يونيو 2018م
ناقش أعضاء ملتقى أسبار خلال شهر يونيو 2018 م العديد من الموضوعات المهمة، والتي تمَّ طرحُها للحوار على مدار الشهر، وشملت القضايا التالية:
القضية الأولى:
الورقة الرئيسة: برنامج تطوير القطاع المالي: ثلاثة زائد واحد
- ·الكاتب: د. إحسان بو حليقة.
المعقبان:
د. ناصر القعود.
أ. جمال ملائكة.
• إدار الحوار: أ. فاطمة الشريف.
القضية الثانية:
الورقة الرئيسة: المرأة السعودية واقتصاد الظل
- ·الكاتب: ضيفة الملتقى د. مها العيدان
الأستاذ المساعد في كلية الآداب بجامعة الملك سعود- قسم الدراسات الاجتماعية
- ·المعقبان:
د. وفاء الرشيد.
د. نورة الصويان.
- ·مدير الحوار: أ. علياء البازعي.
القضية الثالثة:
الورقة الرئيسة: مدن مؤنسنة…عندما يتهيأ العمران للإنسان
- ·الكاتب: د. مشاري النعيم.
- ·المعقبان:
م. محمد الشهري.
م. خالد العثمان.
- ·مدير الحوار: أ. وليد الحارثي.
القضية الرابعة:
الورقة الرئيسة: منتديات الحوار الفكري ودورها في التنمية.. ملتقى أسبار أنموذجًا
- ·الكاتب: د. إبراهيم البعيز.
- ·المعقبون:
د. منصور المطيري.
أ. آمال المعلمي.
د. عبد الله العساف.
- ·مدير الحوار: د. عبد الله بن صالح الحمود.
القضية الأولى:
(الورقة الرئيسة: برنامج تطوير القطاع المالي: ثلاثة زائد واحد)
- ·الكاتب: د. إحسان بو حليقة.
المعقبان:
د. ناصر القعود.
أ. جمال ملائكة.
• إدار الحوار: أ. فاطمة الشريف.
مقدمة:
تناولت قضية الأسبوع موضوع برنامج تطوير القطاع المالي، وهو أحد 10 برامج أطلقها مجلس الشؤون الاقتصادية والمالية في إبريل 2017م؛ لتحقيق رؤية المملكة 2030. يتمحور دوره في تطوير قطاع مالي متنوع وفاعل، لدعم تنمية الاقتصاد الوطني، وتنويع مصادر الدخل، وتحفيز الادخار والتمويل والاستثمار؛ من خلال تطوير وتعميق مؤسسات القطاع المالي، وتطوير السوق المالية السعودية، لتكوين سوقٍ مالية متقدمة، مع الحفاظ على استقرار ومتانة القطاع المالي.
لذا كانت قضية برنامج تطوير القطاع المالي من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدَّمها د. إحسان بو حليقة، وناقش فيها ما يمكن أن يحققه برنامج التطوير المالي. وتمَّ التعقيب على موضوع الورقة، وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (برنامج التطوير المالي وقطاع التأمين، تطوير العاملين بالقطاع المصرفي، الفائدة الاقتصادية من زيادة عدد البنوك، “ساما” تصدر مبادئ التمويل المسؤول للأفراد، التمويل العقاري، أهمية الاستثمارات الأجنبية، الاحتكارات في القطاع المالي، مشاكل التطوير المالي، قرارات التمويل، ضمانات القروض، صناديق التقاعد، نموذج دبي في الاستثمار، تنمية ثقافة الادخار، أهداف برنامج التطور المالي، فوائد تنفيذ التأمين الإلزامي، التعليم وبرنامج تطوير القطاع المالي، برنامج التطوير المالي ومكافحة التستر، التمويل الجماعي، برنامج تطوير القطاع المالي ورؤية 2030)، وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديد من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نصُّ الورقة التي كتبها دكتور/ إحسان بو حليقة،وعقَّب عليها الدكتور/ ناصر القعود، والأستاذ/ جمال ملائكة.
كتب د. إحسان بو حليقة في ورقته الرئيسة عن (برنامج تطوير القطاع المالي: ثلاثة زائد واحد): لماذا نحتاج برنامجًا لتطوير القطاع المالي؟ سؤالٌ حاولت أن تجيب عنه وثيقة برنامج تطوير القطاع المالي. ومن المناسب بيان أن القطاع المالي ساهم بنحو 5.35% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2017 بالأسعار الجارية، وحقق نموًّا يتجاوز 2%. أما لماذا نحتاج برنامجًا؟ فقد أوردت وثيقة برنامج تطوير القطاع المالي الأسباب التالية: تدني مستوى التغطية الشاملة للخدمات المالية، وتدني نسبة الادخار، وضعف الثقافة المالية، ومحدودية مصادر التمويل، والحاجة إلى تطوير البنية التحتية للأتمتة. أما السبب السادس الذي كنتُ أتمنى أن يكون منطلقًا لتطوير القطاع المالي فهو: ضعف المنافسة في القطاع؛ مما ينعكس سلبًا على كفاءة السوق المالية بمفهومها الواسع، بل يمكن الجدل بأن الأسباب الأربعة التي أوردتها وثيقة البرنامج، رغم أنها ضرورية لكنها غير كافية لتحسين مساهمة القطاع المالي في الناتج المحلي الإجمالي، بما يدفعني للقول بأنه ملفتٌ في العديد من تحقيق الرؤية التي تهتم بقطاعات اقتصادية بعينها، غياب الالتزام باستهداف مساهمة محددة في الناتج المحلي الإجمالي، أو حتى الالتزام بتحديد متوسط نمو للقطاع المعني.
يتمتع القطاع المالي باستقرار متين ونمو متئد، لكنه يعاني كذلك من انحسار المنافسة. لكن ما المنافسة؟ وكيف هي أقلُّ مما ينبغي؟ لنأخذ قطاعنا المصرفي المستقر عددًا وحصصًا. وللإنصاف، تنبغي الإشارة إلى أن مؤسسة النقد العربي السعودي ترحب باستقبال طلبات لتأسيس بنوك جديدة. سؤالي: مَنْ سيستطيع أن “يُناطح” البنوك التجارية “المتخندقة” إلا أن يكون أقوى منها شوكةً، وإلا لن يتمكن من انتزاع حصةٍ له انتزاعًا؟ التجربة أمامنا عملية، ما الحصة السوقية لآخر بنك تجاري تأسَّس لدينا؟ للمنافسة قواعد، أهمها: أن المنشآت لا ترغب في المنافسة، بل إن المنافسة تُفرض عليها فرضًا، ومن هذا المنطلق فالكبير لن يتيح المجال كثيرًا للصغير. هذه طبيعة ديناميكية الأسواق. ولذا، يكون لزامًا وضع التشريعات لتمكين الناشئ من أن يدخل السوق ليكبر وينعش إن كان أهلًا لذلك. ومن ناحية أخرى، فبنوكنا إجمالًا ليست بنوكًا تجاريةً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل هي أقرب ما تكون للبنوك الشاملة، فتجد للبنك “الأب” أذرعةً قوية في نشاطات التمويل، والتأمين، والوساطة، والمشورة، والترتيبات، والتعهد… إلخ، وفي المقابل تجد الشركات المالية المستقلة محصورة في حصة صغيرة من السوق، وليس أدلّ على حجم تلك الحصة من أرباحها “المجهرية” مقارنة بأرباح البنوك وشركات “الشخص الواحد” التابعة لها.
وتأتي أهمية المنافسة كعنصر ضروري لن يكتمل برنامج تطوير القطاع المالي إلا به، فهي التي ستحدث حِراكًا يؤدي إلى إعادة هيكلة القطاع، بما يمكنه من الارتقاء للمناسبة، التي تتطلب كفاءة لن تتحقق مع احتكار القلة مصرفيًّا، والشركات الضعيفة تأمينيًّا، وتحكُّم “الأشخاص المرخصين التابعين” استثماريًّا، وانقطاع “الحبل السري” الذي ينبغي أن يصل نشاط التمويل بالسوق المالية.
المنافسة هي العنوان العريض الذي يحتاجه قطاعنا المالي لمرحلة ما بعد إعلان “الرؤية”؛ وذلك لأسباب عديدة، من أهمها: أن يُصبح بوسع مؤسساتٍ الدخول لمعترك السوق بدون عوائق؛ مما يعني أهمية فتح السوق أمام لاعبين جُدد من داخل المملكة وخارجها، وفَسْح المجال لهم بأقل قدر من التعقيد والتكلفة، المهم ألا تكون أدوات لسحب أموالنا للخارج، والالتزام بالمعايير المهنية الممارسة عالميًّا. وعلينا التفكر مليًّا، هل بوسعنا الترخيص لإنشاء أنماط أخرى من المنشآت المصرفية إضافةً لنموذج المصرف التجاري الكبير، الذي ينبغي أن يأتي برأس مال ملياري، وأن ينتظر أشهرًا، وأن يتحمل عشرات الملايين من الريالات حتى يحصل على كافة التراخيص والرُّخص ليمارس نشاطه، وأن ينفق دون حدود للحصول على التقنيات المُكلفة، فضلًا عن أن عليه الدخول في معارك طاحنة عندما يبدأ نشاطه في السوق ليقتطع حصةً من سوق تتمترس فيها أقدم البنوك التجارية؟ والنقطة هنا لا تنطوي على “تحجيم” البنوك التجارية القائمة بقدر التوسُّع في تمكين المنشآت المصرفية الجديدة للسوق للنجاح في دخول السوق وممارسة خدماتها بدون عوائق، ومنحها الفرصة كاملة لتقدم خدماتٍ مصرفيةٍ ابتكاريةٍ تقدِّم مستوى أعلى من الخدمة للعملاء. أمَّا المبرر لذلك فإننا نريد رؤية حِراك حيوي في السوق المصرفية يولد منتجاتٍ وخدمات من جهة، وحيوية تنطلق لممارسة دور إقليمي حتى تصبح عاصمتنا المركز المالي الرئيس في المنطقة برمتها، فهذه الخانة محجوزة لنا منذ زمنٍ، وأزعم أننا لمَّا نشغلها بعدُ، وبمحض إرادتنا بأن نقتصر على دور لا يتجاوز- إلا فيما ندر- الحدود الوطنية.
وعلى صلةٍ بذلك، هل بوسعنا أن نرخِّص لأنماط مختلفة فيها مرونة وخفة، مثلًا مؤسسات “للادخار والإقراض” في مدينة أو محافظة، برأس مال عدة ملايين؟ وفي سياقٍ آخر، هل فكرنا في رجرجة شركات التأمين، وإعادة التأمين، وفتح المجال أمامها لتصبح قادرة أن تساهم في توفير السعة المطلوبة في أنماط التأمين المتعددة من جهة، وأن تمتلك المال الكافي للقيام بعملها في التغطية التأمينية لاقتصاد كبير لا يزال تغلغل المنتجات التأمينية فيه محدودًا، حتى مقارنةً ببلدان عربية مجاورة؟
وكان تعقيب د. ناصر القعود: نظرًا لأهمية دور القطاع المالي في تعزيز النمو الاقتصادي، الذي يعدُّ أحد محاور رؤية المملكة ٢٠٣٠ التي تسعى ضمن ما تسعى، إلى اقتصاد مزدهر، أقرَّ مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برنامج تطوير القطاع المالي بوصفه أحد البرامج التنفيذية العشرة التي أقرَّها أو سيقرُّها المجلس لتحقيق الرؤية.
انطلق البرنامج لتحقيق التطوير المنشود من خلال ثلاث ركائز، ووضع أهدافًا رئيسةً لكل ركيزة:
– الركيزة الأولى: تمكين المؤسسات المالية من دعم نمو القطاع الخاص.
– الركيزة الثانية: تطوير سوق مالية متقدمة.
– الركيزة الثالثة: تعزيز وتمكين التخطيط المالي (الادخار ومتطلباته).
يهدف البرنامج من هذا التطوير إلى تنويع منتجات القطاع المالي، والحد من التركز في سوق الأسهم، وزيادة الشمول المالي. ووضع البرنامج خطوات لتعزيز عمق وتنوُّع الخدمات المالية والمنتجات المتاحة للتمويل والادخار، وتطوير قطاع التأمين، والتوسع في منتجات الادخار وقنواته، وتحسين منظومته.
وأكد البرنامج على فتح قطاع الخدمات المالية أمام الجهات الفاعلة الناشئة، مثل شركات التقنية المالية لتحفيز الابتكار والنمو والمنافسة، وجعل من أهدافه الكمية زيادة تمويل الشركات المتوسطة والصغيرة من حيث الحجم والنسبة. وهو بذلك يتضمن الركيزة الرابعة التي نادى بها د. إحسان، وإن لم ينص عليها نصًّا، وهي معالجة ضعف المنافسة في القطاع المالي، هذا إذا كان هناك ضعف في المنافسة، وهو موضوع خلافي؛ فوجود شركات مصرفية أو مالية كبيرة لا يحدُّ من المنافسة، وكبر المنشآت وشمولية نشاطاتها.
سمة من سمات العولمة، وقد يكون سببًا لمزيد من الكفاءة وخفض التكاليف. والسوق المصرفية والمالية عمومًا في المملكة مفتوحة لدخول مَنْ يرغب ويقدر؛ وقد دخل السوق في السنوات الأخيرة عددٌ من البنوك الأجنبية الكبيرة والمعروفة عالميًّا، وكبرى البنوك الخليجية، ومن شأن ذلك زيادة المنافسة، والبرنامج يشجع على ذلك، ويضع الخطوات اللازمة له، مع الأخذ في الاعتبار المحافظة على الاستقرار المالي الذي هو عنصر مهم للمحافظة على النمو الاقتصادي.
ملاحظة أخيرة: أشار د. إحسان إلى “غياب الالتزام باستهداف مساهمة محددة في الناتج المحلي الإجمالي، أو حتى الالتزام بتحديد متوسط نمو للقطاع المعني”، والواقع أن وثيقة البرنامج أشارت إلى نسب محددة، وعلى سبيل المثال: حددت وثيقة البرنامج نموًّا في نسبة قطاع الخدمات المالية إلى الناتج المحلي الإجمالي من ١٩٢% عام ٢٠١٦ إلى ٢٠١% عام ٢٠٢٠، كما ذكرت نموًّا في نسب أخرى من مكونات القطاع المالي.
كما عقَّب الأستاذ جمال ملائكة على الورقة، بأنه يرى أن تطوير القطاع المالي يتمحور حول تطوير قطاع مالي “متنوع وفاعل” لتحقيق التالي:
١- دعم تنمية الاقتصاد الوطني.
٢- تنويع مصادر الدخل.
٣- تحفيز الادخار والتمويل والاستثمار.
على أن يكون ذلك من خلال:
ا- تطوير وتعميق مؤسسات القطاع المالي.
ب- تطوير السوق المالية.
كما حدد البرنامج ثلاثة أهداف رئيسة:
١- تطوير سوق مالية “متقدمة”.
٢- تمكين المؤسسات المالية من “دعم نمو القطاع الخاص” (وفي رأيي أن هذا الهدف في حد ذاته هدف مصيري لنجاح رؤية ٢٠٣٠).
٣- تعزيز وتمكين التخطيط المالي والادخار.
ويوضِّح البرنامج تفاصيل دقيقة للالتزامات والخطط التفصيلية للوصول إلى أهدافه، وقد لفت انتباهي الالتزامات التالية لعام ٢٠٢٠ مقارنة بعام ٢٠١٦:
– زيادة حجم الأصول المالية إلى الناتج المحلي لتبلغ ٢٠١٪ مقارنة بـ ١٩٢٪.
– زيادة حصة أصول القيمة السوقية للأسهم وإصدارات الدين من ٤١٪ إلى ٤٥٪.
– زيادة حصة تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة في البنوك من ٢٪ إلى ٥٪.
من خلال اطلاعي على هذا البرنامج، فإن أكثر ما يلفت النظر هو وجود خطط تفصيلية مرتبطة بأهداف محددة، وتاريخ محدد، ووحدات قياس.. إلخ.
كما يخطط البرنامج لزيادة دور قطاع التأمين، وإعادة التأمين ضمن تطوير القطاع المالي. وفي هذا الصدد أدعو هنا إلى عمل دراسة شاملة لدور التأمين بكافة “أنواعه” في تشجيع الادخار وبالتالي الاستثمار، حيث إنه من الممكن تطوير قطاع التأمين ليلبي احتياجات الأفراد والأسر من جهة (الحماية والادخار)، وهو النوع الذي لا يزال غير مفهومٍ لدى غالبية المواطنين؛ لارتباطه في أذهانهم بالتأمين على الحياة، وهذا غير صحيح. كما أن هناك برامج تأمين مرتبطة بالتقاعد كما هو موجود في الدول المتقدمة؛ ولذلك علينا التعمق في هذا الأمر لتطوير أدوات الادخار والاستثمار.
المداخلات حول القضية:
برنامج التطوير المالي وقطاع التأمين:
ترى أ. فاطمة الشريف أنه من المعروف أن وجود نظام مالي متطوَّر وفعَّال هو أحد المتطلبات الأساسية لتحقيق أي نمو اقتصادي وتنمية حقيقية، ومن هنا تكمن أهمية إقرار برنامج تطوير القطاع المالي، والذي تأتي على رأس أولوياته: السوق المالية، وقطاع التأمين، وشركات التمويل، ورفع مستوى الوعي المالي، ودعم منظومة الادخار.
ومن المعروف أن قطاع التأمين يلعب دورًا أكبر في الناتج المحلي، فهل معدلات التوطين لدى شركات التأمين اليوم تعتبر مناسبة لتحقيق أهداف البرنامج؟ وهل يمكن أن تكون هناك ضرورة لتشجيع بعض شركات التأمين المحلية على الاندماج لتصبح كيانات اقتصادية برؤوس أموال أكبر، تستطيع أن تُوظَّف، لتُقدِّم خدمات متطورة تواكب طموحات البرنامج؟
في هذا السياق، أشار د. ناصر القعود إلى أن معدلات التوطين الحالية مناسبة، حيث يُقدر أنَّ ٧٠ في المئة من العاملين في هذا القطاع مواطنون، لكن نجاح البرنامج في هذا القطاع يتطلب المزيد من التدريب للعاملين، وإكسابهم المهارات، كما يتطلب تطوير شركات التأمين والتشجيع على اندماجها، وهذا شرط ضروري لتطوير قطاع التأمين؛ فالسماح بالترخيص لشركات عديدة برؤوس أموال صغيرة من أهم الأسباب لتعثُّر الكثير منها، وعدم قدرتها على خدمة المؤمن، وإفادة الاقتصاد بشكل عام.
وقد أكدت وثيقة برنامج تطوير القطاع المالي على ذلك، وجعلت من متطلبات التطوير لقطاع التأمين: دمج الشركات القائمة، وقيام شركات كبيرة تتمتع بالخبرة والكفاءة، وركزت على تدريب العاملين من خلال إنشاء أكاديمية للتدريب في القطاع المالي.
تطوير العاملين بالقطاع المصرفي:
أضافت أ. فاطمة الشريف أن هذا يقود إلى نقطة أخرى مهمة، وهي: مع الأهداف والركائز الطموحة للبرنامج، هل الكوادر العاملة في المجال المالي تواكب تلك الطموحات؟ وهل هناك مبادرات للبرنامج تركِّز على تطوير العامل البشري، ورفع المستوى المهني لديه؟
علَّق د. ناصر القعود على ذلك: لا شك أن الكوادر العاملة في القطاع المصرفي وفي القطاع المالي عمومًا، قد خضعت في الغالب لتدريب متميز بدعم من مؤسسة النقد العربي السعودي وهيئة السوق المالية، واستثمارهما في ذلك؛ مما جعل القطاع المالي يمتلك خبرات وطنية مدربة وذات خبرة، وقادرة على مواكبة طموحات البرنامج.
وتتناول المبادرة رقم ١٧ في الفصل السادس، إنشاء أكاديمية للقطاع المالي تغطي جميع القطاعات الفرعية، ومهمتها تطوير المهارات المعرفية والقدرات والخبرات للعاملين الحاليين في القطاع المالي، إضافة إلى فتح الخدمات المالية لأنواع جديدة من الجهات الفاعلة، والتي ستساهم لخبراتها في تطوير القطاع.
من جانبه ذهب أ. جمال ملائكة إلى أن أهم أسباب تدني معدلات الادخار، هي:
١- ثقافة المجتمع.
٢- الرخاء الاقتصادي.
٣- الدولة الريعية.
٤- عدم وجود قنوات استثمارية “متعددة”.
٥- شيوع الفقر.
السبب الأخير لا ينطبق على المجتمع السعودي، إلا أن الأسباب الثلاثة الأولى هي مسببات تدني الادخار، ويبدو لي أنه بعد التحولات الاقتصادية والاجتماعية الأخيرة فسيكون هناك وعي اجتماعي لضرورة الادخار.
بالنسبة للسبب الرابع، أعتقد أن قنوات الاستثمار محدودة جدًّا، أما سوق الأسهم أو الأراضي فكلاهما يحمل مخاطر كبرى (الأراضي والعقار فيهما تغييرات ضخمة سلبًا). لذا لابد من تفعيل قنوات التأمين المختلفة؛ لأنها تعطي مجالًا أوسع للاستثمار، وربما دراسة آلية لزيادة حصة المواطن في الشركات الحكومية، وتشجيع الاستثمار الصناعي والسياحي،… إلخ.
وتساءلت أ. فاطمة الشريف: ما إذا دعمت الحكومة تلك المنتجات (خدمات المصارف، والمؤسسات المالية، والبرامج الادخارية) فهل سيسهم ذلك في زيادة مستوى الأمان، وبالتالي زيادة الإقبال عليها؟ أجاب عن ذلك أ. جمال ملائكة بأنه يعتقد أن الدولة لن تقوم بأي دعم لهذه المنتجات؛ لأن الدولة الآن أعادت وتعيد تقييم موضوع “الدعم”، هذا أولًا. ثانيًا: سيكون هناك دورٌ كبير للبنوك والمؤسسات المالية في الاستثمار في القنوات الجديدة، وبالتالي ستكون فرصة للمواطن للدخول في هذه الاستثمارات، وأنا شخصيًّا لا أؤيد دخول الدولة في أي دعم إلا للفئات المحتاجة، مثل برنامج حساب المواطن.
الفائدة الاقتصادية من زيادة عدد البنوك:
تساءل د. خالد الرديعان: ما جدوى زيادة عدد البنوك؟ وهل سيغير ذلك شيئًا في الاقتصاد؟ ما الفوائد المتوخاة من زيادة عدد البنوك؟ وهو ما ذكرته أ. فاطمة الشريف. فمع وجود الآن 12 مصرفًا محليًّا، و12 فرعًا لمصارف أجنبية، هل عدد المصارف مناسب في السعودية؟ أم أن السوق بحاجة إلى مزيد منها، سواء المحلية أو العالمية، لتواكب وتحقق أهداف البرنامج؟
في هذا السياق، يرى د. حميد المزروع أن أهمية البنوك لا يعتمد فقط على عددها، بل أيضًا على حجم رؤوس أموالها، وقدرتها على دعم قطاعات التنمية المتنوعة بالبلاد، مثل: الصناعة، والإسكان، وغيرها. وباعتبارها ضامنًا لأموال المودعين، تحرص مؤسسة النقد على تنظيم ومراقبة حركة الأموال داخل المصارف السعودية. وأعتقد أن هناك لوائح مشددة تنظم طبيعة التمويل، سواء للشركات أو الأفراد. ووثيقة الإصلاح المالي تدعم ما يُعرف بتطوير صناعة المشتقات المالية والتأمين. أما اندماج البنوك، فإنه يُعزِّز من رفع رؤوس أموالها؛ مما يمكِّنها من تقديم قروض تمويلية كبيرة وطويلة الأجل، كما يمكِّنها من المنافسة المحلية والإقليمية، والأهم من ذلك تنويع أقسام الخزانة، إذ إنها القلب النابض لجميع البنوك. لا شك أن تقليص المصاريف سيكون أحد المكاسب الناتجة عن الاندماجات.
سيظهر قريبا أنواعٌ جديدة من الخدمات المصرفية تُعرف باسم الفنتك، وهي تقنيات لإدارة الأموال، وربما تنافس البنوك التقليدية في تقديم بعض الخدمات المالية برسوم بسيطة منافسة.
اتفق معه في ذلك د. ناصر القعود، وأضاف: إن هناك أهمية في انتشار فروع هذه البنوك في المدن والقرى لتقدم خدماتها على أوسع نطاق، وبذلك تزيد من الشمول المالي، وبالفعل بدأ الترخيص لبعض شركات التقنية المالية.
“ساما” تُصدر مبادئ التمويل المسؤول للأفراد:
أورد د. حميد المزروع* خبرًا على الموقع الإلكتروني (أرقام) بتاريخ 20/5/2018، يفيد أن (مؤسسة النقد السعودي “ساما” تُصدر مبادئ التمويل المسؤول للأفراد.. وبدأ تطبيقها اعتبارًا من 12 أغسطس). ويرى أن هذا القرار الذي صدر بالأمس يحدُّ من القروض الاستهلاكية، ويساعد المواطنين على شراء أصول منتجة، ومنها المساكن.
التمويل العقاري:
وفيما يتعلق بالشان العقاري، ذكرت أ. فاطمة الشريف أن إحدى دعائم التمويل زيادة حجم الرهون العقارية، وتساءلت: هل سيسهم هذا التوجه في تطوير وإنعاش السوق العقاري السعودي؟
في تعليقه على ذلك، يعتقد م. خالد العثمان أن المفترض أن يتحقق ذلك، لكننا نخطئ دائمًا عندما نظن أن التمويل لوحده هو مفتاح حل مشاكل التنمية. زيادة الاستثمار في التمويل والرهن العقاري هو إحدى حلقات سلسلة تطوير وتنشيط القطاع العقاري، وخاصة قطاع الإسكان. على سبيل المثال: لم ألحظ في وثيقة البرنامج إشارة إلى تأسيس وتنمية منظومة الخدمات المرتبطة بالرهن العقاري، بما فيها وساطة التمويل، وضمان التمويل، والتأمين على الرهون العقارية، وغير ذلك. ولعل ذلك يأتي في تفاصيل المبادرات. وعن ذلك تساءلت أ. فاطمة الشريف: هل تمَّ الإعلان عن أي من المبادرات التي تُعنى بتطوير القطاع العقاري كأحد روافد وركائز برنامج التطوير المالي؟ أجاب م. أسامة الكردي بأن المبادرة الخاصة بالعقار تأتي ضمن تنمية الرهون العقارية وغيرها، باعتبارها أصولًا غير مستغلة حاليًّا.
أهمية الاستثمارات الأجنبية:
يرى د. صدقة فاضل أن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تجري بلادنا خلف الاستثمارات، وقد حباها الله بثروة هائلة، حتى أنها أمست مصدرًا رئيسًا للاستثمارات والإعانات. في هذا الجانب، ذهب م. خالد العثمان إلى أن الدعم والإعانات التي تقدِّمها الدولة لكثير من الدول هي مسؤولية سياسية وتنموية. لكننا كنَّا دومًا ننادي بألا يكون الدعم ماديًّا مباشرًا، بل من خلال تصدير المنتجات والسلع والخدمات الوطنية. وفي رأيي، تحقيق هذا المطلب هو من أهم محاور تمكين وتنمية القطاع الخاص، ودعم موارده المالية. أما د. حميد المزروع فيرى أن سبب سعينا وراء الاستثمارات هو استقطاب التقنيات الحديثة والأنظمة المرتبطة بها؛ ولذلك تضطر الحكومة إلى الدخول في مشاريع مشتركة؛ لتوطين التقنية، ولاستحداث فرص عمل للمواطنين.
أضافت د. وفاء الرشيد أن من فوائد الاستثمار الأجنبي:
– خلق الوظائف.
– الأثر الكبير على ميزان المدفوعات.
– خلق المصالح الاقتصادية بين الدول يُعزِّز الأهمية السياسية.
– تحسين الهيكل التجاري.
– التنويع في القاعدة الاقتصادية للدول.
– التأثير الإيجابي على رأس المال.
– نقل التكنولوجيا المتقدمة.
– زيادة الصادرات.
– زيادة تدفقات المال الأجنبي.
– التخفيف من احتمالات تسديد ديون خارجية.
وأضافت أيضًا أن هناك العديد من العقبات التي تقف حائلًا دون مواكبة مناخ الاستثمار في المملكة أهداف برنامج التطوير المالي، ومن أبرزها:
– الإجراءات وكثرة الأوراق المطلوبة.
– الحد الأدنى المطلوب في بعض القطاعات لشركات المساهمة مثلًا.
– إجراءات التأشيرات للأجانب مقارنة بدول الخليج، ومدتها القصيرة ٣-٦ شهور.
– نقص الكفاءات المحلية.
– ذهنية العمل والبيروقراطية.
– القوانين على المستثمرين الشباب تحدُّ من فرصهم.
من جانبه، ذكر م. سالم المري أن هناك حاجة ملحة لتطوير الإجراءات والإمكانات الإدارية والمهنية لكوادر بعض الجهات الحكومية التي لها علاقة بالاستثمار، وتطهيرها من الفساد بأشكاله، وأهم هذه الجهات التي بحاجة لتحديث إجراءاتها وتسهيلها، ورفع إمكانية كوادرها: الأمانات، والبلديات، وبدون ذلك سيكون من الصعب الوصول لتطلعات ٢٠٣٠.
أضاف د. إحسان بوحليقة أن تدفقات الاستثمار الأجنبي في الأصل متواضعة، وعلى الرغم من الجهود التي تُبذل لاستقطابه، إلا أن تدفقاته لم تزل محدودة. ولعل العائق الأهم هو مناخ الاستثمار. ومع انطلاق برامج التنويع الاقتصادي، وبذل المملكة جهدًا حثيثًا لتحسين بيئة الأعمال فمن المتوقع أن تتحسن التدفقات.
الاحتكارات في القطاع المالي:
أشار م. خالد العثمان أن القطاع المالي في السعودية يعاني من حالة تشبه الاحتكار من مجموعة من البنوك الوطنية، وعدد من البنوك الأجنبية التي ركَّز معظمها على تقديم الخدمات البنكية لقطاع الأعمال، وليس الخدمات البنكية التجارية العامة. صحيح أن عدد فروع البنوك الأجنبية في تزايد، لكن العدد الإجمالي للبنوك أقل بكثير من حجم الفرصة التي يقدمها اقتصاد إحدى دول العشرين. تضمُّ البحرين حوالي 120 بنكًا محليًّا وعالميًّا، وقبلها بيروت قبل الحرب الأهلية، والآن تتبارى دبي والدوحة على لعب دور السوق المالية الإقليمية. وفي ظني، فإن السعودية بثقلها الاقتصادي تمثل الموقع الأمثل والأقدر لتؤدي هذا الدور، خاصة في ظل التغيرات الاجتماعية الأخيرة التي كانت أحد أسباب تعذُّر توطين الأعمال الأجنبية هنا. كما أن زيادة عدد البنوك المحلية والعالمية في المملكة أحد أهم روافد تطوير القطاع المالي، ليس فقط بزيادة حركة الأموال في الاقتصاد؛ بل باستقطاب الخبرات والتقنيات والمهارات الفنية البشرية من أصقاع العالم، وزيادة الانفتاح على النظام المالي العالمي. في المقابل نرى هذه الأيام حالة لاندماج اثنين من البنوك الوطنية، بما أراه تكريسًا لحالة الاحتكار، وتحجيمًا للمنافسة، وانتكاسًا على مضامين وأهداف برنامج تطوير القطاع المالي.
وأضاف: إن المشكلة في أن البنوك في النموذج السعودي تقوم بكل شيء. هي بنوك تجارية، وتملك أذرعا للتمويل العقاري، والتأمين، والاستثمار، وغير ذلك. هذا الاحتكار أصبح ممتدًا حتى خارج إطار الخدمات البنكية إلى دائرة أوسع بكثير. تفكيك هذا الاحتكار يفتح الباب لفرص استثمارية كبيرة ومتنوعة في منظومة الخدمات البنكية والمالية والمساندة، بما يمكن أن يرفع من كفاء وتنافسية الأداء، وتقليل التكلفة. فوق ذلك أيضًا، فإن السوق بحاجة ماسة إلى تأسيس كيانات متخصصة تنمو رأسيًّا في مجال اختصاصها، وليس أفقيًّا في مجالات أخرى.
مشاكل التطوير المالي:
تساءل أ. محمد الدندني: هل من الإنصاف القول إن إحدى مشكلات التطوير المالي هي ملكية البنوك قلة من رجال الأعمال، أو القول: إنها أقرب للشركات العائلية؟ وكم نسبة تملُّك المؤسسات العامة في هذا القطاع؟ هل ما ورد من قلة البنوك، ومن ثَمَّ المنافسة، هو من البنوك نفسها؟
يرى م. أسامة الكردي أن هناك مشكلتين للتطوير المالي، هما: احتكار القلة، وتركُّز الملكية.
وأكد م. خالد العثمان أن إحدى العوائل التجارية- مثلًا- تسيطر على مجالس إدارة أربعة من البنوك الوطنية. في الحقيقة، بالرغم من أن البنوك شركات مساهمة عامة مدرجة في البورصة، إلا أنها لا تختلف كثيرًا عن معظم الشركات العائلية المدرجة في السيطرة العائلية والنخبوية عليها.
وأضاف، أنه قبل أسبوع أعلن أحد البنوك عن استقالة رئيسه التنفيذي، وتعيينه رئيسًا لمجلس إدارة البنك نفسه، بالرغم من أن نظام هيئة سوق المال يشترط مرور سنة قبل تعيين الرئيس التنفيذي المستقيل من شركة مدرجة في منصب رئيس مجلس الإدارة. في اليوم التالي أصدرت هيئة سوق المال قرارًا بتعديل ذلك البند في نظامها ليصبح بندًا استرشاديًّا وليس إلزاميًّا. موقف عجيب تبدو فيه هيئة سوق المال كما لو أنها عدلت النظام لشرعنة تلك المخالفة. وهو ما اتفق معه فيه م. أسامة الكردي، وأضاف أن كل ذلك يحدث، ومازال القطاع المالي يُدار بأساليب وقواعد تقليدية وقديمة.
قرارات التمويل:
أشارت أ. فاطمة الشريف إلى أن أحد أهداف البرنامج زيادة نسبة قروض المنشآت الصغيرة والمتوسطة إلى 5%, والتي تواجه تحديات عديدة تدفعها إلى الخروج من السوق، وفي مقدمتها التمويل، وفي المقابل هناك مخاوف لدى المؤسسات التمويلية أدت إلى العزوف عن تقديم برامج التمويل المناسبة لتلك المنشآت. ووفقًا لدراسة أجرتها غرفة التجارة الدولية، فإن 53% من الشركات المتوسطة والصغيرة التي تتقدم بطلبات للتمويل التجاري، يُقابل طلبها بالرفض, فهل يمكن أن تكون هناك حلولٌ مقترحة لتجاوز تلك العقبة، وتحقيق هذا الهدف؟
في اعتقاد م. خالد العثمان، أنه على أرض الواقع هناك الكثير من المزاجية في قرارات التمويل. بالفعل هناك حالات تعسُّف في التمويل لأغراض شخصية أو احتكارية، ومثل هذه الممارسات قاتلة لنمو القطاع المالي، والاستثمار عمومًا.
ضمانات القروض:
اقترح م. خالد العثمان تأسيس جهاز لضمان القروض بضمان حكومي مدعوم بحلول تأمينية متنوعة.
فالبنوك التجارية بطبعها متحفظة، وتعمد إلى طلب ضمانات للتمويل؛ لذلك نجد كثيرًا من العتب على البنوك في أنها تقدِّم التمويل لأصحاب الملاءة، على عكس المنطق التنموي. أيضًا الدولة مقبلة على برامج الخصخصة التي تتطلب التمويل من الداخل والخارج، علاوة على إتاحة بعض الفرص للاستثمار الأجنبي.
الضمان المتوفر حاليًّا هو الضمان الحكومي، وهو بالرغم من مصداقيته العالية إلا أنه يعتبر عالي المخاطر، بالنظر إلى سياديته، وصعوبة اختصام الدولة في حال الاختلاف. الفكرة تتمثل في تأسيس جهاز يقوم بدور الوسيط في تأسيس أدوات ضمان استثماري في شكل سندات مضمونة من الدولة، وممولة من مستثمرين بشرائح مختلفة، ومدعومة ببوالص تأمين تحقق لها الأمان الكافي لتعويض أية خسائر أو مخاطر استثمارية، سواء في التمويل الاستثماري والتنموي والمغامر، أو في العقود الحكومية الاستثمارية في إطار برامج الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص.
أضاف أ. محمد الدندني، لا تُشكِّل نسبة التأمين على القروض لبنوك قوية نسبة كبيرة من نسبة الفوائد. وأتساءل: لمَ لا تفعل البنوك الشعبية؟ وربما زيادة القروض من بنك التسليف وغيره. لا أقصد مال الدولة، ولكن أموال من البنوك الحاليّة، ومساهمين جدد، ولو أجنبيًّا بترتيب. وأذكر ما فعل “نهرو” في الهند، حيث أنشأ ما يُسمَّى small scale industry banking، مع اختلاف الوقت وحجم التمويل، ولكن العبرة بالفكرة.
واستطرد م. خالد العثمان، قبل أكثر من ثلاث سنوات أصدرت مؤسسة النقد تنظيمات التمويل متناهي الصغر. حتى الآن ليس هناك مؤسسة مالية واحدة حاضرة فعليًّا في هذه السوق؛ في المقابل هناك بنك الأمل في اليمن، وبنك الإبداع في الأردن ومصر، وقبلها بنك الفقراء في بنغلاديش، وغيرها. وبالطبع البنوك التجارية بتحفظها المعهود بعيدة عن هذا القطاع.
