الورقة الرئيسة: واقع السلوكيات المرورية في المملكة في ظل التشريعات الجديدة واقتراحات لتطوير المنظومة المرورية
₋ م. بدر صالح العيادة: كاتب الورقة
₋ د. علي مليباري: معقب على الورقة
₋ د. فهد اليحيا: معقب على الورقة
₋ أ. عاصم العيسى: مدير الحوار
إن من أكبر القضايا التي تهدد سلامه الناس وتنهش في إقصاد البلد هي قضية الحوادث المرورية التي يذهب ضحيتها أكثر من 1.35 مليون شخص حول العالم وعشرات الملايين من المصابين بإصابات يغير بعضها حياة أصحابها الى الأبد وبعضها يجعلهم طريحي فراش المرض لسنوات. الألاف من أبناء وبنات الوطن يفقدون حياتهم كل عام بسبب الحوادث المرورية، وعشرات الألاف منهم يتعرضون للإصابات.
بالإضافة الى ما تتسبب به الحوادث المرورية من خسائر جسيمة في الأرواح، وما تتسبب به من إصابات، فإن لها أثارا اجتماعية واقتصادية سيئة وتكلف الاقتصاد الوطني عشرات المليارات كل سنه، ولكننا الآن نمر في مرحله تاريخيه تقود فيها الدولة دفه التغيير، فلم تعد الدولة تقبل بالوضع الراهن وتطمح بأن ترتقي في البلد إلى مصاف الدول المتقدمة وتحافظ على مكتسبات البلد وتعمل على تنميته.
من يتابع التقارير والدراسات التي تصدر بهذا الخصوص سوف يقف مذهولاً أمام ما تعكسه من خسائر بشريه واقتصاديه واجتماعيه، ففي تقرير منظمه الصحة العالمية لعام 2013 ما يشير إلى أن المملكة هي الدولة الوحيدة بالعالم التي تشكل حوادث السيارات فيها السبب الرئيس للوفيات،
كما تشير التقديرات إلى أننا فقدنا ما يزيد على 70 ألف إنسان خلال العشر سنوات الماضية، ذهبوا ضحية الحوادث المرورية وقرابه 400 ألف مصاب خلال نفس الفترة معظمهم من الشباب دون سن الأربعين، ومن المتوقع أن تزداد هذه الأعداد المرعبة في السنين القادمة ـ لا سمح الله ـ إذا لم يتم تدارك الأمر، كما أن الخسائر المادية الناتجة عن هذه الحوادث أصبحت عبئاً كبيراً على موارد الوطن، حيث تكلف ما يزيد عن 20 مليار ريال سنوياً، حسب أقل التقديرات.
ولكن ما يثير القلق أكثر هو أن هذه الخسائر بتزايد مستمر، حيث تشير تقارير منظمه الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، إلى إن المملكة العربية السعودية قد ارتفع لديها نسبه الوفيات بالحوادث المرورية من 23 لكل 100 ألف نسمه عام 2007 إلى 27.4 عام 2015، وتحتل مراكز متدنية في إحصاءات السلامة المرورية، بينما قامت دول كثيره بخفض هذه النسب لديها بشكل كبير من خلال العديد من البرامج والأنظمة.
التشريعات الجديدة
قد يكون أكثر هذه التشريعات تأثيراً على المنظومة المرورية في المملكة هو السماح للمرأة بقيادة السيارة، لكن تأثير ذلك على مستوى السلامة المرورية لم يتم تقديره حتى الآن، إلا أن ذلك سيزيد من الحاجة الى إجراء التعديلات الضرورية لمنظومة النقل في المدن، مثل توفير الأعداد الكافية لمواقف السيارات ومدارس تعليم القيادة وغير ذلك.
لا شك أن التعديلات الأخيرة التي شهدها نظام المرور من زيادة في أنواع وقيم المخالفات سوف يكون لها أثر إيجابي في ردع المخالفين وبالتالي خفض الأعداد الهائلة من المخالفات المرورية، كما أن نظام العقوبات المرورية يتماشى مع ما هو معمول به في الدول المتقدمة، لكن هناك أسباب تحد من فاعلية النظام في كبح جماح الحوادث المرورية، ويمكن أن نلخص بعضها في ما يلي:
- تطبيق النظام:
على الرغم من الجهود الكبيرة التي يبذلها رجال المرور في متابعة المخالفين، وما يتم استخدامه حالياً من تقنيات لمراقبة وضبط المخالفات، إلا أنه لا زال هناك الكثير مما يستوجب القيام به في هذا المجال لتخفيض أعداد الحوادث والرفع من مستوى السلامة المرورية، فعلى سبيل المثال تكاد تكون المراقبة شبه معدومة في الأحياء السكنية والتي يكثر فيها الدهس، إضافة الى أن التقنية غير ممكنة حالياً لضبط العديد من مخالفات النظام مثل تجاوز إشارة “قف” والتغيير المفاجئ للمسار وعدم ارتداء الخوذة الواقية …. الخ.
