للاطلاع على التقرير وتحميله اضغط هنا
يوليو_ 2023
تقرير رقم (107) الادخار والاستثمار
- تمهيد:
يعرض هذا التقرير لقضية مهمة تمَّ طرحها للحوار في ملتقى أسبار خلال شهر يوليو 2023م، وناقشها نُخبة متميزة من مفكري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة؛ حيث تناولت: الادخار والاستثمار، وأعد ورقتها الرئيسة د. إحسان بوحليقة، وعقب عليها كلاً من د. ناصر القعود، أ. بسمة التويجري وأدار الحوار حولها م. محمد المعجل.
المحتويات
- تمهيد
- فهرس المحتويات
- الملخص التنفيذي.
- الورقة الرئيسة: د. إحسان بوحليقة
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. ناصر القعود
- التعقيب الثاني: أ. بسمة التويجري
- إدارة الحوار: م. محمد المعجل
- المداخلات حول القضية
- أهمية ثقافة الادخار والاستثمار.
- واقع سلوكيات الادخار والاستثمار في المجتمع السعودي.
- آليات تعزيز ثقافة الادخار والاستثمار على المستوى الوطني.
- التوازن بين الاستهلاك والادخار كضرورة معاصرة.
- التوصيات
- المصادر والمراجع
- المشاركون
- الملخص التنفيذي.
يتناول هذا التقرير قضية الادخار والاستثمار، وأشار د. إحسان بوحليقة في الورقة الرئيسة إلى أن رؤية المملكة 2030 لم تهمل الإلتفات إلى حقيقة أن معدل الادخار الأسري في السعودية متدني، فكان تعزيز وتمكين التخطيط المالي أحد مرتكزات برنامج تطوير القطاع المالي، ضمن برامج تحقيق الرؤية الذي أطلق في العام 2017.
بينما أوضح د. ناصر القعود في التعقيب الأول أن هناك عدة عوامل تؤثر في السلوك الادخاري للأسر، فالادخار ثقافة تتأثر بالعادات والتقاليد الاجتماعية والمعتقدات كما تتأثر بمستوى الدخل وبمدى تأثر القنوات الاستثمارية، وتتأثر كذلك بالسياسة النقدية ودورها في إيجاد التوازن بين معدلات التضخم ومعدلات الفائدة وكذلك بالسياسة المالية من حيث سخائها وتشددها.
في حين ذكرت أ. بسمة التويجري في التعقيب الثاني أن موضوع الادخار لا يقع على عاتق الأفراد بمفردهم وإنما تتحمل الدولة نصيبها من المشاركة في هذه العملية عن طريق تبني أساليب وسياسات تؤدي إلى حدوث وفورات في التكلفة تنعكس إيجاباً على استثمارها في مشاريع تعود بالنفع والرفاهية على المواطنين.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
- أهمية ثقافة الادخار والاستثمار.
- واقع سلوكيات الادخار والاستثمار في المجتمع السعودي.
- آليات تعزيز ثقافة الادخار والاستثمار على المستوى الوطني.
- التوازن بين الاستهلاك والادخار كضرورة معاصرة.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:
- تسريع تفعيل مبادرة التثقيف المالي للمراحل العمرية على تفاوتها، وربطها ببرامج الدعم الاجتماعي مثل الضمان الاجتماعي وحساب المواطن، وكذلك في المراحل الدراسية العامة والجامعية.
- لتعميق وتعزيز ثقافة الادخار والاستثمار لدى الناشئة تبرز أهمية عقد فعالية مدرسية سنويا في كل منطقة تعليمية “للمستثمرين الشباب” تحت إشراف إدارة التعليم وبالتعاون مع البنك المركزي، يتم فيها تقديم محاضرات عن أهمية وأساليب الادخار للناشئين كما يتم تكريم عدد من المدخرين الطلاب والطالبات وفق معايير توضع لذلك أو ربطها بتخرجهم من المدرسة.
- إعادة إحياء مفهوم صناديق الطلبة والاستثمار في مقصف ودكان الطالب وتوزيع الأرباح على الطلاب المستثمرين نهاية السنة وإعادة مبلغ الاستثمار للطلب المتخرج.
- إطلاق منصة تفاعلية تقدم دورات تثقيفية وتدريبية ومهنية عن التخطيط المالي تستهدف جميع فئات المجتمع عن طريق تنظيم حملات توعوية وطنية تحذر من الإسراف وتحفز على الاستثمار.
- إشراك البنوك وشركات التأمين وشركات التقنية المالية لتوفير منتجات ادخارية موجهة للفئات العمرية على تعددها وللأفراد على تفاوت دخلهم.
- الورقة الرئيسة: د. إحسان بوحليقة
- مدخل
من أشهر المقولات عن الادخار، والتي تتعارض تماماً مع “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب”، والتي تتفوق كذلك على المقولة الشائعة” على قَدرّ لحافك مدّ رجليك”. تلك هي مقولة المستثمر الحاذق ورن بافت: “لا تدخر ما يتبقى بعد الإنفاق، بل أنفق ما يتبقى بعد الادخار.” عملياً، تتفاوت وجهات النظر بشأن الادخار، وبالتالي السلوك الادخاري، ولعل المقولات الثلاث السابقة تختزل ثلاث مدارس فكرية يتبعها الأشخاص، بوعي أو بدون وعي. أما تحيز هذه الورقة فهو اتجاه المقولة الثالثة، في محاولة لبيان أن الادخار ضرورة للفرد وللأسرة وللمجتمع، لتحقيق الاستقرار والاستقلال المالي.
- العلاقة بين الادخار والاستثمار
إجمالاً، تعتمد الاقتصادات على المدخرات الأسُرّية لتمويل الاستثمارات الرأسمالية، باعتبار أن حصيلة الخزينة من الضرائب والرسوم تنفق لتغطية الإنفاق التشغيلي للحكومة، والأمر يختلف في الاقتصادات التي تعتمد ماليتها العامة على المتحصلات من بيع الموارد الطبيعية. ولذا، فللادخار في تلك الاقتصادات أهمية حرجة، فإن انخفض تأثرت سعة الاقتصاد وبنيته التحتية والعكس بالعكس. لدينا في المملكة، الحاجة للادخار الأسري قائمة، لكن -عاد ةً- لدرجة أخف نتيجة أن جزءاً من الإنفاق الاستثماري مصدره أموال الخزانة العامة، المتأتي معظمها من الإيرادات النفطية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الإنفاق الاستثماري (تكوين رأس المال الثابت) أخذت حصة الحكومة منه تتناقص بالتدريج لتكون الازاحة للإنفاق غير الحكومي؛ فمثلاً في الربع الأول من العام الحالي (2023) بلغ الإنفاق الاستثماري للحكومة 143.مليار ريال مقابل 209 مليار (94 بالمائة) غير حكومي، في حين أن نصيب الإنفاق الاستثماري غير الحكومي 56 بالمائة في الربع النظير من العام 2010.
الادخار هو الدخل الذي لا ينفق على الاستهلاك، لكي ينفق مستقبلاً عند التقاعد أو عند شراء منزل أو للاستثمار أو للطوارئ. أما الاستثمار فهو استخدام الأموال لاقتناء أصل ليدرّ دخلاً أو مكسباً رأسمالياً، كالأسهم والسندات والعقار. وطبقاً للنظرية الاقتصادية الكنزّية (نسبة للاقتصادي كِنّز) فإن الادخار يساوي الاستثمار، وأن هذ شرط أساسي لتوازن الاقتصاد. وهكذا، فيمكن القول إن العلاقة بين الادخار والاستثمار وشائجية؛ فما يُدخر سيستثمر، ولذا فإن المال الذي يُكنَز “تحت البلاطة” ليس استثمار اً بالمعنى الاقتصادي، من حيث أن ما يدخره الناس يساوي ما يُستثمر في الشركات والأدوات المالية الحكومية مثل السندات، وذلك لاعتبارات:
- أن الشركات تحتاج إلى المال المُدخر لتمويل عملياتها ونموها مقابل حصة من أسهم وأرباح الشركة.
- أن الحكومات تحتاج إلى الأموال المدخرة لتمويل عملياتها. فتقترضها من المدخرين.