صناديق التقاعد:
طرح أيضًا م. خالد العثمان محورًا آخر وهو صناديق التقاعد، حيث ذكر أن في أمريكا- مثلًا- هناك الآلاف من صناديق التقاعد، والحال نفسها في دول كثيرة، وهنا لدينا صندوقان فقط: التأمينات الاجتماعية، ومؤسسة التقاعد. وفي رأيي، التوسُّع في تأسيس صناديق التقاعد المتخصصة الإلزامية والاختيارية للكيانات الكبرى، والشركات والنقابات والهيئات المهنية والجمعيات- يمكن أن يكون أحد روافد ومحاور تطوير القطاع المالي، وزيادة السيولة، وتحفيز وتنظيم الادخار، وتوجيهه للاستثمار التنموي. علَّق على ذلك م. أسامة الكردي بأن موضوع صناديق التقاعد مهم جدًّا، وهي في ظني أموال راكدة لابد من تحريكها، ومع ذلك لم يرد لها ذكر في برنامج تطوير القطاع المالي.
أضاف م. خالد العثمان بأن هناك تساؤلات كبيرة حول الطريقة التي تُستثمر بها صناديق التقاعد، ومستوى الحوكمة والرقابة فيها، وأثرها في التنمية. أحد الأمثلة على ذلك الجدل الدائر حاليًّا حول تقييم مركز الملك عبد الله المالي، وحقيقة الأموال المنصرفة عليه.
نموذج دبي في الاستثمار:
أوردت أ. فاطمة الشريف إحدى تغريدات سمو الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي حول القرارات الأخيرة لمجلس الوزراء بشأن الاستثمار في دبي.
علق أ. محمد الدندني على ذلك؛ ربما قال أحدهم أن مثل هذا القرار لا يناسبنا بحكم عدد السكان، وبسبب الفرق بين دبي التي تعتمد بشكل كبير على الأجانب، وبلدنا الذي يعمل على تفعيل المحتوى المحلي.
وبغض النظر عما سبق، فإننا في المراحل الأولى بعد عقود من الاقتصاد الرعوي. الانفتاح بقوانين تخدم العامل السعودي والاقتصاد الوطني مطلوبة، ولكن لا نعتمد سياسة عقدة النجار.
كذلك فإن فتح البلد لمَنْ هو مؤهل لزيارة المملكة مهم جدًّا، ولو للعلاقات وتبادل الأفكار.
كما يرى م. خالد العثمان أنه يحبِّذ بناء أحكام على قرار حكومة الإمارات دون فهم دوافع هذا القرار. المعلوم أن الاقتصاد هناك يمرُّ بظروف عسيرة، وربما كان هذا القرار إحدى وسائل العلاج بحسب رؤيتهم، لكنه لا يعدُّ بالضرورة نموذجًا ملائمًا للحالة السعودية.
تنمية ثقافة الادخار:
أشار د. حميد الشايجي إلى أنه يُلاحظ ظهور العديد من المبادرات التي تحاول نشر ثقافة الادخار لدى الأسرة السعودية، في حين أنَّ هناك ضعفًا شديدًا في المبادرات والبرامج التي توعي الأسرة السعودية بأنسب طرق الاستثمار الآمن للأموال التي تمَّ ادخارها؛ لذلك فإنني أوصي بتبني برامج ومبادرات احترافية لنشر الوعي الاستثماري لدى المواطنين العاديين؛ مما يساعد على عدم تكديس الأموال في الحسابات الجارية، ويقي المواطن من الاستثمارات غير المدروسة، ويحميه من الاستثمارات الوهمية. اتفقت معه في ذلك أ. فاطمة الشريف، حيث ذكرت أن إحدى أهم الركائز تنمية ثقافة الادخار، ورفع مستوى الوعي بأهميته.
أضاف إلى ذلك م. خالد العثمان: إن موضوع الادخار هو جزء من محور التثقيف المالي الذي أذكر أن البرنامج تطرق إليه لمامًا. الناس تبحث عن وسائل للادخار والاستثمار وفق قدراتها المحدودة، وهم بكل أسف ينجرفون وراء إغراءات مواقع تجارة الفوركس والعملات والنصب العالمي دون حسيب ولا رقيب. الدافع وراء ذلك هو البحث عن وسائل وقنوات ادخارية واستثمارية، في ظل غياب قنوات للاستثمار المحدود ومتدني الصغر.
من جانبه، يعتقد أ. وليد الحارثي أن موضوع الادخار، ومؤازرته على مستوى الأفراد والمؤسسات مهم جدًّا.،وما أشار له م.خالد العثمان من أن الناس تبحث عن وسائل للادخار والاستثمار وفق قدراتها المحدودة، يدعو لأن تتبنى جهات الاختصاص الحكومية مبادرات في هذا السياق، وتنظيمها وتفعيلها كما يجب، بما يضمن نشوءها بالطريقة الصحيحة، ويبقى الأمر للناس في الانخراط فيها أو التفاعل معها، على الأقل في الوقت الراهن، ولا يمنع أن تُسند إلى مؤسسات المجتمع التي قد يكون لديها الخبرة والتجربة في هذا المجال.
وأشار د. خالد الرديعان إلى أنه يوجد في السوق شركات يصعب تصنيفها.. تقوم هذه الشركات بالبيع بالأجل والتقسيط لزبائنها (سيارات وخلافه)، وذلك لمَنْ يودّون الحصول على نقد بعيدًا عن البنوك، وخوفهم من شبهة الربا. تقوم هذه الشركات كذلك بتصريف السلعة التي يتم شراؤها بطرق ربما كان بعضها فيه شبهة تحايل، وبعضها طرقها مشروعة، فهي تبيع السلعة للزبون (سيارة)، ثم يقوم ببيعها إلى طرف ثالث للحصول على النقد. فما وضع هذه الشركات؟ وهل تخضع لتنظيمات معينة؟
وترى أ. فاطمة الشريف أن إحدى ركائز البرنامج هي تنمية ثقافة الادخار لدى أفراد المجتمع من منظور اجتماعي، فكيف من الممكن تنمية تلك الثقافة لدى المجتمع؟ وما الأفكار والبرامج التوعوية التي قد تسهم في ذلك؟ وعلى جانب آخر؛ يركز البرنامج على تحديث البنية التحتية الرقمية للوصول إلى مجتمع غير نقدي، هل سيسهم ذلك في القضاء على تجارة الظل، والتستر التجاري؟
من جانبه يرى د. خالد الرديعان أن أوعية الاستثمار المعروفة والتقليدية لدى معظم السعوديين هي الأسهم والعقارات، وهذه تتطلب مبالغ كبيرة؛ لذلك ينصرف المواطن عن تنمية مدخراته الصغيرة. وأقترح أن تكون هناك أوعية استثمار تستقبل مبالغ صغيرة حسب قدرة المواطن.
ويعتقد أ. محمد الدندني أنه من الصعب تفعيل ثقافة الادخار في مجتمع استهلاكي، الكل يريد أن يظهر بمظهر الغني، يقترضون لقصد السفر، ولا يقترضون لقصد التعليم. علق على ذلك د. زهير رضوان، بأن ثقافة الادخار في العالم مرتبطة بالنسبة الربحية للادخار، فكلما ارتفعت النسبة زاد الادخار. كذلك هناك ادخار من أجل التعليم، ومن أجل التقاعد الذي لا يُخصم منه ضرائب لتشجيع الادخار، وكلا العاملين لتشجيع الادخار لا يتوفران لدينا، وأغلب الناس لا يقبلون به؛ لأنه يدخل في باب الربا.
أهداف برنامج التطوير المالي:
ذكرت أ. فاطمة الشريف أن أحد أهداف البرنامج زيادة نسبة قروض المنشآت الصغيرة والمتوسطة إلى 5%, والتي تواجه تحديات عديدة تدفعها إلى الخروج من السوق، وفي مقدمتها التمويل؛ وفي المقابل هناك مخاوف لدى المؤسسات التمويلية أدت إلى العزوف عن تقديم برامج التمويل المناسبة لتلك المنشآت. ووفقًا لدراسة أجرتها غرفة التجارة الدولية فإن 53 في المئة من الشركات المتوسطة والصغيرة التي تتقدم بطلبات للتمويل التجاري، يُقابل طلبها بالرفض.
فوائد تنفيذ التأمين الإلزامي:
أشارت أ. فاطمة الشريف؛ إلى أن من المبادرات الاستراتيجية المهمة للبرنامج: تعزيز تنفيذ التأمين الإلزامي. وتساءلت: ما أثر هذه المبادرة على قطاع التأمين؟ وهل سيعود بالنفع على القطاع الخاص، وعلى الفرد من ناحية تخفيض تكاليف التأمين؟
من جانبه ذكر د. حميد المزروع، واتفق معه في ذلك أ.جمال ملائكة، أن قطاع التأمين من القطاعات الناشئة بالمملكة، ويحتاج في الحقيقة إلى التطوير، خاصة الكوادر البشرية الوطنية المتخصصة. فهناك حوالي ٢٥ شركة تأمين مساهمة، معظمها يعاني من مشاكل إدارية ومالية خاصة بالحسابات الاكتوارية؛ ولذلك تحتاج إلى إعادة هيكلة أو دمج لتصبح قادرة على المساهمة في خدمة المجتمع، وفِي نسبة الناتج الوطني.
تفعيل التأمين الإلزامي وخاصة الصحي سيساهم في دعم ميزانيات شركات التأمين المتخصصة في الرعاية الصحية، وبالتالي تمكينها من تأسيس برامج متنوعة لخدمة المجتمع، ومنها تأسيس المستشفيات.
التأمين التكافلي من الأدوات المميزة التي يمكن أن تسهم في قطاعات متنوعة إذا طُبِّق وفقًا لمفهومه الأساسي، فهو يدعم بشكل غير مباشر برامج وزارة العمل، كما يحلُّ عددًا من القضايا في القطاع الخاص، ومنها- على سبيل المثال- حماية الموظفين الذين يُسرحون عن العمل لظروف خارجة عن إرادتهم، حيث يمكن أن تصرف لهم شركة التأمين رواتب لمدة محددة وفقا لعقد التأمين.
التعليم وبرنامج تطوير القطاع المالي:
أشار م. خالد العثمان إلى دور التعليم فيما يخصُّ تحقيق تطلعات برنامج تطوير القطاع المالي، وهو ما يمسُّ عدة جوانب: الأول: دور التعليم في توفير الموارد البشرية المؤهلة للعمل في المؤسسات المالية المختلفة ومجالات العمل ذات العلاقة بالقطاع.. والحديث هنا يطال مختلف مستويات التعليم والتدريب، والتأهيل الجامعي والفني والتطبيقي والمساند، وغير ذلك. الثاني: دور التعليم في تطوير الثقافة المالية في المجتمع، وتحسين مهارات الادخار والاقتصاد، وترشيد الإنفاق ومهارات الاستثمار والتحليل، وغير ذلك
وفي اعتقاد أ. فاطمة الشريف، فإن برنامج التطوير المالي قد أشار إلى النقطة الأولى الواردة في مداخلة م. خالد. ومن فترة بسيطة تمَّ توقيع اتفاقية بين مؤسسة النقد وهيئة سوق المال لإقامة أكاديمية أو معهد مالي يُعنى بتدريب وتطوير جميع العاملين في هذا المجال. أمَّا النقطة الثانية فأرى أنها جديرة بالاهتمام، وأن تُبنى لها مبادرة مع وزارة التعليم لتفعيل هذا الجانب، وتعميق ثقافة الادخار لدى الطالب في المراحل المختلفة.
برنامج التطوير المالي ومكافحة التستر:
في هذا الإطار، تساءلت أ. فاطمة الشريف: هل سيكون للبرنامج دورٌ في التصدي لمشكلة التستر، من خلال تحجيم مخاطر التستر التجاري الذي يُقدِّره بعض الخبراء بـ 200 مليار ريال سنويًّا؟
في اعتقاد م. خالد العثمان أن وثيقة البرنامج تطرقت إلى الاقتصاد غير الرسمي، وهو إحدى وسائل مكافحة التستر.
كما اقترح البرنامج تجميد التعامل بالإصدار السابق من العملة الورقية، ومنح مهلة محددة لا تتجاوز 6 أشهر لاستبدال النقد من العملة القديمة بالإصدار الجديد، على الأقل من فئتي 500 و100 ريال، على أن يكون الاستبدال مشروطًا بإيداع الأموال المستبدلة في حسابات بنكية لأصحابها. هذا الإجراء يمكن أن يكون أداة فاعلة لمحاصرة النقد المتداول خارج النظام البنكي، والناتج عن عمليات مختلفة ضمن اقتصاد الظل بأوجهها المختلفة، المشروعة وغير المشروعة، بل وحتى الجنائية. ومازلتُ أؤمن بأن هذا المقترح يستحق الدراسة، وتقييم التجربة الهندية التي سبقت بتطبيق إجراء مماثل قبل فترة.
التمويل الجماعي:
طرح م. خالد العثمان موضوع التمويل الجماعي، وهي ترجمة بتصرف لما يُعرف عالميًّا بمصطلح Crowd Funding.
هذا النموذج للتمويل يكون في العادة عبر منصات إلكترونية لتمويل مشروعات صغيرة أو متناهية في الصغر، والتمويل نفسه يمكن أن يكون صغيرًا جدًّا، ولو دولارًا واحدًا.. التمويل وفق هذا النموذج يمكن أن يكون في شكل هبة، أو قرض، أو استثمار بالشراكة. ميزة هذا النوع من التمويل أنه يفتح قنوات سهلة ويسيرة للاستثمار والادخار، وأيضًا لمساندة الفقراء والمحتاجين، وتمكينهم من الحصول على تمويل يسير لتأسيس ودعم أعمالهم الصغيرة، والتعفف عن طلب المعونة.
أحد أشهر المنصات الناجحة عالميًّا هي Kiva، وهناك غيرها الكثير في دول كثيرة، وفي المحيط القريب هناك نماذج ناجحة في بيروت، والقاهرة، ودبي. في السعودية لا يوجد نظام يسمح بهذا النوع من التمويل وينظمه، علمًا بأنه هناك أسرٌ وأصحاب أعمال صغار سعوديون تمكنوا من الحصول على قروض وتمويل من منصات عالمية وإقليمية. وأعتقد أنه من الضروري إصدار التشريعات اللازمة لتنظيم ودعم هذا القطاع لتحقيق آثار مهمة في دعم الأسر المحتاجة والمنتجة، وأصحاب المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر.
بينما يرى أ. محمد الدندني أن كثرة التشريعات والقوانين تحدُّ من حركة التجارة. لا ننكر أهمية المراقبة، ومتابعة رؤوس الأموال مهما صغرت أو كبرت، للأسباب المعروفة، ولكن نحتاج مرونة، والسماح لوجود قنوات للاستثمار بما يعود على الناس بالفائدة.
علق على ذلك م. خالد العثمان، فيما يتعلق بالشأن المالي؛ إن جَمْع الأموال ممنوع نظامًا؛ لذلك فأية آلية لجمع التمويل تتطلب تنظيمًا يسمح بها، ويحدد اشتراطاتها ومعاييرها ومتطلباتها. من جانبه يرى أ. محمد الدندني أن ذلك هو المطلوب، ولكن ليس لدرجة الحد بشمولية، فالتراخيص مطلوبة بسبب الاستغلال السيئ لهذه الأموال، ما بين استغلالها في أهداف هدَّامة أو سرقات، ويختفي مَنْ وراءها.
برنامج تطوير القطاع المالي ورؤية 2030:
ذهب م. أسامة الكردي إلى أنه من المعروف أن تنفيذ رؤية ٢٠٣٠ يتم عن طريق مجموعة من البرامج التي تهدف إلى تحقيق أهداف الرؤية، وقد رأينا وزارة المالية تنفذ برنامج (التوازن المالي) الذي يهدف إلى زيادة دخل الميزانية الحكومية للتساوي مع المصروفات، ويصبح العجز صفرًا. وقد اطلعت على بعض تفاصيل برنامج تطوير القطاع المالي فوجدته كالآتي:
– التزامات: زيادة حجم الأصول المالية، ودعم شركات الناشئة في إطار التقنيات المالية، ورفع حصة الرهون العقارية باعتبارها أصولًا غير مستغلة حاليًّا، وزيادة أصول أسواق المال، ورفع تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وخفض نسبة المعاملات النقدية. ويلحق كل واحد من هذه الالتزامات أهداف محددة قابلة للقياس لتحقيق تطلعات البرنامج وأهداف الرؤية.
ثمانِي مبادرات محورية: وتشمل التوجه نحو مجتمع غير نقدي، وتعزيز التأمين الإلزامي، وتنويع الخدمات المالية، وتحفيز القطاع لتمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتعميق أدوات الدين، ونشر الثقافة المالية، والتخصيص، وإنشاء منتجات لتشجيع الادخار.
ما لم أره في البرنامج هو رفع مستوى المنافسة في القطاع؛ مما يؤدي إلى رفع مستوى الخدمات وتخفيض تكاليفها، عن طريق ترخيص بنوك ومؤسسات مالية أكثر. كما لم أر إشارة إلى المستهلك وتطوير الخدمات المقدمة له، أو تأثير البرنامج على تصنيف المملكة المالي، ولا الفرص الجديدة أمام القطاع المصرفي وشركات الخدمات المالية.
كما لاحظت شيئًا من البيروقراطية في تنفيذ البرنامج: مكتب إدارة البرنامج، واللجنة الاستراتيجية، واللجنة التنفيذية، والجهات المنفذة، وشركاء البرنامج الرئيسين، واللجنة الإشرافية.
أضاف م. خالد العثمان، من المهم أيضًا الإشارة إلى أن تطوير أداء مرفق القضاء في القطاع المالي مطلبٌ مهمٌّ لتوسيع الاستثمار في هذا القطاع من الداخل والخارج. ووجود نظام مستقل للقضاء والتحكيم التجاري هو أحد أهم عناصر الجذب الاستثماري، وتنمية القطاع المالي في مدن، مثل: لندن، ونيويورك، وباريس، وهونج كونج، وسنغافورة، ودبي.
التوصيات:
خرجت المناقشة بالعديد من التوصيات، وهي:
– إيجاد أوعية استثمار جديدة تستقبل مبالغ صغيرة حسب قدرة المواطن؛ نظرًا لأنَّ أوعية الاستثمار المعروفة والتقليدية المتوفرة هي الأسهم والعقارات، وهذه تتطلب مبالغ كبيرة؛ لذلك ينصرف المواطن عن تنمية مدخراته الصغيرة.
– تطوير أداء مرفق القضاء في القطاع المالي؛ لتوسيع الاستثمار في هذا القطاع من الداخل والخارج، حيث يعتبر وجود نظام مستقل للقضاء والتحكيم التجاري أحد أهم عناصر الجذب الاستثماري، وتنمية القطاع المالي.
– تأسيس جهاز يقوم بدور الوسيط في تأسيس أدوات ضمان استثماري في شكل سندات مضمونة من الدولة، وممولة من مستثمرين بشرائح مختلفة، ومدعومة بوثائق تأمين تحقق لها الأمان الكافي لتعويض أية خسائر أو مخاطر استثمارية، سواء في التمويل الاستثماري والتنموي والمغامر، أو في العقود الحكومية الاستثمارية في إطار برامج الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص.
– تبني برامج ومبادرات احترافية لنشر الوعي الاستثماري لدى المواطنين؛ مما يساعد على عدم تكديس الأموال في الحسابات الجارية، ويقي المواطن من الاستثمارات غير المدروسة والوهمية.
– تطوير الكوادر البشرية الوطنية المتخصصة في قطاع التأمين، حيث إن هناك حوالي ٢٥ شركة تأمين مساهمة معظمها يعاني من مشاكل إدارية ومالية، وتحتاج إلى إعادة هيكلة أو دمج لتصبح قادرة على المساهمة في خدمة المجتمع.
– تفعيل التأمين الإلزامي، وخاصة الصحي؛ مما يسهم في دعم ميزانيات شركات التأمين المتخصصة في الرعاية الصحية، وبالتالي تمكينها من تأسيس برامج متنوعة لخدمة المجتمع، ومنها تأسيس المستشفيات.
– تفعيل التأمين التكافلي، والذي يعتبر من الأدوات المميزة التي يمكن أن تسهم في قطاعات متنوعة إذا طُبِّق وفقًا لمفهومه الأساسي، فهو يدعم بشكل غير مباشر برامج وزارة العمل، كما يحل عددًا من القضايا بالقطاع الخاص.
– دعم بنوك الأفكار وإنشاؤها كي تكون مصدرًا من مصادر الاقتصاد الوطني المتنوع.
– مكافحة التستر من خلال تجميد التعامل بالإصدار السابق من العملة الورقية، ومنح مهلة محددة لا تتجاوز 6 أشهر لاستبدال النقد من العملة القديمة بالإصدار الجديد، على الأقل من فئتي 500 و100 ريال. على أن يكون الاستبدال مشروطًا بإيداع الأموال المستبدلة في حسابات بنكية لأصحابها.
– تبني التمويل الجماعي عبر منصات إلكترونية لتمويل مشروعات صغيرة أو متناهية في الصغر، ويكون هذا التمويل في شكل هبة أو قرض أو استثمار بالشراكة؛ لفتح قنوات سهلة ويسيرة للاستثمار والادخار، وأيضًا لمساندة الفقراء والمحتاجين، وتمكينهم من الحصول على تمويل يسير لتأسيس ودعم أعمالهم الصغيرة، والتعفف عن طلب المعونة, تجربة منصة Kiva مثالًا.
– تبني الحملات التوجيهية الإرشادية المنظمة على شبكات التواصل الاجتماعي؛ لرفع مستوى ثقافة الادخار لدى المجتمع.
– تصميم برامج ادخار عائلية من قِبل البنوك والمؤسسات المالية، تشجع الأسرة على الادخار, مع التركيز على أن تكون البرامج مناسبة لأصحاب المدخرات الصغيرة.
الملخص التنفيذي:
القضية: (برنامج تطوير القطاع المالي: ثلاثة زائد واحد).
تناولت الورقة الرئيسة موضوع برنامج تطوير القطاع المالي، وهو أحد 10 برامج أطلقها مجلس الشؤون الاقتصادية والمالية في إبريل 2017م؛ لتحقيق رؤية المملكة 2030. يتمحور دوره في تطوير قطاع مالي متنوع وفاعل؛ لدعم تنمية الاقتصاد الوطني، وتنويع مصادر الدخل، وتحفيز الادخار والتمويل والاستثمار، من خلال تطوير وتعميق مؤسسات القطاع المالي، وتطوير السوق المالية السعودية، لتكوين سوقٍ مالية متقدمة، مع الحفاظ على استقرار ومتانة القطاع المالي.
كما تناولت الورقة التحديات الأساسية التي سيتعامل معها البرنامج، مثل: محدودية مصادر التمويل، والاعتماد على التمويل المصرفي، وتدني مستوى التغطية الشاملة للخدمات المالية، وانخفاض نسبة الادخار، والحاجة إلى تطوير البنية التحتية للأتمتة، وضعف الثقافة المالية.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة في إبراز أهمية برنامج التطوير المالي باعتباره أحد محاور رؤية 2030، وأهدافه المتعددة التي تتجه نحو تنويع منتجات القطاع المالي، والحد من التركيز في سوق الأسهم، وزيادة الشمول المالي، مع التأكيد على فتح قطاع الخدمات المالية أمام الجهات الفاعلة الناشئة، مثل شركات التقنية المالية، لتحفيز الابتكار.
كما أوضحت التعقيبات أن تطوير القطاع المالي يتمحور حول تطوير قطاع مالي متنوع وفاعل؛ لتحقيق دعم تنمية الاقتصاد الوطني، وتنويع مصادر الدخل، وتحفيز الادخار والتمويل والاستثمار.
وناقشت المداخلات التي تمت حول موضوع القضية أهمية إقرار برنامج تطوير القطاع المالي، كأحد المتطلبات الأساسية لتحقيق أي نمو اقتصادي وتنمية حقيقية، وكيف أن تنفيذ رؤية 2030 يتم عن طريق مجموعة من البرامج التي تهدف إلى تحقيق أهداف الرؤية، وأحد هذه البرامج هو برنامج التطوير المالي.
ورصدت المداخلات بعض النشاطات المتعلقة بالقضية؛ كتطوير الكوادر العاملة في القطاع المصرفي، وتنمية ثقافة الادخار، وتنمية الرهون العقارية، والاستثمارات الأجنبية والفوائد العائدة منها، والتمويل الجماعي، والتوسُّع في تأسيس صناديق التقاعد، والاقتصاد غير الرسمي كإحدى وسائل مكافحة التستر.
وتمت الإشارة إلى أن القطاع المالي في السعودية يعاني من حالة تشبه الاحتكار من مجموعة البنوك الوطنية والأجنبية.
كذلك أكد المناقشون على أن هناك دورًا للتعليم فيما يخصُّ تحقيق تطلعات برامج تطوير القطاع المالي في جانب توفير الموارد البشرية المؤهلة، وتطوير الثقافة المالية في المجتمع.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: ضرورة إيجاد أوعية استثمار جديدة تستقبل مبالغ صغيرة حسب قدرة المواطن، وتطوير أداء مرفق القضاء في القطاع المالي لتوسيع الاستثمار في هذا القطاع من الداخل والخارج، وتأسيس جهاز يقوم بدور الوسيط في تأسيس أدوات ضمان استثماري، وتبني برامج ومبادرات احترافية لنشر الوعي الاستثماري لدى المواطنين، وتفعيل التأمين الإلزامي وخاصة الصحي؛ مما سيسهم في دعم ميزانيات شركات التأمين المتخصصة في الرعاية الصحية، وتفعيل التأمين التكافلي، ودعم بنوك الأفكار وإنشاؤها كي تكون مصدرًا من مصادر الاقتصاد الوطني المتنوع، ومكافحة التستر، وتبني التمويل الجماعي عبر منصات إلكترونية لتمويل مشروعات صغيرة أو متناهية في الصغر، وتبني الحملات التوجيهية الإرشادية لرفع مستوى ثقافة الادخار لدى المجتمع.
القضية الثانية:
الورقة الرئيسة: المرأة السعودية واقتصاد الظل
- الكاتب: ضيفة الملتقى د. مها العيدان.
الأستاذ المساعد في كلية الآداب بجامعة الملك سعود- قسم الدراسات الاجتماعية.
- المعقبان:
د. وفاء الرشيد.
د. نورة الصويان.
- مدير الحوار: أ. علياء البازعي.
مقدمة:
كيان خفي يعمل بجد ولا يهدأ، ولا يأبه بما يفعله الكيان الرسمي تقريبًا، بل يقتات على ما يواجهه الكيان الرسمي، وما يمرُّ به من أزمات لكي ينمو ويصبح مساويًا له، وأحد المؤثرات – إن لم يكن أكبرها على الإطلاق – عليه. هو اقتصاد موازٍ، وكثيرًا ما نسمع أو نقرأ عن اقتصاد الخفاء واقتصاد الظل، وكثيرًا ما سمعنا عن جهود الحكومة والاقتصاديين لدحره، ومحاولة الحد منه، فما هو الاقتصاد الخفي الذي يعمل في الخفاء، أو كما يُطلق عليه اقتصاد الظل أو اقتصاد الخفاء؟ وما علاقة المرأة بهذا النوع من الاقتصاد؟ تساؤلات عديدة تُظهر أن قضية المرأة السعودية واقتصاد الظل من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدَّمتها د. مها العيدان. وتم التعقيب على موضوع الورقة، وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (مفهوم اقتصاد الظل وأسباب وجوده، ظاهرة اقتصاد الظل، التجارة الإلكترونية واقتصاد الظل، توعية المجتمع حول اقتصاد الظل، مجالات اقتصاد الظل وعلاقتها بالفقراء وبعض المهن، ارتباط المهن في اقتصاد الظل بالأشخاص، احتواء اقتصاد الظل واستثماره، ملاحظات على اقتصاد الظل وعمل المرأة من خلاله، أسباب اتجاه البعض إلى اقتصاد الظل، الجانب الإيجابي في اقتصاد الظل، المداخل النظرية التي تُفسِّر ظهور وانتشار القطاع غير الرسمي، تنظيم اقتصاد الظل وإخراجه إلى النور، المنتمين إلى اقتصاد الظل وآلية التعامل معهم، الكثير من الظل في اقتصاد الظل، مسار تمويل لرواد الأعمال والمتسببين، لماذا المرأة في اقتصاد الظل؟، سلبيات ومشاكل اقتصاد الظل وإجراءات الدولة للقضاء عليه، اقتصاد الظل وشبكات التواصل الاجتماعي)، وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديد من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نصُّ الورقة التي كتبتها دكتورة/ مها العيدان، وعقَّبت عليها الدكتورة/ وفاء الرشيد، والدكتورة/ نورة الصويان.
كتبت د. مها العيدان في ورقتها الرئيسة عن (المرأة السعودية واقتصاد الظل): يُعدُّ اقتصاد الظل أو قطاع الاقتصاد غير الرسمي- كما يُطلق عليه في معظم الكتابات- نشاطًا اقتصاديًّا ينتشر في أغلب الدول، مع اختلاف حجم المشاركة فيه من دولة لأخرى. وهو نشاط اقتصادي غير مسجل رسميًّا بالرغم من الأرباح الناتجة عنه، والتي تمثل عاملًا اقتصاديًّا مهمًّا على نطاق الفرد والدولة باعتباره أحد الروافد المهمة لاقتصاد أي مجتمع، حيث تشير الدراسات الاقتصادية إلى أنه ينمو بمعدلات أكبر من القطاع الرسمي، وبالرغم من إطلاق تسمية مفهوم العمل الهامشي كوصف له، إلا أن هذا الوصف لا ينطبق عليه من الناحية الاقتصادية؛ وإنما يصف الوضع القانوني لهذا لنظام. والحقيقة المؤكدة التي يتفق عليها معظم الباحثين من كلا الجانبين الاقتصادي والاجتماعي أن القضاء على الاقتصاد غير الرسمي- أو ما يطلق عليه الاقتصاديون الاقتصاد الخفي- مسألة شبة مستحيلة.
ويشمل القطاع الأول منه المشروعات الصغيرة، وهو ما يمثل الجانب المنتج من الاقتصاد غير الرسمي؛ لأنه يستجيب للسياسات الاقتصادية، ويمثل نحو 25% من الاقتصاد غير الرسمي، ويتمتع بقدرته على امتصاص أعداد كبيرة من قوة العمل، كما يلبي احتياجات فئات الدخل المنخفض. أمَّا القطاع الثاني فيمثله العمل العشوائي أو ما يمكن وصفه باستراتيجيات البقاء للفقراء، ويمثل هذا النمط حوالي 75% من الاقتصاد غير الرسمي.
وبالرغم من تهميش القطاع غير الرسمي وعدم الاهتمام به، إلا أنه يتمتع بمميزات نسبية عن القطاع المنظم، ومن أهم هذه المميزات- كما حددتها ورقة العمل المقدمة من الباحث محمد مطيع مؤيد، في ورشة العمل حول دور النقابات في حماية حقوق العمال في الاقتصاد غير المنظم، في دمشق بتاريخ 8-13/7/2006:
1- استيعابه لأعداد متزايدة من اليد العاملة؛ مما خلق فرصًا كثيرة من الأعمال التي تساعد على استمرارية التشغيل، وهذا يشكل معالجة جزئية لمشكلة البطالة.
2- قلة تأثُّره بالأحداث الإقليمية والدولية، مثل التسريح لقطاعات عريضة من العمال، سواء على نطاق الشركات الخاسرة أو الشركات التي تتحول من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة.
3- دفع روح الإبداع والمبادرة للطاقات البشرية والإمكانيات الموجودة والمعطلة من خلال تشجيع التشغيل الذاتي.
4- التخفيف من الأزمات الاقتصادية، حيث ترى كثير من الدراسات أن القطاع غير الرسمي من القطاعات التي لا تتأثر بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وإذا كان هناك بعض من التأثير فنسبته أقلُّ من تأثير القطاع الرسمي.
5- زيادة مشاركة المرأة في العمل داخل المؤسسات الصغيرة القريبة من السكن.
6- دوره في تدريب العاملين، وإكساب الخبرات المختلفة للقوى العاملة.
7- يؤدي الاقتصاد غير الرسمي إلى تخفيض الفروق في توزيع الدخول، وتقليل الفجوة في المستويات الاقتصادية.
وهناك مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تقف خلف نمو الاقتصاد غير الرسمي:
1- عجز الاقتصاد المحلي عن خلق فرص عمل تستوعب القوى العاملة؛ ممَّا أدى إلى خلق فرص عمل خارج النظام الرسمي.
2- الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل؛ مما يؤدي إلى زيادة نسبة البطالة، واللجوء إلى العمل في الاقتصاد غير الرسمي.
3- مستوى الأجور المتدني الذي لا يتناسب مع مستوى المعيشة، وأنظمة الحوافز والترقيات.
4- فقدان كثير من العمال وظائفهم نتيجة استخدام التكنولوجيا، أو إدخال أنظمة عمل جديدة، مثل خصخصة كثير من قطاعات العمل الحكومية.
5- زيادة طابع المرونة في القطاع غير الرسمي في علاقات العمل وإدارة الإنتاج في سياق المنافسة العالمية؛ مما أدَّى إلى استخدام القوى العاملة غير المنظمة حتى تتمكن من تنظيم العمل بتشكيل وحدات أكثر مرونة، من خلال عمل غير مسجل يسهل الدخول والخروج منه بدون التزامات قانونية.
6- ارتفاع نسبة التحضُّر، حيث تكشف البيانات الإحصائية أن نسبة التحضُّر في أقطار العالم الثالث لا تتجاوز 7% في سنة 1920م، وأصبحت في سنة 1950م 13%، ووصلت إلى 43% في نهاية القرن العشرين.
7- التفاوت المناطقي (الإقليمي) في عدد الوظائف الرسمية المتاحة والخدمات المقدمة.
8- عدم مواكبة برامج التنمية لاستيعاب النمو الحضري.
9- تعقُّد الإجراءات الإدارية والتنظيمية، وارتفاع الرسوم في أسواق العمل الرسمي.
ويمكن تحديد الآثار الاقتصادية لاقتصاد القطاع غير الرسمي على النحو التالي:
1- التهرُّب من الضرائب والغرامات؛ مما يفقد الحكومات إيرادات كثيرة تؤثر على ميزانيتها العامة، وعلى مستوى الإنفاق العام؛ مما يؤثر أيضًا على مستوى التنمية الاقتصادية بشكل عام.
2- عدم توفُّر إحصائيات دقيقة عن الإمكانيات الاقتصادية الحقيقية للمجتمع؛ مما يؤدي إلى سوء تحديد الموارد الاقتصادية، وسوء توزيع الناتج المحلي.
3- مظهر من مظاهر التخلُّف، حيثُ من الملاحظ انتشاره في الدول النامية، ومن أهم سلبياته: إهدار للموارد البشرية والاقتصادية، وسوء استغلالها؛ مما يزيد معدلات البطالة.
4- التستُّر عليه يؤدي إلى فشل سياسات الاستقرار الاقتصادي. مع التأكيد على أن الحقائق حوله تشير إلى أن معظم الحكومات تساعد على وجوده من خلال تجاهلها له.
5- صعوبة ضبطه من الناحية الاقتصادية، أو من خلال الأنظمة والقوانين، أو حتى المعايير الاجتماعية.
6- عدم معرفة الأرقام الحقيقية للبطالة، حيث تصبح الأرقام الرسمية عن معدلات البطالة مبالغًا فيها؛ لأن العاملين في الاقتصاد غير الرسمي لا يدخلون في الإحصائيات الرسمية للعاملين.
وتربط معظم الدراسات العمل الهامشي في الاقتصاد غير الرسمي بالمرأة والفقر، حيث تشكل المرأة أعلى نسبة من العاملات في القطاع غير الرسمي.
أما عن أساب انخراط النساء في هذا القطاع، فقد أوضح “مركز دراسات أمان” (2001) أن الجهل وافتقاد المهارات التدريبية احتلت ما نسبته 46% من الأسباب، تلاهما الأمية بنسبة 35%، وبلغت نسبة الدافع الاقتصادي 25%، وعدم توفر رأس المال 16%. أما دراسة الملاحي فأوضحت أن (86%) من عينة الدراسة كان دافعهن الرغبة في الاستقلال المادي، وأضافت (الملاحي) أن (84%) وافقن على أن سبب شغل وقت الفراغ من الأسباب التي تدفع المرأة للعمل في مشاريع صغيرة من المنزل، و(84%) عملن لتحقيق الذات، وأن (82%) أجبن للمحافظة على خصوصية المرأة، و(75%) للتوفيق بين المهام الأسرية والعمل الشخصي.
وبالرغم من أهمية هذا النوع من الاقتصاد للمرأة إلا أنه من العقبات والصعوبات بشكل عام؛ مما يؤثر على إنتاجية العمل واستمراريته. وأوضحت (الملاحي) أن ارتفاع أجور العمالة، وعدم توفر عدد كاف من العمالة، وعدم وجود خبرة تسويقية- تعدُّ من أهم العقبات التي تواجهها المرأة. واستنتج (الرشيد، 2009) أن أهم العقبات التي تواجه النساء العاملات عن بعد هو انخفاض مستوى الإنجاز، لعدم وجود إشراف ومتابعة؛ ممَّا قد يتسبب في انخفاض دخولهن من العمل. أمَّا دراسة (العيدان، 2013) فتوصلت إلى أن العاملات في مجال الغناء “الطقاقات” يُواجهن بوصم اجتماعي؛ بسبب الموقف السلبي لثقافة المجتمع السعودي من مهنة الغناء. وبالنسبة للعاملات في صبِّ القهوة “الصبابات” يواجهن صعوبة مزاحمة غير السعوديات لمهنتهن، وصعوبة التنقل. وبالنسبة للاتي يبعن في البسطات يواجهن صعوبة ملاحقة الجهات الرسمية لهنَّ، إضافة إلى أن المردود المادي لعملهن منخفض.
وتوصلت دراسة (حمزة، 2010) -على النساء العاملات في المشروعات متناهية الصغر في السودان- إلى أن مِن العقبات التي تواجهها النساء محدودية الأسواق، وارتفاع أجور العمالة، ومعوقات مرتبطة باللوائح التنظيمية والقانونية.
