قضية الأسبوع:”النظام العالمي” الجديد ودور المملكة والعرب فيه …؟!

الورقة الرئيسة

“النظام العالمي” الجديد ودور المملكة والعرب فيه …؟!

 

كاتب الورقة: د. صدقة بن يحيى فاضل

تعقيب: د. عبدالله العساف ، و أ. سالم اليامي

تدفع تصريحات بعض الزعماء، والمراقبين السياسيين، عما سيكون عليه “النظام العالمي”، أو “المنتظم العالمي”، بعد انتهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، للحديث عن هذا النظام، والية تغييره، وأهم تداعياته المتوقعة.  ومن التصريحات المتعلقة بهذا الموضوع : التصريح الذي أدلى به مؤخرا الرئيس الروسي “فلاديمير بوتن”. حيث قال :”اننا نسير في الطريق الى عالم متعدد الأقطاب. وهذا سيعنى استبدال النظام أحادي القطبية، الذي عفا عليه الزمن، بنظام جديد متعدد الأقطاب، قائم على المبادئ الأساسية للعدالة والمساواة”…

وفي بداية طرح هذه القضية للنقاش، لا بد أن نتطرق لمسالة تغير النظام العالمي، التي بات يترقبها خبراء السياسة والعلاقات الدولية في العالم.  وربما يفوت على البعض ان النظام العالمي لا يمكن ان يكون ثابتا، فهو في حركة تغيير حتمية متواصلة. وهو لا ينشأ بالاتفاق، أو ابداء الرغبة في التغيير، بل يفرض نفسه، كأمر واقع، شاء من شاء، وأبى من أبى. وهناك، كما سوف نرى، خمسة أنظمة عالمية رئيسة ممكنة. وكل نظام يختلف عن الاخر، من حيث ماهيته، وما ينتج عالميا، وإقليميا، عن قيامه، بالنسبة لاطراف العلاقات الدولية المختلفين، المعاصرين له، من أصدقاء ومعادين. وبصفة عامة، هناك من يستفيد، وهناك من يتضرر، باعتبار أن كثيرا من الاحداث السياسية ينطبق عليها القول بأن :  “مصائب قوم عند قوم فوائد، وفوائد قوم عن اخرين، مصائب”…

ويعرف “النظام العالمي” ( World Order) بأنه : “وضع القوة العالمي. بحيث يفرض الاقوى نفسه وهيمنته عنوة. انه علاقات القوى والسيطرة فيما بين دول العالم، في وقت معين. أي توزع وتركز القوة والنفوذ والسيطرة الدولية، وطبيعة ذلك التوزيع، وما ينجم عنه من هيمنة وأثار، على أطراف العلاقات الدولية، ومجرياتها”.

والحديث عنه كمنتظم ( ٍSystem) الغرض منه تسهيل فهم هذا الواقع الدولي، الذي يؤثر، بشكل أو اخر، إيجابا وسلبا، على كل أطراف العلاقات الدولية، وعلى مجريات الاحداث الدولية اليومية. وأكاديميا، يعتبر “أداة تحليلية” تشرح، وتوضح، ظاهرة دولية عالمية كبرى. وهو أيضا “مفهوم” علمي له عناصره الراسخة.

****

أن حتمية “التغيير” تصيب “النظام العالمي”، مثلما تلحق بأي واقع سياسي واجتماعي واقتصادي آخر. فظهور وتبلور نظام عالمي معين، يعني أن ذلك النظام قد جاء نتيجة لقانون التغيير والتطور، ليعقب نظام عالمي غابر… ويحل محله. ثم لابد أن يحين الوقت الذي يخلي النظام العالمي فيه المكان لنظام عالمي آخر… تبعا لتغير توزيع القوة الدولية، بين أطراف العلاقات الدولية… وهكذا. وفي الواقع، فإن الفترة التي يستمر خلالها نظام عالمي ما، تختلف من نظام عالمي لآخر، تبعا لتغير العوامل…التي تلد الأنظمة الإقليمية والعالمية، بل والمحلية. فالتفاوت في الاستمرارية ينتج عن التفاوت (الديناميكي/الحركي) قي القوة، واختلاف وتنوع ظروف الاطراف المعنية، وظروف منافسيهم.

