الورقة الرئيسية:
الهوية السياحية للمدن في المملكة العربية السعودية
كاتب الورقة: أ. علاء الدين براده
تعقيب : ماهر الشويعر ، خالد آل دغيم
إدارة الحوار: أ. سعيد الزهراني
نسعى من خلال هذه الورقة إلى فهم عناصر القوة في هوية المدن السياحية ، و إشكالية طغيان أحد السمات بحيث تصل صورة هذه المدن بشكل مشوش . في ذات الوقت نعمل على مشاركة بعض الحلول لمعالجة هذه الإشكالية
السمات التاريخية في هوية المدن
على مر التاريخ عرفت المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية بصناعة اللؤلؤ. حتى وقت قريب كنا نتابع أخبار صناعة متكاملة إن صح التعبير في منطقة الخليج العربي تتمحور حول الغوص وصناعة اللؤلؤ، وربما أيضا صناعة المجوهرات. وبطبيعة الحال كان لكثير من المدن السياحية السعودية على ساحل الخليج دور في الحركة الاقتصادية.
هذه الحرف التي اعتمدت على الطبيعة الجيوغرافية للمنطقة، والتي تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل حتى وصلت إلينا أسهمت بشكل كبير في تشكيل هوية تاريخية ترسخت في الأذهان عن المنطقة. هذا المثال أحببت أن أبدأ به حديثي في هذه الورقة حتى يتصور القارئ ما يمكن أن يتحقق من نتائج إيجابية من خلال بناء صورة ذهنية واضحة للمدن السياحية.
الهوية كما نعلم هي مجموعة من العناصر المجتمعة التي تدفع العميل لاختيارك دون غيرك. وهنا نقول إنها الدافع الذي يحرك الزائر والسائح لاختيار مدينتك دونا عن غيرها من المدن حين يتخذ القرار بالزيارة. وهذه العملية بالتأكيد تحتاج إلى بناء ممنهج، فهي تعتمد على الكيفية التي تظهر فيها صورة المدينة من خلال الأنشطة التسويقية والحملات وكافة العناصر. ومن هنا نستطيع أن نعكس هذا التعريف على المثال الذي استعرضناه سويا في المدن الساحلية من المنطقة الشرقية.
وحتى تعكس المنطقة التصور الذي نراه على أرض الواقع، يمكن أن تكون مركزا اقتصاديا عالميا للمجوهرات وكل ما يتعلق بها من بالصناعة من متاحف وندوات ومؤتمرات ومعارض جاذبة تعمل على تحقيق استقطاب السياح. هذه المهمة ليست سهلة بالتأكيد وتتطلب تضافر كثير من الجهود المجتمعة لكنها في نهاية المطاف تسهم في توليد وظائف جديدة بشكل مستمر ومستدام. تخدم هذه الوظائف المنطقة بطبية الحال أهداف الابتكار والتحسين المستمر من خلال استدامة التجارة الداخلية والخارجية. مع مرور الزمن نتأمل تتشكل في المنطقة منظومة متكاملة من النقل والسكن والمعارف الريادية كنتيجة طبيعية لوضوح الهوية.
ننتقل إلى الطرف الآخر من مملكتنا الحبيبة لنأخذ مثال مختلف بعض الشيء. من غرب المملكة ينقل لنا تاريخنا المعرفي الإسلامي رحلة الشتاء والصيف، مما يدعونا للتأمل في التجارة التي بنت ثقافة المنطقة بما تشمله من انعكاس على شخصية السكان أنفسهم، واعتيادهم حياة الترحال. يعزز من ذلك الجانب ويدعمه شعيرة الحج التي تدفع بساكن المنطقة على أن يألف المجتمعات البشرية بجميع أطيافها وأجناسها من زوار الحرمين. نمط حياة يختلف نسبيا عن باقي المناطق من واقع التسارع في الحركة والتغيير النابع من الترحال المستمر وانفتاح على أنواع متعددة من المعارف والعلوم. هذه الهوية السياحية للمنطقة تأتي ومعها ترحيب بأشكال متنوعة من التجارة هي أيضا إضافة اقتصادية نلاحظها من منطلق صناعة الهوية المدروسة بشكل جيد وعناية شديدة
في منطقة عسير تبدأ مقدمة استراتيجية تطوير المنطقة بالتركيز متفردة بطبيعتها وأصالتها” تحت شعار قمم وشيم. وهي بالمناسبة أول منطقة تخرج لنا باستراتيجية مناطقية متكاملة. وكان من الجميل بالفعل الاطلاع على الدروس المستفادة نتيجة المقارنات المعيارية، والاهتمام تحديدا ببناء هوية إقليمية قوية لكل وجهة بهدف تقديم العروض السياحية المتنوعة.