وأكدت دراسة (الغامدي، 2011) – والتي تبحث في المعوقات التي يواجهها أصحاب المشروعات الصغيرة- أن من المعوقات التنظيمية تعدد إدارات الحصول على قرض، وعدم وجود أمن وظيفي؛ ومن المعوقات الثقافية الخوف من فشل مشروعاتهم؛ أما المعوقات التعليمية والتدريبية فأبرزها صعوبة الحصول على استشارة علمية، وضعف التدريب والتأهيل، إضافة إلى صعوبة التسويق.
وكان تعقيب د. وفاء الرشيد: إن القضاء على اقتصاد الظل مسألة شبه مستحيلة وسط اقتصادات نامية، وبالأخص التي تعاني المرأة فيها من تهميش، ففي جميع الدول المتقدمة والنامية يتعايش الاقتصاد الخفي جنبًا إلى جنب مع الاقتصاد الظاهر، ومن ثَمَّ يصبح السبيل الوحيد أمام صانع السياسة الاقتصادية محاولة البحث عن علاج يناسب طبيعة الأسباب التي تقف وراء الظاهرة وضبطها، لتصل إلى نسب مقبولة.
إذا نظرنا اليوم إلى واقع المرأة في الأنظمة السياسية غير العادلة، والتي بدورها تولد أنظمة اقتصادية واجتماعية غير عادلة، فسنجد أن البطء في تعديل السياسات ومكافحة الفساد فيها هو سبب رئيس في اقتصاد الظل؛ وذلك لأنه يصبح بديلًا لسياسات مالية وإدارية فاسدة تعرقل المواطن عن الوصول للقمة عيشه أو تحقيق كيانه. إن اقتصاد الظل يعتبر مظهرًا من مظاهر تخلف المجتمعات؛ لأن من أهم سلبياته التي لا بد من التركيز عليها هي عملية هدر الموارد المادية والبشرية وسوء استغلالها؛ مما يؤدي إلى تفاقم معدلات البطالة، ولجوء الأفراد إلى ممارسة أنشطة اقتصادية خفية غير نظيفة؛ بسبب غياب الأنظمة الاقتصادية العادلة والسليمة التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة، وحاجيات المجتمع الأساسية من ذكور وإناث، ليس فقط من باب العدل ولكن لأن دفع المرأة لاقتصادات الظل قد يكون له فوائد في المجتمعات المحافظة، إلا أن أضراره قد تكون كارثية على المدى الطويل.
كلما ازداد معدل الاقتصاد الموازي على حساب الاقتصاد الفعلي أعطى معلومات وإحصائيات مضللة وغير دقيقة عن الإمكانيات الاقتصادية الحقيقية للمجتمع، وأدَّى إلى سوء تخصيص الموارد الاقتصادية، وسوء توزيع الناتج المحلي؛ مما يحبس المرأة في حلقة مفرغة بين البطالة المقنعة والعمل النظامي، فالاقتصاد الموازي يتسبب بدرجة كبيرة في إفشال سياسات الاستقرار الاقتصادي نتيجة لدوره التشويهي للمؤشرات اللازمة لوضع السياسات الاقتصادية اللازمة.
وأشير إلى أن أهم أسباب تواجد المرأة في الاقتصاد الموازي ترجع إلى الأنظمة الضريبية المباشرة وغير المباشرة غير العادلة، وارتفاع نسبة مساهمة النساء في الضمان والتأمينات الاجتماعية، وتدني الأجور المادية والحوافز المعنوية لهن، والتي لا تتناسب مع مستوى المعيشة، وتعقيد الإجراءات الإدارية والتنظيمية لعمل المرأة، وارتفاع الرسوم في أسواق العمل، وتعقيد الإجراءات الإدارية والتنظيمية والقضائية والأمنية في مختلف المؤسسات والهيئات الحكومية، ولا ننسى تهالك المنظومة التعليمية.
كما عقبت د. نورة الصويان: يُعرف اقتصاد الظل أو ما يُسمَّى الاقتصاد الخفي أو المستتر بأنه كافة الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها الأفراد أو المنشآت، ولا يتم إحصاؤها بشكل رسمي, ولا تعرف الحكومات قيمتها الفعلية، ولا تدخل في حسابات الدخل القومي، ولا تخضع للنظام الضريبي ولا للرسوم ولا للنظام الإداري التنظيمي. ويشمل اقتصاد الظل أنشطة اقتصادية مشروعة، وأنشطة اقتصادية غير مشروعة.
كما يُعرف القطاع غير الرسمي بأنه: “إنتاج السلع والخدمات القائم على أساس السوق، سواء كان إنتاجًا مشروعًا أو غير مشروعٍ”، والذي نتجنب الكشف عنه في التقديرات الرسمية للناتج الداخلي العام.
ويُعرِّف مكتب الإحصاءات الرسمية في المملكة المتحدة القطاع غير الرسمي بأنه “مجموع الأنشطة الاقتصادية التي تتولد عنها عناصر دخل لا يمكن قياسها من مصادر الإحصاءات الرسمية والمناط بها عادة مع مقاييس الدخل القومي والناتج القومي. أو هو مجموع الأنشطة الإنتاجية والخدماتية والمالية التي تحقق دخلًا لا يخضع للضريبة، ولا للرقابة، ولا يُحتسب في مجمعات المحاسبة الوطنية.
قيمة الاقتصاد الخفي في السعودية تبلغ حاليًّا 326 مليار ريال، والشواهد الحالية تدعم تقديرات البنك الدولي بارتفاع حجم الاقتصاد الخفي في المملكة خلال السنوات الأخيرة, وفقًا للدراسة التي أعدَّها عضو مجلس الشوري “د.فهد بن جمعة”.
وتبرز أهمية القضية المُقدَّمة من خلال هذه الورقة في تناولها لأكثر الفئات الاجتماعية ضعفًا وهشاشةً من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية؛ ولذلك دومًا ترتبط ثقافة الفقر بالنوع الاجتماعي والمرأة بالذات؛ نظرًا للدور الذي تقوم به داخل الأسرة.
الفقر يتعرض له الرجال والنساء على حد سواء، لكن أثره أعمق على النساء؛ كونه ينتج في الغالب من فقر قدراتهن، ومحدودية البدائل والخيارت لهذه الفئة، ويترافق مع التمييز المجتمعي ضدهن. وقد أشارت دراسة دولية جديدة إلى أن النساء لم يشهدن إلا تحسينات هامشية في مجال العمل خلال العشرين (20) عامًا الماضية.
وأشارت منظمة العمل الدولية إلى أن الفرق في معدل العاملين بين النساء والرجال تضاءل بنسبة (0.6) % منذ عام 1995م, ولا تزال جودة العمل في البلدان التي يسهل فيها حصول المرأة على العمل أمرًا تواجهه عقبات كثيرة.
وقال رئيس منظمة العمل الدولية “غاي رايدر” عند إعلان التقرير: إنه أظهر تحديات عديدة لا تزال النساء تواجهها في العثور على عمل لائق، والحفاظ عليه. وأضاف أيضًا أن النساء مازلن يواجهن خلال حياتهن العملية عقبات كبيرة في الحصول على عمل لائق.
وقد استقى التقرير بياناته من 178 بلدًا تبين فيها أن معدل مشاركة النساء في القوى العاملة كان بنسبة 25.5% من مشاركة الرجال في عام 2015م، وأن الهوة لم تتضاءل إلا بنسبة 0.6% عما كانت عليه قبل 20 سنة.
لا تزال النساء في كثير من مناطق العالم عرضةً على أكثر الاحتمالات لأن تبقى بلا عمل, وتبلغ نسبة بطالة المرأة في العالم 6.2% مقارنة بنسبة 5.5% بين الرجال، وغالبًا ما تضطر المرأة إلى قبول أعمال أقل جودة، منها: توزيع الدعاية، وأعمال المنزل غير المدفوعة الأجر. وبالرغم من تقلص الفجوة لا تزال المرأة تعمل لساعات أطول في اليوم من الرجل, إذا أخذ في الاعتبار العمل المدفوع وغير المدفوع الأجر.
أغلب الدراسات التي أجريت في هذا المجال قد أوضحت أن مسؤولية إعالة الأسرة كان من أهم أسباب التحاق المرأة للعمل في القطاع غير الرسمي، فالعمل أصبح ضرورة ملحة لتوليد عائد مادي إضافي. كما أن معظم الدراسات تربط العمل الهامشي في القطاع غير الرسمي بالمرأة والفقر, حيث تشكل المرأة أعلى نسبة من العاملين/ات في القطاع غير الرسمي.
لم يعد خروج المرأة للعمل مسألة إرادية، أو تعبير عن قناعات فكرية معينة؛ بل أصبح ضرورة في ظل التغيير المجتمعي والتغيرات الاقتصادية، والانفتاح على السوق العالمية، وارتفاع الأسعار؛ وهذا ما دفع بالكثير من ربات المنازل والفتيات للالتحاق بسوق العمل للمساهمة في إعالة أسرهن. ونتيجة لذلك ارتفعت نسبة النساء المشتغلات بقطاع العمل غير الرسمي، سواء داخل المنزل أو خارجه.
إن الحكم على مشاركة المرأة في سوق العمل لا يتم عن طريق حساب نسبة مشاركة مرتفعة كانت أو منخفضة؛ بل يتم عن طريق معرفة وضعها في سوق العمل، والظروف المحيطة بها. وباستعراض الكثير من الدراسات المحلية والعربية يتضح أن أغلب النساء والفتيات المشتغلات في القطاع غير الرسمي تراوحت أعمارهن من 34-65 باستثناء القليل من الفتيات في أعمار صغيرة، وكثير منهن أميات أو من ذوات مستوى تعليمي منخفض، وأغلبهن أرامل ومطلقات ومهجورات، وقلة متزوجات، والوضع الاقتصادي لأسرهن عمومًا متدنٍ, والبيوت التي يسكنّها صغيرة ومستأجرة، والكثيرات من هؤلاء السيدات يعانين من أمراض مزمنة.
- · أبرز المخاطر لعمل المرأة في القطاع غير الرسمي:
– عدم الاستقرار.
– الأجور المنخفضة أو الدخل المتدني.
– الإرهاق في العمل.
– التعرُّض للتحرش.
كما اتضح انخفاض نسبة الوعي بالحقوق الأولية بين العاملات في القطاع غير المنظم، والشعور بعدم الرضا؛ لأن عملها لا يوفِّر لها الاستقلال المادي، ويعرضها لمشكلات عديدة. ولعل الدافع الاقتصادي، والمساهمة في إعالة أسرهن كان من أبرز أسباب التحاق النساء للعمل في القطاع غير الرسمي.
- · أبرز المشكلات والصعوبات:
– ظروف تتعلق بالبيئة المحيطة (لا مظلات، ولا مرافق عامة، ولا أماكن للاستراحة).
– تقلبات الطقس.
– المضايقات التي يتعرضن لها، سواء من جهات رسمية (البلدية, الأمن, الشرطة)، أو أصحاب المحلات التجارية، أو من مرتادي السوق.
- · أبرز الآثار الإيجابية:
– تحقيق عائد مادي.
– تحسُّن نسبي في وضع الأسرة.
– تحقيق ذات ومكانة وقيمة أكثر من السابق في محيط أسرتها، حيث أصبحت تشارك في اتخاذ القرار مع الزوج.
- · ومن أبرز الآثار السلبية:
– الوصم (شعور الأبناء بالحرج الاجتماعي من عمل الأم).
– الإحساس بعدم الأمان والاستقرار الاقتصادي.
– تأثُّر صحة المرأة نتيجة للإرهاق والعمل المتواصل.
- · المرئيات:
– لابد من تحسين ظروف العاملات في القطاع غير الرسمي بشكل يمنع استغلالهن من أي جهة كانت.
– تسهيل منح النساء قروضًا صغيرة بدون فوائد، أو بفوائد محدودة.
– مساهمة رجال الأعمال في تبني مشاريع إنمائية لتأمين فرص عمل لمثل هؤلاء السيدات بأجور مناسبة.
المداخلات حول القضية:
مفهوم اقتصاد الظل وأسباب وجوده:
ذكرت د. مها العيدان أنها تتفق مع تعقيبات ومداخلات بعض الأعضاء حول تعريفهم لاقتصاد الظل، إلا أن معظم التعريفات تنطلق من الجانب الاقتصادي، بالرغم من أهمية دوره الاجتماعي على الفرد والمجتمع.
كما أنه من المؤكد أنه لا يمكن القضاء عليه ولكن يمكن التقليل من حجمه، والدليل أن نسبته ترتفع في دول العالم الثالث، في حين تنخفض في الدول المتقدمة؛ مما يعني خللًا في التعليم والتدريب، والأنظمة الإدارية، وتنمية الاقتصاد بطريقة صحيحة.
ويرى أ. محمد الدندني أن من أكثر ما يساهم في التستر واقتصاد الظل هي التأشيرات الحرة. فلو أنه تم وضع مقارنة بين مَن ينتسبون للتأمينات الاجتماعية من الأجانب وعدد الإقامات سارية المفعول، لوُجِد رقمٌ ليس بالهين، هذا غير التستر الواضح من العاملين بأسماء سعوديين وسعوديات، آلاف المحلات، هذا غير الوافدين بطرق غير شرعية، ولا أعتقدُ أن القضاء على هذه الفئات أو التقليل منها سيُملأ بمواطنين ومواطنات.
أضاف د. حميد المزروع: إن المنطق يقول مَن يرغب في فتح نشاط تجاري يُفترض أن يعمل فيه بنفسه أو يشرف عليه، وأقصد هنا على وجه التحديد المشاريع الصغيرة. ما يحصل فعليًّا في سوق العمل هو أن السعودي يعمل لدى الوافد مقابل مبلغ مقطوع للسعودي.
ظاهرة اقتصاد الظل:
أشار د.خالد الرديعان إلى نقطتين في موضوع اقتصاد الظل أو الاقتصاد غير الرسمي informal economy: النقطة الأولى حول حجم هذا الاقتصاد، والنقطة الثانية حول فشل سعودة بعض القطاعات وعلاقة ذلك باقتصاد الظل. حيث يمثل اقتصاد الظل ظاهرة عالمية، وهو موجود في جميع الدول تقريبًا بما فيها الدول المتقدمة، ولكن بنسب متفاوتة. في المملكة تشير التقديرات إلى أنه يمثل نحو ٢٠٪ من مجمل الاقتصاد، وإن كنتُ أعتقد أن النسبة أعلى من ذلك بكثير؛ بسبب ظاهرة التستر، والعمالة الوافدة، والاعتماد على النقد (الكاش) في كثير من التعاملات التجارية، ويمكن أن يعمل استخدام الكاش بطرق الدفع الإلكتروني على تقليص اقتصاد الظل، ويهبط بنسبته إلى الحد الذي ربما كان معقولًا ومقبولا.
النقطة الثانية أن سعودة بعض القطاعات التجارية لم تنجح تمامًا بسبب اقتصاد الظل الذي يؤثر على حركة البيع والشراء؛ فالسعودي الذي يبيع سلعة ما في محله التجاري قد يُواجه بباعة متنقلين أو متجولين سعوديين أو وافدين يبيعون السلعة نفسها بسعر أقل بكثير مما هي عليه في المحلات التجارية، وهذا ما جعل بعض السعوديين ينصرف عن البيع بطرق الاقتصاد التقليدي، بل إن كثيرين فشلوا. وقد لُوحظ ذلك في بيع الخضروات والفاكهة على سبيل المثال لا الحصر؛ فباعة الخضروت المتجولين زاحموا أصحاب المحلات، وهو ما دفع بالأخيرين إلى هجر محلاتهم، وربما التوجه للبيع المتجول، ولاسيما أنه يناسب الكثير من السعوديين؛ فهو مرن ولا يرتبط بوقت محدد، ويمكن تغيير مكان البيع والنشاط والسلع حسب الموسم. لإنجاح السعودة فإنه لابد من تقليص اقتصاد الظل ومحاصرته.
فيما يخصُّ المرأة، فإن البعض من السعوديات ساهمن في انتشار اقتصاد الظل من خلال مكفوليهن من العمالة الوافدة، خاصة اللواتي ليس لهن محلات تجارية معروفة؛ إذ تقوم الكفيلة بعدم متابعة مكفولها، بحيث أصبح يمارس مهنًا غير التي استُقدم من أجلها؛ كالبيع، وتوزيع المنتجات بسيارة متنقلة. وحتى لا نلقي باللائمة على النساء، فإن بعضًا من الرجال (أزواج، آباء، إخوان) قد يستغلون اسم المرأة القريبة لاستخراج تأشيرات عمالة واستقدامهم، ومن ثَمَّ قذفهم إلى السوق لممارسة أنواع من المهن الهامشية. جميع ذلك يدخل تحت التستر الذي يساعد على انتشار اقتصاد الظل.
التجارة الإلكترونية واقتصاد الظل:
تساءلت أ. علياء البازعي: هل تندرج التجارة الإلكترونية، وتجارة مشاهير وسائل التواصل “الإعلانات الباهظة الثمن” تحت مظلة اقتصاد الظل/الاقتصاد الموازي؟
يرى د. خالد الرديعان أن التجارة الإلكترونية لا تدخل ضمن الاقتصاد غير الرسمي (الظل)؛ لأن عمليات البيع والشراء شبه مكشوفة من خلال الحوالات المالية، واستخدام بطاقات الائتمان. تعاملات اقتصاد الظل تتم عادة نقدًا، ومن ثَمَّ يصعب تقدير مداخيلها، أو فرض ضرائب على أصحابها. وهو ما ذهب إليه د. عبد الله بن صالح الحمود، حيث ذكر أن التجارة الإلكترونية عالميًّا متابعة من خلال تقنيات السداد الآلي (بطاقات الصراف الإلكتروني والائتمان). بل بالعكس، في المملكة أضحى الشراء عبر نقاط البيع يُسمح إلى مائتي ألف ريال، وقريبًا سيصل إلى مليون ريال.
من جانبها علقت د. مها العيدان على ذلك بأن كلَّ عمل لا يدخل ضمن الأنظمة والقوانين الرسمية يدخل ضمن القطاع غير الرسمي، ومن ضمنها التجارة الإلكترونية مادامت خارج نطاق الأنظمة والقوانين الرسمية، فالتجارة الإلكترونية كانت في القديم تقابلها تجارة نقل وتوزيع البضائع بين المنازل، وكانت النساء تمارسها. ويُذكر أن العمل غير الرسمي يفرز أنواعًا مختلفة بناء على احتياجات ومتغيرات كل مجتمع.
أضافت أ.علياء أن هذا بالفعل مانراه كلَّ يوم من خلال الخدمات المتنوعة التي نحصل عليها.
ويرى د. حميد المزروع أن تصنيف الاقتصاد غير الشرعي، ووضع التشريعات المناسبة لكل صنف أو نمط، يقلل إلى حد كبير من المخاطر السلبية، خاصة غسيل الأموال والتستر، ومخاطر المنتجات الغذائية التي تُسوق للمنازل دون مراقبة صحية.
هناك عدد من المنتجات التي ترتبط بالصناعات التقليدية والحرف، والمرتبطة بالأسر المنتجة، تحتاج إلى منافذ شرعية، ومنها المنصات الإلكترونية. لذلك فإن سعودة الاقتصاد الموازي- إن أمكن، وكمرحلة أولى- يعتبر إجراءً وقائيًّا مهمًّا للحد من التستر، وتهريب الأموال للخارج.
علقت أ. علياء البازعي بأن هناك منصة لوزارة التجارة”maroof.sa معروف” تنظِّم إلى حد ما هذا العمل. لكن هل تنظيمها كافٍ؟ وهل إذا قام أحد الأشخاص بالتسجيل كصاحب متجر إلكتروني لدى “معروف” يكفي هذا أن تكون بضاعته موثوقة، وتجارته رسمية؟ وهل ستحل مشكلات “فوضى” التجارة الإكترونية؟
بينما ترى د. وفاء الرشيد أن هذه المنصة هي لتنظيم التجارة الإلكترونية، ولكنها لا تحصر الحركة المالية للتجار المسجلين فيها؛ لأن القوائم المالية التي تُعبَّأ من المسجلين هي تقدير جزافي.
توعية المجتمع حول اقتصاد الظل:
تساءلت أ. علياء البازعي: هل يحتاج المجتمع إلى توعية فيما يتعلق بالتعامل مع مقدمي الخدمات تحت مظلة الاقتصاد الموازي/الظل؟
من جانبها علقت د. نورة الصويان، بأننا- بالتأكيد- نحتاج لحملات توعوية، وتكون مستمرة وليس فقط لمرة واحدة، بشرط أن يكون هناك متابعة وتقييم لهذه الحملات، ونحتاج متابعة أيضًا لتفعيل التنظيمات وتأكيد تطبيقها.
مجالات اقتصاد الظل وعلاقتها بالفقراء وببعض المهن:
فيما يتعلق بالقطاع الثاني الذي يمثله العمل العشوائي أو ما يمكن وصفه باستراتيجيات البقاء للفقراء، حيث يمثل هذا النمط حوالي 75% من الاقتصاد غير الرسمي، تساءلت أ.علياء البازعي، عمَّن يتجه للعمل في القطاع غير الرسمي، هل هم الفقراء فقط؟
علَّقت على ذلك د. مها العيدان بأن اقتصاد الظل ليس مرتبطًا فقط بالفقراء، ولكنهم يمثلون النسبة الكبرى؛ لأن دخلهم يعتمد عليه، بالإضافة إلى عدم وجود بدائل أخرى. في حين أن الجانب الآخر من العاملين قد يكون عملهم لتحسين الوضع، أو لأسباب أخرى غير اقتصادية، كما أن عملهم يمكن تطويره وتحويله إلى عمل رسمي.
من جانبها ذكرت د. وفاء الرشيد أن اقتصاد الظل له علاقة جزئية بالفقر وليست كلية؛ لأننا نجد الكثير من المتعلمات ومتوسطات الدخل داخل هذا النطاق، وترجع الأسباب الرئيسة لذلك إلى تعقيد الأنظمة والقوانين، والتهرُّب من الرسوم والضرائب. غسيل الأموال هو جزء كبير من اقتصاد الظل، والذي هو بعيد كل البعد عن الفقراء.
أضاف د. خالد الرديعان أن اقتصاد الظل له علاقة بثقافة وقيم الأفراد. البعض لا يطيقون التحكم فيهم من قِبل الأجهزة الحكومية؛ كالبلديات، ووزارة التجارة، ومن ثَمَّ يلجؤون إلى ما يعتقدون أنه أنشطة تجارية خفيفة لا تكبلهم بقيود البيروقراطية. أيضًا سهولة تغيير النشاط الاقتصادي حسب متطلبات السوق سبب آخر يدفع البعض إلى أنشطة ظل. وأخيرًا، فإن بعض الأفراد لا يتجذر لديهم الحس الرأسمالي وفكرة الإنتاج الدائم، ويكتفون بعوائد غير منتظمة يحصلون عليها حسب الظروف والمتاح. هناك مهن كثيرة تندرج تحت ذلك؛ كالبيع المتجول، والمهن الموسمية، والدلالة كما يفعل البعض في المكاتب العقارية والخدمية (السعي مثلًا).
ونحن الشعب الوحيد الذي يستخدم كلمة “متسبب”، وهي ممارسة أي شيء وكل شيء دون أن يكون بالضرورة عملًا ثابتًا. “المتسببون” كُثُر، نجدهم عندما نريد البحث عن أرض أو عقار لشرائه، فهم يقومون بالبحث وبالسمسرة، وأخذ عائد من عملية البيع غير مُسجَّل مما يعدُّ اقتصاد ظل.
كما أن بعض أصحاب المهن الأكاديمية ربما يحصلون على دخول income يصعب تقدير حجمها من خارج الوظائف الرسمية التي يتقلدونها، وبالتالي قد يندرج ذلك تحت الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية، وتأتي تلك الدخول بصورة استشارات علمية أو إعداد بحوث ودراسات، أو من أعمال يقدمونها لجهات أخرى دون عقود قانونية، فكثيرًا ما يُطلب من أستاذ جامعي- مثلًا- إعداد بحث أو دراسة دون عقد واضح، ومن ثَمَّ يصعب تقدير دخل هذا الأستاذ.
أضاف أ. سمير خميس أيضًا؛ أن كثيرًا من المعلمين لاسيما معلمي اللغات تجدهم يعملون في أعمال ثانوية؛ كالصحافة، ومراكز البحوث ونحو ذلك، يساعدهم في ذلك أن توقيت عملهم الرسمي يبدأ مبكرًا وينتهي قبل الوظائف الأخرى، مثلما يحصل في الرياض مثلًا.
في إطار هذا الحديث نفسه، علَّق أ. وليد الحارثي بأن النظام عندنا يجيز العمل خارج أوقات الدوام الرسمية بعد موافقة المرجع على ذلك، وفي بعض الوظائف دون قيود.
أيضًا، فإن وزارة العمل والتنمية الاجتماعية قبل عامين أطلقت منصة بحر ضمن مبادرات منتدى أسبار الدولي، وهي منصة للعمل عن بعد، وتتضمن أكثر من 70 مهنة، وهي مستندة إلى نظام قانوني يتيح للمرأة أو حتى الرجل العمل عن بعد، وإصدار شهادة عمل حر، ويستطيع بناء عليها فتح حساب بنكي لنشاطه التجاري الحرِّ.
ارتباط المهن في اقتصاد الظل بالأشخاص:
أشارت د. مها العيدان إلى أن هناك كثيرًا من المهن في المجتمع السعودي التي تندرج نحو مُسمَّى اقتصاد الظل مرتبطة بالشخص الذي يقوم بها، أي تُصبح مُسمَّى وظيفيًّا، مثل (صبابة، أو طقاقة).
وذكرت أ. علياء البازعي أن هناك جمعية “حرفة التعاونية” الموجودة في القصيم، التي يقوم عملها على مأسسة المهن التي تندرج تحت اقتصاد الظل، مثل “الصبابات”، وأيضًا “الطباخات”، وصاحبات بعض الحرف اليدوية الأخرى، تجربتهن رائدة بالفعل، وقدمت الكثير لبنات المنطقة.
وأضاف د. زياد الدريس، بسبب ريادتها؛ فقد تم تسجيلها في منظمة اليونسكو منذ ثلاثة أعوام كأول مؤسسة NGO سعودية معتمدة في اليونسكو.
احتواء اقتصاد الظل واستثماره:
ذهبت د. هند الخليفة إلى أنه بالرغم من أن عنوان القضية ” المرأة واقتصاد الظل” إلا أن اقتصاد الظل ينمو متشعب الجذور، ويمتد بين فئات مختلفة، متخللًا اقتصاد المجتمع ومؤثرًا فيه. ومن ثَمَّ فهو نتاج لظروف اقتصادية واجتماعية وإدارية تعكس خللًا في توزيع الموارد المالية والبشرية وإدارتها.
لذا فان محاولة إيجاد حلول لهذا الخلل، لابد أن يبدأ من الجذور، ودراسة الواقع والتعامل معه بسياسة النفس الطويل، الذي يرمي إلى استدامة التنمية. فلا إزالة البسطات ستنفع، أو ملاحقة المتسببين وغيرهم ستجدي نفعًا. وبدلًا من التركيز على الإقصاء وتعميق التهميش لمَنْ يعتمد على اقتصاد الظل في كسب عيشه، بما في ذلك المرأة؛ فإن الاحتواء والتمكين والتدريب ومأسسة العمل، واستثمار المنتج المحلي وحمايته من حمى التنافس مع المنتج الأجنبي- يمكن أن يحقق بعض التقدم لتوظيف هذا الاقتصاد ليكون موردًا أساسيًّا للفرد والمجتمع، مع ملاحظة ظهور أشكال جديدة لاقتصاد الظل، تعتمد غالبيتها على السوق الإلكتروني، وتقوم المرأة بدور الفارس فيها، لتمارس الأدوار التقليدية بثوب جديد؛ من طبخ، وتزيين، وأزياء..وغيرها. ولكي تدوم أسباب الرزق، وتدخل ضمن المنظومة الاقتصادية، لابد من الاحتواء والتقنين والتدريب والإبداع.
ملاحظات على اقتصاد الظل وعمل المرأة من خلاله:
أشار د. رياض نجم إلى أنه في ظل الصعوبات التي كانت تواجه المرأة السعودية في العمل ضمن الاقتصاد الرسمي، وبسبب القيود الاجتماعية على عمل المرأة في بعض المهن، كان من الطبيعي أن تتجه المرأة السعودية أكثر من الرجل إلى العمل ضمن الاقتصاد الموازي (الظل). بدأت هذه القيود (التي فرض بعضها الأنظمة، والبعض الآخر المجتمع) في الانخفاض لكن ببطء.
ولابد أن نشير أن وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت بشكل كبير على انتشار بيع السلع والخدمات بشكل غير رسمي ضمن اقتصاد الظل، فكم من السيدات لديها خدمة إعداد المأكولات والحلويات من المنزل، ويبعن بعشرات الآلاف في الشهر! ولا نتفاءل كثيرًا بأن هذا النوع من العمل يقلل من البطالة بين السعوديين والسعوديات؛ لأنَّ توسُّع هذه النشاطات أدَّى إلى استعمال العمالة غير السعودية في توفير هذه الخدمات. وإذا كان هذا النشاط في مجال الأطعمة والمشروبات فليس هناك رقيب عليه من الناحية الصحية، وغيرها من النواحي الأخرى.
علقت على ذلك أيضًا د. فوزية البكر، حيث ذكرت أن حديثنا عن اقتصاد الظل هنا؛ بسبب أهميته، ولكونه يُشكِّل حجمًا لا بأس به من اقتصاد البلد، لكني لست متأكدة أن كلَّ الأنشطة التي تُمارس فيه على الدرجة ذاتها من الأهمية والتأثير حتى تُحسب ضمن اقتصاد الظل، فدخل البساطة غير دخل مَنْ يُوظِّف عمالة باسمه في السوق يسلمون له دخلًا شهريًّا؛ وحيث إن الحديث تحديدًا يدور حول اقتصاد الظل لدى المرأة، فسأضع النقاط التالية للتفكُّر: هناك عشرات الآلاف من السعوديات، ومع اتقانهن لوسائل التواصل الاجتماعي قمن بتوظيفها للعمل عن بعد، سواء الأكل، عبايات، تنظيم حفلات، أزياء، وأي شي يخطر على البال، وهنا لديَّ عدد من الملاحظات؛ فمهما بلغ الدخل أو قلَّ فلا تستطيع الحكومة الحصول على أية فوائد ضريبية، في حين هي تحصِّل على ذلك ممَّن لديهم محلات. لا توجد وسائل رقابية لتنظيمه، أو التأكد من (نظافة الأكل) مثلًا أو حفظه، أو نوعيات المواد المستخدمة التي قد تسبب أمراضًا أو سرطانات. لم نفكر في حقوق هؤلاء الشغالات اللاتي استُقدمن للعمل المنزلي، واضطررن الآن للانخراط في مساعدة سيدة المنزل لأداء عملها التجاري، فهل يعدُّ عليهن أيضًا أي دخل إضافي؟
أسباب اتجاه البعض إلى اقتصاد الظل:
ترى د. عبير برهمين أن اقتصاد الظل ليس مرتبطًا بالفقراء حصرًا ولكنهم الأكثر اعتمادًا عليه، إلا أن هناك مَن يُثرى ثراءً لا بأس به من اقتصاد الظل؛ والسبب يعود إلى خلل في بعض الأنظمة الخاصة بسوق العمل، والتي- على سبيل المثال لا الحصر- مثلًا، تمنع الجمع بين وظيفتين رسميتين؛ مما يحدو بعدد كبير من المواطنين إلى التحايل واللجوء إلى ممارسات قد تضرُّ باقتصاد البلد، مثل عمليات التستر التجاري، والاتجار المشروع وغير المشروع؛ لتحسين دخل الأسرة في ظل الارتفاع المتزايد في تكلفة المعيشة اليومية. وقد يقع البعض ضحية التجارة الإلكترونية، والمضاربات المالية أونلاين، والمضاربة بعملات البيتكوين، وغيرها. ورغم أن الكثير يقع ضحية إلا أنَّ هناك كمًّا آخر أفاد واستفاد من مثل هذه الممارسات التي هي حتى اللحظة لا يوجد تقدير فعلي لمكاسبها وخسائرها.
يبقى السؤال: هل اقتصاد الظل يوصم متعاطيه بالكسب غير المشروع؛ بسبب مخالفته للأنظمة والقوانين؟ وكيف يمكن احتواء وتقنين اقتصاد الظل؟ هل يكون الحل في جعله خطًّا موازيًا للاقتصاد الوطني ينافسه في السوق لمصلحة المواطن، بحيث يفرض المنتج الجيد نفسه، ويكون نواةً لمشاريع خاصة يمكن أن تثمر عن تكوين مؤسسات وشركات اقتصادية كبرى تساهم في الدفع بعجلة التنمية والاقتصاد قدمًا؟
الجانب الإيجابي في اقتصاد الظل:
حول ملاحظة أ. علياء البازعي في أن معظم المداخلات ركزت على الجانب السلبي من اقتصاد الظل؛ أشارت د. مها العيدان إلى أنه لا يمكن إغفال بعض إيجابيات اقتصاد الظل، حيث كان الطريق الوحيد للمرأة الفقيرة غير المتعلمة والأرملة والمطلقة في الإنفاق على احتياجات المنزل والأبناء. وهناك نماذج متعددة من هؤلاء النسوة اللاتي نزحن من البادية والقرى لمزاولة بعض الأنشطة التي يحتاجها سكان المدينة، خاصة أن التأمينات اﻻجتماعية تحتاج إلى إجراءات طويلة ومعقدة للحصول على راتب شهري، بالإضافة إلى عدم كفايته.
أضاف د. رياض نجم أن إعالة الأسر المحتاجة هي إحدى الإيجابيات بالتأكيد، وثمة إيجابية أخرى هي تقليل التكلفة على المستهلك. وربما تغض بعض الدول الطرف عن اقتصاد الظل لهذا السبب، لكن هذه ليست دعوة لتشجيع هذا الاقتصاد.
بينما يرى أ. سمير خميس أن التركيز على الجانب السلبي من اقتصاد الظل نابعٌ من حالة الشك التي تخامرنا من كوننا بلغنا شأوًا بعيدًا في التطوُّر والتقدم في المجالين الإنساني والتقني، وهذا ما يغالط الواقع. أستطيعُ أن أشبَّه اقتصاد الظل بمساكن العشوائيات، فالإنسان بطبعه سريع الحركة، متعدد الأفكار، بشكل لا تستطيع معه بيروقراطيات العالم العربي مسايرته؛ فعندما رأى الحكومة عاجزة عن توفير مسكن له اخترع مسكنه كيفما كان؛ وعندما رأى عجزها عن توفير مصدر له استطاع أن يتعايش مع ذلك واخترع البسطات، وعربات الفول، ودبَّر نفسه في وظائف الترفيه. هذه ليست سلبية بقدر ما هي ضرورة إنسانية للعيش، واجب الحكومات أن تسايرها لا أن تعيقها بإجراءاتها الكثيرة.
من جانبه أكد د. حميد الشايجي أنه مع إيجابية هذا القطاع إذا ما تمَّ تنظيمه. ولكن أودُّ أن أشير إلى ضرورة أن لا يكون التنظيم وإجراءاته معيقًا لهذا النمط من العمل؛ كتعقيد الإجراءات أو الرسوم التي قد تُفرض على استصدار الرخص، والتي قد تكون باهظة بالنسبة لأُناس بسطاء، فأحيانًا الإجراءات والرسوم تعيق اقتصاد الظل بل تقتله؛ لذا يجب التنبه لذلك عند وضع التنظيم والإجراءات اللازمة.
لذلك تساءلت أ. علياء البازعي: هل تنظيم كهذا يُفترض أن يأتي من وزارة التجارة؟ أم أن يكون هناك جهة مختصة لدعم هذا النوع من الأعمال؟ أجاب د. حميد الشايجي بأنه يُفترض أن تُخصَّص إدارة أو قسم يتصف بالمرونة والبساطة في وزارة التجارة، ولديه تنسيق مع البلدية يتولى هذه المهمة؛ لتسهيل عملية التسجيل والمتابعة.
وأضاف أنه عادة في دول العالم العربي ترهق الحكومات نفسها بأنها الضامنة لكل شيء بالشكل الذي يدخلها في مآزق تنموية هي في غنى عنها، رغبة منها في أهداف نبيلة؛ كالتنظيم، والمراقبة. إلا أن هذه الرغبة ينشأ عنها واقع قد يكون أشد مرارة، فبعض ما يُقترح في هذه القضية قد يقضي على اقتصاد الظل الذي يمثل دخلًا لا يُستهان به للكثير من أفراد هذه المجتمعات.
وفي اعتقاد د. مها العيدان، فإنه من الممكن تشكيل أو تنظيم جمعيات على شكل النقابات العمالية، حيث تضم كلُّ جمعية المهن المختلفة، وتقوم بعملية تنظيم كل مهنة، ووضع القواعد التي تنظمها بإشراف وزارة العمل.
المداخل النظرية التي تفسر ظهور وانتشار القطاع غير الرسمي:
ذهبت د. مها العيدان إلى تعدُّد المداخل النظرية التي تفسِّر ظهور وانتشار القطاع غير الرسمي، مثل:
– المدرسة الكلاسيكية: ترجعه إلى ارتفاع نسبة التحضُّر والهجرة من الريف للمدن؛ مما أدَّى إلى ظهور الطبقات الفقيرة.
– المدرسة الثنائية: ترجعه إلى الفقر كعامل أساسي، مع عدم قدرة الوظائف في القطاع الرسمي على امتصاص طالبي العمل.
– المدخل الراديكالي: يرجعه إلى خلل أساليب الإنتاج، والعلاقات بين أنظمة الإنتاج والتوزيع.
– المدرسة القانونية: ترجع ظهوره إلى بعده عن التكلفة الاقتصادية، والتعقيدات البيروقراطية المرتبطة بتصاريح العمل.