ونذكر أن هناك خمسة أنظمة (أو منتظمات) عالمية رئيسة ممكنة، هي:

1- نظام القطبية الثنائية المحكمة: حيث يسود قطبان، قبضتهما على العالم محكمة. وفي هذا المنتظم، يصعب على الدول الأقل قوة اتخاذ موقف الحياد.

2- نظام القطبية الثنائية الهشة: حيث يسود العالم قطبان، قبضتيهما على العالم هشة. الامر الذي يسمح لقوى ثالثة بهامش (كبير ، نسبيا) من حرية التحرك، بما في ذلك الوقوف على الحياد..

3- نظام توازن القوى: وهنا توجد عدة تحالفات، وتكتلات دولية، شبه متنافرة، متساوية، أو شبه متساوية القوة. مما يردع كل منها عن مهاجمة الاخر، خشية التعرض لأضرار فادحة. فيبقى “السلام” بين هذه الأطراف، طالما لم يختل التوازن.

4-نظام القطب الواحد: حيث يسود العالم، خلال فترة محددة، قطب (دولة عظمى) واحد هو الاقوى، يفرض، الى حد كبير، قيمه، ومصالحه، وتوجهاته..

5- نظام الاقطاب المتعددة: وهنا نجد أكثر من دولتين عظميين، تتحكم (الى حد كبير وملموس) بمقاليد السياسة والعلاقات الدولية، خلال فترة معينة.

****

ويبدو أن المدة التي مكث خلالها النظام العالمي الراهن (نظام القطب الواحد/الولايات المتحدة) قد انتهت…إذ أن النظام العالمي الحالي (2023م) اخذ في التحول (عنوة) إلى نظام عالمي آخـــر…أما النظام العالمي الجديد، فهو: نظام الأقطاب المتعددة. وقد يستغرق “استتباب” نظام الأقطاب المتعددة هذا بعض الوقت (ربما 1-3 سنوات).

إن النظام العالمي الراهن، تغير ، لعدة أسباب، لعل أهمها:

  • التدهــــور الاقتصادي النسبي، الذي تعــاني منه الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، والذي بدأ ينهك قوى أمريكا… ويضعف من نفوذها العالمي، بشكل متزايد- خاصة بعد أزمة كورونا العالمية.
  • وجود دول كبرى بدأت قوتها الاقتصادية والتقنية والعسكرية في الصعود والتزايد…الأمر الذي يؤكد تطور هذه الدول، لتصبح دولاً عظمى… تتنافس مع الولايات المتحدة، للتربع على قمة العالم الاقتصادية والسياسية.

وقد تحددت هذه الدول ـ تقريباً ـ وأصبح المراقبون يشهدون صعودها، إلى مكانة الدول العظمى. وهذه الدول هي: الصين، روسيا، بالإضافة إلى استمرار الولايات المتحدة، كدولة عظمى، لتكون قطباً، من عدة أقطاب. وبذلك، سيصبح هناك 3 دول عظمى (3 أقطاب). ونظرا لتفاوت قوة كل من هذه الدول، ستظل أميركا الدولة العظمى الاولى، والصين الثانية، بينما روسيا الثالثة… وسيتأكد تحول النظام العالمي الراهن إلى نظام الأقطاب المتعددة. ولن تستطيع الصين الاستمرار طويلا في قمة العالم، الا إذا انفتح نظامها السياسي أكثر، وسمحت بالتعدد الحزبي. ولن تستمر روسيا كذلك، الا بالقيام بالمزيد من التنمية السياسية والتقنية، والاقتصادية. فلن يكفي كونها ثاني أقوى دول العالم عسكريا، للاستمرار في القمة.

****

والمرجح ألا يشهد مستقبل العالم المنظور غير منتظم الأقطاب المتعددة المذكور، والذي قد يستمر لعقود قادمة، لعدة أسباب، لعل أهمها:

  • استبعاد ظهور نظــام “توازن قوي” (رقم 3) على المستوى العالمي.
  • ضعف احتمال انفراد دولتين (عظميين) فقط، بالسيطرة على السياسة الدولية، سواء سيطــرة هشة أو محكمة. وذلك لتصاعد قوة عدة دول. وتوافر الندية في مستوى القوة بينها. وهذا يحول دون ظهور المنتظمين (1 و2).
  • انحسار منتظم القطب الواحد (رقم 4) الذي يسود العالم في الوقت الراهن، للأسباب التي ذكرت أعلاه.