وتتجسد العلاقة بين الادخار والاستثمار في أن الأفراد يدخرون المال، ثم يقرضونه للشركات والحكومة، لتستثمر هذه الأموال من قبل الشركات والحكومة، مما يزيد سعة الاقتصاد ويخلق فرصاً وينتج عن ذلك نمواً اقتصادياً. وهكذا، الادخار والاستثمار ضروريان لنمو أي اقتصاد، إذ أن ديمومة الضخ الاستثماري لأي اقتصاد يعتمد على ديمومة الادخار. والضخ الاستثماري لا يعتمد على مدخرات الأفراد فقط، فالمدخرات التي يحتفظ بها في البنوك، تقرضها البنوك لشركات لتبني مشاريع، تخلق وظائف، وتوفر سلع وخدمات، تحل محل الواردات وتنمي الصادرات، مما ينمي الناتج المحلي الاجمالي. وكذلك نحتفي عندما تحقق الميزانية العامة للدولة فائضاً، فذلك يعني تنامي قدرة الخزانة على استثمار هذا الفائض في زيادة السعة الاقتصادية من بنية تحتية بما يعزز تنافسية الاقتصاد ويرفع من انتاجيته، واقبال الشركات للاستثمار فيه. وهكذا، فإن تنامي الادخار يؤدي لتوفير المزيد من المال للقطاع الخاص والحكومة لزيادة نشاطها الاقتصادي، وبالتالي زيادة النمو والازدهار.
- الادخار والسياسة المالية
لماذا الادخار؟ لأن العائد الاستثماري للنقد (الكاش)-بطبيعة الحال- يتحسن مع السياسة النقدية الضيقة، نظراً لارتفاع معدل الفائدة على الودائع، ولاسيما قصيرة الأجل، مما يشجع المستهلكين على الادخار عوضاً عن الإنفاق. ولماذا تفضيل الودائع قصيرة الأجل؟ بسبب أن سعر الفائدة في ارتفاع، إذ من المتوقع أن يتواصل ارتفاعه لبقية العام 2023. وبالتأكيد لا يعني الادخار اكتناز الكاش تحت البلاطة، بل أن تستثمره، وهناك خيارات عدة لعل المفضل من بينها هو استثمار الكاش في منتج عالي السيولة، بما يحدّ من احتمال تبخر قوته الشرائية، وأبسط صورة أن تودع احتياجك الحالي للنقد في حسابك الجاري، وبقية السيولة في حساب التوفير، رغم أن البنوك “تعشق” الودائع المجانية، التي تحت الطلب.
وكذلك لا يعني امساكك للكاش ألا تستهلك، إذ لا مفر من الاستهلاك، ولكن حافظ على مستوى صرفك المعتاد. يعني، أن كان -فَرضاً – متوسط مصاريفك الشهرية 4000 ريال، فعدل في مصاريفك بما يحافظ على مستوى الإنفاق دون زيادة إلا اضطراراً. كما أن إمساك الكاش لا يعني ألا تستثمر، لكن استراتيجية الاستثمار وقت النمو واتساع السياسة النقدية (سعر فائدة منخفض) تختلف عنها نوعاً عن وقت التضخم وسياسة نقدية ضيقة (سعر فائدة مرتفع)، كما هو الوضع الآن؛ فالسياسة النقدية الضيقة، سميت ضيقة لأنها تُضيّق على السيولة فتجعلها شحيحة فيصبح الكاش عزيزاً تلاحقه البنوك، وأصحاب الأصول، فقاعدة أمسك على الكاش تنطبق أيما انطباق على التجار وكبار المستثمرين، بسبب أن الأداء الاستثماري للنقد (الكاش) – بطبيعة الحال – يتحسن مع ارتفاع معدل الفائدة على الودائع، مما يدفع أرباب الأعمال والشركات إلى إيثار إيداع النقد الفائض في البنك على التوسع، طمعاً في عائدٍ مغري منخفض المجازفة، في نفس الوقت تحيّن الفرص لشراء الأصول المالية أو الحقيقية بأسعارٍ تفضيلية نظير الكاش الذي في أيديهم.
كيف يتأثر الاقتصاد في حال تفشي خيار “امسك على الكاش“ عند الأفراد والشركات؟ بإيجاز: مع تفضيل الأفراد الادخار يقل الاستهلاك، وتتجه الشركات للاستثمار في منتجات ثابتة العائد، فيقل ضخ الاستثمار في الأعمال وتوسعها، مما يحدّ من الضخ الاستثماري في الاقتصاد، ويحدّ بالتالي من نمو الناتج المحلي الإجمالي، باعتبار أن هدف السياسة النقدية الضيقة الحدّ من الطلب للحد من التضخم!
مع احتمال ارتفاع سعر الفائدة مجدداً، وهو احتمال سيبقى قائماً على الأقل حتى العام 2023، فيتبع أن تتراجع أسواق الأسهم بسبب توجه المستثمرين لخيارات “الدخل الثابت” (ودائع، مرابحات، صكوك)، والامساك على النقد (الادخار) فيه تحوط يحد من الاضطرار لتسييل جزء من محفظة الأسهم لتمويل مصروفات قائمة أو طارئة. ومن مرتكزات الادخار أن تصبح أكثر تفحصاً وتمحيصاً، فليس عليك أن تخوض غمار كل فرصة استثمارية متاحة؛ فليس عليك أن تكتتب في كل طرح لورقة مالية، ولا كل صندوق، فاستراتيجية استثمار مدخراتك، عندما يكون سعر الفائدة منخفضا تختلف عنها عندما يكون سعر الفائدة مرتفعاً، أو قيد الارتفاع، كما هو الوضع حالياً. وعندما تملك نقداً فائضاً (كثير أو قليل) فستأتيك فرص من تجار يبحثون عن الكاش في كل زاوية، ويقدمون في سبيل ذلك العروض لبيع بضائعهم بأسعار تفضيلية لمن يدفع نقداً، في محاولة من التجار لتسييل بضائعهم لخفض أو لسداد التزاماتهم للبنوك تجنباً لتكلفة التمويل المتصاعدة.
وبالقطع، لا ينبغي الادخار من أجل الادخار دون وعي، فنقطة البداية تجنيّب “كاش” كافي لتغطية المصاريف الراتبة والفواتير المستمرة وهامش للمصاريف غير المتوقعة، لتتجنب الاقتراض ما استطعت لذلك سبيلاً، تجنباً لتكلفته العالية. ولا فرق في ذلك – من حيث المبدأ – بين الشخص الطبيعي والشخص الاعتباري في جدوى الاحتفاظ بما يكفي من السيولة لتفادي أن تتراكم على الشخص تكاليف تمويل باهظة قد تجعلهُ مَديناً ثم “عَيّاراً” ثم مُعسِراً نتيجة عدم الالتزام بالسداد!
ثم أن المستهلك أن اتبع نهجاً ادخارياً سيحدّ من استهلاكه، مما يحد بالتالي من الطلب، وبالتالي من التضخم، من حيث أن التضخم كما عبر عنه الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل ميلتون فريدمان، أبو النظرية النقدية، بأنه الحالة التي تتحقق فيها ظاهرة:” أموال كثيرة تلاحق بضائع قليلة.” وعوضاً عن ملاحقة بضائع تتجاوز حاجته، بوسعه توظيف النقد الناتج لاصطياد فرص مواتية ولو كانت صغيرة أو ادخاره في البنك.
- الادخار كسلوك اقتصادي-اجتماعي
للسلوك الادخاري ارتباط بمستوى دخل الفرد أو الأسرة، وله كذلك ارتباط بالوعي الإنفاقي للشخص، فقد تقوده رغباته بما يتجاوز امكانياته، فيكون مَديناً، وقد يبقى كذلك لسنوات غير قادرٍ على الخلاص من ملاحقات الدائنين وتعاظم فوائد القروض يوماً بعد يوم. وهكذا، فالادخار يتطلب أن يقوم الشخص -عن سابق إصرار- بتجنيب جزء من دخله، والحرص على الصرف على قدر الإمكانات المتاحة لديه، والإيفاء بالضرورات ثم الكماليات. وهذا أمر يتطلب تخطيطاً، ومع التخطيط يتطلب ترتيباً للأولويات، هذا التخطيط يمكن أسراً أن تعيش بدخلٍ محدود عيشةً مستقرة مالياً، بينما لا تعيش أسر لديها أضعاف الدخل بشكل مستقر، نتيجة لعشوائية الصرف؛ فعدم تنظيم الصرف يتسبب في مصاعب حقيقية لأي شخص، مهما كان دخله، إذ يؤدي – بطريقة أو أخرى- إلى تبديد المال.
وتجنباً للتنظير، لنأخذ مثالاً حياتياً؛ رب الأسرة يعرف مواعيد الصرف المكثف والمتعلقة بمناسبات مثل شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى، وموسم العودة إلى المدارس، ولكن هناك من يصرف على مدار العام بنهج واحد دون تحسبٍ للمتطلبات الموسمية والمصاريف الطارئة، مما يجعله في وضع يتعذر معه الوفاء بكثير من الالتزامات في الأشهر التي تشهد مناسبات متلاحقة.
