قضية الأسبوع: تسليع الثقافة: عندما تكون الثقافة أحد مصادر الدخل

الورقة الرئيسة

تسليع الثقافة: عندما تكون الثقافة أحد مصادر الدخل

كاتب الورقة: د. زياد الدريس

تعقيب: د. فهد العرابي الحارثي ، د. منصور المطيري ، وليد سالم الحارثي

أدار الحوار: 

 

في ما مضى كان الناس لا يجدون ما يعبّرون به عن إعجابهم البالغ بأحد أو بشيء أكثر من قولهم: إنّ هذا «لا يُقدّر بثمن».

كانوا إذا استمعوا إلى صوت أدائي جميل، قالوا: هذا الفنان لا يُقدَّر بثمن.

وإذا شاهدوا لوحة فنية جميلة، قالوا: هذه اللوحة لا تقدّر بثمن.

وإذا انبهروا بمهارات لعب رشيق، قالوا: هذا اللاعب لا يقدّر بثمن.

الآن يمكن القول بأن عبارة (لا تقدّر بثمن) نفسها لم يعد لها ثمن لأن كل ما سبق من صفات وامتيازات وقدرات أصبح لها ثمن.

كل شيء تحوّل الآن إلى سلعة، لها تسعيرة، وتاريخ صلاحية.

الشاعر، المطرب، اللاعب، الرسام. بل حتى: المقرئ والداعية، أصبح لهم ثمن… بعد أن كانت لهم قيمة في ما مضى!

بإيجاز؛ نحن نشهد نهاية مقولة: “لا تُقدّر بثمن”.

***

لا شك أننا نعيش الآن العصر الذهبي للرأسمالية، إذ لم يمر حتى في أكثر العصور الماضية بذخاً أن تحولت تفاصيل الحياة اليومية إلى سلع لها ثمن، كما يجري في زمننا الآن.

يفسر البعض هذه النزعة المتجذرة للرأسمالية إلى أنها صنو الرفاهية المطلقة التي ينعم بها العالم اليوم. قد يكون هذا التفسير مقبولاً لو أن تسليع الأشخاص والأشياء لم يتجاوز سقف الكماليات والترفيهيات، لكن وقد اقتحمت الرأسمالية دور العبادة ومسارح الثقافة، فقد بات الأمر أكثر من مجرد وجودنا في زمن الرفاهية.

عندما يتحول عنصرا الدين والثقافة إلى منشط استهلاكي وساحة استثمارية يصبح من الممكن القول إننا بتنا نعيش في عصر الأثمان… لا القيم.

هذا التأوه لا يعني تحريم الكسب والتعيّش على الدعاة والمثقفين، لكنّ فارقاً كبيراً بين أن يتكسّبوا وبين أن يتحولوا هم أنفسهم إلى سلعة… تُباع وتشترى.

لنعد حتى إلى ما اقترفته الرأسمالية المطلقة في جوانب الفنون والترفيه، ولنسأل إن كان ذلك قد أضفى مزيداً من الإمتاع لمتابعيها؟

المؤكد أن تسهيلات الرأسمالية قد منحت ساحات الفنون والرياضة مزيداً من التشويق والإثارة والانتشار. لكنّ شكوكاً كثيرة تحيط بفكرة أنها غدت أكثر إمتاعاً مريحاً للنفس الراغبة في التخفّف من صرامة الحياة. إذ باتت هذه الترفيهيات نفسها، بما طغاها من إجراءات التسليع والتربّح، مصدر قلق وتأزم تقتضيه مطاردة هذه الإجراءات والانشغال بها عن صُلب الهدف الوجداني المنشود، الذي هو الترفيه.

انغماس المنتفعين في هذه الدوامة التربّحية يجعلهم يصطنعون تفسيرات أخلاقية لهذه الحالة اللاأخلاقية التي تعيشها عوالم الفنون والجمال والترقيق والتذوق في عصرنا الغارق في ماديّته.

لا مبرر أخلاقياً أبداً لتحويل كل الأشياء إلى سلع، وكل القيم إلى أثمان.

***

أزدادُ سعادة وتفاؤلاََ كلما دُعيت إلى ملتقى يُعنى بالثقافة، وسط هذا العالم الذي لم يعد يعتني بشيء اكثر من عنايته بالمال .. والمزيد من المال!

لكني لا أستطيع أن أخفي قلقي من لافتة: ( صناعة الثقافة )، إذ لا يطمئن قلبي إلى براءة الثقافة المقرونة بــ ” الصناعة ” أو ” التجارة ” . أدرك بأن ما أطلبه أقرب ما يكون إلى الجنوح الطوباوي العسير في هذا (العصر) المادي .

“تتجير” العالم و “تسعير” الكون ، هو ما نخشاه من خلال العولمة السلبية المستهلِكة، لا العولمة الإيجابية المانحة والمضيفة لصورة الكون ألواناََ أُخرى تضاف إلى الألوان الأساسية لثقافات الكون وحضاراته .

عاشت كتلة من شعوب العالم فترة من الزمن تحت هيمنة نظام يسعى إلى تثقيف السلعة، أي حشوها مهما كانت بريئة وبسيطة وتلقائية بمفاهيم وشعارات تخدم (نظاماَ) لا يترك شيئاَ إلا أدلجه .