– المدرسة الليبرالية: تطلق عليه الاقتصاد الأسود؛ لأنَّ مَنْ يمارسه يتهرب من التبعات الاقتصادية؛ كالإيجار، والضرائب… إلخ.
– المدرسة الحديثة: تقوم على المواءمة بين التفسيرات المختلفة.
– المدرسة اﻻجتماعية: من خلال ما يمكن أن يؤديه من وظائف في تشكيل البناء الاجتماعي، ترى أنه مكمل للقطاع الرسمي؛ لأنه يحقق التوازن في سوق العمل.
– المدخل النسوي: يرى أن ما يحيط من عدم المساواة بين المرأة والرجل، سواء في التعليم أو التدريب أو الأجور أو فرص العمل- كان السبب في ارتباط العمل غير الرسمي بالمرأة أكثر من الرجل.
في هذا السياق، ذكرت د. هند الخليفة أنه بالرغم من تعدُّد التفسيرات التي قدَّمتها الاتجاهات النظرية المختلفة، إلا أنها في نظري تكمل بعضها البعض، فاقتصاد الظل ينتج عن مجموعة من العوامل، ولا يرجع إلى عامل واحد. ولذلك فإن التفكير في الحلول لابد أن ينطلق من الواقع، وتبني المنظور الشمولي في معالجة الوضع، وتوجيه الجهود والمشاريع إلى القنوات السليمة التي تحفظ حق الأفراد في كسب الرزق.
من جانبه يرى د. خالد الرديعان أن المدخل الراديكالي يجنح نحو نظرية الصراع (الماركسية)، فهو يلقي باللائمة على النظام الرأسمالي وتبعاته. وذهبت د. ريم الفريان إلى أن هذا بالتأكيد هو أحد الأسباب، ولكن هناك أسباب أخرى، مثل: الارتباط بمسؤوليات للأسرة، ورغبتها في العمل المرن الذي تحدده هي.
تنظيم اقتصاد الظل وإخراجه إلى النور:
اقترح د. حميد المزروع تسمية اقتصاد الظل بالاقتصاد التكافلي، وبعد ذلك يتم تنظيمه وفقًا لقطاعاته الأساسية والفرعية، من خلال معايير ترتبط بالأمن والسلامة، على أن تتدخل وزارة العمل مع التجارة في صياغة النظام ومواده، ويُدرج ضمن الاقتصادي المحلي.
حيث إن تنظيم وتشريع بعض الأنشطة التي تُمارس تحت مظلة اقتصاد الظل يستهدف تقليل مخاطر وسلبيات هذا النوع من الاقتصاد، ولا يستهدف إقصاءه أو محاربته.
وذكرت أ. علياء البازعي أنه- حسب ورقة د. مها- لم تتمكن كثير من الدول من تنظيم هذا النوع من الاقتصاد، ومنها أمريكا. وأعتقدُ أن الكثير ممَّن يمارسون العمل تحت هذه المظلة لا يرغبون في العمل بشكل رسمي؛ وذلك لكي لا يكون عليهم التزامات تجاه الدولة، مثل الضرائب وغيرها.
ويرى د. رياض نجم أنه إذا تمَّ تنظيم الأعمال في اقتصاد الظل بأي وسيلة، فلم يعد اقتصاد ظل، وأعتقدُ أن الهدف تقليل اقتصاد الظل إلى أقل قدر ممكن حتى يمكن قياسه وتنظيمه، وإذا كان لاقتصاد الظل إيجابيات فسلبياته تطغى على إيجابياته.
بينما يرى د. خالد الرديعان أن بقاء اقتصاد الظل ضروريٌّ لكي يوفِّر فرص عمل لبعض الفئات الاجتماعية. لكن يُفترض ألا يكون طاغيًا على الاقتصاد الرسمي. اتفقت معه في ذلك أ. علياء البازعي، وأضافت أنه من الضروري أيضًا تنظيمه لأسباب عديدة، ومنها حفظ حقوق العاملات في هذا القطاع. وأتساءل: لو صدرت تنظيمات لاقتصاد الظل، هل يستمر تحت نفس المسمى؟ وفي ذلك أجاب م. خالد العثمان بأن الغرض من التنظيم إخراج الاقتصاد من الظل إلى النور. وهو ما يراه د. خالد الرديعان، فليس من المصلحة العامة إبقاء الاقتصاد في الظل. الدعم الاجتماعي يمكن تحقيقه في النور أيضًا. وأضاف د. خالد أن وجود اقتصاد الظل وارتباطه أكثر بالمرأة له علاقة بمسألة الجندر؛ فما هو متاح للمرأة من فرص أقل بكثير مما هو متاح للرجل في مجتمعنا؛ مما يدفع المرأة للاقتصاد غير الرسمي.
من جانبه يرى أ. سمير خميس أن الحل الأمثل تنقية اقتصاد الظل من شوائبه، من تستُّر ونحوه، مثلما نرجو في اقتصاد النور. وأعتقد أن محاولة إدخال أشعة الشمس على اقتصاد الظل ستحيله إلى رماد. بينما م. خالد العثمان أشار إلى أن تنقيته هي إخراجه إلى النور، فمادام بقي في الظل فهو يمثل حالة من المخالفة متفاوتة الضرر بحسب طبيعتها، وبالطبع لن ينجح أحد في منعه تمامًا، لكن السعي لتحجيمه ضرورة، وأحد أهم وسائل تحجيم اقتصاد الظل هي تيسير ممارسة اقتصاد النور. لا يمكن بشكل عام القضاء على أي شكل من أشكال المخالفات. اقتصاد الظل شكل غير نظامي، بغض النظر عن النوايا التي يحملها ممارسوه، أو الظروف التي دفعتهم لممارسته.
المنتمون إلى اقتصاد الظل وآلية التعامل معهم:
في اعتقاد أ. فايزة الحربي، فإنه من الأهمية عند مناقشة اقتصاد الظل ضرورة تحديد المنتمين الذين يعملون في الظل، وآلية تعامل الدولة معهم:
١. الفقراء من المواطنين، وهؤلاء يستحقون عملهم تحت مظلة خيرية تدعمهم ماديًّا ونظاميًّا بلا مقابل.
٢. المحتاجون من المواطنين ممَّن يمرون بظروف؛ كالمديونين أو الطلاب، وغيرهم ممن يُرجى تحسُّن مستواهم مستقبلًا: يتم دعمهم، وتنظيم عملهم تحت مؤسسات خيرية شبه ربحية.
٣. صغار التجار والمبتدئين: يتم دعمهم معنويًّا، وتنظيم عملهم تحت إشراف وزارة التجارة، وبالأخص مَنْ يعملون في مجالات ذات العلاقة بصحة المواطن، مثل صناعة الأطعمة؛ لمتابعتهم والرقابة عليهم.
٤. غير المواطنين: يُمنع عملهم إلا في الأعمال التي لا يعمل فيها المواطنون.
٥. التجارة الإلكترونية المستجدة كالإعلانات عند المشاهير: يتم إدراجها ضمن نظام الاقتصاد العام ببنود مستحدثة تليق بتطورها المستمر.
٦. غسيل الأموال: يُشدَّد عليها، ويتم ملاحقتها من جهات الاختصاص، كهيئة مكافحة الفساد؛ لمكافحتها، والقضاء عليها.
الكثير من الظل في اقتصاد الظل:
حول وجود الكثير من الظل في تجارة الظل، أورد م. خالد العثمان تغريدة “فيصل العبد الكريم”* مضمونها: (تنتشر حسابات إنستغرام تبيع منتجات متنوعة، لا أحد يعلم مَنْ خلفها؟ وأين وكيف يعملون؟ بالأمس مع وزارة التجارة ومعاونة الحملات الأمنية بشرطة الرياض، تمَّ ضبط وكر لعصابة تدير عدة حسابات يتابعها عشرات الآلاف، وتبيع لكل المدن.. ودائمًا وأبدًا لا تشتري إلا من حساب موثوق ومسجل في معروف(.
علقت على ذلك أ. علياء البازعي بأن هذا يحدث بالفعل، فمازلنا نشاهد إعلانات لأدوية بشرة وكريمات لا تحمل علامة تجارية معروفة، وتم تركيبها من قبل إما هاويات أو حتى دارسات، وهي في كل الأحوال ليست مصرحة من هيئة الغذاء والدواء.
مسار تمويل لرواد الأعمال والمتسببين:
أوردت أ. علياء البازعي خبرًا نُشر يوم 28/5/2018 * يتحدث عن استحداث صندوق التنمية العقاري لمسار تمويل رواد الأعمال والمتسببين:
(أكدت مصادر مطلعة أن صندوق التنمية العقارية استحدث مسارًا جديدًا لتمويل المتسببين، ورواد الأعمال الخاصة، والمستثنين مثل صاحبات المشاغل، وأصحاب السيارات “فود ترك”.
وأوضحت المصادر أن التمويل لهذه الفئات سيتم بضمان من الصندوق ووزارة الإسكان، ويمكِّن هذا المسار من الحصول على تمويل عقاري فوري، من خلال فروع المؤسسات التمويلية والبنوك التي يوفرها الصندوق في المعارض المتنقلة.
وبينت أن معارض الصندوق التي أقامها في مناطق المملكة المختلفة تقدِّم تمويلات للمستفيدين من الصندوق والوزارة بالقرض الحسن، في حال كان راتب الشخص يقلُّ عن 14 ألف ريال.
كما أشارت إلى أن المعارض الحالية تقدِّم الخدمة للجميع، سواء أكانوا موظفين بالقطاع الحكومي أم الخاص، وقد خصصت مسارًا لغير المقبولين من البنوك، بحيث يتم قبولهم بضمان الوزارة والصندوق).
لماذا المرأة في اقتصاد الظل؟
أورد د. خالد الرديعان مقالًا للدكتورة وفاء الرشيد نُشر في الموقع الإلكتروني لصحيفة عكاظ الأحد، 11 / رمضان / 1439 هـ، 27 مايو 2018 * بعنوان: (لماذا المرأة في اقتصاد الظل؟)، جاء في المقال (تُشكِّل المرأة ما يزيد بقليل على نصف سكان المملكة العربية السعودية، لكن مساهمتها في المستويات المقيسة للنشاط الاقتصادي والنمو والرفاهية لا تزال أقل بكثير من المستوى الممكن، وهو ما ينطوي على عواقب اقتصادية كلية وخيمة. ورغم ما تحقق من تقدُّم ملموس في السنوات الأخيرة، إلا أن التقدُّم في مسيرة تمكين المرأة قد تأخر بالفعل. فلا تزال مشاركة الإناث في سوق العمل أدنى من مشاركة الذكور، ومعظم الأعمال غير مدفوعة الأجر تقوم بها المرأة، كما يُلاحَظ أن تمثيل المرأة في اقتصاد الظل أو القطاع غير الرسمي، وفي شرائح السكان الفقيرة يتجاوز تمثيل الرجل بكثير، في الحالات التي تعمل فيها المرأة مقابل أجر. كذلك تواجه المرأة فروقًا كبيرة في الأجور بينها وبين نظرائها الذكور، خاصة في القطاع الخاص! ولا يزال تمثيل الإناث منخفضًا في المناصب العليا، وفي مجال ريادة الأعمال.
هل التدرج في تمكين المرأة إيجابي؟ وعلى حساب مَنْ سيكون هذا التدرُّج؟ فإن كان التأخر بسبب سياسات عمل سابقة لم تدرك مدى خطورة هذه التشوهات والتمييز على الاقتصاد المحلي واللحمة الاجتماعية للوطن، فمَنْ تظنون سيدفع الثمن؟ هل سمعتم باقتصاد الظل؟ وهل تعرفون خطورته؟
افتحوا إنستجرامكم ووسائل التواصل الاجتماعي، وراقبوا الكمية المهولة من الأعمال غير المرخصة، والتي تُدار من نساء! البيوت ومن يطبخن فيها، البسطات، والمسوقات والصبابات، والطقاقات، والمغنيات، وكل من يبعن ماركات مقلدة من عطور ومكياج وشنط.. وغيرهن كثير؛ كلهن جزء من اقتصاد الظل النظيف، وهناك الآخر البعيد الفاسد.
القضاء على اقتصاد الظل مسألة شبه مستحيلة وسط اقتصادات نامية، عانت المرأة فيها من التهميش.
فإذا نظرنا اليوم إلى واقع المرأة في الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي عانت من تحديات غير عادلة، سنجد أن البطء في تعديل السياسات ومكافحة الفساد كان سببًا رئيسًا في نمو اقتصاد الظل؛ لأنه يصبح بديلًا لسياسات مالية وإدارية فاسدة تعرقل المواطن عن الوصول للقمة عيشه وتحقيق كيانه. إن اقتصاد الظل يعتبر مظهرًا من مظاهر تخلف المجتمعات؛ لأن من أهم سلبياته: هدر الموارد المادية والبشرية، وسوء استغلالها؛ مما يؤدي إلى تفاقم معدلات البطالة، ولجوء الأفراد إلى ممارسة أنشطة اقتصادية خفية غير نظيفة؛ بسبب غياب الأنظمة الاقتصادية العادلة والسليمة التي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة وحاجيات المجتمع الأساسية من ذكور وإناث، ليس فقط من باب العدل المجتمعي؛ ولكن لأن دفع المرأة لاقتصادات الظل قد يكون له فوائد وقتية في المجتمعات المحافظة، إلا أن أضراره قد تكون كارثية على المدى الطويل.. فكلما ازداد معدل الاقتصاد الموازي على حساب الاقتصاد الفعلي أعطى معلومات وإحصائيات مضللة وغير دقيقة عن الإمكانيات الاقتصادية الحقيقية للمجتمع، وأدى إلى سوء تخصيص الموارد الاقتصادية، وسوء توزيع الناتج المحلي، فالاقتصاد الموازي يتسبب بدرجة كبيرة في إفشال سياسات الاستقرار الاقتصادي نتيجة لدوره التشويهي للمؤشرات اللازمة لوضع السياسات.
تواجد المرأة السعودية المكافحة اليوم في الاقتصاد الموازي يرجع إلى الأنظمة الضريبية المباشرة وغير المباشرة، وغير العادلة في خياراتها، ولارتفاع نسبة مساهمة النساء في الضمان والتأمينات الاجتماعية، وتدني الأجور المادية والمعنوية لهن، والتي لا تتناسب مع مستوى المعيشة ومسؤولياتهن الأسرية.. فتعقيد الإجراءات الإدارية والتنظيمية لعمل المرأة، وارتفاع الرسوم المفاجئة في أسواق العمل، وتعقيد الإجراءات القضائية والأمنية في الهيئات الحكومية- جعل عمل المرأة في الظل ملاذًا للعيش، ومحاولة لتحقيق أحلامها وأحلام أطفالها التي لما تأت.. فإلى متى تبقى المرأة الفقيرة المتعلمة والأم الحاضنة في الظل؛ فقط لأنها أنثى؟
سلبيات ومشكلات اقتصاد الظل، وإجراءات الدولة للقضاء عليه:
أوضحت د. نوف الغامدي أن خارطة طريق الاقتصاد السعودي تتغير مع توجهات رؤية المملكة 2030، ومحاربة التستر والاقتصاد الأسود أو اقتصاد الظل، والذي يُؤثِّر بصورة سلبية، وينهك الاقتصاد السعودي فيما يخصُّ ميزان المدفوعات؛ مما يجعل التأثير مضاعفًا مع البطالة وعدم التوظيف.
وحقيقة، تمامًا لست مع ربط اقتصاد الظل بالمرأة؛ فاقتصاد الظل أو الاقتصاد الأسود له مسببات كثيرة، وتخصيص النقاش حوله حول المرأة فقدان للبوصلة الاقتصادية، ولا يتماشى مع استراتيجيات التوازن بين الجنسين التي نسعى لها.
كما تسعى الإجراءات الحالية في المملكة نحو القضاء على هذا التوجه، من خلال مجموعة الإجراءات والأنظمة، وإعادة هيكلة الملكية في مختلف القطاعات المحلية. والهدف هو أن تكون المنشآت المتوسطة والصغيرة فعليًّا مملوكة للمواطن، وتُدار وتُشغَّل من قِبَله، وكذلك من المهم أن يتطور الاقتصاد السعودي، ويعتمد على قدراته الذاتية، بعيدًا عن الدعم والاستناد على الدولة في الحصول على ميزة تنافسية غير حقيقية، وهي غير مقبولة من طرف الاقتصاد العالمي. وثمة أسباب لانتشار هذا القطاع، منها: ارتفاع مستوى الضرائب، بعض الأنظمة الإدارية والقيود الحكومية، انخفاض مستوى الدخل، كما تؤدي المشروعات الصغيرة دورًا لا يُستهان به في نمو الاقتصاد الخفي؛ وذلك لأنها تميل إلى إجراء معاملاتها باستخدام النقود السائلة، ومن المعلوم أن مجالات الأعمال التي تقوم على استخدام النقود السائلة في إجراء المعاملات، تُسهِّل من الأنشطة الاقتصادية الخفيَّة.
الاقتصاد الخفي المسموح به هو عبارة عن إنتاج سلع وخدمات مشروعة، لا تخالف قوانين وأنظمة الدولة، ولكن مشكلته الأساسية أنها أنشطة غير معلنة، وغير مرخصة نظامًا حسب أنظمة الدولة، وهي أنشطة يتولد عنها دخول غير واضحة للسلطات الرسمية، ومن ثَمَّ لا تُسجَّل ضمن حسابات الدخل القومي. ومن أمثلتها: بعض أنشطة قطاع الصناعات الصغيرة، وقطاع التجارة الداخلية، إضافة إلى القطاع الحرفي والمهني.
الاقتصاد الخفي غير المسموح به هو عبارة عن ممارسة أنشطة أو إنتاج سلع أو خدمات مخالفة لأنظمة وقوانين الدولة؛ فهي غير مشروعة أساسًا. ويمكن تقسيم هذا النوع إلى ثلاثة أقسام: الأنشطة المنتجة للسلع والخدمات غير المشروعة، وكذلك الأنشطة المخالفة لأنظمة وقوانين الدولة، فضلًا عن الأنشطة المخالفة لقوانين العمل والهجرة.
وتتعدد أشكال الاقتصاد الخفي المشروع؛ كـ قيمة المشروعات الصغيرة والمتوسطة والمصانع المنزلية غير المسجلة، وقيمة تجارة الباعة الجائلين بالشارع (تجارة البسطات)، وقيمة العقارات والأراضي غير المسجلة في الشهر العقاري، وقيمة سوق المستعمل (السيارات والأجهزة)، وقيمة تعاملات مراكز الدروس الخصوصية، وقيمة سوق السمسرة العقارية، وقيمة التجارة الإلكترونية غير الرسمية.
أشكال الاقتصاد الخفي غير المشروع: التستر، والرشوة، والعمولات، والفساد، وتجارة السلاح، وتجارة المخدرات، وحجم غسيل الأموال، وحجم سوق تحويلات الوافدين.
البنك الدولي قدَّر نسبة 20% من الناتج المحلي الإجمالي اعتمادًا على تقديرات التستر. ويعتبر التستر هو الشكل المهم للاقتصاد الخفي في المملكة، وتصل مساهمته في الاقتصاد الخفي إلى نحو 70%. أي تصل تعاملات التستر إلى نحو 396 مليار ريال. ولكن المدقق في الأشكال عاليه، سيلحظ أن هناك أشكالًا للاقتصاد الخفي لم تنل الاهتمام الكافي بالمملكة، يأتي على رأسها العقارات والأراضي غير المسجلة في دوائر السجلات العقارية، أو العقارات المسجلة ولكن تُدرج بقيم متدنية، أو المسجلة ولكن تُباع وتُشترى خارج نطاق التسجيل.
أما الأسواق الخفية خارج نطاق القطاع الرسمي فهي تمثل العديد من الأسواق الخدمية غير المنظمة، مثل مراكز الدروس الخصوصية، وهذه المراكز لها شكلان: شكل مسجل ومرخص في الدفاتر، ولكن لا توجد تقديرات سليمة لمعدلات إيراداته، وتُعامل أحيانًا كمراكز تدريب رغم أن مجمل إيراداتها تكون عالية للغاية. أما الشكل الثاني فهو الدروس الخصوصية غير المسجلة في الدفاتر مطلقًا، وهي عبارة عن دروس شخصية، يقدِّمها غالبًا الوافدون بشكل غير منظم، ولكن تقديرات الإيرادات فيها مرتفعة للغاية.
وجود مدرسين مقيمين في المملكة، ليس للعمل في مدارس ولكن للعمل مدرسين خصوصيين، فلو افترضنا كتقدير عشوائي أن الوافد يعمل في سياق الدروس الخصوصية، ويحقق عائدًا بنحو 5000 ريال شهريًّا، أي بإيراد نحو 40 ألف ريال سنويًّا (5000 ريال في 8 أشهر)، فإن متوسط سوق الدروس الخصوصية يصل إلى نحو 2.0 مليار ريال سنويًّا. هذا السوق لو تمَّ تطبيق الزكاة عليه لحصلنا على إيرادات عالية.
ليس كل الاقتصاد الخفي قابلًا للدمج؛ فتجارة المخدرات، وغسيل الأموال، والسلاح، وغيرها من التجارات الممنوعة- لا يمكن قبول دمجها، أو السعي لإشراكها لكي تكون نظامية، ولكن من المهم جدًّا حوكمتها وضبطها، ومنع حدوثها.
ولكن توجد قطاعات خفية، تنتج أنشطة وسلعًا وخدمات غير مجرمة، يمكن السعي لدمجها واستقطابها؛ لكي يتم ترخيصها في الدفاتر النظامية. ومثلها مثل كل التعاملات في أسواق السمسرة غير المنظمة، وأسواق المستعمل، والدروس الخصوصية، والتستر بأشكاله كافة، ينبغي البحث عن أدوات ووسائل لكي تصبح في دائرة القانون، والتراخيص الرسمية، وما يتماشى مع قوانين العمل بالمملكة.
اقتصاد الظل وشبكات التواصل الاجتماعي:
أشار د. مساعد المحيا إلى أن اقتصاد الظل اليوم يعانق شبكات التواصل الاجتماعي وترعاه كثيرًا، مثل: سوق إعلانات تويتر والانستجرام والسناب شات. فالسوق الإعلانية للسناب شات وحده تتحدث عن قرابة 600 مليون ريال سعودي سنويًّا، هذه الإعلانات مؤشر لحجم سوق يتنامى دون مظلات رسمية تعرفه، أو تعرف بعض أطرافه، ويستثمر في مقدرات تتعلق بالغذاء والطعام والاحتياجات المنزلية. كل هذا يتم دون أي ضوابط من قِبل وزارة التجارة أو وزارة الثقافة والإعلام، باستثناء بعض المحاسبات لمعلنين لشركات وهمية.
المشكلة في أن نجد شركات كبيرة تحت مُسمَّى أسر منتجة تبيع في السوق كثيرًا من المنتجات، وهي تُعدُّ من قِبل عمالة، في مصانع كبيرة. فالشكل العام لهذه المنتجات من ضمن اقتصاد الظل، لكن حقيقة العمل هو مصانع تجارية كبيرة مخالفة.
التوصيات:
1. دراسة الظروف والأسباب التي تدفع الأفراد للعمل في أنشطة الاقتصاد الخفي؛ وذلك لأن كثيرًا من العاملين في هذا القطاع ينقصهم التأهيل والتدريب.
2. التوسُّع في التعليم المهني، وفتح المجالات الحديثة من التدريب في المجالات المرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة، والمجالات التي تحتاج إلى أيدٍ عاملة مدربة.
3. من الممكن تشكيل أو تنظيم جمعيات تعاونية، حيث تضمُّ كلُّ جمعية المهن المختلفة، وتقوم بعملية تنظيم كل مهنة، ووضع القواعد التي تنظمها بإشراف من وزارة العمل والتنمية الاجتماعية.
4. بناء منصات الخدمة الموحدة لإصدار التراخيص، خصوصًا في المدن الصغيرة؛ لتسهيل الإجراءات للمرأة والرجل على حد سواء.
5. وضع لائحة للسماح للمرأة بممارسة العمل التجاري، بإعداد المأكولات والمشروبات من المنزل، بشرط خضوعها للاشتراطات الصحية.
6. من الصعب التخلص بشكل كامل من التستُّر، لكن يمكن تنظيم عمل الأجانب في مجالات تجارية معينة لا يقبل عليها السعوديون.
7. وضع حد أدنى للأجور في القطاعين الرسمي وغير الرسمي، مع تنظيم التأمينات اﻻجتماعية والصحية.
8. الطلب من وزارتي التجارة والعمل والتنمية الاجتماعية إعداد لائحة تنفيذية لتسهيل إجراءات الترخيص، وممارسة العمل في مؤسسات الاقتصاد التكافلي.
9. توظيف أنشطة الاقتصاد الخفي المشروعة في الاقتصاد الرسمي، من خلال تسهيل الإجراءات والقيود الإدارية.
10. عند مناقشة هذا النوع من الاقتصاد، من المهم تصنيف الفئات المنتمية له، وتحديد آلية التعامل مع كل فئة، وطبيعة البرامج المناسبة لها، ومن هذه الفئات:
• الفقراء من المواطنين، وهؤلاء يستحقون عملهم تحت مظلة خيرية تدعمهم ماديًّا ونظاميًّا بلا مقابل.
• المحتاجون من المواطنين ممَّن يمرون بظروف؛ كالمديونين أو الطلاب… وغيرهم ممن يُرجى تحسُّن مستواهم مستقبلًا- يتم دعمهم، وتنظيم عملهم تحت مؤسسات خيرية شبه ربحية.
• التجارة الإلكترونية المستجدة- كالإعلانات عند المشاهير- يتم إدراجها ضمن نظام الاقتصاد العام ببنود مستحدثة تليق بتطورها المستمر.
• صغار التجار والمبتدئين يتم دعمهم معنويًّا، وتنظيم عملهم تحت إشراف وزارة التجارة، وبالأخص مَن يعملون في مجالات ذات الحساسية بصحة المواطن، مثل صناعة الأطعمة؛ لمتابعتهم والرقابة عليهم.
11. وختامًا: الاحتواء، والتمكين، والتدريب، ومأسسة العمل، واستثمار المنتج المحلي وحمايته من حُمى التنافس مع المنتج الأجنبي- يمكن أن تُحقِّق بعض التقدم لتوظيف هذا الاقتصاد ليكون موردًا أساسيًّا للفرد والمجتمع.
الملخص التنفيذي:
القضية: (المرأة السعودية واقتصاد الظل).
كيان خفي يعمل بجد ولا يهدأ، ولا يأبه بما يفعله الكيان الرسمي تقريبًا، بل يقتات على ما يواجهه الكيان الرسمي، وما يمر به من أزمات، لكي ينمو ويصبح مساويًا له، وأحد المؤثرات – إن لم يكن أكبرها على الإطلاق– عليه. هو اقتصاد موازٍ، وكثيرًا ما نسمع أو نقرأ عن اقتصاد الخفاء واقتصاد الظل، وكثيرًا ما سمعنا عن جهود الحكومة والاقتصاديين لدحره ومحاولة الحد منه، فما هو الاقتصاد الخفي الذي يعمل في الخفاء، أو كما يُطلق عليه اقتصاد الظل أو اقتصاد الخفاء؟ وما علاقة المرأة بهذا النوع من الاقتصاد؟ تساؤلات عديدة طرحتها هذه الورقة، حيث تناولت الورقة الرئيسة موضوع المرأة السعودية واقتصاد الظل؛ من حيث كون اقتصاد الظل نشاطًا غير رسمي، وباعتباره أحد الروافد المهمة لاقتصاد أي مجتمع، حيث تشير الدراسات الاقتصادية أنه ينمو بمعدلات أكبر من القطاع الرسمي. وأن هناك مجموعة من العوامل الاقتصادية التي تقف خلف نموه، أهمها عجز الاقتصاد المحلي عن خلق فرص عمل تستوعب القوى العاملة.
كما تناولت الورقة مكونات هذا القطاع، وذهبت إلى أن القطاع الأول منه يشمل المشروعات الصغيرة، أما القطاع الثاني فيمثله العمل العشوائي.
ومن أهم مميزاته، هي: استيعابه لأعداد متزايدة من الأيدي العاملة؛ مما خلق فرصًا كثيرة من الأعمال التي تساعد على استمرارية التشغيل، وقدرته على تخفيض الفروق في توزيع الدخول، وتقليل الفجوة في المستويات الاقتصادية.
بالإضافة إلى آثاره الاقتصادية المتمثلة في عدم توفر إحصائيات دقيقية عن الإمكانيات الاقتصادية الحقيقية، وصعوبة ضبطه من الناحية الاقتصادية، أو من خلال الأنظمة والقوانين، أو حتى المعايير الاجتماعية.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة في أن أكثر أسباب التحاق المرأة للعمل في هذا القطاع ترجع إلى الفقر، ومسؤولية إعالة الأسرة، وارتفاع نسبة المرأة في الضمان والتأمينات الاجتماعية، وتدني الأجور المادية والحوافز المعنوية لهن، وكذلك تعقيد الإجراءات الإدارية والتنظيمية لعمل المرأة.
كما أوضحت التعقيبات أن اقتصاد الظل مظهرٌ من مظاهر تخلف المجتمعات، فهو يؤدي إلى إهدار الموارد البشرية وسوء استغلالها، ولجوء الأفراد إلى ممارسة أنشطة اقتصادية خفية غير نظيفة، وأن البطء في تعديل السياسات الاقتصادية والاجتماعية ومكافحة الفساد فيها هو سبب رئيس في ظهور وانتشار هذا القطاع.
وناقشت المداخلات التي تمت حول موضوع القضية أنه لا يمكن القضاء على اقتصاد الظل، ولكن يمكن التقليل من حجمه، وأن سعودة بعض القطاعات التجارية لم تنجح تمامًا؛ بسبب اقتصاد الظل الذي يؤثر على حركة البيع والشراء.
كما رأى المناقشون أن اقتصاد الظل له علاقة جزئية بالفقر وليس كلية، وأن له علاقة بثقافة وقيم الأفراد، بالإضافة إلى أنه نتاج لظروف اقتصادية وإدارية تعكس خللًا في توزيع الموارد المالية والبشرية وإداراتها.
واختلف المناقشون حول إن كانت التجارة الإلكترونية تدخل ضمن اقتصاد الظل من عدمه؛ فذهب البعض إلى أنها لا تدخل ضمن اقتصاد الظل، في حين ذهب آخرون إلى أنها جزء منه؛ إذ إنَّ كل عمل لا يدخل ضمن الأنظمة والقوانين الرسمية يدخل ضمن القطاع غير الرسمي.
ورصدت المداخلات سلبيات هذا القطاع، إلا أن البعض ذكر أن لهذا القطاع إيجابيات عديدة إذا ما تمَّ تنظيمه، بحيث يتم تقليل مخاطر وسلببيات هذا النوع من الاقتصاد دون إقصائه أو محاربته، فبقاء اقتصاد الظل ضروريٌّ لكي يوفر فرص عمل لبعض الفئات الاجتماعية.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: ضرورة دراسة الظروف والأسباب التي تدفع الأفراد للعمل في أنشطة الاقتصاد الخفي. من الممكن تشكيل أو تنظيم جمعيات تعاونية، حيث تضمُّ كلُّ جمعية المهن المختلفة، وتقوم بعملية تنظيم كل مهنة، ووضع القواعد التي تنظمها بإشراف من وزارة العمل والتنمية الاجتماعية. بناء منصات الخدمة الموحدة لإصدار التراخيص. وضع لائحة للسماح للمرأة بممارسة العمل التجاري، بإعداد المأكولات والمشروبات من المنزل، بشرط خضوعها للاشتراطات الصحية. الطلب من وزارتي التجارة والعمل والتنمية الاجتماعية إعداد لائحة تنفيذية لتسهيل إجراءات الترخيص، وممارسة العمل في مؤسسات الاقتصاد التكافلي. توظيف أنشطة الاقتصاد الخفي المشروعة في الاقتصاد الرسمي، من خلال تسهيل الإجراءات والقيود الإدارية. وختامًا: الاحتواء، والتمكين، والتدريب، ومأسسة العمل، واستثمار المنتج المحلي وحمايته من حمى التنافس مع المنتج الأجنبي- يمكن أن يحقق بعض التقدم لتوظيف هذا الاقتصاد ليكون موردًا أساسيًّا للفرد والمجتمع.
القضية الثالثة:
الورقة الرئيسة: مدن مؤنسنة…عندما يتهيأ العمران للإنسان
الكاتب: د. مشاري النعيم.
- المعقبان:
م. محمد الشهري.
م. خالد العثمان.
مدير الحوار: أ. وليد الحارثي.
مقدمة:
يعتبر موضوع أنسنة المدن في المملكة من المفاهيم الجديدة والمهمة في العمران، ومن أهم الممكنات التي تعزز برامج جودة الحياة التي اعتمدتها برامج رؤية المملكة 2030.
وتعني أنسنة المدن أن تجعل المدينة صديقة للإنسان، وألا تكون عبارة عن علب إسمنتية، بل ينبغي أن يسعى جميع المختصين لتعزيز البعد الإنساني في جميع مشروعاتهم لتطوير المدينة، وجعلها أكثر جاذبية لحياة الإنسان. ويعد تطبيق أنسنة المدن من الأمور الصعبة، خاصة في المدن القائمة، والتي صممت فعلياً لتخدم وسائل النقل الحديثة، خاصة السيارات، وعدم النظر إلى وجود الإنسان كعنصر أساسي في التخطيط والعمران؛ لذا كانت قضية (مدن مؤنسنة…عندما يتهيأ العمران للإنسان) من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدمها د. مشاري النعيم. وتم التعقيب على موضوع الورقة، وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (دور المعماريين في تخطيط المدن، بعض إشكاليات أنسنة المدن، خصوصية المجتمع وأنسنة المدن، دور الاجتماعيين في أنسنة المدن، الأنسنة حالة خاصة، المردود الاقتصادي للأنسنة: دبي نموذجًا، المدينة والرواية السعودية، في أنسنة المدن.. التحدي والمستقبل، كيف نؤسس لمدن مؤنسنة؟ المدن القائمة والمدن الإنسانية، الإدارة المحلية وإدارة المدن، أنسنة المدن وتحديات أمام المعماريين، أنسنة المدن وإحساس المواطن بالمسؤولية، أنسنة الإنسان قبل أنسنة المدينة، التجانس بين الإنسان والمدينة، أنسنة المدن هي الأصل، عوائق إرادية ولا إرادية أمام أنسنة المدن، الفردية من عوائق أنسنة المدن، تحسين مستوى البلديات، بعض احتياجات أنسنة المدن، مشكلة أراضي المتنزهات، توطين المناطق الرعوية). وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديد من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نص الورقة التي كتبها دكتور/ مشاري النعيم، وعقّب عليها المهندس/ محمد الشهري، والمهندس/ خالد العثمان.
كتب د. مشاري النعيم في ورقته الرئيسة عن (مدن مؤنسنة…عندما يتهيأ العمران للإنسان): لقد أدارت المدينة المعاصرة ظهرها للإنسان، وحان الوقت كي تستدير مرة أخرى كي تحتوي الإنسان، وتدعم “الحياة الحضرية” التي يحتاجها. في أثناء هذا التحول يجب أن نؤكد على ما قاله المعماري “مايكل سوركين”: إن “الأماكن الحضرية العامة يجب أن يصنعها مَنْ سيستخدمها”؛ وبالتالي لا جدوى من “أنسنة المدينة” أو “جودة الحياة” إذا لم يكن الإنسان الذي ستؤنسن المدينة من أجله هو مَنْ سيقوم بهذه الأنسنة.
يبدو أن موضوع “المدينة” وما يتقاطع معه من مسائل الحياة أصبح موضوعًا مهمًّا وحيويًّا على نطاق واسع في العالم، وما برنامج جودة الحياة الذي أُطلق مؤخرًا إلا دليلٌ واضحٌ على دور جودة المدينة في صنع جودة الحياة. البرنامج يؤكد على أنه يجب أن تكون ثلاث مدن سعودية على الأقل ضمن أفضل مئة مدينة حول العالم، وبالطبع هذا الهدف يمثل تحديًّا حقيقيًّا؛ لأن المدن السعودية مرت بتجربة طويلة لم تكن موفقة في كثير من الأحيان، وخلَّفت وراءَها إرثًا عمرانيًّا ثقيلًا يصعب تغييره؛ لأنه أصبح واقعًا، ويتطلب أن نتعامل معه على هذا الأساس. ولعليِّ أطرح هنا توجُّهًا مبكرًا في هذه الورقة، بدأ يتحول إلى نمط تطوري واقتصادي، وهو التوجه إلى “التجديد الحضري”، كما يحدث الآن في مشروع وسط الرياض بمساحة 15 مليون متر مربع. لعل هذا التوجه يجعلنا نعيد حساباتنا، ونفكر من جديد في “أنسنة مدننا“، ونجعل هذه المدن الخرسانية الموحشة التي تشجع الآلة (السيارة) على حساب الإنسان (المشي) أكثر قابلية للحياة.
لعليِّ أبدأ بتعريف المدن المؤنسنة (وأنا أرى أن كلمة مؤنسنة أكثر تعريفًا للأنسنة من مدن إنسانية)، والتي تعني هنا أن تُتاح المدينة للإنسان، وأن تكون شوارعها وفضاءاتها العامة متاحة للبشر، وتساهم في خلق حياتهم الاجتماعية. كما أنها تصنع المصادفة، وتتيح للصغير والكبير، المرأة والرجل، وذي الاحتياجات الخاصة، أن يعيش بحرية في المكان العام. بالطبع هذا التعريف لا يكفي كي يعبر عن فكرة “الأنسنة”، فالتعريف لما يتم الاتفاق حوله بعد، ولا أعتقد أنه سيتم الاتفاق حوله في المستقبل، فهو مثل مصطلح “الاستدامة” التي تعني أشياء كثيرة، تتسع دائرتها باستمرار.
