الورقة الرئيسة: الالتزام والمساءلة غير الرسمية في المؤسسات
د. نجلاء عبدالرحمن الحقيل – استاذ مساعد في القانون الاداري و الدستوري
كلية الحقوق والعلوم السياسية – جامعة الملك سعود
بداية، احب ان اشكر اسرة ملتقى إسبار على دعوتهم الكريمة للمشاركة بورقة العمل المتواضعة، على أمل أن تساهم ولو بالقليل في إلقاء الضوء على ما تحتاجه مؤسساتنا لتحقيق اهدافها من أجل مستقبل أكثر ازدهارا وتطورا.
نجد أمامنا في يومنا الحاضر العديد من الانظمة و القوانين التي تدعم وتساعد على مكافحة الفساد وحوكمة المؤسسات حيث تكون ادارة المؤسسة مبنية على اسس واضحة من الناحية الادارية ومن ناحية اتخاذ القرار ومن ناحية ضمان الشفافية و المسائلة. وهذه هي الخطوة الأولى لمواجهة المشكلة عن طريق وضع الأساس التشريعي اولا، وبعد ذلك، العمل على الجانب التنفيذي لتطبيق الانظمة و اللوائح. لكن تنفيذ هذه التشريعات الحديثة سيواجه مقاومة شديدة من قبل أفراد المؤسسة. لذلك لابد من تطبيق المساءلة الغير رسمية الى جانب المساءلة الرسمية لان تطبيقهما معا يضمن تكوين ثقافة الالتزام. العلاقة بين أفراد المؤسسة محكومة بحسب التنظيم الإداري الهرمي، وهذا يشير على الادارة الرسمية، لكن هناك ايضا في داخل أي مؤسسة ادارة ذاتية يمارسها الفرد على نفسه وعلى العاملين معه. عند تحسين مستوى الادارة الذاتية وفقا لأهداف المؤسسة، فهذا يضمن تعاون فعال بين الادارة الرسمية والغير رسمية لتحسين مستوى المؤسسة الإداري والمهني والاستراتيجي والاقتصادي. لذلك، تركيزنا هنا ينصب على صناعة عرف تشريعي يلتزم فيه أفراد المؤسسة للتشريعات المكتوبة طواعية، وتقليل الحاجة الى المساءلة الرسمية.
مفهوم المساءلة الغير رسمية:
المساءلة هي مفهوم اخلاقي ويقصد بها بأنها عملية رقابية يتم من خلالها محاسبة الشخص المسؤول عن تصرفات ارتكبها تنطوي على مخالفات نظامية، ويطالب الشخص المُساءل بتقديم ردودة بناء على ذلك. فإذا كانت رسمية تكون عن طريق التقارير التي يقدمها عن أعماله، وعن طريق التحقيق معه في حالة ارتكابه لمخالفة في عمله، وعقابه وفقا لما تقتضيه قواعد القانون. وعلى الرغم من أن العلاقات المهنية الرسمية والمساءلة الرسمية مهمة جدا، لكنها ليست كافية. في الولايات المتحدة الامريكية، لاحظوا ان مؤسسات الحكومية قبل الثمانينات تعاني من التجاوزات التي تضر بأهداف المؤسسة على المدى البعيد، لان الحكومة انذاك، كان لديها نزعة ملحوظة لإنشاء تشريعات وآليات مساءلة رسمية متعددة ومتداخلة ما بين المساءلة الداخلية والخارجية من دون الاهتمام بخلق بيئة تجعل الافراد يشعرون بالإلتزام لتنفيذ هذه الانظمة، لذلك، وعلى الرغم من تنوع القواعد والقوانين التي تدعم المساءلة، إلا ان فعالية إنجاز الأعمال وجودة منتجاتها لم تكن تصل الى المستوى الذي يطمح إليه أصحاب المصلحة، ومن هنا ظهرت فكرة المساءلة الغير رسمية من خلال خلق تعاون غير رسمي بين أفراد المؤسسة من أجل خلق شعور الالتزام لدى أفراد المؤسسة لتحقيق مصالحها من خلال التوفيق بين الثقافات المؤسسية المتباينة ، تقليل من مشكلة تعارض الأهداف و المصالح، واختلاف سياسات تقديم الخدمات من٬مؤسسة إلى أخرى. فنظرية المساءلة الغير رسمية، تفترض غياب الالتزام الرسمي للنظام خوفا من المساءلة الرسمية والتي يترتب عليها عقاب وفقا للقانون. تركز على أن أفراد المؤسسة يعتمدون في تصرفاتهم على معايير بناء الثقة واحترام قوانين المؤسسة و تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل من حيث الرغبة في الحصول على معاملة عادلة و منصفة وفعالة، وبناء العلاقات التي تعتمد على مبدأ الالتزام.