لهذه الأسباب، وغيرها، فإن النظام العالمي الجديد (خلال 1-3 سنوات من الان) لن يكون سوى نظام التعدد القطبي (منتظم رقم 5).

****

والمرجح أيضا، أن يكون كل قطب قادراً على تدمير الآخر… بما لديه من أسلحة دمار شامل. كما يتوقع أن يكون أساس العلاقات فيما بين الأقطاب القادمين، هو الصراع… لا التعاون. وبالطبع، لا بد من الصراع والتنافس. فالعلاقات الدولية هي ـ بطبيعتهاـ علاقات تتأرجح بين التعـــاون والصراع… وما بينهما، كما هو معروف. ولكن، عدم قدرة أي قطب على التخلص من الآخر، دون أن يهلك هو، ترغم كل الأقطاب على أن يكون التعاون فيما بينهم هو المطلوب… وأن يهمش الصراع، إلى أدنى درجة ممكنة. ورغم ذلك، يتوقع بعض المراقبين أن يوجد تحالف استراتيجي بين روسيا والصين، لمواجهة خطر مشترك (الولايات المتحدة) سيما وأنه يسود التعاون الان في العلاقات بين الصين وروسيا.

وقد يحاول الأقطاب الاتفاق على أسلوب التحرك دولياً… وربما الاتفاق على “توزيع” مناطق النفوذ، وعدم السماح لأي طرف أصغر، بجرهم إلى صراعات ساخنة مدمرة. كما يتوقع أن ينصب التنافس فيما بين الأقطاب القادمين، على عمليات التنمية الاقتصادية والعلمية والتقنية، ومحاولات السيطرة (السياسية) على مصادر الطاقة، والمواد الخام، خاصة في دول العالم النامي. وتلك من التفاصيل التي “تنبأ” بها هنري كيسنجر، وغيره من علماء العلاقات الدولية العالميين.

نعم، بدأ العالم يسود فيه نظام “التعدد القطبي”، رغم استمرار القطب الأمريكي (الوحيد سابقا) في المركز الأول. هناك الان ثلاثة قوى عظمى: أمريكا، الصين، روسيا. ان العلاقات فيما بين الأقطاب كثيرا ما تحدد وضع السلام، أو الحروب، في العالم، وفي أقاليمه الهامة. والتحليل الموجز للعلاقات الان فيما بين هؤلاء الأقطاب، يكشف ان الصراع يسود العلاقات الامريكية – الروسية، وكذلك العلاقات الامريكية – الصينية. أما العلاقات الصينية – الروسية، فيسود فيها التعاون على الصراع. وهذا ما يدفع بعض المراقبين لتوقع قيام تحالف صيني- روسي، ضد عدو عتيد مشترك، هو أمريكا/ ناتو، كما أشرنا انفا.

****

النظام العالمي الجديد والمنطقة العربية (الشرق الأوسط):

لو تساءلنا، لمجرد الجدل: ما هو أفضل “نظام عالمي”…؟! هنا، لابد أن نسأل من يسألنا: بالنسبة لمن…؟! فلابد من “تحديد” الطرف المعني، للإجابة السليمة على هذا التساؤل. وذلك اخذا في الاعتبار قاعدة أن: “مصائب قوم، عند قوم فوائد، وفوائد قوم عن اخرين، مصائب”… فنظام عالمي معين قد يكون لصالح الطرف “أ”، ولكنه لطالح الطرف “ب “، في ذات الوقت. لذلك، وعند الإجابة المنطقية على هذا السؤال، يمكن أن نقول (مثلا): أن أفضل نظام عالمي، بالنسبة لنا كعرب سعوديين، هو أن تكون بلادنا العزيزة (المملكة العربية السعودية) هي القطب الوحيد، لنعش عصرنا الذهبي، تماما كما حصل للأمريكيين، في الفترة 1991- 2022م. فان لم يكن، فدولة عربية إسلامية شقيقة، فان لم يكن فدولة صديقة بحق، تحترم حقوق الاخرين، وحقوق الانسان بالفعل. فان لم يكن، فنظام عالمي متعدد الأقطاب… وهكذا. ونفس المنطق ينطبق في حالة التساؤل عن “أسوأ” نظام عالمي.