وبشكل عام، يمكن اختصار آلية “أنسنة المدينة” في مجموعة “خصائص”، هي التي تصنع جودة المدينة، هذه الخصائص تتمثل في التشجيع على الحياة الصحية (النفسية والبدنية)، وتتيح المشي والتريض، وممارسة الحياة العامة بشكل ملائم، كما يجب أن تكون اقتصادية (على مستوى الاستهلاك، وعلى مستوى توفير فرص العمل)، وترتبط بتراثها وتاريخها، وتعتبره المصدر المهم. المدينة الإنسانية يجب أن تُشجِّع التعدُّد الثقافي، وأن تكون احتوائية، ولا تفرق بين سكانها على مستوى العرق والطائفة والجنس، وأن تفتح المكان العام لذوي الاحتياجات الخاصة. كما يجب أن تشجع على الابتكار والإبداع، وتخلق فرص الالتقاء الاجتماعي والثقافي. ويُفترض أنها مدنٌ ذكية تساعد سكانها- حتى المعاق سمعيًّا وبصريًّا وحركيًّا- على التمتع بها دون مساعدة أحد. ويبدو أن كل خاصية من هذه الخصائص تفتح المجال واسعا لإعادة النظر بشكل شامل في مفاهيم التخطيط العمراني التي نتبناها حاليًّا. كما أن تحقيق هذه الخصائص له تبعات اقتصادية كبيرة ترتبط بإعادة التجديد الحضري، وله تبعات ثقافية توعوية ترتبط بإعادة بناء المنظومة الأخلاقية في المجتمع.
إذًا؛ الإعلان المهم لاستراتيجية جودة الحياة في المملكة هو بمثابة وضع الإصبع على الجُرح؛ لأنَّ جودة الحياة دون مدينة مهيأة للإنسان هي نوع من العبث الذي لا طائل من ورائه؛ وبالتالي فإن التحوُّل الذي يجب أن يحدث يجب أن يكون شاملًا عدة مستويات، تبدأ من التخطيط العمراني الذي يجب أن يشمل التوزيع المكاني للمدارس، والمستشفيات، والمحلات التجارية، والمساجد، والأحياء السكنية، والشوارع، والساحات العامة، والحدائق، والمراكز التجارية، وكل عناصر “الحياة” في المدينة. وينتهي بالمسؤولية الفردية والجماعية في الفضاءات العامة. بالطبع ما أقوله قد يراه البعض من باب “المستحيلات”، وهو تحدٍ حقيقي تواجهه المدينة السعودية، فكيف يمكن إعادة توزيع ما هو موزع أصلًا؟ وكيف يمكن أن تخلق وعيًا بالمسؤولية الاجتماعية في مدن محتقنة ومريضة؟
لا أريد أن أكون سلبيًّا، ولكن التحدي كبير وباهظ التكاليف، ويتطلب “ديموقراطية عمرانية” غير متاحة ولا حتى جزئيًّا؛ وبالتالي فإن الحديث عن الأنسنة هو نوع من النقد الفعَّال لكل آليات العمران الحالية، ومناهج اتخاذ القرار فيها. فجودة الحياة فكرة حالمة لكن لن تتحقق بمعطيات مدننا الحالية. ومع ذلك يجب أن نقرَّ هنا أن “الأنسنة” لا تخرج عن مفهوم جودة الحياة، وهو ما يعني بكل تأكيد أننا بحاجة إلى تغيير سريع، وتبني لاستراتيجيات عمرانية وخطط تنفيذية جديدة، لإعادة الروح الإنسانية إلى المدينة. القضية هنا ليست عاطفية؛ بل هي مرتبطة بصلب صنع بيئات الابتكار والإبداع، فكل مدينة تقدِّم حياةً جيدةً هي مدينة تفتح مجالات واسعة للإبداع. ربما ركَّزت الاستراتيجية على الجوانب المنظورة والمحسوسة، لكنها في حقيقة الأمر لم تهمل الجوانب الثقافية العامة، فهي المُشغِّل والمُحرِّك للحياة، ولعل هذا هو المقصود بالأنسنة، أي مِلء الفضاء العمراني المادي بالحياة، على أن تكون هذه الحياة ذات جودة، ومقبولة من الناس، وتحتويهم جميعًا.
في مؤتمر المدينة المنورة لأنسنة المدن (الذي بدأ في 7 مايو، واستمر 4 أيام) تمَّ الاتفاق على مصطلح “المدينة المؤنسنة” وليس “الإنسانية”. ولهذا الاتفاق بُعد تنفيذي دون شك، فالأساس هو أن يتم تبني مجموعة مبادئ، ومنها تتطور برامج تنفيذية لتحقيق الأنسنة. كما يجب أن نؤكد- إحقاقًا للحق- أن مصطلح “أنسنة المدينة” هو ابتكار للدكتور عبد العزيز بن عياف (أمين منطقة الرياض السابق)، وقد أطلقه عام 2006م، وعقد ورش عمل حوله حتى عام 2008م وما بعدها، وتبنى مشاريع رائدة من أجل إعادة الروح الإنسانية للأمكنة في الرياض؛ لذلك فإن الفكرة تُحسب للرياض على وجه الخصوص، والفكر العمراني في المملكة بشكل عام. هذا ما لمسته من المشاركين في مؤتمر المدينة، فمؤسس مركز الأماكن العامة “فريد كنت” يرى أن المملكة ستكون سبَّاقة في مجال أنسنة المدن، حيث ولدت لديها الفكرة وتطوَّرت.
الأفكار التي طرحها الدكتور عبد العزيز بن عياف تعطي بعض الأمل في أن أنسنة المدن يمكن أن تحدث بالتدريج، وهو ما يحدث الآن في الرياض، وليس بالضرورة أن تتحول المدينة دفعة واحدة إلى مدينة مؤنسنة. هذا حدث في “كوبنهاجن” في الدنمارك، وفي مدن عديدة، ولكن- كما ذكرت- هذا التحول التدريجي يتطلب إسهامًا مجتمعيًّا، ربما يكون غير متوفر بشكل واضح في حالة المدينة السعودية. أغلب المهتمين بأنسنة المدن يتحدثون عن “المكان”، فهو الأساس الذي تتشكل فيه ومنه فكرة الأنسنة؛ وبالتالي يجب أن نتعامل مع المدينة على أنها مجموعة أمكنة يتم تهيئتها للإنسان، وأن هذه الأمكنة يمكن أن تصبح مؤنسنة بشكل تدريجي، وهذا يشير إلى أن المدينة لديها قابلية أن تحتوي أماكن مؤنسنة وأخرى في طريقها للأنسنة؛ مما يفتح المجال واسعًا للتأني وعدم الاستعجال، وإعطاء مَنْ يعيشون في تلك الأمكنة الفرصة كاملة كي يساهموا في أنسنة أمكنتهم. إذًا هناك إمكانية لإحداث تحوُّل جوهري في المدينة، لكن يحتاج الأمر إلى وجود “ديموقراطية عمرانية” حتى يشعر الناس أنهم يملكون المكان. نقطة التحوُّل تبدأ من هنا.
لقد طرحت سابقًا أهمية تغيير الدور التاريخي المتعارف عليه للبلديات، وتحويلها إلى مؤسسات تحمل اسم “إدارة جودة المدينة”. ربما تكون هذه التسمية هي الأقرب إلى المفهوم الجديدة للمدن التي تتطلب نظرة إيجابية بعد أن مرت حياة المدينة بأزمات كبيرة أبعدت الإنسان عن المشهد الحضري، وحولته إلى مستخدم هامشي للمدينة، أو كما يقول “مايكل مهافي” وهو أحد أهم المتخصصين في أنسنة المدينة إن “الإنسان أصبح معزولًا في كبسولة المكتب، ينتقل منها إلى كبسولة السيارة، ومنها إلى كبسولة البيت”. ولعل فكرة إنشاء إدارة لجودة المدينة ستصنع حراكًا عمرانيًّا ديموقراطيًّا يحثُّ كلَّ ساكن في المدينة كي يكون له إسهام ودور في أنسنتها. هذه المسألة على وجه التحديد هي التي يمكن أن تصنع الفرق؛ لأن الدور الحقيقي في أنسنة المدن يفترض أن يكون نابعًا من وعي الإنسان أولًا، وقدرته على التعامل مع الأمكنة في المدينة بحرية دون عُقد وتصورات مثقلة بالقناعات الشخصية أو التقليدية.
وكان تعقيب م. محمد الشهري: تضمنت الورقة التي أعدَّها د. مشاري النعيم بعض المحاور والمواضيع المهمة جدًّا، والتي تتعلق بالمدن السعودية وواقعها الحالي البائس، يمكن تلخيصها في التالي:
– تعريف أنسنة المدينة.
– آلية أنسنة المدينة.
– علاقة أنسنة المدن باستراتيجية جودة الحياة في المملكة.
– تجربة مدينة الرياض في مجال أنسنة المدن.
– التحدي الذي سيقابل “مشروع” أنسنة المدن السعودية.
– مفهوم “إدارة جودة المدينة”، وتقديمها للبلديات لتطوير أدئها في إدارة المدن السعودية.
لا شك أن هذه المحاور مهمة جدًّا، وكل منها يستحق ورقة مستقلة، ولقد استطاع الدكتور النعيم باقتدار وبإيجاز تلمس أهم المواضيع المتعلقة بهذه المحاور، وأتفق معه فيما ذهب إليه إجمالًا.
إن البيئة “المكانية” المناسبة هي الحاضنة لأي تنمية عمرانية وبشرية، ومن هنا تكمن الأهمية القصوى لأن تتوفر في المدينة أو أي “تجمُّع حضري” المقومات البيئية والعناصر التخطيطية والخدمية المناسبة، بحيث يستطيع إنسان تلك المدينة ممارسة نشاطه وأمور حياته اليومية بالشكل الحضاري “المتاح” والآمن، ويصبح بذلك عنصرًا منتجًا وفعَّالًا في أداء دوره الإنساني والتنموي.
إنَّ المشكلة الحقيقة التي تعاني منها المدن السعودية هي في المفهوم العلمي والعملي ” إدارة التنمية المحلية في المدن”. لو تابعنا أو راجعنا كيف تُدار المدن في الدول المتقدمة، وخاصة الغربية منها، لاتضح لنا كيفية إدارة تلك المدن، وما يندرج تحت ذلك من أمور عديدة، تتعلق بتحديد متطلبات التنمية العمرانية وأولوياتها، وغيرها. أما واقع الحال بالنسبة لمدننا وكيفية إدارتها، فلا يتسع المجال هنا لذكره، ولكن الواقع والتحديات كبيرة ومعقدة جدًّا. وأرى أن موضوع أنسنة المدن يجب أن يكون هو المحور الرئيس الذي تقوم عليه مفاهيم “إدارة التنمية المحلية للمدن”، ومن ضمنها ما سمَّاه الدكتور النعيم “جودة المدينة”.
لا شك أن البلديات يقع على عاتقها الدور الأساسي لتهيئة المدن السعودية وجودتها، ولكن التحدي كبير جدًّا، وفوق ما يتخيله الإنسان غير المتخصص. ولعل مدينة الرياض، وما قام به د.عبد العزيز العياف من “مبادرات” أو “مشاريع” منفصلة مثالٌ على ذلك. السؤال أو الأسئلة الممكن طرحها هنا: أين نحن؟ وإلى أين نحن سائرون بمدننا؟ وماذا علينا فعله لإنقاذ الوضع الحالي؟
وفيما يلي يمكن توضيح بعض النقاط والإجراءات التي من شأنها الإسهام في ترسيخ مفهوم أنسنة المدن، وتوفير جودة أفضل للحياة في المدن السعودية:
– نحن في وضع “جيد نوعا ما”، فمدننا “الغالبية العظمى”منها تتمتع بفضاءات عامة متسعة نوعًا ما، “سواء الشوارع أو المساحات المفتوحة”؛ وبالتالي يمكننا التعامل معها، وإعادة تهيئتها بأن تكون أكثر “أنسنة”، وتلبي احتياج المستخدم “الإنسان”، وتوفر له الراحة والأمن.
– يجب وبشكل سريع “إعادة النظر” في الأسلوب التخطيطي الحضري، والمعايير التخطيطية المطبقة حاليًّا في مخططات الأراضي، ووضع منهجية تخطيطية عمرانية لمخططات الأراضي في المدن، بحيث تصبح مخططات سكنية “مؤنسنة” فعلًا، وليست قائمة على السيارات كما هو الوضع حاليًّا.
– وسائل النقل العام بأنواعها، وتوفيرها بشكل فعَّال ومتاح للجميع.
– لتحقيق أهداف برنامج جودة الحياة المعني بثلاث مدن سعودية، يجب تشجيع ودعم البلديات؛ بالإكثار من مشاريع التجديد الحضري Urban Renovation، واستقطاب الخبرات العالمية لذلك، حيث إن هناك تجارب ناجحة في مدن جنوب غرب أمريكا، مثل Santa Monica، وLong Beach كانت تعاني هذه المدن من الإهمال وتردي الجودة في الحياة، والآن أصبحت وجهات رئيسة للسياحة والأعمال، وغيرها الكثير من مدن العالم التي كانت تعاني، وأصبحت من مراكز التنمية والجذب الوطني أو العالمي.
كما عقَّب م. خالد العثمان: تؤسِّس ورقة د. مشاري باقتدار لمفهوم جديد في العمران، ينسجم مع مجمل تطلعات رؤية 2030، وخصوصًا برنامج جودة الحياة التي أعدَّها ويعدُّها الكثيرون أحد أهم محاور الرؤية على الإطلاق. المدن في الأساس هي مستوطنات بشرية ينتفي الغرض من تأسيسها إن لم يتحقق فيها مفهوم الأنسنة. نقيض الأنسنة هو المكننة، وهي ما طغى على المدن السعودية منذ زمن بعيد من طغيان نمط التخطيط الممكنن الذي يستهدف خدمة الآلة بدلًا من البشر. وأجدني أتفقُ تمامًا مع فكرة دمقرطة العمران التي طرحها د. مشاري في ورقته المهمة، إذ إن أحد أهم أسباب فشل الأنماط التخطيطية السائدة في المدن السعودية هي مركزية وأحادية عملية التخطيط، وتأثرها الفاضح بمفاهيم الرأسمالية، والرؤية العقارية المسيطرة. وبالتالي فإن تفعيل دور المجتمع المدني والرأي العام المجتمعي في قضايا التخطيط العمراني هو مسألة مهمة جدًّا إن أردنا بالفعل الوصول إلى مدن مؤنسنة، وتحقيق مفهوم جودة الحياة.
ويمكن أن أضيف أن مفهوم الأنسنة والتخطيط الناجع لتحقيق مفهوم جودة الحياة يجب أن يأخذ في اعتباره مختلف مستويات التخطيط والتنمية في المدن والحواضر العمرانية. المسألة يجب أن تتعدى بالتأكيد مجرد رصف الشوارع، وتهيئة الأرصفة للمشاة، وتوفير الساحات والباحات الحضرية، وغير ذلك الكثير من مراكز وبيئات الأنشطة الإنسانية المتنوعة. الأمر بالتأكيد يتخطى ذلك إلى العمل على تحقيق معايير الاستدامة الشاملة في التنمية بمختلف محاورها: البشرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، وغير ذلك. جودة الحياة لن تتحقق في مجتمع يعاني من البطالة، وأزمة الإسكان، وفوضى المرور والنقل، والتلوث البيئي، وقصور الخدمات التعليمية والصحية، وغيرها. جودة الحياة لن تتحقق في جزر مستقلة مهيأة لمناشط محددة تستند إلى معالجات مبتسرة مبتورة عن الواقع الحقيقي للمجتمع والبيئة العمرانية. جودة الحياة ليست نزهة مؤقتة، يخرج بها المواطن من معاناته المستمرة إلى بيئات معزولة يتقوت بها مؤقتًا شيئا من المتعة العابرة. وفي أبسط الأمثلة، جودة الحياة لن تتحقق عندما يخرج المرء من منزله ليستقل سيارة ليذهب بها إلى مضمار مخصص للمشي، بدلًا من أن تكون كل البيئة العمرانية مهيأة للمشي والتنقل الصحي. وفي الأمثلة العالمية، فإن ممارسة المشي تمثل أكثر من 34% من رحلات التنقل في مدينة برشلونة الأسبانية، وتسعى البلدية لرفعها إلى 40% في غضون الأعوام القليلة القادمة؛ مما يعني أن المشي هو ممارسة راسخة أصلَّتها البنية العمرانية الشاملة في النمط التخطيطي لتلك المدينة. في المقابل، لا أرى هناك مدينة واحدة في السعودية، ولا في العالم العربي بأسره- بحسب اطلاعي القاصر- ترتقي إلى تحقيق نزر يسير من هذه النسبة المتقدمة.
في هذا المقام، أجدني ملزمًا بالإشادة ببعض المبادرات المتناثرة التي أقدمت على تبنيها بعض الأجهزة في المملكة؛ لخلق نماذج واعدة ومحفزة للتغيير، وتيسير التواصل الاجتماعي. وإذ أشار د. مشاري النعيم بالتحديد إلى مبادرات د.عبد العزيز العياف العمرانية إبان توليه أمانة منطقة الرياض، فإنني ألفت الانتباه مشيدًا بالتحديد إلى مبادرة هيئة تطوير المدينة المنورة بتطوير مشروع جادة قباء الذي أصبح حديث الزائرين لمدينة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وسكانها الكرام. واللافت في مبادرة مشروع جادة قباء ليس فقط التطوير العمراني، وتحويل الطريق إلى مسار للمشاة بدلًا من السيارات، وتحسين واجهات المباني، وتنسيق المواقع، وتأثيث الطريق، وغير ذلك من اللمسات المعمارية المهمة والمؤثرة؛ بل أيضًا الإدارة العمرانية النشطة لهذا المكان عبر تنظيم العديد من المناشط والفعاليات الثقافية والترفيهية والاجتماعية التي جعلت المكان قبلةً مستهدفة لسكَّان المدينة المنورة وزوارها لقضاء أوقات ممتعة، بعيدًا عن الجمود الذي تتسم به بقية الأحياء. الأمل إذًا معقود بتلك الهيئات والأجهزة ومثيلاتها في المدن المختلفة لتبني مبادرات مماثلة نابعة من استراتيجيات شاملة لتطوير البيئة العمرانية للمدن والحواضر السعودية، لتحقيق مفهوم جودة الحياة، ليس فقط في المدن الثلاث المستهدفة في الرؤية؛ بل في جميع المدن والقرى في المملكة على حد سواء.
المداخلات حول القضية:
دور المعماريين في تخطيط المدن:
فيما يتعلق بمجموعة خصائص جودة المدينة التي أشار لها د. النعيم في القضية، تساءل أ. وليد الحارثي: إلى أي مدى شملت هذه الخصائص جميع الجوانب المختلفة التي تُسهم في أنسنة مدننا، وصناعة جودتها؟
أجاب د. مشاري النعيم بأن المعماريين لم يكن لهم دور كبير في تخطيط المدن، وغالبًا كان هناك مهندسون من تخصصات أخرى أدارت المدن السعودية في فترات مختلفة. هذا لا يعني لو أن المعماريين هم من أداروا المدن لأصبح الوضع أفضل.
بعض إشكاليات أنسنة المدن:
في تصوُّر د. خالد الرديعان، فإن طرح الورقة والتعقيب عليها جنح نحو المثالية المفرطة، وكان التركيز على المكان أكثر من الإنسان، كما تمَّ تغييب السلوك الاجتماعي وثقافة السكان، وكأن مَنْ يسكنون هذه المدن روبوتات قابلة للتوجيه.
القضية قبل أن تكون مكانًا وبيئة فيزيقية هي إنسان يحمل ثقافة وعلاقة مع المكان. التغيير بهدف الأنسنة يبدأ بثقافة البشر ومتواضعاتهم قبل المكان الذي يقيمون فيه. وثمة عنصر آخر تمَّ تغييبه تمامًا، ذكرني به مشاركة م. محمد الشهري وحديثه عن سانتا مونيكا ولونغ بيتش، وأقصد بذلك “الطقس”، وكيف أصبحتا وجهات سياحية؟!
كل مَن يتحدث عن مدننا، وأنها موحشة و”ممكننة” يتناسى حقيقة أن طقسنا القاري قاسٍ جدًّا؛ فهو لا يساعد على أنسنة المدن بدرجة كافية، بل إن بعض الأنشطة الإنسانية تصبح ممارستها مستحيلة في هذا المناخ الصحراوي.
علَّق على ذلك م. محمد الشهري بأنَّ مسألة الطقس مهمة جدًّا، ولكن هناك أساليب تخطيطية وعناصر عمرانية يمكن استخدامها للتغلب على هذه المشكلة بنسبة مناسبة. ثم إن هناك أشهرًا عديدة في السنة يكون الجوُّ فيها مناسبًا جدًّا، وقد تصل إلى ثمانية أشهر في معظم الأحيان. المشكلة أيضًا في أن المدن التي تتمتع بجو مناسب طوال السنة؛ كأبها، والباحة، والطائف، وغيرها.. اتبعت نفس النهج التخطيطي والنمط العمراني للمدن “الصحراوية”، وغابت عنها عناصر الأنسنة التي نتحدث عنها.
أضاف خالد الرديعان أن هذه مشكلة النموذج الواحد الذي يُطبَّق في جميع المدن دون الأخذ في الاعتبار تنوُّع هذه المدن مناخيًّا وثقافيًّا.
أضاف أيضًا م. خالد العثمان أن هذه بالفعل مشكلة التخطيط العمراني، ومدى التأثير والتأثُّر بالظروف المحيطة، بما فيها الإنسان نفسه. الاستجابة الكلية للتأثير البشري في المجتمعات يقود إلى بيئات عشوائية؛ السبب في ذلك تباين الرغبات، وانفلات الحرية في الاختيار، هنا يأتي دور التخطيط في استيعاب هذه الرغبات وتنسيقها، إلى جانب المؤثرات الأخرى العديدة.
من جانبه، يرى د. مشاري النعيم أن الطرح الوارد في الورقة لم يتجاهل السلوك الإنساني، وتمت الإشارة له أنه هو Software للمدينة، وغالبًا هو الجانب غير المرئي الذي يتم تجاهله، لكن مسألة المكان كحاضن للنشاطات والسلوكيات الإنسانية هو منطلق عملي يمكن التخطيط من أجله. أنسنة المدينة كفكرة ترتكز على السلوك الإنساني، لكنها في الوقت نفسه ترى أن هناك حلولًا فيزيائية أفضل من غيرها تغذي السلوك الإيجابي في المدينة. اتفق معه م. خالد العثمان، وأضاف أن المكننة التي تحفظنا عليها ليست خيارًا مجتمعيًّا؛ بل أسلوبًا فيزيائيًّا اختاره مخططون سابقون.
خصوصية المجتمع وأنسنة المدن:
تساءل أ.وليد الحارثي: كيف يمكن التركيز على “الإنسان” في مدننا، وإيجاد التوازن بين ما ذُكر وبين المكان نفسه؟ أيضًا؛ ما العناصر المرتبطة بالمستوى الاجتماعي للمدينة عمومًا، الأمر الذي يساعد في توجيه القرار الاقتصادي أو العمراني في الاتجاهات السليمة؟
ذهب د. خالد الرديعان إلى أننا كسعوديين لنا خصوصية، حتى في نمط المسكن الذي نقيم فيه، نكتشف ذلك بوضوح عندما نسافر خارج المملكة كأُسر، حيث لا نجد دائمًا المسكن المناسب الذي يراعي هذه الخصوصية (على الأقل في طريقة توزيع غرف المسكن، ومسألة الفصل بين قسم العائلة وقسم الضيوف). وعندما نتحدث عن المدينة بشكل عام، فإن هذه الخصوصيات لابد من وضعها في الحسبان، فالأنسنة ليست مجرد توزيع خدمات ومرافق في المدينة، وجعلها خضراء ومناسبة لذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن؛ بل لابد من الاهتمام بالجانب السوسيو- ثقافي كعنصر مهم، سواء في تخطيط المدينة أو أنسنتها.
كما أنَّ تطبيق نموذج واحد في مدينة واحدة وتكراره في مدن أخرى لا يساعد في الأنسنة التي نطمح إليها؛ لأنَّ هذا التوجه يهمل الثقافات الفرعية للمناطق. ويظل المسجد في المدينة الإسلامية من أهم عوامل أنسنتها، بحيث يُوضع في بؤرة الاهتمام كمركز يجمع سكان الحي يلتقون فيه بصورة منتظمة.
ظاهرة أخرى في غاية الأهمية نلحظها في المملكة، وهي كثرة الهجر والقرى التي ليست ذات أهمية اقتصادية؛ فهي مجرد تجمعات بشرية موحشة بل وطاردة للسكان، وخاصة الشبان حديثي التخرُّج. وليس الأمر كذلك فحسب، بل إنَّ هذه التجمعات مكلفة اقتصاديًّا بما تتطلبه من توفير خدمات ومرافق لسكانها.
يرى أ. وليد الحارثي أن المستوى الاجتماعي ينتظم إلى جانب مستويات رئيسة أخرى تُشكِّل تركيبة المدينة الحديثة وتعقيداتها، وهي: المستوى العمراني، والمستوى الاقتصادي، والمستوى التقني، والمستوى البيئي.
وقد تكون هناك مستويات أخرى أيضًا تتعلق بالإدارة والثقافة وغيرها، فقد أشار م.محمد الشهري إلى أن المشكلة الحقيقية تكمن في إدارة التنمية المحلية في المدينة.
دور الاجتماعيين في أنسنة المدن:
أشار د. خالد الرديعان إلى أهمية الأخذ في الاعتبار عادات وتقاليد السكان، ونمط تجاورهم ومتطلباته، إذ لا يكفي أن نوكل الأنسنة إلى مهندسين رغم أهمية دورهم بالطبع؛ بل لابد من وجود الاجتماعيين للإفادة من مدخلاتهم في عملية الأنسنة.
علَّق د. مشاري النعيم: في حقيقة الأمر، إن أغلب مَنْ يعمل على أنسنة المدن هم Urban sociologist، وكثير من المتخصصين في العمارة درسوا urban sociology في تخصصاتهم العليا. كما أن هذه المادة متطلبٌ أساسي في مناهج العمارة.
أضاف د. خالد الرديعان أن هذا الفرع من علم الاجتماع يهتم كثيرًا بالمدينة ومشكلاتها ونمط العيش فيها، وهناك دراسات كثيرة عن الــ slums، أو الأحياء المنزوية التي تشكل أوكارًا للجريمة. وهناك فرع آخر تحت مُسمَّى urban planning، وأظنه قريبًا من عمل المعماريين والمهندسين.
الأنسنة حالة خاصة:
تساءل أ. وليد الحارثي: هل يمكن أن ينطلق كل واحد من مدينته التي يقيم فيها، ليتحدث عن الأنسنة التي تحتاج إليها مدينته؟ قد تكون “مكة المكرمة” هي المدينة التي ننطلق منها هنا، خصوصًا أنها محط الأنظار والزيارة في هذه الأيام، وباعتبارها أهم المدن الإسلامية في العالم، والتي تحتاج إلى أن تكون في المستوى الأول للمدن الحديثة.
علَّق د. مشاري النعيم بأن الأنسنة حالة خاصة جدًّا، أي أنها مرتبطة بالمكان ومن يسكنه، وليست حالة يمكن تعميمها إلا على مستوى الأفكار العامة، والأفكار العامة نُسميها أفكارًا مسافرة Traveling Concepts، أي أنها أفكار تنتقل من مكان إلى آخر على المستوى العام، وليس على مستوى التفاصيل.
المردود الاقتصادي للأنسنة: دبي نموذجًا.
ذهب د. خالد الرديعان إلى أنه مما قرأ في موضوع “أنسنة المدن” فإنها تعني أن تكون المدينة مناسبة للعيش فيها، وتتوفر فيها الخدمات الأساسية التي تجعلها جاذبة للسكان، ولهذا مردود اقتصادي كذلك.
إنَّ وجود بنية تحتية جيدة في المدينة، ووفرة المرافق، سيجعل المدينة أكثر جاذبية لمَنْ هم خارجها. ينطبق هذا المفهوم على مدينة دبي بصورة واضحة، فهي ورغم ضجيجها، وحركة سكانها الدائبة ومن جنسيات مختلفة، وشعور الزائر بغياب هويتها اللغوية والإثنية، إلا أنها تبدو مكانًا مناسبًا لعدد كبير من الاستثمارات التي يعززها تشريعاتها، ومرونة العمل فيها بعيدًا عن بيروقراطية مدن العالم العربي.
وما يلفت الانتباه في دبي أنها رغم قسوة طقسها في الصيف (حرارة ورطوبة)، لكنها دائمًا عامرة بالسياح والزوَّار من مختلف دول العالم. عنصر مهم يتوفر في دبي هو مستوى الأمن؛ ما يجعلها كذلك وجهة سياحية. صحيح أنها مركز تسوُّق عالمي، ونقطة توزيع تجاري، غير أنها يتوفر بها كذلك إمكانات هائلة فيما يخصُّ الترفيه، والشواطئ الرملية الجميلة، والفنادق، والمواصلات الجيدة.
هذه المميزات تعدُّ رافعة اقتصادية للمدينة، وتجعل منها وجهة استثمارية، إضافة إلى وظيفتها السياحية. وأخلص إلى القول: إن الأنسنة لها مردود اقتصادي يُفترض الالتفات إليه.
المدينة والرواية السعودية:
يرى د. خالد الرديعان أن المدينة كانت حاضرة دائمًا كمكان للحدث، وإقامة الشخوص في الأعمال الروائية العالمية، وهذه ملاحظة تتكرر كثيرًا، وتعتبر روايات المصري نجيب محفوظ والإنجليزي تشارلز ديكنز نماذج ممتازة في هذا الجانب، نجد المدينة حاضرة بأزقتها ومساكنها وحاراتها الشعبية ومقاهيها وزعرانها (فتواتها) وطبقاتها الاجتماعية.
هذه الصور باهتة جدًّا في الرواية السعودية رغم موجة الرواية السعودية، مع استثناءات قليلة بالطبع (شارع العطايف لعبد الله بخيت، وبعض روايات تركي الحمد). المدينة في الرواية السعودية شبه غائبة؛ مما يفقد الرواية جاذبيتها وحميميتها، وقربها من المتلقي.
هناك طبيب أمريكي زار الرياض في بداية القرن العشرين اسمه “بول هاريسون”، سجل انطباعات لطيفة عن المدينة. إضافة إلى أعمال “الليدي آن بلنت” بالطبع ووصفها لبعض المدن؛ كالجوف، وحائل. فالوصف الذي قدمه الرحالة والمستشرقون للبلدات في الجزيرة العربية ومجتمعاتها يعطي للتاريخ حياة نابضة، كأنك تشاهد فيلمًا.
في أنسنة المدن.. التحدي والمستقبل:
أورد د. خالد الرديعان مقالًا للدكتور أحمد المهندس* بعنوان: أنسنة المدن.. التحدي والمستقبل. نُشر في الموقع الإلكتروني لصحيفة الرياض، بتاريخ 18 شعبان 1439هـ، جاء فيه: إن أنسنة المدن مصطلح مهم وحيوي يهدف لجعل المدن أكثر ملاءمة للإنسان، يشعر فيها أنه يعيش في مدينة صديقة له. مدينة تخدمه وتمكنه من الاستمتاع بحياته، وتطوير إمكاناته، ومزاولة حياته الفكرية والعملية والاجتماعية.
كما أن أنسنة المدن تجعل المدينة صديقة للإنسان، وألا تكون عبارة عن علب إسمنتية، بل ينبغي أن يسعى جميع المختصين لتعزيز البعد الإنساني في جميع مشروعاتهم لتطوير المدينة، وجعلها أكثر جاذبية لحياة الإنسان.
ويعدُّ تطبيق أنسنة المدن من الأمور الصعبة، خاصة في المدن القائمة، والتي صُمِّمت فعليًّا لتخدم وسائل النقل الحديثة، خاصة السيارات، وعدم النظر إلى وجود الإنسان كعنصر أساسي في التخطيط والعمران. إن طريقة النقل الأساسية في المدن تؤثِّر بشكل كبير على شكلها وتخطيطها، وكثافتها السكانية، والخدمات المقدمة، بالإضافة إلى البنية التحتية. وهذا ما يمكن أن نشاهده في عدد من المدن السعودية، وخاصة مدينة الرياض. وقد ساهمت قروض صندوق التنمية في توسُّع المدن؛ مما جعل توفُّر الخدمات أمرًا مكلفًا، وضاعت فرصة الإنسان في مدن صديقة تلبي جميع احتياجاته.
ويعدُّ مشروع المدن الإنسانية أحد المشروعات المهمة في أنسنة المدن، حيث تتشارك فيه 12 مدينة في الاتحاد الأوروبي تحت مُسمَّى (تحدي مقياس المدينة). ويركز المشروع على جودة الحياة في المدن، بدلًا من تحديد شكل المدينة الفيزيائي.
وتتبنى المدينة الإنسانية عددًا من القيم والمبادئ، ومنها: الاستدامة، والألفة، والتعاطف، والرفاهية، والعيش المشترك، والجماليات، والتضامن، والاحترام، والترفيه..إلخ.
كيف نؤسس لمدن مؤنسنة؟
حول إجابة هذا السؤال، جاءت مداخلة د. عبد الله بن صالح الحمود، وتساءل: هل الإنسان العادي- أي غير المسؤول- هو المسؤول في الأصل عن تكوين مدينة مؤنسنة، أم أن القائمين على قيادة التشريع والتنفيذ الحكومي هم مَنْ يُفترض أن يؤسسوا وينفذوا لبناء ما يُسمَّى بالمدن أو المدينة المؤنسنة؟ لا شكَّ أن الحكومة أولًا هي مَنْ يُفترض أن تبادر وتطرح الخطط، وتنفذ لمستقبل هذه المدن؛ ومن ثَمَّ يأتي الإنسان ليكمل مسيرة البناء نحو الوصول إلى سمو مرجو.
ثم إن ما نوَّه إليه د. مشاري النعيم، حول الاتفاق الذي تمَّ في مؤتمر المدينة المنورة، حيث جرى الاتفاق أو الاعتماد على مصطلح تسمية (المدينة المؤنسنة)، هو بالفعل في ظني السير في الطريق السليم، بل الخطوة الأولى للنيل من مدن مؤنسنة، فكيف لنا أن نُنشئ مدنًا مؤنسنة دون أن يكون لدينا مدن مؤنسة في الأصل؟! هذا جانب. الجانب الأهم والمفترض أن يكون قد حدث لنا، ولو بشيء ممَّا يُسمَّى مرحليًّا بتوافر المدن، أو على الأقل المدينة المؤنسنة، هو أن غياب التنسيق الحكومي بين الجهات المعنية بإضفاء روح المدينة المؤنسنة، مفقود بدرجة كبيرة للغاية، وهي حقيقة ما أفقدنا إلى المعايشة الطبيعية نحو الاستفادة من الروح الحقيقية لتلك المدن، فالبلديات تعمل لوحدها، والنقل لوحده، والهندسة المرورية تأخذ بمصلحة المركبات دون الأخذ في الاعتبار بمصلحة المشاة، وأخيرًا أتت هيئة الترفيه مضيفة عبئًا بلديًّا آخر، حين شرعت في أنشطتها دون أن تتوافر لها الأمكنة المناسبة لإقامة مناشطها.
من جانبه، يرى د. حميد المزروع أنه بالإضافة إلى التخطيط العمراني المناسب، فإن أنسنة المدن تستوجب تعزيزها بالقيم الجمالية والفكرية، وأقصد هنا المعالم الفنية، مثل: المجسمات، وتجسيد لرموز المدينة من علماء ومفكرين، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأن المكان هو ذاكرة التاريخ، وقد اهتمت مدينة جدة بهذا الجانب إلى حد ما، إلا أن المدن الأخرى بعيدة عن تحقيق التوازن الجمالي والفكري المطلوب لتجميل مدن المملكة. اتفق معه في ذلك م. خالد العثمان، لكنه اشترط ألا تكون المجسمات سطحية التعبير، على غرار دلال، وفناجين القهوة، والمباخر، وغير ذلك.
المدن القائمة والمدن الإنسانية:
أورد د. خالد الرديعان مقالًا لسمية السليمان، بعنوان: “المدن الإنسانية”، منشور بتاريخ 18 يناير 2017، وأعيد نشره يوم 4 يونيو 2018 على الموقع الإلكتروني لقناة العريية*. جاء فيه: أنسنة المدن من المواضيع التي أصبحنا نسمع عنها مؤخرًا، وإن كان مبدؤها سهلًا، وذلك من خلال جعل المدن مناسبة للإنسان، إلا أن تطبيق ذلك في غاية الصعوبة، وبالذات في المدن القائمة. يرجع سبب هذه الصعوبة إلى أن تصميم المدن لم يكن ليخدم الإنسان في الأصل، بل صُمِّمت كما هي لتخدم السيارة، وهي وسيلة النقل الأساسية التي نستخدمها.
قرار واحد خاص بطريقة التنقل الأساسية لمدينة ما يؤثر على شكلها وتخطيطها، وكثافتها السكانية، وكمية الخدمات والبنى التحتية، وهذا ما حدث بالفعل في المدن السعودية، حيث تعتبر الرياض أم المدن المترهلة.
منح الأراضي وقروض صندوق التنمية أيضًا ساهمت في توسع المدينة بكثافة، وأراض بيضاء كبيرة تجعل توفير الخدمات أمرًا مُكلفًا، وبالتالي يتأخر.
بين كل هذه الاعتبارات والقرارات ضاع الإنسان، وفقد ما يحتاجه ليعيش حياة ذات رفاهية وراحة في المدينة. المدينة الإنسانية ليست نموذجًا واحدًا يمكن تطبيقه؛ وذلك لأنها تأخذ في عين الاعتبار الاختلافات الاجتماعية والثقافية والعمرية وغيرها، ولكنها باختصار محاولة جادة لجعل المدينة صالحة أكثر للعيش.
