الورقة الرئيسة: المدن المكتظة والتنمية الاقتصادية
د. مشاري النعيم : كاتب الورقة
المعقبون :
₋ أ. خالد العثمان
₋ أ. علاء برادة
مدير الحوار: د. عبدالله المطيري
المدن عبارة عن أنظمة معقدة، تجمع معًا آلاف الخيوط الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية والبيئية التي تؤثر على رفاهية الفرد والمجتمع. تقوم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، (وهي منظمة دولية تعمل على بناء سياسات أفضل من أجل حياة أفضل)، على صياغة السياسات التي تعزز الرخاء والمساواة والفرص والرفاهية للجميع بتجربة ميدانية تصل إلى ما يقرب من 60 عامًا من الخبرة والأفكار لإعداد عالم الغد بشكل أفضل. بشكل عام تغطي المناطق الحضرية تغطي 4٪ فقط من الأرض، ولكنها تمثل نصف السكان تقريبًا وتقترب من 55٪ من الناتج المحلي الإجمالي. لذلك فإن سكان العالم يتأثرون بنمو سكان المدن والمناطق الحضرية ومن الواضح أن تركز الاعمال والوظائف والفرص الاقتصادية ينحاز بشدة إلى السكن في المناطق الحضرية مقارنة بالريف. في عام 1950 كان سكان المدن أقل من مليار وسوف يصل إلى ما يقرب من 6 مليارات في عام 2050م، حسب ما أكدته إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة عام 2014م. ومن الواضح أن هناك تسارع كبير في زيادة عدد سكان المدن في مطلع الألفية الثالثة ففي كثير من بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، زاد عدد السكان في المناطق الحضرية بنسبة 12.5 ٪ من عام 2000 إلى عام 2014م.
لا أحد ينكر ما لعدد السكان من تأثير على التنمية فأينما يتواجد البشر يتواجد الحراك الاقتصادي. على أنني سأبدأ هذه الورقة بالدعوات المتزايدة التي صرنا نسمعها مؤخرا حول مضاعفة عدد سكان مدينة الرياض إلى الضعف تقريبا أي إلى ما يقارب 15 مليون نسمة خلال الأعوام القليلة القادمة وهذا في حد ذاته يدعو إلى التساؤل، كون توسع المدينة، على ما يوحي به من حراك اقتصادي، إلا أنه مكلف جدا على مستوى تشغيل المدينة وإدارتها. الرياض، على سبيل المثال، تقع في وسط الصحراء والتغذية الحيوية التي تبقيها على قيد الحياة مستورد من الأطراف خصوصا الماء والطاقة وبالتالي فإن أي توسع عمراني يعني مزيد من الضغط على الموارد الأساسية لتشغيل المدينة وإدامتها. قد يثير البعض أسئلة مباشرة تشكك في هذه المخاوف المنطقية المبنية على المشاهدات المباشرة ويقول دعونا نغوص في التفاصيل التي تبرر توسع المدينة والدخل المتوقع أن تحققه في المستقبل.
في سبتمبر من العام 2000م قمت بعمل دراسة ميدانية على مدينة دبي (تم نشرها في مجلة البناء عدد سبتمبر 2000م مما يعني أن الدراسة بدأت قبل شهر سبتمبر بعدة شهور) والتقيت آنذاك بأحد المسؤولين في بلدية دبي وذكر لي بانزعاج أن خطة المدينة هي زيادة عدد السكان من مليون إلى 3 مليون نسمة. في ذلك الوقت كانت دبي في بداية تحولها إلى مدينة جاذبة وكان برج العرب والجميرة بيش وابراج الامارات على وشك الانتهاء وبعضها افتتح قريبا وكانت فكرة المرسى الغربي مجرد أفكار على الورق. لكن دبي استمرت في التنمية العمرانية وبدأت في استقطاب السكان الكونيين العابرين للقارات وانشئت أنظمة وقوانين تتلائم مع التوجهات الجديدة لحكومة الامارة. كان انزعاج مسؤول البلدية ثقافي وسياسي في آن واحد، فمن الناحية الثقافية كان يرى أن استيراد السكان سيطمس الهوية المحلية ولن تعود دبي مدينة أهل دبي ومن الناحية السياسية كان يرى أن هناك مخاطر كبيرة في التوسع في المدينة وبيعها للأجانب فقد يطالبوا في يوم بحقوق سياسية لم تكن في الحسبان. ويمكن أن نضيف مخاوف اقتصادية فمثل هذه المكونات الحضرية القائمة على توازن السوق الاقتصادي لا تتحمل الهزات الكبيرة.