- مؤشرات الادخار في السعودية
الوثيقة الأساسية التي يعتمد عليها للتعرف على مؤشرات الادخار في المملكة، هي ” إحصاءات مسح دخل وإنفاق الأسرة”، الذي تجريه الهيئة العامة للإحصاء كل خمس سنوات، وقد نشرت نتائج المسح الأخير في العام 2018م، وحالياً تجمع الهيئة البيانات، ومن المتوقع أن تنشر النتائج منتصف العام القادم (2024)، وقد كشف مسح العام 2018 عن اتجاه تنازلي في مدخرات الأسر في المملكة، حيث أن الزيادة في الاستهلاك الشهري خلال السنوات العشر الماضية تفوق بكثير الزيادة في الدخل. ووفقاً للتقرير فقد ارتفع متوسط الدخل الشهري للأسرة بنسبة 5.3 بالمائة من 3749 دولاراً أمريكياً إلى 3946 دولاراً أمريكياً خلال الفترة 2007-2018. وفي الوقت نفسه، نما متوسط الاستهلاك الشهري من 2801 دولاراً أمريكي اً إلى 3882 دولار اً أمريكياً، بزيادة كبيرة بلغت 38.6 بالمائة.
واعتباراً من العام 2018، قُدِر معدل ادخار الأسر في المملكة على أنه 1.6 بالمائة، وهو معدل منخفض مقارنة بالمتوسط العالمي (25.9) بالمائة، وبين دول مجموعة العشرين (25.2 بالمائة)، وكذلك ضمن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (22.1 بالمائة). ولبيان الفجوة في ادخار الأسر في السعودية، فإن المعيار العالمي هو 10بالمائة، ويعتبر الحد الأدنى الضروري لتحقيق الاستقلال المالي.
- الادخار من منظور رؤية المملكة 2030
لم تهمل رؤية المملكة 2030 الالتفات إلى حقيقة أن معدل الادخار الأسري في السعودية متدني، فكان تعزيز وتمكين التخطيط المالي أحد مرتكزات برنامج تطوير القطاع المالي، ضمن برامج تحقيق الرؤية الذي أطلق في العام 2017. وتسعى هذه الركيزة لتحقيق أربعة أهداف: (1) تحفيز ودعم الطلب المستدام على خطط الادخار، (2) الدفع باتجاه التوسع في منتجات الادخار والقنوات المتاحة في السوق، (3) تحسين منظومة الادخار وتعزيزها (4) تعزيز الثقافة المالية، وذلك من خلال مبادرة محورية: “إنشاء كيان وطني للادخار (منتجات ادخارية مدعومة من الحكومة) “، والتي من المتوقع أن يكون أثرها زيادة عدد منتجات الادخار المطروحة في السوق، وزيادة إجمالي المدخرات من قبل الأسر، وتسهيل الوصول إلى منتجات الادخار عبر تطوير واجهة رقمية سلسة.
- التوصيات
- تسريع تفعيل مبادرة التثقيف المالي للمراحل العمرية على تفاوتها، وربطها ببرامج الدعم الاجتماعي مثل الضمان الاجتماعي وحساب المواطن. وكذلك في المراحل الدراسية العامة والجامعية.
- إطلاق منصة تفاعلية تقدم دورات تثقيفية وتدريبية ومهنية عن التخطيط المالي.
- اشراك البنوك وشركات التأمين وشركات التقنية المالية لتوفير منتجات ادخارية موجهة للفئات العمرية على تعددها وللأفراد على تفاوت دخلهم.
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. ناصر القعود
أكد كاتب الورقة الرئيسة بداية على أهمية الادخار للنمو الاقتصادي وللأفراد والأسر ووجوب أن يكون موضوع الادخار اهتمامًا رئيسًا لكل فرد وأسرة.
وأوضح اعتماد تمويل الاستثمار في الاقتصاد على المدخرات الأسرية، وأشار إلى وضع الاستثمار في المملكة في السابق حيت كانت تأتي غالب الاستثمارات من القطاع الحكومي الأمر الذي عوض عن ضآلة معدلات الادخار في القطاع الأسري والقطاع الخاص عموما، وكيف تغير الأمر وأصبحت مساهمة القطاع العام في الاستثمار أكبر من مساهمة القطاع العام.
وتطرقت الورقة الرئيسة إلى تأثير السياسة النقدية (ارتفاع وانخفاض معدلات الفائدة والتضخم) على سلوك المدخرين والمستثمرين، كما تناولت التباين في سلوك الفرد والأسرة فيما يتعلق بالإنفاق والادخار بين مدبر ومبذر، بالتأكيد على ضرورة التخطيط المالي للأسر فيما يتعلق بالتعامل مع الدخل، وأن السلوك الادخاري للأسر يعتمد على مستوى الدخل والوعي بترشيد الاستهلاك فمستوى الدخل يؤثر على معدل الادخار فكلما زاد مستوى الدخل زاد معدل الادخار نظراً لتناقص الميل الحدي للاستهلاك.
ومن مؤشرات الادخار انطلاقا من احصاءات عام 2018 تبين ضعف معدلات الادخار للأسر في المملكة مقارنة مع المعدلات العالمية، وأن المعيار العالمي الضروري لتحقيق الاستقرار المالي هو 10 في المائة، وهذه النسبة هي المستهدفة لعام 2030 في وثيقة برنامج تطوير القطاع المالي.
ومن ذلك يتضح أن هناك عدة عوامل تؤثر في السلوك الادخاري للأسر، فالادخار ثقافة تتأثر بالعادات والتقاليد الاجتماعية والمعتقدات كما تتأثر بمستوى الدخل وبمدى تأثر القنوات الاستثمارية وتتأثر كذلك بالسياسة النقدية ودورها في ايجاد التوازن بين معدلات التضخم ومعدلات الفائدة وكذلك بالسياسة المالية من حيث سخائها وتشددها.
وفي الختام ينبغي أن تتضافر جهود كل من:
- الأسر، لتكون قدوة لأفرادها في الإنفاق دون اسراف أو تقتير، وتعودهم منذ الصغر على الادخار وترشيد الإنفاق.
- المؤسسات التعليمية، تضمين مناهج التعليم أهمية وفوائد الادخار وآلياته من خلال عروض مبسطة وقصص جاذبة لنجاحات معتمدة على الادخار التدريبي.
- الشركات المساهمة، بحيث تشجع الادخار من خلال انشاء صناديق ادخارية يساهم فيها موظفو هذه الشركات وتدعم من الشركة بتوزيع عوائد مجزية على شكل مكافآت وحوافز، كما هو الحال في شركة أرامكو وبعض الشركات الرائدة (الاتصالات وسابك).
- المؤسسات الحكومية المسؤولة عن القطاع المالي من خلال تفعيل ما تضمنته الورقة من مبادرات مثل:
- انشاء كيان وطني للادخار يقدم منتجات مدعومة من الحكومة، ويحث القطاع المالي لتنويع أدواته وقنواته الادخارية والاستثمارية.
- انشاء كيان تثقيف مالي متخصص ينشر ثقافة التخطيط المالي وينمي سلوك الادخار.
ولا شك أن هناك جهود قائمة ومشكورة من هذه الجهات وغيرها لكن تكثيف الجهود مازال هدفا نبيلا.
- التعقيب الثاني: أ. بسمة التويجري
يتناول هذا التعقيب موضوع الادخار من جانبين:
- استعراض دراستين حديثتين لباحثين سعوديين أجريا دراسات تطبيقية لمعرفة دوافع ومحددات الادخار في المملكة العربية السعودية، وتأتي أهمية معرفة هذه الدوافع في استثمارها وتعزيزها من قبل الجهات المختصة للوصول إلى معدلات الادخار الوطني الذي تهدف إليه رؤية 2030.
- مناقشة موضوع الادخار من وجهة نظر الدولة وماهي الأساليب المبتكرة التي تعزز هذا المفهوم وتقويه.
أولاً: محددات الادخار وفقاً لدراسات حديثة
الدراسة الأولى أجريت هذا العام (2023) وقام بها باحث سعودي بالتطبيق على عينة من الأفراد السعوديين ووجد أن العوامل الأربعة التالية ذات دلالة احصائية موجبة مما يعني أن وجودها يشجع على الادخار وهي:
- نمو الناتج المحلي الإجمالي.
- زيادة معدلات الفائدة.
- زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
- وجود فائض في ميزانية الدولة.
في حين أن العاملين التاليين لهما دلالة إحصائية سالبة بمعنى أن وجودهما لا يحفز الادخار وهما:
- زيادة نسبة اعتماد الأسرة على شخص واحد لتوفير احتياجاتها.
- ارتفاع معدلات التضخم.
وبناءً على هذه النتائج قامت الدراسة بتقديم التوصيات التالية:
- يتوجب على الدولة تبني السياسات التي تساعد على جذب الاستثمارات الاجنبية المباشرة رفع الناتج المحلي الإجمالي، تخفيض معدلات التضخم.
- تخفيض درجة الاعتمادية عن طريق تشجيع المزيد من السيدات على التوجه إلى سوق العمل.
أما الدراسة الثانية فقد أجريت العام الماضي (2022) لمعرفة العوامل التي أثرت على سلوك الادخار بين موظفي الشركات الصغيرة والمتوسطة في المملكة العربية السعودية، مع التركيز على أربعة عوامل وهي:
- الموقف تجاه الادخار.