وحتى الان، ما زالت أمريكا (وربيبتها إسرائيل) هي الأقوى نفوذا وهيمنة بالمنطقة العربية. وعلى المنطقة أن تدرك الان أن للولايات المتحدة، منافسين أنداد، يريدون أن يشاركوا أمريكا في “كعكة” المنطقة. فالصين خاصة بحاجة ماسة لنفط وغاز المنطقة. وتهتم روسيا بالمنطقة، لعدة أسباب، أهمها: قربها من روسيا، وإمكانية الحصول فيها على موانئ دافئة، مثل ما حصلت عليه في طرطوس السورية، ولكون المنطقة مهمة لأمريكا، وبقية القوى الكبرى.

أصبحت الولايات المتحدة مكتفية ذاتيا من النفط والغاز، وبالتالي لم تعد في حاجة مباشرة لهما. ولكنها تظل مصرة على التحكم في انسيابه لأصدقائها وأعدائها، والاستفادة من عوائده، قدر الإمكان. ولذلك، ستبقى أمريكا بالمنطقة، ولكن بزخم أقل، و”شروط” أشد. وستركز إمكاناتها العسكرية والدبلوماسية، من الان وصاعدا، على المحيطين الهندي والهادي، الملاصقين للصين، بل وعلى “بحر الصين” نفسه. ثم أوروبا وشمال الأطلسي، ثم منطقة الشرق الأوسط. والاقطاب العمالقة الثلاثة باقون، كلاعبين أساسيين على الساحتين العالمية، والإقليمية. وسيشتد تنافسهم على هذه المنطقة، الهامة جدا لثلاثتهم، وربما بنفس القدر لكل منهم.

أن مجرد تواجد الصين بالمنطقة، بهذا الزخم الاقتصادي، يثير التوتر مع بعض القوى الدولية، وبخاصة الولايات المتحدة. ويبدو أن اللعبة الصينية – الامريكية بمنطقة الخليج نتيجتها غالبا “صفرية”. فما تكسبه الصين بالمنطقة، تخسره أميركا، والعكس صحيح. ويتوقع أن يتفاقم هذا التوتر كلما توثقت علاقات الصين بدول المنطقة، واستتب نفوذها. الامر الذي قد يدفع لحصول بعض الاحتمالات الصراعية الجذرية، في مسار السياسة الدولية بالمنطقة العربية. ومن ذلك قيام تحالف صيني- روسي، يقلب توازن القوى بالمنطقة، والعالم، رأسا على عقب.

****

ومهما كانت العلاقات فيما بين هذه الأقطاب، أو علاقة كل منها بدول المنطقة، فان أهل المنطقة، شعوبا وحكومات، هم المسؤولين الاساسيين عن حماية أمن واستقرار واستقلال وتطور بلادهم. اذ عليهم، دائما ومهما كان وضع النظام العالمي السائد، أن يعملوا بجد وإخلاص وصدق لتقوية الذات، خاصة عبر “تطبيع” أوضاعهم السياسية، والتضامن (التكامل/ الاتحاد) البيني، لأقصى حد ممكن، ليضمنوا بقائهم واقفين … دون الحاجة الملحة لإسناد من هذه الدولة العظمى، أو تلك. ان من أهم وسائل حماية المصالح الوطنية، هي التنمية الإيجابية في كل المجالات، والتعاون والتكامل الإقليمي، خاصة ان تأكد وجود مصالح، وأخطار، مشتركة، كما هو الحال بالنسبة للعرب.

