لمادة الفيزياء، بينما كان الطالب يعتقد أن هذه الإجابة هي أسوأ الإجابات لأنها الأصعب، والأكثر تعقيداً.
بقي أن تعرفوا: إنّ اسم هذا الطالب هو ” نيلز بور “، وهو لم ينجح فقط في مادة الفيزياء، بل إنه الدانماركي الوحيد الذي نال جائزة نوبل في الفيزياء.
وهذا يقودنا الى سؤال هام:
لماذا تفشل المدرسة عادة في اكتشاف المبدعين؟ كان الجواب: لأن المدارس تعتمد معايير نمطية لا بديل عنها، وهي تصلح للشريحة العظمى من افراد المجتمع.
وبحسب نتائج الدراسات والابحاث بأن الأذكياء جداً ليسوا مبدعين دائما! فالإبداع يتطلب خصائص عقلية ونفسية معينه.. وقد يوجد الابداع عند صعوبات التعلم والمعاقين وصغار السن ومنخفضي الذكاء… ومع هذا كله، وُجدت علاقة بين الذكاء والابتكار في المستويات العليا جداً، وعندئذ يجتمع الاتزان النفسي، والاستقامة السلوكية والنتائج العبقرية.
ومن أبرز الصفات النفسية عند المبدعين صفة الاعتماد على الذات والإصرار والمثابرة والثقة الزائدة بها، والتحفظ والعزلة ورقة القلب والحساسية تجاه المشكلات والتفكير المستقل، والبصيرة النفسية، وضعف الانانية.
فمعظم عوامل إعاقة الإبداع تكون من ذواتنا: فالخوف من الفشل، وضعف الثقة في النفس، وضعف الحماس والدافعية، والانشغال بمسؤوليات الحياة البعيدة عن الموهبة، والامتثال لقوالب المجتمع النمطية في التعامل مع المشكلات كلها تعيق الابداع وتحبسه.
وفي الجانب الآخر لابد أن نشير إلى معاناة المبدعين والتي تختلف من مجتمع لآخر…
نعم إن الأذكياء الذين يتسمون في شخصياتهم بسمات الطموح العالي وحب الانجاز وحب البحث عن الحقيقة والفضول والتحليل والنقد والتقييم فهؤلاء هم من يعانون نفسياً أكثر من غيرهم من مشاعر الكأبة والإحباط والتوتر والمزاجية….
وهم المعنيون بقول الشاعر أبو الطيب المتنبي بقوله
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة منعم
ويؤيده الشاعر العباسي ابن المعتز المعروف بـ «خليفة اليوم والليلة»
حيث قال:
وَحَلَاوَةُ الدُنْيَا لِجَاهِلِهَا / وَمَرَارَةُ الدُنْيَا لِمَنْ عَقَلا
فالمبدع يعاني حالة إنسانية خاصة جدًّا، إما أن تحمل حالة إبداع خاصة تحمل كآبتها آنية بسبب الإبداع، أو أنها حالة مستديمة من القلق النفسي والتوتر، التي لا تستقر لا في حالة الإبداع والانجاز ولا في حالة الركود الإبداعي.
فالمبدع الأكثر تمسكا بفرديته يعاني اشد المعاناة إذا وجد نفسه مغمورا ومشلولا ومنقادا مع عوام المجتمع ورعاع الناس، لا يستطيع التنفيس عن أفكاره وابداعاته جهارا … فهي تشتد بمقدار انغلاق المجتمع وتحفظه وتنفرج وتهدأ بمقدار الانفتاح والتمدن والرقي في المجتمع.
تعقيب:
د.هند الخليفة
سأتناول بعض الأفكار والموضوعات التي ناقشتها الورقة، من ذلك مقدمتها التي اشارت إلى أن الشباب المبدعين هم من سيحقق الغد الأجمل. وفي ذلك إشارة الى أن الأمل والطموح والشغف للحياة مكونات أساسية في تحقيق التغيير للافضل. وارى ان تهيئة الظروف لوجود تلك المكونات لابد ان يبدأ من خلال تصحيح فهمنا للماضي والحاضر والمستقبل، والقناعة بأن التعامل مع حاضر الأطفال والشباب هو الأساس لتمكينهم من الإبداع في تشكيل المستقبل، بمعنى خلق الفرص لهم للعيش في الحاضر دون تكبيلهم بتوقعات دورهم في المستقبل وتشكيل شخصياتهم وطموحهم وأحلامهم في قوالب واحلام الراشدين.