- الكفاءة الذاتية المالية.
- التأثير الاجتماعي.
- محو الأمية المالية.
خلصت الدراسة إلى أن مواقف الأفراد من الادخار والكفاءة الذاتية المالية لها علاقة جوهرية وإيجابية، وفقا لنموذج الدراسة في حين أن التأثير الاجتماعي ومحو الأمية المالية ليس لهما تأثير كبير على سلوك ادخار الموظفين، وقد اعترف الباحث أن عينة الدراسة لم تكن كافية وأن الأسلوب الاحصائي المستخدم قد لا يكون الأنسب. وهذا يفسر استبعاد عاملين مهمين مؤثرين في عملية الادخار وهما التأثير الاجتماعي وزيادة الوعي المالي، ويقودنا لاقتراح اجراء المزيد من الدراسات الرصينة في هذا المجال.
ثانياً: الادخار من وجهة نظر الدولة
موضوع الادخار لا يقع على عاتق الأفراد بمفردهم وإنما تتحمل الدولة نصيبها من المشاركة في هذه العملية عن طريق تبني أساليب وسياسات تؤدي إلى حدوث وفورات في التكلفة تنعكس إيجاباً عل استثمارها في مشاريع تعود بالنفع والرفاهية على المواطنين ومن ذلك:
- يمكن للدولة تحقيق وفورات كبيرة في المجال الصحي وذلك من خلال توفير برامج مستهدفة وقائمة على الأدلة وفعالة من حيث التكلفة لتعزيز الصحة والوقاية من الأمراض التي تقلل من عوامل الخطر كالسمنة واتباع أساليب معيشية غير صحية، والتي غالبا ما تكون سبباً للأمراض المزمنة المكلفة. ولا يتطلب تبني الممارسات الصحية المنطقية تكنولوجيا باهظة الثمن أو أدوية أو تدريبا متخصصا أو مرافق علاج متقنة. وإنما تكون الحاجة إلى برامج تغيير السلوك الفردي، واتباع نمط معيشي صحي بدلاً من تحمل تكاليف باهظة لأمراض كان بالإمكان التقليل منها. تقدم جهود أصحاب العمل في توفير برامج تعزيز الصحة لعمالهم نموذجا مصغرا للكيفية التي يمكن أن تؤدي بها الوقاية إلى الحد من المخاطر على مستوى السكان وتوفير التكاليف.
- في وقتنا الحاضر، هناك قضية مهمة للغاية لضمان التنمية المستدامة وهي التنفيذ المستمر لنشاط الابتكار في كافة المجالات وفي مجال توفير بدائل نظيفة ورخيصة للطاقة مع الأخذ في الاعتبار التكلفة العالية لناقلات الطاقة، فإن تنفيذ نشاط توفير الطاقة المبتكر هو قضية مهمة تسهم في استثمار الموارد المتاحة لتوفير مستوى عالي من الكفاءة وترشيد الإنفاق.
- اشتدت ضغوط الكفاءة في القطاع العام منذ الأزمة المالية في العام 2008 وازداد الطلب على الخدمات العامة وأصبحت الحكومات تبحث عن وفورات كبيرة إما عن طريق إعادة التنظيم أو اللجوء إلى حل “الخدمات المشتركة” حيث تقوم الحكومة بإسناد وظائف الدعم مثل الموارد البشرية والمشتريات والخدمات القانونية والتدقيق الداخلي إلى مزود خدمات متخصص يقدم تلك الخدمات إلى عملاء متعددون والهدف هو تقليل الازدواجية والاستفادة من وفورات الحجم. ظهرت فكرة الخدمات المشتركة في القطاع الخاص في ثمانينات القرن العشرين وانتقلت إلى الحكومات في التسعينيات من القرن الماضي ووجدت تأييداً كبيرا من الحكومات وخاصة في مجال الرعاية الصحية في انجلترا ونيوزيلاندا.
وفي المملكة تم مؤخراً الموافقة على إنشاء برنامج لتوفير الخدمات المشتركة للأجهزة العامة الراغبة، على أن يرتبط بوزير المالية ويتمتع باستقلاليته المالية والإدارية. ومن أبرز مميزات الخدمة الجديدة تقديم خدمات رقمية أكثر كفاءة وفاعلية وتتواءم مع التوجهات الاستراتيجية للحكومة الرقمية.
وهذه الأمثلة قليل من كثير مما تقوم به الدولة – وفقها الله – من جهود لادخار مواردها وتوجيهها إلى استثمارات منتجة تعود بالنفع للمواطنين وتحقق دعائم الرؤية في تحقيق اقتصاد مزدهر ومجتمع حيوي ووطن طموح.
- المداخلات حول القضية
- أهمية ثقافة الادخار والاستثمار.
بالنسبة للادخار، من المعروف أنه لكي يحقق الأفراد الأمن في مجال الاستهلاك المستقبلي يجب أن يقبلوا أولاً بقدر من الحرمان من الاستهلاك في الوقت الحاضر مع مقدرتهم على ذلك الاستهلاك، وهو بهذا يعني ادخار جزء من المال الذي ينفق على الاستهلاك في المستقبل. لذا يعد الادخار وسيلة مهمة وضرورية للأمن المالي الأسري والشخصي. بينما يقصد بالاستثمار “استخدام الأموال والموارد الأخرى مع توقع الحصول على منفعة مستقبلية”.
ومما لاشك فيه أن اتخاذ القرارات المالية غير الرشيدة على مستوى الأفراد والوحدات والمجتمع ككل يعوق انسياب تدفق الأموال ويقلل من سرعة تدفقها بما يفسد الفائدة من هذه الأموال ويسبب الأزمات الاقتصادية.
ويعد موضوع ثقافة الادخار والاستثمار ذا أهمية ملموسة في تحقيق التوازن المادي ومهارات تحتاج إلى وعي بأهمية المال وكيف يمكن أن يستفاد منة في مختلف الظروف التي تمر بها الأسرة أو حتى على المستوى الفردي!
والنشاط الاقتصادي يدور حول الاستهلاك والادخار، والادخار لا يسمى ادخاراً إلا إذا استثمر. ومن أجل تحقيق التنمية الاقتصادية وتعظيم الثروة الوطنية تنتهج الخطط التنموية للشعوب المتقدمة مسارات وإستراتيجيات تهدف إلى زيادة معدلات الاستثمار، وتوجيهها توجيها صحيحاً في شكل استثمارات.
ومن المناسب التأكيد على أن الادخار، ليس ترف، وإنما مسؤولية رب الأسرة في شبابه لمستقبله، أغتنم خمساً قبل خمس، ومنها شبابك يعني قوتك وعطاءك قبل هرمك، يعني ضعفك.
ومسؤولية وطنية، مرتبطة بالأمن المالي والاقتصادي، فالدولة حريصة على استقرار الجميع مالياً دون عوز، كون العوز سبب للجريمة والتفكك، والله سبحانه تعالى يقول: ” وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ” (سورة النساء: الآية 5) وعلى هذا فالبذخ الزائد مصيبة، على الفرد والمجتمع والدولة.
كما أن موضوع الادخار متعلق بثقافة المجتمع بشكل أساسي، ومشكلتنا أن الأسر بشكل عام تعاني من أزمة ضعف كفاءة التصرف المالي. وهذا يتضح من حجم القروض الاستهلاكية التي يستهلكها الأفراد بالترتيب مع المؤسسات المالية. وزاد “الطين بلة” ممارسات المؤسسات المالية التي تشجع على الاقتراض الاستهلاكي بكل منافسة، اضافة إلى التواصل الاجتماعي المبالغ فيها وخاصة ظاهرة متابعة “المشاهير” والمنافسة في مظاهر البذخ. أيضاً الموضوع له آثاره السلبية على الفرد والأسرة والمجتمع ككل، خاصة مع تعقد الحياة وسبل العيش التي صنعناها بأنفسنا.
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم وأهمية الادخار نسبي ويختلف من أسرة لأخرى تبعاً لاختلاف المستوى المادي والقدرة على التخطيط للمستقبل والوعي بذلك. وللأسف الكثير من الأسر بدأت تتخوف من التعامل مع البنوك وبرامجها للادخار على المدى القصير أو طويل الأجل! والسبب أن العائد لا يوازي مبلغ الادخار الذي تم تخصيصه لتلك المحفظة!
- واقع سلوكيات الادخار والاستثمار في المجتمع السعودي.
إن موضوع ثقافة الادخار، والادخار ذاته، من أهم الموضوعات التي تعد ظاهرة اجتماعية سلبية في المجتمع السعودي، بالرغم من الجهود الرسمية للعمل على تفعيله، وليس أدلها من مسمى بنك التنمية الاجتماعية السابق بـ “بنك التسليف والادخار”.