يتضح ذلك بشكل جلي من خلال التطرق لمنهجية تطوير الوجهات السياحية ومراحل نطاق العمل فيها حيث شملت تحديد المزايا الفريدة لكل منطقة من خلال إمكانات تلك المنطقة بما يشمل التركيز على الهوية السياحية.
مدينة كمدينة الجبيل أو ينبع يندر أن تجد شخص من الجيل الحالي إلا وترتبط في ذهنه بكونها مدن صناعية ذات طابع عالمي. وهذا بالطبع لم يكن هو الحال قبل عقود قليلة فقط لكنها هوية نشأت مع المتغيرات الصناعية التي صاحبت فترة الطفرة.
عناصر الهوية
كل ما تحدثنا عنه في السابق جميل ولكنه يحتاج لإطار منظم وواضح مع مؤشرات قياس. وهذا كما يتضح من الرسم المرفق أدناه مكون من ثلاث محاور أساسية تشمل القياس والتأثير بما يشمل الجوانب الاقتصادية، بالإضافة إلى الإرث الذي يتكون عبر السنوات للمدينة.
الهندسة الألمانية هو مصطلح تم بناؤه على مدى سنوات طويلة حتى أصبح رمزا يعرفه القاصي والداني لفخر الصناعة في تلك الدولة. وبعيدا عن الصناعة دعنا نأخذ مثال آخر على سمات ارتبطت بمنطقة جغرافية محددة كالشاي الإنجليزي الذي تعدى مسألة الرمزية، فارتبط بشخصية الفرد في ذاك المجتمع واهتمامه الدقيق بالتفاصيل في طريقة التعاطي مع المنتج. وهنا أحب أن أشير إلى أن المسألة تأخذ مزيد من التعقيد حين نعلم كأشخاص نسعى لبناء هوية وطنية، أن علينا أن نشير حتى إلى سمات غير ملموسة. التفاعل مع المشاعر الوطنية ليس أمرا سهلا على الإطلاق، لأنك تبحث عن عوامل مشتركة بين أطياف متعددة من المجتمع تشكلت على مدى سنوات طويلة.
أرقام وطموحات
ما أن تبدأ بتصفح موقع الهيئة السعودية للسياحة، حتى تلحظ أرقام طموحة يستهدف القطاع الوصول لها خلال السنوات القليلة القادمة. مؤشر الأداء لعدد الزيارات من الخارج خلال العام الجاري 2022 هو 29.5 مليون، وهو الرقم الذي من المفترض أن يتضاعف ليصل إلى 55 مليون زيارة بحلول العام 2030. أما على مستوى الناتج المحلي الإجمالي فإن القطاع يسهم حاليا بنسبة 5.3 بالمائة، وهي النسبة التي من المفترض أن تتضاعف لتصل إلى 10 بالمائة خلال العام 2030.
هذه الأرقام طموحة لابد وأن خلفها كثير من الجهود. ولأننا نعلم أن هذه الطموحات لا يمكنها أن تتحقق إلا من خلال وضوح كامل في هوية المدن السياحية السعودية لتشكل عنصر جذب للسائح الأجنبي الذي نطمح لاستقطابه.
