الورقة الرئيسة لقضية : تحديد “ثـوابت الامـة”: لرؤية مستقبلية ايجابية …؟!
أ. د. صدقه يحيى فاضل
في ظل هذا التخبط الفكري المخجل، والتيه الاستراتيجي الملحوظ ، والتشرذم المدمر، الذى يعيشه معظم العرب، في الوقت الراهن، وعلى كل المستويات، خاصة المستويين الشعبي والرسمي، وكذلك المستويين القطري والقومي، تبرز الحاجة الملحة للمراجعة النظرية والفكرية للرؤية العربية المستقبلية، كما يجب ان تكون. وتنطلق هذه الورقة، التي تتضمن قضية فكرية وسلوكية كبيرة، من هذه الزاوية. انها ، في نهاية المطاف قضية هوية. لنحدد وجهتنا … تمهيدا لمستقبل افضل، لنا ولأبنائنا واحفادنا.
لا شك أن هناك “أمة”، ولها – كالمعتاد- “ثوابت” معينة، أو يمكن تعيينها. نعم، هناك بالتأكيد أمة عربية، وهي أمة Nation)) بكل المقاييس… تمتد حدودها من المحيط الاطلسي غربا، الى الخليج العربي، وجبال زاجروس شرقا، ومن البحر الابيض المتوسط وهضبة الاناضول شمالا، الى بحر العرب، وأفريقيا السمراء جنوبا. وهى من أقدم وأعرق أمم الارض. تنطبق عليها كل تعريفات “الامة”، وان وجدت في عدة دول، وساء حال معظمها. ويكفى أن ألد أعدائها يعتبرونها كذلك، رغم أن بعضا من بني جلدتها يشككون– مع الاسف- في كونها أمة واحدة، ولا يسرهم أن تكون كذلك…؟!
وبصرف النظر عن رأى هذا الطرف أو ذاك، يفرض العرب أنفسهم كأمة متجانسة، أو شبه متجانسة. بل انها من أكثر المجموعات البشرية التي ينطبق عليها مصطلح “أمة”، بسبب أنه يربط فيما بين غالبية مكوناتها كل الروابط والاواصر التي تربط – عادة- بين جماعات بني البشر، وأهمها الروابط الثمانية الشهيرة : الاصل العرقي، الدين الواحد، اللغة الواحدة، التقاليد المشتركة، التاريخ المشترك، الجغرافيا، اضافة الى المصالح والاخطار المشتركة. ولا توجد الان مجموعة كبيرة من البشر على وجه البسيطة، يربط فيما بين أطرافها وعناصرها كل هذه الروابط والوشائج، ويبقى هذا حالها… تفكك، وضعف، وتخلف…الخ. ولكنها عوامل ومسببات هذه المأساة (المسببان الداخلي والخارجي).
انها أمة وصل تعدادها لحوالي نصف مليار نسمة. ولها ظل داعم لا يستهان به، هو العالم الإسلامي، ظهير الامة العربية، وصديقها وداعمها الاول ( نظريا، على الاقل). ولو كانت أمور معظم هذه الامة طبيعية، وفي يدها، لربما رأينا تضامنا حقيقيا واتحادا فيما بين أجزائها، يرتبط بتحالف دفاعي مع مليار مسلم، في عالم اليوم، الذى لا يعترف الا بالمتحدين الأقوياء.
****
وبصرف النظر عن وضع هذه الامة الراهن، وتباين وتناقض علاقاتها البينية، وواقعها الحالي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتدهور، أو الضعيف، فإنهــــــا تظــــــل – كبقـــية الامـــــم- لهـــــــا “ثـــوابت” (Core Principles/Objectives ) يلتزم ويتمسك بها الشرفاء بالأمة، ويتطلعون لتحقيقها، مهما حوربوا من هذا الطرف المتنفذ، أو ذاك. والمقصود بالثوابت هو: أهم المبادئ والاهداف العامة التي يحرص عليها المنتمين المخلصين في الامة، مهما كان وضع أمتهم، ومهما كانت العوائق أمام هذه الثوابت، التي هي – في نهاية الامر- امال وتطلعات وأحلام عربية، يعتقد بضرورة السعي لتحقيقها، وبلوغها ذات يوم.