المساءلة الغير رسمية تعتمد على ثلاث قواعد اساسية وهي: الشبكة الاجتماعية، التعاون، المساءلة. الشبكة الاجتماعية تشمل العلاقات بين المؤسسات والعلاقات الانسانية داخل المؤسسة، والعلاقات الانسانية بين افراد المؤسسة والمستفيدين منها. هذه العلاقات تحكمها الروابط العملية سواء كانت تعتمد على العلاقة الهرمية او الافقية، مثل علاقة الرئيس مع موظفه، او علاقة الموظف مع زميله بنفس الدرجة الوظيفية. ومن هنا نستطيع فهم فكرة التعاون بين أفراد الشبكة الاجتماعية من ناحية تكون المساءلة الغير رسمية. حيث ان المساءلة تعتبر امر اساسي لدعم تلك الشبكة، بحيث يكون لكل فرد فيها أهداف يمكن أن تحققها له هذه الشبكة في حال تعاون معها. وفي حالة عدم تعاونه بتقديم الخدمة بشكل فعال، سيتعرض للمساءلة الغير رسمية ويتلقى عقاب ليس له علاقة بالمساءلة الرسمية، مثل فوات فرصة الحصول على عمل به إنجاز مثل رئيس مشروع معين، بالاضافة الى فوات حصوله على مميزات مادية.
معايير قياس العوامل المؤثرة على نظرية المساءلة الغير رسمية:
١- قياس سمعة المؤسسة الداخلية والخارجية: هذه تعتبر اول خطوة من خطوات إدراج المساءلة الغير رسمية في استراتيجية المؤسسة لرفع كفائتها. يمكن قياس أدائها في نتائج مخرجاتها، قوائمها المالية، انجازاتها، معدل الثقة في أدائها سواء من قبل العاملين فيها والمتعاملين معها او المستفيدين منها، وطبيعة المجتمع العامل فيها وشبكة العلاقات الاجتماعية، او بمعنى اخر البيئة المهنية والعملية، و معدل رضا العاملين عن بيئة العمل من حيث توافر المحفزات لتحقيق أهداف المؤسسة.
٢- بناءً على نتائج السلوك السائد في المؤسسة واستراتيجيتها التي أدت إلى خلق هذه السمعة للمؤسسة المشار اليها اعلاه في النقطة الاولى، نبدأ برسم استراتيجية تعزز السلوك المرغوب وتقوض السلوك الغير مرغوب. فمثلا، نجد في لوائح الإلتزام و لوائح الحوكمة للمؤسسة، او النظام والقانون العام للدولة، معايير لممارسة العمل، مثل تجريم استغلال السلطة الممنوحة للموظف لمصلحته الخاصة. وعلى الرغم من منعها نظاما، الا انها لازلت موجودة بمستويات مختلفة بحسب رقابة ادارة الالتزام و الرؤساء على موظفيهم. ضمن الأسباب، وجود جماعات ضغط تدعم بعضها البعض لتحقيق هدف المجموعة عوضا عن هدف المؤسسة.
٣- المساءلة الغير رسمية التي تحدث بين الأفراد في المؤسسة: بعد تشخيص مشكلة المؤسسة، نأتي لمرحلة معرفة ما الذي يعزز هذا السلوك. هنا يجب التركيز على ركن الرقابة و المساءلة. في المؤسسات التي ينتشر فيها سلوك لايحقق مصلحة المؤسسة، لا يتوافر رقابة تحفز الانتاجية وتمنع التجاوزات النظامية، ويستتبع ذلك عدم وجود المساءلة التقليدية او الرسمية، والتي تعني معاقبة المتجاوز. لكن بالتأكيد، يوجد بها مساءلة غير رسمية. السؤال الآن، كيف توجد مساءلة غير رسمية في ظل ضعف الرقابة و المساءلة الرسمية. المساءلة الغير رسمية هي الشعور بأن أداء مهام العمل والالتزام بالقانون ينعكس ايجابا على مصلحته الشخصية في حالة وجود إدارة رشيدة، ومعاملة منصفة من قبل قادة المؤسسة والعكس صحيح. وبالتالي، فهناك مساءلة غير رسمية ايجابية عندما يكون نظام الرقابة و الالتزام قوي، ومساءلة غير رسمية سلبية في حالة كان نظام الرقابة ضعيف.