- الإحصاءات:
الإحصاءات عن الوضع المروري تكاد تكون ضعيفة وغير منتظمة وينقصها الكثير من المعلومات الضرورية لتقييم الوضع المروري بشكل صحيح، كما أن هناك اختلافات بين الجهات التي تنشر هذه الإحصاءات وعدم وجود جهة مستقلة لجمع ونشر هذه المعلومات.
- تنفيذ النظام المروري على شبكة الطرق:
لا يخفى على أحد أن شوارع مدننا تفتقر الى الكثير من العلامات والشاخصات المرورية التي توضح النظام على الأرض، حيث تفتقر الشوارع الى تحديد واضح للمسارات (علامات على أرضية الطريق توضح المسار والاتجاه) والشواخص المرورية، وخاصة علامة “قف” التي تلي في الأهمية الإشارة الضوئية، ومع ذلك يكاد وجودها معدوماً وإن وجدت فلا يوجد تطبيق لها.
- التخطيط الحضري:
إن التخطيط الحضري هو الأساس الذي تبنى عليه شبكة الطرق ، ونظراً لكون الأمانات هي الجهات التشريعية والتنفيذية في هذا المجال، فإن الكثير من القرارات التخطيطية هي ذات تأثير مباشر على الوضع المروري ، فمثلاً ما نجده من اعتماد لنظام “الشوارع التجارية” بدلاً من نظام المناطق التجارية، افرز لنا شوارع بأطوال بعشرات الكيلومترات تقطع أوصال المدينة وتجلب معها المرور العابر للأحياء السكنية و النشاطات التجارية التي لا علاقة لها بخدمات الأحياء، فزاد بذلك الازدحام المروري وامتلأت الشوارع السكنية المجاورة بالسيارات. كما أن المعايير المستخدمة في متطلبات مواقف السيارات لم يتم إيجادها بناءً على دراسات مستفيضة للوضع المروري، فأتت ناقصة وتسببت في نقص حاد بمواقف السيارات في المدن. كما أن أنظمة التخطيط أوجدت أحياء مترامية الأطراف يصعب معها قضاء الحاجات اليومية مشياً واستلزمت استخدام السيارة، كما أن هذه الأنظمة تسبب في خفض الكثافة، الأمر الذي يصعب من وجود نقل عام فاعل.
- تصميم وتنفيذ شبكة الشوارع:
نظراً لعدم وجود معايير معتمدة موحدة لتصميم شبكة الطرق، جعلت الأمانات تجتهد في ابتكار حلول تصميمية لمعالجة مشاكل زحام وقتية، مثل تحويل بعض الشوارع الشريانية الى طرق سريعة من خلال إنشاء الجسور أو إلغاء التقاطعات واستخدام مسارات الدوران، الأمر الذي يتسبب في إرباك لحركة المرور وزيادة احتمالات وقوع الحوادث، كما أن الأمانات تتجاهل بالكامل الحاجة لوجود مسارات ومعابر مخصصة للمشاة وخاصة في الأحياء السكنية، الأمر الذي يعتبر سبباً مباشراً لحوادث الدهس. أضف الى ذلك انتشار المطبات العشوائية التي تفاقد الى معايير السلامة وضعف جودة الرصف.
- إدارة حركة المرور:
على الرغم من وجود تنسيق مستمر بين الأمانات وإدارات المرور بالمدن، إلا أن عدم وجود جهة مختصة في الأمانات لإدارة حركة المرور، جعل هذا التنسيق ينصب على تلافي الحالات الحرجة فقط، بينما يتطلب الأمر الى إدارة فاعلة تتولى وضع الخطط والسياسات والبرامج لتسهيل حركة السير والتقليل من الحوادث.
أن المحاولات التي تقوم بها أجهزه الدولة على كافة المستويات، بحاجة الى حلول جديدة لكبح جماح هذه الآفة والتخفيض من أعداد القتلى والمصابين، على الرغم من ما تبذله الدولة من آلاف المليارات على إنشاء الطرق وأنظمة النقل والمستشفيات وعلى ما يبذله رجال ألأمن والمرور من جهود في ملاحقه المخالفين لنظام المرور.