****
ولو حاولنا (تصورا، واجتهادا) تحديد أهم هذه الثوابت، ربما يمكننا تلخيص أبرزها فيما يلي :
(1)- ضرورة التضامن الحقيقي، والسعي لاتحاد عربي قوى، يعمل على تحقيق المصالح المشتركة، ودرء الاخطار المشتركة، بالفعالية السليمة المطلوبة.
(2)- التمسك بالدين الإسلامي الوسطى المعتدل، دين الغالبية العربية، ونبذ الشوائب الملصقة به، وتطرف بعض معتنقيه.
(3)- تطبيق المبادئ المبجلة انسانيا وعالميا(الحرية، العدالة، المساواة…الخ) والتمتع بمزايا هذا التطبيق، أسوة بالأمم المتقدمة.
(4)- عدم التفريط بمقدسات الامة، وحقوقها المشروعة، وخاصة تجاه الحركتين الاستعمارية والصهيونية، ومكافحة أطماعهما في الارض العربية، عبر مناصرة القضية الفلسطينية بخاصة. فقيام دولة فلسطينية مستقلة يحمى الامن القومي العربي، ويقيـــــــه من مخاطر لا حصر لها.
(5)- العمل على استتباب الامن والسلم والاستقرار والنمو في الربوع العربية، علي المدى الطويل، وعلى الأسس الصحيحة.
( 6)- التعاون مع العالم الإسلامي، لأقصى حد ممكن، باعتبار أن العالم الإسلامي “ظهير” الامة العربية.
****
ان الفرد العادي، في أي أمة، من الطبيعي غالبا أن يتحمس للثوابت الحقيقية لامته. فهذا سلوك ايجابي تلقائي. وغالبا لا يوجد تعارض حقيقي بين ولاء الفرد للقطر الذي ينتمى اليه، أو مسقط رأسه أولا، ثم لامته. فالالتزام بالثوابت يكون في هذه الحالة على المستويين الوطني والقومي. وبالنسبة لمدى “ثبات” وديمومة الثوابت، يرى الدارسون وجوب ثبات جوهر كل مبدأ. أما تفاصيل ووسائل تحققه، فيجوز تعديلها عند الضرورة، اذا حتمت الظروف الزمانية والمكانية المتغيرة، ودون مساس بالكرامة، أو تنازل عن حقوق مشروعة.
ومن المؤسف، وجود أناس ينتمون لهذه الامة، أو تلك، ولكنهم لا يكترثون بثوابتها، ولا يتمسكون بها ، كما يجب. ومن الاشد أسفا، وجود عربا ( وان كانوا قلة، نسبيا) غير متمسكين بثوابت أمتهم، ويتلاعبون بها ما استطاعوا. بل أن غالبية هؤلاء لا تؤمن – أصلا- بوجود أمة عربية واحدة ذات رسالة نبيلة، أو حتى امكانية هذا الوجود. وتلك هي أصل مأساة عربية كبرى.
****
هذه القضية تطرح هنا لمناقشتها، عبر التركيز على النقاط الاربع التالية، تحديدا :
- ما مدى وجود “أمة” عربية، بالمعنى الحديث للامة، وان تواجدت في اثنين وعشرين قطرا؟
- ما هي، في رأيكم، أهم “ثوابت” الامة على المستويين الوطني (القطري) والقومي، كما يجب أن تكون؟!
- ما مدى الانسجام، أو التناقض والتضارب، بين الثوابت علي المستويين الوطني والقومي؟!
- ولمن لا يؤمن بأي انتماء عربي، ان يكتفى بذكر ما يعتقد أنه أهم “ثوابت” وطنه العامة، مع الموافقة على أن يتيح لغيره تقويم وتقييم ما تفضل به؟!
اضافة الى أن بإمكان أي متداخل أن يدلي برأيه حول كل ما ورد من نقاط رئيسة بهذه الورقة. ففي نهاية الامر، ما احتوته الورقة هو رؤية… قابلة مضامينها للصواب والخطأ، أو التهذيب والبلورة.