إشكالية مصادر القوة في هوية المدينة
في حال كنت مهتما بمتابعة ما يطرح من مشاريع طموحة على مستوى مدينتك، فأنت بالتأكيد ستبدأ بعد ذلك رحلة من البحث عن مزيد من التفاصيل بشكل أكثر عمقا للوصول إلى أكبر كم من المعلومات عن تلك المشاريع. ثم يتبع ذلك صورة ذهنية تحتفظ بها في عقلك الباطن حول كل مشروع.
تحاول بعد ذلك أن تتصور الشكل الشمولي للمدينة من حولك بعد أن ترى كل تلك المشاريع النور، وتظهر ملامحها بشكل جلي على أرض الواقع، لكن الإشكالية التي تتكشف لك مع مرور الوقت، هي أن هناك هوية طاغية، أو لنقل بمصطلح أقل حدة سمات تبرز ملامحها بشكل أكبر عن غيرها في هوية المدينة. هذه المسألة بدورها تتسبب في تشتت الصورة التي تحاول أن تبرزها أنت أمام الجمهور. لذلك يجب أن تكون على درجة عالية من الإلمام بمحتوى الرسائل والأفكار المتداولة حتى لا يتعارض أحدها مع الآخر.
مدينة مثل مدينة الرياض تحمل عبق التاريخ لكن لا يمكن أن نغفل أن هناك جهود لإضفاء الصبغة الصناعية على المدينة من خلال رموز كمركز الملك عبد الله المالي. وبالإضافة لذلك تظهر بشكل لافت سمات الترفيه مع الجهود التي نراها مؤخرا للترويج لقطاع الترفيه.
من المهم جدا أن تلعب الهيئات في المدن مثل الهيئة الملكية لتطوير الرياض دورا محوريا لتحديد معاير القوة التي تخدم الجانب السياحي دون إخلال بباقي الجوانب. وكل ذلك سعيا لخلق صورة ذهنية واضحة
وهنا أجد أنه من المناسب أن نشير إلى جانب آخر في تسويق الوجهات ينتقل بنا من خلال ثلاث مراحل أولها يبدأ بالترويج، يتبعها بعد ذلك التسويق حتى نصل لمرحلة صناعة علامة تمثل هوية خاصة بهذه المدينة. في مرحلة الترويج غالبا ما تكون الرسائل صادرة من طرف واحد، فتأتي خالية من التفاعل. يلي ذلك في الدرجة الثانية مرحلة يتم فيها مخاطبة فئات محددة من المجتمع ونلاحظ هنا ارتفاع درجة التفاعل، أما المرحلة الأعلى التي يطمح أن يصل لها دوما مسؤولو التسويق في أي مدينة فهي مرحلة تحديد هوية واضحة للمدينة يستطيع الجمهور أن يميزها بوضوح
جهود على كافة الأصعدة
قبل أيام قليلة كان وزير السياحة قد أعلن عن تنظيم مجالس التنمية السياحية بالمناطق الذي وافق عليه مجلس الوزراء، والذي يهدف بالأساس لتحقيق مستهدفات استراتيجية السياحة الوطنية وتطوير الوجهات السياحية
ينص التنظيم على إنشاء مجالس للتنمية السياحية في المناطق ويكون مقرها إمارات المناطق، وبحسب التنظيم يرأس المجلس أمير المنطقة، ويضم في عضويته عدد من ممثلي الجهات الحكومية ذات العلاقة، ويهدف المجلس إلى العمل على تطوير قطاع السياحة في المنطقة، وتنظيم الجهود المتعلقة بتنفيذ خطط التنمية السياحية، والمبادرات ذات الأولوية المتعلقة بقطاع السياحة، ومتابعة تنفيذها بما يتوافق مع الإستراتيجية الوطنية للسياحة.