وإدراكا من بنك التنمية الاجتماعية فإنه يقوم حاليا بمشروعين في هذا المجال، أولهما “صناعة أدوات تسويقية لتعزيز الوعي المالي وترويج منتجات وخدمات الادخار” والثانية ” مشروع حملات نشر ثقافة الادخار والتوعية المالية لمختلف فئات المجتمع وتفعيل مشاركة البنك في المناسبات العالمية المالية”.
وهذا يبرز اهتمام الملتقى بهذه القضية كإحدى القضايا الوطنية، سيما أنها إحدى مستهدفات رؤية المملكة، ورؤية ورسالة وأهداف وزارة الموارد البشرية، وفي ذات الإطار تحقق عددا من أهداف التنمية المستدامة، سواء على مستوى المملكة أو على مستوى العالم.
ولأن واقع جهود المؤسسات الوطنية تدرك واقع المشكلة، وتعمل على تصور الحلول، فإن أمامنا المساهمة في زيادة الوعي بالوضع الراهن، والأهم استشراف سيناريوهات التطوير لزيادة حجم الادخار لدى الأسرة السعودية بحلول 2030.
بيد أن من الضروري جدا التفكير في واقع الدخل لدى كثير من شرائح المجتمع، سيما الطبقة الفقيرة، والأهم الطبقة الوسطى التي تمثل عادة أعلى شرائح المجتمعات، ويمكن لها تبني وتطبيق الادخار، والاستفادة منه في واقعها ومستقبلها.
وفي الواقع فإنه ثمة منظومة من التحديات تواجه الفرد في المجتمع إلى جانب انخفاض الثقافة المالية والتضخم، وهناك أيضا عوامل اجتماعية واقتصادية ترتبط بزيادة معدلات الإنفاق والاستهلاك تؤدي لرفع إنفاق الفرد مقابل الدخل.
والثقافة الشعبية السعودية لها ارتباط بالادخار، فهناك أمثال شعبية تحث على الادخار مثل المثل القائل: “خبي قرشك الابيض ليومك الاسود”. ويعارضه تماما المثل القائل: “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب”. وبما أن المسألة تعود للثقافة، فنحتاج إلى نشر ثقافة الوعي بالادخار وتنميته لدى الناشئة لكير يكبروا وهم يحملون هذه الثقافة، لاسيما وأن ومن بين آثار العولمة، انتشار الثقافة الاستهلاكية بشكل مبالغ فيه. حيث يلهث الوالدان خلف طلبات الأبناء مما يضغط الكثير من الأهل ويجعلهم يسعون نحو ساعات عمل إضافية، ينتج عنها نقص الوقت المتاح للترابط العائلي والعلاقة الجميلة بين الوالدين وأبنائهم من تبادل خبرات وبناء شخصية.
وثمة وجهة نظر تذهب إلى أن نسبة الفقر لدينا كبيرة (نسبيا). ويجب عدم توقع ادخار يذكر من أبناء الطبقة الدنيا، ونسبة كبيرة من الطبقة الوسطى الدنيا. تبقى الطبقة العليا (اقتصاديا) القادرة على الادخار المعقول. وهنا نجد أن نسبة كبيرة من ادخارها غالبا ما توجه لبنوك في الخارج. بدل ادخارها داخليا، والاستفادة من استثمارها محليا.
في المقابل ثمة من يرى أنه ومع كون مستوى الدخل عامل أساس لتحديد معدل الادخار ومسلم به من قبل كل الاقتصاديين أن الطبقة الوسطى لا تدخر، وهو ما يلاحظ من عدد المحافظ الاستثمارية في السوق المالية؛ حيث أن مختلف الطبقات يدخرون ولكن بنسب متفاوتة.
ومن خلال المعطيات الظاهرة في مجتمعنا يتضح أن وضع نسبة ١٠٪ كهدف للادخار في رؤية المملكة للوصول اليه في عام ٢٠٣٠ تحتاج لمراجعة دائمة؛ فبرأي البعض فإنه ثمة صعوبة للوصول إليها خلال ال ٧ أعوام المتبقية، هذا اذا أخذنا في الاعتبار أن وضعه كهدف كان قبل فرض ضريبة القيمة المضافة والتي تمثل ١٥٪ من مشتريات أصحاب الدخل المحدود من الطبقة الوسطى وغالبيتهم من الشباب، بجانب الاستقطاع لهيئة التقاعد والتأمينات الاجتماعية بواقع ٩٪ من الراتب، وكذلك استقطاع البنوك لجانب من الراتب الشهري لتغطية قرض الاسكان لنسبة كبيرة من الشباب وغيرها من القروض، فضلاً عن الارتفاع الكبير دولياً في أقيام السلع والخدمات الضرورية.
ولو أخذنا كمثال متوسط دخل موظف في القطاعين العام والخاص ورب أسرة من زوجة و٣-٤ أطفال وراتبه ١٥٠٠٠ ألف ريال شهرياً هل يستطيع الادخار في ظل عادات وتقاليد معروفة ومجتمع يعشق التفاخر ويتابع ما يطلق عليهم مشاهير السوشل ميديا، ومتوفر لديه خدمات التسوق الاليكتروني وخدمات التوصيل الميسرة خاصة للوجبات الجاهزة وغيرها.
والتصور أننا نحتاج لسنين بل أجيال متعاقبة وبرامج تثقيفية وتأهيلية مبتكرة وغير نمطية، تبدأ من سن مبكرة للأطفال والذين سيكونون يوماً ما أمهات وآباء من المؤمل أنهم تشبعوا بثقافة الادخار منذ نعامة أظافرهم.
بينما وفي المقابل، ثمة وجهات نظر تذهب إلى أن وضع مستهدف 10% طموح، لكنه قابل للتحقيق في حال:
- المسارعة لإنشاء جهاز وطني للادخار.
- المسارعة لإطلاق فعاليات مبادرة وطني لثقافة الادخار تشمل الوطن من أقصاه إلى أقصاه.
- تحفيز ملموس لمن يدخر ولاسيما التلاميذ والفئات الشابة لزرع وتعزيز سلوك الادخار تحديداً، والتخطيط المالي إجمالاً.
- آليات تعزيز ثقافة الادخار والاستثمار على المستوى الوطني.
وهناك العديد من العوائق التي يمكن أن تواجه الناس في عملية الادخار. ومن بينها القروض الملازمة للكثير وأيضًا نمط الحياة وممارسة عادات الإنفاق الزائدة وخاصة “الهياط” في المناسبات والأفراح علاوة على الإنفاق بشكل كبير على البضائع الفاخرة أو الأنشطة الترفيهية بدلاً من وضع جزء من المال جانبًا، مما يزيد من صعوبة الادخار. ومن ذلك تغيرات الظروف المالية كفقدان الوظيفة أو زيادة النفقات المفاجئة. ولب القضية، افتقار الناس إلى خطة أهداف واضحة فتجد بعض الأسر، فجأة تقرر السفر الداخلي أو الخارجي، وفجأة تخطر ببالهم فكرة تغيير الأثاث وفجأة اقتناء سيارة جديدة إلى غير ذلك؛ الأمر الذي يؤدي إلى عدم تحقيق الأهداف المالية المرجوة. وللتغلب على هذه العوائق، يجب إعداد خطة مالية واضحة، وتقليل الديون، واعتماد عادات الإنفاق الصحيحة، وبناء طوارئ مالية، وربما زيادة الدخل من خلال العمل الجانبي أو تطوير المهارات المالية.
ولعل في مقدمة الآليات المقترحة لمعالجة ضعف ثقافة الادخار لدى الأسرة السعودية وانعكاساتها على الاستثمار والنمو الاقتصادي، هو إعداد دراسة شاملة تعتمد على بيانات حديثة ودقيقة لتقدم رؤى واسعة تجاه واقع الادخار ومدى أهميته والحاجة إليه بالنسبة للفرد والأسرة.
كما أن مسؤولية تعزيز ثقافة الادخار تمهيدًا للاستثمار في المجتمع هي مسؤولية مشتركة تتقاسمها الأسر والأفراد والمؤسسات العامة والخاصة. لكن المشكلة تتمحور حول غياب ثقافة الاستثمار، وتحديد الجهة التي يمكن أن تنشر ثقافة الاستثمار بين أفراد المجتمع وبالأخص الشباب، وماهي الوسائل الحديثة التي يتم من خلالها نشر هذه الثقافة مع أهمية وجود برنامج متكامل للتوعية. وفي ضوء ذلك يتعين:
- إعادة التفكير في كيفية جذب المدخرات المالية للسعوديين ورفع نسب الفوائد لها في المصارف السعودية، من خلال تقديم مجموعة من المنتجات والتسهيلات المصرفية التي تُساهم في تعزيز مفهوم التوفير والادخار بين أفراد المجتمع، من بينها حساب الوديعة الثابتة الذي يُتيح للزبائن القدرة على استثمار أموالهم والاستفادة من الفوائد المجزية، وبمعدل فائدة أعلى من حساب التوفير العادي. ويُعرف هذا النوع من الودائع أيضًا باسم الودائع لأجل أو الودائع بأجل، وهي استثمارات آمنة ومنخفضة المخاطر تُساعد الزبائن على تنمية أموالهم على المدى المتوسط أو الطويل، ويمكن لجميع الزبائن من الأفراد أو الشركات الذين تنطبق عليهم شروط الأهلية الاستفادة من مزايا هذا الحساب.