بمعنى آخر، لنجاح أي عملية مساءلة، لابد من قراءتها معادلة رياضية وليس جمل نظرية. المعادلة هي كالاتي:
المساءلة = المصلحة الشخصية “المكافآت” – نسبة الخسارة في حالة عدم الالتزام “العقاب”
٤- التحديات التي تواجه إدارة التغيير ومعدل قوة جماعات الضغط التي تقاوم تطبيق وتنفيذ القوانين: وهذه في الحقيقة تعتبر من أهم المشكلات التي تواجه تطبيق معايير الحوكمة والالتزام بالقانون ومعايير الأخلاق المهنية. لانه لايخفى علينا، ان جماعات الضغط هذه مستفيدة من ضعف المساءلة الرسمية وتستغل المساءلة الغير رسمية لمصالحها الشخصية، وبالتالي سنجد مقاومة عن تطبيق عملية تدوير الموظفين من حيث الإختيار، خصوصا في حالة اختيار موظف ليس فردا في مجموعتهم، اذ انه سيتم تطبيق المساءلة الغير رسمية السلبية عليه. من ضمن التحديات ايضا، بعض جماعات الضغط قد يتعاونون شكليا لتطبيق الانظمة و اللوائح، لكن نجد بعضهم يرغبون بتطبيق النظام على جزء من موظفيهم مع تقديم حوافز صورية توهم العاملين على تغيير ثقافة المؤسسة بتطبيق القوانين، لكن في الحقيقة، نجدهم يقاومون أي محاولة لتطبيق القانون عليهم وعلى من يتبعهم، وبالتالي يقفون عائقا أمام المساءلة الرسمية والغير رسمية الايجابية.
كيف يتم تعزيز الالتزام والمساءلة الغير رسمية لتحقيق أهداف المؤسسة؟
المساءلة الغير رسمية هي عبارة عن جعل الأفراد يلتزمون بتطبيق النظام ومعايير الأخلاق المهنية بشكل تكون أهداف المؤسسة هي ما يسعون لتحقيقه وانجازه من دون الحاجة للمساءلة الرسمية التي تكون بسبب ارتكاب مخالفة وظيفية جسيمة او عادية. فائدتها هي تكوين ثقافة النزاهة مع مرور الوقت. تتم صناعة المساءلة الغير رسمية الايجابية عن طريق صنع حوافز تجعل الفرد في المجموعة يفكر بشكل منطقي هو مقدار الفائدة التي ستعود عليه في حالة التزامه بالنظام. التفكير بشكل منطقي عبر عملية حسابية بسيطة يقوم بها الفرد العامل في رأسه، تجعله يتخذ قرارا يصب في صالحة. اعتمادا على نظريتين، نظرية Public Choice theory أو نظرية الاختيار العام و التي تهتم بعملية توجيه اختيارات الأفراد وفقا لما يريده أصحاب القرار. ونظرية Collective Action theory او نظرية الإختيار الجمعي والتي تهتم بالدوافع التي تصنعها جماعات الضغط لتشجيع الأفراد للانضمام إليها وتحقيق مصالحها بدال من مصالح المؤسسة. يمكن النظر في بعض الاقتراحات التي يمكن أن تساهم في تفعيل هذا النوع من المساءلة:
١- تفعيل سلطة القانون والنزاهة وتحطيم صورة “الموظف البطل” الذي “يخالف القانون” وإبداله بنموذج “الموظف البطل” الذي “يلتزم بالقانون”. يكون ذلك عن طريق تفعيل إدارات الالتزام و النزاهة في المؤسسات سواء كانت خاصة أو عامة. حيث أنه في المملكة، تنتشر إدارات الالتزام في مؤسسات القطاع المالي وبعض الشركات الكبرى، لكن لا نرى لها وجود في معظم الشركات. كذلك، في القطاع العام، يجب ان يتم انشاء ادارات التزام ونزاهة تراقب أعمال المؤسسة وتراقب التزامها. وهذه الادارات تعتمد في عملها على ركيزتين الا وهي الرقابة على الالتزام وتعزيز النزاهة. ولكن عند وضع إدارات التزام في القطاع العام لابد من مراعاة أمرين. اولا، اعطاء الإدارات القانونية وادارات الالتزام والنزاهة في المؤسسة الحكومية او الشبه الحكومية الصلاحيات لسن بعض اللوائح الداخلية بما يتوافق مع عملية تعزيز الالتزام. ثانيا، التدريب على لوائح الالتزام بالأخلاق المهنية. هذا الأمر قد يكون تطبيقه اسهل في القطاع الخاص من القطاع العام ايضا لان القطاع العام يعتمد في عملية التدريب على جهاز حكومي خارجي وهو معهد الإدارة العامة. معهد الإدارة لا يمكنه وضعه يده على المشاكل التي تعاني منها كل مؤسسة بذاتها. لذلك، القطاع العام يحتاج الى منح إدارات التزام ونزاهة في المؤسسات، ومنحها استقلالية بحيث يمكنها -بعد دراسة وضع المؤسسة القانوني والمالي و الاستراتيجي و معدل تحقيقها لأهدافها التنموية- اصدار لوائح تستهدف ما تعانية من قضايا تريد حلها، وتدريب موظفيها و رؤسائها على النزاهة.