الإدارة المحلية وإدارة المدن:
ذكر م. محمد الشهري أنه من واقع تجربة له في أثناء عمله في البلديات؛ إن المشكلة الحقيقة في مدننا هو كيفية إدارتها (الإدارة المحلية). عندما ندقق في كيفية إدارة المدن نجد أن الدوائر المشاركة في تنمية وإدارة المدينة تعمل بشكل غير متناسق ومتكامل، حتى مع وجود مجالس المناطق أو المجالس البلدية، فمن السهولة أن يرمي كلٌّ بالمسؤولية على الآخر عند الإخفاق، فلا يوجد جهة واحدة مسؤولة (accountability). أنا أؤيد أن تُضمَّ البلديات للمحافظات، وتُصبح مستقلة لها شخصية اعتبارية ومسؤولة عن إدارة المدينة وتنميتها. وإن كنت أعلم أن هذا التوجه ليس بالسهولة، ولكن هو التوجه السليم مستقبلًا.
علَّق على ذلك م. خالد العثمان بأن هذا يُعدُّ إحدى أدوات الإدارة المحلية، فالأمين أو العمدة في الغرب هو المسؤول الوحيد عن إدارة المدينة؛ لذا فإنني أتمنى أن يقود نظام هيئات المناطق الجديد إلى تطوير الأداء في تنمية وإدارة المناطق والمدن، بعدها يمكن إلغاء وزارة البلديات، ونقل اختصاصها إلى هيئات المناطق، وهي الفكرة التي سبق وطرحها د. مشاري النعيم.
أضاف م. محمد الشهري بأن الهيئات ستكون بمثابة Layer over Layer، والمشكلة أعمق. لدينا في السعودية ما يقارب من 300 بلدية، ولا تستطيع إنشاء هيئات بهذا الحجم، وأرى الدمج أفضل من الإلغاء.
من جانبه، يعتقد د. عبد الله بن صالح الحمود أن وزارة البلديات انتهى وقتها، ولابد لها من الرحيل، كما أن البدائل متعددة. وهو ما ذهب إليه أ. محمد الدندني، حيث يرى أن كل الوزارات الخدمية حان رحيلها بوضعها الحالي. حيث تبقى مقننة، والتنفيذ من خلال اللامركزية بتفعيل الإدارات المحلية للمناطق. ويرى د. مشاري النعيم بأن الأمر لابد أن يتم عبر إدارة محلية قوية.
من جانبه، اقترح د. عبد الله بن صالح الحمود دمج البلديات مع الإسكان. بينما يرى م. محمد الشهري أن الإسكان حاليًّا بمثابة إدارة مشاريع وبعيد عن المفهوم الشامل والتنموي للإسكان كقطاع اقتصادي تنموي، ولكن ربما يكون هناك أمل في المبادارت التي تبنتها مؤخرًا في تبني دورها التنموي الريادي.
أنسنة المدن وتحديات أمام المعماريين:
أشارت د. عبير برهمين إلى أن موضوع أنسنة المدن يحتاج إلى حلول غير تقليدية لتحقق المواءمة بين متطلبات العصر الحديث ومتطلبات الحياة الإنسانية الصحية. فالمهندسون المعماريون يقع على عاتقهم دور كبير جدًّا في هذه الأنسنة، وفي بناء المدن عمومًا.
كما لا يجب أن نغفل أن النزوح إلى المدن الكبرى من القرى والهجر والمدن الصغيرة أدَّى إلى تكدُّس المدن الكبرى، وظهور غابات إسمنتية متسارعة على حساب المساحات والفضاءات الخضراء والترفيهية.
إضافة إلى أن بعض النازحين إلى المدن الكبرى مثل مكة- على سبيل المثال- لم ينصهروا في النسيج المكي الاجتماعي والعمراني، بل جاءوا وحاولوا فرض مفهومهم وعاداتهم وتقاليدهم بصورة مشوهة، وهذا يفقد المدن هويتها العمرانية والإنسانية، فالتناغم والحس الجمالي، واستخدام مواد البيئة المحيطة هي ما يعطي كل مدينة جماليتها وتميزها. قد يكون المناخ من أكبر التحديات، إلا أن ما جعل المعماريين الأوائل يتغلبون على نفس هذه الظروف في الماضي يجعل بإمكان المعماريين الجدد الإتيان بحلول مبتكرة إن رغبوا، وإن ابتعدوا عن ممارسات النسخ واللصق لنماذج المكعبات والأقفاص الإسمنتية.
أنسنة المدن وإحساس المواطن بالمسؤولية:
ترى أ. منى أبو سليمان أنه بالإضافة إلى الحديث عن البيئة، والعمارة، والبنية التحتية، ودور الحكومة والبلدية، والأخذ في الاعتبار سكان المدن وطبائعهم؛ فإن جزءًا من التغيير يكون الإحساس بالمسؤولية عند تصميم البنيات. والذي رأيته أن المواطن في الكثير من الأحيان لا يحب أن يرضخ لـ standards مواصفات بالبناء، والمساحات، والاعتناء بخارج البيوت. فمثلًا: نجد المواطن يستاء أحيانًا من دفع ضرائب للعناية بالأشجار أمام البيت، أو الاعتناء بالشارع والحدائق العامة.
بينما في اعتقاد أ. محمد الدندني أن التنمية والتطوير لو تُركت للناس وأهوائهم لما تقدَّم أي شعب. إلا أن أ. منى أبو سليمان ترى أنه يتم التلاعب؛ بسبب عدم إحساس الأفراد بالمسؤولية بالنسبة للجانب الفردي من أنسنة المدن.
أنسنة الإنسان قبل أنسنة المدينة:
أشار د. عبد الله بن ناصر الحمود إلى أن الحديث عن أنسنة المدن حديث ممتع، لكنه أمر لا يمكن تحققه دون متطلب سابق، وهذا المتطلب السابق هو أنسنة الإنسان، فإنني أرى الإنسان قد توحش كثيرًا، وبخاصة في البيئات التي غزتها الانحرافات بشتى أنواعها يمنة ويسرة. وحيث تهمنا منطقتنا، فمن المؤسف أن،ها اليوم من أكثر مناطق العالم توحُّشًا بشريًّا بدرجات شتى من التوحُّش، أدناها “صاحب الكف في المسعى”، وأقصاها “حاملو الأحزمة الناسفة يعتدون بها، ويقتلون ويحرقون الحرث والنسل”، أيًا كان هذا الحزام على خاصرة متطرف آثم، أو على قاذفات جوية أو برية أو بحرية.
إذًا؛ لا يصلح هنا غير تطبيق العرف الجامعي في المقررات الدراسية، فدراسة مقرر متقدم يتطلب اجتياز مقرر سابق..وهكذا، فأنسنة المدن تتطلب اجتياز أنسنة سابقة، وهي أنسنة الإنسان، ولن نتمكن من أنسنة الإنسان عندنا بالذات ما لم يكن هوانا لما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم- ، فنتحرر من كل هوى دون ذل؛ وبالتالي فإن عدم اجتياز المتطلب السابق يحول دون أنسنة المدن بالتأكيد مهما ظننا أننا نفعل. عندما تتوحش المدن فتشوا عما في الرؤوس والعقول والقلوب، ولا تظلموا الحظ والقدر.
أضاف د. خالد الرديعان أن من مظاهر التوحش التي شاعت في المدن قضية الشبوك والاستيلاء على الأراضي والمنح، والشره الزائد، وكبر مساحة البيوت، وضيق صدور ساكنيها.
التجانس بين الإنسان والمدينة:
أشار د. خالد الرديعان إلى أن مدننا الكبيرة في السعودية تعاني من ظاهرة الازدحام المروري، وكثرة المركبات بصورة تجعل كفاءة بعض الطرق متدنية بل تتلف وتتلف المركبات معها؛ الأمر الذي يجعل الطرق والمركبات بحاجة إلى صيانة مستمرة، وهو ما يكلف مبالغ باهظة في عمليات الصيانة.
أيضًا، فإن مستويات التلوث تتصاعد بسبب كثرة المركبات، واستخدام وقود الديزل لبعض السيارات، إضافة إلى قلة الغطاء النباتي في المدن عمومًا؛ ما يجعل المشي في الشوارع عملًا غير صحي إطلاقًا.
ومن الملاحظ كذلك أنَّ المشاة في شوارعنا يعانون ولا يحظون باحترام قادة المركبات، وهذا ملحوظ عند الأسواق ومراكز التسوق، إذ يتم عمل خطوط مشاة لا تحترم؛ حيث يقف الماشي مع أسرته لقطع الطريق، ولا تقف له السيارات؛ ما يشير إلى عدم إلمام الكثيرين بالعلامات المرورية وحق المشاة، والمشكلة ذاتها تتكرر عند الإشارات الضوئية، فتجد بعض قادة المركبات يقفون فوق خط المشاة الأبيض.
وعندما نتحدث عن أرصفة المشاة، فإن معظمها غير مهيَّأ للمشي؛ بسبب كثرة اللوحات فيها، وبعض الأشجار عديمة الفائدة مما لا يتناسب مع البيئة المحلية. بعض تلك الأشجار تسبب حساسية، والأولى استبدالها بالنخل، فهو مناسب لبيئتنا. كما أن بعض أصحاب المحلات التجارية يستغلون الأرصفة أمام محلاتهم، ويضعون عليها بضائعهم أو جزءًا منها؛ مما يعرقل حركة المشاة مع علمهم أن ذلك ممنوع.
ومن العادات التي تشوَّه طرق المدن قلة سلال النُّفايات؛ ما يدفع البعض لإلقاء مهملاتهم في الشوارع في منظر غير حضاري إطلاقًا، مع غياب تطبيق العقوبات بحق المخالفين، كما يفعلون في كثير من الدول، كسنغافورة مثلًا.
وأخلص إلى القول إنَّ جانبًا مهمًا من أنسنة المدن يتعلق بسلوك السكان، ومدى اتباعهم للأنظمة المرورية والبلدية، والحفاظ على البيئة المكانية.
في هذا السياق، تتفق د. هند الخليفة مع د. خالد؛ فالعوامل التي تؤثر سلبيًّا على خلق التجانس بين السكان والمدينة في مجتمعنا عديدة. وأضيف على ما ذكرته، أن العلاقة تظلُّ سطحية واستهلاكية، فالارتباط بالمكان لا يحمل التفاعل الطبيعي والتلقائي في الفضاء العام، وحياة الشارع المشتركة مفقودة في وقتنا الحاضر؛ بعكس ما كانت عليه العلاقة في السابق مع الأزقة، والأسواق، والباعة، والجيران. صحيح أنها لم تكن مدنًا بالشكل الحضري المعاصر، إلا أنها لم تكن أيضًا قرى أو بادية. وبالمقابل، فإن العديد من المدن الحديثة في الدول المتقدمة تعطيك الإحساس بأن الإنسان يأتي أولًا، وتعطيك فضاءاتها ومقاهيها ومعالمها الشعور بالجمال والراحة التي قد تصل أحيانًا إلى الشعور بالانتماء إلى بعض عناصر تلك الثقافة.
الذاكرة الجماعية هنا تفتقد إلى التفاعل المشترك مع المدن، وهو جزء من تاريخ الإنسان والمكان.
أنسنة المدن هي الأصل:
أورد أ. عبد الله الضويحي العديد من الآيات القرآنية، منها: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾[سورة سبأ: آية18]، التي تجعله يميل إلى أن الأصل هو “أنسنة المدن”، لكننا “مدَّنا الإنسان”.
وفي ظنه أيضًا، وبناءً على ذلك، أن مدننا كانت مؤنسنة أو على الأقل قابلة للأنسنة، وجاءت الطفرة الأولى في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي لتقضي على بوادر الأمل، ولا أعرف مبررًا لمسؤولي تلك الفترة رغم أنهم كانوا مؤهلين أكاديميًّا ودارسين في دول ومدن عالمية لإطلاق الرصاصة.
تحولت كل المدن إلى بيوت إسمنتية وجدران تفتقد حتى مقومات الحياة الطبيعية، وحتى مشروع قلب مدينة الرياض، على سبيل المثال، ومركز الملك عبد العزيز التاريخي يدخل في هذا الإطار عندما طمس هوية الرياض القديمة التي نسعى الآن لتدارك ما تبقى منها (حي العليا- على سبيل المثال- والملك فهد)، وتعتبر من أحياء الطفرة شوارع ضيقة وبيوت متراصة ذات نمط واحد، إذ خرجوا من بيوت مساحتها 100 أو 150م مربع وشوارع عرضها 3 أمتار، إلى بيوت مساحاتها 450م وشوارع عرضها 10م، فظنوا أن مضاعفة المساحة أربع مرات كافية، ولا زالت المخططات تعاني؛ لأن مَنْ يخطط- كما قال م.خالد- رأسمالي يهمُّه الحصول على أكبر مردود مالي من المخطط. وجاءت فترة تم نزع المخصص كحدائق وتوزيعها، والإنسان نفسه يفتقد لهذه الثقافة، فهو يبني على مساحة تتجاوز الألفي متر لا تجد فيها (روح الأنسنة). طبعًا، كانت هناك محاولات لإنشاء الأحياء المغلقة، لكنها لم تنجح أو تُعمم؛ لأسباب لا مجال للحديث عنها الآن.
وهناك نقطة مهمة أشار لها م.خالد بسرعة، لكن د.عبد الله بن ناصر الحمود أفاض فيها، وجعل (أنسنة الإنسان) أولًا. وهذا ما يقودني لتساؤل: ألا يمكن أن تنعكس أنسنة المدن على أنسنة الإنسان؟ سآخذ مثالًا على ذلك: مشروع الأمير عبد العزيز بن عياف عندما كان أمينًا لمدينة الرياض الذي كان يهدف لإنشاء 100 حديقة مفتوحة بمضمار مشي، ألم ينعكس على المجتمع، وبثَّ ثقافة المشي؟ هذا المشروع توقف بعد مغادرته الأمانة، وهو ما يعني افتقادنا للعمل المؤسسي، وأن أنسنة المدن لا يمكن أن تتم في ظل مدن وإدارات تفتقد للعمل المؤسسي.
عوائق إرادية ولا إرادية أمام أنسنة المدن:
ذكر د. حميد الشايجي أن هناك جوانب إرادية وجوانب لا إرادية تؤثر في جهود أنسنة المدن:
فمن العوائق الإرادية: الثقافة الحياتية العامة في المجتمع، وما تحويه من قيم وعادات وتقاليد، وممارسات تنظيمية وإدارية واجتماعية.
أمَّا العوائق اللاإرادية فهي عوامل في البيئة الطبيعية للمدن من تضاريس، وطقس، وأحوال جوية. فالأجواء الحارة جدًّا، والغبار، والرطوبة العالية، والبرد القارس، وشح المياه، وقلة المياه الجارية، وغيرها من العوامل الطبيعية؛ كل ذلك يعتبر من المعوقات الأساسية لأنسنة المدن، وهذه تحتاج إلى أفكار مبتكرة لمواجهتها.
الفردية من عوائق أنسنة المدن:
في تصوُّر د. مساعد الحيا، فإن أنسنة المدينة، أو جودة الحياة، أو جودة المدن، تظل مصطلحات حالمة وواعدة في مجتمعاتنا التي تعيش جوعًا شديدًا لأنسنتها.
تظلُّ طبيعة ظروفنا الجوية والاجتماعية والإدارية والتنظيمية، وأيضًا السياسية، هي أحد المؤثرات في جعلنا نعيش مدنًا مقولبة، يتم فيها اتخاذ القرارات المهمة بطريقة فردانية غير مؤسسية. وهذه الفردية هي التي جعلتنا مدنا متباينة تقترب في بعضها الأنسنة حين يوجد لدى المسؤول في المدينة الإخلاص، وحب تطوير مكونات المدينة المجتمعية، ويتم منحه صلاحيات تتيح له ذلك.
الشفافية في إدارة المال العام لكل مدينة، والمشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار، مهمة جدًّا في البناء الاستراتيجي لكل مدينة وقرية وفقًا لطبيعة الثقافة فيها، بدلًا من الكنتونات التي يتم فيها صهر المدن جميعها.
ويظلُّ الاهتمام بأنسنة الإنسان أهمُّ وأولى من أنسنة المدينة. كما أنه الطريق والممهد إليها، فالإنسان هو الذي يستخدم مكونات الأنسنة، ويوظِّفها ويحسن التعامل معها إن كان يتسمُّ بالأنسنة في تعاملاته، وإن كان على النقيض من ذلك فلن تجد للمدينة من الأنسنة سوى مظاهر يستخدمها البعض بطرق سلبية تشوَّه المدينة وساكنيها.
أنسنة الإنسان تحتاج الكثير من الأنظمة الفاعلة والحازمة التي تصنع النظام في المدينة، وتعاقب كلَّ مرتكبي المخالفات المسيئة والمشوهة لوجه المدينة، وكذلك تصنع الكثير من الخدمات، وتُحاسب كلَّ من يسيء استخدامها، وبخاصة التي تجلب الأنس والسعادة للطفل والمرأة والشاب وكبار السن. الإنسان لدينا حين يجد نظامًا صارمًا وبيئة تحفزه على الالتزام يعمل ويجتهد في المحافظة على كلِّ الجوانب التي تسعده، وتجعل الحياة جميلة.
تحسين مستوى البلديات:
ذكر م. خالد العثمان أن السؤال الذي يتبادر إلى أذهان الكثيرين دائمًا، هو: لماذا هذا التباين الصارخ في جودة البيئة العمرانية بين الجبيل الصناعية والجبيل البلد، وبين ينبع الصناعية وينبع البلد؟ تباين قدرات، وموارد، وإمكانات، وتشريعات الإدارة البلدية أنتجت مستويات متباينة، بالرغم من تطابُق المواقع. من جانبه يرى أ. محمد الدندني أن الأمر يحتاج إلى تحسين مستوى البلديات.
بينما أشار د. مشاري النعيم إلى أنه يقترح تغيير مسمى البلدية إلى إدارة المدينة، وأنه لو تمَّ التركيز على هذا الأمر إعلاميًّا فسيكون له تأثير.
أضاف م. خالد العثمان، بالرغم من أن هذا الاقتراح مقبول، إلا أن المطلوب أكثر من مجرد تغيير اسم، بل تغيير منهج وقدرات وموارد، وتأهيل بشري، وثقافة عامة.
وأضاف م. محمد الشهري: إن مفهوم إدارة المدينة هو التوجُّه الصحيح، وله علاقة كبيرة بإعادة هيكلة الإدارة المحلية في المدن، وارتباطها ببعضها إداريًّا وماليًّا، وهذا غير متوفر، والوضع الحالي غير صحي.
كما أن المقارنة بين الحبيل الصناعية والبلد غير واقعي، فالجبيل الصناعية أعتبرُها مشروعًا تطويريًّا واحدًا (المالك، والمُشرِّع، والمطور، والممول)؛ وبالتالي فإن إدارة المدينة وتنميتها واضحة منذ البداية.. إلخ. أما الجبيل البلد فالحديث مختلف كليًّا، فهي كسائر المدن السعودية من حيث المشاكل الحاصلة فيها.
بعض احتياجات أنسنة المدن:
تساءلت أ. علياء البازعي: لماذا لا توجد مواقف عامة من عدة طوابق في الأماكن المزدحمة، ووسط المدينة، مثل: الشريط الذهبي، وشارع التحلية، وغيرها؟ علق على ذلك د. خالد الرديعان بأن هذا السؤال يُوجَّه للمستثمرين وملاك الأراضي؛ فمواقف السيارات لها مردود اقتصادي.
من جانبه أكد د. عبد الله بن صالح الحمود، أننا طلبنا من الأمانة منذ زمن طويل، أن تسمح للمستثمرين العقاريين رفع أبنيتهم إلى أعلى من الحد المسموح به سابقًا، سواء في الشريط التجاري والواقع بين طريق الملك فهد وشارع العليا، أو غيره؛ شريطة أن تتوافر مواقف سيارات ذات أدوار متعددة على غرار ما يحدث في دبي ومدن أخرى، وما عمل لبرج مصرف الراجحي.
وأضافت د. هند الخليفة أن من المصطلحات التي تشير إلى علاقة الإنسان بالمدينة، المدن الصديقة للأطفال. وهو يشير إلى أن تخطيط المدن يأخذ في الحسبان احتياجات الأطفال، فيتم تصميم المدن لتوفِّر السلامة والأمن والألفة والمرح للأطفال. أعتقد أن مدننا تفتقد هذا الجانب بشكل كبير.
وفي هذا السياق، تساءل م. خالد العثمان: كيف يمكن أن تكون مدننا مؤنسنة، في حين أنها تفتقر إلى أبسط فضاءات الأنشطة الإنسانية؟! الرياض- مثلًا- تفتقر لحديقة عامة مركزية على غرار هايد بارك، وسنترال بارك، وغيرها.. هذه الحدائق هي رئات المدن، ومكان لممارسة العديد من الأنشطة المتنوعة. علَّق د. خالد الرديعان بأنه يوجد متنزه سلام وسط الرياض، لكن موقعه لا يخدم بقية الأحياء. المتنزه كبير جدًّا وجميل، ويعيبه الموقع فقط.
مشكلة أراضي المتنزهات:
أشار م. خالد العثمان إلى أنه إبان عمله في هيئة تطوير مدينة الرياض مديرًا لمشروع متنزه الرياض العام، الذي يحتل مكان مطار الرياض القديم. هذا الموقع تنازعت معظمه منح الأراضي واستخدامات القاعدة العسكرية، وربما قريبًا يرى المشروع النور بما تبقى من الأراضي، حوالي 5 مليون متر مربع. مدينة جدة بالطبع خسرت تلك الفرصة وانتهت أرض المطار القديم بعد أن تخاطفته منح الأراضي. وهذه مشكلة عميقة في المملكة كما يرى د. مشاري النعيم. أضاف م. خالد؛ المشكلة أن الفضاءات الموجهة للترفيه والأنشطة الاجتماعية كانت على الدوام تعتبر أمرًا ثانويًّا في المعايير التخطيطية، حتى المساحات التي تُخصَّص للحدائق وممرات المشاة لا تلقى تنفيذًا في الموقع بالشكل اللائق الذي يسمح لاستخدامها كما يجب. والسبب في ذلك- كما يرى د. مشاري النعيم- أن الحياة العامة في السابق كانت ضمن العيب الاجتماعي.
توطين المناطق الرعوية:
أشار أ. محمد الدندني إلى أن هناك مدنًا بُنيت بسبب مشاريع، أو نتيجة تطوُّر آني؛ كمدن خط أنابيب التابلاين، لا ماء ولا طبيعة أساسًا، ولو أن كثيرًا من مدننا ينقصها الماء. أيضًا هناك قرى ليست سوى أقل من هجرة أساسها مورد ماء للبادية، ومدرسة، وقليل من الدوائر الحكومية، بعضها لا تستحق خطًّا معبدًا. مكلفة، ولا موارد أو مشاريع مستدامة، لمَ لا تُجمع في مدن قريبة، خاصة أن ساكنيها لا يستفيدون من التعليم الجيد أو مستشفى لائق؟
أكد د. خالد الرديعان أن هذه المدن كانت مناطق رعوية للبادية، وبوجود مضخات النفط للتابلاين توطن البدو حول وفي تلك المدن، ومعظمها نشأ في الخمسينيات من القرن العشرين. من وظائفها الأخرى أن غرضها كان جيوبوليتكيًّا لتثبيت حدود المملكة الشمالية والشمالية الشرقية، عدا ذلك هي بالفعل مكلفة اقتصاديًّا، وبعضها شبه مهجور، ومن ذلك القيصومة على سبيل المثال.
ويرى د. مشاري النعيم أن إعادة التوطين له مخاطر اجتماعية كبيرة، أضاف أ.محمد الدندني أن ذلك صحيح، ولكن يمكن أن يتم بالتدريج. حيث يمكن جمع كل المدن الصغيرة والقرى في التابلاين، مثلًا في وادي السرحان حيث الماء وفير، وهنا تخلق منطقة كبيرة.
التوصيات:
1. الاهتمام بالتخطيط العمراني المناسب، على الأقل في المناطق الجديدة؛ للأخذ بمفهوم أنسنة المدينة.
2. توحيد الهوية العمرانية، وخصوصًا في مكة المكرمة.
3. اقتراح نماذج عمرانية ملائمة للبيئة في المساكن الجديدة تعزز مفهوم الأنسنة.
4. عمل برامج توعوية للناشئة، تركز على حفظ البيئة، وخلق الولاء عندهم للمكان.
5. تأسيس لجان محلية لأصدقاء المدينة، عبر مؤسسات المجتمع المدني باسم: أصدقاء المدينة، ويكون لها فروع محلية في المدن والقرى.
6. إدخال مفهوم أنسنة المدن ضمن مفاهيم بعض المواد الدراسية؛ كمادة الجغرافيا، والتربية الوطنية، والتربية الفنية.
7. حث الجامعات لدراسة الأمكنة الصغيرة small space دراسة شاملة عمرانيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، وتطويرها وربطها بالأنشطة المحلية.
8. إشراك كليات العمارة والتخطيط في الجامعات السعودية، لبناء مشاريع بيئية تسهم في بناء منظومة للأنسنة والمؤنسة.
9. الإفادة من بعض التجارب الناجحة في الحفاظ على الأماكن الأثرية والقديمة، وجعلها مزارات سياحية؛ كنموذج مدينة الغاط القديمة، وقلعة زعبل بسكاكا.
10. إطلاق مبادرات لتحسين وتزيين المدن بالشراكة مع القطاعات الخاصة، على غرار مبادرة “نقوش الشرقية”، تستهدف إحياء تلك الأمكنة.
11. تنظيم حملات في الأحياء وعلى مستوى المدينة، لنشاطات تركز على الاهتمام بالمدينة (يوم للنظافة، ويوم للتشجير مثلًا)، تخلق روح ونفس الانتماء للمدينة Sense or a feeling of a community.
12. إتاحة المشاركة المجتمعية وفسح المجال للمواطنين في صنع مدنهم (التصميم التشاركي).
13. إيجاد استراتيجية على المدى البعيد، تهدف إلى بناء بيئات يعود نتاجها إلى ظهور معطيات بيئية بمفهوم الأنسنة والمؤنسة الحقيقية.
14. إطلاق 3 مشاريع لأنسنة المدن في 3 مدن متنوعة في المملكة، ولتكن (الرياض، جدة، أبها) ولتكن بمثابة pilot projects يتم فيها تطبيق أفكار وعناصر أنسنة المدن، وقد تكون على نطاق (حي واحد في كل مدينة).
15. تبني مفهوم المدن الصديقة للأطفال؛ لإعادة تخطيط المدن، وتوزيع الخدمات بما يتوافق مع احتياجات هذه الشريحة المهمة في المجتمع.
16. إشراك مؤسسات المجتمع المدني في مشاريع أنسنة المدن، بما يضمن استدامة هذه المشاريع، وارتباطها بالمجتمع المحلي.
17. تفعيل مفهوم الإدارة المحلية المتكاملة في المدن لتحسين نوعية الحياة، وتحقيق أعلى درجات التكامل للتنمية الاجتماعية والمكانية لسكان تلك المدن.
الملخص التنفيذي:
القضية: (مدن مؤنسنة…عندما يتهيأ العمران للإنسان).
يعتبر موضوع أنسنة المدن من المفاهيم الجديدة والمهمة في العمران، والتي تتماشى مع تطلعات رؤية المملكة 2030، وخاصة فيما يتعلق ببرنامج جودة الحياة التي تُعدُّ أحد أهم محاور الرؤية على الإطلاق.
وطرحت الورقة فكرة أن كلمة مؤنسنة أكثر تعريفًا للأنسنة من مدن إنسانية، وأن هناك مجموعة خصائص لآلية أنسنة المدينة، هي التي تصنع جودة المدينة، وتتمثل في: التشجيع على الحياة الصحية النفسية والبدنية، وأنها تتيح المشي والتريض وممارسة الحياة العامة بشكل ملائم، وأن تكون اقتصادية، وأن ترتبط بتراثها وتاريخها وتعتبره المصدر المهم، وأن تشجع التعدُّد الثقافي، وأن تكون احتوائية ولا تفرِّق بين سكانها على مستوى العرق والطائفة والجنس، وأن تفتح المكان العام لذوي الاحتياجات الخاصة، كذلك يجب أن تشجع على الابتكار والإبداع، وتخلق فرص الالتقاء الاجتماعي والثقافي، ويفترض أنها مدن ذكية تساعد سكانها على التمتع بها دون مساعدة أحد. كما أن تحقيق هذه الخصائص له تبعات اقتصادية كبيرة ترتبط بإعادة التجديد الحضري، وله تبعات ثقافية توعوية ترتبط بإعادة بناء المنظومة الأخلاقية في المجتمع.
وأقرت الورقة بأن التحدي كبير وباهظ التكاليف، ويتطلب ديموقراطية عمرانية غير متاحة ولا حتى جزئيًا؛ وبالتالي فإن الحديث عن الأنسنة هو نوع من النقد الفعَّال لكل آليات العمران الحالية ومناهج اتخاذ القرار فيها، فجودة الحياة فكرة حالمة لكن لن تتحقق بمعطيات مدننا الحالية. وأضافت أن أنسنة المدن يمكن أن تحدث بالتدريج، وهو ما يحدث الآن في الرياض، وليس بالضرورة أن تتحول المدينة دفعة واحدة إلى مدينة مؤنسنة.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة في أن مفهوم الأنسنة والتخطيط الناجع لتحقيق مفهوم جودة الحياة يجب أن يأخذ في اعتباره مختلف مستويات التخطيط والتنمية في المدن والحواضر العمرانية. كما أن البيئة المكانية المناسبة هي الحاضنة لأي تنمية عمرانية وبشرية؛ لذلك تكمن الأهمية القصوى في أن تتوفر في المدينة المقومات البيئية، والعناصر التخطيطية والخدمية المناسبة، بحيث يستطيع الإنسان ممارسة نشاطه وأمور حياته اليومية بالشكل الحضاري والآمن، ويصبح بذلك عنصرًا منتجًا وفعَّالًا في أداء دوره الإنساني والتنموي.
بالإضافة إلى أن المشكلة الحقيقة التي تعاني منها المدن السعودية هي في إدارة التنمية المحلية في المدن؛ لذا فإن موضوع أنسنة المدن يجب أن يكون هو المحور الرئيس الذي تقوم عليه مفاهيم إدارة التنمية المحلية للمدن، ومن ضمنها جودة المدينة. كما يجب تفعيل دور المجتمع المدني والرأي العام المجتمعي في قضايا التخطيط العمراني إن أردنا بالفعل الوصول إلى مدن مؤنسنة، وتحقيق مفهوم جودة الحياة.
وناقشت المداخلات التي تمت حول موضوع القضية أن التغيير بهدف الأنسنة يجب أن يبدأ بثقافة البشر ومتواضعاتهم قبل المكان الذي يقيمون فيه، فأنسنة المدينة كفكرة ترتكز على السلوك الإنساني، لكنها في الوقت نفسه ترى أن هناك حلولًا فيزيائية أفضل من غيرها تغذي السلوك الإيجابي في المدينة.
وذهب المناقشون إلى أهمية الأخذ في الاعتبار عادات وتقاليد السكان، ونمط تجاورهم ومتطلباته، إذ لا يكفي أن نوكل الأنسنة إلى مهندسين رغم أهمية دورهم بالطبع؛ بل لابد من وجود الاجتماعيين للإفادة من مدخلاتهم في عملية الأنسنة. كما أن موضوع أنسنة المدن يحتاج إلى حلول غير تقليدية لتحقق المواءمة بين متطلبات العصر الحديث ومتطلبات الحياة الإنسانية الصحية؛ لذا فإن المهندسين المعماريين يقع على عاتقهم دور كبير جدًّا في هذه الأنسنة، وفي بناء المدن عمومًا.
وحول المردود الاقتصادي لأنسنة المدينة، أشارت المداخلات إلى أن وجود بنية تحتية جيدة في المدينة، ووفرة المرافق؛ سيجعل المدينة أكثر جاذبيةً لمَن هم خارجها، وستبدو مكانًا مناسبًا لعدد كبير من الاستثمارات التي يعززها تشريعاتها، ومرونة العمل فيها بعيدًا عن بيروقراطية مدن العالم العربي.
وأشارت المداخلات إلى أن جزءًا من التغير يكون الإحساس بالمسؤولية عند تصميم البنيات، فجانب مهم من أنسنة المدن يتعلق بسلوك السكان، ومدى اتباعهم للأنظمة المرورية والبلدية، والحفاظ على البيئة المكانية؛ لذا فإن من العوائق التي تقف أمام أنسنة المدن: الثقافة الحياتية العامة في المجتمع، وما تحويه من قيم وعادات وتقاليد وممارسات تنظيمية وإدارية واجتماعية، وكذلك عوامل في البيئة الطبيعية للمدن من تضاريس وطقس وأحوال جوية، بالإضافة إلى الفردية.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: الاهتمام بالتخطيط العمراني المناسب، واقتراح نماذج عمرانية ملائمة للبيئة في المساكن الجديدة تعزِّز مفهوم الأنسنة، وإدخال مفهوم أنسنة المدن ضمن مفاهيم بعض المواد الدراسية، وإشراك كليات العمارة والتخطيط في الجامعات السعودية، لبناء مشاريع بيئية تسهم في بناء منظومة للأنسنة والمؤنسة، وإطلاق مبادرات لتحسين وتزيين المدن بالشراكة مع القطاعات الخاصة، تستهدف إحياء تلك الأمكنة، وإيجاد استراتيجية على المدى البعيد تهدف إلى بناء بيئات يعود نتاجها إلى ظهور معطيات بيئية بمفهوم الأنسنة والمؤنسة الحقيقية.
القضية الرابعة:
الورقة الرئيسة: منتديات الحوار الفكري ودورها في التنمية.. ملتقى أسبار أنموذجًا
- الكاتب: د. إبراهيم البعيز.
- المعقبون:
د. منصور المطيري.
أ. آمال المعلمي.
د. عبد الله العساف.
مدير الحوار: د. عبد الله بن صالح الحمود
مقدمة:
تناولت قضية الأسبوع موضوع منتديات الحوار الفكري ودورها التنموي، من خلال تسليط الضوء على نموذج ملتقى أسبار. انطلاقًا من كون الحوار قضية إنسانية، وأحد أهم احتياجات الإنسان المعاصر، وهو شأن عام يهمُّ جميع فئات المجتمع لتحقيق التواصل الإنساني الذي يوفِّر بيئة إيجابية لتبادل الخبرات والمعارف والمهارات، بما يفضي إلى التفاهم والتعايش والتكامل، في وقت تعاني فيه المجتمعات والحضارات من عزلة اجتماعية وشح في التواصل، على الرغم من النهضة التكنولوجية التي يشهدها العالم في مجال الاتصال. ولا شك أن تجربة الحوار الثرية في ملتقى أسبار أسهمت في تكوين نظرة وطنية حضارية تمكِّن من إدراك الحاضر والمستقبل، لتؤدي هذه النظرة الوطنية دورها في منظومة رؤية 2030.
لذا كانت قضية (منتديات الحوار الفكري ودورها في التنمية.. ملتقى أسبار أنموذجًا) من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدَّمها د. إبراهيم البعيز، وناقش فيها ما يمكن أن تحققه هذه المنتديات في الجانب التنموي. وتمَّ التعقيب على موضوع الورقة، وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (أهمية الحوار في المجتمع، في البدء كان الحوار، الحوار وقضايا التنمية، وضع ضوابط للمنتديات الحوارية، منتديات الحوار والتأثير المتبادل مع المجتمع، ربط الحوار الفكري بمفهوم التنمية الشاملة، الجامعات ودورها في تفعيل ثقافة الحوار، الصالونات الأدبية في مقابل ملتقى أسبار، قراءة في أحوال الصالونات الثقافية، ملتقى أسبار امتداد للصالونات الثقافية، المنتديات والحوارات الافتراضية، مستقبل الحوار الوطني في ملتقى أسبار وخارجه، الحوار المجتمعي كقيمة مضافة، التنظير في الحوارات الفكرية، ثقافة الحوار والضوابط المقننة في البيئات الحوارية، سمات ملتقى أسبار، مهددات سلامة بيئة الحوار، الحوارات الرسمية وغير الرسمية، الحوار وتعزيز ثقافة الاحترام). وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديد من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نصُّ الورقة التي كتبها دكتور/ إبراهيم البعيز، وعقَّب عليها الدكتور/ منصور المطيري، والأستاذة/ آمال المعلمي، والدكتور/ عبد الله العساف.
كتب د. إبراهيم البعيز في ورقته الرئيسة عن (منتديات الحوار الفكري ودورها في التنمية.. ملتقى أسبار أنموذجًا): أعتقدُ أن العلاقة بين الحوار والتنمية علاقة جدلية: هل الحوار يقود إلى التنمية، أم أن التنمية هي التي تُوجِد الظروف المناسبة للحوار؟
كنتُ إلى وقت قريب أكثر ميلًا إلى القول بأن الحوار نتيجة للتنمية، وواحد من تجلياتها أكثر من أن يكون سببًا لها. ومن الشواهد على ذلك: أن الحوار سمة من سمات المجتمعات المدنية الحديثة، ومؤشر على نضجها السياسي. والدول المتخلفة كانت ولا تزال إلى حد ما عاجزة عن إيجاد الظروف والبيئة المطلوبة للحوار، حيث تفتقر إلى المؤسسات العامة أو الخاصة (مؤسسات المجتمع المدني) المهتمة والقادرة على تبني مشاريع ومبادرات للحوار في الشأن العام، بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية.
لكن أتى الإنترنت وبما وفرَّه من قنوات للاتصال ومنصات للتواصل الاجتماعي، ليساعد المثقفين والنشطاء والمهتمين بالشأن العام على تجاوز إشكالات التوجس من الرأي المخالف والحظر عليه. كانت الإرهاصات الأولى في أواخر تسعينيات القرن الماضي بظهور المنتديات الإلكترونية، وتلى ذلك ظاهرة المدونات، وأخيرًا منصات التواصل الاجتماعي، ممثلة بشكل خاص في تطبيقات فيسبوك، وتويتر، وواتساب.