- أن يقدم البنك المركزي خطط للاستثمار المنظم (SIP) للأفراد الطامحين في تكوين ثروات؛ فهي تقدم لهم مزيتين أساسيتين؛ أولاهما: توفير مدخرات شهرية للمستثمر تهدف إلى مساعدة العملاء على اتباع ثقافة الادخار المنتظم. أما الميزة الثانية، فهي أن خطة الاستثمار المنظم (SIP) تتيح لهم فرصة رائعة لتنويع استثماراتهم؛ مع الثقة الكافية لتوسيع محفظة استثماراتهم واكتشاف القطاعات المُجدية التي توفر لهم سيولة أكبر وعائدات أفضل.
- أهمية أن يواكب كافة الجهود في الوقت ذاته دور أسري يتمثل في التخطيط المناسب والعمل على زرع الوعي الادخاري لدى أفراد الأسرة الواحدة، وضرورة قيام رب البيت سواء الرجل أو المرأة بتبني هذه الثقافة قبل غيرهم، وتلقينها للأبناء والصغار في مرحلة مُبكرة من عُمرهم، وتعليمهم ضرورة مُراعاة الحد الأدنى من الجانب الاستهلاكي في حياة الأسرة، وعدم التبذير والإسراف، والعمل على قدر الإمكان بالتقليل من الكماليات التي يُمكن الاستغناء عنها في الحياة.
ومن المهم أن تربط مسألة صرف مبالغ الضمان أوما في حكمها بحصول المستفيد على دورات تثقيفية في كيفية الادخار واستثمار المبالغ التي يحصل عليها حتى لو كانت قليلة، وهناك آليات سهلة جداً لتفعيل ذلك، أما منح المبالغ بلا برامج توعية في كيفية إدارتها فهي غير مجدية.
ومن ثم فمسألة التوعية مهمة جداً، وهو ما تطرقت له الورقة الرئيسة والتعقيبات عليها، بالتأكيد على ضرورة حث المرأة على الإنخراط في سوق العمل، من أجل إيجاد أسرة متعددة مصادر الدخل، وهذا جيد، ولكنه لا يكفي، حيث ما تزال ثقافة المرأة السعودية، في الغالب، تعتمد على الأب لتوفير كل شيء، حتى لو كانت الأم عاملة وكذلك الأولاد. ولهذا فهناك حاجة إلى توعية مركبة.
وهناك نقطة مهمة جداً تتعلق بالتأثير الاجتماعي، وهي جديرة بتسليط الضوء، فهناك ثقافات كثيرة بعضها دخيلة كالفشخرة والمباهاة، وأخرى متأصلة خاصة لدى بعض البادية كالتكلف المرهق الذي لا يمكن الشخص من الادخار، ومعه يتطلب توعية ليس للمدخر المغلوب على أمره، بل لجماعته الذين يبتزونه بشكل متعمد، فإما أن ينفق كل ماله في استضافتهم، أو يشنعون به فيخسر كرامته بين أهله وجماعته.
وفي سياق متصل، تبرز أهمية تعزيز وجود الطبقة الوسطى للابتعاد عن قاتل المجتمعات وهو الفقر المتمثل في الطبقات الفقيرة والتي من المعيب أن توجد في مجتمعات الرفاهية والوفرة المالية كمجتمعنا السعودي. فلقد اثبتت الغالبية العظمى من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية الرصينة أن حجم الطبقة الوسطى في أي بلد له آثار ايجابية اقتصادية وسياسية واجتماعية كبيرة، فالطبقة الوسطى الكبيرة تزيد من الطلب على السلع والخدمات المحلية، وتساعد في دفع النمو الاقتصادي الذي يقوده الاستهلاك الصحي الرشيد، الذي يمكنهم من التوفير المالي ليحققون بعد ذلك فرص للادخار ثم الاستثمار ومن صور ذلك الاستثمار في تعليم أبنائهم بشكل مميز، وهو ما يصب في مصلحة رأس المال البشري للبلد ككل. وفي جميع الدول ومنها المملكة، يمكن للمنتمين لهذه الطبقة أن يعملوا مخاطر استثمارية تجارية معقولة، ليصبحوا مستثمرين أيضا، إلى جانب كونهم مستهلكين وعمالا في الأساس.
كما ثبت أن وجود طبقة متوسطة كبيرة يعتبر أمرا حاسما لتعزيز الأمن الوطني فالمواطنون المنتمون لهذه الطبقة يرغبون في الاستقرار والقدرة على التنبؤ، وهي الأشياء التي لا يستطيع توفيرها سوى نظام سياسي يعزز المنافسة العادلة، بحيث لا يستطيع الأغنياء الاعتماد على امتيازات معينة لجمع الثروة على حساب مكتسبات المجتمع الكلية.
وفي الجانب القانوني البحت تؤكد الدراسات أن كثرة الطبقة الوسطى في المجتمع قد يضمن إلى حد كبير أن يتمتع البلد بالاستقرار السياسي والاقتصادي وتوفير الأمن الفكري لدى الشباب والناشئة.
ومن المهارات الضرورية للتعامل مع متطلبات الحياة حسن الإدارة للمالية، وهذا من الثقافة التي يجب أن نكسبها للأبناء في ظل الأسرة لاسيما مع التحدي الاقتصادي الكبير الذي تراء في خبث الشركات والمسوقين وفي ظل التغير الرقمي والذي للأسف أصبح أداة للتأثير السلبي. ويجب مشاركة الجهات المعنية في تعزيز الوعي بأهمية الادخار من خلال الاعلام والمنابر الدينية والتربوية، وكذلك عقد دورات تثقيفية من البنوك.
وبالنظر لتأثير التضخم على القيمة النقدية وهو أحد أسباب عزوف الكثير من فئة الشباب عن توفير العملة النقدية لسنوات ولسان حال البعض يقول (الموفر محروم مغبون)، فقد أصبح من الضرورة رفع وعي الفرد بأهمية وأساليب الادخار والاستثمار وذلك من خلال عدة طرق أحدها تضمين ثقافة الادخار والاستثمار في المناهج الدراسية وتعزيز الثقافة المالية لدى الجيل الجديد بما يضمن لهم جودة حياة ومستقبل أفضل. أيضا المبادرات المجتمعية في التوعية والتثقيف لها دور كبير في تعزيز الثقافة المستهدفة، ومن الضروري حث المؤسسات الحكومية والخاصة لتشجيع الموظفين على الادخار (تجربة أرامكو وسابك مثال). وكذلك دور مراكز البحوث والدراسات لدراسة عوامل معوقات ومحفزات الادخار والاستثمار في المملكة والخروج بتوصيات تساهم في رفع معدلات الادخار والاستثمار في المملكة.
أيضاً يجب دعم الاستثمار التكافلي العائلي، وتشجيع الاستثمار من خلال وضع قوانين كفيلة بحمايه حق المستثمر الصغير أو المساهم في الاستثمارات في شركات الاستثمار الكبرى وحكومتها تحت مظلة شرعية تضمن حق المستثمر.
وبصفة عامة، مازال مفهوم الادخار وأهميته يحتاج لبرامج توعية وتثقيف من البنوك مع وضع آلية لحماية المدخر من الخسائر التي لا يتوقعها خاصة لبعض الأسر المتوسطة الدخل. وكذلك لا ننسى أهمية دور مجلس شؤون الأسرة في تكثيف برامجه التوعوية في المجال الاستهلاكي للأسرة السعودية بشكل دوري وذلك بالتعاون مع المؤسسات المالية.
وارتباطاً بما تقدم، فإن برامج وسلوكيات الحث على المظاهر والبذخ والاقتراض غير المسؤول، والتباهي، قدر الإمكان يجب أن تكون غير مرحب بها على أقل تقدير، إن لم يكن أدوات للتقليص منها من خلال:
- سن الضرائب على كماليات الترف بنسبة مختلفة عن الحاجيات والضرورات.
- توجيه البنك المركزي للبنوك بسياسات ائتمانية تعزز الاقتراض للأساسيات، بنسب ربح معتدلة، في حين تكون نسب الربح أعلى للإقراض للترف من الكماليات.