ومن هذا المنطلق نلحظ أن الاهتمام بخلق هوية سياحية واضحة المعالم لكل مدينة. لكن الإشكاليات تتضح مع التعمق بشكل أكبر والدخول في التفاصيل. تلعب عناصر القوة دورا محوريا في هذا الجانب. في كل مدينة هناك عناصر جذب تبرز جزء من الصورة الكاملة لهوية هذه المدينة
استراتيجية السياحة الرقمية
ستساعد هذه الاستراتيجية في إثراء جهود إعادة بناء قطاع السياحة في المملكة، بما يحقق مستهدفات “رؤية المملكة 2030” التي تعمل على وضع المملكة ضمن أهم الوجهات السياحية في العالم، مضيفًا أن تجربة المملكة في تنفيذ هذه الاستراتيجية ستكون ملهمة لقطاع السياحة العالمي.
وهي دعوة كما أشار معالي الوزير للمبدعين في هذا المجال للمشاركة في تحسين الإجراءات التي تنظم فضاء السياحة الرقمية.
في الدنمارك لفتت أحد التجارب انتباهي حين ركزت على تفعيل دور المرشدين السياحيين الافتراضي. ربما نكون سمعنا عن كثير من تجارب السياحة الافتراضية، لكن الجديد هو أن أي مواطن أو ساكن في المدينة يمكن أن يصبح مرشدا وقتما يريد بمجرد الدخول على التطبيق، ليأخذ السائح الافتراضي في رحلة لمدة دقيقتين فقط. أما إذا رغبت في طلب دقائق إضافية مع المرشد الذي يطوف بك أحياء مدينته فيمكنك طلب ذلك أيضا، ولكن مع إعطاء الأولوية لصفوف الانتظار، ولعل ذلك نوع من التشويق اللطيف في هذه التجربة. لاحظ كيف أصبح السكان من خلال هذه الفكرة جزء مهم في تجربة الزائر، حتى ولو كانت افتراضية. وبالتأكيد فلا يمكن أن نتخيل أن مثل هذه التجربة أغفلت المردود المادي.
أما في طوكيو فقد قرر أحد الباحثين أن يركز أبحاثه على سياحة المرضى المسنين تحديدا، والانتقال بهم إلى عوالم يطوف بها خيالهم، أو ربما كانوا قد زاروها من قبل يوما ما. حيث يؤمن هذا العالم بشكل كامل أن هذه الرحلات ستساهم في العلاج النفسي وتخفف من حدة الشعور بالمرض.
وفي فرنسا قدمت أحد الشركات الناشئة نموذج لحل ذو ارتباط بالاستدامة، عبر تطبيق يتيح لمستخدميه العثور على المطاعم والفنادق ووسائل النقل الصديقة للبيئة. الفكرة ذهبت أبعد من ذلك بالسماح لأي شخص بأن يتعاون كسفير للاستدامة، فيعمل على التعريف بالمؤسسات السياحية الصديقة للبيئة، وتقييمها بحيث تسهل تجربة السياح والزوار.
المصادر
- https://data.gov.sa/Data/en/dataset/the-main-indicators-of-tourism-demand-statistics-2021/resource/2b05e222-8e81-44b8-8b1a-61c77b1aa5b0?inner_span=True
- https://sta.gov.sa/
- https://mt.gov.sa/MediaCenter/News/MainNews/Pages/news-2-3-01-02-2022.aspx
- https://www.researchgate.net/figure/the-three-dimensional-model-of-city-brand-equity-Lucarelli-2012-240_fig1_318285802
التحديات:
- تضارب المصالح بين الجهات العاملة على صنع هويات المدن السياحية يخلق منافسة لنيل الدعم الأكبر ، و هو ما يحقق نجاح على المدى القصير ، و يؤثر سلبا على صورة المدينة
- يتضح الاهتمام بصناعة الهوية في الجهود القائمة ، لكن يكمن التحدي في رسم الصورة الشاملة
التوصيات:
- تفعيل دور هيئات المدن في التنسيق بين الجهود لإبراز الصورة الذهنية بالشكل المطلوب
- وضع سياسة دعم للجهات تهدف الى الوصول للاعتمادية و عدم الاتكال على الدعم المقدم ، وذلك من خلال التحفيز على الاعتماد الذاتي في توفير مصادر التمويل.