يمثل ملتقى أسبار تجربة رائدة في استثمار منصة للتواصل الاجتماعي (واتساب) لإنشاء منتدى للحوار الفكري في قضايا الشأن العام. كانت البداية في شهر إبريل 2015 بفكرة مجموعة حوارية، لكن تطورت هذه الفكرة بما تمَّ لها من تنظيم، لتتحول من مجموعة تقليدية فتصبح مشروعًا يتسم بالعمل المؤسسي القائم على التنظيم والمتابعة الإدارية المستمرة.
وأتساءل: هل لهذا المشروع دور تنموي؟ الإجابة عن هذا السؤال تستلزم مراجعة لما تم إنجازه خلال الأعوام الثلاثة من عمر الملتقى (إبريل 2015 – إبريل 2018).
- ناقش الملتقى خلال ثلاث سنوات 197 قضية، توزعت بين 22 مجالًا، من أبرزها:
– 32 قضية اجتماعية 16%.
– 30 قضية اقتصادية 15%.
– 27 قضية سياسية 14%.
– 25 قضية إعلامية 13%.
– 15 قضية تنموية 8%.
– 15 قضية عن التعليم والبحث العلمي 8%.
– 14 قضية عن الإرهاب 7%.
– 9 قضايا ثقافية 5%.
- شارك في هذه الحوارات 167 عضوًا في الملتقى (بعضهم انسحب من الملتقى، وعددهم الحالي 81)، وكان متوسط عدد المشاركين في القضية 17، وهناك قضايا تجاوز عدد المشاركين فيها 30 عضوًا. ومن أبرز السمات الديموغرافية لأعضاء الملتقى:
– 71% رجال – 29% نساء.
– 17 % دون 40 سنة.
– 59% 40 – 59 سنة.
– 24% 60 سنة وأكبر.
– 63% حاصلون على الدكتوراه، و22% ماجستير، 15% بكالوريوس.
… ومن أبرز تخصصاتهم:
– 26 إعلام 22%.
– 17 دراسات اجتماعية 15%.
– 13 تربية وتعليم 11%.
– 10 هندسة 9%.
– 9 إدارة 8%.
– 7 اقتصاد 6%.
– 6 طب وعلوم صحية 5%.
يتم نشر هذه الحوارات في تقارير شهرية بنسخ ورقية يتم توزيعها على الجهات ذات العلاقة، مع رفعها على موقع الملتقى على الإنترنت، وإمكانية تنزيلها بصيغة pdf. وصل مجموع القراء لكل التقارير على الإنترنت 50980 بمعدل 1378 للتقرير، ووصل مجموع مرات التنزيل لكل التقارير بصيغة pdf 4485 بمعدل 121 للتقرير.
وختامًا؛ يمثل الحوار في الشأن العام مصدرًا من مصادر الثراء الثقافي، سواء على المستوى الفردي أو على مستوى المجتمع. هل أسهم ملتقى أسبار في تحقيق ذلك؟ لعل فيما تمَّ عرضه من بيانات يسهم في إثراء الحوار والنقاش للإجابة عن هذا السؤال.
وكان تعقيب د. منصور المطيري: كل مصدر متاح للتعبير عن الرأي والبوح به يساهم في زيادة رأس المال الفكري إن جاز التعبير. لكن المطلوب ليس البوح أو التعبير عن الرأي فقط، بل تأتي ضرورة التأكد من كون هذا الرأي رصيدًا حقيقيًّا يساهم في زيادة رأس المال الفكري هذا، وليس جرعةً مسمومة تجعل المتلقى (سواء أكان المجتمع بأكمله، أم مؤسسة من مؤسساته، أم فردًا من أفراده) يلزم فراش المرض لفترة، قبل أن يعاني ويدفع ثمنًا باهظًا للتخلص من هذه السموم حالما يتنبه لها.
ومن هنا تأتي أهمية المراجعة للأفكار بمختلف أساليبها، ومن أهم أساليب المراجعة الحوار، ومن أساليب الحوار التي ظهرت في أوقات متباينة المنتديات الحوارية. والمنتديات الحوارية حاليًّا (كما ألاحظها) انقسمت إلى قسمين من ناحية الفضاء الذي تُعقد فيه:
• منتديات افتراضية: وهي التي تُعقد عبر الإنترنت، وفي شبكات التواصل الاجتماعي.
• منتديات حقيقية واقعية: وهي التي تُعقد في البيوت، أو في مراكز بحثية وثقافية.
ومن ناحية موضوعات الحوار وقضاياه التي تطرحها هذه المنتديات، فيمكن للملاحظ أن يصنفها إلى أقسام:
– منتديات متخصصة: وهي المنتديات التي تعقدها جهات مهتمة بتطوير مفاهيمها وإجراءات عملها، وأقرب مثال على ذلك المنتديات التي تعقدها الجمعيات العلمية والمراكز البحثية المتخصصة. ويبدو لي أن كلَّ الفروع العلمية تمارس الحوار تحت ضغط الحاجة للاستكشاف، وتبادل الآراء وتطوير الذات؛ وكمثال: فإن المؤرخين واللغويين والمحامين والقضاة والإعلاميين والاقتصاديين والفقهاء وغيرهم لهم جمعيات ومواقع يمارسون من خلالها الحوار. وتتم هذه الحوارات عبر لقاءات دورية وعبر الإنترنت أيضًا، ومن هذا النوع الأندية الثقافية التابعة لهيئة (وزارة) الثقافة، وهي أندية ذات ميزانيات كبيرة، ولكنها ذات مردود ضعيف، سيطر عليها الهوس بالنصوص الأدبية.
– منتديات خاصة تُعقد في البيوت: وتتميز بالنخبوية، وتعدُّد الاهتمامات والمواضيع المطروحة، وهي التي تُسمَّى الصالونات الثقافية، وهي النسخة الأقدم، وقد تتبعها بعض الدارسين فوجد أن فكرتها قديمة سبق المسلمون إليها، ثم انتقلت إلى الغرب بدءًا بإيطاليا ثم فرنسا التي انتعشت فيها هذه الصالونات، ثم عادت إلى العرب في عصر النهضة الحديث، ثم انتشرت في الحجاز ومنه إلى باقي أنحاء المملكة، وهي كثيرة جدًّا يجمع اسمها في العادة بين شيئين: اسم صاحبها واسم اليوم الذي تُعقد فيه، فيقال: خميسية الجاسر، وأحدية المبارك، وهكذا.. وفي هذه الصالونات يكون الحضور كالضيوف على صاحب الصالون.
– منتديات عامة: يشارك فيها الجميع، ويمكن أن تطرح أيَّ موضوع، وهي تتواجد على منصات الإنترنت.
وفي نظري، أن ملتقى أسبار منصة حوارية مميزة في فضائها، حيث استخدمت شبكات التواصل في جَمْع المتحاورين، ثم قامت بنشر إنتاجهم، وعرضه للاطلاع ورقيًّا وإلكترونيًّا، وفي الوقت نفسه جمع الملتقى أصحاب تخصصات مختلفة للتحاور حول قضايا لا تكون مغرقة في التخصص وليست بعيدة عنه، مما شكَّل زادًا معرفيًّا للمتحاورين قبل غيرهم.
والحقيقة أنه يمكن إشراك الجمهور في الحوار الأسبوعي بشرط تنظيم هذا الإشراك، وأقترحُ في هذا الصدد طرح القضية الأسبوعية على موقع المنتدى بالتزامن مع طرحها على أعضاء الملتقى في (القروب)، ثم توجيه دعوة للجمهور المهتم للمشاركة، على أن تُنشر أفضل المشاركات وأجودها في التقرير الشهري.
وفي مسألة الحوار ذاته، تبرز القضية الشائكة التي طرحها د. إبراهيم، وهي: هل الحوار إفراز من إفرازات المجتمع الواعي المتطور، أو أن الحوار ضرورة لظهور ووجود المجتمع المتطور الواعي؟
من وجهة نظري، إن الموضوع كالعملة ذات الوجهين، فالمجتمع الناضج الواعي يشجع الحوار؛ لأنه يشعر بأهميته ودوره الإيجابي، كما أن الحوار يشكل وعي المجتمع، ويزيد من نضجه عبر فتحه آفاقًا تنغلق أمام الرأي المتفرد الذي لا يحاور. والحقيقة التي يلمسها العموم أن الحوار يزيد من وعي الفرد والمجتمع، ويُولِٓد الجديد من الأفكار، ويدفع باتجاه النشاط والحركة؛ لأن غاية الفكر تحسين الحياة وتحصيل المنافع والمصالح، فالفكرة المجردة التي تبقى حبيسة الذهن تكون عبئًا على حاملها وعلى الناس مِن حوله؛ ولهذا السبب وحده رُبط الإيمان (اعتقاد) بالعمل الصالح في الإسلام، فالإيمان الذي هو معتقدات غايته الدفع إلى العمل الصالح.
ولكي يساهم الحوار في زيادة وعي المجتمع، وفي تراكم رأس ماله الفكري لابد من شروط، لعل أهمها ما يلي:
- مساحة للحرية المنضبطة، وانتفاء الخوف بأشكاله المختلفة:
في أجواء الخوف لا يستطيع الفرد أن يقول كلمة الحق التي يعتقدها. وفي بيئة الخوف تضطرب بوصلة الفكر وتتحرك تبعًا لأهواء الأقوياء، ويغلب النفاق والتملق، وتتسلط على الفكر الحجج الذرائعية التي تبرر المواقف الخاطئة. وباختصار: فالخائف لا رأي له، ولن يكون لمجتمع هذا حاله أيُّ رأس مال فكري حقيقي؛ لاختفاء مناخ وتربة الحوار المنتج المبدع.
- وجود مرجعية سليمة للعقل:
الحوار مرتبط بالفكر، والفكر مرتبط بالعقل، والعقل مرتبط بأفكار قبلية ومسلمات مستبطنة ومخفية. التجربة الغربية في نظري ملهمة في كل الاتجاهات، أبدع العقل الغربي في قضايا، وأخفق في قضايا أخرى، وسبب الإخفاق والإبداع وجود المرجعية التي ينطلق منها الفعل العقلي، أو عدم وجودها.
في البحوث التطبيقية أبدع العقل الغربي الحديث؛ لاعتماده التجربة كمرجعية، وفي المسائل الأخلاقية والوجودية والغائية فشل فشلًا ذريعًا، وانتهى إلى أن أصبح عقلًا أداتيًا، أي أصبح أداةً لتبرير أي واقع سائد، متجاهلًا الغاية والمعنى، فأصبح عقلًا تبريريًّا؛ فهو يبرر التدمير، والمذابح، والشذوذ والانحلال، ونهب ثروات الشعوب (كما يبرر غير هذه الأمور). ومعياره أن كل شيء تمارسه شعوبه، وترغب فيه، ويحظى بالقبول منها ولو جزئيًا- فهو مقبول ومبرر عقلًا؛ وكل ذلك يعود إلى فقدان هذا العقل مرجعية سليمة في هذا المجال.
- الاعتراف بدوائر الحوار، أي اختلاف مستوياته:
إن أهم دائرة للحوار هي الحوار بين المتخصصين؛ لأنهم هم الأكثر قدرةً على الإضافة المعرفية، تليها دائرة الحوار بين الحقول المعرفية، أي الحوارات التي تجري بين تخصصات مختلفة، فالتواصل بين الحقول المعرفية ضروري؛ لأنه يدفع نحو التكامل، واكتشاف الحقيقة في كليتها بعد أن اكتُشفت في الجزء، ثم تأتي الحوارات العامة التي يشارك فيها المهتمون من الأفراد بصفتهم أصحاب رأي. وتكمن أهمية هذه الدائرة- في نظري- في إثارتها للقضايا المهملة، وفي كشف المستور والمسكوت عنه، لكن يجب أن تُدفع في النهاية إلى المتخصص لمعالجتها.
الحوارات العامة يمكن أن تكون غوغائية في حال فقدان التنظيم والمرجعية، وشيوع الأيديولوجيا (وهي- في نظري- الفكرة العامة أو الخاصة التي يخالفها الواقع “خاطئة” إذا تحولت إلى اعتقاد راسخ، وكانت منطلقًا للتفسير).
- التنظيم والتراكمية:
إذا كانت غاية الحوار مجرد البوح فستكون الأفكار مجرد بخار يطير في الهواء، لكن إذا كانت غاية الحوار هي القبض على أمر مفيد ملموس (حقيقة)، أو حتى على مجرد فكرة من قبل حقيقة بعض المفاهيم، أو بعض الحقائق التاريخية والجغرافية والسياسية والفلسفية وغيرها؛ فستكون الأفكار كاللبنات التي تنتظم لتكوِّن المبنى في النهاية.
وفي هذا المجال، يحضر أمران قد يفسدان الحوار، وهما: الأيديولوجيا، والكسل المعرفي. ففي الأيديولوجيا يضغط الهوى، وتضغط الميول الفكرية على المتحاورين، فيصابون بالصمم والعمى. وفي الكسل المعرفي يصبح تناول المعلومة الجاهزة والمعلبة والمتاحة مرضيًا وكافيًا. ولذلك لابد من تنظيم الحوار، واحترام التخصص والحقيقة، ولابد من الاستفادة من التراكم المعرفي.
وهناك مسألة تتعلق بالمقصود بالتنظيم، وهي أن المقصود:
– وجود قنوات وأدوات توفِّر المعلومات، وتعرف بالمختصين، وتتيح لهم فرصة اللقاء، وتوثِّق الآراء، وتنشرها.
– وجود قيم ومعايير وأعراف تحترم الفكرة وقائلها وأهميتها إذا كانت في سياق البحث عن الحقيقة. بالضبط كما كان يقول علماء الأوائل: (ما ناظرتُ أحدًا إلا دعوت الله أن يُجري الحق على لسانه)، ومن مثل: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
وعقَّبت أ. آمال المعلمي: حول الإجابة عن سؤال: هل الحوار يقود إلى التنمية، أم أن التنمية توجد الظروف المهيئة للحوار؟ أعتقدُ أن الحوار بالتأكيد يقود إلى التنمية، فكما قال الشاعر أحمد مطر (في البدء كان الكلمة)، كل الأفكار التي تطوَّرت وتحولت إلى مشاريع تنموية، بدأت بفكرة عُبِّر عنها بكلمة.
الشق الآخر من السؤال، هل التنمية توجد الظروف المهيئة للحوار؟ أيضًا- بالتأكيد- نعم، خصوصًا إذا كانت هذه التنمية معنية بالشأن الاجتماعي والفكري والثقافي، أي أنها تنمية شاملة، وليست تنمية صناعية أو اقتصادية فقط.
وبالتأكيد فضاءات الإنترنت اللامحدودة، وتنوُّع وسائل ومنصات التعبير عن الرأي، وتبادل الحوارات بأنواعها- قد أوجدت مساحات أرحب، وأتاحت مشاركةً أكبر.
المجتمع السعودي كغيره من المجتمعات قد تأثر بهذه الثورة الاتصالية، خصوصًا في ظل غياب إعلام فاعل، أو قنوات رسمية تشرع الأبواب للحوار، فكانت البداية مع الساحات والمنتديات، وقبلها الصالونات الثقافية. ثم اتخذت الدولة توجُّهًا محمودًا نحو مزيد من المشاركة المجتمعية في الحوار حول القضايا الوطنية التي تهمُّ المجتمع، وتجسد ذلك من خلال تأسيس مركز متخصص للحوار الوطني، كان الهدف من تأسيسه- كما ورد في الكلمة الافتتاحية للمركز، التي ألقاها الملك عبد الله (رحمه الله)، وكان حينها وليًا للعهد- أن يسهم هذا المركز في إيجاد قناة للتعبير المسؤول، يكون لها أثرٌ فعَّالٌ في محاربة التعصب والغلو والتطرف، وأن يُوجد مناخًا نقيًا تنطلق منه المواقف الحكيمة والآراء المستنيرة.
وهنا أنوّه إلى العبارة التي استخدمها الملك عبد الله- رحمه الله- (التعبير المسؤول)، أي الذي له ضوابط وآداب تساعد على استمرارية الحوار، وتحقيق غاياته، بعيدًا عن المهاترات والمشاحنات. هذه العبارة البسيطة- في رأيي- هي سر نجاح تجربة مركز أسبار في توظيف إحدى منصات شبكات التواصل الاجتماعي لإدارة حوارات عميقة، لها أبعادها الوطنية والدولية، ويشارك فيها قامات فكرية مميزة، وجدت في هذا المنتدى ما تطمح إليه من رقي الحوار، وسمو الغاية، وتفرُّد الأفكار، واحترام قيمة الاختلاف والتنوُّع. أي أنه لو لم يكن هناك ضوابط وهيئة إشرافية تدير دفة الحوار، وتقوّم المتحاورين، ولها لائحة تنظيمية ومرجعية اتفق عليها المتحاورون؛ لما استمر نجاح هذا المنتدى ونموه وتطوره يومًا بعد يوم.
من أهم مقومات نجاح منتدى أسبار: التنوُّع في الفئة العمرية، والتخصصات العلمية والتوجهات الفكرية، كذلك التنوع في المواضيع والقضايا المطروحة. وكما أني أثني على هذه التجربة المتميزة، إلا أن لديَّ بعض النقاط التي آمل مراعاتها:
١- تقليص الفجوة العددية بين الجنسين من أعضاء المنتدى.
٢- التأكيد دومًا على الشفافية والصدق، وافتراض حسن النية.
٣- أخيرًا، وهي النقطة الأهم، التركيز على مناقشة الفكرة بصرف النظر عن قائلها، وتجنُّب الشخصنة، ولو في أدنى درجاتها.
وأخيرًا عقَّب د. عبد الله العساف: الحوار مطلب مُلح وضرورة للتشاور حول جميع قضايا المجتمع، فهو مَا يقود التنمية ويوجهها ويهيئ لها البيئة المناسبة، وتمثل النقاشات التي تتم في منتدى أسبار الإلكتروني أنموذجًا لتلك الحوارات والنقاشات التي تكون رافدًا وموجهًا ومقيمًا للعملية التنموية، بل ومستشرفة مستقبلها، ومستبقة تحدياتها بافتراض الحلول المناسبة لها.
حيث تُجمع التجارب العالمية على أهمية الحوار المجتمعي، وأثره في تجاوز المتغيرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، والتخفيف من حدتها؛ ولذا نظمت العديد من دول العالم عملية الحوار المجتمعي، حيث يلتقي فيها شركاء من مختلف التخصصات من أجل تنمية مستدامة، وقد أدت إلى نتائج إيجابية في مختلف المجالات، ليس في أوروبا وحدها، ولكن في بقية دول العالم التي انتهجت الحوار وسيلة للتنمية (رواندا نموذجًا). والعكس صحيح، حيث يعتبر الانعزال، وانعدام الحوار المباشر أو عبر المنصات الاجتماعية إهدارًا للموارد التي يُفترض توظيفها في عملية التنمية.
وهذا يستلزم استحضار حسن النية، وأن تفهم الأطراف المعنية بالحوار حقيقة شراكتها في الوطن والمسؤولية عن التنمية، دون أن تتحول هذه الأطراف إلى مليشيات تتحارب إلكترونيًّا.
وتعدُّ تجربة الحوار الإلكتروني لمركز أسبار تجربة مثيرة وثرية، رغم حداثتها وندرتها في العالم العربي، والسعودية خصوصًا. وبنظرة سريعة على الإحصاءات التي ذكرها الدكتور إبراهيم، نجد أن هذه التجربة تستحق التوقف عندها طويلًا، وقراءتها من مختلف الزوايا، والعمل على تطويرها، والإفادة منها في هذه المرحلة الحديثة من التاريخ السعودي المتطلع للتحول والتجديد في جميع مكوناته، لكننا نجد من خلال الأرقام السابق ذكرها أن القضايا التنموية التي تعرَّض لها المنتدى تمثل 8٪، ومثلها القضايا التعليمية والبحثية، وإذا كنا نتطلع للتنمية الحقيقية فالتركيز يجب أن ينصبّ على هذين المجالين تحديدًا، فهما ما يقود التنمية ويوجهها، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن هناك أمرًا في غاية الأهمية، وقد ناقشته اللجنة الاستشارية لكن لم تفعله، وهو الاستفادة من مخرجات هذا المنتدى وتلاقح عقول المنتسبين إليه، والذين يُشكِّلون صفوة المجمتع في مختلف التخصصات؛ فالمسؤول عندما يطلع على مخرجات المنتدى مطبوعة سوف يضعها في مكتبته أو على كمبيوتره إلى حين أن تأتي الفرصة المناسبة للاطلاع عليها، وقد يغادر منصبه دون أن يفعل؛ لذا يجب تفعيل التقنية، وتحويل الأجزاء المهمة من كل قضية إلى إنفوجرافيك وفيديو موشن، فهي أسهل وأفضل للتداول، وبشكل سريع جدًا تساعد المسؤول المباشر في الاطلاع عليها في أي وقت وأي مكان، وإن لم يفعل فربما تصل للمسؤول الأول، وعراب الرؤية الذي يرى أن فيها ما يتوافق مع الرؤية السعودية، ويوجه للاستفادة منها.
المداخلات حول القضية:
أهمية الحوار في المجتمع:
يرى م. حسام بحيري أن الحوار ابتدع لتفادي النزاعات والاتفاق على آليات مشتركة. إذا لم تتحاور مع خصمك فلن تعرف مخاوفه أو الأسباب التي أدت للنزاع والمواجهة. الحوار طريقة حضارية لحل النزاعات، والتعرُّف على مشاكل ومخاوف الآخرين، وتساهم في التنمية الاجتماعية، ونستطيع أن نرى تجارب الشعوب الأخرى التي تلتزم بالحوار كآلية رئيسة في مواجهة شؤونها، وتفادي النزاعات الداخلية التي كانت مشتعلة في مجتمعاتهم. فأي مجتمع يتبني الحوار يعتبر مجتمعًا ناجحًا.
في البدء كان الحوار:
فيما يتعلق بتساؤل د.إبراهيم البعيز المهم والمحفز للحوار: هل الحوار يقود إلى التنمية، أم أن التنمية هي التي توجد الظروف المناسبة للحوار؟ ذكر أ. عبد الله الضويحي أنه يتفق مع أ.آمال المعلمي في أن الحوار هو الذي يقود للتنمية، وليس العكس. الحوار بدأ ووُضعت أسسه قبل نشأة الخليقة، فهو الأصل في نظري، وتمثل ذلك في حواره -عز وجل- مع الملائكة قبل خلق آدم: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا …﴾ [البقرة: آية 30]. وفي حواره تقدست ذاته مع إبليس في أكثر من موضع. وتعددت الحوارات في مواضع كثيرة من القرآن الكريم بين الرسل وأقوامهم، وغير ذلك.
لذلك- في رأيي- (في البدء كان الحوار)، وكون الله- سبحانه وتعالى- يبدأ به قبل خلق الخليقة، ويتحاور مع (إبليس) ويطيل النقاش معه، فهي رسالة لنا نحن البشر بأهميته، والسعي لقناعات مشركة بين الأطراف، ثم يأتي بعد ذلك إيجاد البيئة المناسبة له.
الحوار وقضايا التنمية:
ذهب أ. عبد الله الضويحي إلى أن هناك نقطة مهمة في ورقة د.إبراهيم، ذكر فيها: أن القضايا التنموية تشكل 8% فقط من القضايا التي طرحها الملتقى على مدى ثلاث سنوات. وفي ظني، إذا استثنينا قضايا (الإرهاب7% والسياسية 14%) فإن بقية القضايا من تعليمية، واجتماعية، واقتصادية… إلخ، لها علاقة بالتنمية بطريقة أو بأخرى.
وضع ضوابط للمنتديات الحوارية:
ذكر د. حميد المزروع؛ لا شك أن الحوارات تُصبح أكثر نضوجًا إذا تطابقت أهداف المتحاورين، وتوحدت مرجعيات تفكيرهم. إلا أننا، وبسبب وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، نواجه إشكالية (تآكل الحقيقة)، حيث بدأت الآراء الشخصية والأذواق تأخذ حيزًا وقبولًا من قِبل شريحة من المجتمع، خاصة القضايا التي يطرحها مؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي؛ مما يؤدي إلى انفلات الفضاء الإعلامي، والبعد عن الموضوعية والحقيقة.
لذلك أرى أنه لابد من وضع ضوابط للمنتديات، كما هي الحال في ملتقى أسبار، وتطبيقها سيسهم في نضج وموضوعية الأفكار والآراء المطروحة؛ مما يساعد على مناقشة القضايا ضمن أبعادها العلمية والمنطقية، التي نأمل أن تركِّز على التشخيص والمعالجة لجميع قضايا المجتمع.
منتديات الحوار والتأثير المتبادل مع المجتمع:
أشار د. إبراهيم البعيز إلى أنه يمكن النظر إلى قضية منتديات الحوار الفكري من زاوية علاقة الحوار بالتنمية.
وكما ذكرتُ في الورقة، فإن العلاقة بين الحوار والتنمية علاقة جدلية، حيث التأثير المتبادل؛ بمعنى أن الحوار يسهم في التنمية، والمجتمعات النامية تتقبل الحوار وتشجع عليه. الإشكالية أن كل الدول النامية – بما فيها الدول العربية – ليس بها مؤسسات أو بيئة تشريعية تحمي الحوار، وتشجع عليه. وأستشهدُ بمثال مقارب، وهو الإعلام والتنمية. فقد ظهرت دراسات وكتب في العقد السادس من القرن الماضي تنظر إلى الدور التنموي للإعلام، لكن التجربة الواقعية أثبتت خطأ تلك النظريات؛ مما أسهم في ظهور مدرسة نقدية تسعى إلى إعادة توجيه الدراسات نحو تأثير المجتمع (بنظمه السياسية، والاقتصادية، والثقافية) على الإعلام (بمؤسساته ومضمونه). وأن لا يقتصر التفكير فقط في تأثير الإعلام على المجتمع، بل في تأثير المجتمع على الإعلام. وبالجدلية ذاتها أيضًا يمكن القول: علينا ألا نفكر فقط في تأثير الحوار على المجتمع، بل في تأثير المجتمع على الحوار (من حيث المؤسسات، والمواضيع، وحرية التعبير، وثقافة التعددية والانفتاح).
كل الفرص المتاحة للحوار الآن ليس للحكومات العربية فضل فيها، فقد أتت حتمية من انتشار التقنية التي لم تستطع الحكومات العربية منعها، والوقوف في وجهها.
ربط الحوار الفكري بمفهوم التنمية الشاملة:
أكد د. محمد الملحم أنه لا شك أن الحوار في الأصل له مدلولاته ومفاهيمه، لذا لابد لنا من الخروج من مفهوم رئيس لقضية هذا الأسبوع، وهو: هل الحوار يقود إلى التنمية، أم أن الحوار أداة تعبير، وإحدى النقاط الرئيسة لاكتمال منظومة التنمية؟
وحول كيفية ربط الحوار بمفهوم التنمية الشامل، ذكر م. محمد الشهري أن للتنمية ركائز ثلاث، وباختصار هي:
1. القيادة: التي تضع الرؤية، وتستطيع إدارة مراحل التحوُّل ومتطلباته، للوصول إلى الأهداف المنشودة.
2. الموارد (الطبيعية والبشرية): وهذه تشكل القاعدة الاقتصادية للرؤية، والتي تمكِّن القيادة من تلبية احتياجات مراحل التنمية.
3. المجتمع: يعتبر المجتمع (الإيجابي) عنصرًا مهمًّا جدًّا في عجلة التنمية. وأنا أستخدمُ هنا كلمة إيجابي، من حيث التفاعل والمساهمة مع القيادة، وتوظيف الموارد والاستثمار، وغيرها لتحقيق الأهداف أيضًا.
هنا يأتي الحوار وأهميته ضمن مساهمة المجتمع الإيجابية في عجلة التنمية. حيث يستطيع المجتمع بالحوار أن يمدَّ القيادة بالرأيين المهني والاجتماعي، وغير ذلك من الفوائد الكثيرة.
في السياق نفسه، أضاف أ. محمد الدندني، ضرورة جعل المجتمع شريكًا فيما يحدث، أي جعله أحد ملّاك الفكرة كي يتفاعل معها، ويتحمل مشاق الطريق للوصول للهدف المنشود. وأرى أن هناك قصورًا في الإعلام، ربما في استقطاب أكبر عدد من المواطنين والمواطنات. وكثيرًا نسمع ونرى في مجالسنا أناسًا متخوفين أو غير عارفين، وهذا ليس بالأمر الإيجابي في تنفيذ أي خطة عمل. اتفق معه م. محمد الشهري في أن إحدى أهم خطوات التخطيط بمستوياته مشاركة المجتمع public participation.
من جانبه يرى د. حمزة بيت المال أن هناك علاقة بين الحوار والتنمية، فالحوار هو جزءٌ من الحالة التنموية للمجتمع، فهو لا يقود ولا ينتج؛ إنما هو تعبير عن الحالة التنموية للمجتمع أو الدولة، بعبارة أخرى: الحوار فقط لن يجديَ أو ينتج تنمية؛ إنما هو يعمل ضمن منظومة متكاملة مع بقية حالة مؤسسات المجتمع، وقد تلمس د بعيز هذه الفكرة عندما غيَّر السؤال في الإعلام، من: ماذا تفعل وسائل الإعلام في المجتمع؟ إلى: ماذا يفعل المجتمع في وسائل الإعلام؟
أضاف د. خالد بن دهيش أن من المؤشرات التي تدلُّ على أن الحوار يقود للتنمية، أنه في شهر ذي القعدة من عام 1427هـ، عُقد اللقاء الخامس لمركز الحوار الوطني في مدينة سكاكا بالجوف، وكان عن التعليم، حضره 100 مشارك ومشاركة من النُّخب، وكان اليوم الأول عن التعليم العام، وكان الحوار بين النُّخب ومسؤولي التعليم (الوزير، ونائبيه، ووكيلين كنت أحدهما)، وكان منقولًا على الهواء مباشرة من الساعة التاسعة صباحًا وحتى الثالثة عصرًا. وبعد الانتهاء، تلقى معالي الوزير اتصالًا من الديوان الملكي يطلب منه تقديم تقرير يوضِّح احتياج الوزارة من المال لعمل نقلة نوعية في التعليم العام، ولمعالجة أهم ما أثير في الحوار، فإنه يُعرض على مجلس الوزراء بعد أربعة أيام. طبعًا كان ذلك من نتائج الحوار الوطني.
وبالفعل، تم رفع التقرير، وصدر التوجيه الملكي بأحداث مشروع وطني لتطوير التعليم، أُطلق عليه مشروع الملك عبد الله لتطوير التعليم، ورُصد له ميزانية بتسعة مليارات ريال، تُصرف خلال 6 سنوات.
ويرى أ. محمد الدندني أن الحوار يقود لتنمية إذا وُجدت آلية تفعيل نتائج الحوار بصيغة عملية. في العموم، الحوار فقط هو كالنظرية العلمية تحتاج إلى التطبيق والتجربة، ليقود لتنمية.
بينما يرى د. خالد الرديعان أن الحوار لا يخلق تنمية، ولكنه يؤسِّس أرضية مناسبة للتنمية؛ بحكم أن التنمية عملية مستمرة لتحسين الواقع المعاش، والرقي بالإنسان للأفضل، إن كان على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي.
الواقع معقد ومشكلاته متعددة، وبالتالي يلزم الحوار حول مشكلات الواقع وتعقيداته؛ للوصول إلى صيغ مشتركة يتوافق عليها الجميع أو الأغلبية على الأقل، وذلك من خلال ديمومة الحوار، هنا يصبح الحوار ضرورة تنموية.
الجامعات ودورها في تفعيل ثقافة الحوار:
ذكر د. عبد الله العساف أن مؤسساتنا التعليمية، والإعلامية، والأسرية تفتقد إلى مفهوم وأسس الحوار؛ لذا ففاقد الشيء لا يعطيه، كما أن مركز الحوار يُنتظر منه الكثير لإشاعة هذه الثقافة التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها، والحوار لا يكتمل إلا مع التسامح، الذي يغيب مفهومه عن البعض، ويخلط بينه وبين العفو والتنازل عن الحق، فالتسامح- باختصار- أن تتقبلني كما أنا، وأن أتقبلك كما أنت. فالحوار على أصوله لا أقول غائبًا، ولكنه شبه حاضر بين بعض المثقفين ممن لا يتسع فكرهم لتقبُّل النقد، أو الاختلاف في الرأي.
وأشار د. مشاري النعيم إلى أن زخم الحوار في المملكة بدأ يتصاعد في الآونة الأخيرة، لكن للأسف الجامعات مازالت غائبة عن الحوار. يحتاج الأمر إلى حاضنات للأفكار. ولا يوجد حوار داخل الجامعة نفسها، فالقضايا المهمة لا تُثار بين المتخصصين داخل الأقسام، ولا يوجد تبني للأفكار الجديدة.
وأضاف: في العادة، في كل تخصص نهتم بما يُسمَّى بالمجموعات المهتمة Interest groups، وهي مجموعات بينها اهتمام مشترك، وتقوم بصناعة الأفكار. وأرى أن الحرية الأكاديمية شرط للحوار ولصناعة الأفكار.
من جانبه يرى د. خالد الرديعان، بما أن الجامعات عمومًا قطاع حكومي، فستكون بعيدة عن الحوار ما لم تنصُّ لوائحها على ذلك. فالجامعات تُدار بعقلية بيروقراطية، والحوار يحتاج إلى مناخ حرّ، وهذا يتوفر أكثر في جامعات القطاع الخاص. علَّق د. مشاري النعيم بأن الجامعات الخاصة أيضًا تُدار بطريقة تجارية.
الصالونات الأدبية في مقابل ملتقى أسبار:
وحول الصالونات الأدبية التي تطرَّق إليها د.منصور المطيري في تعقيبه، أوضح أ. عبد الله الضويحي أبرز هذه الصالونات، والتي لم يشر إليها د.منصور. فأول صالون أدبي في الرياض كان أ.عبد العزيز الرفاعي في منتصف السبعينيات، وكان الخميس ليلة الجمعة في داره بالملز، ثم إثنينية عثمان الصالح، ثم خميسية حمد الجاسر التي أصبحت الآن سبتية، وهناك أيضًا أحدية راشد المبارك. جميع هذه الصالونات تُقام ليلًا عدا صالون الجاسر صباحًا منذ نشأته، وقد تعددت هذه الصالونات، وأرى أنها على ثلاث فئات:
الأولى: تستضيف متحدثًا رسميًّا، وتُكرِّم بعض المبدعين، وتطرح قضايا جادة.
الثانية: مواضيع ونقاشات مفتوحة لا ترتبط بقضية معينة قدر ارتباطها بمواضيع الساعة، مثل سبتية د.محمد الرشيد.
الثالثة: للوجاهة، فالقائمون عليها ليسوا من أرباب الفكر، ومواضيعها والقضايا المطروحة فيها عادية.
وقد انتهت بعض هذه الصالونات بوفاة مؤسسيها، مثل: إثنينية الصالح، واستمرت أخرى، مثل: سبتية الجاسر، وأحدية المبارك، وسبتية الرشيد.
لكن السؤال: ما مدى تأثير هذه الصالونات؟ وما الدور الذي تلعبه؟ وهل يُستفاد من طروحاتها، أم أنها تنتهي بانفضاض السامر؟
بعض هذه الصالونات رجالية، والبعض الآخر نسائية، لكنها لم تبرز على السطح، وينطبق عليها ما ينطبق على الصالونات الرجالية. أما ما يميز ملتقى أسبار، فهو:
- التعددية والتنوع في أعضائه؛ بتخصصاتهم، وسنيّهم، وانتماءاتهم.
- توظيفه للتقنية ولقاءاته الافتراضية؛ مما يسهل عملية التواصل بين الأعضاء، ويجعل الحوار دائمًا لا يتوقف.
- اختيار المواضيع بعناية، والحرص على ذلك.
- التوثيق، وهو ما تفتقده كثير من المنتديات.
- إتاحة الفرصة للعموم؛ بالاطلاع على قضاياه، وطروحات الأعضاء، وتقاريره الشهرية والاحتفاظ بها من خلال مواقعه على شبكات التواصل الاجتماعي.
- الوصول لصاحب القرار والمهتمين، وتزويدهم بهذه الطروحات والأفكار؛ مما يعينهم على اتخاذ القرار.
في هذا السياق، تساءل د. عبد الله بن صالح الحمود: هل تبدأ الساحة الأدبية في التناقص من توافر تلك البيئات، لأسباب وفاة صاحب الصالون الثقافي أو الفكري ؟ وما هو الحل لضمان استمرار ذلك؟ علق أ. عبد الله الضويحي بأن مثل هذه الصالونات تحتاج إلى روح مبادرة. البعض لا يملك أبناؤه من بعده مثل هذه الروح، وربما ليس لديهم مثل هذه الاهتمامات، أو أن مشاغلهم العملية تبعدهم عن ذلك. باستثناء د.عبد الله الرشيد شقيق د.محمد، وأبناء محمد، ومعن حمد الجاسر ملكوا هذه الروح والرغبة، واستمرت دون توقف. فهذه الصالونات إذا انقطعت من الصعب إعادتها.
أضافت د. فوزية البكر: على أرض الواقع، هناك الكثير من المنتديات المهملة، لكن الفاعلة منذ سنين طوال، مثل تجمعات نوادي الكتاب في شتى مدن المملكة، ومثل الكثير من الملتقيات النسائية التي ساهمت في دفع عجلة الحوار والبحث العلمي في كثير من المجالات، مثل الملتقى الأحدي النسائي بالرياض، والذي أنشئ منذ 23 عامًا، وتلتقي عضواته في بيوت العضوات مرة كل شهر، مع اختيار متحدثة متخصصة في حقل ما؛ للتعرف عليه، أو طرح قضايا تنموية مهمة.. وهكذا.