وبالنظر إلى أن مصطلحي الادخار والاستثمار يعتبران حديثان على أغلب فئات المجتمع ولم يظهرا الا بعد ظهور الرؤية، فلعل من المناسب البدء بترسيخه من خلال المناهج التعليمية منذ المرحلة الابتدائية، وكذلك عبر الأنشطة اللاصفية، فإنها إذا لم تشجع الاطفال وتوعيهم مبكرًا فستستمر الاجيال في الاستهلاك بدل الادخار وقد كانت تجربة المقاصف المدرسية نموذجًا مشجعًا على الادخار والاستثمار رغم بساطته في نظر البعض إلا أنه كان في ذاكرتنا ذو أثر وإن كان لم يستمر. ولابد من برامج مكثفه ومستمرة من جمعيات التنمية الأسرية لمعالجة الخلل في الاستهلاك؛ وبالتالي الوصول إلى الادخار والاستثمار الذي يعتبر حلماً صعب المنال لدى كثير من الاسر التي بالكاد يكفي الراتب إلى منتصف الشهر وخاصة مع ارتفاع الاسعار دون ارتفاع دخل الفرد. كما أنه ثمة أهمية لإيقاف استنزاف دخل الشباب بتسهيلات الاقتراض التي ما أن يقع في شباكها حتى يدرك أن الأمر ضاعف الاحتياج ولم يحل المشكلة. ومن جانب آخر هناك اشكالية ايقاف الخدمات التي تمس فئة ليست بالقليلة حيث ضاعفت أزمة الدخل وعطلت نمو فرص الادخار.
- التوازن بين الاستهلاك والادخار كضرورة معاصرة.
لأنّ التوازن بين الاستهلاك والادخار، أمر حيوي، ويعد من أهم عوامل التنمية، وأيّ خلل في منظومتهما يؤثر سلبًا على معدلات الاستثمار بشكل خاص وعلى الاقتصاد الوطني بشكل عام، علينا كبداية، أن نعيد التوازن بينهما، بتدعيم ثقافة الادخار، والحد من الإسراف وترشيد الاستهلاك.
فالادخار من أهم القضايا التي يجب أن تلتفت إليها كل أسرة، وتحتاج لمزيد من التثقيف والتوعية المستمرة حولها؛ لتدني نسبة الادخار في السعودية بشكل مخيف، والمعاناة من طغيان ثقافة الاستهلاك، خاصة في أوساط الشباب.
لكن كيف يتم ذلك؟! لاسيما ونحن نجد من خلال واقع الحياة، أنه أصبح من الصعب التوفير والادخار حالياً في ظل وجود مواسم الترفيه المتكررة، وخيارات التسوق المغرية من الوجبات والمركبات وخيارات السفر. وغيرها من الأمور التجارية التي نجحت إلى حد ما في استقطاب شريحة كبيرة من الأبناء من خلال العروض والحوافز الإعلانية.
كما أن المتابع لاستهلاك الفرد السعودي خلال السنوات الأخيرة يجد أنه تضاعف على المطاعم والمقاهي ووسائل الترفيه المختلفة، عدا عن استهلاك المصروفات على الهواتف خاصة فيما يتعلق بحزم البيانات التي أصبحت تستهلك أكثر من السابق بسبب وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.
من جهة أخرى، وفي هذا العصر المادي البحت، بما فيه من ضرائب وغلاء، نجد أن ارتفاع الأسعار المستمر يجبر الأسر على زيادة مخصصاتها الشهريّة للإنفاق الأسري.
إلا أن تراجع أسعار السلع الغذائية والأساسية يدعم ميزانيات الأسر التي قد يشجعها هذا الانخفاض على الاتجاه نحو الادخار ومن شأنه توجيه مبالغ إضافيّة إلى الادخار أو الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المختلفة. وهذا لن يتحقق إلا بتدخل الحكومة وحث التجار على استقرار الأسعار ومن ثم العمل على تخفيضها.
ولا يفوتنا في هذا السياق.. أن نذكر أن أحد أهم أسباب عدم قدرة من يفترض أنهم يستطيعون الادخار ولا يفعلون، هو وقوعهم في فخ “اشتر الآن وسدد لاحقًا”؛ فهم واقعين تحت مغريات الاستهلاك الكثيرة وتسهيلات الدفع الميسرة.
ولأن غريزة التملك من الغرائز الفطرية لدى الإنسان، علينا استمرار توجيه جميع أفراد الأسرة بأهمية الموازنة بين القدرات والرغبات.
كما أن هناك موضوع آخر في غاية الأهمية.. ويتعلق بما تقوم به كثير من البنوك والمؤسسات المصرفية من تسهيل لإجراءات الحصول على القروض الشخصية – خاصة في أوقات الأعياد والإجازات – التي لا تعود بالنفع على المجتمع، وذلك بدلاً من ضخ هذه الأموال في استثمارات تؤسس لمشاريع صناعية وتجارية تدفع بعملية التنمية إلى الأمام. وهو الأمر الذي سهل على العديد من الأشخاص للجوء للاقتراض. والنتيجة وقوع غالبية هؤلاء المقترضون فيما يُسمَّى “الاقتراض الخاطئ”؛ حيث يقترض الشخص من أجل شراء سلع كمالية أو رفاهية، وتُصرف أحيانًا في قضايا وبنود وأمور غير أساسية أو ضرورية أو عاجلة. بل هي في كثير من الأحيان تأتي من أجل التباهي ومحاكاة الأشخاص المقتدرين.
ولو كانت هناك دراسات كافية عن أسباب ارتفاع نسب القروض الشخصية خاصة أوقات دخول المدارس أو قبيل موسم رمضان والأعياد، لوجدنا أن من أهم الأسباب، هو: غياب ثقافة التوفير أولًا وسوء التخطيط المالي ثانيًا لدى العديد من أفراد المجتمع خاصة محدودي الدخل. فبدلًا من قيامهم بالادخار لأي ظروف طارئة أو مصاريف مستقبلية يجب وضعها في الحسبان، يلجؤون إلى الاقتراض؛ لأنه الحل الأسرع بالنسبة له، متناسين أن الاقتراض عبارة عن مُسكّن لا علاج، وهو ليس الحل الأنسب لحل مشاكلهم، فإذا كانوا لا يستطيعون توفير مبلغ القرض فكيف لهم سداد القرض وفوائده…!
لذا من الضروري تنظيم عملية منح القروض الاستهلاكية للأفراد بوضع حد أقصى للقروض لا يتجاوز الـ 60 % من إجمالي الدخل. وإجراء دراسة خاصة للاحتياجات الفعلية للمقترض قبل حصوله على القرض؛ تتضمن البحث في قدرته على السداد، وأي البنوك أفضل عن الآخر ويتناسب مع وضع وظروف الراغب في الاقتراض.
من المناسب هنا الاستشهاد بما قاله عبدالله صادق دحلان، عن الادخار بأنه: علم وفن، وعادات وتقاليد، وإن ثقافة الادخار تأتي بعد نشر ثقافة الترشيد في الإنفاق، وعلينا أن نبدأ في نشر هذه الثقافة من البيت إلى المدرسة إلى الجامعة إلى العمل.
لذا نحن مطالبون بابتداع أفكار تكفل تحويل الاستهلاك إلى ادخار عبر ممارسات وبرامج ووسائل مبتكرة نابعة من المجتمع وتراعي خصوصيته، وتستند على بديهية المثل الدارج: كيف تحفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود باستخدام علم السلوك.
وحيث أن العمل على ذلك يتطلب، إعداد برامج الكترونية توعوية متطورة تلامس الأطفال والشباب خاصة، تبث باستمرار عبر منصة تويتر وسناب تشات وتيك توك على سبيل المثال لا الحصر؛ لإعادة صياغة الأنماط السلوكية لهم، خصوصًا فيما يتعلق بالتحول من نمط التبذير والإسراف إلى نمط الادخار، وكذلك الإعداد لحملات تثقيفية واسعة لكافة أفراد المجتمع عن العلاقة بين الادخار واقتصاد الدولة، وأنه كلما زادت القدرة على الادخار زاد الانتعاش الاقتصادي؛ إذ يُعد الادخار المدخل الرئيس للاستثمار، وإذا انخفض الادخار ستنخفض فرص الاستثمار. وعليه؛ لابد من تكاتف المجتمع مع الجهود المبذولة من جميع الجهات لتحقيق مستهدفات عملية التنمية بأشكالها المختلفة.
كما تبرز حاجتنا الماسة لاستطلاعات حديثة تخرج لنا ببعض المؤشرات حول مدى انتشار ثقافتي الادخار والاستثمار لدى الأفراد، وأهم الأسباب والمحفزات التي تدفعهم لادخار أموالهم. وماهي الطرق التي يتبعها الأفراد عادة لادخار الأموال واستثمارها. وكذلك قياس اتجاهات الأفراد نحو الاستثمار بمختلف أنواعه وأسباب عزوف الأفراد عنها. وأيضا معرفة مصادر المعرفة التي يلجأ لها الأفراد للحصول على المعلومات الخاصة بمجال الادخار والاستثمار.