توقفت الورقة عند التساؤل وأهميته في تهيئة الفرصة للشباب المبدع، وإطلاق قدراتهم خارج حدود قوانين المجتمع والأحكام المسبقة. أضيف على ذلك ان التساؤل هو تحرير العقل من القيود التي تعيق الفكر المبدع، وطرح الافكار للنقاش هو الوسيلة الى نقش العقول، والفكر الناقد هو الذي يمكن الفرد من التحليل وتفسير الأسباب ومن ثم الاستقلالية والابداع في حل المشكلات. لابد ان نترك العنان للفرد طفلا ثم شابا ليحلم ويفكر ويسأل وينتقد، حتى يبدع. فالرؤية المختلفة والتعامل مع الأمور العادية بأسلوب مبتكر، يتطلب سياقاً ثقافياً واجتماعياً يخلق الفرص ويحترم الاختلاف ويدرب على تحمل المسؤلية، ويجد مكانة للصغير قبل الكبير. وتظهر هنا أهمية علاقة الراشدين بالشباب، وتأثير اُسلوب التنشئة الاجتماعية على نمو القدرات وصقل المواهب والإبداع.
ويأخذنا هذا الحديث إلى ماطرح في الورقة من تساؤل؛ هل الإبداع يعني العبث، واستخلصت مقدمة الورقة أن الإبداع يعني الانعتاق من كل شيء إلا المعنى. وبتعبير اخر الحرية الهادفة. هذه الحرية المسؤلة هي نتاج لتحرر الراشدين من التسلط والقمعية، وتحملهم لمسؤلياتهم تجاه الجيل الجديد. مسؤليات من نوع جديد لاتعني الرقابة المقيدة بل التمكين من ضبط النفس واتخاذ القرار والاختيار. وهنا تكون الحرية والابداع وجهان لعملة واحدة، لكنها لا تعني العبث أو الفوضى.
ونستخلص مما سبق أن الشباب ليسوا ظاهرة معزولة عن العالم، ولا حجر عثرة في وجه التقدم، بل المجتمع قد يكون كذلك في وجههم.
الإبداع إلتزام وإنجاز…وترتبط دافعية الشباب للانجاز بالسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي المحيط بهم. وتظهر الدراسات أن العوامل الذاتية هي الأكثر تأثيرا على دافعية الإنجاز لدى الشباب، كتقدير الذات والثقة بالنفس ووضوح الأهداف… ومرة اخرى يؤكد ذلك على أهمية العلاقة الوالدية وأسلوب التنشئة الاجتماعية في غرس بذور الإبداع والالتزام والانجاز منذ نعومة الاظافر.
اعود إلى السؤال: الإبداع والشباب..من أين نبدأ ؟
وأقول نبدا حيث تبدأ الحياة…فالإبداع يولد حيث يكون هناك حب واحتضان واحترام… والابداع ينمو معنا ونحن ننمو في مراحل حياتنا، والابداع يقتل حين يقمع خيالنا وتحجر عقولنا وتربط ألسنتنا…ولكي نغرس في شبابنا الخصائص والخصال التي يتغدى عليها الإبداع، لاخيار لنا الا ان ننفض الغبار العالق في اذهاننا عن التربية الناجعة، والصور النمطية عن الشباب وقدراتهم التي تقلل منها أو توجه لهم أصابع الاتهام، لا لشيء إلا لأنهم “شباب”…ليس لنا إلا أن نستبدل السلبية بالإيجابية والتسلط بالتحاور ، وبدل من أن ننظر الى ٧٠٪ من شعبنا على انهم عنصر ضعف، لابد ان نؤمن بأنهم عنصر قوة، وسيكونون كذلك.