ان من مصلحة   المملكة، بل والعرب (كأمة) أن يتحول المنتظم الدولي الحالي إلى نظام التعدد القطبي… إذ أن ذلك سيسهل التحلل قليلا من ربقة بعض  الأقطاب، ومن سياساتها السلبية … عبر إمكانية الاستعانة (الحذرة) بالأقطاب الأخرى، في التصدي للمناورات المعروفة للأقطاب المؤذية للمصلحة الوطنية والعربية العليا.  ان من المؤكد، أن تضامن واتحاد العرب – ان حدث- سيجعل منهم قوة هامة، في أي نظام عالمي… وبصرف النظر عن ماهية ذلك النظام، وطبيعة وسياسات المسيطرين فيه.  فاتحادهم (أو التكامل الحقيقي فيما بينهم)، سيجعل منهم كياناً له سطوة وثقل الدولة الكبرى، إن لم نقل العظمى.

والمعروف أن “الدولة الكبرى”، تكون أقرب لمنزلة ونفوذ “الدولة العظمى”، من غيرها. كما أن “الدولة الكبرى”، أقدرـ في أي نظام عالمي ـ على حماية مصالحها، وتحقيق أهدافها العليا، من الدولة المتوسطة والصغرى والدويلات. تلك هي إحدى حقائق وثوابت العلاقات الدولية على مر العصور، وفي ظل الأحوال والمتغيرات والانظمة العالمية المختلفة.

****

السعودية وأميركا: علاقات متجددة تخدم المصالح المشتركة:

أسست المملكة العربية السعودية، وأعلنت كدولة حديثة، يوم 23 سبتمبر 1932 م. وتأسست الولايات المتحدة الامريكية يوم 4 يوليو 1776م. ومع مرور الوقت، وتفجر النفط بالسعودية، أصبح بين الدولتين علاقات وطيدة، ومتشعبة، ووثيقة، رغم التباعد الجغرافي الكبير بينهما، وصلت لدرجة التحالف الاستراتيجي الضمني. ومنذ تأسيس المملكة العربية السعودية، اعترفت بها الدول الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا والاتحاد السوفييتي. ثم اعترفت بها الولايات المتحدة رسميا عام 1933م. وفي نفس العام، تم ابرام اتفاقية امتياز التنقيب عن النفط واستخراجه، والتي بموجبها منحت شركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا” (Standard Oil of California) حق التنقيب عن النفط في المنطقة الشرقية من المملكة، مقابل اعطاء الحكومة السعودية مبلغ 53000 دولار، وتحمل تكاليف ورسوم الامتياز. وتم التوقيع، عام 1933م أيضا، على اتفاقية بين البلدين، لعلاقة الدولة المفضلة.

كانت العلاقة بين البلدين، في البدء، محدودة. حتى أن أميركا كانت تدير هذه العلاقات عبر سفارتها في مصر. ففي عام 1930م، أرسلت وزارة الخارجية الامريكية معاون الملحق التجاري بالإسكندرية (رالف تشيزبروف) الى جدة لاستطلاع الأوضاع، والنظر في إمكانية دعم هذه العلاقات. ولكن منذ العام 1933م، بدأت هذه العلاقات تنطلق نحو افاق أوسع. وبدأت شركات النفط الامريكية العاملة بالسعودية (الشركة الأولى، وما انضم اليها من شركات أخرى) تطالب الحكومة الامريكية بدعم العلاقات مع السعودية، لحماية مصالحها، عبر تعزيز الوجود الأمريكي، وضمان تدفق النفط السعودي للولايات المتحدة الامريكية. وفي عام 1943م، بدأ استخراج النفط يتزايد، وبكميات تجارية غير مسبوقة، وتولت “أرامكو” (شركة الزيت العربية الامريكية) التي تأسست عام 1933م، من شركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا”، وشركائها، تصدير النفط السعودي، ومشتقاته، الذي وصلت كمية المنتج منه، في كل عام 1943م، خمسة ملايين برميل سنويا.

****

وفي عام 1943م أيضا، عينت أمريكا أول قائم بالأعمال لها في جدة. وبدأت المملكة تصبح ذات أهمية كبيرة لأميركا، ابتداء من أربعينيات القرن الماضي. وخلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، تأكد أن النفط السعودي قد أضحى ذو أهمية بالغة للولايات المتحدة الامريكية، وللعالم ككل. وهذا دفع أميركا لتوثيق علاقاتها بالسعودية. وعبر عن هذا الاهتمام المتصاعد، وهذه الأهمية المتنامية، الرئيس الأمريكي “فرانكلين دي روزفلت”، يوم 16 فبراير 1943م، اذ قال: ” ان الدفاع عن السعودية أمر أساسي للدفاع عن الولايات المتحدة”.