فهناك شريحة من الشباب مما يتكون لديهم مبالغ مالية تتجاوز حاجتهم الأساسية ومصاريفهم الرئيسة ونتطلع منهم أن تكون نظرتهم إلى المستقبل أعمق، حيث يدخرون ويستثمرون حتى لو كانت أرصدتهم متواضعة لكنهم يواجهون مشكلة استثمار ما يتجمع لديهم من مبالغ في ظل غياب تام لثقافة الاستثمار، والخوف من أن تمتد أيديهم إلى الصرف من هذا الادخار في السفر والمطاعم والمقاهي. (من النصائح المالية المتعلقة بالتخطيط المالي، أن يتوفر في حسابك البنكي مبلغًا من المال يكفيك لمدة ثلاثة أشهر على الأقل لتغطية نفقاتك في حال فقدان وظيفتك. أو حدوث تغييرات اقتصادية أو مالية تتطلب تكاليف إضافية لم تكن بالحسبان).
أن المسؤولية في المقام الأول تقع على ثقافة “تتفيه” المال قولاً، والاهتمام به حقيقة، لنجد أنفسنا بين حالات من الاستقطاب، بين مفرط ينفق كل ما يصل ليديه، وبين مَن يكتنز المال بكل أشكاله ويحرص على الاقتناء والاستثمار لذاته ومنفعته، دون انعكاس يذكر على المجتمع، في حين أن المطلوب هو الربط “الوشائجي” بين الأمرين أن ندخر لكي نستثمر لا لكي نكنز.
والادخار وحفظ المال للحاجة أسلوب قديم ومعروف لدى آباءنا، ويحرص عليه كل العقلاء؛ حتى لا تصيبهم الحاجة والحرج وقت الشدة. لكن الاستثمار يعتمد في المقام الأول على مدى قدرتنا على التحكم في أموالنا الخاصة بعد تقدير وضعنا العائلي والمهني. كما تختلف شخصياتنا وسلوكنا تجاه المال من فرد لآخر داخل الأسرة الواحدة.
وهي كلها عناصر مهمة يجب التعرف عليها قبل الادخار تمهيدًا للاستثمار وليس الكنز. ويجب أيضا تحديد أي نوع من المستثمرين نحن؟ وما هو الطريق الأفضل والأمن لاستثمار أموالنا؟ وما مدى رغبتا في المجازفة؟ فكما هو معروف كلما ارتفعت نسبة المجازفة كلما زادت الأرباح. لكن يبقى العامل الأهم وهو وجوب استثمار ما يتبقى من مدخراتنا التي نحافظ عليها في شكل سيولة تجنبًا لأي ظروف طارئة وهو ما يسمى الادخار الوقائي والذي يتم إنشاءه لمواجهة فجائيات الحياة. لكن الادخار الموجه للاستثمار في كل أحواله لابد من انعكاس آثاره بشكل أو بآخر على المجتمع.
وعلى من يؤمنون بكنز أموالهم بدلًا من استثمارها الأخذ بنصيحة خبراء الاقتصاد بأن أفضل طريقة لحماية المال من معدلات التضخم، التي قد تأكل قيمتها مع مرور الزمن، هو استثمارها، بمعنى آخر “إن لم تستثمر مدخراتك في أي شيء، فهذا لا يعني تمامًا أنك تحافظ عليها، رغم أنها محفوظة نظريًا”.
- التوصيات
- تسريع تفعيل مبادرة التثقيف المالي للمراحل العمرية على تفاوتها، وربطها ببرامج الدعم الاجتماعي مثل الضمان الاجتماعي وحساب المواطن، وكذلك في المراحل الدراسية العامة والجامعية.
- لتعميق وتعزيز ثقافة الادخار والاستثمار لدى الناشئة تبرز أهمية عقد فعالية مدرسية سنويا في كل منطقة تعليمية “للمستثمرين الشباب” تحت إشراف إدارة التعليم وبالتعاون مع البنك المركزي، يتم فيها تقديم محاضرات عن أهمية وأساليب الادخار للناشئين كما يتم تكريم عدد من المدخرين الطلاب والطالبات وفق معايير توضع لذلك أو ربطها بتخرجهم من المدرسة.
- إعادة إحياء مفهوم صناديق الطلبة والاستثمار في مقصف ودكان الطالب وتوزيع الأرباح على الطلاب المستثمرين نهاية السنة وإعادة مبلغ الاستثمار للطلب المتخرج.
- إطلاق منصة تفاعلية تقدم دورات تثقيفية وتدريبية ومهنية عن التخطيط المالي تستهدف جميع فئات المجتمع عن طريق تنظيم حملات توعوية وطنية تحذر من الإسراف وتحفز على الاستثمار.
- اشراك البنوك وشركات التأمين وشركات التقنية المالية لتوفير منتجات ادخارية موجهة للفئات العمرية على تعددها وللأفراد على تفاوت دخلهم.
- استغلال اليوم العالمي للادخار والذي يوافق 31 أكتوبر من كل عام فرصة للتشجيع على تعزيز ثقافة الادخار.
- تحفيز الشركات والمؤسسات الحكومية بالمساهمة في تأسيس صناديق ادخارية للعاملين لديهم وذلك من منطلق ترشيد الإنفاق داخل الأسرة.
- المصادر والمراجع
- كي بي إم جي في المملكة (2020). تحليل ادخار الأسر في المملكة العربية السعودية، مايو 2020.
- لال الدين، محمد أكرم وآخرون. (2020). الاستثمار في صناعة التكافل أبعاده وأحكامه ومشاكله، الدورة العشرون لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
- النجار، حنان إبراهيم. (1989). أساسيات قرارات الادخار والتمويل والاستثمار لتطوير سوق المال: دراسة علمية إسلامية. المؤتمر العلمي السنوي السادس: مؤتمر المدخرات في مصر مصادرها – قنوات تعبئتها – اتجاهات تخصيصها، القاهرة: كلية التجارة – جامعة المنصورة، 20 – 55 .
- الغزالي، عبدالحميد. (1981). الاستهلاك والادخار والاستثمار وحقيقة الاقتصاد المصري. المؤتمر السنوي السابع عشر: استراتيجية الإدارة والسياسات الاقتصادية الحاكمة، الإسكندرية: جماعة خريجي المعهد القومي للإدارة العليا، 437-445.
- البساط، هشام. (2008). دور أنظمة الادخار في تعبئة المدخرات وفي الاستثمار طويل الأجل. أعمال المؤتمر العلمي التاسع: دور القطاع المالي في التنمية العربية، القاهرة: الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، 207 –
- آل طالع، حسن أحمد طالع. (2020). أثر تبني الموازنة الشخصية على العادات الشرائية والادخار والاستثمار الشخصي. مجلة جامعة الملك خالد للعلوم الإنسانية، مج 7، ع 1، 367 – 394.
- الغزالي، عبدالحميد. (1981). الاستهلاك والادخار والاستثمار وعلاقتهم بالقطاعات المؤسسية. مجلة المدير العربي، ع 74، 12 – 16 .
- الجعفري، عبدالرحمن بن أحمد. (1997). الادخار والاستثمار ومستقبل التنمية الصناعية. التعاون الصناعي في الخليج العربي، مج 17، ع 67، 3-5.
- الروبي، ربيع محمود. (2002). المنهج الإسلامي في الادخار والاستثمار. أبحاث ندوة التربية الاقتصادية والإنمائية في الإسلام، القاهرة: مركز صالح عبد الله كامل للاقتصاد الاسلامي، جامعة الأزهر – مركز الدراسات المعرفية، 1 – 35 .
- الجزار، جعفر، والعطار، فريال عقيل. (2004). الادخار والاستثمار والمضاربة في البورصة. مجلة الكويت الاقتصادية، مج 8، ع 17، 91 – 95 .
- المشاركون.
- الورقة الرئيسة: د. إحسان بوحليقة
- التعقيب الأول: د. ناصر القعود
- التعقيب الثاني: أ. بسمة التويجري
- إدارة الحوار: م. محمد المعجل
- المشاركون بالحوار والمناقشة:
- د. صدقة فاضل
- د. مساعد اليحيا
- د. فهد الغفيلي
- د. عبدالرحمن العريني
- د. فهد اليحيى
- د. زياد الدريس
- أ. أحمد المحيميد
- د. محمد الثقفي
- د. خالد المنصور
- أ.د. محمد المقصودي
- العميد الركن فواز العنزي
- أ. فائزة العجروش
- د. نادية الشهراني
- د. سكينة الشيخ
- د. أماني البريكان
- أ. فهد القاسم
- د. خالد بن دهيش
- د. موضي الزهراني
- د. محمد الملحم
- أ. عبدالرحمن باسلم
- أ. عاصم العيسى
- د. عبدالإله الصالح
- د. فوزية البكر
- أ. فهد الأحمري
- د. فيصل المبارك
- أ. سمها الغامدي
- د. حميد الشايجي
- د. زياد الحقيل
- د. محمد الملحم
- أ. هناء الفريح