قراءة في أحوال الصالونات الثقافية:
تساءل د. عبد الله بن صالح الحمود عن دور الصالونات الثقافية، والتي لا شك أنها أوجدت ثقافة وإسهامًا في مجتمع، ربما الكثير من أفراده لم يعتد على هذا المنهج الديموقراطي الثقافي، فكيف نقرأ أحوال هذه الصالونات؟ ماذا صنعت لنا؟ وما مدى التشجيع لها كي تمشي قدمًا في رحلتها؟ وما هي المنطلقات التي يُفترص أن تسبر وفقها لتكون صامدة أمام تيارات اجتماعية، ربما توقف أو تضعف مسيرتها؟
أجاب عن ذلك د. منصور المطيري بأن الصالونات الثقافية بدأت في الستينيات والسبعينيات الهجرية مع صالون محمد سرور الصبان في مكة، حيث كان يحضر صالونه أكابر الأدباء، مثل: خير الدين الزركلي، والميمني وغيرهما، وكانت المواضيع أدبية خالصة يكتفون بالشعر وفروع الأدب؛ لأن الغرض منها كان الترويح عن النفس، والاستماع إلى أوعية الأدب، حيث كان عقل ورأس العالم الأديب كالوعاء يحمل فيه محتوى عشرات الكتب مما لا تتوفر عند طلبة العلم. والاهتمام بالأدب كان ناتجًا عن تقدير اللغة العربية، وحفظ مكانتها اللائقة؛ ولذلك فالاسم الحقيقي لها هو الصالونات الأدبية.
لازمت هذه الميزة الصالونات الأدبية إلى وقت متأخر، ثم بدأت تنوع اهتماماتها، وقد شكَّل صالون الجاسر نقلة في طبيعة هذه الصالونات، حيث كثُر فيه الاهتمام بالبلدانيات والتاريخ. لذلك فإن تنوع الاهتمامات في هذه الصالونات جعل البعض يُطلق عليها الصالونات الثقافية. ولقد تكاثرت هذه الصالونات بشكل كبير في كل أنحاء المملكة، وأصبحت أداة تثقيفية، أتمنى أن تتكاثر وتتواجد في كل حي.
البعض من هذه الصالونات ينشر ويسجل ندواته، مثل إثنينية عبد المقصود خوجة التي أخرجت كتابين عن المنتديات الأدبية، وعن الأندية الأدبية. كما أن بعض هذه الصالونات عريق وقديم، مثل أحدية الوفاء لباجنيد، وكانت أصلًا خميسية الرفاعي، ومثل خميسية الجاسر.
الصالونات الحديثة بدأت بداية متنوعة، ولم تلتصق بالأدب، استغلت التقنية الحديثة والإنترنت، حيث تنشر للجمهور الندوات التي تعقدها. وفي نظري، الصالونات الثقافية أداة تثقيفية عامة يتم تناول القضايا فيها بشكل عام، وتطغى عليها المجاملات، لكن أهميتها تكمن في إبقاء مشعل المعرفة مشتعلًا، فحينما تُرى تُشعر بأن الناس لا يزالون يحبون المعرفة.
المنتديات المهمة فعلًا، والتي تضيف إلى المعرفة وتراكمها، هي المنتديات المتخصصة التي تقف وراءها جهات وجمعيات مهتمة بتخصصاتها، وهي كثيرة جدًّا، أذكرُ منها الجمعيات المهتمة بالاقتصاد الإسلامي، وجمعيات القضاء والمحامين، وغيرها.
ويرى أ. محمد الدندني أن المنتديات وصالونات الفكر لها دور في جمع أهل الفكر والرأي، وبالذات فيما يخصُّ مجتمعنا؛ بسبب تباعد الناس، وقلة قنوات الاتصال. فَلَو أخذناها جغرافيًّا للاحظ المراقب أن المناطق معزولة عن بعضها البعض، حتى في المدن الثلاث الكبرى، والتي إلى حد ما نجد تمثيل أغلب المناطق بها، ولكن مازالت تمثل المناطقية؛ أي محصورة في الأغلبية من هذه المدن.
وأتساءل: هل فارِق الوعي والاهتمام كبير بين المدن الثلاث والمناطق الأخرى؟ إن كان كذلك، فلعل ملتقانا هذا وغيره يبدي اهتمامًا باستقطاب مهتمين من كافة أنحاء المملكة حتى يكون المنتج شاملًا هموم المهتمين، فهناك فوارق من عدة نواحي تؤثر على التنمية بين المدن، وهي أكثر وضوحًا بين المدن والمناطق الأخرى.
ملتقى أسبار امتدادٌ للصالونات الثقافية:
تساءل د. إبراهيم البعيز: هل يمكن اعتبار “ملتقى أسبار” امتدادًا لتلك الصالونات، بحيث نعتبره “صالونًا افتراضيًا”؟ من جانبه، يرى. د. منصور المطيري أن ملتقى أسبار مشتبك مع منتدى أسبار، ومركز أسبار. وبالنسبة للملتقى، أعتقدُ أنه نسيج وحده؛ جمع بين المنتديات الافتراضية والمنتديات الحقيقية؛ لأنه يجمع في مناسبات عديدة منتسبيه في لقاء حقيقي حول موضوع يقدمه في الغالب شخص من الخارج، ثم إنه ينشر منتجاته ورقيًّا وإلكترونيًّا، وقد اقترحتُ في تعقيبي إشراك الجمهور، وخصوصًا المتخصصين، في نقاش القضايا الأسبوعية. أمَّا من ناحية موضوعات ملتقى أسبار فهي موضوعات لصيقة بالحراك الاقتصادي (التنموي عمومًا)، والتربوي، والاجتماعي. والحقيقة أن جرأة الطرح فيه تناقصت عن بداياته، ولست ألومه، فملتقى أسبار أيضًا يعتمد على العضوية. واتفق د. عبد الله بن صالح الحمود مع مقترح د. منصور حول أهمية أن يكون ملتقى أسبار شريكًا مجتمعيًّا في طرح الرأي والرأي الآخر؛ لإضفاء مزيد من العطاء الحواري، بخلاف طبعًا ما ينهجه الملتقى أحيانًا من استقطابه كتَّابا لقضايا الأسبوع.
وأضاف أ. عبد الله الضويحي: إن اعتماد ملتقى أسبار على العضوية قد يكون سمة، وقد يكون عيبًا، فالمنتديات الأخرى والصالونات مفتوحة للجميع، وفيها دعوات أيضًا. أما ملتقى أسبار فهو انتقائي، وهو الذي يختار العضو وفق مواصفات معينة.
بينما يرى د. عبد الله بن صالح الحمود أن الانتقائية قد تشير إلى حصر الحوار من لدن أشخاص معينين ولأهداف معينة، وأن المشاركات المفتوحة تعني فتح الفضاء لعامة الناس في أن يشاركوا ويدلوا بما لديهم من آمال وآلام، ليأتي الأخير بعطاء أكثر.
المنتديات والحوارات الافتراضية:
أشار د. خالد الرديعان إلى أن كثرة المجموعات التي تتحاور افتراضيًّا، سواء عن طريق تويتر أو الفيسبوك أو قروبات الواتساب. فالوسيلة الأخيرة أصبحت شائعة وشعبية، لدرجة أنه يستحيل أن نجد مَنْ يحمل هاتفًا ذكيًّا، وهو غير مشترك في مجموعة واتساب، وربما عدة مجموعات بما في ذلك أفراد الأسرة الواحدة. ميزة هذه القروبات هو أنه لا يوجد شيء اسمه حسابات وهمية، كما هي الحال في تويتر، ومن ثَمَّ تأتي الحوارات أكثر انضباطًا.
كما تمتاز مجموعات الواتس بسرعة تكوينها، فهي تجميع للأفراد من مختلف الأعمار والأجناس والخلفيات دون الارتباط ببقعة جغرافية محددة. هذه الميزة خلَّاقة، أي عدم ارتباط الأعضاء بمكان محدد؛ مما سهَّل من تقارب الأفراد وحوارهم. وأرى أن المرأة استفادت كثيرًا من هذه التقنية بسبب حاجز “الاختلاط” الذي كان مشكلة في السابق. ما يحدث الآن هو “اختلاط افتراضي”، وهو حقيقةً اختلاطٌ كسر حاجز الزمان والمكان، ومكّن الجنسين من تبادل الحوار مع انخفاص نسبة التخندق عند حاجز الجندر. فصار الرجال- على سبيل المثال- أقل تحيزًا لجنس الذكور، والإناث كذلك فيما يخص موقفهن من “ذكورية المجتمع”، تلك الفكرة التي كانت سائدة بكثافة قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. خاصية أخرى للمجموعات الافتراضية هي سهولة الخروج منها، وهو ما يُوفِّر مرونة للأعضاء في الاستمرار، أو ترك المجموعة دون أعباء على أي طرف.
جميع ما ذُكر مميزات ساهمت بصورة كبيرة في تنشيط الانضمام لمجموعات افتراضية، بعضها مجموعات “حوارية” تناقش قضايا متعددة حسب ميول الأعضاء.
ويرى د. حميد المزروع أن هذه الحوارات والمنتديات يمكن أن تنجح إذا تبنت مزيجًا من معايير الجمعيات العلمية وكراسي البحث العلمي في مناقشة ونشر قضاياها العلمية والثقافية، بشكل علمي وموضوعي.
مستقبل الحوار الوطني في ملتقى أسبار وخارجه:
ذكرت د. عائشة الأحمدي: رغم أنني بعيدة عما يدور في أروقة مركز الحوار الوطني، لكني أيقنُ أن هناك كثيرًا من الانعكاسات بعيدة المدى، ساهمت بشكل أو بآخر في تعزيز خطوات التنمية. فالتغيير في البنية الثقافية يُشكِّل جسرًا أساسيًّا في تحقيق التنمية الشاملة، بل رافدًا غنيًّا في نشر وتعزيز القيم البسيطة والمركبة اللازمة لتحقيق التنمية، ولا يمكن أن تكون هناك أداة لتغيير البنى الثقافية والقيم المشكلة لها، وفِي الوقت نفسه تضمن حدًا أعلى من الاستقرار في المجتمعات، أنجع من الحوار.
وحول تساؤل عبد الله بن ناصر الحمود عن مستقبل الحوار الوطني، الحوار الذي يهدف إلى دعم مسيرة الوطن في كافة المجالات، وهل الحوار القائم الآن أضحى نشطًا وقويمًا، أو يحتاج إلى المزيد من توجيه المتحاورين للنهوض بثقافة الحوار؟ ذهب د. خالد الرديعان إلى أننا نحتاج إلى شحنة قوية من التسامح، وأن نتحمل بعضنا دون شد وجذب، طالما كان الهدف خدمة الوطن، والخروج من قوقعة التصنيف الذي يشقُّ المجتمع. التسامح يمكننا من التعايش، وتقبُّل الاختلافات فيما بيننا؛ بشرط أن تكون الوطنية هي الجامع الأكبر.
وعن حواري مع أعضاء ملتقى أسبار؛ فقد كنت متخوفًا في البداية من نمط الحوار، وخاصة ما يخصُّ القضايا الدينية والسياسية التي يغلب عليها السجالية المفرطة، إلا أنه وبمرور الوقت، شعرت أن هناك تقاربًا بيننا في هذا القروب، مع اختلافات طفيفة نتسامح حولها طالما لا تمسُّ الثوابت الدينية والوطنية. مجموعتنا- في تقديري- ممتازة، مقارنة بمجموعات أخرى دخلت فيها، ثم انسحبت منها خوفًا من عواقب الحوار. وأعتقد أن ما يميز مجموعتنا هذه هو نظامنا الذي وضعناه لضبط الحوار. هذا ساعد كثيرًا في تقدُّم الحوار، وموضوعيته، وجنوحه نحو المصلحة العامة.
إضافة إلى أنه يمكن وبسهولة معرفة توجهات كل عضو فيها، من خلال ما يكتب ويقول، وأن هناك اختلافات واضحة فيما بينهم، وهذا ما يعطي القروب حيوية الحوار، بشرط الانضباط، وعدم تسفيه الطرف الآخر، أو التقليل من أهمية أطروحته مهما اختلفنا معها. اختلاف وجهات النظر ضروري، بشرط ألا يكون هناك شقاق أو خروج عن الخط العام، وهذا متوفر. أمر آخر أننا نستفيد من بعضنا بحكم اختلاف التخصصات؛ مما يثري الحوار كذلك.
أضاف د. عبد الله العساف: ربما تكون أسبار هي القبة التي يتم الحوار في ظلها في المستقبل، متى ما توفر لها جو الحوار الأسباري المنضبط، خصوصًا أنها تتميز بمزايا متعددة، منها: المرونة في الوقت والمكان، والعدد الكبير من العقول في مختلف التخصصات.
الحوار المجتمعي كقيمة مضافة:
أشار د. محمد الملحم إلى أنه لاحظ أن الموضوع يراوح بين محاولة لاستشفاف العلاقة بين الحوار والتنمية، وتقييم لتجربة أسبار، ونظرة إلى دور الصالونات، ووصف لسلوك الحوار في مجتمعنا وإرهاصاته. بيد أني لا أتفاءل بالحوار في مجتمعنا كعامل تنموي مهم، وإن كان يفيد كقيمة مضافة، فلست أنفيه بالكلية.
وسبب ذلك أن محركات التنمية drivers لا تنطلق من الفكر؛ وإنما من التجربة المحلية (التجربة والخطأ)، أو استنساخ تجارب الآخرين، فلا يوجد فكر أصيل authentic؛ بل حتى نقد التطبيقات المحلية ينطلق ثقله “وقبوله” من تجارب الآخرين.
وأبسط صورة تشرح ما أرمي إليه هو الإجابة عن السؤال التالي: هل نتائج الحوارات التي تتم في المجالس الرسمية (للوزارات والهيئات) ملزمة لها، أم هي استرشادية ينتقي منها صاحب القرار، أو فلنقل: “يعتمدها” أو “لا يعتمدها”؟ فإذا كان الأمر كذلك، فما بالنا بحوارات تكون خارج هذه المؤسسات؟!
وأكرر ما قلته سابقًا، إذا كنا نريد أن نتقدم بسرعة، فعلى التلفزيون أن ينقل كل وقائع جلسات مجالس الوزارات الإدارية واللجان (غير السرية)، وما إلى ذلك على الهواء مباشرة.
من جانبه، يرى د. خالد الرديعان أن من مزايا الحوار الجاد والموضوعي عمومًا أنه يساعد على بلورة رأي عام مستنير، تسترشد به المؤسسة السياسية؛ بحيث تأتي خطواتها متوافقة مع رغبة المجتمع وتوجهاته العامة؛ مما يساعد في قبول ما تقوم به المؤسسة السياسية، وعدم مقاومة إجراءاتها. وبشكل عام، فالحوار المستنير يُكرِّس الاستقرار الاجتماعي، ويحدُّ من التوترات.
بينما ذهب د. محمد الملحم إلى أننا لا نتكلم عن المؤسسات السياسية بشقيها التشريعي أو التنفيذي، فذاك حديث آخر؛ وإنما المؤسسات التنموية الخدمية. كما أن الحديث يأتي في الإطار النظري، لكن ما رصيده في التطبيق المحلي؟ وكيف يمكن أن تستثمره أسبار، أو ما يماثلها من منصات فكرية؟
علَّقت على ذلك د. وفاء الرشيد بأنه ليس كل منصة هي منصة تنموية، فللمنصات التنموية معايير تمامًا مثل تجربة IDS. والحوار التنموي الحقيقي يدور بين ثلاثة عناصر: (الحكومة، وأهل الأعمال، والعمال)، وإذا غاب منها واحد، فهو ليس حوارًا تنمويًّا حسب البند التاسع من قواعد التنمية المستدامة.
وفي اعتقاد د. إبراهيم البعيز، قد يكون للحوار قيمٌ مضافة ونتائج بعيدة المدى، وعلى المستوى الفردي أيضًا. أضاف د. محمد الملحم أن ذلك صحيح، لكن لابد أن نضمن ذلك من خلال توفر آلية صريحة أو حتى استراتيجية. أضافت أيضًا د. وفاء الرشيد على ذلك بأن الجهود المبذولة لتحقيق الحوار الاجتماعي، إنما هي جهود تخلقُ بيئة مواتية للتنمية المستدامة، وحال وجود بيئة مواتية للتنمية المستدامة، يصبح المجال مهيأً لنمو وتطوُّر الحوار الاجتماعي.
ويرى د. مشاري النعيم أن جميع محركات التنمية نشأت من أفكار نابعة من مراكز حوار. والتنمية غير المكتملة هي التي تعتمد على تجارب محلية، أصلًا غير مكتملة.أضافت د. وفاء الرشيد أن التجارب الدولية هي الأساس في التنمية، مع مزجها في المحتوى المحلي حتى لا نعيد اختراع العجلة. والتجارب الدولية عميقة الأفكار.
التنظير في الحوارات الفكرية:
في تصوُّر د. خالد الرديعان، فإن هناك مشكلة مهمة تتعلق بأن الحوار لا يخلو من تنظير قد يكون بعيدًا عن الواقع، ولتخطي هذه العقبة، فإن الحوار يُوكل لمتخصصين ممَّن خبروا الحياة العملية وشؤونها، بحيث لا يكون حوارهم تهويمات فلسفية لا تقدم كثيرًا. وهو ما أكدت عليه د. وفاء الرشيد، وذكرت أن هذه نقطة مهمة؛ فالحوار يجب أن يقوم على معايير ومؤشرات محلية لنتحاشى التنظير.
ويرى د. خالد الرديعان أن أفلاطون كان يحاور كثيرًا، لكنه كان مثاليًّا بصورة مفرطة، بعكس تلميذه أرسطو الذي كان واقعيًّا جداً. إلا أن د. وفاء ذكرت أن الأغلب لا يعرف أن للتنمية مقومات نظرية وتطبيقية لا يمشي الواحد بلا الآخر.
بينما يرى د. مشاري النعيم أن التنظير مهم، ولم تتطور المجتمعات المتقدمة إلا من خلال التنظير الذي تبعه تحويل للأفكار النظرية إلى مشاريع تجريبية.
من جانبه ذكر د. حميد المزروع أن هناك حلقة مفقودة بين الأفكار والمبادرات النظرية، والقدرة على تحويلها إلى منتجات ملموسة أو أنظمة مطبقة بالمجتمع.
وأضاف د. خالد الرديعان أن الاقتصاد المخطط الذي ساد الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية في مرحلة ما، انطلق من مفاهيم الاشتراكية كإطار عام، ومثل ذلك اقتصاد السوق الذي انطلق من فكرة ( دعه يعمل، دعه يمر)، أو الرأسمالية.
ثقافة الحوار والضوابط المقننة في البيئات الحوارية:
أشارت أ. مها عقيل إلى أن الحوار أساسٌ للتنمية، ولكن الحوار الشفاف والمتساوي والهادف، وغير الإقصائي أو الإملائي أو المتحيز؛ لذلك أنشئت البرلمانات. وكلمة برلمان مشتقة من كلمة برليه الفرنسية، أي الحديث أو الحوار، ليكون مكانًا لتبادل الأفكار والآراء، ومناقشة المواضيع والقضايا التي تهمُّ الشعب؛ للوصول إلى حل وبرامج ومشاريع، ووضع الخطط والآليات والتشريعات، ويكون هذا البرلمان ممثلًا للشعب بجميع أطيافه، ويتحدث باسمهم، ويعبر عن مشاكلهم. وبالرغم من وجود مجلس الشورى، فهو لا يعتبر برلمانًا بالمعنى الحقيقي. كما أن محاولات إنشاء أماكن أخرى للحوار والشكاوى، وإبداء الرأي، وطرح مبادرات وحلول، مثل المجالس البلدية- فشلت في إرساء مفهوم الحوار، وحق المواطن في التعبير وإيصال صوته للمسؤولين. وأمَّا إعلامنا فالفجوة بينه وبين دوره في الحوار والتنمية كبيرة. هناك مبادرات لملتقيات أدبية وفكرية وثقافية على مستوى شخصي، استطاعت أن تترك أثرها، وتحفِّز على الحوار البناء دون تشنج، ولكن في الغالب ظلت محدودة في عدد الحضور والمتفاعلين. أمَّا النوادي الأدبية فهي حكرٌ على قلة من “المثقفين”، ليس لها تواصل أو قبول بالعامة، الذين قد يكونون متعطشين لسماع الأدب دون أن يكونوا هم أنفسهم أدباء.
أعتقدُ أن هناك شعورًا عامًّا خفيًّا بالخشية من الحوار في كل شيء وأي شيء. عشنا فترة طويلة، كانت قائمة الممنوعات والمحرمات طويلة. الآن، ومع ثورة تكنولوجيا الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي، أسقطت بعض الشيء هذه الحواجز النفسية والرهبة، وربما أسقطتها بزيادة، فأصبحنا بحاجة إلى النظام والتقنين والرقابة، خاصة في مواضيع الإسفاف والعنصرية والإرهاب، ومع ذلك أرى أن الفكر يُواجه بالفكر وليس بالمنع، ماعدا ما يستوجب العقاب.
لابد من إيجاد الأماكن العامة التي يُسمح فيها بالحوار المفتوح في القضايا التي تهمُّ المجتمع. وأرى في ملتقى أسبار منصةً غنية بالأفكار والمبادرات، ويميزها تنوُّع أعضائها، وخبراتهم المختلفة، وأسلوب الحوار الراقي.
علق د. عبد الله بن صالح الحمود بأنه يفهم من هذا الطرح أن البيئات التي يُفترض أن تنشط فيها وبينها روح الحوار، أضحت في تهاوٍ، أو ربما فشلت نحو تحقيق المؤمل منها، فهل للضوابط المقننة دورٌ في ضعف الكفاءة الحوارية، أو أن تدني ثقافة الحوار هي السبب الرئيس الذي لم يجعل من الحوار طريقًا سهلًا لتحقيق منهج حواري مرجوّ للجميع؟
أجابت أ. مها أن هذا هو المقصود، وكما أشار د. حمزة، فإن الحوار وحده لا يؤدي إلى التنمية؛ وإنما إيجاد البيئة والمنظومة التي تستقي من الحوار، وتُفعّل مخرجاته. والمشكلة ليست فقط في الضوابط المقننة، ولكن أيضًا في الآليات والأشخاص والبيئة، بالإضافة إلى تدني ثقافة الحوار؛ فنحن في مجتمعنا منذ الصغر لا نُشجِّع على الحوار والمناظرة، خاصة في المدارس والجامعات. وحضرت بعض اجتماعات مركز الحوار في السنوات الأولى، وكانت تجربة جيدة، لا أدري لماذا لم تستمر؟
سمات ملتقى أسبار:
ذهب د. إبراهيم البعيز إلى أن ملتقى أسبار له سمات تعزله عن بقية المنتديات الحوارية:
الأولى: استخدام منصة التواصل الاجتماعي لتجاوز قيود المكان والزمان، فالمشاركات والحوارات تقريبًا على مدار الأسبوع، وبدون انقطاع.
الثانية: نشر الحوارات (ورقيًّا وإلكترونيًّا) لتكون متاحة للجميع؛ مما يزيد من الثراء المعرفي والثقافي في المجتمع.
أضاف د. خالد الرديعان بأن للحوار في ملتقى أسبار ضوابط تمنع الحدة في الطرح، إذ ليس الهدف الإقناع، ولكن عرض وجهة النظر.
مهددات سلامة بيئة الحوار:
ذكر د.منصور المطيري أن من أخطر وأكبر العوامل المؤثرة في سلامة بيئة الحوار في بعض المجتمعات: التحكم في تدفق المعلومات بشكل طبيعي، عن طريق الحجب والإفساح (حجب ما لا نريد، وإفساح ما نريد)، ويلحق بذلك إظهار رموز وإخفاء أخرى، أو الترويج لرموز وشيطنة رموز أخرى؛ وهذا ما أطلق عليه البعض التلاعب بالعقول.
في هذه الأيام تُتهم تويتر بحجب آراء المحافظين لصالح آراء تحررية، عن طريق إخفاء بعض التغريدات، وتأخير بعض الوسوم، وهي بهذا تسير على المسار نفسه الذي سارت عليه فيسبوك من قبلُ. الحياد عزيز، والحقيقة ضحية.
وحول تعليق د. إبراهيم البعيز، وتساؤله عن مصدر ومدى موثوقية هذه المعلومة. أجاب د. منصور بأنه اطلع على بعض المقاطع فيها حديث مسجل دون علم أصحابها مع موظفين كبار في تويتر، تمامًا كما حدث مع فيسبوك، ولعليّ أبحث عنها.
الحوارات الرسمية وغير الرسمية:
أشار د. علي الحارثي إلى أن هناك أنواعًا أخرى من الحوارات التي تتخذ خلالها قرارات من أجل التنمية، تتم في أروقة الدوائر الحكومية، وأغلب مؤسسات المجتمع المدني. تُطرح الأفكار من قِبل رئيس القطاع أو من أحد موظفيه، وتُناقش من قِبل أركان القطاع، وتُتخذ القرارات بالقبول أو عدمه وفق إيجابياتها، ووفق الأطر النظامية والاعتمادات المالية. وأيضًا في المؤسسات الأهلية، والجمعيات المدنية العلمية والخيرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وغالبًا ما نجد فكر الرئيس أو أصحاب الفكرة المطروح، التي لم تُطرح أساسًا إلا بعد اقتناع الرئيس؛ هي التي تأخذ حيز التنفيذ. وبعض أو أغلب ما يُنفذ منها يُقابل بالنقد المر، وبعضها الحالي تمت مشاركته في مجالس إدارات مؤسسات خيرية وأهلية وحكومية، ويجري خلالها حوارات بلا خوف أو وجل؛ وبعضها يعصف بها النفاق والخجل، فما موقع مثل هذه الحوارات بالنسبة للتنمية الفاعلة، ولموضوع هذا الأسبوع؟ بعبارة أوضح، بين الرسمي والطرف الآخر.
الحوار وتعزيز ثقافة الاحترام:
في مداخلته، ذكر د. زياد الدريس: لنذهب إلى إحدى أشهر منصات التعبير عن الرأي في المجتمع السعودي حاليًّا، وهو موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، ولنفحص بعيّنة عشوائية مجموعة من الأسماء التي اشتهرت بأنها تتقدم صفوف الحوار حول ما يجري في العالم العربي عمومًا، وانعكاسات ذلك على المجتمع السعودي بشكل خاص. لنلقِ نظرة على اللغة المعرفية، واللغة اللفظية المستخدمة بين المتساجلين، ستجد كمًّا هائلًا ومخيفًا، ومقززًا أحيانًا، من الأوبئة الثقافية والأخلاقية التي يدار بها النقاش: التصنيف الجزافي، والإقصاء، والاستعداء، والتأليب، والتكفير الديني، والتخوين الوطني، والزعم بالصواب المطلق عند طرف، والخطأ المطلق عند الطرف الآخر، وعدم القدرة على تحمُّل سماع الرأي المخالف، السماع فقط، أما قبول الرأي الآخر فهذه مرحلة متقدمة جدًّا.
هذا في جانب أسلوب التفكير، أما في أسلوب التعبير فسترى مفردات وصفية متبادلة بين المتحاورين، مثل: (كلاب، نباح، عاهر، عربي متصهين، ماسوني متأخون، سلاتيح، سرابيت)، ومفردات أخرى أشد وضاعةً، أترفّع عن إيرادها. (للإحاطة، المفردات تم أخذها بحذافيرها من معرّفات مشاهير). بقي أن نعرف الآن، هل هذه الأساليب والألفاظ الحوارية تنتسب إلى الغوغاء أو إلى النخبة؟
بالذهاب إلى معرّفات «قادة» هذا الحوار «التويتري» الوضيع سنُفاجأ بأن أصحابه: أكاديميون – معلمون – باحثون في الدراسات الاستراتيجية – رؤساء تحرير سابقون – محامون وحقوقيون – وبرلمانيون أحيانًا. إذا لم يكن حاملو هذه الأوصاف هم نخبة المجتمع فمن هي النخبة؟ هذا التشخيص الآنف سيقودني إلى السؤال المحوري: إلى أيهما نحن أحوج: تعزيز ممارسة الحوار، أم تعليم ثقافة الاحترام أولا؟
عقب أحداث شارلي إيبدو الفرنسية، والتوترات الجدلية التي أعقبتها حول: على من تقع المسؤولية؟ كان لي شرف اقتراح مشروع قرار إلى اليونسكو (تم اعتماده بعد سنة ونصف من المداولات) عنوانه: تعزيز (ثقافة الاحترام). وقد قلتُ في جزء من مذكرة القرار التمهيدية: “حضرَتْ وشاعتْ خلال العقود الماضية مبادئ وشعارات عدة، مثل: الحوار، التسامح، التفاهم، السلام. لكن هذه هي المرة الأولى التي نضع فيها (الاحترام) على طاولة النقاش، والاستخدام ضمن أدوات التداول في اختلافاتنا الطبيعية التي تندرج تحت التنوُّع الثقافي للبشر”.
لا يمكننا أن نزعم أن هذا المبدأ هو الذي سيكون الحل السحري لمشكلاتنا، لكننا لو قارنّاه- مثلًا- بمبدأ التسامح الذي لم يعد مصطلحًا حَسَن السمعة الآن كما كان منذ وضعه جون لوك في القرن السابع عشر حتى سنوات قليلة ماضية، إذ بات الكثير من المفكرين والأكاديميين يعيبون على التسامح أنه يأتي عادةً في سياق تراتبي، بين قوي وضعيف أو منتصر ومهزوم، فيما يتكئ مبدأ الاحترام على أساس التكافؤ بين الطرفين المتحاورين، بل الأطراف، وهذه ميزة إضافية للاحترام؛ أنه ليس بين طرفين فقط، بل أطراف عدة في الوقت ذاته.
غنيٌّ عن القول أن ثقافة الاحترام ليست سلوكًا فطريًّا كما قد يظنُّ بعض الطوباويين، بل هي ثقافة مُحدَثة في سلوك الإنسان، ولأنها كذلك فهي لابد أن تكون مسنودة بقوانين وأنظمة تكرّسها وتحميها من الغياب الفطري.
وبعدُ، فإننا حين نقارن بين الحوار والاحترام، فإننا في الحقيقة نقارن بين وسيلة وقيمة! هل يمكن للوسيلة أن تقودنا إلى قيمة، أم أن القيمة هي التي تقودنا إلى حُسن استخدام الوسيلة؟ هذا هو السؤال!
التوصيات:
– أن يُقترح على مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، وضع التشريعات الاسترشادية، والتي ترسم الأسس الحوارية الداعمة نحو بناء ثقافة حوارية في المجتمع.
– الرفع من سقف الثقافة الحوارية، وإشاعتها مجتمعيًّا؛ خدمة نحو دعم المراحل التنموية للبلاد.
– إسهام وزارة الثقافة نحو تشجيع تأسيس مجالس ومنتديات ذات أبعاد فكرية وثقافية، سواء الافتراضية منها أو الواقعية.
– على الجامعات السعودية الإسهام في إشاعة ثقافة الحوار المجتمعي، مع تقديم مفهوم حديث للثقافة الحوارية.
– توافر قنوات وأدوات تسهم في تواجد معلومات ثرية تخدم المختصين، وتتيح لهم فرصة اللقاء، وتوثيق الآراء ونشرها.
– سنُّ القيم والمعايير والأعراف التي تحترم الفكرة وقائلها وأهميتها، ما دامت في سياق البحث عن الحقيقة.
– أن يبادر ملتقى أسبار برصد القضايا التنموية الأكثر إلحاحًا وفائدة، وعقد ورش عمل حولها بعد مناقشتها في قضية نهاية الأسبوع.
– اقتباس بعض الإشارات وتحويلها إلى إنفوجرافيك وفيديوجرافيك، بالإضافة إلى قيام مقدم الورقة والمعقبين بالتقاط بعض الرسائل من أوراقهم، وتحويلها إلى رسائل صوتية ومرئية لمدة دقيقتين، من خلال منصات التواصل الاجتماعي.
الملخص التنفيذي:
القضية: (منتديات الحوار الفكري ودورها في التنمية.. ملتقى أسبار أنموذجًا).
تناولت الورقة الرئيسة موضوع منتديات الحوار الفكري ودورها التنموي، من خلال تسليط الضوء على نموذج ملتقى أسبار؛ انطلاقًا من كون الحوار قضية إنسانية، وأحد أهم احتياجات الإنسان المعاصر. ولا شك أن تجربة الحوار الثرية في ملتقى أسبار أسهمت في تكوين نظرة وطنية حضارية تمكِّن من إدراك الحاضر والمستقبل، لتؤدي هذه النظرة الوطنية دورها في منظومة رؤية 2030.
كما تناولت الورقة أنموذج ملتقى أسبار وبدايته في عام 2015 بفكرة مجموعة حوارية، وكتجربة رائدة في استثمار منصة للتواصل الاجتماعي (واتساب) لإنشاء منتدى للحوار الفكري في قضايا الشأن العام. تطورت هذه الفكرة بما تمَّ لها من تنظيم، لتتحول من مجموعة تقليدية فتصبح مشروعًا يتسمُّ بالعمل المؤسسي القائم على التنظيم، والمتابعة الإدارية المستمرة. وقدمت الورقة تساؤلًا رئيسًا عن الدور التنموي لهذا المشروع، وقامت بمراجعة ما تمَّ إنجازه خلال الأعوام الثلاثة من عمر الملتقى (إبريل 2015 – إبريل 2018)، في محاولة للإجابة عن هذا التساؤل.
وتلخصت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة في إضافة أبعاد أخرى للورقة، حيث تناولت جانبًا مهمًا؛ وهو توجُّه الدولة نحو مزيد من المشاركة المجتمعية في الحوار حول القضايا الوطنية. وكذلك الحديث عن الصالونات الأدبية الفردية والكيانات، ثم الانتقال إلى التجارب العالمية، مشيرة إلى أنها تجمع على أهمية الحوار المجتمعي، وأثره في تجاوز المتغيرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وناقشت المداخلات التي تمت حول موضوع القضية أهمية الحوار في المجتمع، وأن هناك علاقة جدلية بين الحوار والتنمية، حيث التأثير المتبادل بينهما؛ فهناك مَنْ يرى أن الحوار جزءٌ من الحالة التنموية للمجتمع؛ ويرى آخرون أن الحوار أساسٌ للتنمية إذا وُجدت آلية لتفعيل نتائج الحوار بصيغة عملية، ومتى كان الحوار شفافًا متساويًا هادفًا، غير إقصائي أو إملائي أو متحيز. إلا أن هناك مَنْ يرى أن الحوار لا يخلق تنمية، ولكنه يؤسس أرضية مناسبة للتنمية.
وذهب المناقشون إلى أن ملتقى أسبار يعتبر نسيجًا واحدًا، جمع بين المنتديات الافتراضية والمنتديات الحقيقية؛ لأنه يجمع في مناسبات عديدة منتسبيه في لقاء حقيقي حول موضوع يقدمه في الغالب شخص من الخارج، ثم إنه ينشر منتجاته ورقيًّا وإلكترونيًّا. كما اتفقوا على ضرورة أن يكون الملتقى شريكًا مجتمعيًّا في طرح الرأي والرأي الآخر؛ لإضفاء مزيد من العطاء الحواري.
وفي نهاية النقاش، طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: أن يُقترح على مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني وَضْع التشريعات الاسترشادية، والتي ترسم الأسس الحوارية الداعمة نحو بناء ثقافة حوارية في المجتمع. الرفع من سقف الثقافة الحوارية وإشاعتها مجتمعيًّا، خدمة نحو دعم المراحل التنموية للبلاد. إسهام وزارة الثقافة نحو تشجيع تأسيس مجالس ومنتديات ذات أبعاد فكرية وثقافية. توافر قنوات وأدوات تسهم في تواجد معلومات ثرية تخدم المختصين، وتتيح لهم فرصة اللقاء، وتوثيق الآراء ونشرها. أن يبادر ملتقى أسبار برصد القضايا التنموية الأكثر إلحاحًا وفائدة، وعقد ورش عمل حولها بعد مناقشتها في قضية نهاية الأسبوع. اقتباس بعض الإشارات وتحويلها إلى إنفوجرافيك وفيديوجرافيك، بالإضافة إلى قيام مقدم الورقة والمعقبين بالتقاط بعض الرسائل من أوراقهم، وتحويلها إلى رسائل صوتية ومرئية لمدة دقيقتين، من خلال منصات التواصل الاجتماعي.
* https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/549775
* https://twitter.com/f_alabdulkarim/status/1001145571367931904?s=08
* http://aqartalk.com/%D8%B5%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1-%D8%AC%D8%AF/
* https://www.okaz.com.sa/ampArticle/1644370
* http://www.alriyadh.com/1679253
* https://www.alarabiya.net/ar/saudi-today/2017/01/18/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9.html
المشاركون في مناقشات هذا التقرير:
- د. إبراهيم البعيز.
- د. إحسان بو حليقة.
- م. أسامة الكردي.
- أ. جمال ملائكة.
- أ. آمال المعلمي.
- م. حسام بحيري.
- د. حمزة بيت المال.
- د. حميد الشايجي.
- د. حميد المزروع.
- د. خالد الرديعان.
- م. خالد العثمان.
- د. خالد بن دهيش.
- د. رياض نجم.
- د. زهير رضوان.
- د. زياد الدريس.
- م. سالم المري.
- أ. سمير خميس.
- د. صدقة فاضل.
- د. عائشة الأحمدي.
- أ. عبد الله الضويحي.
- د. عبد الله بن صالح الحمود.
- د. عبد الله بن ناصر الحمود.
- د. عبد الله العساف.
- د. عبير برهمين.
- أ. علياء البازعي.
- د. علي الحارثي.
- أ. فاطمة الشريف.
- أ. فايزة الحربي.
- د. فهد الحارثي.
- د. فوزية البكر.
- أ. محمد الدندني.
- م. محمد الشهري.
- د. محمد الملحم.
- د. محمود رمضان (مُعِدّ التقرير(.
- د. مساعد المحيا.
- د. مشاري النعيم.
- أ. منى أبو سليمان.
- د. منصور المطيري.
- أ. مها عقيل.
- د. ناصر القعود.
- د. نورة الصويان.
- د. نوف الغامدي (رئيس لجنة التقارير(
- د. هند الخليفة.
- د. وفاء الرشيد.
- أ. وليد الحارثي.
تحميل المرفقات : التقرير الشهري 39