وسقط نظام تثقيف السلعة، وهيمن الآن (نظام) أحادي لا يترك شيئاََ إلا استربح منه. فهو لا يريد فقط أن يُحرّر السلعة من الأدلجة ويجعلها سلعة فقط، بل زاد في نزعته السلعوية إلى درجة أنه يريد أن يجعل الثقافة سلعة!

أي أننا انتقلنا من زمن تثقيف السلعة إلى زمن تسليع الثقافة، و” الثقافة ” في كلتا الحالتين هي الضحية. ففي الحقبة الأولى كانت محشوة بمضامين فائضة، وفي الأُخرى فُرّغت الثقافة من مضامينها المعرفية من أجل خدمة مضامينها الاقتصادية والربحية .

اليونسكو ومعها الدول ذات الثقافات والحضارات العريقة والموغلة في القدم، تكافح من أجل مفهوم بسيط كلنا يجب أن نكافح من أجل ترسيخه في عقل العالم، إنه مفهوم الحفاظ على التنوع الثقافي ، الذي لأجله نشأت (الاتفاقية الدولية للتنوع الثقافي)، التي صوّت عليها في العام ٢٠٠٥م بالتأييد ١٤٨ دولة تقودهم فرنسا، وبالاعتراض دولتان فقط هما الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل(!)، وما يزال الدول الأعضاء في المنظمة يكابدون من أجل عدم إجهاض هذه الاتفاقية من لدن تُجار الثقافة الكونية. يحمل لواء هذه المكافحة عدد من الدول ذات الثقافة المتينة، سعياََ نحو الحفاظ على عالمنا في صورة متعددة الأطياف، وليست صورة ملونة بلون واحد فقط .

نعم إن الرأسمالية تساهم في عولمة الثقافة وانتشارها (الثقافة التي تشتهيها فقط وتضخّها برأس المال)، غير أنها للأسف تساهم إزاء هذا بصنع ثقافة متشابهة أحادية و هشّة، لكنها مربحة ومنعشة لرأس المال النهم .

هنا يكمن الصراع الذي يقلقنا .. بين ثنائية الثقافة المنتجة للإبداع أو الثقافة المدرّة للأرباح!

***

لكن، في الاتجاه المعاكس، يمكننا القول إن ما ننعته ببزنسة الثقافة هو السبيل الأجدى حاليا نحو الحفاظ على هذه الثقافة (بنوعيها:المادي وغير المادي/الشفوي) وتحويلها من عنصر جامد/ ستاتيكي إلى عنصر متحرك/ ديناميكي يتفاعل مع حركة الحياة وتمثّلاتها المعرفية والترفيهية والوجدانية.

تحويل عناصر الثقافة والفنون والتراث إلى منتجات وأشباه سلع كفيلٌ بتدويل المفاهيم والقيم والأذواق الثقافية خارج حدودها الجغرافية ونطاقها الوجداني الضيق، وهذا الهدف مغاير تماما ومعاكس لما يظنه البعض مناقضاً لمفهوم الحفاظ على التنوع الثقافي، إذ إن توسيع الانتشار للعناصر الثقافية يساعد في ترسيخ الحفاظ عليها. هذا عدا المردود الرأسمالي الذي تدرّه آليات تسويق عناصر التراث والفنون على الدول الثرية بتلك المنتجات، وهو استثمار مشروع كالذي نراه في شباك تذاكر الأهرامات وبرج إيفل وتاج محل، والعلا الآن، وعرض البجعات الثلاث في مسرح البلشوي وأوبرا عايدة وسامري عنيزة وفرقة أبوسراج للمزمار والينبعاوي.

تعالوا بنا نلقِ نظرة سريعة على أهم الفعاليات والمواقع السعودية استقطاباً للسياح والزوار الآن، إنها بكل وضوح: العلا ومدائن صالح، جدة التاريخية، رجال ألمع، وفي الرياض: الدرعية وسوق الزل وساحة المربع.

سيتضح لكم فوراً أن القاسم المشترك بين جميع هذه المواقع السياحية/ الترفيهية أنها مواقع (تراث ثقافي)، ما يعني ازدياد شغف الناس بتراثهم (ظاهرة عالمية وليست محلية فقط)، وبالتالي ازدياد قدرة هذه المواقع (الثقافية) أن تكون مصدراً للدخل الوطني وللحفاظ على التراث الوطني في آن.

***

ومن باب فتح الشهية للنقاش، كما تقتضيه منهجية الملتقى، سأختم بمجموعة أسئلة:

هل القلق النخبوي من تسليع الثقافة في محله، أم إنه قلقٌ يتكئ على تصورات طوباوية/ ماضوية؟

هل الاتجاه السائد نحو بَزنسة الثقافة هو الخيار الملائم لزمننا الذي نعيش فيه، أم إنه الخيار الحتمي الذي لا مفر منه؟

هل إن تسليع العناصر الثقافية يزيد من انتشارها حقاً، ولكنه يُنقص من جودتها العفوية؟

وختاماً، هل يوجد حل وسط يفرز العناصر الثقافية التي تقبل التسليع عن التي لا تقبل؟

عذراً عن الإطالة وشكرا جزيلا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

وقت البيانات لتقنية المعلومات شركة برمجة في الرياض www.datattime4it.com الحلول الواقعية شركة برمجة في الرياض www.rs4it.sa