النجاح الباهر الذي حققته دبي من خلال زيادة سكانها الكونيين والذي صاحبه تطور عقاري غير مسبوق في مطلع الألفية الثالثة أدى إلى ظهور مصطلح “الدبينة” أي محاولة تكرار نموذج دبي من قبل مدن خليجية وإقليمية وعالمية مما ولد بعد ذلك تململ من الجيران صاحبة حراك محموم في العديد من المدن الخليجية التي حاولت أن تقلد دبي بشكل أو بآخر وما صاحب ذلك من استيراد للسكان وتخلخل في البنية الثقافية لتلك المدن. ورغم أن الرياض في تلك الفترة كانت تراقب دبي عن كثب وكان من يديرها يتطلعون إلى نموذج دبي كمثال يحتذى، إلا أن تجربة الرياض كمدينة كبيرة ومكتظة بالسكان المواطنين، كانت بحاجة إلى فكر مختلف وأسلوب في التطوير يركز على المواطن بدلا من استيراد السكان. ومع ذلك لم تكن الرياض بحاجة إلى زيادة في عدد سكانها لكن أذكر أنني دعيت إلى ورشة عمل لمناقشة المخطط الاستراتيجي لمدينة الرياض وكان ذلك على ما أذكر في 2003م وانتقدت الرغبة الجامحة لدى القائمين على المخطط لزيادة عدد سكان المدينة إلى 7 مليون نسمة مع حلول العام 1442هـ، أي العام الذي نعيشه الآن. لقد انتقدت هذه الرغبة في مقال نشرتها جريدة اليوم في ذلك الوقت بعنوان “الرياض عام 1442هـ”، وأكدت أن الرياض ليست بحاجة إلى توسع عمراني وسكاني بل تحتاج إلى إعادة نظر في البنية العمرانية والاقتصادية القائمة.
على أن الأزمة المالية عام 2008م غيرت كثير من المفاهيم حول “الدبينة”، فقد واجهت دبي أزمة مالية كبيرة في ذلك العام اضطرت معه أن تتنازل عن جزء من أحلامها وحتى عن واقعها، وظهرت في ذلك الوقت مجموعة من المصطلحات المهمة على مستوى التخطيط للمدينة مثل “المدينة الهشة” Fragile City و “المدينة القادرة على إعادة التشكل” Resilient City وكانت الأسئلة المطروحة هي: كيف يمكن أن تصمد المدن أمام الأزمات الاقتصادية؟ وكيف يمكن أن تستعيد حيوتها وتبدأ من جديد؟ ويبدو أن المخاوف الكبيرة التي كانت تواجهها المدن الخليجية قاطبة هي: ماذا لو تقلص النشاط الاقتصادي في تلك المدن وهجرها سكانها، فهل ستصبح مدن أشباح؟ شكلت هذه الأسئلة المؤرقة حوارا واسعا بين المهتمين في دول الخليج وأذكر أنه تم مناقشتها في أحد ملتقيات التنمية لدول الخليج الذي أقيم في نفس العام (2008م). ربما لم يحدث شيء من تلك المخاوف لمدن الخليج العربي لأنه ولحسن الحظ ارتفعت أسعار النفط بشكل لافت الأمر الذي وفر سيولة نقدية تجاوزت بها دول المنطقة الأزمة المالية. ولكن “هل كل مرة تسلم الجرة”، لأن التوسع السكاني والعمراني يصنع “وهم النمو الاقتصادي”، بينما هذا النمو لا يصمد أمام أول هزة اقتصادية.
تشير الدراسات إلأى أنه مع استمرار المناطق الحضرية والسكان الحضريين في النمو، سيزداد حجم وتأثير أي صدمات وضغوط يواجهونها. فالمدن عادة ما تتعرض لمجموعة متنوعة من الصدمات والضغوط، مثل التغيير الهيكلي الصناعي (مثل نقل أو إغلاق الشركات الرئيسية في المدينة)؛ الأزمة الاقتصادية (مثل الأزمة المالية العالمية في 2007/2008 وأزمة الديون الأوروبية منذ 2009)؛ تدفق السكان؛ الكوارث (مثل الزلازل والفيضانات والأعاصير)؛ تعطل إمدادات الطاقة وتغيير القيادة. على سبيل المثال، سجلت 175 منطقة حضرية من بين 281 منطقة حضرية تابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أدنى معدل نمو في إجمالي الناتج المحلي في عام 2009، و55 منطقة حضرية في عام 2008م. ويبدو أن هذه الكوارث والأزمات تثير مسألة مهمة حول زيادة عدد سكان المدن والمناطق الحضرية المتسارعة في هذا القرن حيث سيكون ثلثي العالم من سكان المدن وهو ما يعني اعتماد مناطق صنع الغذاء (الزراعة) على الآلة وتقلص المناطق الريفية في اغلب بقاع الأرض.
هذا التوجه الذي يبدو أنه مغري للكثيرين يصعب إيقافه مما يعني أننا سنواجه المزيد من المدن الهشة التي سيكون من الصعب عليها التعايش مع الازمات. مؤخرا ظهرت قضية “المدن المتكيفة” أو المرنة Resilient Cities كتوجه مهم في الدراسات الحضرية المعاصرة، فهناك إحساس عميق أن المدينة بتوسعها الغير مسبوق تحتاج أن تكون قابلة للتكيف للاتساع والانكماش سواء على مستوى بنيتها التحتية أو بنيتها الفوقية وأن تكون قادرة على استيعاب السكان الجدد المهاجرين لها وكذلك القدرة على التعامل مع خسارة هؤلاء السكان في حالة التغير الاقتصادي أو حدوث كوارث بشكل أو بآخر.