٢- بناء الثقة حيث يجب الاهتمام بمسألة الرضا عن أعمال المؤسسة سواء كان من قبل العاملين فيها أو المستفيدين منها. ثانيا: الاهتمام بموضوع الشفافية والإفصاح عن المعلومات لأن المؤسسة عند الإفصاح تزرع ثقة بمن يعمل بها او يتعامل معها من حيث وضعها في البيئة الاقتصادية و التنموية، وهذا يسهل عملية المساءلة الرسمية في حالة كانت المؤسسة تعاني في تحقيق أهدافها من خلال البحث في سبب المشكلة، لو كان سببها وجود مخالفات وظيفية لخدمة مصالح شخصية، فهنا يمكن معالجة الوضع بالطريقة المناسبة. ثالثا: الجدية في تطبيق القانون وعدم التراخي في ذلك بشكل مستمر، لانه الالتزام بذلك بمثابة الدعاية الغير مباشرة عن المؤسسة وعن جديتها في تحقيق أهدافها. رابعا: صنع مؤشرات لقياس الثقة سواء كان مؤشر القطاع العام ومؤشر القطاع الخاص. ميزة هذا المؤشر تكمن في أمرين: ١- خلق المنافسة بين المؤسسات، ٢- يساعد في عملية الشفافية، حيث انه من معايير بناء الثقة هو توضيح خطة المؤسسة ومشاريعها والمدة الزمنية للتنفيذ، ومقدار ما تنجزه بنهاية كل فترة زمنية. من الأمور التي تساهم ايضا في بناء الثقة بمؤسسات القطاع العام هو إنشاء فروع داخل المؤسسات منبثقة من مركز اداء وذلك لمراقبة الوضع القائم عن قرب.
٣- اختيار القائد ويجب ان يكون مبني على كفاءة القائد العلمية والعملية، بالإضافة الى مراعاة مقدار نزاهته، لانه في حالة انخفاض النزاهة، هذا يعني أن القائد سيقوم بعمل جماعات تنتمي له لخدمة مصلحته الشخصية ومصلحة المجموعة الشخصية. لذلك، لابد من تفعيل مبدأ cost benefit calculation بما يتناسب مع التدرج الوظيفي.
٤- توظيف طرف ثالث محايد من خلال تعيين مقيم خارجي محايد. و لضمان الحياد قدر الإمكان، لابد من توافر عدة شروط به. اولا: ان يكون تابع للدولة تقوم بإختياره و بإمكان المؤسسات بشكل عام ترشيح أسماء ولكن هذه الترشيحات غير ملزمة. ثانيا: ان يكون معروف بنزاهته و حياده. ثالثا: أن لا تكون هذه وظيفته الاساسية، وانما هي مهمة مؤقته يمارسها بناء على تكليف، وان لا يزيد تكليفه في مثل هذه المهمة عن ثلاث مرات. رابعا: لايشترط ان يكون الطرف المحايد من المواطنين المقيمين، بل على العكس، برأي ان الطرف الثالث الذي يقوم بتقييم أداء المؤسسة، يفترض أن يكون عبارة عن فريق عمل، ومن ضمنها مواطنين و آخرين من دول متقدمة متخصصين في المواضيع التي سيتم التقييم بناء عليها.
المراجع:
Bo Rothstein & Jan Teorell, Why Anticorruption Reforms Fail-Systemic Corruption as a Collective Action Problem, 26 Governance Journal (2012
Victor E. Schwartz & Phil Goldberg, Carrots And Sticks: Placing Rewards As Well As Punishment In
Regulatory And Tort Law, 51 Harvard Journal On Legislation 315, 317 (2014)
Willem Schinkel, The will to violence, 8 Theoretical Criminology (2004
James D. Gwartney & Richard Stroup, Economics: private and public choice (1995).
Barbara Romzek, Kelly Leroux, Jocelyn, & Robin Kempf, Informal Accountability in Multi-Sector Delivery Collaborations, Journal of Public Administration REsearch Theory (2013).