مقترحات لتطوير المنظومة المرورية
أولا: إنشاء هيئة عامة للسلامة المرورية
قبل أكثر من 23 عاماً تم تشكيل اللجنة الوطنية لسلامه المرور في مدينه الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، قامت بالعديد من الدراسات والأبحاث وعقدت ألكثير من الاجتماعات، اتضح بعدها أنه لا يوجد إستراتيجيه وطنيه لسلامه المرور وأن ضعف التنسيق بين الجهات ذات العلاقة هو سبب رئيس لاستمرار تفاقم المشكلة، فاقترحت اللجنة إيجاد “الخطة الوطنية الإستراتيجية لسلامة المرور” تضمنت الكثير من لأهداف والمشاريع التي رأتها ضرورية لمعالجه المشكلة ، وقد تٌوجت هذه الخطة بموافقه مجلس الوزراء الموقر قبل أكثر من ٥ سنوات، ولكن هذه الخطة بقت حبيسه الأدراج لعدم وجود جهاز حكومي يملك صلاحيه متابعه تنفيذها.
إلا أن ما يبعث الأمل هو إنشاء اللجنة الوزارية للسلامة المرورية قبل أكثر من عامين، لكن تعدد الجهات ذات العلاقة بالسلامة المرورية من وزاره نقل ووزارة بلديات ووزارة صحة ووزارة تعليم وإدارة مرور وقطاع خاص وغيرها، يجعل من إيجاد جهاز واحد يعنى بالسلامة المرورية أمراً في غاية الأهمية بحيث يكون جهازاً تشريعياً ورقابياً، يعمل على:
- متابعه ما تم إقراره من مشاريع واقتراحات في الخطة الوطنية مع مختلف الجهات.
- وضع معايير السلامة على الطرق ووسائل النقل الأخرى.
- وضع السياسات والخطط والبرامج التي تؤدي إلى تخفيض أعداد الوفيات وتخفيف أثارها السلبية على تنميه الوطن واقتصاده.
- دعم توفير المختصين من أبناء وبنات الوطن في مجالات تخطيط وهندسة النقل والتخصصات الأخرى ذات العلاقة من خلال برامج للتعليم والتدريب.
- تمثيل المملكة أمام الهيئات الدولية المعنية بسلامة النقل والمرور.
- تنظيم ومراقبه الشركات التي تعمل في مجال سلامه المرور (ساهر، مدارس القيادة، الفحص الدوري …الخ).
- الوقوف على حوادث النقل الكبيرة بمختلف أنواعها والتحقيق فيها (سيارات، قطارات، طائرات…) لمعرفه أسبابها وجمع المعلومات عنها.
- جمع ونشر الإحصاءات والمعلومات عن حوادث النقل.
هذا الجهاز الهام هو ما نحتاجه الآن لمواجهه مشكله وطنيه كبيره تهدر أرواحاً غاليه وتكلف أعباء ماليه كبيره نحتاجها لدفع عجله النمو والتطور، وقد سبقنا في تأسيسه الدول المتقدمة، فما أقترحه الآن يوجد ما يماثله في الولايات المتحدة تحت اسم ” المجلس الوطني لسلامه المرور NTSB”، كما أن التقارير الدولية تشير إلى أن الكثير من البلدان نجحت في تخفيض أعداد ضحايا الحوادث المرورية.
وحيث أن هذا الجهاز لابد أن يكون مستقلاً عن أي جهة حكومية أخرى، فقد يكون من الأفضل أن يكون هذا الجهاز تحت إشراف اللجنة الوزارية للسلامة المرورية.
ثانياً: إنشاء هيئات للنقل الحضري في المدن الكبرى
يوجد حالياً إدارات لهندسة المرور في الأمانات، لكن الإمكانات التنظيمية والبشرية والمادية المتاحة لها، لا تجعلها قادرة على القيام بمهام تخطيط وإدارة النقل في المدينة التي تنمو بشكل سريع يوماً بعد يوم.
إن الوضع المروري في المدن وخاصة الكبرى منها قد حصل له الكثير من التغيرات التي تستوجب وجود جهازاً خاصاً بالتخطيط والتنفيذ لبرامج عديدة تتعلق بالسلامة المرورية ومعالجة الزحام المروري وتوفير أنظمة نقل عام فاعلة وتوفير الخدمات التحتية اللازمة من شوارع وأرصفة مشاة ومواقف للسيارات ومتابعة تشغيلها بكفاءة وجمع المعلومات عن الوضع المروري للمدينة وتحليلها والاستفادة من نتائجها.
لقد سبقتنا دولاً عديدة في إيجاد مثل هذه المؤسسات المستقلة عن البلديات، ولكنها تكون تحت مظلة واحدة يرأسها الأمين، حيث يتم إعطاء الوضع المروري الاهتمام الذي يستحقه.