وحصلت النقلة النوعية الأكبر في العلاقات السعودية-الامريكية، صباح يوم 14 فبراير 1945م، عندما التقى “فرانكلين روزفلت” بالملك عبد العزيز ال سعود، يرحمه الله، على متن حاملة الطائرات الامريكية “يو اس كوينسي”، في البحيرات المرة، لمدة خمس ساعات، واتفقا على دعم العلاقات الثنائية، بين البلدين، واتخاذ مواقف موحدة تجاه بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك.

لقد تأسست هذه العلاقات رسميا سنة 1933م. وفي عام 1944م، فتحت السفارة الامريكية لدى السعودية، لأول مرة، في مدينة جدة. ثم انتقلت الى الرياض عام 1984م، مع ثلاث قنصليات أمريكية في كل من جدة والرياض والظهران. وبلغت هذه العلاقات احدى ذرواتها، عندما زار الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترمب” السعودية، في مايو 2017م. وكانت أول رحلة خارجية له، بعد أن أصبح رئيسا للولايات المتحدة الامريكية. كما زار الرئيس الأمريكي الحالي “جوزيف بايدن” السعودية، في شهر يوليو 2022م، وناقش مع قيادتها العلاقات الثنائية وسبل دعمها أكثر، وبعض القضايا ذات الاهتمام المشترك. وحضر مؤتمرا ضم أمريكا، ودول مجلس التعاون الخليجي، إضافة لكل من مصر والأردن والعراق. وقد وصف وزير الخارجية الأمريكي الحالي “أنتوني بلينكن” هذه العلاقات بأنها: “علاقة وشراكة مهمة جدا، تربط الولايات المتحدة بالسعودية”. انها، بالفعل، علاقات وطيدة، ووثيقة بين حكومتي البلدين، وفي كل المجالات، وخاصة: السياسية والاستراتيجية والأمنية، والعسكرية والاقتصادية، والاجتماعية، بما فيها التعليمية والثقافية.

****

لقد استفادت المملكة العربية السعودية من علم وتقنية ومساعدة أميركا، وغيرها، وتمكنت من الشروع في تنمية كبرى شاملة لشعبها وبلدها، تمولها عائدات النفط، نقلت هذا البلد الى مصاف الدول المزدهرة، التي تتقدم يوما بعد يوم. كما استعانت السعودية بأميركا في الدفاع عن نفسها، وتقوية وتحديث جيشها، وتزويده بأحدث الأسلحة. إضافة الى العمل المشترك لضمان أمن واستقرار المنطقة. وفي المقابل، ساهمت السعودية في تحقيق معظم أهداف السياسة الامريكية تجاه المنطقة والعالم، مع الحرص على الالتزام باستقلالها، وبمبادئها وقيمها، وثوابت سياساتها، وانتمائها العربي، والاسلامي. ومن ذلك، إصرار المملكة على دعم الشعب العربي الفلسطيني، وضمان حقوقه في أرضه. ومطالبتها المتواصلة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967م، بعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم.  ومعروف، أن السعودية هي مصدر ما يسمى بـ “مبادرة السلام العربية”، التي أصبحت مبادرة عربية، وإسلامية، مطروحة من قبل العرب، بعد إقرارها في مؤتمر القمة العربي المنعقد في بيروت عام 2002م. وهي تشبه تماما مبدأ “حل الدولتين” الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة، وأيدته معظم دول العالم.

ومن المتوقع، استمرار هذه العلاقات الوثيقة، وتطورها، وازدهارها، في ظل النظام العالمي الجديد، طالما بقيت المصالح المشتركة بين الجانبين، قائمة ومتنامية. ويبدو أن النظام العالمي الجديد يتيح للمملكة فرصة “تعظيم” إيجابيات هذه العلاقة، بالنسبة لها، و”تقليص” ما لها من سلبيات معروفة. فهامش المناورة، في النظام الجديد، أصبح أوسع … أمام الدول الأقل قوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *