ملتقى أسبار التقرير الشهري رقم (42) لشهر سبتمبر 2018

سبتمبر 2018م

 

ناقش أعضاء ملتقى أسبار خلال شهر سبتمبر 2018 م العديد من الموضوعات المهمة، التي تمَّ طرحها للحوار على مدار الشهر، وشملت القضايا التالية:

 

القضية الأولى:

الورقة الرئيسة: هاكاثون الحج، نحو رؤية المملكة 2030

  • ·الكاتب: ضيف الملتقى: د. حسين الجحدلي.
  • ·المعقّب
  • د. الجازي الشبيكي.
  • ·إدارة الحوار: أ. سمير خميس.

القضية الثانية:

الورقة الرئيسة: تخصصات المستقبل

  • ·الكاتبة: د. نوف الغامدي.
  • ·المعقبان:
  • د. حامد الشراري.
  • أ. وليد الحارثي.
  • ·إدارة الحوار: أ. عبد الله الضويحي

القضية الثالثة:

الورقة الرئيسة: الجدوى الاقتصادية لصناديق الاستثمار الوقفية

  • ·الكاتب ضيف الملتقى: الدكتور/ سليمان الطفيل.
  • ·المعقّبون:
  • د. حميد الشايجي.
  • د. مشاري النعيم.
  • د. عبير برهمين.
  • ·إدارة الحوار: فريق القضية

القضية الرابعة:

الورقة الرئيسة: التصحُّر والاعتداء على البيئة في المملكة

  • ·الكاتب: د. خالد الرديعان.
  • ·المعقبان:
  • د. خالد الفهيد.
  • أ/ علياء البازعي.
  • ·­­­­­­­­­­­­­­إدارة الحوار: د. ريم الفريان.

القضية الأولى:

الورقة الرئيسة: هاكاثون الحج، نحو رؤية المملكة 2030

مقدمة:

هناك تحديات كبيرة تصاحب موسم الحج، منها: المواصلات، وإدارة الحشود، وترتيبات السفر والإقامة، وحلول التواصل وغيرها.ويهدف هاكاثون الحج بصورة رئيسة إلى خدمة الحجاج وتحسين تجربتهم من خلال ابتكارات تقنية واستغلال التكنولوجيا والإبداع لتيسير العملية وتحسين التجربة العامة للحجيج، إضافة إلى تحويل الأفكار إلى مشاريع استثمارية ربحية، وتوفير بيئة تساعد في تطوير المهارات الشخصية والفنية.

لذا كانت قضية ” هاكاثون الحج، نحو رؤية المملكة 2030″ من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدَّمها د. حسين الجحدلي، وتمَّ التعقيب على موضوع الورقة، وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (مخرجات الهاكاثون، خدمة الحج ما بين توظيف التقنية والعنصر البشري، الاستعداد المجتمعي والرسمي لتطبيق التقنية الحديثة، الاجتماعيون وتوغُّل التقنية في الحياة اليومية، التقنية وعلاقتها ببرامج رؤية 2030، الاعتماد على التقنية وتحقيق أهداف الرؤية، أسباب اختيار الحج لتنظيم الهاكاثون، أهمية هاكاثون ومواكبته لمحاور رؤية 2030، هاكاثون صناعة ثقافية مستقبلية، التقنية ومخرجات التعليم وثقافة العمل، مشكلة أمن المعلومات، فوائد متعدددة من هاكثون الحج، البُعد الثقافي التقني.. وصناعة دولة متميز تقنيًّا، صناعة الأجهزة التقنية المتقدمة، عقبات أمام المتنافسين في هاكاثون الحج والدعم المقدم لهم، مقررات دراسية في الحاسب الآلي). وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديد من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نص الورقة التي كتبها الدكتور/ حسين الجحدلي، وعقّبت عليها الدكتورة/ الجازي الشبيكي.

كتب د. حسين الجحدلي: لطالما كان مصطلح “الخطة الخمسية” من أشهر المصطلحات التي تعبّر عن الخطة الاستراتيجية للحكومة السعودية لخمس سنوات قادمة. هذا المصطلح -إن صحَّ التعبير- أصبح من التاريخ في عام ٢٠١٦، حين تمَّ إطلاق رؤية المملكة ٢٠٣٠.

المتفحص لرؤية المملكة 2030 وهيكلتها يستطيع أن يلمس اعتمادها على منهجيات إدارة المشاريع، وبناءها تحت مظلة برامج. كما أن القارئ للرؤية وبرامجها وما ستحققه حتى عام ٢٠٣٠ يستشعر وجود تحديات تحتاج التعامل معها، تتعدد وتختلف بحسب طبيعة البرنامج المراد تشريحه، لكنه في الوقت ذاته سيكتشف أنه ثمة تشابهات وقواسم مشتركة. من أهم هذه القواسم هو الاعتماد الصريح على التقنية؛ فالتقنية ستحلُّ تحديات القصور في رأس المال البشري، وتقليل التكاليف التشغيلية، ورفع الكفاءة الإدارية.

من هذا المنطلق، كانت الحاجة لبناء جيل من التقنيين في جوانب دقيقة تكاد تكون شحيحة في المرحلة الحالية. هذا البناء يجب أن يتجاوز التنظير إلى عمل ملموس على أرض الواقع، ويجب أن يتم قبل ٢٠٢٠، العام المحدد لإنهاء برامج البناء والتحوُّل.

بناءً على ما سبق وجب التركيز على التقنيات ذات الطلب العالمي العالي؛ كالأمن السيبراني، والبرمجة وتقنيات الذكاء الاصطناعي، هذا من حيث نطاق التقنيات المستهدفة. ومن حيث رأس المال البشري، تمَّ التركيز على طلاب المرحلتين الثانوية والبكالوريوس، وحديثي التخرج.

ولبناء جيل قوي في تخصصات دقيقة، فإن الشغف تجاه تعلمها يعتبر محور ارتكاز في البناء، وفي ضمان عدم التسرُّب لمجالات أخرى بعد الاستثمار فيه.

ولتحقيق هذا الشغف كان لزامًا حثّ الشباب للتعرف على هذه التقنيات، واستكشاف الميول، ومن ثَمَّ الجدية في طلب العلم. من هنا يظهر لنا أهمية الفعاليات المرتبطة بهذا المجال كهاكاثون الحج.

وقبل أن نركز الحديث على هاكاثون الحج، لعلَّنا نعرّف مفهوم الفعالية: فكلمة هاكاثون مكونة من شقين: Hack وتعني الاختراق والفحص، و Athon وهي لاحق لكلمة تعني ممارسة أمر معين لوقت يتجاوز الوقت الطبيعي لإنجازه.

والمقصود هنا، أن ما يقوم به المشاركون يتمثل في بناء برمجية خلال ٤٨ ساعة متواصلة، فالطبيعي أن المبرمج قد يقضي ٨ إلى ١٢ ساعة برمجة ثم يتوقف. أما عن جانب الحج؛ فالمراد توظيف جميع الطاقات البرمجية والأفكار لتفيد الحج كشعيرة لها ضوابطها وتحدياتها.

يأتي السؤال الآن.. كيف أسهم هاكاثون الحج في تحقيق رؤية ٢٠٣٠؟ وللجواب عن هذا السؤال، سنتناول محاور الرؤية الثلاثة وعلاقة كل منها بالهاكاثون.

المحور الأول: مجتمع حيوي:

بلغ عدد الراغبين الذين تقدموا بطلب للمشاركة في الهاكاثون أكثر من ١٨٠٠٠ مشترك، تم قبول ٣٠٠٠ مشترك منهم. كانت الشريحة العظمى منهم من الشباب السعودي، وهم شريحة مهمة في المجتمع، بل هم العمود الفقري لتحقيق الرؤية. ومن خلال المشاركة تحقق ما يلي:

١- الاحتكاك بتقنيين دوليين، حيث كان المشاركون من ٥٥ دولة. وهذا له دور إيجابي في التعرُّف على ثقافات الدول من حيث الذهنية التقنية، وفرصة قياس القدرات التي لها دور إيجابي في بناء الثقة، ومعرفة القصور ومن ثَمَّ ردمه.

٢- تضمَّن الهاكاثون دورات متخصصة مقدمة من متخصصين في مجالات التقنية والمال والأعمال والابتكار، وهذا بلا شك أسهم في بناء ثقافة المشاركين، وربط قدراتهم التقنية بواقع المال والأعمال، ليتم توظيف هذه القدرات لترجمة واقع ملموس موجَّه لهدف واحد.

٣- التغطية الإعلامية، وحصد رقم قياسي على مستوى العالم كأضخم هاكاثون، كان له دور في جذب شرائح المجتمع وتفاعلها مع الحدث، ومحاولة معرفة ماهيته وأهدافه. كما فتح قنوات تواصل، وجذب اهتمام الخارج لمعرفة المزيد عن قدرات السعودية التقنية، وماهية الحج وأهميته.

هذه النقاط أسهمت في تقليص الوقت اللازم لتفاعل المجتمع من ذاته مع المجتمعات الخارجية.

المحور الثاني: اقتصاد مزدهر:

لقد كان الهاكاثون فرصة مناسبة للتعريف بالفرص الاستثمارية بالمملكة. فإبراز الحج والتعريف به، والتعريف بتحدياته، قام مقام حملة تسويق مكثفة ومتخصصة، فكل تحدٍ هو في واقعه فرصة وأكثر من فرصة للاستثمار، فكل فريق أُلزم ببناء نموذج أعمال قبل بناء البرمجية.

كما أن مشاركة التحديات ومشاريع المشاركين بعد انتهاء الهاكاثون أسهمت في توليد حلول خارج نطاق الهاكاثون. ووجود العملاق التقني قوقل كراعٍ للهاكاثون، أسهم في لفت نظر الشركات الناشئة الدولية للسعودية كسوق محتمل.

بالإضافة إلى أن فوز فريق سعودي بالمركز الأول أثبت كفاءة شباب المملكة التقنية والمعرفية في ميدان مهم وحيوي، وهذا شجَّع الشركات الأجنبية لفتح قنوات تواصل مع شركات محلية أو أفراد متخصصين للدخول للسوق السعودي، أو اختيار السعودية كمقر يخدم تواجدها في الشرق الأوسط.

المحور الثالث: وطن طموح:

مع كل إنجاز يرتفع طموح الوطن، وترتفع معه الهمة والعزيمة، وتحقيق الهاكاثون لرقم قياسي في مجال متقدم كالبرمجة الموجهة هو مدعاة للفخر والاعتزاز، ورفع سقف الطموحات. من هنا نستطيع أن نرى هاكاثون الحج لبنة بناء في جسد الرؤية لتكون واقعًا معاشًا.

في الختام؛ أودُّ أن أورد بعض مشاهداتي كمحكم في الهاكاثون، والتي أعتقد أنها تعزِّز ما تمَّ ذكره:

– من ضمن المشاركين رجال أعمال، وبعض الحاصلين على شهادة الدكتوراه.

– بعض الفرق مكونة من أكثر من جنسية.

– شارك في الهاكاثون متسابقون غير مسلمين، وبعضهم لأول مرة يتعرف على الحج.

– العمل لمدة ٤٨ ساعة متواصلة كان كفيلًا بجعل الجميع يشعر بالألفة، ورفع الكلفة، وعدم الخجل من مشاركة الأفكار ونقدها بكل جدية.

– تواجدت فرق مدعومة من شركات، وأخرى مدعومة من دول.

وكان تعقيب د. الجازي الشبيكي: استرعى انتباهي فيما سبق مصطلح “هاكاثون الحج” الذي لم أسمع به مُسبقًا، وتساءلتُ باستغراب عن ربط هذا المصطلح الأجنبي بشعيرة الحج، ولكن ما أن اتضحت لي الرؤية حول مفهومه وأهدافه وغرض استخدام آلياته في الحج حتى وجدت تجربته تستحق الإشادة بالفعل من حيث التوقيت والأهمية، فمن حيث التوقيت؛ لأننا في شهر الحج في الفترة الحالية، أمَّا الأهمية فهي بلا شك مستمدة مما توليه بلادنا المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها من العناية الكبيرة بكل ما يتعلق بالحج وشؤون الحجيج، واعتبار ذلك من أولويات خدماتها ومشاريعها التي تنفق عليها بسخاء، وتسخِّر لها كافة الإمكانات المادية والبشرية في كل عام، وصولًا إلى رؤيتها المستقبلية الجديدة التي تُعدُّ البقاع المقدسة في مكة والمدينة من أهم مكامن قوتها، بما تمثله من عمق عربي وإسلامي، كما جاء في المقدمة الافتتاحية للرؤية التي كتبها سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز.

واتساقًا مع تلك الرؤية التي تستند آليات تنفيذها على التقنية بشكل كبير، استدعى الأمر إضافة بُعد ثالث مهم إلى جانب بُعديْ الإمكانات المادية والبشرية، ألا وهو بُعد الإمكانات التقنية الإلكترونية الحديثة التي تيسّر على الحجاج أداء مناسكهم في أوقات قياسية، في ظل التحديات المتصاعدة لتزايد أعداد الحجاج سنويًّا.

من هنا جاءت مبادرة الاتحاد السعودي للأمن السيبراني بتنظيم “هاكاثون الحج”، مواكبة لتوجه الدولة بهذا الخصوص، وتجسيدًا لرؤيتها التنموية المستقبلية الجديدة كما أشار إلى ذلك سعادة د. الجحدلي؛ بهدف استثمار أفكار شباب وشابات العالم التقنية للوصول لأفضل المشاريع في خدمة الحجيج في المجالات المحيطة بموسم الحج وتحدياته، من حيث الصحة العامة، والمواصلات، وإدارة الحشود، والتحكم بحركة المرور، وترتيبات السفر، والإسكان، وحلول التواصل، وغيرها.

إذا كان هذا الحدث قد كسر الرقم القياسي العالمي ودخل موسوعة “جينيس” كأكبر تجمع هاكاثوني في العالم حتى تاريخه، فإن الثمرة الحقيقية في نظري هي في استثمار العقول الشبابية المتميزة تقنيًّا من الجنسين بهدف خدمة هذا الركن العظيم من أركان الإسلام أولًا، ولتحقيق رؤية المملكة ثانيًا. كما أن المشاركة الفاعلة للفتاة السعودية في هذا التنافس تُعدُّ من أروع إيجابياته.

أخيرًا؛ أقترحُ على القائمين على هذا التجمُّع المتميز التفكير مستقبلًا في التطبيقات التقنية التي تساهم في إيجاد حلولٍ لأكثر سلبيات الخدمات المتكررة في الحج بالتزامن مع الحلول المُقدّمة للتسهيلات، خاصةً ما يعود منها للأحكام والفتاوى التي تستدعي إعادة النظر بالاجتهاد والقياس، بالتنسيق في ذلك مع المجامع الفقهية وهيئة كبار العلماء فيما يتعلق باستصدار الفتاوى المُيسِّرة على الناس أداء مناسك الحج.

­­­­

المداخلات:

مخرجات الهاكاثون:

يعتقد د. حمزة بيت المال أن الهاكاثون تظاهرة نفخر بها جميعًا، خاصة بعد التشارك العالمي؛ ولديّ بعض الاستفسارات عن مصير ما تمَّ التوصل إليه من منتجات (برامج). وهل كان هناك منتج محدد باستخدام البرمجة والتقنيات الحديثة تم التوصل إليه، يستطيع أن يحل أي مشكلة قد تظهر في مناسبة الحج أو العمرة، مثل: (إرشاد الحاج أو المعتمر، حل مشكلة السير، الإسكان، إدارة الحشود… وغيرها من مشاكل الحج والعمرة المتراكمة مع السنين، ولم تحل بطريقة فعالة)؟

علق د. حسين الجحدلي؛ فيما يتعلق بمخرجات الهاكاثون خاصة مشاريع المتسابقين، فإن مصير المشاريع المقترحة يختلف، فالهدف أن الفريق المشارك يطور الفكرة ويقدم نموذجًا مبدئيًّا يعمل لإثبات فكرته وقابليتها للتطبيق. ويمكن تلخيص مصير المشاريع فيما يلي:

أ- وجدنا أفكارًا جميلة لم يتم نمذجتها، وقد عرضت حاضنات “بادر” دعم ٥٠ مشروعًا لايصالها لمرحلة الاستثمار. فمصيرها إذا سارت على الخطة السليمة، أن تصبح شركات تخدم الحج وغيره.

ب- الفرق العشر الفائزة وخاصة الأربعة الأولى حصلت على دعم مباشر من الاتحاد لترجمة المشاريع لواقع يخدم الحج. وهذه مصيرها إن سارت على الدرب أن تكون حلولًا في حج ١٤٤٠ بإذن الله. علمًا أن الفريق الفائز بالمركز الأول قدَّم المشروع مجانًا لخدمة الحجيج.

ج- الأفكار التي تم نمذجتها ولكنها لم تتأهل للمرحلة الأخيرة، ومنها ما هو رائع ولكن يحتاج لدراسة بعض الجوانب، تحتاج إلى تسخير ٣٠ مليونًا لدعمها، وهذه مرحلة نضجها أعلى من مجموعة ” أ ” و لكن مصيرها كمصير مجموعة ” أ “.

٢- كل مشروع قُدِّم هو يتعامل مع مشكلة محددة، ولعل الفائز بالمركز الأول خير مثال لذلك. على الرغم من ذلك كانت هناك حلول عملت على عدة محاور في المشروع ذاته، وهذا أمر إيجابي. ولعليِّ أوضح أمرًا هنا؛ إن العمل على المشاريع كان خلال يومي الهاكاثون فلا يستطيع أحد أن يقدِّم مشروعًا بنمذجته متكامل الأركان؛ لذلك فإن تشكيل المخرجات لتكون واقعًا معاشًا في الحج يحتاج إلى وقت، كما أنه يعتمد على نضج المقترح.

خدمة الحج ما بين توظيف التقنية والعنصر البشري:

في السياق ذاته، تساءل أ. سمير الزهراني: هل تُرى بأننا وُفِّقنا في توظيف التقنية التكنولوجية في خدمة الحج والحجيج؟ أم أن الاعتماد على الكادر البشري سيستمر لسنوات وربما عقود أخرى؟

من جانبه، ذكر د. حمزة بيت المال أنه يتمنى أن يتم الاستفادة من التقنيات في خدمات الحج، والتقليل من القوى البشرية خاصة من غير السعوديين. وأضيف أن مجالات توظيف التقنية وبالأخص المتعلقة بالتطبيقات الذكية في الحج لا حدود لها.

لقد قامت أسبار قبل عامين بتنفيذ دراسة علمية عن تقييم الخدمات والاحتياجات في الحج بتكليف ومتابعة من هيئة تطوير مكة، دراسة ميدانية، ومجموعات نقاش متعددة، حصرنا فيها عددًا لا بأس به من المتطلبات ونقاط الضعف التي أعتقد أنه يمكن أن يكون للتطبيقات دور في حلها. لذلك كنت سعيدًا ومتفائلًا بالمسابقة، وواثقًا من أن مردودها سيكون إيجابيًّا.

الاستعداد المجتمعي والرسمي لتطبيق التقنية الحديثة:

أشار د. خالد الرديعان إلى أن هاكاثون الحج والرقمنة والتطبيقات الذكية نبَّهه شخصيًّا إلى مسألة الهوة التي بدأت تتسع بين جيلين سعوديين: جيل الشباب، وجيل الكهول.

الأول: جيل رقمي بامتياز، ويستخدم تقنية التطبيقات بكثافة، وهذا مؤشر ممتاز لصورة المستقبل القادم الذي سيعتمد كثيرًا على هذه التقنيات في جميع ضروب الحياة تقريبًا. أما الجيل الثاني (الكهول) فسيجد نفسه شبه أميّ؛ بسبب هذه الهوّة بين الجيلين، وبسبب عدم مواكبته المستمرة لكل ما هو جديد في تقنية التطبيقات.

ما أراه كمراقب اجتماعي أننا نتوجه للمستقبل، ولا شك أن مجتمعنا حيوي، ويذخر بالعديد من الكفاءات الوطنية التي نأمل منها النهوض بمجتمعنا وقيادته إلى المستقبل. رغم الغربة والاغتراب الذي أشعر به إلا أنني أحتفظ بالتفاؤل، وأعترف بمحدودية قدراتي، ولعلَّ الجيل القادم هو مَنْ يقود الطريق.

أردتُ فقط التنبيه على أهمية الوعي بالتعقيدات التي قد تنتج عن التقدم في تقنية التطبيقات، وأن نكون على أهبة الاستعداد لمحاولات عرقلة هذا التقدم من قِبل أطراف خارجية لا نراها، مما يندرج تحت الحروب الإلكترونية في الفضاء السيبراني؛ فبقدر ما نتقدم في السباق والهجوم التقني يجب أن يوازي ذلك تقدُّم آخر في وسائل الدفاع والحماية.

الاجتماعيون وتوغُّل التقنية في الحياة اليومية:

ذكرت أ. منى أبو سليمان أن هناك نقطة مهمة أيضًا عند تصميم التقنيات، وهي أننا نحتاج إلى سيدات مختصات في علم الاجتماع لإيجاد وجهة نظر مختلفة بنفس استراتيجية التصميم ومعرفة النتائج.

الكثير من التقنيات مصممة من قِبل مجموعة مهندسين ذكور، وذلك قد يكون أحد أسباب بعض المشاكل التي نراها اليوم في بعض التطبيقات (مثلًا؛ شركة أوبر لم تفكر كثيرًا بالناحية الأمنية)، ومن المؤكد أنه لو كان بها سيدات كافيات من البداية لكانت فكرة الأمن طُبقت؛ لأن ذلك من أهم النقاط لأي سيدة.

من جانبه ذكر د. حسين الجحدلي أن شركة أوبر تطبيق أمريكي، ولا أعلم إذا كان القائمون عليه “مجموعة مهندسين ذكور”، لكن الأكيد أنه يوجد أفضل الممارسات ومعايير للبناء الهندسي، سواء في البرمجيات أو غيرها. كون المشروع لم يراعها، فهذا لا يعني عدم وجودها، حيث إنَّه من متطلبات البناء الصحيح مشاركة الشريحة المستهدفة لتقديم الخدمة، لضمان مواءمتها.

وتساءل أ. سمير الزهراني، في مسألة الاغتراب: كيف لعلماء الاجتماع تجسير الفجوة الحاصلة بتوغل التقنية في حياتنا اليومية؟

علق د. خالد الرديعان بأنه لا يمكن الإفلات من تأثير التقنية والمخترعات في إحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية واسعة، وهو ما يجري في مجتمعنا بصورة متسارعة يصعب السيطرة عليها أو التنبُّؤ بنتائجها.

التقنية تقوم بدور مهم في إحداث ما لم تستطع القيام به القرارات السياسية والخطط التنموية، لكن الثمن الذي تدفعه المجتمعات جراء ذلك هو هذا الذي ذكرته عن الاغتراب والسيولة الحداثية؛ وذلك بسبب الهوّة بين ثقافة المجتمع التي تتسم ببطئها في التغير والاستجابة، والتنقية الغربية سريعة الإيقاع، وتفاجئنا كل يوم بجديدها؛ الأمر الذي يخلق عدم تكيف مع كل منتج جديد ينعكس بصورة الاغتراب التي قد يعاني منها البعض.

والعلوم الاجتماعية عمومًا تحاول أن تقدِّم فهمًا وتفسيرًا لهذه الظواهر وزيادة الوعي بها؛ حتى تكون الصدمات أقل تأثيرًا على الأفراد، طالما أن التقنية لا يمكن الوقوف في وجهها وصدها؛ فهي متغلغلة في تفاصيل حياتنا اليومية، ونستخدمها على نطاق واسع، وهو ما يجعل من الأهمية بمكان التعايش معها وتطويعها، والنظر إليها كوسيلة لتيسير أمور الحياة، مع عدم إغفال أهمية العلاقات الإنسانية في خضّم الانغماس في العصرنة والتحديث.

الأسرة والمجتمع الصغير والعلاقات الإنسانية تظلُّ ملاذات مهمة للأفراد للتخفيف من وحشة الاغتراب النفسي والاجتماعي والحداثة السائلة، وهيمنة التقنية؛ لما تمثله الأسرة والحميمية من مصادر أولية للعيش الإنساني، والبقاء بعد هجوم الاستهلاكية، وزحف العولمة التي حجَّمت البعد الإنساني عند الفرد، وجعلت منه كائنًا مستهلكًا يلهث خلف كل جديد.

ويبقى الدِّينُ سدًّا منيعًا وملاذًا لغذاء الروح، وتوفير الطمأنينة التي ينشدها الفرد في خضّم هذا الطوفان الذي نعيشه. ولديَّ يقين أن الحاجة للدين ستتضاعف مستقبلًا حتى في أوساط المجتمعات غير المتدينة، أو التي أدارت ظهرها للدين في مرحلة ما.

الإنسان لا يحيا بالخبز وحده؛ فالجانب الروحي يظلُّ له اعتباراته، بحيث يكون للحياة معنى وغاية. صحيح أن التقنية تجلب رفاهية اقتصادية ووفرة في الوقت وقدرة هائلة على التحكم في البيئة المحيطة بنا، لكن ذلك غير كافٍ على المستوى الإنساني.

التقنية وعلاقتها ببرامج رؤية 2030:

ذكر أ. سمير الزهراني؛ مع الاتفاق أن التقنية أكبر من مجرد تطبقيات وهواتف ذكية؛ لذا فإنني أتساءل: ما علاقة التقنية ببرامج الرؤية المتعددة؟ وكيف ستحسِّن التقنية من جودة الحياة؟ وكيف ستفعل التقنية برنامج التوازن المالي؟ وكذلك كيف ستحل التقنية مشاكل الإسكان؟

أجاب د. حسين الجحدلي بأن الرؤية مكونة من ١٢ برنامجًا تنفيذيًّا، والتقنية عَصب حيوي بها. ولنتجاوز برنامج التحول الوطني إلى غيره ليتضح الأمر.

برنامج الإسكان يعتمد بشكل أساسي على التقنية، فهناك منصة “سكني” التي ستكون منصة إلكترونية لرفع جميع عقارات المملكة بها، وتربط المستفيد بمكاتب العقار وبالمطورين وبوزارة الإسكان، لتوثيق وتيسير بيع الوحدات السكنية. وهناك منصة “إجارة”، التي سهلت ووثقت عملية تأجير الوحدات، ونظَّمت العلاقة بين المستأجر والمالك، وتوثيق مكاتب العقار وضبط جودتها.

كذلك يوجد مبادرة “مسكن” خلال ٣٠ يومًا، والتي أعلن عنها الوزير قبل سنتين، وهي بالتعاون مع مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وهي تعتمد على التقنية، ولكن ليست الإلكترونية؛ بل تقنيات البناء الحديثة. من هنا يتضح لنا أمران مهمان:

١- أن مفهوم التقنية لا يمكن اختزاله في تطبيق جوال أو هاتف ذكي، بل هو أشمل وأعم، فالتقنيات الزراعية تعتمد على التقنيات الميكانيكية أكثر من الإلكترونية.

٢- لا يوجد مشروع اليوم يعتمد على تخصص واحد فقط، بل طبيعة المشاريع تفرض وجود تنوُّع في التخصصات تعمل بشكل تكاملي بدلًا من النمط التعارضي السابق.

الاعتماد على التقنية وتحقيق أهداف الرؤية:

تساءل أ. سمير الزهراني: هل يمكن التعويل على التقنية في استيعاب وتحقيق بعض أهداف رؤية 2030 التي يصعب أن تتحقق مع رأس المال البشري؟

يتصور د. عبد العزيز الحرقان أننا أبعد ما يكون عن التقنية. كما أن جامعاتنا عاجزة عن تخريج طلاب لهم معرفة تقنية عالية، بالإضافة إلى أن المبتعثين يبتعدون عن التقنيات المتقدمة؛ لصعوبتها، ولعدم وجود طلب عليها.

من جانبه، ذهب د. حسين الجحدلي إلى أن المملكة مصنفة على أنها سادس دولة من حيث عدد علماء الـ STEM في ٢٠٣٠ من قبل OECD، فدورنا بناءً على الخطط الموضوعة يؤكد أنه سيكون للمملكة دورٌ فاعلٌ في التقنية بشتى مجالاتها.

ومع اتفاق أ. سمير الزهراني مع تصوُّر د. عبد العزيز الحرقان إلا أنه أضاف؛ لنأخذ الهند مثالًا… رغم الصعوبات التنموية الجمَّة، والمناخ السياسي الخارجي المتأزم إلا أنها استطاعت أن تنال الريادة في علوم الكمبيوتر والرياضيات. وبالتالي؛ ألا يمكن لدولة بحجم المملكة العربية السعودية أن تحقق بعضًا في الريادة ولو جانبًا جزئيًّا من جوانب التقنية الواسعة والمتعددة؟

بينما يرى د. عبد العزيز الحرقان أن الهند استثمرت في مواردها البشرية، وأصبح خريجو جامعاتها قادة للشركات الكبرى (بيبسي، ومايكروسوفت كمثال)، ونحن لم نفعل ذلك. سوق العمل يحكم مخرجات الجامعات، فحينما يكون سوق العمل السعودي لا يتطلب هذه الوظائف عالية التقنية، فإن الجامعات لن تطوِّر مناهجها، هذا على افتراض أن الجامعات تستجيب لقوى الطلب في سوق العمل. ولننظر مَنْ يوظِّف خريجي جامعة “إم آي تي”، والمهم الإنتاج وليس العدد، وبالمقارنة هل يتساوى مهندس خريج جامعة “المجمعة” في المستوى مع مهندس من “ستانفورد”؟

علق د. حسين الجحدلي بأنه مما لا شك فيه أن البيئة التعليمية لها دور في بناء الكوادر. ولكن هل يُعتقد أن مَن يُدرِّس في “إم آي تي” أو “ستانفورد” هم خريجوها؟ وهل كل خريجي “ستانفورد” متميزون؟، وهل كل المتميزين درسوا في “ستانفورد” و “إم آي تي”؟ لذا فإنني أرى أنه قد يتجاوز مهندس “المجمعة” كثيرًا من خريجي “ستانفورد”.

نحن الآن نبني للمستقبل، والجامعات بدأت تأخذ دورًا إيجابيًّا في البناء، ولعل ما ذُكر من ارتفاع معدل النشر العلمي هو مثال جيد أن العمل يُثمر، والتوجه السليم مطلب.

وأشار د. حميد المزروع إلى أن الابتكار بالتقنية والبرمجة يكمن في التفكير ضد التيار، حيث إنَّ البرامج الذكية التي تفيد المجتمع غالبًا ما تأتي من الأفكار الذكية، التي لم يفكر فيها الآخرون، والقابلة للنمذجة والتطبيق. ونحتاج في هذه المرحلة الانتقالية الرقمية لتطور المملكة إلى توجيه الشباب لاستيعاب الأنماط المناسبة للتفكير، المرتبط بالإنتاج وبإمكانية التوصل إلى اختراعات قابلة للتطوير والاستخدام التجاري. كما أن وجود معاهد نوعية في هذه المجالات أصبح ضرورة لتأهيل الكفاءات للمراحل السنية المبكرة.

أضاف د. حسين الجحدلي أنه بلا شك أن مفهوم التقنية واسع وليس حكرًا على التقنية الإلكترونية أو البرمجية، ولعل الأهم من التقنية هي العقول التي توظِّف التقنية لصالحها. ولعليِّ أوضِّح بمثال: اليابان والسعودية؛ كلتاهما تحتاج الذكاء الاصطناعي لسدِّ العجز في رأس المال البشري، الفرق يكمن في أن غالبية الشعب الياباني كبير في السن؛ لذلك كان الاعتماد على الروبوت في المصانع وغيرها… بينما لدينا غالبية الشعب شباب، فَلو تمَّ الاعتماد على الروبوت لتمَّ تعطيل الشباب ولم تتحقق التنمية، فالأهم من التقنية هي كيفية توظيفها.

أسباب اختيار الحج لتنظيم الهاكاثون:

حول تساؤل أ. سمير الزهراني عن سبب اختيار الحج لتنظيم الهاكاثون، ولماذا كان الحج مناسبًا لتنظيم الهاكاثون؟ أجاب د. حسين الجحدلي بأن الحج جمع بين الحسنيين:

أولًا: تحديد نطاق يعكس خصوصية سعودية، وهذه تحققت؛ حيث إنَّ المملكة هي المسؤولة عن الحج والحجيج.

ثانيًا: أن المملكة تريد مشاركة دولية، وهذه تحققت أيضًا؛ فالدول الإسلامية شعرت بأن الموضوع يعنيها، فكونت قاعدة دولية، بل تجاوزت المشاركة الدول الإسلامية، وتحقق أكثر من المُخطَّط له.

أهمية هاكاثون ومواكبته لمحاور رؤية 2030:

أكد د. عبد الله محمد بن صالح أن اختيار الحج لأهميته للعالم الإسلامي ولمملكتنا خاصة دينيًّا وسياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا؛ لذا فإن موضوع هاكاثون الحج يتواكب مع محاور رؤية المملكة 2030، ويسهم في تحقيق بعض الأهداف للوصول إلى الحالة المحددة في الرؤية في نهاية عام 2030. كما أن استخدام التقنية في بعض الأعمال في حج هذا العام أسهم في نجاحه الرائع مقارنة بحج الأعوام الماضية منذ تأسيس ألمملكة.

إنَّ اهتمام المملكة بالتقنية والاستفادة من خبرات الآخرين وتنمية وزيادة مهارات شباب الوطن بدأ منذ فترة وخاصة عند إعداد الرؤية، وأنا متفائل جدًّا لمستقبل هذه البلاد خاصة أن شبابنا لديهم المعرفة والقدرة والرغبة على الابتكار والإبداع والتميز متى ما وُجد التشجيع والدعم والتقدير، وهذا هو الذي أُخذ به خلال العامين الماضيين. ولكي تتحقق أهدافنا علينا أن نبتعد قدر الإمكان من جلد الذات، والتركيز على التعليم وخاصة في مجال التقنية والمعرفة واستخدام التطبيقات الذكية، وتشجيع شبابنا على التعليم التقني، ورجال الأعمال على الاستثمار في هذه المجالات، وحكومتنا بزيادة التركيز على البحوث والدراسات واستقطاب الكفاءات العالمية، وتنمية مهارات شبابنا وتشجيعهم لمزيد من العطاء والتجديد والابتكار.

ويرى م. محمد الشهري أهمية الاحتكاك بتقنيين دوليين في هاكاثون الحج، حيث كان المشاركون من ٥٥ دولة، وهذا له دورٌ إيجابيٌّ في التعرُّف على ثقافات الدول من حيث الذهنية التقنية، وفرصة قياس القدرات التي لها دور إيجابي في بناء الثقة ومعرفة القصور ومن ثَمَّ ردمه. كما أن تبادل المعارف والخبرات في مجال التقنية وتطبيقاتها مهمٌّ جدًّا، وحبذا لو تصدر أنظمة تساعد على دخول وخروج الأشخاص ذوي الخبرات التقنية الخاصة للملكة بيسر وسهولة.

هاكاثون صناعة ثقافية مستقبلية:

من وجهة نظر د. مسفر الموسى؛ لا ينبغي التعامل مع هاكاثون الحج في حدود المسابقة ذاتها ولا في نتائجها الآنية، بل هو صناعة ثقافية أعمق من غرض المسابقة ذاتها. هذه الثقافة تشمل مجموعة من الأطراف، هم المبتكرون أنفسهم، والقطاع الخاص، ومؤسسات البحث العلمي في مجال التقنية وغيره من المجالات:

ففي جانب المبتكرين أو لنقُل الشباب، سيسهم المشروع في تحفيزهم للعمل والابتكار، وسيكسر حاجز الرهبة المجتمعية التي صوَّرت أن الابتكارات لا بد أن تكون معقدة، وتأخذ سنوات لإنجازها، فيما الواقع يقول إن بعض الابتكارات العظيمة قد تتم بأدوات ميسرة، وبأشخاص مثلنا، وفي مدة زمنية قصيرة.

أما الجانبان الآخران وهما القطاع الخاص والمراكز البحثية، فهذا المشروع الواقعي من المفترض أن يؤثِّر في مستوى الثقة بالشباب السعودي، وأن يسهم في تعاون أكبر بين القطاع الخاص ومراكز الأبحاث، بالاعتماد على المخزون البشري الذي يمثِّل رأس المال الحقيقي لفتح آفاق استثمارية واقتصادية جديدة ومستدامة.

التقنية ومخرجات التعليم وثقافة العمل:

ذهب د. عبد الله بن ناصر الحمود إلى أنه بالرغم من وجود فقر وتدنٍ في البنى التحتية في مناطق عدة في الهند – مثلًا- إلا أنه يبقى القانون قويًّا وحاكمًا، كما أن العاملين هناك مهنيون بدرجة مبهرة في مجالات العمل المختلفة، فثقافة العمل والقانون سائدة. وهناك توقعات للهند أن تكون إحدى أهم قوى العالم اقتصاديًّا خلال عقدين من الآن.

وبالتالي فإنه في موضوع الحج، ودعمًا للجهود الجبارة التي تبذلها بلادنا، ربما نحتاج مزيدًا من الضغط على اعتبار أن المهنية والقانون حاكمان قويان لأي جهد.

يرى أ. محمد الدندني أننا في كل الأمور نحتاج لـ “ثورة ثقافية” تنظِّم طريقة التعليم والتفكير، وتجعل الإنتاج هو المعيار، فلن يحترم المهنية والقانون إلا المنتجون.

من جانبه يعتقد د. عبد العزيز الحرقان أن جودة البحوث العلمية تُقاس بعدد الرجوع إليها، ولنلاحظ ارتفاع أرقام الرجوع للبحوث السعودية من ٢٠٠٨ نتيجة اعتماد الخطة الوطنية للعلوم والتقنية سنة ٢٠٠٧، ولنلاحظ انخفاض الأرقام بعدما انتهت الخطة.

ما أودُّ أن أقوله إن مخرجات التعليم تناسب حالنا كمستخدمي التقنية وليس كمنتجين لها، والأمر يحتاج إلى عمل مؤسسات وخطط وبرامج لتطوير القدرات الوطنية، ونقل التقنية إليها.

اختلف معه د. حسين الجحدلي في هذا الطرح، وذكر أن جامعة البترول متميزة فيما يخصُّ الهندسة والتقنية، وكذلك كلية الهندسة بجامعة الملك عبد العزيز، والأمثلة كثيرة على تميز جامعاتنا في مجالات مختلفة. مع التأكيد على أن العمل والتطوير مطلوبان بلا شك.

بينما ذكر د. عبد العزيز الحرقان أن شركة أرامكو مثالٌ لتوظيف القدرات التي تحرص جامعة الملك فهد على الاستجابة لمتطلباتها من القوى البشرية، أما جامعات المملكة بلا استثناء فهي لا تُقارن بالجامعات المنتجة للتقنية.

مشكلة أمن المعلومات:

أشار د. حميد المزروع إلى أن الأمن السيبراني أصبح مشكلةً تهدِّد معظم الدول، وقد يُستخدم كنوع من الحروب الاقتصادية والعسكرية؛ لذلك على مؤسسات الدولة سرعة استقطاب المواهب والكفاءات السعودية لحماية نظام الاتصالات بالمملكة، خاصة شبكات الوزارات السيادية والمؤسسات المالية، وكذلك الخدمية مثل الكهرباء وغيرها.

علق د. مساعد المحيا بأنه يبدو أن من أكبر التحديات التي تواجه الجهات الحكومية والخاصة ما يتعلق بأمن المعلومات، من حيث البعد الاستراتيجي لكل ما يرتبط بالأنظمة والتجهيزات والبرامج والمحتوى، على نحو يحقِّق درجات عالية من مواجهة كافة التهديدات، لاسيما أن كثيرًا من التعاملات اليوم أصبحت إلكترونية، وعبر تطبيقات تتعلق بأجهزة الدولة أو الشركات، وهي خدمات جميلة سيكون من غير المقبول أن يكون بعضها ضعيفًا في بنائه البرامجي، فيسهل اختراقها من هاكر ضعيف القدرات.

ما يقلق هو أن كثيرًا من أداء تلك المؤسسات الحكومية ومستقبلها بيد شركات متخصصة في أمن المعلومات، والمؤسف أن عددًا منها لا تزال القوى البشرية الأجنبية هي التي تصنعه وتنتجه وتتحكم فيه.

لذا سيكون من المهم أن نعمل على صناعة هاكاثون متخصص في أمن المعلومات للجهات الحكومية وشبه الحكومية، كي ينتج كفاءات سعودية قادرة على تقديم الحلول في جانب أمن المعلومات.

فوائد متعدددة من هاكثون الحج:

ذكر د. مساعد المحيا أنَّ الذي أفهمه أن الهاكاثون هو سباق للعقول في ميدان البرمجة، والسؤال: ما حجم ما قدَّمه الهاكاثون للحجاج مقارنة بما تقدِّمه مؤسسات الدولة الأمنية والصحية والبلدية والإدارية والإعلامية والاقتصادية؟ حاولتُ أن أفهم ماذا قدمه الهاكاثون أكثر من كونه تطبيقًا تمَّ تسويقه على نحو واسع.

لدينا مبرمجون أعدُّوا تطبيقات كثيرة وبرامج عديدة، ولم يجدوا هذا الاهتمام والحضور؛ لذا أرجو أن لا يُظن بأن الهاكاثون هو بداية اهتمام وانطلاقة شبابنا بالتقنية؛ وإنما على المستوى الفردي والمؤسسي هناك أعمال كثيرة وتطبيقات أوسع وأهم واكبت التقدُّم التقني.

الشباب السعوديون متميزون في استثمار التقنية وتوظيفها؛ لذلك استطاعوا إنشاء تطبيقات جديدة منذ مدة؛ فقط هم يحتاجون لمثل هذا المهرجان، وأن يجدوا الدعم المباشر؛ لأن مثل هذه التقنية تتطلب تكاليف نوعية وخاصة.

والذي فهمته أن التطبيقات التي فازت سَتُعتمد في العام القادم، وأتوقع أن التطبيق الذي يفوز كان يُفترض فيه أن يُدشن في هذا الحج، إذ إنَّ الانتظار لعام قادم يعني وجود كثير من المتغيرات والتطورات التي تعني بالضرورة قصوره، وربما الحاجة لتطبيق آخر.

وأشار د. حسين الجحدلي أن مخرجات الهاكاثون ليست مجرد برامج/تطبيقات، بل هي مشاريع عمل لها نمذجة لإثبات إمكانية عملها.

كما أن تقييم المشاريع لم يعتمد على قابلية تطبيق الفكرة فقط. ووجود تطبيق يتفاعل معه الحجيج أو مزودو خدمات الحج سواء شركات أو مؤسسات حكومية لا يعني انحصاره في تقنيات التطبيقات فقط، فالمشروع اعتمد على تقنية وأكثر، وبعض التطبيقات اعتمدت على تقنيات مختلفة. من ضمن التقنيات التي تمَّ التعامل معها- على سبيل المثال-: (RFID، Cloud Computing، Zigbee، Front end technologies، Big data، Biometrics، Tracking systems، Image processing، AI، Databases).

الجيد في الأمر أن المشروع سيتحول إلى شركة، وإن كان سوقها سيكون الحج لكنها ستبني قدرات في تقنية معينة يمكن الاستفادة منها في قطاعات أخرى. لذلك فإنه لبناء نظام متكامل يستوعب احتياجات الحج نحتاج على أقل تقدير إلى ٦ أشهر. وهذه المشاريع ستساعد في تحقيق طموح المملكة لزيادة عدد الحجيج والمعتمرين.

ومما لا شك فيه أن شبابنا متميز ومجتهد، ولله الحمد، لكن هناك إشكالية فيما يتعلق بالتقنية، ولنأخذ البرمجة كمثال؛ فهناك الكثير ممَّن يستطيع أن يبرمج وينتج برمجية تقدِّم خدمة معينة، ولكن نكتشف أننا عندما نتعامل مع كفاءة البرمجية أو قدرة توسُّعها تفشل هذه البرمجيات، والسبب أننا لا نحتاج فقط مبرمجين، بل نحتاج مختصين في (Software complexity – Software performance –Software architecture – Software testing)، وقِس عليها التقنيات الأخرى، فلا يوجد بطل تقني يحلُّ كلَّ المشاكل ويطوِّر المستقبل، وإذا خرجتَ من هذا النفق، تحتاج لخبراء استدامة التقنية، فما الفائدة من إنتاج حل يصبح من الماضي خلال بعض الأشهر، ولا يُمكن تطويره أو دعمه؟

البعد الثقافي التقني.. وصناعة دولة متميز تقنيًّا:

حول إشارة الدكتور مسفر الموسى إلى البُعد الثقافي التقني الذي أشاعه الهاكاثون بما وجده من تغطية إعلامية متميزة، تساءل أ. سمير الزهراني: هل يمكن لهذا البُعد أن يصنع منَّا دولة متميزة في التقنية، ولو على مستوى الشرق الأوسط؟ وكيف يتم استثمار النجاح السعودي الذي أشار إليه الدكتور حسين فيما يتعلق بتصنيف المملكة في المركز السادس من بين الدول من حيث عدد علماء الـ stem؟

علَّق د. حسين الجحدلي بأن السعودية الآن تجتهد لتكون في خانة الدول المصنعة، أو بمعنى أشمل وأصحّ منتجة للتقنية في مجالات عدة، ونحن نُعتبر متقدمين في بعض الصناعات/التقنيات على مستوى الشرق الأوسط، ولنا السبق، كتقنيات الفضاء.

كما أن تصنيف المملكة لم يكن مجاملة، بل كان رصدًا لواقع الدول ودراسة خططها المستقبلية، والقارئ للشأن السعودي خلال السنتين الماضيتين يُلاحظ كمية الدعم والتوجيه لبرامج الـ STEM بشكل عام، وفي وزارة التعليم بشكل خاص. ولكي تكتمل منظومة الاستثمار في المجال، لا بد من صناعة قطاع خاص يستفيد من هذه الكوادر ليضمن استمرار تطويرها.

صناعة الأجهزة التقنية المتقدمة:

أشار د. حامد الشراري إلى أن صناعة الأجهزة التقنية المتقدمة تتكون من جزأين أو عنصرين مكملين لبعضهما، الجزء الملموس (القطع الإلكترونيةHardware Technology)، والجزء المحسوس (البرمجيات Software Technology)، وأحد منتجات البرمجة التطبيقات التي تُحمَّل من المتاجر الإلكترونية على الأجهزة الكفية والهاتفية الذكية…إلخ، والتي أصبحت تُدِرُّ مبالغ طائلة لمنتجيها والمستثمرين فيها. ولكون صناعة البرامج تعتمد على القدرة الذهنية للفرد مع تأسيس علمي جيد، فقد استثمرت بعض الدول، مثل الهند وكوريا الجنوبية، وحقَّقت تميزًا في إنتاجها، وأصبحت من المنافسين والمؤثرين على المستوى العالمي فيها.

صناعة hardware هو تحدٍ كبير أمام الدول النامية للحصول على التقنيات المتقدمة؛ لحساسية وتحفُّظ بعض الدول المتقدمة على نقل بعض تلك الصناعات (سر الصناعة)، ووضع القيود المعقدة لامتلاكها.

أمَّا صناعة البرمجيات software فهي صناعة تستطيع أي دولة أن تنافس فيها، من خلال تعليم جيد مرتكز على علوم الحاسوب والرياضيات، ومسابقات تشجيعية للإبداع والابتكار، مثل مسابقات الهاثكون، وبيئات حاضنة لها ومستثمرة فيها. لذا، أرى أهمية التركيز على صناعة البرمجيات، وتشجيع المستثمرين على الدخول في صناعتها.

عقبات أمام المتنافسين في هاكاثون، والدعم المقدم لهم:

حول تساؤل د. حامد الشراري عن العقبات التي تواجه المتنافسين في مسابقة هاكاثون الحج فيما يتعلق بإبداعاتهم وابتكاراتهم حتى تكون منتجات تُباع في السوق، أجاب د. حسين الجحدلي بأن أول وأهم عائق هو الاعتقاد بأن الفكرة لا تستحق؛ لأنها لم تحقق مراكز متقدمة، وهذه ردة فعل رصدت. ثاني معوق هو اعتقاد المتسابق بأن فكرته أفضل فكرة وغيرها لا يستحق، وهذه تضعه في دوامة الهدم لا البناء. وتعتبر هذه المعوقات نفسية ترتبط بنظرة الشخص للحياة بشكل عام، ومشاركته بشكل خاص.

أما من حيث الفكرة، فأهم عائق هو مواءمة التقنية مع احتياج السوق، من حيث اشتراطات الاستثمار، وهناك مشاريع ستواجه تضاربًا مع بعض الأنظمة، وهذه تحتاج تدخُّل الحكومة لتحقيق منافع أكبر.

كذلك تساءل د. حامد الشراري: هل تمَّ تشكيل فريق من قبل مسؤولي الاتحاد السيبراني لتقديم الدعم للفائزين، لتتحول مشاريعهم إلى منتجات تُسوَّق، سواء استشاريًّا أو غيره؟ وما هي طبيعة الدعم؟ وهل هناك جهات أو شركات بادرت بتبني أحد المشاريع الفائزة؟ أخيرًا؛ ماذا عن حماية الحقوق والملكية الفكرية، وإصدار براءات للاختراعات؟

          أجاب د. حسين الجحدلي عن ذلك بأن الفائز سيتم دعمه لتحويل مشروعه إلى واقع، ويعتبر الدعم ماديًّا ومعرفيًّا ولوجستيًّا. وقد تبنت “بادر”٥٠ مشروعًا، ودعمت منشآت بـ ٣٠ مليونًا، كل مليون يدعم مشروعين على الأقل.. و غيرها. بالإضافة إلى أن مَنْ قدَّم حلًّا مبتكرًا يحق له تسجيله باسمه، ولا يحق استخدام حلٍّ محميّ فكريًّا إلا برخصة.

مقررات دراسية في الحاسب الآلي:

يعتقد أ. محمد الدندني أنه لا بد أن يكون هناك دور لوزارة التعليم منهجيًّا بإضافة مادة ولو عامة في علوم الحاسب الآلي والإنترنت والبرمجيات. لعلها تكون مادة أشبه بتاريخ هذا العالم الحديث نسبيًّا، كي يستنير الطلبة والطالبات في مراحل متقدمة، وربما ساعدت في اكتشاف مواهب مبكرًا، ويكون المنهج ديناميكيًّا، وتُبيَّن خطوطه العريضة، وعلى أستاذ المادة تحديث المنهج تماشيًا مع سرعة هذا العالم.

يرى د. حسين الجحدلي أن ما أورده أ. الدندني ضرورة وليس ترفًا، ويجب فعل ذلك في مراحل متقدمة كالصفوف الأولية، وليس في مراحل بعد ذلك.

التوصيات:

– التركيز على التعليم في مجال التقنية والمعرفة واستخدام التطبيقات الذكية، وتشجيع شبابنا على التعليم التقني، وحكومتنا بزيادة التركيز على البحوث والدراسات واستقطاب الكفاءات العالمية.

– أهمية التركيز على صناعة البرمجيات، وتشجيع المستثمرين على الدخول في صناعتها.

– ضرورة وجود معاهد نوعية في مجالات التقنية والبرمجة لتأهيل الكفاءات للمراحل السنية المبكرة.

– في هذه المرحلة الانتقالية الرقمية لتطوُّر المملكة، لا بد من الاهتمام بتوجيه الشباب إلى استيعاب الأنماط المناسبة للتفكير المرتبطة بالإنتاج، وبإمكانية التوصل إلى اختراعات قابلة للتطوير والاستخدام التجاري.

– وجود سيدات مختصات في علم الاجتماع لإيجاد وجهة نظر مختلفة بنفس استراتيجية التصميم ومعرفة النتائج.

– أهمية الوعي بالتعقيدات التي قد تنتج عن التقدُّم في تقنية التطبيقات، والاستعداد لمحاولات عرقلة هذا التقدم من قِبل أطراف خارجية، وهو ما يندرج تحت الحروب الإلكترونية في الفضاء السيبراني.

– الاستفادة من التقنيات في خدمات الحج، والتقليل من القوى البشرية خاصة من غير السعوديين.

– أن يكون هناك دور لوزارة التعليم منهجيًّا، بإضافة مادة ولو عامة في علوم الحاسب الآلي والإنترنت والبرمجيات.

– على مؤسسات الدولة سرعة استقطاب المواهب والكفاءات السعودية لحماية نظام الاتصالات بالمملكة، خاصة شبكات الوزارات السيادية والمؤسسات المالية، وكذلك الخدمية مثل الكهرباء.. وغيرها.

– العمل على صناعة هاكاثون متخصص في أمن المعلومات للجهات الحكومية وشبه الحكومية، كي ينتج كفاءات سعودية قادرة على تقديم الحلول في جانب أمن المعلومات.

الملخص التنفيذي:

القضية: (هاكاثون الحج، نحو رؤية المملكة 2030).

إنَّ المتفحص لرؤية المملكة 2030 وهيكلتها يستطيع أن يلمس اعتمادها على منهجيات إدارة المشاريع، وبناءها تحت مظلة برامج. كما أن القارئ للرؤية وبرامجها وما ستحققه حتى عام ٢٠٣٠ يستشعر وجود اهتمام واعتماد صريح على التقنية؛ فالتقنية ستحلُّ تحديات القصور في رأس المال البشري، وتقليل التكاليف التشغيلية، ورفع الكفاءة الإدارية. بالتالي وجب التركيز على التقنيات ذات الطلب العالمي العالي؛ كالأمن السيبراني، والبرمجة، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى التركيز على الشباب.

وأكدت الورقة الرئيسة على أهمية بناء جيل قوي في تخصصات دقيقة، يكون الشغف تجاه تعلمها يعتبر محور ارتكاز في البناء، ولتحقيق هذا الشغف كان لزامًا حثّ الشباب للتعرف على هذه التقنيات، واستكشاف الميول، ومن ثَمَّ الجدية في طلب العلم، من هنا تظهر أهمية الفعاليات المرتبطة بهذا المجال كهاكاثون الحج.

وأوضحت الورقة بعض مساهمات هاكاثون الحج في تحقيق رؤية ٢٠٣٠؛ من حيث بلوغ عدد المشاركين 3000 مشترك، وكانت الشريحة العظمى من الشباب السعودي الذين أُتيح لهم الاحتكاك بتقنيين دوليين. كما أسهم هاكاثون الحج في التعريف بالفرص الاستثمارية بالمملكة، بالإضافة إلى أن فوز فريق سعودي بالمركز الأول أثبت كفاءة شباب المملكة التقنية والمعرفية في ميدان مهم وحيوي، وهذا شجَّع الشركات الأجنبية لفتح قنوات تواصل مع شركات محلية أو أفراد متخصصين للدخول للسوق السعودي، أو اختيار السعودية كمقر يخدم تواجدها في الشرق الأوسط.

وذهبت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة إلى أن هاكاثون الحج كسر الرقم القياسي العالمي، ودخل موسوعة “جينيس” كأكبر تجمع هاكاثوني في العالم حتى الآن. كذلك فإن الثمرة الحقيقية لهذا الحدث هي استثمار العقول الشبابية المتميزة تقنيًّا من الجنسين؛ بهدف خدمة هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وتحقيقًا لرؤية المملكة، كما أن المشاركة الفاعلة للفتاة السعودية في هذا التنافس تُعدُّ من أروع إيجابياته.

وأشارت المداخلات التي جرت على هذه الورقة إلى أنه لا يمكن الإفلات من تأثير التقنية والمخترعات في إحداث تغيرات اجتماعية واقتصادية واسعة، وهو ما يجري في مجتمعنا بصورة متسارعة يصعب السيطرة عليها أو التنبُؤ بنتائجها.

وذهب المناقشون إلى أن المملكة مُصنَّفة على أنها سادس دولة من حيث عدد علماء الـ STEM في ٢٠٣٠ من قِبل OECD، فدورنا بناءً على الخطط الموضوعة يؤكد أنه سيكون للمملكة دورٌ فاعل في التقنية بشتى مجالاتها. بالإضافة إلى مواكبة هاكاثون الحجمع محاور رؤية المملكة 2030، ومساهمته في تحقيق بعض الأهداف للوصول إلى الحالة المحددة في الرؤية بنهاية عام 2030.

وأكدت المداخلات على أهمية الاحتكاك بتقنيين دوليين في هاكاثون الحج، حيث كان المشاركون من ٥٥ دولة، وهذا له دور إيجابي في التعرُّف على ثقافات الدول من حيث الذهنية التقنية، وفرصة قياس القدرات التي لها دور إيجابي في بناء الثقة ومعرفة القصور. كما أن تبادل المعارف والخبرات في مجال التقنية وتطبيقاتها مهمٌّ جدًّا.

وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها:التركيز على التعليم في مجال التقنية والمعرفة واستخدام التطبيقات الذكية، وتشجيع شبابنا على التعليم التقني وحكومتنا بزيادة التركيز على البحوث والدراسات واستقطاب الكفاءات العالمية، التركيز على صناعة البرمجيات وتشجيع المستثمرين على الدخول في صناعتها، وضرورة وجود معاهد نوعية في مجالات التقنية والبرمجة لتأهيل الكفاءات للمراحل السنية المبكرة، وكذلك الاهتمام بتوجيه الشباب إلى استيعاب الأنماط المناسبة للتفكير المرتبطة بالإنتاج وبإمكانية التوصُّل إلى اختراعات قابلة للتطوير والاستخدام التجاري، والاستفادة من التقنيات في خدمات الحج والتقليل من القوى البشرية خاصة من غير السعوديين، بالإضافة إلى العمل على صناعة هاكاثون متخصص في أمن المعلومات للجهات الحكومية وشبه الحكومية، كي ينتج كفاءات سعودية قادرة على تقديم الحلول في جانب أمن المعلومات.

 

القضية الثانية:

الورقة الرئيسة: تخصصات المستقبل

مقدمة:

إنَّ تخصصات المستقبل تعني قراءتنا له كيف سيكون؟ ومدى إدراكنا لإمكانات الحاضر، وكيف يتم استثمارها كقاعدة ننطلق من خلالها للمستقبل؟ وهل نحن مؤهلون لذلك؟

كما تعني تخصصات المستقبل بالنسبة لنا البدء من الآن في تحويل رؤية 2030 من نظرية إلى واقع. فهي إذًا قضية وطن ومستقبل وطن، ويمكن اعتبارها في الواقع امتدادًا لقضية (نيوم.. وجهة المستقبل)؛ من هنا تكتسب قضية “تخصصات المستقبل” أهميتها.

لذا فإنها تُعدُّ من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدَّمتها د. نوف الغامدي، وتمَّ التعقيب على موضوع الورقة، وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (مقرر دراسي في رؤية 2030، علم البيانات.. النفط القادم، تخصصات المستقبل في المؤسسات التعليمية، العلوم الإنسانية وموقعها من تخصصات المستقبل، تطوير تخصصات العلوم الإنسانية لمواكبة رؤية 2030، تحقيق التوازن بين تطوير التخصصات التقنية والإنسانية، إلغاء بعض تخصصات العلوم الإنسانية، دمج الأقسام المتشابهة في قسم واحد، المؤسسات التعليمية ومواكبة سوق العمل، معرفة الاحتياج الحقيقي من تخصصات تناسب سوق العمل، قدرة الجامعات السعودية على مواكبة سوق العمل، قدرة الجامعات على إحداث تغييرات في تخصصاتها، العلاقة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، جدلية أهداف التعليم ومخرجاته، التعليم الفني والمهني وجامعات الأطراف، الذكاء الاصطناعي والاعتماد على الإنسان، الإنسان ومهن المستقبل، الذكاء الاصطناعي والقيام بمهام الإنسان، الإعلام وتخصصات المستقبل، الروبوت ومهن المستقبل، رؤى خارجية حول التعليم في المستقبل، تجارب شخصية في التعامل مع الطالب الجامعي، تطوير مناهج التعليم، التعليم في الهجر والقرى، التعليم الفنلندي أنموذجًا، الأيديولوجيا إحدى عقبات التعليم، الفجوة بين التعليم في المملكة والدول المتقدمة، التجارب التعليمية الخارجية والبعدان الثقافي والاجتماعي، إشكاليات التعليم في المملكة، بعض أسباب ضعف التعليم، مبادرة المدرسة الافتراضية). وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديد من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نص الورقة التي كتبتها الدكتورة/ نوف الغامدي، وعقَّب عليها الدكتور/ د. حامد الشراري، والأستاذ/ وليد الحارثي.

كتبت د. نوف الغامدي: في السابق كانت هناك فجوة كبيرة ما بين متطلبات سوق العمل والتعليم، ولكن بدأت هذه الفجوة تضيق بعض الشيء. من البرامج المهمة “برنامج وظيفتك بعثتك” الذي يوقِّع مع الطالب المبتعث اتفاقية للدراسة منتهية بالتوظيف في كثير من القطاعات المهمة، مثل: الصحة، والاتصالات، والطيران،.. وغيرها.

كان خريج الثانوية العامة سابقًا لا يجد أمامه خريطة واضحة للمستقبل، ولا يعلم أين يوظِّف مهاراته ورغباته، ويترك نفسه للقبول في أي تخصص دون رؤية واضحة، لكن الآن وفِي ظل رؤية المملكة 2030 أصبح الأمر مختلفًا تمامًا، فهناك خططٌ مستقبلية واضحة، وهناك متطلبات محتملة لسوق العمل، والطالب ما عليه سوى أن يختار الطريق الذي يرغب في أن يسلكه ويعمل به في المستقبل، لم يعد هناك أوضح من ذلك، ومن الخطأ الكبير أن نجد بعض الطلاب ليس لديهم اطلاع على رؤية 2030 ومستقبل وخطط كافة القطاعات الحكومية والخاصة، ومعرفة تامة بالوظائف التي سيزيد الطلب عليها أو المستحدثة، والتخصصات التي تسعى وزارة التعليم لدعمها لتأهيل الكوادر التي تسهم في تحقيق الرؤية فور تخرُّجها.

في عالم اليوم الممتلِئ بالاختراعات التقنية، فإنه من غير المستبعد أن يتحول المساعد التنفيذي في المستقبل من النمط التقليدي الذي نعرفه إلى مدير علاقات شخصية افتراضية (أفاتارAvatar)، وقد تكون مهنة الطهاة المتخصصين في مجال الأطباق المطبوعة بالتقنية ثلاثية الأبعاد أو محللي حركة مرور الطائرات بدون طيار هي أسماء لمهن غير مشهورة في وقتنا الراهن، إلا أن هناك كثيرًا من المسميات الوظيفية التي قد تجعل الكثيرين يعيدون النظر فيما يعرفونه.

وبدءًا من الأعمال التي تُركِّز على مبدأ الاستدامة وانتهاءً بالمهن التي تُدير التقنيات المستقبلية مثل أجهزة الروبوت، فإنه لا يخفى أن التكنولوجيا الحديثة تحمل تأثيرًا ضخمًا على الصورة العامة للمهن التي ستكون متاحة في سوق العمل مستقبلًا، ومع رؤية 2030 أصبحت هناك تخصصات مهمة تفتح المجال لوظائف مستقبلية محتملة، كالقانون المتخصص، مثل: (قانون الطيران التجاري، قانون الحوكمة، قانون التجارة الدولية، وتخصص تحليل البيانات). أذكرُ عندما كُنت أعمل في إحدى شركات التأمين العالمية كُنَّا بحاجة إلى محلل بيانات طبية سعودي/ سعودية، وكنتُ وقتها الوحيدة سعودية الجنسية بجانب بريطانيين بعد أن اجتزت اختبارات تعجيزية، تشمل تخصصات طبية مختلفة ولكنها كانت نادرة وقتها جدًّا.

أيضًا من التخصصات المطلوبة تخصص: (الأمن السيبراني، والمحاسبة، والتأمين، والموارد البشرية، والطاقة البديلة، والذكاء الاصطناعي، والتجارة الإلكترونية)، وغيرها الكثير من التخصصات التي يجب على طلاب الجيل الحالي الاستفادة منها وفق رغباتهم، وكلما كانت خطواتهم واثقة، وتعرف أين تضع قدميها، أفسحت لهم الطرق نحو المستقبل الذي يحلمون به.

وتحمل التقنية تأثيرًا كبيرًا على حياتنا اليومية، بما في ذلك فرص العمل المتاحة للخبرات الشابة والباحثين عن العمل المؤقت على حد سواء، لكن البقاء في الطليعة وعلى اطلاع بهذه المسارات المهنية المستقبلية قد يساعد الخريجين في العثور على عمل في مجال مربح وواعد، تكون التكنولوجيا عصبه وشريانه. وهناك مهن ترتكز على مبدأ الاستدامة، مع ازدياد عدد الشركات التي تركز على التقليل من النسخ الورقية أو الكربونية والعمل، وذلك ضمن الجهود العالمية لبناء مستقبل صديق للبيئة، يقلل من استهلاك الطاقة، وقد حدثت مؤخرًا طفرة في المهن التي تهتم بالبيئة؛ كالتخطيط الحضري للمدن الذكية، إذ يتوجب على مخططي المدن والمعماريين أن يراعوا في وقتنا الراهن ليس فقط تدفق حركة المرور فحسب، بل عليهم أن يراعوا نوع حركة المرور التي تعيق حركة شوارعنا (أو سمائنا) بعد 20 أو 30 سنة قادمة، ويتعين على هؤلاء المخططين الذين يركزون على المستقبل أن يفكروا في كيفية إدخال التقنيات الذكية في الأبنية والشوارع، وحتى مواقف السيارات، وكيف سيقومون بإجراء تعديلات ملائمة على البنية التحتية، وهذا يرتبط إلى حد بعيد بالمسائل البيئية، ومصادر الطاقة المتجددة، وتحويل “المدن الذكية” إلى مدن بمصادر مستدامة.

وتُمثل الْيَوْمَ، وفِي المستقبل، التقنيات الحديثة- مثل: الطائرات الصغيرة، وأجهزة الروبوت، وأجهزة الواقع الافتراضي- فرصًا غير محدودة للأعمال والشركات الحديثة على حد سواء للاستفادة من قوتها ودقتها. ومن المسارات والتخصصات التي تشقُّ طريقها نحو المستقبل:

– قيادة طائرات بدون طيار أو طائرات درونز: هذه المهنة تمثل احتمالًا ضخمًا لمستقبل تكثُر فيه الصناعات والمسارات المهنية، والتي تتراوح من تلك الموجودة في الجيش إلى مجال تعبئة منتجات المستهلكين، وسواء أتمَّ تطويرها لأغراض الأبحاث أو مهام سرية أو جلسات تصوير فنية أو ببساطة لتسليم آخر طلبات المتاجر، وسوف يتمتع أولئك الذين بوسعهم قيادتها بفرص عمل كثيرة، وسيكون لديهم حرية الاختيار من بينها.

– أيضًا؛ تصميم الملابس بطابعة ثلاثية الأبعاد: إن عالم الموضة لا يتمتع بحصانة ضد تأثير التكنولوجيا، فقد ظهرت في السنوات القليلة الماضية تصاميم أُنجزت باستعمال الطابعات ثلاثية الأبعاد، وقد عُرضت في عروض الأزياء بدءًا من ميلانو في إيطاليا وانتهاءً بمدينة نيويورك، وقد لفتت الجواهر والإكسسوارات وحتى ملابس السباحة الأنظار في هذا المجال، وتُقدِّم الطباعة الثلاثية الأبعاد إمكانيات تصنيع غير مكلفة، وبما أن هذه التقنية تتطور فقد بدأت تغزو الأسواق، ومن المتوقع أن تواصل ثورتها؛ مما سيحدث تغييرًا جذريًّا في مجال عمليات التصميم وصناعة الملابس التي نعرفها اليوم.

– تخصص الهندسة المعمارية للواقع الافتراضي: أصبح مصطلح “الواقع الافتراضي Virtual Reality” أحد المصطلحات الطنانة ضمن عدة صناعات عديدة، بدءًا من تلك المرتبطة بالترفيه، مرورًا بألعاب الفيديو والأفلام، وانتهاءً بمجال العناية بالصحة، ويُطبق اليوم الواقع الافتراضي المعزز كواحد من أشكال العلاج. وتمثل هذه التقنية فرصًا هائلة للمصممين المهتمين للحصول على فرص جديدة ومثيرة للعمل في المستقبل.

– تخصص التدريب الرياضي والصحي بالتدقيق الكمي الذاتي: فلقد قارب على الانتهاء عصر المدربين الشخصيين، وجاء عصر التدقيق الكمي الذاتي، وباتباع هذا الأسلوب نصبح قادرين على تعقُّب كل شيء، بدءًا بمقدار السعرات الحرارية المتناولة يوميًا، إلى متوسط معدل ضربات القلب، إلى مستويات الإرهاق الجسدي، لكن معرفة الأرقام ببساطة لا تحسّن من أنماط حياتنا، إلا أن القدرة على استخلاص هذه البيانات ورسم خطة غذائية أو رياضية مميزة تُمثل مسارًا مختلفًا كليًّا، ويخلط هذا المسار المهني بين مهارات أخصائي التغذية والمعالج الفيزيائي مع تحليل البيانات، وقد تكون مناسبة جدًا لأي شخص مولع ومتمكن من هذا المجال التقني.

– هندسة حلول الشبكة الذكية: أصبح مفهوم الشبكة الذكية محطَّ انتباه واهتمام المخططين والمعماريين المدنيين والخبراء في المصادر المستدامة على حد سواء، وبإمكان جمع مصادر الطاقة الفعالة مع المرافق التقليدية أن يساعد في الوصول إلى مدن أكثر نظافة وأكثر اعتمادًا على الطاقة المتجددة في المستقبل. هذا المسار المهني المليء بالعراقيل سيصبح أحد الخيارات المغرية للمهندسين والخبراء التقنيين، أيضًا التخصصات المرتبطة بإدارة البيانات والإدارة المالية، فالبيانات الضخمة توفر فرص عمل مهمة هذه الأيام، وهذا ما يعرفه تمام المعرفة خبراء البيانات ومحللوها في المفاهيم والممارسات العصرية، مثل التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي زادت من حدة المنافسة، ومثل هندسة البيانات الضخمة، حيث انتقل تحليل البيانات إلى نطاق أكبر، وعبر القدرة على التفسير والتقدير لكميات البيانات المخيفة التي سيحملها المستقبل خاصة مع انتشار إنترنت الأشياء، فذلك يعني فرص عمل كثيرة للباحثين عن العمل في هذا المجال المتنامي.

– أيضًا؛ تداول العملات البديلة وتقنيات الـ Fintec: قد يعتري البنوك والمحللين الماليين في المستقبل القلق إزاء أمور أكثر أهمية من سعر الجنيه الإسترليني أو اليورو أو الدولار، إلا أن العملات البديلة، مثل عملة (بيتكوين Bitcoin – وهو برنامج للدفع عبر الإنترنت) قد تكون المصدر المحتمل لإطفاء نجم المؤسسات المالية التقليدية والبنوك، وانبثاق مهن جديدة جرّاء ذلك. وفي ذروة نجاح بيتكوين، سيكون بوسع “الشركات الصغيرة” على سبيل المثال جني أرباح غير مسبوقة. وعلى الرغم من أن قيمة عملة بيتكوين تتأرجح منذ نشأتها، إلا أن كثيرًا من المختصين يتوقعون أنه حتى من ناحية الفكرة، فإن هناك عملات بديلة ستظهر، وتكون فرصة استثمارية هائلة، ولا ننسى تخصصات البلوك تشين بمختلف فروعها.

– تخصص إدارة أعمال التجارة الإلكترونية: تُطور شركات البناء والحديد الذكية مجتمعات شاملة لها عبر الشبكة، وهناك كثير من شركات البيع بالتجزئة عبارة عن واجهات عرض للنسخ الرقمية، ومديرو الأعمال على دراية تامة بتحسين محركات البحث وتكنيكات التسويق عبر البريد الإلكتروني والشبكة، وتأتي إدارة المحتويات وتوزيعها في قمة مهن التجارة الإلكترونية المنافسة.

أخيرًا؛ يقول علي النعيمي رئيس شركة أرامكو ووزير النفط السابق في كتابه (من البادية إلى عالم النفط): إنه عندما كان موظفًا صغيرًا كان مديره الأمريكي (هال ستريكر) يرى أن السعوديين ليس لديهم القدرات للعمل في الوظائف القيادية داخل الشركة، ولكنه كان يرى أن عليًّا مجتهد، وقد تكون لديه مسيرة مهنية ليصبح مديرًا لأحد الأقسام بعد 15 عامًا، معتقدًا أنه يثني عليه، وأنه سيسعد بهذا التوقُّع المستقبلي، ولكن بعد 15 عامًا أصبح علي النعيمي رئيسًا لشركة أرامكو، واستدعى مديره الأمريكي السابق لمكتبه، وقال له: “ها قد مضى خمسة عشر عامًا، فما رأيك في مسيرتي المهنية؟” عندها ضحكا، وعاد كلٌّ منهما إلى عمله. لم يحقق علي النعيمي ذلك إلا لأنه آمن منذ البداية بأن تخصص الجيولوجيا هو مفتاحه ليصبح رئيسًا للشركة، وتخصَّص فيه رغم كل الطرق والإغراءات لأن يتخصص في مجالات أخرى، ولكنه كان يعرف أين يضع قدميه، وإلى أين يذهب.

وكان تعقيب د. حامد الشراري: تطرَّقت دكتورة نوف في ورقتها للحاضر والمستقبل، وتحدَّثت بإسهاب عن تخصصات المستقبل، منها العمل الافتراضي الذي سيكون على قائمة وظائف المستقبل. ​لكني سأعود إلى منتصف القرن الماضي لإلقاء الضوء على التخصصات الهندسية بوجه خاص؛ كونها تخصصي، وإنَّ ما ينطبق عليها قد ينطبق على التخصصات الأخرى التي كانت في الماضي تُعدُّ تخصصات المستقبل. ​

إن علم الهندسة بدايةً من الآلة القديمة مرورًا بمرحلة الثورة الصناعية في مطلع القرن الماضي حتى التطور التقني المذهل الحديث المتمثل في ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات- الثورة الصناعية الرابعة- هو رائد هذا العصر وإحدى الركائز المهمة لاقتصاد أي دولة، وهو المحرك الأساس للتطور الصناعي والتقني.​

بدأت الهندسة بفروع (أقسام) كبيرة ورئيسة، وهي: الهندسة المدنية، والهندسة الكهربائية، والهندسة الميكانيكية، ومع الوقت أصبحت تقليدية، أي من الصعب أن تجد إحدى كليات الهندسة تخلو من هذه الأقسام.

وهذه الفروع ازدادت تشعُّبًا على مرِّ السنين، وظهرت فروع هندسية جديدة تمامًا؛ كهندسة الحاسب الآلي، والهندسة النووية، والهندسة الوراثية، وهندسة المواد، وهندسة النقل، وهندسة الاتصالات،… وغيرها، حتى تحوَّل قسم الهندسة المدنية- على سبيل المثال- في بعض الجامعات إلى كلية مستقلة؛ نظرًا لكثرة فروعها. إلا أن المتابع للهندسة وما يطرأ عليها من تغيير في القرن الواحد والعشرين يُلاحظ أن هناك اتجاهات حديثة في التخصصات الهندسية بدأت بوادرها تظهر على الأفق ولو بنطاق ضيق، وهو دمج الفروع التقليدية والمتشعبة منها لتكون فروعًا حديثة مغايرة ومعاكسة لما تمَّ خلال القرن الماضي لتفي بمتطلبات حاجة السوق والمستقبل، أي أن التفرُّع أصبح تجمعًا، والمهندس المتخصص في مجال معين أصبح مهندسًا متخصصًا في عدة مجالات في الوقت نفسه. ومن هذه التخصصات: تخصص الميكترونيكيس (Mechatronics) الذي هو خليط لمجموعة تخصصات هندسية تقليدية (الكهربائية، والميكانيكية، والحاسب… إلخ)، وتخصص النانو (Nano) الذي أيضًا يجمع بين عدة تخصصات: (الفيزياء، الإلكترونيات، الكيمياء، الأحياء، والطب… إلخ)، والتقنية الحيوية (Biotechnology) الذي يجمع (الهندسة، العلوم، الطب، الزراعة… إلخ)، وتخصص علوم المواد الذي يجمع عدة تخصصات هندسية، وتخصص الاتصالات اللاسلكية الذي لا يخفى على أحد أهميته، ونحن في عصر ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات نتعامل مع الجوال والإنترنت اللاسلكي وأجهزة تحديد المواقع (GPS)… إلخ. ​

          إن التحديات في التعليم الهندسي والتقني فيما يُسمَّى عصر عولمة السوق يحتم علينا النظر في التعليم الهندسي التقليدي، وإعادة صياغة أقسام الهندسة التقليدية، وكذلك النظر في محتوياته وأهدافه ليتلاءم مع متطلبات المستقبل وتحدياته، ويساعد على منافسة البرامج الهندسية والتقنية في الدول المتقدمة الأخرى. إن النظرة الحديثة لمهندس المستقبل، خلاف النظرة التقليدية الحالية التي تعتمد على خريجين يختزنون كمًا هائلًا من المعلومات في عقولهم، تركز على خليط من المهارات والعمل الجماعي والإبداع والتحكم والتأثير في محيطه، والقدرة على فهم لغة العصر واستيعاب التقدم الهندسي والتقني الهائل والمتسارع وتوظيفه وتطبيقه وتطويره بما يتوافق مع متطلبات عصر العولمة الاقتصادية، واستطاعة خلق فرص عمل مستقبلية. ​

          لذا أرى أن تتبنى كليات الهندسة إجراءات مرنة لفتح أقسام جديدة تتعاطى مع المتغيرات، وتتكيف مع متطلبات المستقبل الوظيفية. أو أن تكون برامج (مسارات) تحت الأقسام التقليدية، ومن ثَمَّ تصبح أقسامًا منفصلة تمامًا فيما بعد. ولا شك أن هذه الأقسام أو البرامج الحديثة سيكون لها نتائج إيجابية على مستقبل اقتصاد الوطن، وتجعلنا في مصاف الدول المتقدمة صناعيًا وتقنيًا، فضلًا عن كونها دعمًا لما يُسمَّى بالاقتصاد المبني على المعرفة، كما أنها توفِّر أيدي هندسية تقنية عاملة ذات كفاءة عالية مواكبة لمتغيرات هذا العصر في مدننا ومصانعنا الاقتصادية الضخمة. وأن لا ننتظر نصف قرن حتى تثبت جدوى الاتجاهات الحديثة في علم الهندسة ومن ثَمَّ نطبقها، أي نبقى نصف قرن متأخرين في علم الهندسة عن العالم المتقدم تقنيًّا، وننتظر حتى تصبح هذه التخصصات الحديثة تقليدية ومن ثَمَّ نطبقها.

أيضًا؛ أستذكر الماضي عندما بدأت أدرس بقسم الهندسة الكهربائية- كلية الهندسة بجامعة الملك سعود- كان هناك خمسة مسارات: (اتصالات، إلكترونيات، قوى كهربائية، آلات كهربائية، تحكم آلي)، وكان يشترك معنا في دراسة بعض المواد طلاب كلية الحاسب الآلي، وبوجه خاص طلاب قسم هندسة الحاسب والشبكات؛ نظرًا للترابط الوثيق بين الهندسة الكهربائية والحاسب الآلي. خلال الدراسة عُدلت الخطة الدراسية للقسم واختُزلت في مسارين:(الاتصالات، والقوى الكهربائية) للإيفاء بحاجة السوق (شركات الكهرباء والاتصالات)، والطلب العالي لهذين المسارين آنذاك. الجدير ذكره أن ساعات المسار لا تتجاوز 30 ساعة من 175 ساعة، وشهادة التخرُّج كانت بتخصص الهندسة الكهربائية فقط لا تشير إلى المسار الذي يبينه السجل الأكاديمي، وقد أحسن واضعي الخطة صنعًا بأن الخريج ليس مقيدًا بمسار معين؛ مما أعطى الطالب فرصة أكبر للتوظيف سواء بشركات الكهرباء أو الاتصالات.

وسرني كثيرًا طرح جامعة الملك سعود لثلاثة تخصصات جديدة- تخصصات المستقبل- في: (الأمن السيبراني، وعلم البيانات، وإنترنت الأشياء) للمرحلة الجامعية –الطالبات- لسد حاجة سوق العمل السعودي المستقبلية، لكن هل الجامعة طرحت هذه البرامج وفقًا لبيانات دقيقة معتمدة على حاجة سوق العمل الفعلية؟ وأين الجامعة من طرح برامج في تخصص النانو الذي كان متصدرًا للإعلام والمجالس في وقت من الأوقات؟

هذه التخصصات الجديدة التي طرحتها جامعة الملك سعود استُشرت فيها هاتفيًّا، وقد اقترحت عليهم التالي:​

1- أن تكون هذه التخصصات الجديدة كمسارات ضمن خطة القسم للتأسيس العلمي والمعرفي الشامل للطالب، وإعطاء الطالب فرصة الاختيار والتموضع في المسار الملائم له؛ لأن الطالب خلال الدراسة يصبح أكثر نضجًا، ويحدد توجهه ورغبته التخصصية الدقيقة، بما يحقق تطلعاته وأهدافه وقدراته، وقصة الوزير النعيمي التي أشارت لها الدكتورة نوف في نهاية ورقتها خير مثال. ​

2- أن جهات التوظيف ذات المهنية العالية يهمها ما حصل عليه الطالب من معرفة ومهارة، وذلك من خلال مراجعة السجل الأكاديمي الذي فيه المسارات والمواد.​

3- أن تُطرح هذه التخصصات المستقبلية بعد الدراسة الجامعية، مثلًا: دبلوم عالي، أو ماجستير.​

لا شك أننا مقبلون على تخصصات جديدة في السنوات القادمة ستغزو سوق العمل وسيختفي عددٌ من الوظائف والمهن الحالية، وعلينا مواكبتها والسير بركبها، هذه التخصصات أساسها وجوهرها التقنيات التي تعتمد على البرمجة، منها: الذكاء الصناعي، والروبوت….إلخ، كما أشارت لها الدكتورة نوف في ورقتها. أيضًا؛ علينا أن لا ننسى أن هناك تخصصات تقليدية ما زال السوق بحاجة لها. لذا يهمنا كيفية بناء تخصصات المستقبل في مؤسساتنا التعليمية (الجامعات وكليات التقنية)، أن تُطرح وفق حاجة سوق العمل المستقبلية الفعلية، وبيانات ومعلومات صحيحة. من هذه المنطلقات، أسعد بطرح بعض الأفكار التي قد تكون مناسبة ومفيدة في هذه القضية:​

1- أن تطرح في هذه المرحلة تخصصات المستقبل في الجامعات أو الكليات بالتدرُّج من خلال مسارات ضمن الخطط الدراسية، ومن ثَمَّ تُفصل كتخصصات منفصلة فيما بعد وفقًا لحاجة سوق العمل وزيادة الطلب.​

2- أن تُصمم خطط الكليات أو الأقسام ذات العلاقة بتخصصات المستقبل بطريقة مرنة تتسم بسرعة إنهاء إجراءات التعديل والتطوُّر على الخطط للاستجابة السريعة مع المستجدات ومتطلبات سوق العمل، مستفيدة من أفضل التجارب العالمية. ​

3- أن تتفق أو تطلب الجهات ذات العلاقة بهذه التخصصات المستقبلية من الكليات تصميم برامج تفي بمتطلباتها المستقبلية، من حيث العدد المتوقع ونوعية التخصص، وبالتالي نضمن أن لا نُخرِّج طلابًا يزيدون عن حاجة السوق في هذه التخصصات. فمثلًا: الهيئة الوطنية للأمن السيبراني تضع خطتها للعشر سنوات القادمة في تخصص الأمن السيبراني من حيث العدد ومحتوى البرامج التخصصية، وتتفق مع إحدى الجامعات لتنفيذها، أو من خلال “برنامجك وظيفتك بعثتك”.​

4- إيجاد مراكز توعوية وإرشادية لتوجيه الطلاب والطالبات للتخصصات المستقبلية في المؤسسات التعليمية. ​

5- على الهيئة العامة للإحصاء تكوين قاعدة بيانات لحاجة سوق العمل من تخصصات الحاضر والمستقبل.​

6- أن تخصصات المستقبل هي خليط من تخصصات الحاضر، وتتطلب خليطًا من مهارات الحاضر أيضًا.

          وأختم بمقولة للدكتور غازي القصيبي- رحمه الله-: “إن اكتشاف المرء مجاله الحقيقي الذي تؤهله مواهبه الحقيقية لدخوله، يوفِّر عليه الكثير من خيبة الأمل فيما بعد”​.

كما عقَّب أ. وليد الحارثي: يسرني أن أشير إلى أن الطفرة التقنية في جميع العلوم والمجالات، والتي أنتجت تخصصاتٍ جديدة ممتدة الأبعاد، أقبلت عليها الحكومات والشركات الكبيرة، وهو الأمر الذي تأخرنا في خوض غماره عن بقية العالم المتقدم، لكننا في رؤانا الجديدة والمتحضرة ركّزنا على التحوُّل الرقمي، ومؤازرة القطاع الخاص، وجلب الاستثمارات الأجنبية، وتنمية رأس المال الاجتماعي، والتي ترتبط بهذه التخصصات الجديدة ارتباطًا وثيقًا.

ففي عام 2009 بدأت جامعات الولايات المتحدة الأمريكية تقديم مقررات دراسية وكورسات متخصصة في البلوك تشين، منها: جامعة بريستون، وإم آي تي، ونيويورك وكاليفورنيا وستانفورد.. إلخ. المُلفت هنا أنّ الخبراء يقولون بأن طلاب المحاسبة الذين لا يدرسون البلوك تشين لن يستطيعوا المنافسة في المستقبل القريب.

أيضًا؛ فإن 17 جامعة أمريكية استحدثت تخصصًا يُعرف باسم: الاستدامة، (Sustainability)، وهو تخصص يجمع بين القانون والأخلاق والاقتصاد وإدارة الأعمال وإدارة الموارد، ولاقى خريجو هذا التخصص إقبالًا كبيرًا من الشركات الحريصة على تقليل الفاقد والهدر وتدوير المخلفات والمحافظة على البيئة، ومن المعلوم لدينا أنَّ “الاستدامة” هي أحد الطموحات التي تسعى لها رؤية المملكة 2030.

وفي أمريكا هناك نحو 166 برنامجًا لدرجة الماجستير والبكالوريوس في تخصص الحوسبة السحابية، وقرابة 75 برنامجًا تعليميًّا يقدم شهادة في تخصص: حماية الوطن (Homeland security)، وتحتاج أمريكا إلى 4.4 ملايين متخصص في علم البيانات (Data Science)، وغيرها الكثير من التخصصات التي قطعت فيها الولايات المتحدة الأمريكية شوطًا كبيرًا.

ما سبق يقودني إلى القول: إننا بحاجة فعلية إلى برامج تطبيقية في الجامعات، وفي المراحل الدراسية قبل الجامعية، لتقديم تخصصات المستقبل، وتهيئة الجيل لها. البرامج التطبيقية أولًا، وليس النظرية، أو شبه التطبيقية، أو البرامج التي تُشبه البالون (فهي من الخارج سمينة لكنها من الداخل ضحلة وهزيلة).

أطلقنا برامج كثيرة للتخصصات الجديدة، وللبعثات فيها، لكننا نحتاج إلى إعادة النظر في أن تُنفَّذ هذه البرامج لدينا، فنحن نمتلك كل الإمكانات والأدوات التي تُيسّر وتُسيّر ذلك.

ونحن بحاجة أن نصل إلى أبعد ما يمكن الوصول إليه في تطبيق برامج معرفية وتعليمية ومهنية تُحقق هذه التخصصات المتطورة، والأهم من ذلك التي تتصل بشكل وثيق باحتياجنا الوطني في كافة المجالات، فمثلًا: لم يعد غريبًا أن نسمع مثل هذه التخصصات المستقبلية: محسن حركة مرور طيار بدون طيار، أو عالم نفسي روبوت، أو رجل مرور فضائي، أو معلم افتراضي.

المداخلات:

مقرر دراسي في رؤية 2030:

حول ما أشارت إليه د. نوف في ورقتها الرئيسة من أنه من الخطأ وجود بعض الطلاب ليس لديهم اطلاع على رؤية 2030، وخطط القطاعات الحكومية والخاصة المستقبلية والوظائف التي سيزيد الطلب عليها أو المستحدثة، تساءل أ. عبد الله الضويحي: كيف نرى أهمية ذلك؟ وكيف تتم معالجته؟ وهل نضمِّن المناهج التعليمية شيئًا عن الرؤية، ومدن المستقبل “نيوم”، وغيرها؟

بهذا الخصوص، اقترح د. خالد الرديعان أن تكون الرؤية مادةً تُدرَّس في السنة التحضيرية على المستوى الجامعي لكي يكون الطلاب على اطلاع على ما يمكنهم القيام به من اختيار التخصص المناسب.

علم البيانات.. النفط القادم:

يرى د. عبد العزيز الحرقان أن تخصصات المستقبل تنطلق من سياسات الدولة ونموها الاقتصادي، فإذا كنا سنستمر على ما نحن عليه فلن يتغير شيء وستستمر وظائفنا التقليدية في النمو، وقد سبق أن كتبت مقالًا عن علم البيانات عنه* وأنه هو النفط القادم، وأن البعض يعتبر هذا العلم هو ما نحتاجه في المستقبل القريب، وهو الوسيلة لاستثمار المعرفة التي تتولد عن البشر يوميًا. كذلك فإن علماء البيانات هم الذين يدرسون ويبحثون في وضع حلول لاستخلاص المعلومات من هذه الكمية الهائلة من البيانات، وهم يسعون لبناء نظام قادر على النفاذ لهذه المعلومات آنيًّا أو تاريخيًّا وتحليلها وإتاحة المجال للمستخدم بأن يبحث عن المعلومات حسب المحددات التي يريدها، وهم تمامًا مثل مَنْ يبحث عن الإبرة في كومة القش. ولكن عن أي بيانات نتحدث، وكل أنظمة تقنية المعلومات التي تختزن هذه البيانات هي مملوكة لشركات أجنبية؟

تخصصات المستقبل في المؤسسات التعليمية:

في إجابته على تساؤل أ. عبد الله الضويحي حول مدى وجود قاعدة بيانات صحيحة للحاجة المستقبلية لدينا، وهل لدى وزارة التخطيط والهيئة العامة للإحصاء، مثل هذه القاعدة؟ ذكر د. حامد الشراري أنه لا يوجد لدينا قاعدة بيانات صحيحة للحاجة المستقبلية، كذلك لا يوجد لدى وزارة التخطيط والهيئة العامة للإحصاء مثل هذه القاعدة.

وأشار د. عبد العزيز الحرقان إلى أن الأسوأ هو كَوْن الجامعات السعودية منفصلة تمامًا عن سوق العمل، وليس هناك ما يجبر الجامعات على تطوير مناهجها، مع ملاحظة أنه يوجد فائض كبير في أعداد الطلاب في (الشريعة، والدراسات الإسلامية، واللغة العربية، والعلوم الإنسانية)، في المقابل يوجد نقص ذريع في  الخريجين في التخصصات العلمية الهندسية، والتمريض، وعلوم تقنية المعلومات، والطب، والصيدلة، والتقنية الطبية، والمحاسبة، والمالية.

من جانبها، ترى د. ريم الفريان أن هذه التخصصات يمكن استخدامها في صناعة المحتوى الرقمي. إلا أن د. عبد العزيز الحرقان يرى أنها لم تفعل شيئًا يذكر أو مؤثرًا، والمثال على ذلك مبادرة الملك عبد الله للمحتوى العربي.

أضاف د. عبد العزيز أنه في سنة ٢٠٦٠ ستكون قدرة الحاسب الشخصي على معالجة المعلومات تساوي قدرة كل عقول البشر، وبالمقابل لا يوجد منتج تقني يبرز التعاون مع علماء العلوم الإنسانية مثلًا.

العلوم الإنسانية وموقعها من تخصصات المستقبل:

حول تساؤل أ. عبد الله الضويحي عن العلوم الإنسانية، وموقعها من تخصصات المستقبل. ذكر د. عبد العزيز الحرقان أن متخصصي العلوم الإنسانية يشكلون النسبة الكبرى من العاطلين عن العمل؛ لذلك يرى د. خالد الرديعان أن هذا ما يستدعي هيكلة عدد كبير من الكليات، ودمج بعض التخصصات في قسم واحد، وإدخال تخصصات جديدة غير موجودة وتمكين الجنسين منها.

وأعتقدُ أن من الخطط المعمول بها في كلية الآداب بجامعة الملك سعود- على سبيل المثال- أن تكون جميع أقسامها دراسات عليا فقط؛ بسبب قلة الإقبال على أقسامها لمرحلة البكالوريوس.

أضاف د. عبد العزيز الحرقان أنه في عام 1435هـ كان عدد خريجي الدراسات الإنسانية ٤٤ ألفًا، وعدد خريجي كليات الهندسة 6٠٠٠. علق على ذلك  م. سالم المري، وذكر أن هذا بسبب إدارات الجامعات نفسها، فهي تتشدد في قبول طلبة الهندسة بشكل مبالغ فيه، وهو ما أوصلنا لهذه النسبة غير المعقولة. أضاف أيضًا أ. محمد الدندني أنه حتى نظام القدرات وغيره من شروط القبول لا تتناسب مع مستوى المناهج، كأنه تحدٍ. من جانبها تساءلت د. ريم الفريان: هل السبب الحقيقي يكمن في أنهم متشددون في القبول، أم أن مخرجات التعليم من الابتدائي إلى الثانوي لا توائم متطلبات القبول بالجامعات؟

يعتقد أ. عبد الله الضويحي أن سبب ذلك أنهم كانوا يرون في الطب والهندسة والصيدلة صعوبة، وبالتالي لن ينجح فيها إلا الطالب المتميز، والطالب المتميز هو من يجمع أكبر عدد من الدرجات في الثانوية العامة. لم يكن هناك اختيار مبني على أسس أو اختبارات قبول خاصة بكل كلية.

ويرى م. سالم المري أنه من الممكن اقتراح سنة تحضيرية كما هو معمول به في جامعة البترول. لكن مع التشدُّد في مجموع الدرجات، يضعون حدًا أقصى للمقبولين في الهندسة والطب، وغالبًا ما يكون الحد الأقصى منخفضًا. عدد كبير من الطلبة لا يُقبلون في كليات الهندسة فيذهبون لتخصصات أخرى غير مرغوبة في السوق.

وأشار د. رياض نجم إلى أن الجامعات تقبل من لديها استعداد لاستيعابهم في الهندسة والطب بما يتوفر لديها من معامل ومختبرات وغيرها، وبالتالي تضع شروط القبول على هذا الأساس، فموضوع التشدُّد في القبول من عدمه ليس ذا معنى في التخصصات العلمية والتطبيقية، إذ إنَّ زيادة أعداد المقبولين يتطلب التوسُّع في البنية التحتية اللازمة للجامعة في تلك المجالات.

في تصوُّر د. إبراهيم البعيز، فإنه يغيب عن الكثيرين أن قرارات عدم القبول في الجامعة تنقسم إلى نوعين: قرار أكاديمي، ويعني عدم قبول مَنْ لا تتوفر فيهم الشروط المطلوبة للتخصص، وقرار إداري، ويعني عدم قبول مَن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة للتخصص لكن محدودية الطاقة الاستيعابية في ذلك التخصص لا تسمح بقبول الجميع؛ مما يعني قبول الأعلى في المعدلات حتى الاكتفاء والاعتذار للبقية. وهذا يجعل البعض يستنكر عدم قبول ابنه أو ابنته على الرغم من استيفاء شروط القبول.

وذكرت د. ريم الفريان أننا نحتاج إلى التعرف على المهن غير التقليدية التي يمكن لخريجي بعض التخصصات التي لا يوجد لها وظائف العمل بها. كما أكد م. سالم المري أننا مازلنا بحاجة للأرقام حتى نستطيع أن نخرج باستنتاجات مفيدة ومركزة، مثل: كم أعداد الخريجين من الجامعات في مختلف التخصصات؟، وكم نسبة مَن يدخل التعليم التقني دون الجامعة؟، وأعداد ونوعيات الوظائف الشاغرة أو المطلوب إحلالها حسب وزارة العمل، أو حسب خطط الدولة المعلنة، وغير ذلك من معلومات مهمة.

وعلى أية حال، ففي بلد نامٍ مثل المملكة تعاني من تضخُّم حملة شهادات العلوم الإنسانية والشرعية، وتقل فيها الأعمال يومًا بعد يوم، ومع تزايد السكان يُفترض أن:

– تُسَهّل إجراءات القبول في كليات الهندسة والطب والتخصصات التقنية، مع الحرص على ألا يؤثر التساهل في إجراءات القبول على نوعية التعليم والمحتوى التقني للكليات الهندسية والطبية والتقنية.

– أن يتم إعداد الخريجين من التخصصات التقنية للعمل في الدول الأخرى؛ بإدخالهم دورات واختبارات لاجتياز متطلبات الدول المتقدمة لمثل هذه المهن.

– ضرورة إيجاد طرق إدارية مناسبة لمحاسبة وتقييم مديري الجامعات وقياس إنجازاتهم.

تطوير تخصصات العلوم الإنسانية لمواكبة رؤية 2030:

          ترى د. الجازي الشبيكي أن موضوع تخصصات المستقبل يستمد أهميته من الدور المحوري  للعلم والعلوم في بناء وتقدُّم الدول، وتحقيق آمال وتطلعات شعوبها.

إن ما طُرح في المناقشات من أن التخصصات العلمية والتقنية هي التخصصات المطلوبة لسوق العمل في الوقت الحاضر والمستقبل، حسب معطيات الدراسات وتجارب الدول المتقدمة، والمطالبات بالتقليص من دراسة العلوم الإنسانية والتقليل من دورها في المستقبل التنموي لأي مجتمع، يُعَدُّ في نظري طرحًا جديرًا بالاهتمام والدراسة العلمية الجادة للوصول للتوازن المطلوب بهذا الخصوص  للمجتمعات البشرية.

الجهود والعمليات التنموية في كل المجتمعات تهدف إلى تحقيق سعادة ورفاهية وتطلعات الإنسان الذي هو أساس ووسيلة وغاية تلك الجهود والعمليات. وهذا الإنسان تقابله من خلال هذه المسيرة في الحياة قضايا واحتياجات ومشكلات شائكة ومترابطة، تؤثر بلا شك على أدائه ونفسيته ووتيرة إنجازاته، إلى جانب ما يتطلبه العيش الجمعي البشري من متطلبات تنظيمية وقانونية، وغيرها من المتطلبات التي لا مجال لحصرها؛ لذا  تظلُّ  الحاجة  للعلوم والتخصصات الإنسانية التي تركِّز على كلِّ ما يضمن السلامة النفسية والقانونية والاجتماعية لهذا الإنسان في تعايشه مع مَن وما حوله من تغيرات، أمرًا لا يقبل الشك في مدى أهمية وجوده واستمراره جنبًا إلى جنب مع أهمية التخصصات العلمية والتقنية.

يقول الكاتب الأمريكي “جون هورجان” في مقالة نشرتها مجلة “American Scientific ” ضمن  تحليله لأهمية العلوم الإنسانية: “في سعينا الجاد لصياغة خطاب عام أكثر مدنية، وقوى عاملة أكثر إبداعًا وقدرةً على التكيف، وأمةً أكثر أمنًا، تقع الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في جوهر هذه القضية، حيث تحافظ هذه العلوم على الدولة من خلال كونها مصدرًا للقوة المدنية والذاكرة الوطنية والتفاهم الثقافي والقيمة الفردية والمُثل التي نتشاركها جميعًا. كل هذه الأمور تعتبر حساسة وحاسمة للمجتمع الديمقراطي. ومن هنا فإن هذه العلوم تحتاج إلى دعمنا.

وذكر د. خالد الرديعان أنه مع هذا الرأي؛ أي عدم إغفال أهمية العلوم الإنسانية في جامعاتنا على أن تكون أعداد المقبولين فيها قليلة وحسب الحاجة دون التوسُّع في القبول، وأن يكون القبول لمَن تنطبق عليهم بعض الشروط؛ كالميول نحو تلك التخصصات، والثقافة العامة، وإجادة لغة أجنبية على سبيل المثال. صحيح أن هذه التخصصات غير تطبيقية كالهندسة والطب والوراثة والكيمياء والفيزياء والكمبيوتر، لكنها تظلُّ تخصصات مهمة؛ فالمجتمع بحاجة إلى مفكرين وباحثين في العلوم الإنسانية وقادة رأي، تمامًا كحاجة المجتمع إلى خريجي الشريعة للعمل في سلك القضاء والجهات التشريعية. قد يستغني المجتمع عن طبيب أو مهندس في مرحلة ما بسبب التقنية المتقدمة والأتمتة، لكنه يظلُّ بحاجة إلى مفكرين وقادة مؤثرين يديرون دفة المجتمع.

اتفقت معه د. الجازي الشبيكي، وأضافت أنه من الممكن والجيد أيضًا السعي نحو تطوير تلك التخصصات لتواكب المرحلة كما جاء في هذه المقالة  للدكتور محمد الخازم*، والتي ذكر فيها أن (تخصصات العلوم الإنسانية بصفة عامة وفي المملكة بصفة خاصة، هناك مَن يراها قاصرة في تحقيق أهدافها، وهناك مَنْ يطالب بإلغائها وتقليصها أو العكس. والنقاش هنا أمر طبيعي وصحي، ولا ننكر أن اختلاف وجهات النظر في هذا الموضوع يأتي عطفًا على المبررات وعلى الرؤية التي يراها كل شخص لهذه التخصصات. هنا أطرح بعض الأفكار التي قد تسهم في النقاش والبحث عن رؤية مستقبلية لتخصصات العلوم الإنسانية بالمملكة.

عندما يكون هدف التعليم الجامعي هو حصول الخريج أو الخريجة على وظيفة مناسبة، فحتمًا لدينا فائض من مخرجات كليات العلوم الإنسانية يقابله شُحّ في الوظائف المخصصة لهم، مقارنة بالتخصصات الهندسية والطبية، على سبيل المثال؛ ووفق هذه المعادلة يكون التوجُّه هو المطالبة بتقليص وإقفال برامج العلوم الإنسانية في الجامعات، وفي الابتعاث والتدريب. السؤال الذي يطرحه الفريق الآخر: هل الهدف الوحيد لتخصصات العلوم الإنسانية هو التوظيف؟

لا أريد الدخول في جدل، هل التعليم الجامعي هدفه العلم ذاته أم التوظيف؟ فقد تجاوز الكثيرون هذا الجدل. التوظيف بالتأكيد هو هدف حيوي ومهم لأي تعليم جامعي، لكن مجال التوظيف ونوعيته لمخرجات العلوم الإنسانية يتغير على مستوى العالم، بحيث يتجاوز النظرة التقليدية للوظائف المتاحة لهم. على سبيل المثال لم يعد بالضرورة أن يعمل خريج علم النفس أو الاجتماع في تدريس تلك التخصصات أو يعمل في المستشفى أو غيره من الوظائف التقليدية لهم، بل أصبحوا يعملون في التسويق وفي الأعمال الإدارية العامة وفي خدمات العملاء، وغيرها من المجالات التي تحتاج لخلفياتهم في فهم العملاء والمجتمع وغير ذلك. هذا يعني أن المهارات المطلوبة لهم ليست مهارات العلم ذاته، وإنما مهارات أخرى -مهارات ناعمة- كمهارات الاتصال، والتعامل مع الحاسب الآلي، وإدارة المكاتب، وغيرها. مثل هذا التوجُّه يفرض علينا تزويد خريجي العلوم الإنسانية بتلك المهارات التي تُسمَّى مهارات ناعمة ليُتاح لهم مجالات أوسع للعمل، ولتبقى معلوماتهم المعرفية في تخصصات العلوم الإنسانية مساعدة لهم للتميز في الأعمال المختلفة. بمعنى آخر، نحتاج توسيع مجال عمل خريجي العلوم الإنسانية، وفي الوقت نفسه نحتاج تعليمهم مهارات أساسية تتطلبها الأعمال، وتتجاوز مجرد تعليمهم الجانب المعرفي لتخصصاتهم.

المجال الآخر الذي نراه توجهًا عالميًّا- وللأسف لا يوجد في بلادنا- يتمثل في اعتبار تخصصات العلوم الإنسانية تأسيسًا لتخصصات تطبيقية أخرى، بمعنى آخر يُتاح لخريج تخصص العلوم الإنسانية المجال لإكمال دراسته في مجال آخر. على سبيل المثال، نجد خريج علم النفس يُتاح له التخصص في بعض المجالات الصحية؛ كالعلاج الوظيفي، والصحة العامة، والتعليم الطبي، وغيرها، أو يتاح لخريج الاجتماع الالتحاق بكلية الشريعة أو القانون، وهكذا في بقية تخصصات العلوم الإنسانية. أعتقدُ أنه سيكون توسعًا أكبر عالميًا في هذا التوجه، بحيث لا يتمكن الشخص من الالتحاق ببرنامج تطبيقي صحي أو قانوني أو تعليمي، ما لم يكن لديه درجة علمية سابقة في أحد تخصصات العلوم الإنسانية. بعض الدول لا يتخصص فيها المعلم في التدريس أو القانون ما لم يكن لديه درجة علمية سابقة في أحد العلوم الإنسانية أو العلوم حسب تخصصه).

تحقيق التوازن بين تطوير التخصصات التقنية والإنسانية:

أكدت د. هند الخليفة أن العلوم الإنسانية بحاجة إلى تطوير وتكييف لتواكب التغير الحادث في المجتمعات، ولتخدم الاحتياجات المتجددة، ولترتبط بالواقع وتخرج من مأزق التنظير الذي يضعها في عزلة عن التطبيق، وبقدر ما هو ارتباط مستقبل الوظائف بالتطوُّر التقني والرقمي، فإنها تظلُّ جزءًا من الحياة، لا الحياة كلها. ولذلك فإن التركيز على التطوير المادي يجب أن لا يكون على حساب التطوير المعنوي والقيمي.

وقبل تبني نموذج محدد للتغيير، هناك أسئلة مهمة لا بد من طرحها ومناقشتها والتمعن فيها: ما هي أهداف التغيير؟ وما هو النموذج الذي نطمح لتبنيه؟ وهل هو النموذج الوحيد؟ ولماذا؟ هل التغيير حتمي نحو هذا النموذج؟ وهل طبيعة مجتمعنا تستوعب تبعات هذا التغيير؟ النموذج الرأسمالي ليس هو الوحيد للتغيير، والحديث عن مجتمعنا على أنه في حالة انتقالية يحمل ضمنًا فرضية ارتباط التقدم بالتحوُّل نحو هذا النموذج، وهي فكرة ناقشها الدكتور باقر النجار في كتاباته عن المجتمعات الخليجية والحداثة.

خلاصة القول: لا بد من إيجاد معادلة للتوازن بين تطوير التخصصات التقنية والتخصصات الإنسانية، ولابد للأخيرة من التوجُّه نحو تطوير مهارات الإنسان في التعامل مع ظروف العصر، ومهارات التفكير والتخطيط وتحمُّل المسؤولية والمبادرة، وتطوير منهجية البحث العلمي وأدواته في هذه العلوم لتشخّص واقع الإنسان، وتدعمه فكريًّا ووجدانيًّّا واجتماعيًّا.

ومن التوصيات الأخرى ذات العلاقة: فصل وزارة العمل عن التنمية الاجتماعية، إذ إنَّ كلتا الوزارتين عليها مسؤوليات كبيرة وأساسية. ولكي يمكن لوزارة العمل التركيز على وظائف المستقبل، وربط مخرجات التعليم بسوق العمل المتجدد، لا بد أن تكون وزارة مستقلة بذاتها.

إلغاء بعض تخصصات العلوم الإنسانية:

ذهب د. حميد الشايجي إلى أنه يستغرب ممَّن ينادي بتقليص أو إلغاء تخصصات إنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، ولا ينادي بتقليص أو إلغاء التخصصات الطبية والصحية المختلفة في ظل وجود الآلة والتطبيقات الحاسوبية التي توفِّر الفحص بدقه أعلى وتصفُ العلاج.

إن الحاجة لوجود الأخصائي النفسي والاجتماعي هي الحاجة نفسها لوجود الأخصائي الطبي. فالتغير المتسارع في نمط الحياة يستدعي وجود المختص الطبي كما يستدعي وجود المختص الاجتماعي والنفسي، فانتشار الأمراض الاجتماعية والنفسية يماثل انتشار الأمراض العضوية؛ مما يفرض الحاجة المستقبلية لزيادة أعداد خريجي التخصصات الاجتماعية والنفسية؛ لمواجهة نتائج وإفرازات التغير الاجتماعي السريع في المجتمع، والحد من مشاكله (كالاضطرابات والضغوط النفسية، والتفكك الأسري والطلاق، والانحراف والجريمة، والانحلال الأخلاقي، وإساءة تعاطي العقاقير والمهدئات والمخدرات، والتسرُّب الدراسي، وإدمان التقنية، وغيرها من المشاكل الاجتماعية والنفسية).

والمشكلة تكمن في عدم فهم هذه التخصصات ودورها. كما أن هناك إشكالية في نوعية التأهيل والمخرجات. فالخريج الاجتماعي لا يُوظَّف في مجال تخصصه الذي تم تأهيله له، بل يتمُّ توظيف غير المتخصصين في مجاله، وهناك نماذج كثيرة على ذلك، فكثير ممَّن يعمل في مجال الإرشاد والرعاية الاجتماعية ليسوا من المتخصصين في هذه المجالات. فكما نحتاج للمعالج الطبي، نحتاج أيضًا للمعالج الاجتماعي.

دمج الأقسام المتشابهة في قسم واحد:

فيما يتعلق بتخصصات العلوم الإنسانية التي قد لا يكون لها موقع في سوق العمل، أشار د.خالد الرديعان إلى أنه يمكن إيجاد حلول لذلك؛ منها تجربة جامعة ويلز- سوانزي وجامعات أخرى، ففي جامعات ويلز قاموا بدمج بعض الأقسام الإنسانية بكلية واحدة، وتخلصوا من بعض الأساتذة بإحالتهم للتقاعد أو انتقالهم إلى جامعات أخرى. كما قاموا بتنشيط فكرة الدراسات البينية interdisciplinary، بحيث يستفيد الطالب من تخصصين ودمجهما (علم اجتماع + تاريخ) كمتطلب لإعداد الأطروحة.

أقصدُ من ذلك أنه يمكن لجامعاتنا دمج بعض الأقسام المتشابهة في قسم واحد كبير، وبذلك يمكن توفير ميزانيات كبيرة، وفي الوقت نفسه يتم تنشيط الدراسات البينية التي ثبت أنها عملية مفيدة على المستوى الفكري والمعرفي، والخروج من نطاق التخصص الضيق في العلوم الإنسانية.

في السياق نفسه، ذكر د. حامد الشراري أن هذا ما أشار إليه بتوسُّع في تعقيبه بخصوص التخصصات الهندسية ودمجها. كما أن تخصصات المستقبل التقنية- وهي الغالب- هي نتاج دمج التخصصات الحالية، وكذلك مهارات المستقبل هي خليط من مهارات الحاضر.

الحاجة والتطور المستمر يتطلب كفاءات بشرية، ومن ثَمَّ يتم الاستثمار في البشر. إلا أن التطور المذهل في التقنية جعل أصحاب الحاجة يتجهون إلى الاستثمار في التقنية والابتعاد تدريجيًّا عن الاستثمار في البشر، وهذا ما نلاحظه من أن غالب تخصصات المستقبل هي ذات علاقة بالتقنية المتقدمة والمعقدة؛ لذا من المهم التأسيس العلمي القوي  في المجالات المرتبطة بالتقنية.

ما أخشاه أن نصبح مستخدمين لهذه التقنية فقط، وجل وظائفنا المستقبلية تكون عن كيفية تشغيل الآلة واستخدامها، ونستورد هذه التقنيات كصناديق سوداء مغلقة. إن لم نكن شركاء في إنتاج التقنية وسبر غورها، فسنصبح مع الوقت جهلة.

من جانبه، يعتقد د. خالد الرديعان أن دمج التخصصات الإنسانية أسهل بكثير من دمج التخصصات العلمية التطبيقية. كما أن بعض العلوم الإنسانية “فكر خالص” لا تخضع لقاعدة أن نجعلها تطبيقية، لكن إن استطعنا تطبيقها فذلك عمل جيد، مثل: الفلسفة، والنقد الأدبي، وبعض فروع علم الاجتماع، بالإضافة إلى العلوم السياسية، والعلاقات الدولية… إلخ.

وفي تصوُّر د. حميد المزروع، ربما المقصود هو توحيد مناهج العلوم الإنسانية وتعزيز الجوانب التطبيقية منها لتكون أكثر فاعلية وخدمة لسوق العمل. وأرى أن ما نحتاجه أولًا هو تغيير هوية كليات العلوم الإنسانية، وأن تُسمَّى كلية نظم العلوم الإنسانية التي تتشابه في مناهجها الدراسية وأهدافها. وأقصدُ الأقسام المتداخلة في أهدافها العلمية، وبالتالي يسهُل هيكلة هذه الأقسام وتطوير المحتوى العلمي إلى رقمي. إنَّ هذا المقترح أعملُ على تطويره حاليًّا لصالح جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن.

المؤسسات التعليمية ومواكبة سوق العمل:

أشارت د. ريم الفريان إلى أنها تتفق مع أنَّ هناك فجوة بين التعليم وسوق العمل، وأنها لن تتقلص باجتماع أو ببرنامج واحد، فهي عملية مستمرة تشاركية بين الطرفين، وتحتاج إلى تحديث مستمر.

هناك بطء في المنشآت التعليمية لمواكبة احتياجات السوق، على سبيل المثال، تخصص صناعة الأفلام، فبالرغم من فتح دور سينما والاهتمام الذي أولته الدولة للثقافة إلا أننا لا نزال نجد شحًّا في وجود هذا التخصص، والأسوأ أن الجامعات التي تقدِّم شيئًا من التخصص تختار مسميات لا تفيد الخريج للعمل بالقطاع الخاص، مثل أن يكون ضمن برامج تخصصات الإعلام، ناهيك عن توفُّر التخصصات للبنين دون البنات.

كذلك هناك فرصٌ في سوق العمل وتخصصات يعرفها ويمارسها الشباب، وقد تخفى علينا؛ نظرًا للفجوة التقنية بين الأجيال، مثل: (مودل للإنستقرام، أو صانع محتوى يوتيوب بمختلف التخصصات)، هذه مهن مُدِرّة للأرباح، ولكننا لا نزال نراها مغيبة عن المهن المعتمدة رسميًّا من وزارة العمل. ولذلك فإنني أقترح الآتي:

– إشراك الجيل الجديد في تحديد مهن المستقبل.

–  إعداد البرامج التدريبية للمهن التي تخدم تحقيق الرؤية.

– أن تكون المؤسسات التعليمية أكثر مرونة وديناميكية وسرعة في التأقلم والتجديد فيما يخدم احتياجات سوق العمل.

ذهب د. عبد العزيز الحرقان إلى أنه حتى يتحقق ذلك، يجب أن تستقل الجامعات تمام الاستقلال عن ميزانية الحكومة، والجامعة التي لا تستطيع تخريج شباب مناسبين لسوق العمل، ولا تقديم البحوث والدراسات الاستشارية تغلق أبوابها. أضاف د. رياض نجم أن هذا هو السبب الرئيسي لعدم استجابة الجامعات لاحتياجات سوق العمل، سواء الحالية أو المستقبلية؛ لأنه ببساطة ليس لديها الدافع لتفعل ذلك، فميزانيتها ستأتيها من الحكومة في كل الأحوال.

سمعنا كثيرًا عن النظام الجديد للجامعات واستقلاليتها، ويبدو لي أن إصدار هذا النظام وتطبيقه في أسرع وقت أصبح متطلبًا ملحًا اليوم قبل الغد، وأتمنى أن تكون الاستقلالية للجامعات كلها الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، وأن تكون الإعانة الحكومية للجامعة مرتبطة بتخريج طلاب يحتاجهم سوق العمل في المستقبل، سواء كان ذلك في التخصصات العلمية أو الإنسانية.

وعلينا أن لا نكون عاطفيين بتقليص أو حتى صرف النظر لفترة عن بعض التخصصات التي لم يعد المجتمع بحاجة لها، مع الاهتمام بإنشاء جامعات كبيرة لتخريج متخصصين فيها.

أضاف د. عبد العزيز الحرقان أن النظام الجديد للجامعات يُبقي على الارتباط مع الحكومة، ويزيد من سلطة الوزير عليها، وأذكر أن الجامعات الأمريكية القوية والشهيرة هي جامعات خاصة وليست حكومية.

معرفة الاحتياج الحقيقي من تخصصات تناسب سوق العمل:

ذكر د. يوسف الرشيدي أنه ما من شك في أن الوظائف المستقبلية في معظمها تتركز حول التقنية وما يساندها من تخصصات تقليدية كمسمَّى، ولكن عمليًّا اختلفت باختلاف متطلبات العصر، وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية في تحديث المناهج واستحداث التخصصات المطلوبة في سوق العمل من (حوسبة سحابية، تحليل البيانات، التسويق بفروعه، والقانون بتخصصاته الدقيقة)، وهذا نراه في بعض المؤسسات التعليمية وليس كلها، ولنا تجربة في جامعة اليمامة، حيث  بدأت منذ عامين في تحديث الخطط الدراسية، وزيادة التركيز على الجانب التطبيقي في التخصصات، وزيادة مدة التدريب الميداني، وإضافة الشهادات المهنية كمقررات اختيارية وإجبارية لما لها من أهمية في السوق السعودي، وتزيد من تنافسية الخريجين.

والإشكال الذي ما زال لدينا في المملكة أننا لا نملك قائمة بالاحتياج الحقيقي من تخصصات. نحن بحاجة إلى أن تقوم وزارة العمل بتبني وإنشاء ما يُسمَّى job indexing يستطلع من خلالها الطلاب والموظفون والشركات والقطاع الحكومي لمعرفة الوظائف التي نحتاجها، حتى نهيِّئ جيلًا يعرف بالضبط ما الذي يحتاجه السوق، وعليه يَبني مستقبله الوظيفي من الثانوية العامة وليس بعد التخرج.

قدرة الجامعات السعودية على مواكبة سوق العمل:

ترى د. عبير برهمين أنه خلال خمس إلى عشر سنوات قادمة قد نسمع عن علوم ومسمّيات جديدة خلاف ما هو مطروح الآن. السؤال الأهم: هل الجامعات السعودية قادرة على مواكبة سوق العمل، أم أنها ستكتفي بدورها في تقديم المعلومات الأساسية، نظرية كانت أم عملية؟ وهو سؤال بالغ الخطورة والأهمية، إذ إنَّ الأنظمة الحالية للتعليم العالي مُقَيِّدة لأي إبداع أو تفكير خارج الصندوق، ناهيك عن القدرة على استشراف المستقبل والإعداد له. والخطوة الأهم هي إعادة هيكلة ودور الجامعة فيما تقدِّمه من خدمات، وليس بالضرورة أن تكون مواكبة لمتطلبات سوق العمل، بقدر ما سيكون دورها مؤثرًا وخطيرًا في تقديم مفاتيح المعلومات الأساسية للعلوم المستقبلية، والتي أظنُّ أنها ستكون جامعة بين تخصصين أو أكثر من التخصصات العلمية والأدبية والطبية الحالية، مثل: العلوم الجزيئية، وتقنية النانو، والمعلوماتية الحيوية، وغيرها. وكما هو مهم جدًّا حاليًّا أن يكون الطبيب ملمًا بجوانب فقهية كثيرة، إلا أننا لا ندرس في الواقع مواد متخصصة فقهية في كليات الطب مثلًا. والكليات الفنية وتخصصات كالرسم لا تقوم الجامعات فيه بتدريس مقررات سيكولوجية أو طبية للراغبين في التخصص في العلاج النفسي بالرسم، وغيرها من الأمثلة الكثير.

قدرة الجامعات على إحداث تغييرات في تخصصاتها:

يعتقد د. عبد الله بن ناصر الحمود أنه في جدلية “التعليم وسوق العمل” تفاصيل كثيرة جدًّا، وبالذات في الدول النامية بشكل عام، و”الرعوية” بشكل خاص.  وقد يطول الحديث في ذلك، غير أنني أشير إلى “حقيقتين” كؤودتين تواجهان قدرة الجامعات على إحداث تغيير من الداخل، أو إحداث تطويرات نوعية تمسُّ التخصصات مسًّا مباشرًا:

الأولى: قناعة عدد كبير من منسوبي ومسؤولي الجامعات بأن وظيفة الجامعة إكساب الطلاب المعرفة وشيئًا من المهارة، وهي معرفة مجردة لا ضرورة لربطها بسوق العمل، فالجامعة عند هؤلاء “تعلُّم” وعلى سوق العمل أن يدير شؤونه خارج تحميل الجامعات المسؤولية.

الثانية: تشكل “الممالك” التعليمية داخل الجامعات، بناء على تخصصات معينة، وتوافر المنافع المادية والمعنوية لدى عدد آخر من منسوبي ومسؤولي الجامعات. وهذه الممالك عندما تتشكل يعمل منسوبوها على الإبقاء عليها والدفاع عنها “لآخر رمق”، بصرف النظر عن متطلبات سوق العمل، أو تحولاته الجذرية، ويكيلون في سبيل ذلك الأدلة والبراهين على ضرورة بقاء تخصصاتهم.

وذكر د. حميد المزروع أن تمهين الخطط الدراسية للأقسام العلمية والإنسانية يعتبر انطلاقة مناسبة لمواءمة مخرجات الأقسام مع متطلبات سوق العمل.

ويتطلب تمهين الأقسام مشاركة مديري شركات القطاع الخاص في بناء الخطط الدراسية للأقسام، خاصة المقررات التطبيقية، أو تلك المرتبطة بالمهن النوعية، مثل خطوط الإنتاج وغيرها.

ويرى د. مساعد المحيا أن كثيرًا من الأعمال التي أشارت لها د. نوف في ورقتها أو الزملاء هي أعمال تتطلب في الواقع وجود تقدُّم صناعي كبير، بمعنى أن يكون لدينا بيئة إنتاج صناعي تكنولوجي، والحقيقة أننا لا نمتلك ذلك؛ لذا فإن البحث عن هذه الأعمال والتخصصات سيظل في إطاره الإداري، بمعنى أن جيل المتخصصين ينبغي أن يجدوا بيئة عمل مهني تستثمر قدراتهم، تمامًا كوجود المستشفى لدارس الطب.

كما أنني أظنُّ أن أيَّ رغبة في تطوير واستحداث تخصصات جديدة أو تطويرها يرتبط بنمط التعليم وكفاءته، ومادمنا نمتلك رؤية واضحة على مدى ١٢ عامًا، فنحن نحتاج أن يتم إعادة تكييف التعليم ليتواكب معها، ووفقًا لذلك يمكن أن نهتم بمزيد من التخصصات الجديدة والفريدة، وأن يكون ذلك مستصحبًا لاهتمام يتواكب معها، إذ الحديث عن وظائف المستقبل المبالغ فيه اليوم في بيئة غير مؤهلة لذلك هو نوع من الترف.

كثيرون الآن يمتلكون تخصصات جديدة ومميزة، لكنهم حين عادوا من بعثاتهم وجدوا أن الجهات التي يُفترض أن تُرحّب بهم تحتفي بأجانب في تخصصات تقليدية وبكفاءة أقل؛ مما اضطرهم للعمل في أنماط عمل إدارية أخرى.

أما مَّا يتعلق بالإعلام، فأظنُّ أن شبكات التواصل الاجتماعي وبخاصة في بيئة إعلام رسمي نمطي، جعلت الكثير من الأفراد يُنْتِجُ محتوى مناسبًا للجمهور، ويتسق واهتماماتهم. هذا الأمر يتطلب أن تُعنى أقسام الإعلام بتخصص الإعلام الجديد أو تطبيقات الإعلام الجديد، تمامًا كما تهتم بنمط الإعلام التقليدي.

كما أننا في إطار الرغبة في التطوير واستحداث تخصصات جديدة نحتاج فعلًا لقيادات إدارية للجامعات بمستوى هذا الطموح، بعيدًا عن الذين يبحثون عن مكاسبهم الشخصية، ويضعون حولهم كفاءات متواضعة جدًّا في التأهيل والطموح.

العلاقة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل:

ذهبت د. عائشة الأحمدي إلى أن العلاقة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل تعتبر قضية جدلية عبر العقود الخمسة الأخيرة، وهي قضية تُعدُّ من أهم الإشكالات في البلدان النامية؛ لارتفاع معدلات الفتوة في تركيبتها السكانية، والمملكة واحدة منها، بل إن المشكلة قد تكون أعقد لعدة أسباب، أُلخصها في التالي:

– محدودية القنوات التي تصبُّ فيها مخرجات التعليم العام.

–  ضعف التمهين لمخرجات التعليم العام، وتأخيره إلى المرحلة الجامعية.

– رفع الطموح لدى الطلبة وأولياء الأمور، بما لا يتماشى مع احتياجات التنمية في جانب، وقدرة الطالب الذهنية في جوانب أخرى.

وإلا فما سرُّ كثافة العمالة في سوق العمل السعودية على  انخفاض مؤهلاتها التعليمية ومهاراتها المهنية؟

          هذا إذا ما تحدثنا عن الأسباب الأساسية لضعف العلاقة بين مخرجات التعليم بصفة عامة وسوق العمل، وتبدو الجدلية أشدّ إذا ما خصصنا الحديث عن سوق العمل ومخرجات التعليم العالي، لنصل إلى نقطة أكثر تعقيدًا في الجدل، وهي الإجابة عن سؤال مهم ومفصلي ما زالت الأروقة الأكاديمية تخوض فيه دون أن تصل لإجابة شافية له؛ وهو هل دور الجامعة منصبٌّ على مجرات التغيرات في سوق العمل؟ أم هو إنتاج المعرفة؟ هذا الجدل هو الذي أبقى على أقدم التخصصات النظرية في أعراف الجامعات مستمرًا حتى اليوم، وهو ذاته الذي جعل الجامعات الأمريكية مؤخرًا تخرج في توصيات مجموعة من المؤتمرات إلى أن اللهث وراء متطلبات السوق تخدم مصلحة الشركات، أكثر منها خدمة للمعرفة.

في السياق نفسه، تساءل أ. عبد الله الضويحي: ماذا عن تخصصات المستقبل؟، وكيف نُهيئ الجامعات لذلك؟ وهل ناقشتها الجامعات الأمريكية في مؤتمراتها؟ أجابت د.عائشة الأحمدي بأن الفلسفة التي وصلت لها القناعات في العديد من الجامعات العريقة، أن مهن المستقبل وإن كانت بُعدًا عَميقًا في مهام الجامعات أشغلها لثلاثة عقود ويزيد، إلا أنها وصلت إلى قناعة أن التدريب قد يحلُّ إشكالات النحور في مهن سوق العمل، وأن ما ظهر جليًّا من موجة إكساب الجامعات لخريجيها كفايات أساسية، مثل الكفايات التقنية، وكفايات الاتصال، وخلافها من كفايات كفيلة لضمان حد أدنى من متطلبات سوق العمل. أما التنظير لمهن المستقبل فالجامعات تركت هَمَّه للشركات عابرة الحدود.

جدلية أهداف التعليم ومخرجاته:

أشار د. زياد الدريس إلى أنه في نقاش الجدوى من خريجي الجامعات، ظل هناك تَراجُم مزمن بين خريجي التخصصات العلمية (التطبيقية) والتخصصات الأدبية (الإنسانية)، كلٌّ يدعي أنه الأجدى، وأن الوطن إليه أحوج.

وقد أتاحت لي تجربة الانخراط في التخصصين (٢٠ سنة ممارسًا في المختبرات الجنائية Forensic labs بعد تخرجي من كلية العلوم، ثم ١٨ سنة مهتمًا بالثقافة في المجتمع بعد دراستي العليا في سوسيولوجيا الثقافة) أن أكون قادرًا إلى حد كبير على الحياد في هذا النقاش التنافسي.

الخبراء في شأن جذور النهضة الأمريكية يقولون إن أمريكا لم تسيطر على العالم بسبب تفوقها في المعامل، ولكن بسبب حسن إدارتها واستثمارها لهذا التفوق العلمي. وما كان للعقول الأمريكية الرائدة في الإدارة والاقتصاد أن تنهض بأمريكا من دون العقول القابعة في المعامل.

الظنُّ بأن الدراسات الإنسانية ليست ذات جدوى ولا حاجة لسوق العمل إليها هو الذي كَوَّن مفهومًا انطباعيًا ساد لسنوات، مفاده: أن التعليم مهنة مَنْ لا مهنة له. بينما يحظى المعلمون في دول متقدمة كفرنسا وكوريا بمكانة رفيعة وانتخاب حصيف لاختيارهم في الميدان التعليمي. أما تهيئة القيادات الإدارية القادرة على صنع الفارق، فاسأل عنها- مثلًا- معهد إنسياد الفرنسي.

وعند الحديث عن العلاقة بين التعليم وسوق العمل، نرتكب خطأين:

الأول: الظنُّ بأن الهدف من التعلُّم هو العمل فقط ولا شيء غير ذلك، وهذا جزء من الرؤية الرأسمالية للإنسان بوصفه آلةً تُخزَّن فيها المعلومات ثم تُشغَّل. والذين يؤمنون بهذه الرؤية الميكانيكية هم الذين ينتابهم القلق من هيمنة الروبوتات في المستقبل.

الثاني: أن سوق العمل يحتاج فقط إلى المهنيين. سوق العمل يحتاج إلى عقول نيّرة تخترع وتكتشف، وإلى أطباء ومهندسين ومخبريين مهرة، لكنه يحتاج أيضًا إلى معلمين أكفاء يصنعون طلابًا بارعين علميًّا وإنسانيًّا، كما يحتاج سوق العمل إلى قيادات إدارية حصيفة تجيد توظيف الموارد البشرية في طاقتها القصوى، وفي موقعها الأنسب.

كما يحتاج سوق العمل إلى أخصائيين اجتماعيين ونفسيين بغرض تحليل اتجاهات المجتمع وتحولاته. لكن يجب أن لا ننسى أن المجتمع، وليس سوق العمل، يحتاج إلى مفكرين ومثقفين وفنانين ورسامين يمنحونه الروح الإنسانية التي تكاد تعصف بها الرأسمالية المتغوّلة.

التعليم الفني والمهني وجامعات الأطراف:

تساءل أ. محمد الدندني: لماذا فقط الحديث عن التعليم الجامعي؟ ماذا عن التعليم الفني والمهني؟ وكيف نجعل جامعات الأطراف مواكبة ومتخصصة، وأن نتدارك الأخطاء السابقة؟

علقت د.عائشة الأحمدي بأن التعليم الفني والمهني مؤسساته ضعيفة البنى والمدخل؛ لأن الفرص لها في القطاع الخاص ما زالت دون النسب المأمولة، أما جامعات الأطراف فقد انشغلت بفك الخناق عن الجامعات قديمة النشأة، لمجريات الطلب الاجتماعي على التعليم العالي، أي تضخم طموح الطلبة والآباء الذي قد لا يتوافق مع الإمكانات الشخصية للطلبة، فجمع لها ضعف المدخل، وضعف البنية الأساسية، وطبيعي أن يكون المخرج في الجامعات الطرفية دون مستوى طموح السوق، الدليل على ذلك واضح في الفروقات في نسب إغلاق القبول بينها وبين جامعات المركز، ونتائج طلبتها في اختبارات الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، وكذلك اختبارات الكفايات الجامعية.

الذكاء الاصطناعي والاعتماد على الإنسان:

ذهب م. حسام بحيري إلى أنه سيكون هناك اعتماد أقل على الإنسان في إدارة كثير من الأمور مستقبليًّا؛ لأن هناك عاملًا آخر سينافس الإنسان، وهو الذكاء الصناعي الذي سيُستخدم في مجالات عديدة في الثورة الصناعية الرابعة.

تكنولوجيا الذكاء الصناعي أصبحت متطورة لحد ما، ووصول العلماء لهدف الأحادية (Singularity) أصبح مسألة وقت. والأحادية هي المرحلة التي يُفكر فيها الذكاء الصناعي بمنطقية مثل الإنسان، ولكن بسرعة وطاقة متناهية، مثل أن يكون لديك روبوت محاضر جامعي يحمل ٦٠ شهادة دكتوراه وأكثر كمثال. هذا هو التحدي القادم في رأيي الشخصي.

ويرى د. خالد الرديعان أن مهن المستقبل لا يستطيع أن يحددها الأفراد ولا الجامعات ولا الورش أو الندوات، ولكن يحددها التقدُّم الصناعي والتقني، وبذلك تُعدُّ الصناعة عمومًا هي القاعدة الأساسية التي تحكم مهن المستقبل وتخصصاته، وحتى لو أدخلنا في جامعاتنا تخصصات نعتقد أنها جديدة ومطلوبة، فإن ذلك لن يكون عملًا مجديًا ما لم يوازِ ذلك تقدُّم تقني في مختلف المستويات.

اتفقت معه د.عائشة الأحمدي، ورأت أن مهن المسقبل يُحدِّدها الشركات عابرة القارات، والتقنية يستجيب لها الأفراد ومؤسسات التعليم الجامعي، ولأن تمدد هذه الشركات لا نهائي، ارتأت الجامعات تزويد خريجيها بكفايات عامة وتخصصية تضمن تناغمهم مع هذا التمدد.

بينما يعتقد م. حسام بحيري أن العامل الرئيس هو نظام التعليم العام، فبدون تحديث للمنظومة التعليمية، وتدريب وتأهيل الكادر التعليمي للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة سيكون من الصعب الاستعداد للمستقبل.

من جانبها أشارت د. ريم الفريان إلى أن الجيل الحالي من الشباب في الجامعات وفي الثانوية لديهم تصوُّر مختلف عن المهن التي يمكن العمل فيها، وهي المهن التي تُدرُّ مبالغ مالية يعملونها كعمل حر، قد لا نعرفها ولا تخطر على بال جيلنا، منها- على سبيل المثال-: تجربة التطبيقات (تحميل التطبيقات وتجربتها لمدة محددة، ثم يتم الحصول على المردود المالي من خلال paypal).

وكما ذكرتُ سابقًا، صناعة المحتوى الرقمي تتخللها مهن عديدة، سيكون توجيه طلبة المدارس والجامعات من التخصصات المختلفة لمهن صناعة المحتوى (كاتب سناريو، مدقق لغوي، مُصمّم مشهد فيديو، مصمم ملابس الفيديو، مكياج، تصوير، مونتاج،…)، وليس بالضرورة أن يعمل خريج اللغة الإنجليزية كمعلم؛ وإنما يمكن أن يعمل في كتابة محتوى رقمي على سبيل المثال لا الحصر.

الإنسان ومهن المستقبل:

أشار د. حميد الشايجي إلى أنه بالرغم من أهمية التقنية والتحوُّل التقني والرقمي والذكاء الاصطناعي، وهي تعتبر جزءًا مهمًّا من المستقبل، وتسهّل أمور الحياة من حولنا، لكن يجب ألا ننسى الإنسان ومعاناته واحتياجه للعلاج النفسي والاجتماعي، فعندما نفكر في الوظائف المستقبلية يجب ألا ننسى التخصصات التي ستحلُّ مشاكل الإنسان الانعزالي، والإنسان المدمن على التقنية، فتطوير التخصصات الإنسانية ذات العلاقة أمرٌ مهمٌّ جدًّا.

ويرى د. حامد الشراري أن هذا التقدم المذهل والمتسارع في التقنية قد يخلق فجوة بين العلم والعلماء تزداد مع الزمن؛ بمعنى يقلُّ عدد العلماء والخبراء المتخصصين الذين يفهمون أساس وسر هذه الصناعة والتقنيات المتقدمة، والتي تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، وقد نعود إلى عصور الجهل. بمعنى آخر، تخصصات المستقبل ستتلاشى يومًا ما.

الذكاء الاصطناعي والقيام بمهام الإنسان:

ذكرت أ. منى أبو سليمان أن هناك تطبيقات للعلاج النفسي بالذكاء الاصطناعي أو الـ bot…للتشخيص والمعالجة، وأصبح الروبوت يرسم (وإن لم يبدع ويبهر بذلك بعدُ).

وبعد عدة عقود من المتوقع أنه سيقوم بجميع مهام الإنسان العلمية والاجتماعية والإبداعية، إلا ربما الأشغال التي تعلو تكلفتها باستخدامه نسبة مع تكلفة الإنسان (كما رأينا في تحوُّل سيارات تسلا، التي كانت صناعتها تعتمد كليًّا على الروبوت وأُدخل الإنسان في المصنع هذه السنة لتقليل التكاليف).

بالأمد القريب، فإن احتياج جميع الخريجين للمعرفة الكودنج والذكاء الطبيعي سيكون مهمًا، لكن على البعد الطويل الذكاء الاصطناعي سيحلُّ محل الإنسان بجميع مهامه (ونرى ذلك في المناقشات الـ ethics عن الزواج بالإنسان الآلي)، فالتقدُّم الذي سنشهده خلال الـ 50 سنة القادمة سيتسبب في فقر شديد، إلا إذا فُرضت ضرائب على إنتاجية الإنسان الآلي، ووزعت على الشعوب.

الإعلام وتخصصات المستقبل:

حول تساؤل أ. عبد الله الضويحي عن موقع الإعلام من تخصصات المستقبل؟ علَّق د. إبراهيم البعيز بأن للإعلام أهميةً في اختيار التخصصات الجامعية. الإشكالية أن الجامعات تركز جهودها الإعلامية فقط في الإعلان عن إجراءات التقديم ومواعيده وشروط القبول وذكر أسماء التخصصات، في حين يُفترض أنها تقوم بالتعريف بالتخصصات من حيث المسارات المهنية، والفرص الوظيفية المتاحة لها، حيث يُلاحظ أنَّ هناك ضعفًا شديدًا في الإرشاد الطلابي لاختيار التخصصات. فالجامعات تعتقدُ أن هذا من مسؤولية المدارس الثانوية، بينما الصحيح أنه مسؤولية الجامعات؛ لأنها هي مَنْ سيدفع ثمن أخطاء الطلاب في اختيار التخصصات المناسبة لهم وميولهم.

وأذكرُ أنني حين عملتُ مشرفًا على العلاقات الجامعية في جامعة الملك سعود بن عبد العزيز للعلوم الصحية، حرصتُ على أن نقوم بدور في الإرشاد الطلابي لاختيار التخصص، فقمتُ بإعداد دليل إرشادي للدراسة الجامعية من حيث اختيار التخصص والإعداد للمسار المهني والوظيفي، والذي يُفترض أن يبدأ من أول سنة في الجامعة.

وقمُنا باستضافة أكثر من 40 مدرسة ثانوية في الرياض وجدة والأحساء (حيث فروع الجامعة) لورش عمل إرشادية، ولقيت نجاحًا وترحيبًا من الأهالي ومن المدارس.

يُعلّل البعض أن سبب ضعف الإعلام السعودي يعود إلى التأهيل، وشاعت في فترة مضت موجةٌ من النقد لأقسام الإعلام في الجامعات السعودية، وضعف مخرجاتها؛ مما تسبَّب في عدم مهنية الإعلام، لكن هذه الإشكالية لن تُحلّ طالما أن مشكلة التأهيل الإعلامي لم تُفهم من حيث الأسباب التي أدت إليها.

قد يغيب عن البعض أن أقسام الإعلام لم تستطع أن تستقطب الطلاب المتميزين ممَّن لديهم الموهبة والاستعداد اللازم ليكونوا كفاءات إعلامية واعدة. والسبب الأساسي لذلك أن بيئة العمل الإعلامي ليست واعدة وظيفيًّا؛ لذا يحرص الطلاب المتميزون على الالتحاق بتخصصات لها مستقبل وظيفي أفضل من الإعلام، مثل: التخصصات الصحية، والهندسية، والإدارية، وغيرها.

أما أقسام الإعلام فقد تحولت إلى الخيار الثالث (أو الثاني في أحسن الأحوال) لهؤلاء الطلاب المتميزين. وَمِمَّا يُعزّز ويؤكد هذه الجدلية أن عددًا كبيرًا من الإعلاميين البارزين تخصصوا في العلوم الطبية والصيدلة والحاسب والعلوم، وبعد تخرُّجهم التحقوا بالعمل الإعلامي، وبعد نجاحهم فيه نسوا تخصصاتهم.

وَمِمَّا يؤكد هذه الجدلية أيضًا أن كثيرًا من المتميزين والمؤهلين علميًّا في الإعلام تَرَكُوا المؤسسات الإعلامية، والتحقوا بالقطاع العام بحثًا عن الأمان الوظيفي المفقود لدى المؤسسات الخاصة العاملة في مجال الإعلام.

قبل عشر سنوات بادرت وزارة التعليم العالي بدعوة وزارة الإعلام لعقد ورش عمل عن التأهيل الإعلامي وحاجة المؤسسات الإعلامية، وشاركت كلُّ أقسام الإعلام في الجامعات السعودية، وكلُّ الصحف السعودية (بطلب من وزارة الإعلام) والإذاعة والتلفزيون، وكذلك مجموعة أم بي سي، وحرصت وزارة التعليم العالي على دعوة ممثلين لثلاثة نماذج في تعليم الإعلام عربيًّا (الجامعة الأمريكية في القاهرة)، وأوروبيًّا (جامعة بريطانية)، وأمريكيًّا (جامعة أوكلاهوما) لعرض تجاربها في كيفية علاقتها مع المؤسسات الإعلامية. انتهت الورشة بجملة من التوصيات لكن المؤسسات الإعلامية لم تلتزم بها؛ لأنها كانت مكلفة ماليًّا.

أضاف أ. عبد الله الضويحي أن هذا جزء من إشكاليتنا. وأتساءل: كم دفعت وزارة التعليم العالي لتنظيم هذه الورشة وهذه اللقاءات؟ وفي النهاية انتهت للأدراج؛ لأن الجهات التنفيذية الموجهة لها الورش غير مقتنعة، ولا تريد أن تخسر، ولم يكن هناك قرار حازم ومُلزِم لها، وهذا يعتبر هدرًا ماليًّا وإداريًّا. والمؤسسات الإعلامية والصحفية بالذات تقوم على اجتهادات، وتبحث عن الربحية؛ لذلك تدفع الثمن الآن.

وأتذكر أنه في نهاية السبعينيات، ومع بداية قسم الإعلام في جامعة الملك سعود أن طلاب القسم المتخصصين في الصحافة كانوا يتدربون عمليًّا لدينا في جريدة الرياض، وكان المتخصصون في الإذاعة والتلفزيون يتدربون في الإذاعة وفي التلفزيون، وشقَّ كثيرون منهم طريقهم بنجاح.

والإعلام يمنح المنتمي له ضوءًا وشهرة ويغري بالانتماء إليه؛ لذلك كثير ممَّن يتخصصون فيه ليسوا مؤهلين أو ذوي مواهب، بقدر ما يبحثون عن الأضواء.

وأضاف د. إبراهيم البعيز؛ أتذكر أنه في الإعداد لتلك الورشة، قمتُ بعمل دراسة مسحية لطلاب الإعلام في جامعات (الملك سعود، والإمام محمد بن سعود، والملك عبد العزيز)، وظهر أن 60% تقريبًا لم يكن الإعلام خيارهم الأول، بل كانوا يرغبون في تخصصات أخرى لكن لم يُقبلوا فيها.

كما أنهم لا يرغبون في الإعلام؛ لأنهم لا يملكون الموهبة والأسس المطلوبة للعمل الإعلامي؛ لذا يذهب الكثيرون 75% لدراسة العلاقات العامة، و20% للإذاعة والتلفزيون، و5% للصحافة؛ مما يعني أن 25% فقط هم مَن يبحث عن الأضواء.

وقد تضمن برنامج التحوُّل الوطني 2020 أربعة أهداف استراتيجية لوزارة الثقافة والإعلام، أحدها: تنمية الصناعة الإعلامية والصناعات ذات العلاقة وتعزيز تنافسيتها عالميًّا، ومن مؤشرات الأداء لهذا الهدف رفع عدد الوظائف في صناعة الإعلام والصناعات ذات العلاقة إلى 16 ألف وظيفة. وإحصاءات وزارة التعليم تقول إن عدد الطلاب والطالبات في كليات وأقسام الإعلام في الجامعات السعودية يصل إلى 26 ألف طالب وطالبة.

وفي اعتقاد د. حمزة بيت المال، فإن الإعلام أحد التخصصات العلمية المهمة لسوق العمل في المستقبل، بل إن أهميته في ازدياد للعديد من الأسباب، منها:

١- أن الإعلام لا يزال يمثل عصب الحياة المعاصرة العامة، بل إن مكانته ازدادت اتساعًا مع تقنيات الاتصال المعاصرة.

٢- ازدياد ظاهرة التعامل عن بعد مع الكثير من احتياجات الإنسان، بما في ذلك معرفة الشأن العام.

٣- ازدياد عزلة الفرد عن محيطه الاجتماعي واعتماده شبه الكلي على وسائط الاتصال المعاصرة حتى مع أقرب الناس إليه.

إن مظاهر الحياة العامة المعاصرة، ومع مزاحمة وسائل الاتصال الاجتماعي للإعلام، تفرض أن تعيد أقسام الإعلام النظر في مناهجها، ويُستحسن أن يتم عاجلًا غير آجل لاستدراك الأمر، وتغيير مناهجها جذريًّا، خصوصًا مع اتساع ظاهرة التقاطع مع علم الاجتماع، فالشبكات الاجتماعية التي كانت حكرًا على علم الاجتماع أصبح الإعلام يزاحمها في داخلها الآن.

أخيرًا؛ أشيرُ إلى أهمية أخذ أقسام الإعلام لبعض متطلبات أعداد الخريجين، وبالأخص الحاسب الآلي، والفنون في المجمل.

الروبوت ومهن المستقبل:

في تصوُّر د. نوف الغامدي، فإن هناك طرقًا عدة لتقدير حاجة سوق العمل الحالية والمستقبلية من وظائف وتخصصات المستقبل، منها إحصاءات وزارة العمل، والتي تغطي القطاع الخاص، وتُقدِّم صورة كاملة عن عدد العاملين ونسبة التوطين في مختلف المهن والتخصصات، ويمكن أن يُضاف إليها الإحصاءات الحكومية لتكوين صورة متكاملة عن سوق العمل، ومن ثَمَّ يمكننا بناء نموذج اقتصادي يقوم بمعايرة الاقتصاد مع فرص العمل الحالية، بحيث يستطيع النموذج تقدير فرص العمل المستقبلية للخمس أو العشر سنوات القادمة بناءً على توقعات النمو في القطاعات المختلفة للاقتصاد والتطورات التكنولوجية المنظورة.

كما أن الجامعات تحتاج إلى وجود مثل هذا النموذج بصورة ملحة؛ نظرًا أن تطوُّر قطاعات معينة أسرع من أخرى بناء على أولويات المتغيرات، فمثلًا: قطاع الأعمال وكذلك الخدمات اللوجستية والنقل والطيران يحتاج كلٌّ منها إلى كوادر ذات تخصصات معينة، وقد تتغير الاحتياجات بسرعة بسبب التطوُّر التكنولوجي، بينما يحتاج سوق العمل إلى كوادر بعضها متخصص والآخر لها القدرة على التكيف مع تغير طبيعة الوظائف، وكذلك القطاع الصناعي وقطاع الطاقة اللذان يتغيران بالتطوُّرات التكنولوجية والأتمتة وبالتوجه نحو المصادر المتجددة، فسيحتاجان إلى كوادر مختلفة مع الوقت، بينما الخدمات الحكومية والصحية والتعليمية تحتاج إلى كوادر مؤهلة ومتخصصة بشكل مختلف، ولديها القدرة على بناء وتطوير أنظمة ذكية لتقديم الخدمات، ومازلتُ أجزمُ بأنه لا يزال هنالك فجوة بين ما يتطلبه سوق العمل وما تقدِّمه الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، وقد طالبتُ قبل سنوات بسد هذه الفجوة من خلال التخطيط للأجيال القادمة، والعمل على تعزيز دراسة مستقبل الاحتياج للوظائف، وبالتالي توفير التخصصات المناسبة، وأعتقد أن الحل يتم من خلال استحداث إدارة جديدة مهمتها التعرُّف على متطلبات سوق العمل ونوعية الخريجين، وقياس مستوى ما تحصّلُوا عليه من علوم، ومهمتها أيضًا توفير قاعدة بيانات متجددة تتواكب دائما مع ما يحتاجه السوق، وتعمل على تزويد الجامعات والكليات بشكل دوري بهذه البيانات.

وحول القائمة التي أصدرتها صحيفة مكة حول وظائف المستقبل؛ سنلاحظ أنها تذكر الوظائف الصحية على استحياء، مهنة طبية في صلب التقنية، والعديد منها لم تأت الدراسة على ذكره، وأشارت إلى أن الطبيب بمهنته المعروفة سيتحول إلى روبوت في السنوات البعيدة القادمة، لكننا هنا نركِّز على المهن التي تحوّلت اليوم فعلًا إلى الروبوت، وما زالت الجامعات والكثير من الناس تعتبرها ذات بريق للمستقبل المهني، نركِّز عليها تفاديًا للأخطاء المستقبلية التي قد يقع الطالب فيها، بينما نصيب الأسد من المهن أصبح للتخصصات الإدارية والهندسية، وتلك التي أوجدها التقدُّم الشره نحو الذكاء الصناعي، على سبيل المثال، قسم المختبر في القطيف المركزي قد بدأ فعلًا في الانتقال إلى الأجهزة التي تعمل ذاتيًّا، ضع العينة هنا وستكون النتيجة في النظام، وبقايا العينة في الثلاجة للحفظ أوتوماتيكيًّا، أو ما يُعرف اليوم روبوتيًا!. ليس المختبر فقط، حتى الصيدلية سيكون صرف الدواء بطريقة روبوتية مثل جهاز الصراف الآلي، ولا حاجة للعديد من الموظفين، وكذلك بقية الأقسام؛ كالسجلات، والتغذية، والأشعة، والبصريات… إلخ.

أمّا وزارة الصحة فقد توقفت منذ مدة عن التوظيف إلا القلة القليلة، وبدأت في تنفيذ قرارها لخفض الإنفاق، في إغلاق الصيدليات في المراكز الصحية تدريجيًّا، وسيكون على المريض صرف الدواء من الصيدليات الخاصة المتعاقدة مع الصحة، وهذا يعني الاكتفاء من الموظفين لسنوات، ولم يعد الصراخ وطلب النجدة من الدولة كالسابق ينفع، باختصار: إنّ الدولة ماضية في رؤيتها، وإنّ التحوّل قائم على قدم وساق نحو الروبوتية، وهذا بطبيعة الحال على حساب وظائف الإنسان الذي وقع في خطأ التخطيط الفاشل للمستقبل.

رؤى خارجية حول التعليم في المستقبل:

أورد د. حميد الشايجي أحد الفيديوهات التي تتحدث عن التعليم في المستقبل، يقول فيه رجل الأعمال الصيني “جاك ما”: إننا إذا قمنا فقط بتغيير فحوى التعليم سيتمكن أطفالنا من منافسة الذكاء الصناعي. وذكر أننا إذا لم نغير طريقة التدريس سنكون في ورطة بعد 30 سنة من الآن؛ لأن طريقة تدريسنا الحالية والأشياء التي ندرسها لأطفالنا هي أشياء بالية من الـ 200 سنة الماضية، فهي مبنية فقط على المعرفة. وهكذا لن نتمكن من تعليم الأطفال كيف يتنافسون مع الآلة التي تتفوق علينا ذكاءً. علينا تعليمهم شيئًا فريدًا.

وأضاف أن (القيم، الإيمان بالنفس، القدرة على التفكير المستقل، روح الفريق، والاهتمام بالآخر) وهو الجزء المعنوي، المعرفة لن تعلمهم ذلك؛ لهذا السبب أعتقد أن علينا تعليم أطفالنا (الرياضة، الموسيقى، الرسم، الفن)، بذلك نضمن أن الإنسان سيبقى مختلفًا، والشيء الذي سنعلمه يجب أن يكون مختلفًا عن الآلة، وإذا تمكنت الآلة من أداء العمل أفضل منا سيحتم علينا إعادة التفكير في ذلك، فبحلول عام 2030 الروبوتات قد تلغي 800 مليون وظيفة في العالم.

ذهبت د. نورة الصويان إلى أن المهارات الحياتية والفنون من أهم المتطلبات في التعليم الآن، مع بناء قدرات المعلمين وتجديد معارفهم ومهاراتهم.

وحول ما اقترحه رجل الأعمال الصيني “جاك ما” نحو الاهتمام بثلاث مواد: الرياضة، والتربية الفنية، والموسيقى لتعزيز القيم الضرورية للتعليم، تساءل د. خالد الرديعان: هل نحن مستعدون للاهتمام بتلك المواد؟ فالرياضة لبناء الأجسام، والفن لتربية المخيال، والموسيقى لتهذيب الوجدان.

بينما يرى د. حمزة بيت المال أن كلام “جاك ما” بسيط. كما أنه نسي أن هناك علماء فيزياء ورياضيات وكيمياء أفنوا أعمارهم في المعامل، وخاطروا بحياتهم في التجارب للسلعة التي يتفاخرون بأنهم يكسبون منها.

وأعتقد أن الموضوع أعمق مما ذُكِر بكثير، ويجب على مخططي التعليم الوعي بخطورة إهمال مواد العلوم الأساسية، وما ذكره من ثلاثة علوم (رياضة، فن، موسيقي) هذه للترفيه، ولن تبني عقولًا مخترعة. اتفق معه د. مساعد المحيا، وأضاف؛ لعل البعض يبالغ في احتفائه بقيمة هذه المواد تعليميًّا؛ بسبب وجود مواقف لدينا تجاهها مجتمعيًا، والأصل التوسُّط في ذلك.

ويعتقد أ. جمال ملائكة أن “جاك ما” لم يقصد أن نلغي تعليم الرياضيات والعلوم…إلخ، ولكن تعليم القيم وروح الفريق والإيمان بالنفس زائد، أمَّا ما قاله عن المواد الأخري كالرياضة والموسيقى والفن فهو صحيح في رأيي.

فيما ذهب د. راشد العبد الكريم إلى أن كونه نجح وأصبح بليونيرًا لا يعني بالضرورة أنه عالم أو مفكر، ويحقُّ له التنظير للمستقبل.

تجارب شخصية في التعامل مع الطالب الجامعي:

ذكر د. خالد الرديعان؛ إنني، وعن تجربة شخصية وعمل لعدة سنوات في التعليم الجامعي يزيد عن ثلاثين سنة، أميل للتبسط كثيرًا مع الطالب الجامعي في محاولة لاستدراجه للتعليم؛ لأني أدرك البدائل المتاحة للطالب الذي يتسرب من الجامعة؛ كالوقوع في براثن المخدرات، وتجارة الممنوعات، والهوس بالأسلحة غير المرخصة، والتفحيط، واللهو غير المباح، والتطرُّف، وارتياد الاستراحات التي تجمع الطيبين بالسيئين، وأن يكون الطالب عبئًا ماليًّا وتربويًّا على أسرته.

الخوف من كل ذلك يدفعني دفعًا لجذب الطالب للجو الجامعي، بل وعدم إعطاء المقصر معدل (هـ) في المادة وهو ما يعني راسب، وأقول في نفسي: ربما كانت طريقتي في التدريس خطأ أو غير مناسبة، فلعله “يفلح” مع غيري، وهكذا طيلة سنوات عملي.

بعد كل هذه السنوات أشعر بعدم الرضا، وأقول: إن الطالب الجامعي يأتينا شبه جاهل، ليس في المعلومات التي قد يستظهرها أو يكسبها من عدة مصادر، ولكنه شبه جاهل في طريقة تعامله مع كل شيء حوله، بدءًا من النظام الجامعي برمته، والمقررات، والأستاذ وممتلكات الجامعة، وانتهاءً بسلوكه الشخصي، ومع مَن يختلف معه، ومظهره، وقيادته للسيارة، واحترامه للنظام العام والقانون.

أشعر أن هذا الطالب غير ناضج بدرجة كافية في المهارات الحياتية البسيطة، مع ملاحظة أن نسبة عالية من الطلاب يرتادون مصلى الكلية وألمس  فيهم نزعة تدين تخفف من خشونتهم.

قليل منهم مَن لا يمارس الغش في الاختبارات، وقليل منهم مَنْ يذاكر ويقرأ بشغف ويناقش في القاعة، وقليل منهم مَن يرتاد مكتبة الجامعة أو يحمل مراجع أو حتى حقيبة كتب أو قلمًا يدوّن به رؤوس أقلام في المحاضرة، وخاصة في مرحلة البكالوريوس. وقليل منهم مَنْ يكتب بحثه بنفسه دون عون من “مرتزق وافد” يعتاش على كسل طلابنا. وقليل منهم مَنْ يرفع مخلفاته إذا أكل في بوفيه الجامعة أو ترك طاولته نظيفة، أو أطفأ نور القاعة عند خروجه منها. أتحدث عن مهارات وسلوكيات بسيطة وصغيرة لا تحتاج معلم.

الوضع عمومًا محبط، ويقول لي إن تعليمنا لم ينجح في خلق طالب جاد يواجه صعوبات الحياة بشيء من الجدية والصرامة.

أضاف د. عبد الله بن صالح الحمود بأن هذه المشكلات ظهرت لي وواجهتها عند تدريسي في جامعة الإمام، والتي كنتُ أعتقد أن الطالب الجامعي فيها ربما أكثر انضباطًا من غيره، على الأقل اعتقادًا مني أن الجامعة إسلامية المناهج في أغلب تخصصاتها، وإلى ما هنالك من الاعتقاد، إلا أنني- وللأسف الشديد- ذُهلت من ثلة من الطلاب بالآتي:

– عدم انضباط في الحضور.

– لا مبالاة في تقديم المهام التي لا ترتقي إلى مسمَّى بحث، إنما كواجب مدرسي، فكنت أسعى إلى تبسيط الأمور لعل وعسى أن أشرع لاحقًا في مضاعفة تلك المهام.

– غياب؛ يقابله تقارير طبية، البعض منها أشك أنها صحيحة.

ولا أدري حقيقة أسباب نشوء ذلك، هل التربية الأسرية كانت سببًا في ذلك، أم أن مؤسسات التعليم العام اختلفت مخرجاتها وطرق التدريس فيها، وهو ما أدَّى إلى ظهور طلبة بتلك المحصلة المؤسفة؟

من جانبه أشار د. خالد الرديعان إلى أننا يجب ألا نغفل أن طالب اليوم يتغذى جيدًا، ويلبس أفضل الملابس، ويمتلك جوالًا وسيارةً ومعه نقود، على الأقل أغلبية الطلاب، إلا أن الإقبال على التعليم الجامعي كشغف ليس موجودًا، وهذا يحيرني كثيرًا. طلاب المنح الأفارقة ومن شرق آسيا لا ينطبق عليهم ذلك؛ فهم أكثر جديةً، ولديهم ولعٌ غريب بالتعلم، والإفادة من كل ما تتيحه الجامعة.

اتفق د. مساعد المحيا مع ما طرحه د. خالد الرديعان، وأضاف أن المؤسف أن هذه الظاهرة تزداد سوءًا كل عام، وأحد الجوانب التي يبدو أنها سبب ذلك هو ضعف مستوى مخرجات التعليم العام. ولو أن الطالب الذي يصل للجامعة اليوم يستحق دخولها لكنَّا في أفضل حال. اليوم أصبحتُ مقتنعًا بأن التعليم الجامعي ينبغي أن يكون للبعض من المؤهلين لذلك وليس للكل. لذا أرى أن من الحلول وجود اختبارات نوعية مهمة ترتبط بكل تخصص، بحيث يكون تجاوز هذه الاختبارات هو المسوغ لدخول الطالب الجامعة.

بينما ذكر د. خالد الرديعان أنه لا يميل إلى إلقاء اللوم على التعليم العام ما قبل الجامعة، فهذا قد لا يساعد على مواجهة المشكلة، فالسلوكيات التي ذُكرت عامة، ونجدها عند الغالبية سواء كانوا طلابًا أو غيرهم.

علَّق د. مساعد المحيا على ذلك بأن الطبيب حين يشخّص الداء بانتقائية سيفقد فرصة الوصول لطبيعة المرض. السلبية المجتمعية تنتفي مع الجد والاجتهاد والحزم، مثلًا: الناس يخافون كثيرًا عند إشارات المرور؛ لأن الكاميرات ترصدهم، وهؤلاء أنفسهم يمارسون عدم احترام الإشارة حين تغيب الكاميرات؛ لذا حين يكون هناك حزم في التعليم العام ستجد طالبًا مجتهدًا.

الطالب اليوم النظام يساعده في أن ينجح بأقل درجات ممكنة، والمعلم الذي يخفق عنده بعض الطلاب تتم محاسبته؛ لذا فإن المخرجات هزيلة.

وذكر د.عبد الله بن صالح الحمود؛ لعلنا ننطلق من مقولة “الحاجة أم الاختراع”، يقال إنه مثل ذو أصل إنجليزي، ويعني أن القوة الدافعة الرئيسة لمعظم الاختراعات الجديدة هي الحاجة. ولهذا دومًا أشير إلى أن الإنسان يمتلك دافعين (داخلي و خارجي)؛ الداخلي هو نابع من الإنسان نفسه، وأن نسبة ذلك يفترض ألا تقل عن ٧٠% أو أكثر، أما الدافع الخارجي والمكمل لبقية نسبة الـ ١٠٠%، فهو يتمثل في الأسرة وأفراد المجتمع الذين قد يكون توجيههم وتحفيزهم للآخر سببًا في تغيير مسار حياته الشخصية، ليكون عاملًا فاعلًا له دور مؤثر في  مجتمعه.

ولهذا دومًا ما ألحظ أعدادًا كبيرة من الشباب والشابات الدافع الداخلي لديهم نسبيًا يصل إلى أقل من الدافع الخارجي، وتلك تعدُّ مصيبة تربوية كبيرة تؤدي إلى انهيار في بناء الإنسان.

ويرى د. مساعد المحيا أن الطلاب يمكن أن يكون لديهم دافع قوي حين يكون النظام التعليمي حازمًا، على سبيل المثال، أعداد من الخريجين السلبيين لدينا حين يلتحقون بجامعات غربية تتحسن أحوالهم؛ لأن البيئة التعليمية وأنظمتها تصبح محفّزة لهم.

علق د. خالد الرديعان أنه بصرف النظر عن كلِّ ما ذكرنا، لماذا “شغف التعلم وحبّ المعرفة والرغبة في الاكتشاف” مفقود عند الطالب الجامعي؟ أجاب د. عبد الله بن صالح الحمود بأنه يعتقد أن الأسباب عديدة، منها:

– لا يوجد محفّزات أو بوادر واضحة للطالب لإثبات ذاته.

– مؤسسات التعليم خصوصًا العام منها أضحت همًّا أكثر منها منفعة، أطنان من الكتب للصغير والكبير، ومعلمً همُّهُ إنجاز المنهج في وقته.

– حاضنات تعليمية وتدريبية لا تزال أحلامًا لمَّا تُنفذ، بالرغم من كثرة المناداة بالمطالبات أن ترى النور.

في السياق نفسه، أشار أ. محمد الدندني إلى أن الحزم والقوانين الصارمة مطلوبة مع المجتمعات غير الملتزمة وغير المنضبطة، إلى أن تأتي أجيال تتشرب الالتزام والانضباط. وأتساءل: هل أوروبا والغرب وصلت لما وصلت إليه بغير هذا، إلى أن أصبح الانضباط جزءًا من أخلاق المجتمع؟ ولعليِّ أبالغ وأقول: إنه أصبح يُولد مع المولود.

في التعليم الخلل ليس بعيدًا عما ذكرت، يُراد شهادة للوظيفة وليس للعمل، وإلا ما الدافع لشراء الأسئلة؟ ولا أدري عن تفشي هذه الظاهرة الآن! وأرى أنها أتت مع الأستاذ المصري للأسف، وبدأت في نهاية السبعينيات. لدينا خلل في تبرير الوسيلة للوصول للغاية. مع الطفرة أتت الشغالة والسائق، وهنا بدأ الخلل من المنزل في الاتكالية وسهولة الحصول على الخدمة والمال بلا أي جهد. مع هذا لستُ هنا متشائمًا، فمع التحوُّل والرؤية التي تتسم بالحزم نرى بداية تغيرات إيجابية، نرجو أن تستمر، وأن نرصد بعض الجوانب السلبية حتى لا نخلق مشاكل من نوع آخر.

تطوير مناهج التعليم:

أورد د. حميد الشايجي أحد الفيديوهات حول التطوير في مناهج التعليم، يذكر فيه د.محمد الزغيبي الرئيس التنفيذي لشركة تطوير الخدمات التعليمية أنه تمَّ تحليل رؤية المملكة 2030، ووجد بها 300 معلومة يجب أن يعلمها الطفل، وبالتالي تم تضمينها في مناهج التعليم. وتمَّ وضع شعار رؤية 2030 في الكتب المدرسية والمضامين المطلوبة بالدروس المرتبطة بها، وتمَّ إنتاج 60 حلقة للشخصيات الموجودة في الكتب حول القيم التي تمثل المملكة العربية السعودية.

كما تم في كتب العلوم الاهتمام بتقنيات العالم المعزّز، فالأمثلة الموجودة في كتب العلوم لها تطبيق يتم تنزيله من بوابة عين بمجرد وضع الجوال عليه، ينقلك من وسمة ساكنة إلى وسمة تفاعلية، بالإضافة إلى وضع أكواد لنصوص الاستماع. وهناك مقرر مبسط لتعليم البرمجة صنعه معلمات ومعلمون سعوديون مميزون يعلّمون من خلاله أربع لغات.

ومن الإضافات الجديدة، هناك محتوى يتعلق بإنجازات العلماء السعوديين المضمنة في الكتب المدرسية، وكذلك تمَّ وضع إنتاج 150 أديبًا وأديبة سعودية في كتب اللغة العربية والأدب والبلاغة والنقد.

علَّق د. خالد الرديعان بأن هذا جيد مع توظيف التطبيقات الذكية؛ فجيل التلاميذ الأخير يعتمد على الجوال بصورة كبيرة، لكن هل يُسمح بالجوال في المدرسة كوسيلة إيضاح وتعزيز للدرس؟، وما وضع التلاميذ الذين لا يمتلكون أجهزة جوال؟ كذلك تساءلت د. فوزية البكر: ماذا عن المدارس الموجودة في الأرياف والقرى البعيدة التي لا تمتلك بنية تحتية  للإنترنت، وهي أكثر من أن تُعد؟

حول ذلك أشارت د. عبير برهمين إلى أن هناك عددًا كبيرًا من الطلاب والطالبات من الأسر المحدودة الدخل لا يوجد لديهم جوالات. وعلى فرض توفُّر جوالات ذكية لديهم فمن يتحمل تكلفة الاتصال بالإنترنت، فالتعريفة عالية والخدمة رديئة، وأغلب المدارس والجامعات لا توفّر خدمة إنترنت مجانية في المدن الكبرى، أما القرى فالله معهم.

التعليم في الهجر والقرى:

ذكر أ. محمد الدندني أن هذا الحديث يقودنا لقضية وضع الهجر والقرى وَبُعدها عن المراكز الحضرية، حيث الخدمات من تعليم ومستشفيات…إلخ. قرى وهجر متناثرة، والكثير منها ليست في خطط التمدد العمراني أو أن هناك خططًا لتطويرها، بعضها قديم وهو أصلًا تجمُّع حول مصدر الماء، وتُسمَّى أجواء تَرد عليها الإبل والماشية، ومع الوقت استوطنتها في الغالب قبيلة واحدة؛ وبعضها حديثة، حيث أُعطيت أراض لشيوخ القبائل أو العشائر، وأُنشئت تجمُّعات أشبه ما تكون بالعشوائية، أغلبها أو جلُّها- وبسبب بُعدها وقلة سكانها- لا يوجد مبرر لجدوى تطويرها.

تكثر هذه القرى والهجر في نجد نسبيًّا والشمال والشمال الشرقي، ويغلب عليها أبناء القبائل والبادية. أليس من المناسب تشجيع أهل هذه القرى والهجر للانتقال إلى مناطق حضرية حيث التعليم والعلاج، أم تركها لرغبة الناس؟ مع العلم أنها لن تُطور تلقائيًّا، ولا توجد خطط لتطويرها. النوع الآخر هي قرى فلاحية وتمتاز بها المنطقة الجنوبية، فهي سلسلة من القرى ومن الواجب العناية بها وتطويرها لوجود مهنة الزراعة، وتعتبر مناطق حضرية تحتاج للاهتمام.

وأكد د. حمزة بيت المال أن قضية البنى التحتية والتكلفة مهمة جدًّا وتستحق نقاشًا موسّعًا عنها؛ لمعرفة واقع القرى والمناطق النائية، فالتكلفة المرتفعة تحرم الكثير من الاستفادة من هذه الخدمات المتقدمة في الكتب وكذلك البنى التحتية، وهذه الظاهرة يمكن النظر لها في تأثيرها على المدى المتوسط والبعيد، حيث تعمل على خلق فجوة معرفية بين مَن يملك ومَن لا يملك.

من جانبه يرى أ. محمد الدندني أن الفجوة موجودة بين المدن الصغيرة والمدن الكبيرة، والمقلق مستوى الجامعات في المدن الصغيرة، فكيف سينافس خريج الجامعات أو المبتعثين؟ ربما يقول أحدهم إن الطالب ليس مجبرًا على أن يلتحق بها، وليسع للأفضل؛ نظريًّا ذلك صحيح، ولكن عمليًّا العكس، فهذه جامعات كُلفت أموالًا طائلة، ويجب الاستفادة منها. ثانيًا من المنطق عمل العكس، وهو أن تكون هذه الجامعات قبلةً لأبناء المدن لتُخفف من ازدياد سكان المدن، وتقليل الهجرة من الريف- إن صح التعبير- إلى المدن الكبرى.

تم إنشاء العديد من هذه الجامعات دفعة واحدة، وبعد الإنشاء بدأت ببناء مجمعات نموذجية، بالتالي أصبح لدينا جامعات حديثة بلا تاريخ أكاديمي ومعرفي. وأتساءل: لماذا لم تُفتح فروع لبعض الكليات من جامعة البترول والملك سعود والملك عبد العزيز في هذه المناطق؛ كي يكون هناك استمرارية لما وصلت له الجامعات الأم؟ وليس بالضرورة كل الكليات، يمكن التركيز على الطب والهندسة والعلوم، وهذا ما نحتاجه. بالرغم من ذلك يمكن الآن مراجعة الوضع، وتحويل بعض الكليات والاستفادة من البنية التحتية إلى كليات تقنية متطورة، حيث الحاجة وفرص العمل.

وبمناسبة الحديث عن التعليم في الهجر، أورد د. محمد الملحم مقالًا بعنوان: “تعليم الهجر النائية: إلى أين؟”* اقترح من خلاله بعض الحلول؛ جاء المقال كالتالي: (تعرضتُ في مقالي السابق إلى مشكلة التدريس في الهجر والقرى البعيدة، وتناولت ثلاث مشكلات: مخاطر سفر المعلم/ المعلمة لمسافات بعيدة، وكونهما مستجدين غالبًا؛ مما يقلل كفاءة التعليم بالهجر، وأخيرًا قلة سكان تلك الهجر؛ مما يعرّض المدارس للإغلاق إذا نقص عدد الطلاب عن الحد النظامي الأدنى، أو حتى عدم افتتاح المدرسة في الأصل؛ مما يفاقم مشكلة الأمية خاصة في تعليم البنات.

وتنوُّع هذه المشكلات في موضوعها يعني احتياجها لثلاثة حلول، بيد أني سأقدِّم هنا حلًا واحدًا يشمل الجميع، ولا أدعي فيه الكمال لكنه يخفِّف منها كلها معًا في آن واحد، وفوق ذلك يرفع جودة تعليم الهجر مع احتمال توفير الإنفاق أيضًا.

كنت قدمت هذا المقترح لمقام الوزارة إبان عملي فيها، وأُحيل إلى لجنة مختصة بالهجر، وقد استقيته من التجربة الأسترالية، حيث يوجد واقع مشابه للسكان الأصليين المترحلين Indigenous، فقد أنشأت مدارس التعليم عن بُعد Distance Learning Schools ووظّفت فيها تقنيات الإنترنت والاتصال الفضائي بشكل هائل، وفوق ذلك تقنيات التصوير عالي الجودة والشاشات المكبرة والكاميرات الوثائقية ولاقطات الصوت الحساسة جدًّا؛ كل هذه التقنيات مكّنت معلمًا واحدًا في مدينة كبيرة، مثل الرياض أو جدة أو الدمام، أن يدرِّس عددًا من الطلاب يسكنون في هجرة أو قرية نائية من خلال نقل صورته وصورة السبورة إليهم (أمام الطلاب شاشتان)، ونقل صورتهم وصورة السبورة التي أمامهم إليه (أمامه شاشتان لهم). بل يمكن أن يكون أمامه شاشات متعددة لأكثر من فصل، فتنقل إليه كل شاشتين منها طلاب الفصل في مدرسة مختلف موقعها جغرافيًّا عن الأخرى، فهو يدرس 3 فصول أو 4 أو 5 من عدة مدارس مختلفة في آن واحد، إذ قد يكون هناك 3 أو 4 طلاب فقط في مدرسة واحدة، فالعبرة بجعل إجمالي العدد الذي أمامه 20 طالبًا مثلًا.

وبهذا النموذج سيتواجد بمبنى المدرسة التي في الهجرة معلم واحد فقط أو حتى إداري، تم تدريبه ليتولى تشغيل الأجهزة، وضبط النظام والغياب، وما إلى ذلك من الشؤون اليسيرة. أما المعلم الذي يدرس هؤلاء عبر البث المباشر فهو في المدينة، وبالتالي لن يكون معلمًا مستجدًا كما في النموذج الحالي، بل من القدامى ذوي الخبرة؛ وذلك لعدة اعتبارات:

أولًا: لأنه سيتدرب على مهارات التدريس عن بُعد، وبالتالي سيُدعى “معلمًا عن بعد”؛ وبهذا سيحصل على مكافأة تشابه مكافأة معلمي التعليم الخاص؛ لما يتطلبه عمله من جهد نوعي إضافي.

ثانيًا: لأن أثره سيمتد إلى قطاع عريض من الطلاب، فإنه سيبذل جهدًا مضاعفًا في تجويد عمله، لا سيما أن ما يقدِّمه من دروس سيكون مسجلًا بالكامل، فيمكن للمشرفين التربويين الرجوع إلى التسجيل لتحديد أفضل الدروس ليتم بثها عبر موقع الوزارة، ليستفيد منها أولياء الأمور بكل المملكة (لا في الهجر فقط) لتدريس أبنائهم، وكذلك يستفيد منها الطلاب أنفسهم بالنسبة للمراحل المتوسطة والثانوية. وهذا يقدح التنافس بين هذا الصنف من المعلمين (المعلم عن بعد)، لتقديم أفضل درس ممكن ليُبثّ عبر الإنترنت.

ثالثا: حيث ذكرنا أن التدريس كـ”معلم عن بعد” له مكافأة مالية، كان لازمًا أن يحظى به المجتهدون من المعلمين القدامى الذين بنوا الخبرة وصقلوها عبر الزمن، وهذا مكسب إضافي لصالح مدرسة المدينة التي يدرس بها عامة المعلمين، فيتنافسون لينالوا الترشيح لهذا النمط من التدريس بعد أن يرتقوا بمستواهم المهني.

كما قلت إني لا أدعي الكمال لهذا النموذج لكنه جدير بالتجربة والدراسة والتقييم مع تحليل التكاليف ومقارنتها بالنموذج التقليدي الحالي، إذ إنَّي أتوقع انخفاض التكلفة، وحتى لو لم تنخفض فإن تجويد التعليم في الهجر بهذه الطريقة مع وقف نزيف حوادث معلمي ومعلمات الهجر، وتوفير التعليم للهجر الصغيرة جدًّا، ومنع الأمية كلها مكاسب لا تُقدر بثمن).

إلا أن د. حميد الشايجي يرى أن الحل الأمثل هو إعطاء هذه المناطق النائية الأولوية لرفع مستوى التعليم فيها، وردم الهوّة بينها وبين بقية المدن في الوطن. وكذلك الحرص على توظيف أبناء وبنات تلك المناطق وتدريبهم وتعليمهم ليقوموا بالأعمال في مناطقهم بدلًا من إرسال المعلمين والمعلمات من المدن البعيدة لتلك المناطق النائية، وهذا ينطبق على الخدمات الحكومية الأخرى لكي نحدّ من نزوح سكان الريف للمدن.

إن أبناء الأرياف في القرى والهجر- للأسف- يعانون من عدم تفهُّم أبناء المدن الكبرى المتنفذين في إدارة المصالح الحكومية. وأذكر أنني عندما كنت مسؤولًا عن تعليم البنات في الأحساء (في تلك الفترة) كان توظيف بنات هجر الأحساء في هجرهم مشكلة كبيرة، وفي الوقت نفسه كان عدد كبير من المعلمات يعانين من مشقة التنقل يوميًا من الأحساء إلى الهجر البعيدة، وأظن بعضنا عايش تلك الفترة، ويدرك الصعوبات التي تواجه أبناء الريف ورداءة التعليم في الهجر بسبب عدم انتظام المعلمين والمعلمات القادمين من أماكن بعيدة.

فالمشكلة في رأيي رداءة نوعية التعليم؛ بسبب عدم حرص وتفريط من قبل إدارات التعليم، وعدم اهتمامها بالمناطق النائية، وتسيب المعلمين والمعلمات.

التعليم الفنلندي أنموذجًا:

أورد أ. محمد الدندني مقالًا حول التعليم الفنلندي بعنوان: “نظام التعليم الفنلندي: معجزة تتحدى المنطق”. يتساءل المقال في مقدمته: ماذا يعني أن تُقلل أيام الفصل الدراسي، وتُقلص ساعات التدريس في الأسبوع، وتُوقف الاختبارات الموحدة، وتتخلص من الواجبات المنزلية والدروس الخصوصية، ثم تتصدر ترتيب طلبة العالم في اختبارات القياس الدولية؟ هذا ما حدث في عام 2000، حين فوجئ العالم بمجموعة طلاب قادمين من دولة صغيرة تعداد سكانها خمسة ملايين نسمة، يُتَوَّجون بالمراكز الأولى في اختبارات القياس الدولية، ومذ ذاك العام والسياحة التعليمية نشطة في فنلندا: طوابير من الوفود الدولية تصطف سنويًّا للزيارة، والإجابة عن سؤال واحد: ما الذي يجري في مدارسكم؟

الأب الروحي للتعليم الفنلندي الدكتور “باسي سالبرغ”، المبشر الأبرز بالأساليب التعليمية الجديدة، قدَّم في كتابه “Finnish Lessons” دروسًا مجانية لا تتطلب تكاليف تذكرة الزيارة، ووصف بُعدًا تعليميًّا بديلًا لم يسافر إليه أحد من قبل.

أول خطوة اتخذتها فنلندا للنهوض بالتعليم هي التخلص من الجراثيم. هكذا يسميها الدكتور سالبرغ اشتقاقًا من الأحرف الأولى لاسم الحركة العالمية لإصلاح التعليم «Global Education Reform Movement»، أو «GERM» (جرثومة) اختصارًا. يتهم سالبرغ الحركة بإفساد التعليم، وإن ادَّعت إصلاحه، وصار يختصرها في كتاباته ومحاضراته باسم الجراثيم، كناية عن الأساليب المُعدية التي ما زالت تنتهجها هذه الحركة حتى تفشت في جميع مدارس العالم.

ينقل كتاب “الدروس الفنلندية” عن صحيفة “التايمز” أن التعليم الفنلندي أباد 99% من جراثيم التعليم العالمي، وهي: (تكثيف المواد، كثرة الاختبارات والواجبات، إطالة أوقات الدوام، الدراسة المنزلية والدروس الخصوصية)؛ كلها أساليب يؤكد سالبرغ أنها جراثيم قادرة على هدم أي نظام تعليمي يتكئ عليها؛ لأنها ممارسات غير تربوية من شأنها إرهاق الأستاذ والتلميذ معًا، وإضعاف عملية التعليم ككل.

وهناك بعض المفارقات في التعليم الفنلندي التي ربما لم يعتد عليها النوع البشري القاطن خارج نطاق الجغرافيا الفنلندية، علينا أن نصدق أن هناك شعبًا كاملًا يمارسها بشكل اعتيادي، واستطاع أن يتفوق بها على الشعوب الأخرى، منها:

1. تدريس أقل = تعلم أكثر: فلم تثبت العلاقة بين زيادة أوقات الدراسة والتفوق، بل لوحظ أن الدول التي يتفوق طلابها كانت تقلل من ساعات دوامها المدرسي، في حين الدول التي أظهرت تدنيًا في مستويات طلبتها هي التي كانت تعتمد على زيادة ساعات الدراسة. أما الطلاب الفنلنديون هم الأقل مكوثًا في المدرسة، والبيوت الفنلندية تخلو من الدروس الخصوصية، وكذلك المعلمون الفنلنديون يقضون ساعات تدريس أقل من البلدان الأخرى، والطالب الفنلندي هو الأقل قلقًا، كما أن المدرسة الفنلندية تفوقت عالميًّا خلال سنوات قليلة أيضًا، ساعات التعليم الصباحي كافية للطالب والمدرس؛ ولذلك لا داعي للاستحواذ على ما تبقَّى من اليوم.

2. تفاصيل تخصصية = معرفة معزولة: بعيدًا عن الحفظ والحشو والتلقين، يحذر سالبرغ من إلزام الطالب بمعلومات تفصيلية لا يتداولها إلا أهل التخصص الدقيق، يسميها “المعرفة المعزولة”. فالمواد التدريسية الفاعلة يجب أن تركز على تربية الطالب في الجوانب التالية: التفكير الإبداعي، الضمير الأخلاقي، المهارات التواصلية، الموهبة الخاصة.

3. منطقة خالية من الاختبارات: دور المدرسة أكبر من أن تحكم على طالب من خلال ورقة، فالتعليم ليس للتقييم. هكذا يُطلق على المدارس في فنلندا: “منطقة خالية من الاختبارات”.

السلطات في فنلندا غير مقتنعة بمردود سياسة الاختبارات، والتوصيف الوظيفي للمدرس الفنلندي محدد بمساعدة كل طالب لفهم المادة داخل الصف، دون ملاحقته بالامتحانات الطويلة والقصيرة والمفاجئة، أو مواسم الرعب النهائية. إذا اطمأن الطالب في يومياته الدراسية استطاع أن يفكِّر ويعبِّر ويتطور. أما التشديد والتهديد بالاختبارات، فإن له عواقب انسحابية خطيرة، ابتداءً بمشاعر التوتر والقلق، مرورًا بالضغوطات النفسية الحادة، وصولًا في حالات مؤسفة إلى المفاصلة بين التعليم أو الحياة.

دور المدرسة أكبر من أن تحكم على طالب من خلال ورقة، والتعليم أسمى من تلك الوصوم التي تُوزَّع على الصغار في بداية حياتهم، التعليم ليس للتقييم. ويُمنَع إعطاء الطلاب شهادات تحدِّد مستواهم بالدرجات والتقديرات في مراحل التعليم الأولى، تجنبًا للتصنيفات والمقارنات المبكرة بين الأقران، (ممتاز، جيد، مقبول، راسب…) هذا ممنوع. وبعض وسائل الإعلام الفنلندية تجتهد في وضع ترتيب لمستويات المدارس بين يدي الجمهور، لكن الغريب أن هذه الأخبار لا تحظى باهتمام الشعب الفنلندي.

4. أفضل تعليم بأقل تكلفة: مفارقة محرجة بعض الشيء: الدول التي صرفت الأموال، واتَّبَعت استراتيجية واضحة لتتصدر العالم تعليميًّا (أمريكا مثلًا) لم تنل هذا اللقب، بينما الدول التي لم تسعَ للأفضلية يومًا، ولم ترفع ميزانيتها التعليمية، وإنما اكتفت ببعض التحسينات التي توفر عليها التكاليف الباهظة، هي التي تبوأت القمة (فنلندا طبعًا).

انتقل التعليم الفنلندي من توحيد التعليم إلى تفريد التعليم؛ فالتعليم التقليدي دائمًا ما يركز على معيار واحد للنجاح فقط: اختبارات، واجبات، مشروعات، وكلها مسطرة قياس موحدة للجميع، الطلاب والطالبات ملزمون بتحقيق هذا المعيار الوحيد لضمان عملية الترقي للمراحل التالية، بافتراض أن جميع البشر يتمتعون بنفس القدرات والإمكانات، وما دام هناك طالب واحد استطاع أن يحقق هذا المعيار، فجميعهم قادر على ذلك. هذا هو “توحيد التعليم”. أما مرحلة “تفريد التعليم”، فتقوم على مبدأ الإقرار أولًا بأن الطلاب متفاوتون في قدراتهم وإمكانياتهم خلال عملية التعلم.

ففي مرحلة التفريد يُوجَّه المدرس إلى وضع خطة فردية تتناسب مع الاختلافات الطبيعية بين طالب وآخر. وتتسم هذه الخطط الفردية بالمرونة العالية، بحيث يتمكن المدرس من متابعة أداء كل تلميذ على حدة، وبحسب نقاط قوته وضعفه يُحدِّد الأستاذ مدى تطوُّر مستواه التعليمي: لا يُقارَن تلميذٌ بآخر، كل تلميذ له مسار تقييمي خاص يدركه أستاذه جيدًا.

هكذا يحدث الرسوب: شخص واحد يُملي دروسًا كثيفة على أدمغة كثيرة خلال ساعات قليلة. يضطر الطالب، المزدحم بسبع مواد وسبعة مدرسين وسبعة متطلبات، أن يلجأ إلى مساعدة من خارج الفصل (مدرس خاص، صديق أكبر، أم خارقة، رشوة، تسريب، غش، إلخ) كي يلحق بالمنهج، ومَن لا يفعل سيستمر في كرسيه لعام إضافي.

ويذكر المقال ملخصًا حول ملامح المنهج الفنلندي:

– معقول: منهج خفيف مليء بفترات الاستراحة بواقع 15 دقيقة حرة بعد كل 45 دقيقة تعلُّم.

– مستقل: قدر كبير من الاستقلالية يتمتع به الطالب داخل الفصل، حركته، حواره مع أستاذه، تعاونه مع زملائه وتشكيل فرق عمل جماعية.

– متواضع: ألا تشترط أحدث المناهج وأفضل التقنيات وأرفع الميزانيات لتطوير التعليم. إنك من خلال منهج متوازن يراعي الطالب يمكنك أن تكون الأفضل في العالم.

– مرح: الطالب الفنلندي يبدأ التعلم في سن السابعة؛ لأنه بحاجة إلى أن يقضي طفولته قبل ذلك في اللعب. يدخل المدرسة ويدرس ثلاث ساعات في اليوم الواحد مليئة بالتعلم من خلال اللعب، وباقي وقته في المدرسة يقضيه في اللعب أيضًا، ثم يرحل باكرًا من المدرسة ليلتحق بناديه ليستكمل اللعب. هذه قوة اللعب.

– منخفض التوتر: بيئة التعلُّم داخل المدرسة وبعد المدرسة يجب أن تكون هادئة ومريحة، ولا تتطلب إضفاء أجواء التوتر والإجهاد. الهدوء والاسترخاء مطلبان مهمان للتلميذ والمعلم معًا.

– عادل: لا يهمُّ أين تسكن، فأنت دائمًا قريب من المدرسة التي ترغب فيها. لا توجد شروط تعقد قبول ابنك بالمدرسة المطلوبة، هذا حقٌّ للجميع.

إذًا الطالب يجب أن يتحرك ويلعب ويتحدث داخل الصف، خفة المنهج الفنلندي تحترم النزعة الحركية للطفل، وتتجاوب مع فطرته بمزيد من الألعاب التعليمية والمساحات الحوارية والتعبيرية مع الأستاذ.

هذا ما تسعى إليه شركة «Angry Birds»، مصممة اللعبة الشهيرة التي تحمل الاسم ذاته، وهي شركة فنلندية بالمناسبة: تصميم ألعاب تشرح المسائل العلمية من خلال المغامرة والترفيه. يفسر ذلك توجه أكثر الطلبة الفنلنديين لاستكمال تعليمهم العالي. تعليم بهذه الروعة، لمَ لا؟

ويعطي المقال مجموعة من النصائح  من داخل الفصول الفنلندية موجَّهة إلى مديري المدارس بخصوص الطالب والمدرس والمنهج:

– لا حاجة لتعليم الطالب كل شيء مبكرًا، فمهمة الأستاذ أن يحافظ على فضوله الطبيعي نحو التعلُّم حتى يكبر ويختار تخصصه المناسب.

– الاستماع لرأيه بكل موضوع يدرسه، ويشجعه الأستاذ على اكتشاف مكمن المشكلة واقتراح الحل ذاتيًّا.

– النبش عن موهبته الخاصة التي يتفوق بها على الجميع.

– يخفف عن الأستاذ العبء المطلوب منه تدريسه، حيث إنَّ ضغط المادة يقلل من قدرته على الإبداع في التدريس، ويُضعف من قدرته على التواصل مع كل طالب.

– يجب أن يكون الأستاذ أقلَّ مَن يتكلم. الصف الدراسي المثالي هو الذي يعبِّر ويناقش ويتحاور فيه الطلبة أكثر من الأستاذ (وهذه فلسفة جون ديوي). ويُمنح الأستاذ الثقة، ويُعطى صلاحيات أوسع لحل المشكلات اليومية دون ضرورة الرجوع للإدارة.

– تقدم مناهج عملية ذات صياغة تركز على نحت المهارات الاجتماعية والإدارية، مع شق نظري يراعي الاختلافات الفردية بين الطلاب.

– كل منهج دراسي يجب أن يتضمن عند تصميمه الأساليب المرحة والمحببة التي تتفنن في توصيل المعلومة بشكل ممتع.

– تُخصّص مواسم دورية للمسابقات والمنافسات الفردية والجماعية داخل المدرسة، فقد أثبتت فعاليتها في تغطية المنهج بشكل يفوق أسلوب التلقين.

علق د. خالد الرديعان على ذلك بأنه ‪لا يجب أن ننبهر كثيرًا بالتجربة الفنلندية؛ فهذه التجربة وليدة ثقافة معينة تخصُّ شعب فنلندا، وقد لا تناسب مجتمعات أخرى.

عدد سكان فنلندا صغير ونظامها ديمقراطي، ولديهم سعة اقتصادية، والمعلم الفنلندي محترف، ونسبة البطالة عندهم منخفضة، ويوظّفون التكنولوجيا في التعليم بصورة أفضل من غيرهم، ولا يركِّزون على دراسة المواد الدينية واللغة، وليس لدى الفنلديين إرثٌ طويل من الصراعات ولا الانقسامات، وهي التي تؤثر على شخصية الفنلندي كثيرًا، أضف إلى ذلك تأثير البيئة الجغرافية والمناخ. كل هذه فروق ثقافية وتربوية يلزم أخذها في الحسبان لمن يودُّ نقل هذه التجربة إلى مجتمع آخر.

ويعتقد أ. محمد الدندني أننا يمكن أن ننبهر، أمَّا أن نعتقد أنها ممكنة هنا، أشكُّ في ذلك. المغزى أن الإرادة وتهيئة المتلقي للتغيير والأخذ بعد التوكل على الله بكل الأسباب كفيلة بعمل المستحيل. لسنا نشكو القلة أو عدم المعرفة، نشكو من كثرة الأفكار وتغيير الخطط، وغياب ربما الثقة بالنفس من الملقِي والمتلقي.

إلا أن د. خالد الرديعان أعطى بعض الأمثلة التي تؤيد رأيه. فذهب إلى أننا لو قررنا حذف بعض المواد الدينية في مدارسنا الابتدائية على أن تُترك هذه المواد للمسجد وليس للمدرسة للتخفيف عن التلميذ، فإننا سنقع في مشكلة التشكيك في دور وزارة التعليم، ومن ثَمَّ أدلجة القضية بين مؤيد لها ومعارض.

مجتمعنا يتحسس من أي تغيير حتى لو جاء هذا التغيير بقرار سياسي. كما أن لدينا خصوصية ثقافية يُفترض عدم إهمال أهميتها في أي قرار نتخذه.

‪‎‪       مثال آخر: عندما قُرِّر كتاب القصيبي “أيام في الإدارة”، فإن قسمًا كبيرًا من الناس لم ينظر للأمر بحسن نية، نحن نؤدلج الأمور وننقسم حولها. لدينا إرثٌ ثقافي يثقل كاهلنا، ويصعب التخلص من تأثيره بين يوم وليلة.

وفي تصوُّر أ. محمد الدندني، فإن التاريخ والعصر الحديث أثبتا أن مَنْ يريد التقدُّم يجب ألا يأخذ في الاعتبار حساسية المجتمع وبعض الموروث الخاطئ، لو أخذنا بما ذكر د. خالد الرديعان، فهذا حكم بالإعدام على التقدُّم، وعلينا أن نقول: هذا قدرنا، و نستكين.

بينما يرى د. خالد الرديعان أننا إذا كنا نريد أن نتقدم في التعليم، فيجب أن يكون لنا نموذجٌ خاصٌّ بنا، ونستفيد من التجارب العالمية المتاحة بعد توطينها.

أضاف أ. محمد الدندني: إنني مقتنع شخصيًّا أن استشارة المجتمعات الشبيهة بمجتمعنا عنصر سلبي. المدرس والمواطن يعيش حالة فراغ فكري، واعتقادنا أن لدينا قيمًا متضاربة مبالغة ووهم، نحن بشرٌ وحتمًا سيكون القبول والإيمان بكل تغيير فيه مصلحة للمواطن وتقدُّم المجتمع.

في السياق ذاته، ذكر د. محمد الملحم أنه تحدَّث مع نائب القنصل الفنلندي في أكثر من لقاء عن التعليم، وأجابه عن أسئلة لا تُطرح كثيرًا في الأدبيات، منها:

– معروف أن السر في المعلم بالدرجة الأولى، وليس التقنيات أو أي شيء آخر؛ هل السر في الرواتب؟ الجواب: لا، وإنما رواتبهم عادية.

– ما سبب إقبال المعلمين على الجودة؟ الجواب: لأن مهنة التدريس هي رقم ١ اجتماعيًّا.

– هل السر في الجندر؟ الجواب: أغلب المعلمين من النساء.

من هنا يمكن أن نستشف بعض الاستنتاجات حول التعليم الفنلندي، أما بقية العوامل فهي بدون شك مؤثرة في الدرجة التالية ولها قيمتها، فهذه كلها تعمل معًا. نهوض التعليم لا يحتاج إلى كثير من القيم لدينا، فهي متوفرة، ولكن المفارقة الوحيدة (والعجيبة) أنه يحتاج قيمةً واحدةً فقط هي قيمة “الإتقان”، وهذه يمكن توفيرها بالأنظمة تنظيرًا وتطبيقًا، ولو توفرت لدينا الأولى (مع أنَّ بها نقصًا) فإن الثانية تعمل بالمزاج.

الأيديولوجيا أحد عقبات التعليم:

ذكر د. عبد الله بن ناصر الحمود في مداخلته؛ ليس لديه شكٌّ أبدًا في أنَّ واحدة من عقبات تطوُّر العملية التعليمية في الدول النامية بشكل عام، هي الأيديولوجيا بمعناها الدقيق، وبسطوتها العامة.

ولذلك أطرح تساؤلًا مهمًا في كل محفل يتناقش فيه الناس حول تطوير مهنة التعليم، وهو: هل يُراد بالفعل تطوير التعليم، أم ترسيخ أجندة ما عبر ادعاء تطوير التعليم؟

وكثيرًا ما أكون الوحيد الذي أجيبُ على تساؤلي بأن غرض كثير من فعاليات سيرورة المجتمعات النامية ترسيخ أجندتها في التعليم، وليس بالفعل تطوير التعليم. ويقود إلى ذلك شواهد كثيرة، أبرزها، أن للتطوير (أي تطوير) اشتراطات خمسة: (إرادة التطوير،  إدارة التطوير، المال، الكوادر، الوقت).

وهنا، يقود استقراء تجارب الدول النامية في محاولات تطوير التعليم، إلى أن مجتمعاتها تخفق في واحد أو أكثر من تلك الاشتراطات الخمسة. فمثلًا؛ الدول النامية الفقيرة تعجز عن تكوين إرادة فاعلة للتطوير، وتعجز في إدارة عملية التطوير، وليس لديها المال الكافي، ولا الكوادر الكافية، وبالتالي فإن النتيجة (العجز عن تطوير التعليم) بالقدر الذي يجعل مخرجاته منافسة عالميًّا.

أما الدول النامية الغنية، فلديها الأدوات اللازمة لإدارة عملية التطوير بكوادرها المحلية أو بالمشاركة مع عالميين؛ لأن لديها المال الكافي، وكذا ضمان جودة عالية في إدارة التطوير بكوادرها أو بمشاركة عالميين، لكن العقبة الأبرز هنا هي إرادة التطوير. فحيث إن التطوير شيء مستقل ومحايد في ذاته، تُفسده في هذه المجتمعات ذاتية وحسابات المعنيين به، فهُم في كثير من الحالات لا يريدون تطويرًا بمعنى تطوير.

لكنهم يريدون ذاك الشيء الذي في أذهانهم، ويسمونه تطويرًا، ومن هنا يكون للإخفاق في تطوير التعليم متوالية مجتمعية عجيبة.

وهذه الخلاصة، هي ما تفسِّر لي بجلاء، كيف تخفق دولنا النامية كلها في امتلاك نظام تعليمي مكين؛ لأن الأيديولوجيا بكافة فضاءاتها السياسية والثقافية والاجتماعية والتدينية، تحول دون الإرادة الموضوعية للتطوير.

من جانبه أضاف د. راشد العبد الكريم أن هذه هي موجات إعجاب؛ حدثت لنا مع اليابان ثم ماليزيا ثم سنغافورة ثم فنلندا، وزيارات وتقارير، ومشروعات جراحية، ثم تتكشف الأمور عن كثير من المبالغات والتغافل عن السلبيات، ثم نطوي الملف، ونظلُّ في مكاننا في انتظار موجة أخرى. وتمضي دعاوى الإصلاح؛ انبهار فاقتباس يتلوه اقتباس، وغالبًا على مستوى التنظير أو التطبيق المحدود. آخر الصيحات- فيما اطلعتُ عليه – التي جاءت وذهبت سريعًا بولندا. ونستمر، مشروع يولد مشروعًا، يولد مشروعًا، والمدرسة كما هي، ولا عزاء للطلاب وأولياء أمورهم.

الفجوة بين التعليم في المملكة والدول المتقدمة:

أشار م. حسام بحيري إلى أن هناك فجوة هائلة بين التوجُّه التعليمي المعمول به في المملكة مقارنة بدول العالم الأخرى المتقدمة في تطبيق السياسات التعليمية الحديثة. نحن لازلنا نناقش مقررات المناهج، بينما الدول الأخرى تمارس سياسات تعليمية متقدمة، مثل: الفصول المدمجة التي تحتوي على الطلبة ذوي صعوبات أو معوقات التعلم، وذلك بتجهيز وتدريب الكادر التعليمي للتعامل معهم، والفصول المعكوسة التي تعكس بيئة التعليم وتستخدم التكنولوجيا الحديثة لزيادة مشاركة الطلاب وتحديث نتائجهم، وجَعْل التعليم مفتوحًا طوال ساعات اليوم وخارج الفصول، واستخدام تطبيقات التكنولوجيا الحديثة في شرح المناهج لجعلها متطابقةً مع عوامل الحياة الجديدة التي يتعامل معها الطالب والمدرس، واستخدام القياس القائم على المناهج لتقييم التدريب للتدخل لتحقيق فعالية البرامج، وتدريب المدرسين على اكتساب اختصاصات معينة يحتاجها الطلبة سواء في التعامل مع طلبة متفوقين أو طلبة لديهم صعوبات أو معوقات تعلُّم، وتكوين منهج دراسي يناسب قدرات الطلبة، وتعليم الأقران الذي يعتمد على طلبة متفوقين يشرحون الدرس لأصدقائهم الذين يعانون صعوبات في المادة، وكذلك برامج المشاركة الفعَّالة لأولياء أمور الطلبة للمشاركة الفعالة والتعامل مع المشاكل التي يواجهها الطلبة سواء أكان في المنزل أم المدرسة. بالإضافة إلى برامج تمكين المعلمين وتجهيز الكادر التعليمي للمدارس بعدد من الاختصاصيين المساندين للبرامج التعليمية، مثل: اختصاصيي علم نفس الأطفال أو الإعاقة، أو اختصاصيين بدنيين وموظفين محترفين مهمتهم مساندة المعلمين سواء خارج الفصل أو داخله، واختصاصيي إعاقات، سواء جسدية أو عقلية أو في النطق أو السمع.

النمط التقليدي في التعليم الذي يُمارس في مدارسنا عافه الزمان ولا يمكن أن يُعتمد عليه في معالجة مشاكلنا التعليمية وتقديم حلول للطلبة.

أضاف د. خالد الرديعان أن التعليم يقوم على خمسة عناصر في تقديري: (معلم – ومنهج – وطالب – ومدرسة – وبيئة اجتماعية). وبالتالي يلزم فحص هذه العناصر جيدًا من قِبل لجان تربوية متخصصة لمعرفة أين يكمن الخلل.

أزعم أن الأمر ليس بهذه الصعوبة التي يصورها البعض. الفحص المطلوب يستوجب الحياد الصارم والمهنية العالية في تحديد السلبيات والإيجابيات الخاصة بكل عنصر، وأثناء فحص كل عنصر يتم استعراض تجارب عالمية للمقارنة.

كذلك فإن كشف التداخل بين العناصر الخمسة ودرجة تأثير كل منها، وكمية التعويق الذي يحدثه، سيكشف لنا عن مكامن الخلل، ومن ثَمَّ الخروج بخلاصة مفيدة ربما يتم في ضوئها رسم استراتيجية تربوية.

وذهب د. مساعد المحيا إلى أن التطوير الحقيقي للتعليم يحتاج جوانب كثيرة، نحن لا نتحدث عنها؛ لأنها تتعلق بعناصر نحن لا نملك التأثير فيها ولا تغييرها. لذا لا زلتُ على قناعة بأن التغيير لدينا إن تمَّ سيكون شكليًّا ما لم نستوعب كلَّ المؤثرات المجتمعية الحقيقية ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بالعملية والكفاءة التعليمية.

التجارب التعليمية الخارجية والبعدان الثقافي والاجتماعي:

أشار أ. جمال ملائكة إلى أن التعليم موضوع مصيري، وعلى أساسه تتقدم الدول أو العكس، ولا شك أن الآراء المطروحة لتطوير التعليم هنا في الملتقى وخارجه مهمة جدًّا ومتنوعة، إلا أنه في رأيي علينا جميعًا المساهمة في تحديد الآلية التي بها نستطيع الوصول إلي خطة تنفيذية مُثلى لعمل نقلة نوعية في عملية التعليم. وشخصيًّا، أعتقد أن الاعتماد فقط على الخبراء المحليين لا يكفي لأسباب عديدة، منها:

-أهمية الاستفادة من خبراء عالميين لهم باعٌ متميز في تطوير التعليم.

– الاستفادة من تجارب الدول التي نجحت في تطوير التعليم (وتطويع التجارب بما يلائمنا).

وبالتالي أقترحُ تنظيم مؤتمر عالمي في المملكة تسبقه ورش عمل مكثفة، يشارك فيها الخبراء المحليون والعرب والمسلمون والعالميون، ثم نقوم بعد ذلك بتنظيم المؤتمر المُعدَّ له بدقة وفعالية للوصول إلى مقترحات تنفيذية، تقوم وزارة التعليم بعدها بصياغة هذه المقترحات ضمن خطة شاملة.

بينما يرى د. خالد الرديعان أنه ليس كل نظام تعليمي ملائم لنا؛ فالبعدان الثقافي والاجتماعي يجب أن يكونا حاضرين في أي عملية تحديث في نظام التعليم.

إشكاليات التعليم في المملكة:

يعتقد د. رياض نجم أننا إذا أردنا مناقشة إشكاليات التعليم في المملكة، فعلينا أن نناقشها بشفافية وصراحة، وأن لا نعتمد على قناعات مسبقة، ونقول إن لنا خصوصية ثقافية أو اجتماعية. ونحن نعلم أن كثيرًا من هذه الخصوصيات تمَّ تجاوزها بقرارات سيادية، واقتنع بها المجتمع في فترة وجيزة أقل مما كان متوقعًا. وباختصار، تتلخص إشكالات التعليم لدينا في التالي:

– التركيز على الكم قبل الكيف، والنظري قبل التطبيقي في المادة التعليمية.

– الكم الهائل من المواد الدينية التي تُلقن للطالب، ولا تفيده كثيرًا بل تنفره أحيانًا.

– قلة أو انعدام التركيز على تعليم الطالب في المراحل الأولية السلوكيات والأخلاقيات في التعامل مع قرنائه وأسرته ومجتمعه، والأسلوب الأمثل في قضاء وقته. هذا الجانب يميز نظام التعليم في الدول الإسكندنافية.

– البطء في تطوير المناهج والمدرسين بما يتماشى مع متطلبات الاقتصاد والمجتمع.

وإذا أسقطنا هذه الإشكالات على عناصر المنظومة التعليمية التي ذكرها د. خالد الرديعان (المعلم- المنهج- الطالب- المدرسة- البيئة الاجتماعية)، أصبح بالإمكان رفع كفاءة التعليم لدينا، ومواكبته لاحتياجات العصر.

بعض أسباب ضعف التعليم:

تتصور د. فوزية البكر أننا في نقاشنا للتعليم الذي يمسُّ حياة كلِّ مواطن نجد أننا جميعًا مهمومون بالسؤال الأساسي: لماذا في الأصل نُرسل أبناءنا للمدارس؟ والفرضية المنطقية تقول إننا نفعل ذلك كي يتعلموا ويعرفوا المهارات الأساسية للعلوم المختلفة في بيئة تعليمية جاذبة، توفِّر جوانب التعليم المختلفة، وتمنح المساحة لشخصيات الأبناء لتتشكل بحرية وإبداع يتناسب مع أعمارهم التي تركض نحو المستقبل.

لكننا في بلادنا لا ننظر للتعليم على أنه حالة تعلم ساحرة وجاذبة ومبدعة، نحن نراه ساحة تنشئة اجتماعية، وتلقين ثقافي يبرر كمّ التعليم التلقيني والتحفيظي الذي يُقدّم اليوم؛ لأننا لا نرى التعليم من منظور الدارس نفسه بشكل شخصي، ليحقق معرفة ونموًا متوازنًا، يفتح آفاقه وعقله، ويدرِّب ويطوِّر شخصيته.

نحن نرى التعليم ملكية رسمية للدولة والأقطاب التي تسيطر عليها في فترة زمنية ما، لكنها ليست ذاتية (لذات الطالب)، رغم أنه مكونها الأساسي وسبب وجودها في الأصل. لذا فوظيفة التعليم الأولى لدينا كما هي مقررة في سياسة التعليم، وكما هي موجودة في كتب تدريب المعلمين حين يُلقنون، ما هي وظيفة المدرسة الأساسية؟ إنها حفظ ونقل التراث الثقافي أولًا، ثم يأتي لاحقًا أية وظيفة أخرى، مثل التعلُّم، أو إتقان المهارات الرياضية والعلمية واللغوية. إنَّ توفر معلم جيد في أيٍّ من هذه المهارات، أو العناية بالمهارات والهوايات وتوفير التدريب الرياضي والفني والجمالي – إن وُجد- وهو نادر في معظم مؤسساتنا التعليمية العامة.

أضيف: إنني حين أتحدث عن تركيز مدارسنا على وظيفة نقل التراث الثقافي، فلا يعني هذا أنني ضدها، على الإطلاق؛ فلن نحمي هويتنا ونخلق الآراء الأخلاقية التي تسير المجتمع والأفراد إلا بالحفاظ على الأطر الدينية والثقافية، ونقل التاريخ، والتأكيد على تعلم اللغة العربية. لكن اعتراضي أن يتم هذا الأمر بالطريقة التلقينية المتوارثة في التاريخ الإسلامي حتى يومنا هذا.

ورغم أنَّ أبناءنا يدرسون مئات الحصص من المواد الدينية والعربية خلال سنوات دراستهم، لكنهم لا يستطيعون كتابة خطاب بسيط سليم باللغة العربية، موجَّه- مثلًا- لشركة لطلب مقابلة عمل، أو تقديم سيرة ذاتية.

ويعتقد أ.محمد الدندني أن لدينا ضعفًا في المدرسين، وهذا ملاحظ منذ الزج بالمدرسين السعوديين من حملة الكليات المتوسطة، والتي حُولت لكليات بعدها، ثم بدأت السعودة، ونظام الفصلين، وتغيرات في المناهج، وربما كلّ هذه الأمور أضعفت المعلم والتعليم. وأنا هنا أتكلم عن المرحلة الابتدائية.

من جانبه أكد د. محمد الملحم أنه لم يُضعِف التعليم إلا السعوديون مع الأسف، فبعد تعديل رواتب المعلمين في أواخر السبعينيات، ثم ظهور سُلّم التدريس في بداية الثمانينيات والإقبال الضخم على مهنة التدريس، وتزامَن معه أسلوب تقييم إدارات التعليم الأعوج لأداء المدارس من خلال نتائجها، حيث انتشرت ظاهرة (التنجيح)، وأسهم فيها البقية الباقية من المعلمين غير السعوديين المتبقين لهدف حفظ لقمة العيش. ولا يزال كثيرٌ منهم اليوم يمارس الممارسة ذاتها في المدرسة الأهلية عديمة القيم لأجل لقمة عيشه. مشكلتنا عندنا، ويجب أن نواجهها بشجاعة.

كما ذهبت د. عائشة الأحمدي إلى أنه لا يوجد خلاف في أن جودة التعليم تقترن طرديًّا بجودة المعلم، ولعلي أضيف إلى ما ذُكر أعلاه، أن استمرار الإعداد التكاملي في كليات التربية في المملكة رغم الاضطرار المعرفي في التخصصات كان أحد الأسباب التي أدت إلى ضعف مخرج هذه الكليات، فضلًا عن أن المدخل في الأساس نظر لجاذبية مهنة التدريس بعد رفع رواتب المعلمين، وعدم مجاراة معايير القبول للمرجعيات العالمية، واعتماد معيار المعدل معيارًا حاسمًا في التعيين؛ كل هذه العوامل أسهمت في ضعف مخرج هذه الكليات، وهو السبب الأول في ضعف نتائج الطلبة في الاختبارات الدولية.

مبادرة المدرسة الافتراضية:

كذلك أورد د. علي الحارثي أحد الفيديوهات التي تتحدث عن مبادرة المدرسة الافتراضية والفصول الذكية. يذكر الفيديو أنه إيمانًا من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة لتسريع التحوُّل الرقمي للمملكة العربية السعودية خصوصًا في مجال التعليم، ففي خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، تم توقيع اتفاقية أو مذكرة تفاهم مع شركة سيسكو لتطبيق تجربة المدرسة الافتراضية والفصول الذكية في المملكة. من جانبه أشار د. محمد الملحم أن هذا بالضبط ما دعوتُ له لحل مشكلة مدارس الهجر النائية، وكنتُ أتمنى أن التقرير ذكر عدد الهجر التي سيخدمها المشروع، أو بالأحرى التي رُكبت فيها تجهيزاته. أضاف د. خالد بن دهيش أن هذا البرنامج هو إحدى نتائج شركة تطوير لتقنيات التعليم.

وحول ذلك تساءل د. علي الحارثي: عمَّ إذا كان هذا البرنامج قد بُني على برنامج مماثل له يكون قد حقق نتائج إيجابية حتى تكون التجربة قيمة؟ أجاب د. خالد بن دهيش بأنه ليس لديه علم بالتفاصيل، ولكن هذا النوع من التعليم موجود في دول عديدة منذ سنوات، وقد سبق لي الاطلاع على برنامج موجود في أستراليا، وهذا البرنامج أخذ بالطبع بالتطورات المستجدة في مجال التعليم الرقمي. كما أن الجامعة السعودية الإلكترونية لديها تطبيقات متقدمة وناجحة في هذا المجال.

أضافت د. فوزية البكر: أودُّ أن أشير هنا إلى أن حل المدرسة الافتراضية موجود في كثير من مدارس العالم المتميزة، حيث تُستخدم للتغلب على ظروف الطقس التي قد لا تمكّن الطلاب من الوصول للمدرسة، مثل: الثلج، أو الغبار،… إلخ.  لكنها لا تكون حلًّا دائمًا للتعليم كمدرسة قائمة؛ إنما هي حلٌّ مؤقت لظرف معين، فليس هناك غنى عن المدارس العادية.

كما أشير إلى أن هناك حملة قوية في فرنسا لمقاومة استيلاء الكتاب الرقمي على الحياة المدرسية، والمناداة بالعودة إلى تعويد الطلاب على علاقة حميمة مع الورق.

وأكد د. محمد الملحم أن هناك توجُّهًا موجودًا في الغرب وفي أمريكا (بشكل كبير) هو التدريس المنزلي home schooling، حيث لا ترغب الأسرة لأبنائها الاختلاط بغيرهم واكتساب عادات سيئة، أو لأية أسباب اجتماعية أو إثنية أخرى. وهذا يعني أن المدرسة أحيانًا تكون معيقة للتربية التي يطمح لها الوالدان، ولا غرابة في ظهور هذه المفارقة paradox نتيجة للانفجار المدرسي عبر الدول والمجتمعات.

وحل التدريس عن بُعد هو خاصٌّ لمدارس الهجر، التي عادة يصعب حدوث تغيير حضاري في أبنائها من خلال المدرسة، لكنما الفاقد المعرفي في مدرسة الهجرة كبير جدًّا مقارنة بتلك التي في المدينة؛ لأسباب متعددة خاصة بها، ويمثل تسخير التقنية لتوفير أفضل الخبرات وأفضل الممارسات لمدرسة الهجرة ردمًا مثاليًّا لهذه الفجوة.

ويعتقد د. مسفر الموسى أنه إذا كانت مدارسنا تعتمد على المحاضرات النظرية دون معامل ومختبرات ومسرح وصالات رياضية، فالتعليم التفاعلي عن بعد أفضل، على الأقل قد تزداد فرصة الطالب في تلقي الدرس من معلمي الصفوة الذين تمَّ انتقاؤهم لهذه المهمة، كما تقلُّ معاناة المواصلات والسائقين، وتباين المواعيد، وتخفيف الزحمة في المدينة.

 

التوصيات:

– تحديث المنظومة التعليمية، وتدريب وتأهيل الكادر التعليمي للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة، والعمل على التأسيس العلمي القوي في المجالات المرتبطة بالتقنية وتخصصاتها؛ كونها ذات علاقة بتخصصات المستقبل.

– إعادة هيكلة بعض الكليات والاستغناء عن التخصصات التي لم يعد يحتاجها المجتمع، وإدخال تخصصات جديدة غير موجودة، وتمكين الجنسين منها بما يتوافق والمرحلة القادمة.

– دمج بعض الأقسام المتشابهة في الجامعة الواحدة في قسم واحد كبير؛ توفيرًا للجهد والمال، وتنشيطًا للدراسات البينية التي ثبت فائدتها على المستوى الفكري والمعرفي، والخروج من نطاق التخصص الضيق في العلوم الإنسانية.

– تغيير هوية كليات العلوم الإنسانية التي تتشابه في مناهجها الدراسية، وتتداخل في أهدافها العلمية، بحيث تُسمَّى بكلية نظم العلوم الإنسانية؛ مما يسهِّل هيكلة هذه الأقسام وتطوير المحتوى العلمي إلى رقمي.

– الاهتمام بالعلوم الإنسانية في جامعاتنا وتطويرها بما يتلاءم وروح العصر؛ كونها مصدرًا للقوة المدنية والتفاهم الثقافي والمُثل التي نتشاركها جميعًا، على أن تكون أعداد المقبولين وفقًا للحاجة، ولمَن تنطبق عليهم شروط محددة؛ كالميل نحو التخصص، والثقافة العامة، وإجادة لغة أجنبية.

– إدخال رؤية المملكة 2030 كمقرر دراسي في السنة التحضيرية للجامعات، وتنظيم زيارات لطلابها لمدينة نيوم وللشركات الكبرى والمتخصصة، مثل: أرامكو، وسابك، والاتصالات، وغيرها؛ للاطلاع على فرص المستقبل، وتحديد مسارهم العلمي والمهني.

– توجية طلبة المدارس والجامعات والمتخصصين في مجالات العلوم الإنسانية والأدبية الباحثين عن عمل لمهن صناعة المحتوى الرقمي وتأهيلهم؛ كونها من المهن التي لا تتطلب تأهيلًا أكاديميًّا متخصصًا.

 – إعداد دليل إرشادي للدراسة الجامعية، يبدأ من السنة التحضيرية أو الأولى؛ من حيث اختيار التخصص، والإعداد للمسار المهني والوظيفي المتاح، وتفعيل دور الإرشاد الطلابي لتوجيه الطالب لاختيار التخصصات.

– أن يكون طرح تخصصات المستقبل في الجامعات أو الكليات بالتدرُّج من خلال مسارات ضمن الخطط الدراسية، ومن ثَمَّ تُفصَّل كتخصصات مستقلة فيما بعد وفقًا لحاجة سوق العمل، وزيادة الطلب.

​- تصميم خطط الكليات أو الأقسام ذات العلاقة بتخصصات المستقبل بطريقة مرنة، تتسم بسرعة إنهاء إجراءات التعديل والتطوُّر على الخطط، للاستجابة السريعة مع المستجدات ومتطلبات سوق العمل، مستفيدة من أفضل التجارب العالية.

– أن تهتم الجامعات بالتخصصات المتعلقة بالطاقة المتجددة وتقنيات المياه وما في حكمها، سواء بتضمينها في برامجها وأقسامها، أو ابتعاث المهتمين بدراستها إلى الخارج.

– استحداث أقسام جديدة في الجامعات تجمع بين أكثر من تخصص أدبي وعلمي وطبي وبيئي، والاهتمام بالجانب العملي والمهني لجميع التخصصات عن طريق دمج أكثر من تخصص في تدريب عملي واحد multidisciplinary  training، يرتكز على محاولة إيجاد حلول مبتكرة للمشاكل الحالية.

– التسريع في إصدار النظام الجديد للجامعات واستقلاليتها، وتطبيقه، وأن تكون الاستقلالية لكل الجامعات دون استثناء، وربط الإعانة الحكومية للجامعة بتخريج طلاب يحتاجهم سوق العمل في المستقبل، سواء في التخصصات العلمية أو الإنسانية.

– مشاركة مديري شركات القطاع الخاص في بناء الخطط الدراسية للأقسام، خاصة المقررات التطبيقية أو المرتبطة بالمهن النوعية كخطوط الإنتاج وغيرها؛ لمواءمة مخرجات الأقسام مع متطلبات سوق العمل.

– توفير إحصاءات دقيقة عن عدد العاملين ونسبة التوطين في مختلف المهن والتخصصات لتكوين صورة متكاملة عن سوق العمل، لبناء نموذج اقتصادي يقوم بمعايرة الاقتصاد مع فرص العمل القائمة، بحيث يستطيع تقديرها للسنوات القادمة بناءً على توقعات النمو في القطاعات المختلفة.

– فصل وزارة العمل عن التنمية الاجتماعية؛ لتتمكن وزارة العمل من التركيز على وظائف المستقبل، وربط مخرجات التعليم بسوق العمل المتجدد.

– استحداث إدارة في وزارة العمل من مهامها إنشاء (job indexing) فهرس للوظائف التي يحتاجها السوق، والتعرف على متطلباته، ونوعية الخريجين وقياس مستوى ما تحصلوا عليه من معارف، وتوفير قاعدة بيانات متجددة وتزويد القطاعات المختلفة بشكل دوري بهذه البيانات.

– العمل على أن نكون شركاء في إنتاج التقنية وفهمها بدلًا من استيرادها معلبة، ونتحول إلى مستخدمين فقط، فوظائف المستقبل تكون عن كيفية تشغيل الآلة واستخدامها.

– مع اتساع ظاهرة التقاطع مع علم الاجتماع، أصبح لزامًا على كليات وأقسام الإعلام إعادة النظر في مناهجها، وأن تُعنى بتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، كما تهتم بنمط الإعلام التقليدي، فالشبكات الاجتماعية التي كانت حكرًا على علم الاجتماع أصبح الإعلام يزاحمها في داخلها الآن.

– دمج المهارات الحياتية كمنهج أساسي في جميع التخصصات والمراحل التعليمية؛ لتمكين الخريجين من مهارات القيادة والتخطيط والتفكير الاستراتيجي وإدارة الوقت والتواصل الفعّال وحل المشكلات، وهي مهارات أساسية للنجاح في سوق العمل الحاضر والمستقبلي.

– الاهتمام بالقيادات الإدارية للجامعات بما يتواكب وطموح المرحلة القادمة، بحيث تكون قادرة على ترجمة الرؤية إلى واقع عملي من خلال التخصصات الجامعية والكوادر التعليمية المؤهلة.

– تكوين فريق دائم اسمه (منظرو المستقبل) من تخصصات وخبرات وطنية متنوعة، يقدِّم الأفكار والرؤى ذات العلاقة بالمستقبل واستشرافه، يرتبط بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.

– وضع خطة أو استراتيجية وطنية لاستشراف المستقبل مع دعم وتشجيع الدراسات المتعلقة به.

– عقد مؤتمر عن “وظائف أو تخصصات المستقبل ” تتبناه وزارة العمل أو إحدى الجهات ذات العلاقة بالاهتمام، كالجامعات.

– إنشاء جامعات وكليات رقمية مستقلة وأخرى تابعة لكل جامعة بمسارات مختلفة حسب متطلبات سوق العمل.

– إنشاء تخصصات رقمية في كل كلية، مثل: الفن الرقمي في كلية الفنون، والإعلام الرقمي في كلية الإعلام، والدعوة الرقمية في كلية الدعوة.

– تعديل أنظمة الخدمة المدنية والملكية الفكرية، بحيث يُسمح للمخترع والمبتكر بتملك حصص في الشركات المؤسسة بناء على ابتكاره.

الملخص التنفيذي:

القضية: (تخصصات المستقبل).

إن تخصصات المستقبل تعني قراءتنا له كيف سيكون؟ ومدى إدراكنا لإمكانات الحاضر، وكيف يتم استثمارها كقاعدة ننطلق من خلالها للمستقبل؟ وهل نحن مؤهلون لذلك؟

كما تعني تخصصات المستقبل بالنسبة لنا البدء من الآن في تحويل رؤية 2030 من نظرية إلى واقع. فهي إذًا قضية وطن ومستقبل وطن، ويمكن اعتبارها في الواقع امتدادًا لقضية (نيوم.. وجهة المستقبل)، ومن هنا تكتسب أهميتها.

أوضحت الورقة الرئيسة أن الفجوة بين متطلبات سوق العمل والتعليم بدأت تضيق بعض الشيء من خلال برامج المهنة كبرنامج “وظيفتك بعثتك”، مشيرة إلى أنه في السابق كانت لا توجد خريطة مستقبل أمام خريج الثانوية العامة؛ لذلك يتوجه لأي تخصص دون رؤية واضحة، لكن الأمر الآن أصبح مختلفًا في ظل رؤية المملكة 2030، فهناك خطط مستقبلية واضحة، وهناك متطلبات محتملة لسوق العمل، معتبرة أنه من الخطأ أن نجد بعض الطلاب ليس لديهم اطلاع على رؤية 2030، وخطط القطاعات الحكومية والخاصة ووظائفها المستقبلية.

وأكدت الورقة أنَّ التكنولوجيا الحديثة تحمل تأثيرًا ضخمًا على الصورة العامة لمهن المستقبل، بدءًا من الأعمال التي تُركِّز على مبدأ الاستدامة وانتهاءً بالمهن التي تُدير التقنيات المستقبلية. كما توقعت أنه مع رؤية 2030 ستكون هناك تخصصات مهمة تفتح المجال لوظائف مستقبلية محتملة؛ كالقانون المتخصص، والأمن السيبراني، والمحاسبة، والتأمين، والطاقة البديلة، والذكاء الاصطناعي، والتجارة الإلكترونية، وإدارة أعمال التجارة الإلكترونية، وغيرها من التخصصات.

وذهبت التعقيبات إلى أننا مقبلون على تخصصات جديدة في السنوات القادمة ستغزو سوق العمل، تعتمد على البرمجة؛ كالذكاء الصناعي والروبوت، وعلينا مواكبة هذا الجديد والسير في ركبه، وفي الوقت ذاته علينا ألا ننسى أن هناك تخصصات تقليدية ما زال السوق بحاجة لها؛ لذا يهمنا كيفية بناء تخصصات المستقبل في مؤسساتنا التعليمية، على أن تُطرح وفق حاجة سوق العمل المستقبلية الفعلية المبنية على بيانات ومعلومات صحيحة.

كما أكدت التعقيبات إلى أننا بحاجة إلى أن نصل إلى أبعد ما يمكن الوصول إليه في تطبيق برامج معرفية وتعليمية ومهنية تُحقِّق هذه التخصصات المتطورة، والأهم من ذلك التي تتصل بشكل وثيق باحتياجنا الوطني في كافة المجالات، فمثلًا، لم يعد غريبًا أن نسمع مثل هذه التخصصات المستقبلية: محسّن حركة مرور طيار بدون طيار، أو عالم نفسي روبوت، أو رجل مرور فضائي، أو معلم افتراضي.

وأشارت المداخلات التي جرت على هذه الورقة إلى أنه لا بد من إيجاد معادلة للتوازن بين تطوير التخصصات التقنية والتخصصات الإنسانية، وأن تتوجه التخصصات الإنسانية نحو تطوير مهارات الإنسان في التعامل مع ظروف العصر، ومهارات التفكير والتخطيط وتحمُّل المسؤولية والمبادرة، وتطوير منهجية البحث العلمي وأدواته في هذه العلوم، لتشخّص واقع الإنسان وتدعمه فكريًّا ووجدانيًّا واجتماعيًّا.

وأشار المناقشون إلى أنَّ هناك فجوة بين التعليم وسوق العمل، وأنها لن تتقلص باجتماع أو ببرنامج واحد، فهي عملية مستمرة تشاركية بين الطرفين، وتحتاج إلى تحديث مستمر. بالإضافة إلى أن الوظائف المستقبلية في معظمها تتركز حول التقنية وما يساندها من تخصصات تقليدية كمسمَّى، ولكن عمليًّا اختلفت باختلاف متطلبات العصر، وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية في تحديث المناهج، واستحداث التخصصات المطلوبة في سوق العمل.

وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: ضرورة تحديث المنظومة التعليمية، وتدريب وتأهيل الكادر التعليمي للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة، والعمل على التأسيس العلمي القوي في المجالات المرتبطة بالتقنية. إعادة هيكلة بعض الكليات ودمج بعض التخصصات في قسم واحد، والاستغناء عن  التخصصات التي لم يعد يحتاجها المجتمع، وإدخال تخصصات جديدة غير موجودة. الاهتمام بالعلوم الإنسانية في جامعاتنا وتطويرها بما يتلاءم وروح العصر؛ كونها مصدرًا للقوة المدنية والتفاهم الثقافي. إدخال رؤية المملكة 2030 كمقرر دراسي في السنة التحضيرية للجامعات، وتنظيم زيارات لطلابها لمدينة نيوم وللشركات الكبرى والمتخصصة، مثل: أرامكو، وسابك، والاتصالات، وغيرها؛ للاطلاع على فرص المستقبل، وتحديد مسارهم العلمي والمهني. أن يكون طرح تخصصات المستقبل في الجامعات أو الكليات بالتدرُّج من خلال مسارات ضمن الخطط الدراسية، ومن ثَمَّ تُفصَّل كتخصصات مستقلة فيما بعد وفقًا لحاجة سوق العمل وزيادة الطلب. التسريع في إصدار النظام الجديد للجامعات واستقلاليتها، وتطبيقه. توفير إحصاءات دقيقة عن عدد العاملين ونسبة التوطين في مختلف المهن والتخصصات لتكوين صورة متكاملة عن سوق العمل، لبناء نموذج اقتصادي يقوم بمعايرة الاقتصاد مع فرص العمل القائمة. إنشاء جامعات وكليات رقمية مستقلة وأخرى تابعة لكل جامعة بمسارات مختلفة حسب متطلبات سوق العمل. 

 

 

 

 

 

القضية الثالثة

الورقة الرئيسة: الجدوى الاقتصادية لصناديق الاستثمار الوقفية

 

مقدمة

تعمل الهيئة العامة للأوقاف من خلال استراتيجيتها على تمكين القطاع الوقفي وتفعيل دوره في المجتمع، وتعزيز الشراكات مع مختلف الجهات ذات العلاقة لإيجاد محفزات للقطاع، ومعالجة العوائق التي تواجهه، وتسهيل إجراءاته بما يؤدي إلى تمكينه. وتتطلع الهيئة لأن تكون الداعم الرئيس للنهوض بقطاع الأوقاف في المملكة العربية السعودية، وتعزيز دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفقًا لمقاصد الشريعة الإسلامية والأنظمة ورؤية المملكة 2030.

وبناءً على ذلك أطلقت الهيئة العامة للأوقاف أولى مبادراتها التنموية المتمثّلة في مشروع الصناديق الاستثمارية الوقفية، تهدف هذه الصناديق إلى الإسهام في تلبية الحاجات المجتمعية والتنموية، ورفع مساهمة القطاع غير الربحي في الناتج المحلي، وزيادة معدلات الشفافية في الأنشطة غير الربحية بناءً على التزام الصناديق بالمتطلبات الواردة في لوائح صناديق الاستثمار الصادرة من هيئة السوق المالية.

لذا تُعدُّ قضية (الجدوى الاقتصادية لصناديق الاستثمار الوقفية) من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدَّمها ضيف الملتقى د. سليمان الطفيل، وتمَّ التعقيب على موضوع الورقة، وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (أهمية تنظيم العمل الوقفي وفهم إجراءاته، حجم الأوقاف الخيرية وكيفية رفع العائد بها، الوقف والإشكاليات الشرعية، تفعيل الدور التنموي للأوقاف، الجمعيات الخيرية ومدى الاستفادة من مبادرة إطلاق صناديق الاستثمار الوقفية، بعض أسباب معاناة ومشاكل الأوقاف، إمكانية جعل الأوقاف مؤسسات مستدامة لخدمة الاحتياجات العلمية والاجتماعية، إسهامات الوقف في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، الجامعات السعودية والأوقاف، أهمية الوقف في القطاع الصحي، دور الصناديق الوقفية في تمويل وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة، الصناديق الوقفية والصناديق الاستثمارية الوقفية، الوقف والاستثمار عالي المخاطر، أسباب إنشاء الصناديق الوقفية وتغييرات تنظيمية مطلوبة). وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديد من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نصُّ الورقة التي كتبها الدكتور/ سليمان الطفيل، وعقّب عليها الدكتور/ حميد الشايجي، والدكتور/ مشاري النعيم، والدكتورة/ عبير برهمين.

كتب د. سليمان الطفيل: لم تعد الأوقاف اليوم في ظلِّ التطورات السريعة في الأنظمة والقوانين والبرامج في منأى عن تلك الأحداث والتطلعات والطموحات على مستوى الحكومات أو على مستوى القطاعات والأفراد، وهي التي واجهت عبر تاريخها الطويل منذ بدايتها إلى اليوم العديد من مراحل التوسُّع أو الانكماش بسبب ما يطرأ على الحكومات والدول من تغيرات، تؤثر بدرجة كبيرة على نهضة الأوقاف وتطوُّرها.

والأوقاف هي صورة من أعظم ابتكارات المالية الإسلامية التي تقدِّم حلولًا مستدامة إلى جانب تعظيم الاستفادة منها مع بقاء أصلها، فمنذ فجر الإسلام والأوقاف تشكِّل مصدرًا ورافدًا ماليًّا للمجتمعات والحكومات الإسلامية في شتى مجالات التنمية الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والتعليمية، والصحية،…إلخ من مجالات التنمية، إلا أنها لم تأخذ حظها وموقعها المناسب في أغلب الدول والإسلامية اليوم، فضلًا عن ضعف تواجدها في بقية دول العالم لخدمة الأقليات الإسلامية فيها.

ولقد هُيِّئ لها- ولله الحمد في وطننا (المملكة العربية السعودية)- قيادة وحكومة رشيدة، أعادت للأوقاف نهضتها، وأخذت لها كل مسعى في تطوير أدوات تنميتها وبناء أنظمتها وحوكمة إدارتها، متدرجة في ذلك على مراحل تاريخية منتظمة، حينما أُطلق أول نظام للأوقاف عام 1390هجرية، وذلك بعد أن نظّم لها في المحاكم أحكامها، وأسست طرق إثباتها.

وحينما نُلقي نظرة سريعة على حجم الأوقاف وسعة مساحاتها وتعدُّد مجالاتها التنموية في المملكة العربية السعودية منذ توحيدها إلى اليوم، والتي قُدرت قيمة ما تمَّ رصده منها 350 مليار ريال، فإنه يعدم أن تجد مدينة أو قرية أو هجرة داخل المملكة إلا وقد أُسِّس فيها وقفٌ، وقد شملت هذه الأوقاف أصنافًا عديدة لا يتسع المقام لذكرها من مختلف مجالات الحياة الدينية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، في المجتمع السعودي، وكانت الأوقاف قديمًا من أهم روافد التنمية في بداية المجتمع السعودي، ومن أشهر ما بزغ منها بناء المساجد والجوامع، ومساكن الحجاج والمعتمرين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والوقف على حاجة المسافرين، والكتاتيب.

ومع ما تزخر به المملكة العربية السعودية اليوم من قطاع وقفي ضخم يُفترض أن يشكِّل عنصرًا ومكونًا أساسيًا من مكونات الاقتصاد؛ إلا أنه – ولأسباب عديدة- لم يواكب تطوُّر الأوقاف التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي لحق بالمملكة خاصة في عقودها الثلاثة الأخيرة، وظلَّ دوره ضعيفًا لسنوات عدة مقارنة ببقية القطاعات الاقتصادية المنتجة الأخرى؛ كالقطاع الصناعي، والزراعي، والقطاعات الخدمية، فضلًا عن قطاع النفط والغاز، وربما كانت هناك الكثير من العقبات التي كانت تحول دون ذلك بسبب عدم تطور أنظمة الأوقاف بنفس تطور الأنظمة الأخرى، إضافة إلى عدم وعي المجتمع بثقافة الوقف وأهميته في بناء حضارته وثقافته، والخلط الكبير لدى الأغلبية بين الوصايا والأوقاف وَلَّد شعورًا بعدم ضرورة الوقف المنجز أثناء الحياة ولو بمبلغ زهيد يمكن جعله صدقة جارية (وقفًا) ينتفع منه كثير من الناس والمجتمع.

ولهذا جاءت الحكمة التاريخية من القيادة الرشيدة بإطلاق رؤية المملكة 2030 التي ألزمت جميع الجهات والقطاعات ببرامج ومبادرات ومشاريع وأهداف طموحة، كان للقطاع الوقفي نصيبٌ منها، من خلال تفعيل دور القطاع غير الربحي كأحد القطاعات الأساسية في برامج ومبادرات وأهداف الرؤية، ليكون شريكًا أساسيًا ومكملًا إلى جانب القطاعين العام والخاص لتحقيق رؤية المملكة 2030، وعلى هذا الأساس أيضًا تمَّ إنشاء “الهيئة العامة للأوقاف ” بالمرسوم الملكي رقم: (م/11) وتاريخ 26/02/1437 هجرية؛ التي جعلت أولى مبادراتها إطلاق “صناديق الاستثمار الوقفية”، وهي مبادرة تسعى لتحقيق مجموعة أهداف استراتيجية تنموية وآمنة في آن واحد لتحقيق تطلعات الواقفين والمنتفعين من الأوقاف، وتُسهّل على الجهات الإشرافية والمنظمة عملية الرقابة والمتابعة والتطوير، فضلًا عن أهمية هذه الصناديق في تحقيق مبدأ الاستدامة المالية مع المحافظة على الأصل ومخاطر أقل في الاستثمار.

وتأتي أهمية صناديق الاستثمار الوقفية باعتبارها الوعاء الذي يمكن للواقفين أيًّا كان حجم أموالهم أو عددهم أن يكتتبوا فيها بوحداتهم الوقفية للأهداف التي يرغبون فيها أو يساهمون في دعمها والوقف عليها بجزء يسير من أموالهم، صدقة وبرًّا لهم عند الله تعالى إلى يوم القيامة.

ومن أهداف صناديق الاستثمار الوقفية:

1- المحافظة على الأصل الموقوف.

2- تنمية الأصل وإعادة استثمار ريعه.

3- تلبية احتياجات المنتفعين.

4- تنويع وتوزيع مخاطر الاستثمار.

5- تحقيق الوقف لمفهوم الاستدامة المالية.

وقد حصرت اللائحة التنظيمية المقترحة لتأسيس الصناديق الاستثمارية الوقفية مجال عمل الصناديق الاستثمارية الوقفية على الكيانات غير الربحية، مثل: الجمعيات الأهلية، المؤسسات الأهلية، الكيانات الوقفية، أو أي كيان غير ربحي بهدف استثمار أصوله بشكل احترافي ومستديم، وهذه فرصة استثمارية كبيرة للقطاع غير الربحي، لتعظيم دوره في المجتمع والتنمية، وللرفع من مستوى إنتاجيته الاقتصادية، ودعم الكيانات أو القطاعات المندرجة تحته.

ولهذا أرى أن تعمل الكيانات غير الربحية وبخاصة الجمعيات الخيرية للاستفادة من هذه الفرصة في بدايتها؛ بسبب سعة فجوة الطلب المحلي الكبيرة للدخول إلى هذه السوق الجديدة من المنتجات الاستثمارية، وأهم الخطوات اللازمة لذلك للحصول على الموافقة بتأسيس الصندوق ما يلي:

1- دراسة إمكانية الكيان نفسه ومدى استعداده لفتح الصندوق من النواحي الإدارية والتنظيمية والمالية، يعني باختصار تطبيق لائحة حوكمة الجمعيات والمؤسسات  الأهلية (الخيرية).

2- دراسة مدى الحاجة إلى تأسيس الصندوق من عدمه، فالقرار بعدم الحاجة يمثل قرارًا اقتصاديًّا ناجحًا.

3- تعيين لجنة استشارية تضمُّ مجموعة مستشارين من ذوي الخبرة في عدة مجالات: (قانونية، فقهية، مالية، اقتصادية، تسويقية، أعمال خيرية).

4- تعيين مدير للاستثمار (شركة مالية مرخصة لإدارة الأصول)، وأن تكون ذات خبرة وإدارة جيدة وسمعة عالية.

5- إعداد دراسة تأسيس صندوق الاستثمار الوقفي حسب شروط الواقف.

6- التقدم إلى الهيئة العامة للأوقاف للحصول على الترخيص المبدئي بفتح الصندوق.

7- التقدم إلى الهيئة العامة لسوق المال للحصول على الترخيص النهائي لفتح الصندوق.

8- تأسيس وإطلاق الصندوق حسب الأحكام والشروط المنظمة له.

ويمكن تلخيص أهم ملامح الجدوى الاقتصادية لصناديق الاستثمار الوقفية في النقاط التالية:

1. توسيع مشاركة قطاع الأوقاف في مجالات اقتصادية واجتماعية عديدة، تندرج تحت مفهوم الشراكة أو المسؤولية المجتمعية كأحد الأهداف الاستراتيجية لرؤية المملكة 2030.

2. تحقيق تطلعات الواقفين على مختلف مستوياتهم وإمكانياتهم، وفتح المجال لصغار الواقفين للمشاركة والمساهمة في المشروعات التنموية التي تستهدف الأعمال الخيرية.

3. رفع مستوى إنتاجية القطاع الوقفي ضمن القطاع غير الربحي للاقتصاد في الناتج القومي والدخل؛ وذلك من خلال تعزيز الإنفاق الاستثماري الخاص، وكذلك الإنفاق الاستهلاكي الخاص، إلى جانب تشجيع عنصر الادخار الأساسي لتحقيق التوازن في معادلة الدخل، وذلك من خلال مشاركة صناديق الاستثمار الوقفية في احتجاز ما نسبته 25% من إجمالي الأصول الموقوفة للصندوق، وعدم تعريضها لأي مخاطر تحقّق على المدى الطويل الربحية في قيمة الأصل نفسه.

4. تنوُّع مجالات الاستثمار الوقفي في الصناديق الاستثمارية المتعددة الأغراض، ويُتوقع أن تنعكس هذه الاستثمارات في المستقبل على تحقيق التوازن الاقتصادي ما بين القطاعات الاقتصادية المنتجة إذا ما أُخذ في الاعتبار دراسة احتياجات كل قطاع على حدة.

5. تعزيز الدورين الاقتصادي والاجتماعي للجمعيات الأهلية والمؤسسات الخيرية والكيانات الوقفية التي تفتقد العديد من المقومات الأساسية لاستثمار فوائضها المالية وأصولها العقارية واستثماراتها الخاصة، ومن أبرزها: الإدارة الاحترافية، والخبرة العملية، والهندسة المالية، والتقديرات المستقبلية للاحتياجات والسوق.

6. استهداف الحد الأدنى (عشرة ملايين ريال فقط) لصندوق الاستثمارات الوقفية دليل على فتح أكبر مجال لتوسيع مشاركة كافة الجهات المستفيدة منه؛ كالجمعيات الأهلية، والمؤسسات الخيرية، والكيانات الوقفية التي تتجاوز أعدادها المئات، وهذا يشكِّل تعظيماً للاستثمارات لاغتنام الفرص التي أتاحتها رؤية المملكة 2030 لتأسيس اقتصاد وطني حقيقي بجميع مكوناته.

ولن أسرد بقية المكاسب الاقتصادية المتوقعة من جدوى الاستثمار في صناديق الاستثمار الوقفية لضيق المساحة، لكني سأختم ببعض التوصيات المهمة:

1) أن تقوم الهيئة العامة للأوقاف بتشجيع ونشر فكرة هذه الصناديق، وتسهيل متطلبات تأسيسها عبر بوابتها الإلكترونية، بالإضافة إلى دعوة المختصين عبر اللجان والمراكز الوقفية للتعريف بهذه الصناديق، وانعكاساتها الإيجابية على الواقفين والمنتفعين من الأوقاف.

2) أن تبادر الإدارات العليا في الكيانات غير الربحية لتأسيس صناديق استثمار وقفية؛ لدعم مشاريعها، وتغطية المصاريف التشغيلية السنوية، مع التوسيع في مجالات عمل الخير والبر.

3) عقد دورات تدريبية وتثقيفية لمسؤولي القطاع غير الربحي والمتطلعين للأوقاف لتأسيس صناديق الاستثمار الوقفية، من خلال المعاهد والمراكز التدريبية، والمراكز الوقفية المتخصصة.

4) أهمية عقد تحالفات بين الكيانات غير الربحية المتماثلة في النشاط والأهداف؛ لتقليل التكلفة، وتوفير فرص أكبر للعمل، مع الأخذ في الاعتبار الكيانات المتواجدة معًا داخل مناطق أو محافظات واحدة، حتى يسهل الربط فيما بين العمل، ويقوي من مراكزها التفاوضية والتنافسية.

عقب د. حميد الشايجي: إن القضية التي طرحها الدكتور سليمان الطفيل في ورقته حول الصناديق الوقفية وأهميتها الاستثمارية، وما حملته الورقة في ثناياها من معلومات ثرية مفيدة عن موضوع حيوي ومهم للمجتمع وكياناته المختلفة، خصوصًا القطاع الخيري أو ما يُسمَّى القطاع الثالث، ورفده ماديًّا ليقوم بدوره التنموي الاجتماعي. فالقطاع الثالث اليوم أصبح يلعب دورًا مهمًا في تنمية المجتمع؛ نظرًا لمرونته وتنوُّع مجالاته، وبعده عن البيروقراطية، وقدرته على استيعاب المتطوعين وتنظيمهم.

ولذلك تُعول عليه الدول القيام بهذه المهمة وتدعمه وتسنُّ الأنظمة والقوانين والتشريعات المساعدة على بقائه واستمراره واستدامته، ومن ذلك ما يتعلق بالاستدامة المالية؛ كدعم الميزانيات، وتحويل بعض عائدات الضرائب، وإنشاء الصناديق الوقفية. فالقطاع الثالث قطاع غير ربحي ولا يسعى للكسب المادي فيما ينفذه من أعمال؛ مما يعني أنه يحتاج بشكل دائم للدعم والتمويل لسد احتياجاته المالية، سواء ما يتعلق بالميزانيات التشغيلية أو ميزانيات البرامج والأنشطة والمبادرات. وعادة يميل بعض المحسنين والمتبرعين إلى دعم الأنشطة والبرامج أكثر من ميله إلى دعم الميزانيات التشغيلية، التي هي عصب العمل الخيري لبقائه واستمراره، والتي تتضمن الإيجارات ورواتب الموظفين والفواتير والمصاريف المختلفة، بل حتى في دعم البرامج والأنشطة يركِّز بعض المحسنين على نوعية معينة منها دون غيرها، حيث يركّز المتبرع على تلك البرامج والأنشطة التي تتعلق بالمساعدة المباشرة للمحتاج لسد رمقه وحاجته، كالأيتام والأرامل والمطلقات أو بناء مسجد، ويحجم عن دعم البرامج والأنشطة غير المباشرة، كالبرامج التوعوية والتربوية والتدريبية والتأهيلية؛ مما يؤدي إلى إضعاف هذه البرامج النوعية وتوقُّفها؛ مما ينعكس سلبًا على أداء الجمعيات الخيرية النوعية المتخصصة، بل قد يقود إلى إغلاقها لعدم تمكّنها من سداد التزاماتها المادية، نظرًا لقلة مواردها المالية؛ مما ينعكس سلبًا على برامج التنمية الشاملة، وعلى روافد العمل التطوعي وجهات استيعابه وتنظيمه. كما أن الأوضاع الاقتصادية وتقلباتها لها انعكاس مباشر على حجم التبرعات للقطاع الخيري؛ مما يؤثر سلبًا على خطط وبرامج الجمعيات الخيرية، نظرًا لتذبذب الميزانيات وعدم ثباتها. لقد تميزت المملكة العربية السعودية بأنها مملكة الخير والعطاء، وكيف لا وهي بلد التطوُّع والعمل الخيري التنموي المميز، الذي ارتقى من خلال الخطوات التنظيمية التي اتخذتها وزارة العمل والتنمية الاجتماعية للرقي به وتنظيمه وتوجيهه لما يحقق تنمية المجتمع، ليتحول بذلك من العمل الرعوي إلى العمل التنموي، وليحمي المحتاج من ذُلِّ السؤال، ليوجهه إلى العمل والإنجاز؟ ولم يتحقق ذلك إلا بتكاتف الوزارة مع القطاع الثالث؛ دعمًا، وتنظيمًا، وإشرافًا.

إلا أن لكل عملية تغيير اجتماعي نتائج إيجابية وأضرارًا جانبية. ونحن اليوم نعيش في المملكة حالة تغيير اجتماعي واقتصادي سريعة جدًّا، ومتوقع أن يصاحبها بعض الأضرار والنتائج السلبية التي تحتاج إلى التدخل العاجل والتخطيط الآجل من كل مؤسسات المجتمع المعنية، ومنها القطاع الخيري؛ للحد من هذه الأضرار والنتائج السلبية على الفرد والأسرة والمجتمع. إلا أن المشكلة تكمن في أن القطاع الخيري ذاته، أصبح جزءًا من المتضررين وضحايا هذا التغير السريع. فبعض مؤسسات العمل الخيري أصبحت تعاني من ضائقة مالية شديدة ناتجة- وبشكل غير مباشر- عن حالة التحوُّل الاقتصادي التي تعيشها البلاد، والتي أثرت على كثير من المانحين والمحسنين والمتصدقين من التجار ورجال الأعمال، فقلَّ عطاؤهم ودعمهم المادي للقطاع الخيري. ومن يعمل في القطاع الخيري يستشعر ذلك. فنظرة بسيطة على دخل العديد من الجمعيات الخيرية خلال فترة الستة أشهر الماضية ومقارنته بنفس الفترة من العام الماضي، يجد أن هناك انحسارًا كبيرًا في موارد الكثير من الجمعيات الخيرية؛ مما أدى إلى تسريح العديد من العاملين في القطاع الخيري؛ نظرًا للعجز في دفع رواتبهم، والعجز في تسديد متطلبات مالية أخرى، كالإيجارات، والفواتير، وغيرها؛ مما يعني أن رافدًا مهمًّا من روافد التنمية في مجتمعنا، رافدًا تعّول عليه رؤية ٢٠٣٠ كثيرًا في تفعيل القوة التطوعية المؤمل عليها في نهضة وتنمية المجتمع، لن يستطيع أن يقوم بدوره. إنَّ تفعيل العمل التطوعي يحتاج إلى وجود جمعيات ومؤسسات قوية وفاعلة، قادرة على استيعاب المتطوعين، وزيادة أعدادهم وتنظيمهم وتوجيههم إلى المناشط التي يبرعون فيها حسب إمكاناتهم.

ومن هنا تأتي أهمية وجود برامج الاستدامة المالية للأعمال الخيرية، ومنها الصناديق الوقفية الاستثمارية، التي تناولها سعادة د. سليمان في ورقته المركزة.

إن الاهتمام بالأوقاف له جذوره في التاريخ الخيري الإسلامي، حيث اهتمت به الحكومات الإسلامية والمحسنون على حد سواء، وتنوعت مصارفه: فكان هناك وقف الجرة، ووقف المريض، ووقف طالب العلم، ووقف عابر السبيل، وغيرها. وتطورت الأوقاف وتنظيماتها إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم. وأنا أؤيد ما ذكره د. سليمان من توصيات، وأؤكد على أن فكرة الصناديق الوقفية الاستثمارية فكرة جديدة تحتاج إلى إنضاج وإعلان وتوعية، فالواقف يحتاج إلى أن يعرف طريقة المشاركة فيها، وأن يثق بها، ويضمن طريقة التصرُّف في أمواله الوقفية، فلا بد أن نكسب ثقته، وكذلك المستفيد وهو القطاع الخيري أيضًا يحتاج إلى توعية عنها، وآليات الاستفادة منها من خلال التوعية والدورات التدريبية؛ مما يساعد في تنويع مصادر الدخل لتحقيق الاستدامة. كما أن هناك حاجة ماسَّة لتطبيق مبدأ الشفافية في كافة إجراءات الصناديق الوقفية الاستثمارية لكي تكسب ثقة المجتمع بكافة فئاته.

كما عقَّب د. مشاري النعيم: لعليِّ أتوقف عند بعض النقاط التي وردت في ورقة الدكتور سليمان الطفيل، والتي تناولت في قسمها الأول حالة الوقف في الحضارة الإسلامية، وفي المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، وإشكالية الوعي المعاصر بأهمية الوقف في البناء الاقتصادي والاجتماعي، والتي أدَّت إلى تبني الدولة لتأسيس صناديق الاستثمار الوقفية كجزء من رؤية 2030، والضوابط التي تمَّ وضعها لتأسيس هذه الصناديق، والتي سيكون لها أثرٌ عميق على تطوُّر دور الأوقاف في المستقبل، وتحررها من شكلها التقليدي الذي عطَّل كثيرًا من الأوقاف على مرِّ السنين، فإذا كانت قيمة الأوقاف تصل إلى 350 مليار ريال، إلا أن دخلها ضئيلٌ جدًّا مقارنة بقيمة الأصول.

وقبل أن أنتقلَ إلى صُلب موضوع الصناديق الوقفية سوف أتحدث على عجالة عن مشاكل الأوقاف التي واجهتُها شخصيًّا عندما كنتُ أعمل مشرفًا عامًا على مركز التراث العمراني الوطني بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني. فكما يعلم معظمنا أن كثيرًا من المباني التراثية هي أوقاف، ومع تقادُم الوقت تفتتت الملكية لهذه الأوقاف، وأهملها أصحابها، وتحولت إلى خرائب، وتعطل دورها ولم يعد لها أي دخل، وهذا ناتج في الأصل من وجود إشكالية في:

– شكل الوقف؛ وأقصد هنا الآلية التي يتم بها تحديد الوقف.

– إدارة الوقف؛ والمقصود هنا هو الأسلوب التقليدي المتبع في تحديد مجلس نظارة للوقف، وما يترتب عليه من ضياع للمسؤولية مع الوقت.

لن أضيف على ما ذكره الدكتور سليمان من فوائد جمة لهذه الصناديق والتوصيات التي ذكرها في مقاله الشامل، لكن يمكن أن أتحدث هنا عن مسألتين مهمتين: أولهما، أن صناديق الاستثمار الوقفية ستكسر حالة الفردية في العمل الوقفي، فقد تعودنا تاريخيًّا على أن الأوقاف عادة تُسمَّى بأسماء موقفيها، أما في حالة وجود صناديق وقفية، فإن هذا سيجعل الكثير من أفراد المجتمع يسهم في العمل الوقفي دون أن يكون هناك حاجة إلى تأسيس وقف فردي؛ وهذا سيوسِّع من الأوقاف، وسيزيد من تأثيرها، والأهم من ذلك سيضمن استمرارها رغم أن مشكلة “نظارة الوقف” لمَّا تُحلّ حتى الآن، وهذا قد يُعطِّل هذه الصناديق في المستقبل، إلا إذا تمَّ تحويل مجلس النظارة إلى مجلس إدارة يتم انتخابهم من المساهمين في الصندوق، ومن ذرياتهم في المستقبل.

المسألة الثانية: هي “الشركات الوقفية”، التي حاول بها البعض معالجة مشكلة الوقف الفردي الذي ثبت تاريخيًّا وجود إشكالات كبيرة في استمرارية إدارته، فنحن لسنا مثل الغرب في تعامله مع الوقف، حيث يتحول الوقف إلى مؤسسة استثمارية أشبه بالصندوق مع بقاء اسم المُوقِف الأساسي، وإمكانية دخول مساهمين جدد للوقف مع الوقت؛ كون الوقف في الأصل هو لمؤسسة تعليمية أو ثقافية، مثل مؤسسة “سميثسونيان” الثقافية في واشنطن وغيرها من مؤسسات، فرغم أن الوقف الأصلي مستمر ويحمل نفس اسم الواقف إلا أن هناك مساهمين كثيرين في هذا الوقف تُذكر أسماؤهم (حسب رغبة الموقِف) في لائحة الشرف.

أعودُ للشركات الوقفية التي هي شركات تجارية بالكامل تمَّ إيقاف أسهمها، ويُستفاد من دخلها السنوي للصرف على مصارف الوقف. هذه الشركات لما تُقرّ حتى الآن، لكنها في الطريق إلى أن تُقرّ ويصدرَ لها نظام، وهي الخيار الأمثل في الوقت الراهن لكثير من الشركات العائلية التي ترغب في تأسيس أوقاف باسم العائلة، بحيث يكون مساهمة من المؤسسين وذرياتهم، وفي الوقت نفسه يُدار كشركة مستقلة يتمُّ زيادة أسهمها من قِبل أبناء العائلة مع الوقت، واستثمار دخلها في أعمال الوقف وتوسيع استثماراته.

بشكل عام، يحتاج الاستثمار الوقفي إلى أفكار جديدة خارج الصندوق مع مراجعة عميقة للتجربة التاريخية الممتدة لأربعة عشر قرنًا، وهي تجربة فريدة ومهمة، فيها كثير من الإيجابيات وبعض السلبيات، فكما أن الوقف مهم لخدمة أبناء المجتمع وفتح آفاق للمحتاجين منهم، كذلك هو مهمٌّ في التنمية بشكل عام. وأرى أنَّ التحوُّل من الوقف التقليدي إلى الصناديق والشركات الوقفية سيوسِّع من نشاطات الوقف الاستثمارية، وسيجعل منه أحد العناصر الاقتصادية المهمة التي سيكون لها إسهامٌ واضحٌ في التنمية الاجتماعية بشكل عام.

وعقبت د. عبير برهمين: إن الوقف في الإسلام هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. والمراد بالأصل ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه؛ كالدور، والبساتين، والمساجد، والدكاكين، ونحوها. والمراد بالمنفعة: (الغلة الناتجة عن ذلك الأصل؛ كالثمار والمحاصيل، وإجارات السكن والدكاكين،… وغيرها). وهي سنة تكافلية مستحبة، ووجه من أوجه الصرف والقربى إلى الله سبحانه وتعالى، يُعين فيها المقتدر المحتاجين من المسلمين وغيرهم. وللوقف شروط فقهية وضوابط متعارف عليها ونُظَّارٌ يقومون بتصريف شؤون الوقف، وهي معروفة منذ زمن النبي الكريم، صلوات الله تعالى عليه، وعلى آله وسلم.

وكما أشار الكاتب في ورقته، فإن المملكة العربية السعودية أولت الأوقاف الإسلامية اهتمامًا منقطعَ النظير، باعتبارها محضن الإسلام، وتعدد الأوقاف العينية في أرضها، وخاصة في مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة. إذ لم تقتصر الأوقاف على الأهالي والسكان المحليين والمقيمين، بل تتعداه إلى سائر الدول الإسلامية، وحيثما كان هنالك تواجد للمسلمين على ظهر الأرض. ولا شك أنَّ في مكة المكرمة تحديدًا لعبت الأوقاف الإسلامية دورًا كبيرًا في النهضة العلمية والفقهية والصحية من قبل قيام الدولة السعودية، إذ إنَّ مستشفى أجياد، والمدرسة الصولتية، وأوقاف الحجاج الجاوة وبلاد ما وراء النهرين؛ هي أمثلة للأوقاف الإسلامية، التي امتد نفعها على البلاد والعباد على مدى سنين عديدة ممتدة، وحتى يومنا الحاضر. إلا أنه وكما أشار الكاتب، في ظلِّ هذه التسارعات والتحديات الاقتصادية التي يعيشها العالم اليوم، فإن نظام الأوقاف كان لا بد أن يواكب التطورات المتسارعة. وما إنشاء “الهيئة العامة للأوقاف في عام 1437 هجرية” إلا محاولة جادة للمملكة في سبيل تطوير العمل الوقفي، وجعله مستدامًا يستطيع الصمود في وجه التحديات الاقتصادية الحالية والمستقبلية. وقد سبق ذلك وجود عدد من الدراسات الأكاديمية التي تُرجمت إلى واقع، وتناولت الجدوى الاقتصادية للأوقاف. أشير- على سبيل المثال- إلى دراسة بعنوان: “إدارة الأوقاف على أسس اقتصادية مع الإشارة إلى دمج الأوقاف الصغيرة: شركة مكة للإنشاء والتعمير نموذجًا”، هذه الدراسة قام بها “سعادة أ.د. محمد الجرف” من جامعة أم القرى بمكة. تطرق في دراسته إلى عدة محاور، مثل: الاتجاهات الحديثة في إدارة أصول الأوقاف، سياسات الاستثمار والإنفاق، دمج الأوقاف الصغيرة، عوائد الأوقاف قبل وبعد الدمج، حماية حقوق المساهمين… وغيرها. وأتفقُ تمامًا مع كلِّ ما أورده الكاتب من نقاط في أهم ملامح صناديق الاستثمار الوقفية. وكذلك أتفقُ مع النقاط الأربع التي أوردها كتوصيات، وأضيفُ عليها:

– ضرورة الاستعانة بآراء الفقهاء في العالم فيما يخصُّ ملامح هذه الجدوى الاقتصادية، إذ إنَّ الأوقاف عمومًا هي شأن ديني غير ربحي، وقد يستنكر البعض تحويله إلى مشاريع اقتصادية بحتة.

– ضرورة توسع دائرة الأوقاف إلى ما يواكب حاجة العصر، مثل: الأوقاف البحثية، أو المستشفيات والمراكز الطبية، والمعاهد المتخصصة التقنية والعلمية والدينية، وغيرها. وكذلك الأوقاف للمشاريع التنموية والبنى التحتية.

– ضرورة إعطاء نُظَّار الأوقاف اهتمامًا خاصًّا فيما يتعلق بأدوارهم المتعارف عليها، وكيفية تطوير أدائهم ليواكب التطوير الحاصل في نظام الوقف الإسلامي.

– الأوقاف الإسلامية لا يجب أن يقتصر دورها على البلدان الإسلامية فحسب، بل أينما وُجد مسلمون ومسلمات على ظهرالأرض، وهذا يتطلب وضع ضوابط وقوانين مرنة تسهّل أداء الأعمال الوقفية التوسعية.

 

المداخلات:

أهمية تنظيم العمل الوقفي وفهم إجراءاته:

أكد د. حميد الشايجي أن العمل الوقفي يحتاج إلى جهد وإلى عمل كبير، فالتنظيم والإجراءات وفهمها من قبل الجهات ذات العلاقة أمر مهم جدًا، ومن ذلك الشركات والصناديق الوقفية؛ ولذلك لا بد من توفير جهات كافية تتولى التوعية والتدريب على العمل الوقفي.

أَيَّد ذلك د. سليمان الطفيل مؤكدًا ضرورة توفُّر جهات ومراكز عديدة لتدريب القائمين على الأوقاف، وخاصة المسؤولين في القطاع غير الربحي؛ كالجمعيات والمؤسسات الخيرية، والكيانات الوقفية، واللجان غير الربحية.

ذهب د. حميد الشايجي إلى أن برنامج “المنظمة الوقفية المتعلمة” يقدِّم معرفة حول طرق التطبيق والتحوُّل إلى المنظمة المتعلمة، والاستراتيجيات الخمس لبناء المنظمات المتعلمة، وتجاوز التعلُّم الفردي إلى التعلُّم الجماعي والتعلم المنظومي، وأهم الآليات والطرق العملية في تطبيق المنظمة المتعلمة، من خلال النماذج وورش العمل.

كما أشار د. حميد المزروع إلى أن نجاح واستدامة الأوقاف بأنواعها يتطلب وجود معايير واضحة للحوكمة الداخلية قابلة للتطبيق والمتابعة، لا تقلُّ عن تلك المعمول بها في الشركات المساهمة؛ وذلك حتى يثق المجتمع بجودة إدارتها وتحقيق أهدافها.

حجم الأوقاف الخيرية وكيفية رفع العائد بها:

ترى د. منى أبو سليمان أن القضية التي طرحها د. سليمان عن الأوقاف قد تحمل الحلول للكثير من المشاكل التي نتحدث عنها في المنتدى، عن طريق الإبداع بالتمويل والعمل على القطاع الثالث، وهي جزء من تحويل رؤية 2030 من نظرية إلى واقع، فهي إذًا قضية مهمة.

أضيف: إنه ذُكر في الورقة والتعقيبات كِبَر حجم الأوقاف بـ 350 بليون ريال في مقابل ضآلة حجم الراجع؛ لذلك فإنني أتساءل: هل جميع الأوقاف التي ذُكرت هي أوقافٌ خيرية؟ أم تضمُّ أيضًا أوقاف العوائل العائدة لنفسها؟ وهل يمكن تحليل وإعطاء حلول عن كيفية رفع العائد بالأوقاف الخيرية؟

من جانبه ذهب د. سليمان الطفيل إلى أن ما ذُكر هو المستهدف الوصول إليه في 2020م ضمن خطة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في ورقتها المقدمة في المؤتمر الإسلامي للأوقاف في محرم عام ١٤٣٨هجرية لرفع حجم الأوقاف المسجلة في نظام الحاسب، في حين كانت لي زيارة إلى وزارة الأوقاف قبل ١٥ سنة، وأفادني أحد المختصين آنذاك بأن حجم الأوقاف المسجلة في الحاسب تزيد عن ٥٠ ألف وقف خيري، وليست أوقافًا أهلية. إذًا كيف نتصور حجم وقيمة الأوقاف اليوم، والتي قدَّرها البعض بأن قيمتها تزيد عن ٢ تريليون ريال؟

وفي اعتقادي، ليست هناك أرقامٌ إحصائية دقيقة ومعلنة، لكن الشواهد المعاصرة للأوقاف تُعطي مدلولات كبيرة لحجم وضخامة هذا القطاع، خاصة أن أحد هذه الأوقاف التي أعلنت عنها مؤسسة الشيخ سليمان الراجحي بلغت قيمتها ٣٠ مليار ريال، فماذا برأيكم عن حجم آلاف الأوقاف الخيرية والأهلية المسجلة داخل المملكة أو خارجها، لمصلحة الحرمين، أو الحجاج والمعتمرين، أو غير ذلك؟

كما أنه فِي ظني، سوف تبذل الهيئة العامة للأوقاف كافة مساعيها لتحقيق الأهداف الأساسية من إنشائها، لتطوير قطاع الأوقاف الخيري والأهلي والمشترك، وما زلنا في أول الطريق.

الوقف والإشكاليات الشرعية:

حول ما ذكره د. مشاري النعيم من أن هناك إشكالية شرعية قي موضوع الوقف؛ تساءلت د. منى أبو سليمان عن هذه الإشكاليات الشرعية. علق د. مشاري النعيم أنها تتضمن بالدرجة الأولى القيود على نقل واستبدال الأوقاف. كما أن هناك إشكالات مرتبطة بشكل الملكية، فما تعورف عليه أنه وقف فهو وقف حتى لو لم يكن له صك ملكية، وهذا أوجد فوضى كبيرة في عقارات الوقف.

أضاف د. سليمان الطفيل: إن لائحة تراخيص الصناديق الوقفية نَصَّت بعدم تداول الوحدات الموقوفة، مع أنني أرى أهمية معالجة هذه الجزئية من الناحية الشرعية؛ لتفعيل الصناديق بشكل أفضل، ولإعطاء مجال للواقفين للعمل بالوقف المؤقت ووقف المنقولات، أخذًا ببعض الآراء الفقهية التي تجيز ذلك.

وقد ناقشتُ هذه المسألة مع بعض المختصين والمسؤولين عن الأوقاف، لدراسة هذا الموضوع وأهميته عند طرح صناديق الاستثمار الوقفية، لإعطاء مرونة أكبر طالما أن الصندوق محتفظٌ بالأصل لا يخرج منه، ومؤبد.

إلا أنَّ د. مشاري النعيم يرى أنه يخشى أن يؤثر هذا التحجُّر الفقهي على مستقبل الصناديق نفسها، وتصبح استثمارات ثقيلة الحركة، فمن المعروف أن الاستثمار يتطلب المرونة والتوقيت المناسب للخروج من السوق أو الدخول له، وأرى أن الحلول يجب ألا تُجزَّأ. أيَّد ذلك د. حميد الشايجي، خاصة أن الشروط الواردة في تعليمات الترخيص للصناديق الوقفية الاستثمارية فيها ما يثير هذا التخوف. على سبيل المثال، ورد في البند الرابع من تعليمات وشروط الترخيص للصناديق الاستثمارية الوقفية، وهي:

أ- يجب استيفاء التالي عند تقديم طلب الترخيص للصندوق:

1. الحـد الأدنـى لتأسـيس الصنـدوق يجـب أن لا يقـل الحـد الأدنـى الـذي ينبغـي جمعـه لتأسـيس الصنـدوق عـن عشـرة ملاييـن ريـال سـعودي.

ب- يجب على مدير الصندوق الالتزام بالتالي في جميع الأوقات:

1. سياسـة اسـتثمار: يجـب أن لا تقـل قيمـة اسـتثمارات الصنـدوق عـن مـا نسـبته (75 %) مـن القيمـة الإجماليـة من أصـول الصنـدوق، وذلـك بحسـب آخـر قوائـم ماليـة مدققـة.

2. التوزيعــات: يجــب أن لا تقــل نســبة الأربــاح الموزعــة علــى الجهــة المســتفيدة عــن (50 %) ســنويًّا مــن صافــي أربــاح الصنــدوق القابلــة للتوزيــع (إن وُجــدت).

لذا فإنني أتساءل: ما الجهة التي تمنح التراخيص لمدير الصندوق وأمين الحفظ؟ أجاب عن ذلك د. سليمان الطفيل بأن هيئة السوق المالية هي مَن يصدر التراخيص، لكن قبلها موافقة الهيئة العامة للأوقاف.

تفعيل الدور التنموي للأوقاف:

ترى د. منى أبوسليمان؛ بما أن حجم الأوقاف 350 بليون ريال، لو استطعنا أن نستخدم 2 إلى 5 ٪ من ريعها لضخها في الأعمال الخيرية التنموية، فهل هناك إمكانية لإعادة هيكلتها وتحويل الريع الموجود للإنفاق على أولويات التنمية الخيرية المعاصرة؟

من جانبه، يعتقد د. سليمان الطفيل أنه يجب بداية أن نعرف أن الأوقاف ما زالت تعاني الكثير من المعوقات النظامية والإجرائية والقضائية…إلخ. ولهذا يصعب علاجها في الفترة الحالية بشكل كلي إلا من خلال مبادرات وقفية؛ كالصناديق والكيانات الوقفية. وعلى هذا الأساس، فإن تفعيل الدور التنموي للأوقاف يتطلب مشاركته في مجالات تنموية متنوعة، وهو ما يمكن عمله من خلال فتح صناديق وقفية عديدة، من خلال الكيانات الوقفية والخيرية في القطاع غير الربحي.

بينما تتصور د. عبير برهمين أن الرقم 350 بليون هو تقدير ذاتي لأصول الوقف. فمثلًا، أوقاف الراجحي هو من قدَّر قيمة أصوله، من ثَمَّ لا يوجد جهة مستقلة تقيّم قيمة الأصل الفعلي. كذلك فإن هناك بعض الشروط التي يضعها الواقفون تكون مقيدة؛ كأن يكون المستفيد من الخدمة فئة معينة قد تشمل أسرًا بعينها. وهناك مَنْ يضع شرطًا ببقاء الأصول دون تطوير؛ مثلًا: قد يوقف أحدهم عمارة سكنية في موقع استراتيجي، ويشترط أن تظلَّ عين الوقف على ما هي عليه. بطبيعة الحال، وبمرور الوقت تتعرض العمارة للتقادم، وأحيانًا لا يكون لناظر الوقف الحق في إعادة بناء العقار مثلًا، فتقلّ بالتالي قيمة الوقف، ويقل الناتج عنه. من هنا فإن الإحصاءات والأرقام عن الأوقاف عمومًا تكون غير دقيقة، وإنما تقريبية.

كما أن هناك مشاكل أخرى؛ كوفاة النظّار وعدم وجود بديل لهم من الأبناء مثلًا، فنجد أن الوقف مع الأيام يُنسى ويعود لبيت مال المسلمين شرعًا، ولكنهم أحيانًا لا يستطيعون التصرف فيها للشروط التي وضعها الواقفون في المقام الأول، أو لغياب أوراق ثبوتية الوقف بعد وفاة الموقفين الأساسيين.

لذلك من المهم جدًّا أن يكون للفقهاء في العالم الإسلامي دورٌ كبيرٌ في التطوير وفهم المقصود من الجدوى الاقتصادية، فكما قلت، لأنَّ الأصل في الوقف هو عمل ديني غير ربحي، فكثير من المسلمين والواقفين يتحرّج من تحول العملية إلى شكل تجاري بحت، وإن كان الغرض منه الاستدامة والتنمية.

أضاف د. سليمان الطفيل: لعل الهيئة العامة للأوقاف، وهي الجهة المسؤولة عن الأوقاف الخيرية العامة والمشتركة والإشراف على نظارة الأوقاف الأهلية، تقوم بالدور الأساسي في المحافظة على الأوقاف وعدم إهمالها، علمًا أنَّ وزراة الشؤون الإسلامية والأوقاف هي الجهة المسؤولة عن الأوقاف المعطلة والأوقاف التابعة للحرمين وخارج المملكة، ولعلها تقوم بدورها كذلك في تطوير تلك الأوقاف، وبخاصة الأوقاف المعطلة التي تُقدَّر قيمتها بالمليارات، وتأخذ مواقع استراتيجية في غالبية مدن المملكة.

ولعل الجدوى الاقتصادية للصناديق الوقفية تعيد لنا رونق الأوقاف في شكلها الاقتصادي والاستثماري الذي ينعكس أثره الاجتماعي على مفاصل المجتمع، وبخاصة التوظيف، والتعليم، والوقاية والرعاية الصحية، والعلاج.

علق د. حميد الشايجي؛ من خلال قراءتي لتعليمات ترخيص الصناديق الوقفية أنها اتفاق بين الواقف من جهة والجهة المستفيدة من جهة أخرى، ويقصر ريع هذا الصندوق على هذه الجهة فقط، أي أن الوقف سيبقى تحت نظرة وخيار وتوجه الواقف. وبالتالي سيتم دعم جهات مستفيدة معينة دون غيرها، حيث إنَّ المجالات الصحية والتوعوية والتعليم والإسكان لا تزال من أقل المجالات الموقوف لها. فهل هناك إمكانية لتوجيه الواقفين لتبني برامج تنموية نوعية؟ وهل ممكن إعداد قائمة بالجهات الخيرية ومجالات عملها ليختار الواقف منها؛ لأن اللائحة الحالية للصناديق الوقفية لا تشير إلى ذلك؟

يعتقد د. سليمان الطفيل أن الأمر يتوقف على البرامج التوعوية لجدوى الصناديق الوقفية وأغراضها التنموية، وهو ما سيولد حاجة وطلبًا على تلك الصناديق؛ لأن المعرفة بأغراضها سيساعد الواقفين على الإقبال عليها مهما كانت حجم مساهماتهم في وحدات هذه الصناديق. ولهذا تأتي أهمية دور الإعلام الوقفي لهذه الصناديق وأثرها في التنمية والمجتمع.

حوكمة الصناديق الوقفية للاستثمار:

أشار أ. محمد الدندني إلى أن هناك جمعيات خيرية لم تلتزم بالشفافية، وربما تقهقر دورها ليس فقط بسبب الوضع الاقتصادي. لذا فإنني أتساءل: ماذا عن الحوكمة لهذه الصناديق والأوقاف عمومًا؟ وهل ورد في النظام إلزام للصناديق والأوقاف بوجود مدقق حسابات، حيث تُنشر النتائج المالية سنويًّا؟ كذلك فإنني أتساءل: ما الفرق بين الـ Trust الغربي والوقف الإسلامي غير اختلاف إمكانية دخول مساهمين جدد؟ وهل تجب الزكاة على ريع الوقف أو على الأصول إن كانت مالًا إن حلَّ عليها الحول؟ وفقهيًّا؛ هل يجوز أن يتغير هدف الوقف؟ فمثلًا، وضع وقف للأيتام والأرامل لأهل البلد الذي هو فيه أو المنطقة من داخل البلد إلى منطقة أخرى أو إضافة بلد آخر، أو نفس المكان ولكن يتم تغيير النشاط الوقفي.

من جانبه أجاب د. سليمان الطفيل؛ فيما يتعلق بحوكمة الصناديق الوقفية للاستثمار، ليس هناك لائحة لحوكمة الأوقاف حتى تاريخه، وأعتقد أن هذا ما تعمل عليه هيئة الأوقاف حاليًّا، لكن هناك لائحة خاصة لحوكمة الجمعيات الخيرية معلنةً على بوابة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الإلكترونية عبر منصة (مكين)، وكذلك هناك منصة أخرى تتعلق بشفافية المعلومات المالية (إفصاح). كلتا المنصتين تم إطلاقهما لتعزيز الثقة في أعمال وبرامج ومشاريع الجمعيات الخيرية، وضمان استمرارية عملها.

وفيما يتعلق بإلزام الصناديق بمدقق حسابات قانوني لنشر البيانات السنوية للصندوق، ذهب د. سليمان إلى أنَّ (مدير الصندوق) وهي شركة مرخصة من هيئة سوق المال بإدارة الأصول ملزمة بموجب ما نصّت عليه تعليمات الحصول على ترخيص فتح صندوق استثمار وقفي المادة (١١)، بأنه على مدير الصندوق نشر جميع المعلومات المطلوب الإفصاح عنها على موقعها الإلكتروني، وعلى موقع الهيئة العامة للأوقاف، والإفصاح عن كافة المعلومات والتطورات التي يلزم الإفصاح عنها…إلخ.

أمَّا فيما يتعلق بالفرق بين نظام الترست الغربي والوقف الإسلامي*؛ أشير إلى أن الوقف يتميز عن الترست بصبغته الدينية، واكتسابه المشروعية من الوحي الرباني، بخلاف الترست الذي نشأ في القرون الوسطى، بمنأى عن أي وحي، وإن كان له ارتباط برجال الدين في أول أمره.

كما يختلف الترست عن الوقف فيما يعرف بالقانون الحاظر لتأبيد الترست الخاص (rule against perpetuities)، فبينما يشترط جمهور الفقهاء تأبيد الأوقاف الذرية، بوضع شرط تحولها لأوقاف خيرية في حال انقراض الذرية، تحظر بعض القوانين الأنجلوسكسونية تأبيد الترست الخاص (أي الترست غير الخيري)، فالقانون الإنجليزي- على سبيل المثال- يحظر حبس الأصول في ترست خاص فترة تزيد على 125 سنة، والمقصود بذلك أنه يجب أن تؤول أصول الترست إلى الطبقة الأخيرة من المستفيدين خلال 125 سنة من تأسيسه، وقد ألغت بعض ولايات الولايات المتحدة، وبعض مقاطعات كندا، القانون الحاظر لتأبيد الترست الخاص؛ لتسمح بالترست الخاص المؤبد (dynasty trust) على غرار الأوقاف الذرية المؤبدة عندنا.

ويفارق الترست الوقف في كون الترست مملوكًا للترستي (أي أمين الترست، وهو ما يقابل الناظر عندنا)، فالترستي مالك للعين ملكًا تامًا حقيقيًا، إلا أنه لا يجوز له أن يتصرف في هذه العين إلا وفق شروط مؤسس الترست المعروف بـ(settlor)، فالترستي يملك العين، والمستفيدون يملكون منفعة العين (بالمعنى العام للمنفعة، يشمل ذلك الأرباح الناتجة عن بيع العين- على سبيل المثال- إن لم ينص مؤسس الترست على خلاف ذلك)، وإن كان المستفيدون يملكون المنفعة أيضًا، فإن الناظر في الشريعة لا يملك العين الموقوفة، والخلاف بين الفقهاء في ملكية العين معروف ومفصّل في مظانه، والسائد أن العين الموقوفة في حكم ملك الله، لا يملكها أحد بعد وقفها، فذمة الوقف منفصلة عن أي ذمة أخرى.

هذه الفروقات البارزة بين الوقف والترست قابلة للانسجام، فأغلب أحكام الوقف اجتهادية قابلة للنقاش، بل إن الفقهاء أنفسهم مختلفون في كثير من أحكام الوقف، كما أن الترست قد تغير كثيرًا على مرِّ العصور، وما زال في تطوُّر مستمر، فلم يكن يتصور فقهاء القانون السابقون أن يصل الأمر بقانون الترست إلى إلغاء القانون الحاظر للتأبيد كما هو الحال في بعض ولايات أمريكا ومقاطعات كندا. فقابلية النظام الأنجلوسكسوني للتأقلم وتركيزه الأساسي على العملية في قوانينه، وسعة الشريعة الغراء تتيح الفرصة وتفتح المجال لمزيد من الانسجام بين الوقف والترست، ولقبول كل من الهيكلين للآخر.

وفيما يتعلق بالسؤال عن زكاة الأوقاف؛ هل تُفرض على الريع أو على الأصل؟، فإنني أنقل إجابة الأستاذ عبد الرحمن العثمان مؤسس شركة ثبات للأوقاف عبر مجموعة واتساب (قروب الوقف) بتاريخ ٢٢ سؤال ١٤٣٩هـ، وهذا نص إجابته:

يلتبس على البعض مسألة أخذ الزكاة على الوقف، ولعليِّ أوضح ذلك بما يلي:

1. أصل العين الموقوفة لا زكاة فيها، فلا يتم تقييمها لإخراج زكاة قيمتها.

2. حينما يُسلّم الريع للموقوف عليهم فلا زكاة عليهم عند استلامه.

3. حينما يحول على الريع الحول وهو في البنك، ومصرفه على وجوه البر والإحسان، فلا زكاة عليه مطلقًا.

4. حينما يُسلم الريع للموقوف عليه (فقيرًا أو غنيًا) ويبقى عنده حتى يحول عليه الحول ففيه زكاة.

5. إذا بقي الريع عند الناظر أو غيره عدة سنوات ولم يستطع الموقوف عليه استلامه فلا زكاة فيه كالدين على المماطل ومعسر (وقال بعضهم: يزكي عند استلامه لعام واحد فقط احتياطًا).

وأنبّه على الآتي:

أ- إذا حال الحول على الريع بعد تسليمه للموقوف عليه أو وليه ففيه الزكاة، ولو كان الموقوف عليه فاقدًا للأهلية فإن الزكاة مرتبطة بالمال لا بصاحبه، فتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون ونحوهما.

ب- النصيحة للناظر أن يتفقه في المسألة لئلا يقع في الإثم والحرج، ولا يوجب على الموقوف عليه ما ليس واجبًا، ولا يحبس المال عنده دون تسليمه للموقوف عليه فيضيع على الفقير حقه من الزكاة.

أخيرًا، فيما يتعلق بمدى جواز تغيير هدف الوقف، فإنني أعتقد أنه لا يجوز تغيير شرط الواقف، والقاعدة الفقهية المعروفة (شرط الواقف كنص الشارع)، إلا إذا تعطلت مصالحه أو منافعه، فعلى الحاكم الشرعي تعيين الأصلح للوقف، وهذه مسألة شرعية لها شروط وأحكام لا يمكن النقاش حولها؛ لأنها من اختصاص الفقهاء وأهل العلم الشرعي.

الجمعيات الخيرية ومدى الاستفادة من مبادرة إطلاق صناديق الاستثمار الوقفية:

يرى د.عبد العزيز الحرقان أنه يوجد مزيج من الصناديق الوقفية والجمعيات الخيرية والأوقاف الفردية والمؤسسات التقليدية الموقوفة على أوجه معينة. ويوجد توجُّه لدى الواقفين للوقف على مصارف الصدقة الشرعية. ونحن نختلف بشكل كبير على الأوقاف العالمية. فمثلًا شركة “إيكيا” هي أكبر وقف في العالم، وأوقفه مؤسس الشركة على مشاريع الابتكار في التصميم، وكذلك شركة رولكس هي أيضًا وقف.

أضاف د. سليمان الطفيل أنه لهذا كانت مبادرة إطلاق صناديق الاستثمار الوقفية فرصة كبيرة للجمعيات الخيرية لفتح مثل هذه الصناديق الوقفية.

بينما يرى د. حميد الشايجي أنَّ فيها جانبًا تعجيزيًّا للجمعيات، وذلك لجانبين:

– أن لا يقل المبلغ عن ١٠ ملايين.

– أن تجد لها واقفًا يقتنع بعملها ليُوقَف لها صندوقٌ استثماريٌّ، فالواقف هو من يختار الجمعية التي يريد أن يوقف لها، وهنا يأتي دور العلاقات والميول الشخصية في الاختيار.

مما يعني أن هناك جمعيات خيرية لن تستطيع الاستفادة من مبادرة إطلاق صناديق الاستثمار الوقفية؛ إمَّا لقلة مواردها، أو لعدم قناعة الواقف بنوعية نشاطها، فكيف يكون السبيل للتغلب على ذلك؟ هل ممكن أن توقف الدولة مبلغ ١٠٠مليون موزعة على عدد من الصناديق، وتُوزع النسبة المحددة من الأرباح على عدد من الجمعيات الخيرية التي لم تحظ برعاية أي صندوق استثماري وقفي؟

إلا أن د. سليمان الطفيل يتصور أنه ليس هناك شروطٌ تعجيزية؛ فقد نصت الفقرة (أ) من شروط الترخيص المادة (رابعًا) على أن الحد الأدنى الذي ينبغي جمعه لتأسيس الصندوق لا يقل عن عشرة ملايين ريال سعودي، ولم تنص على أن المبلغ يجب أن يكون موجودًا قبل التقديم. المهم أن يكون المبلغ المطلوب جمعُه لا يقل عن عشرة ملايين ريال كشرط لفتح الصندوق.

أمَّا عن الواقف؛ فالصندوق إمَّا يكون مفتوحًا للعامة أو يكون مغلقًا على أفراد أو جهات أو…إلخ محدّدة مسبقًا، وليس للواقف القدرة في توجيه الجمعية أو الصندوق، إلا إذا تعهد بنفسه بدفع كامل المبلغ فله حق الخيار، والوقف على ما يرغب في الوقف عليه.

بعض أسباب معاناة ومشاكل الأوقاف:

ذكر د. زياد الدريس؛ لفت نظري قول د. سليمان في إحدى مداخلاته أن “الأوقاف ما زالت تعاني الكثير من المعوقات النظامية والإجرائية والقضائية…إلخ “. فقد كنتُ أتوقع أن بلادنا من أعرق بلاد العالم في مسائل الوقف بسبب الخبرة المتراكمة على مدى قرون من الزمن، وخصوصًا تجارب الأجيال المسلمة المتعاقبة في مكة والمدينة.

فما سبب المعاناة الراهنة؟ هل هو الجمود على فقه الوقف التقليدي، وعدم التجرؤ على مواءمته مع مستجدات العصر، أم بسبب أخطاء نظامية متوارثة، أم عدم قناعة الأجهزة الرسمية بأهمية وجدوى الوقف، وبالتالي عدم إعطائها الوقت والجهد الكافيين للتطوير؟

يرى د. سليمان الطفيل أن الأوقاف مرتبطة بمجالات وجهات عديدة، وهذا من أكبر الأسباب التي صعَّبت من حل قضايا الأوقاف.

وقد طُرحت وقُدِّمت حلولٌ ورؤى عديدة للنهضة بقطاع الوقف لأكثر من ثلاثين سنة مضت، ولعلَّ رؤية 2030م هي المخرج والبوابة لإطلاق دور الوقف في التنمية ونهضة المجتمع، من خلال معالجة الإدارة السيئة لها، والإسراع في تطوير الأنظمة والإجراءات التقليدية المتبعة سابقًا لمتابعة وتنمية الأوقاف، وإعادة الثقة لها لتقوم بالدور المأمول منها في مساعدة المستفيدين منها من ذوي الحاجة والفقراء والمساكين والمرضى، ودعم مراكز التعليم والبحوث والتنمية الصحية والثقافية والأمن والدفاع، وفِي كل مقومات المجتمع الأساسية بدءًا من البنية التحتية، إلى البنية الأساسية، إلى التطور العمراني والإسكان، ودور العلم والمساجد والجوامع…إلخ، كما كانت في عصور الازدهار الإسلامي.

من جانبه أكد د. مشاري النعيم أن لدينا قضايا أوقاف لها سنوات لم تُحل. المشكلة في فقه الأوقاف لكن هناك مشكلة كبرى في شروط الواقف، وأتمنى ألا يُسمح بمثل الشروط التعجيزية في الصناديق. وفي اعتقادي، يجب أن نعمل على توجيه الصناديق للوقف الثقافي والعلمي، فهو نوع من الاستثمار من جهتين: الأولى، استثمار في التنمية البشرية، والأخرى استثمار في تنمية الوقف وتوسعته لتعظيم أثره، وهذا يتطلب إيمانًا حقيقيًّا بقيمة المسؤولية الاجتماعية؛ لأنها أحد أسس التنمية والاستقرار*، فهناك شُحٌّ كبير في هذا الجانب.

إمكانية جعل الأوقاف مؤسسات مستدامة لخدمة الاحتياجات العلمية والاجتماعية:

أشارت د. منى أبو سليمان إلى أن التساؤل يبقى مع جميع التغيرات؛ ما هي طريقة جعل الأوقاف مؤسسات مستدامة لخدمة الاحتياجات العلمية والاجتماعية؟

يعتقد د. سليمان الطفيل أنَّ هذه القضية هي المطلب الأساسي للوصول إلى قناعة الواقفين في وقف أموالهم، والثقافة الناجعة في ذلك هي تعليق صدق النية وسلامة القلب عند الواقف، فليس هناك وقفٌ يدوم حسيًّا إلى يوم القيامة، ولم نر إلا أوقافًا معدودة كالأصابع للأوقاف التي أُسِّست في صدر الإسلام إلى اليوم، ومنها: وقف الخليفة عمر بن الخطاب، ووقف الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنهما، في مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ ولكن ثبات أجر العمل بالوقف وجريان الصدقة به إلى يوم القيامة والشعور الإيماني بذلك هو ما سيبقى أجره وأثره في حياة الواقف وبعد مماته، وهو مرتكز القناعة بدوام الوقف وتأبيده.

لهذا أعتقد- من وجهة نظري- أن صناديق الاستثمار الوقفية هي نقطة تحوُّل تاريخية لنهضة الأوقاف في المجتمعات الإسلامية، وبخاصة إذا تأسست تلك الصناديق من خلال مؤسسات وجهات تنظيمية ورقابية وكيانات غير ربحية تعمل من خلال أنظمة رقابة متطورة وحوكمة ملزمة كما هي اليوم، بعد فرضها على الجمعيات والمؤسسات والكيانات غير الربحية.

هناك ما يزيد عن ١٠٠٠ جمعية ومؤسسة أهلية خيرية في المملكة، وما يزيد عن ٢٥٠٠ كيان غير ربحي، تعاني أزمات مالية بسبب اعتمادها سابقًا على تبرعات خيرية تصل إلى ٧٠٪ من إيراداتها، بالإضافة إلى استثمارات ممتلكاتها الخاصة وإيرادات خدماتها الأخرى التي تزيد غالبًا عن ٣٠٪. ولهذا تحتاج هذه الكيانات إلى إنشاء صناديق وقفية استثمارية في مجالات متنوعة، تقدِّم خدمات اجتماعية عديدة لخدمة العمل التطوعي، وجعله مساهمًا فاعلًا في تحقيق روية المملكة الهادفة إلى رفع مساهمة القطاع غير الربحي من أقل من ١٪ إلى ٥٪.

إسهامات الوقف في التنمية الاقتصادية والاجتماعية:

أشار د. خالد الرديعان إلى أن هناك مجالات كثيرة للوقف، ولعل قطاع الرعاية الاجتماعية هو من أهم القنوات التي يمكن توجيه الوقف لها، وخاصة رعاية الأيتام والأربطة ورعاية المسنين والمرضى. ولعلّه ينشأ تعاون بين الجهات والصناديق الوقفية ووزارة العمل والتنمية الاجتماعية المعنية بالرعاية الاجتماعية. هذا التعاون سيُخفّف موازنة الرعاية الاجتماعية، ويقلل من المبالغ الحكومية المرصودة لها؛ ومن جهة أخرى يوفر لأهل الخير قنوات للوقف، بحيث يعرفون أين يضعون أموالهم، وسُبُل إنفاقها بطرق شرعية وصحيحة؛ لذلك أطالب بإنشاء قسم في وزارة العمل للتنسيق في هذا الجانب.

في السياق نفسه، أكد د. سليمان الطفيل أن الوقف له إسهامات في عملية التنمية الاجتماعية لا تخفى على أحد، فإسهام الوقف في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية لم يعرف حدودًا جغرافية ولا تقاليد وعادات عنصرية؛ بل جاء منطلقًا في جميع نواحي الحياة، مستمدًا قوته ومبادئه من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف الذي بُعث به نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- للعالمين جميعًا. فكان للوقف من هذا الدين العظيم حظٌّ كبيرٌ، حيثُ تعددت تطبيقاته وذاع صيته بين المجتمعات الإسلامية أينما وُجدت. وإنَّ الجزء المهم في ملامح وتطبيقات الوقف داخل المجتمعات الإسلامية أنَّه يُمثّل مصدرًا ماليًّا واقتصاديًّا تشيع به روح التعاون والتكاتف بين المسلمين مع بعضهم البعض أينما وُجدوا، وأنه إلى جانب اكتسابه صفة الشمولية والمرونة في العمل والممارسة؛ إلا أنه يتميز بالقدرة على النماء والاستدامة إذا ما تمَّ تطبيقه بشكل يَضمن له ذلك.

وأهم وظيفة للوقف الإسلامي منذ أن بزغ ظهوره والعمل به، دوره في تعزيز المسؤولية الاجتماعية بين أفراد المجتمعات الإسلامية. وأكثر الأعمال الجليلة التي يقوم بها الوقف تقديم كافة أشكال المساعدة، وبخاصة السكن والعلاج والأكل والشرب واللباس، ومساعدة الفقراء وكبار السن والعجزة والأطفال، والصرف على العلماء والمعلمين، وأولاد الفقراء وتعليمهم وتدريبهم، والتكفل بمصاريف النساء الأرامل والمطلقات وأولادهم، ومساعدة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة.

كما مارس الوقف وظائف عن الحكومات داخل المجتمعات الإسلامية، مثل: المساهمة في تأسيس البنية التحتية كالمياه والكهرباء والطرق والأنفاق والجسور والسدود، وتقديم الخدمات الأساسية، مثل: التعليم، والصحة، والتدريب…إلخ.

وأختمُ بمسألة مهمة؛ وهي أن الوقف في الوقت الراهن أخذ يتشكل داخل المجتمعات الإسلامية من خلال المساهمات العديدة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبدأت تتضح معالم دوره في الاقتصاد والمجتمع من خلال قدرته على تأسيس كيانات وقفية؛ كالمؤسسات والشركات الوقفية، وكذلك تأسيس الصناديق والمحافظ الوقفية.

الجامعات السعودية والأوقاف:

يرى د. إبراهيم البعيز أن الأوقاف مطلبٌ أساسيٌّ لضمان الاستقلالية المالية والإدارية للجامعات السعودية، فالاعتماد على ميزانية الدولة يكتنفه تذبذبات لا تضمن للجامعة الاستقرار المالي الذي يساعدها في التنافسية على المستوى العالمي أو المستوى المحلي. وقد أدركت الجامعات العالمية منذ وقت مبكر أهمية الاستقلالية المالية لضمان الإنجاز العلمي، وحرصت على الأخذ بمبدأ الأوقاف.

شهد خطابنا الأكاديمي مؤخرًا عددًا من المفردات والمصطلحات التي تنمُّ في مجملها عن رغبة في التميز في أداء الجامعة لرسالتها، بكل أبعادها التعليمية والبحثية والاجتماعية، ومن ذلك تسابق بعض جامعاتنا وتنافسها للفوز بمراكز في التصنيفات العالمية، وإطلاقها عددًا من المبادرات للكراسي البحثية، وإعادة هيكلة الخطط الدراسية للكثير من برامجها الأكاديمية لتفي ببعض متطلبات الاعتماد الأكاديمي. هذا التميز له شروط ومتطلبات تتجاوز مجرد الرغبة والتمني، ومن أبرز هذه المتطلبات أن يكون للجامعة استقلالية إدارية ومالية، وهذا ما تفتقده- وللأسف- كل الجامعات السعودية، والاستثناء الوحيد في ذلك جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية.

وبسبب الاعتماد الكلي على ميزانية الدولة، فقد كانت أبسط أساسيات التعليم والبحث العلمي تحت رحمة موارد ومصادر مالية يتحكم فيها مسؤولو وزارة المالية، أمَّا مديرو الجامعات فلم يكن بأيديهم سوى التسلُّح ببعض عبارات الترجي ومهارات الإقناع. معلومة قد لا يعرفها الكثير أن الجامعات السعودية اضطرت خلال تسعينيات العقد الماضي إلى تخفيضات هائلة في بنود البحث العلمي، ومنها- على سبيل المثال- عجز المكتبة المركزية في إحدى الجامعات عن تجديد اشتراكها في عدد من الدوريات العلمية.

اطلعت قبل ست سنوات على أوقاف جامعة هارفارد الأمريكية، وكانت تصل إلى 32 مليار دولار، وكانت وقتها تزيد عن رؤوس أموال البنوك السعودية مجتمعة. وعلى المستوى المحلي، لجامعتي الملك فهد للبترول والمعادن والملك سعود الريادة في إدخال مفهوم الأوقاف الجامعية، من خلال مشاريع الكراسي الوقفية البحثية. كما قامت جامعة الملك سعود مؤخرًا بالبدء في مشرف وقف الجامعة، الهادف إلى تعزيز الموارد المالية الذاتية للجامعة، والمساهمة في الأنشطة التي من شأنها دعم أنشطة البحث العلمي فيها.

أضاف د. سليمان الطفيل بأن هناك تأخُّرًا كبيرًا في هذا المجال، وقد تنادت وتوالت المؤتمرات والندوات الوقفية في الداخل والخارج من عالمنا الإسلامي على أهمية دور الأوقاف في دعم العملية التعليمية، والتجارب الغربية من عشرات السنين كجامعة هارفارد التي قامت على أوقاف بمبالغ زهيدة جدًّا من الدولارات قبل عام ١٨٩٠م حتى انتهت إلى جامعة عريقة من أكبر جامعات العالم اليوم.

ولعل مبادرة الصناديق الوقفية التي نتحدث عنها اليوم ستكون أحد المفاتيح لتلك الأبواب الموصدة أمام دعم المشاريع والبحوث والبرامج العلمية بكافة أنواعها، وعلى مختلف مستويات التعليم، بدءًا من التعليم بالتلقين إلى التعليم العالي والبحوث والابتكارات العلمية؛ بل ندعو كذلك إلى تأسيس صناديق وقفية في عدة مجالات تصبُّ في التنمية البشرية، والتنمية الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، والصناعية، والزراعية،…إلخ، طالما كان ذلك يَصُبُّ في خدمة وبناء وقوة المجتمع، بل وينطبق عليه ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا” وشبَّك بين أصابعه”.[أخرجه البخاري، حديث رقم 481].

أهمية الوقف في القطاع الصحي:

ذهب د. سليمان الطفيل إلى أنه ليس هناك حدودٌ للتنمية الوقفية طالما أن مصارفها تصبُّ في أبواب الخير كافة، ومن أروع صور التنمية الوقفية وأكثرها مساسًا بحياة الفرد والمجتمع الأوقاف الصحية. فقد ظهرت قديمًا صور عديدة للمارستانات والبيمارستانات والحمامات العامة للعلاج في العديد من الدول الإسلامية والعربية؛ منها – على وجه الخصوص- ما في بلاد الشام والرافدين ومصر، وما زال بعضها منذ مئات السنين قائمًا إلى الآن، ويقوم بخدمة الناس المرضى ومرافقيهم ورعايتهم، ومن أشهر الأوقاف الصحية:

– مستشفى الوليد بن عبد الملك سنة 88 هجرية في دمشق.

– مستشفى الرشيد في بغداد سنة 193هجرية.

– مستشفى أم الخليفة المقتدر بالله ببغداد 203هجرية.

– مستشفى النوري الكبير بدمشق 568 هجرية.

– مستشفى قلاوون بمصر بمدينة القاهرة 673هجرية.

لقد توالت المستشفيات الوقفية الكبيرة والصغيرة وحتى مراكز العلاج المتنقلة بين المدن، وظهرت مدن طبية وقفية بأكملها، كما في سوق المارستان ببغداد، وهو مجمع للعيادات والصيدليات ومساكن للأطباء والمرافقين للمرضى في أحد أحياء بغداد.

وليست الأوقاف الصحية قاصرة على بناء المستشفيات وتجهيزها، وتوفير العلاج، ورعاية المرضى، وتسكين المرافقين؛ بل اهتمت الأوقاف الصحية بالتعليم الطبي والبعثات العلمية الطبية ورعايتها.

ونماذج كثيرة في عصرنا الحاضر من ملوك وأمراء وموسرين ومن عامة الناس وهبوا بعضًا من أموالهم في الأوقاف الصحية وساهموا فيها، وكانت وسائل التقنية الحديثة وتطوُّر الأدوات التمويلية والصناديق الاستثمارية من أهم مجالات دعم الأوقاف الصحية، حيث تسهم هذه القنوات في التسهيل على الناس وقف أموالهم في شكل تحويلات أو مساهمات أو أسهم وقفية، حتى أصبحت الأوقاف دعامة أساسية من دعائم التنمية البشرية في المجتمعات الإسلامية. وبهذه المناسبة، ندعو إلى إطلاق صندوق الوقف الصحي الذي تبنته وزارة الشؤون الإسلامية مع وزارة الصحة قبل 15 سنة تقريبًا، والذي يرمي إلى تأسيس صندوق وقفي صحي تشارك فيه الدولة ويشارك فيه أهل الخير في المجتمع، وذلك من خلال أسهم وقفية تُخصَّص في دعم القطاع الصحي للعلاج والوقاية والرعاية، وَتُبنى من خلاله مستشفيات ومراكز طبية بعدة مدن وهجر.

كما أنني أرى أن مشاركة الأوقاف في البنية التحتية للقطاع الصحي وفِي الخدمات والرعاية الصحية أصبحت اليوم مطلبًا مهمًا من أهم المطالَب التي يحتاجها المجتمع للمشاركة والتعاون على الخير، وبخاصة إذا ما أدركنا حجم توسُّع مطالب النفقات الصحية اليوم، وتنوُّع احتياجات الناس لهذه الخدمات. كما أنَّ رؤية 2030م تتجه إلى رفع معدلات مستوى الصحة في المملكة، ورفع متوسط عمر الحياة لكل مواطن إلى 80 سنة، وهذا مدعاة لتكاتف الجهود على كافة المستويات من الدولة والقطاع الخاص والقطاع الثالث والأفراد للمشاركة في هذا العمل الجليل؛ ألا وهو الوقف الصحي. أجر دائم ومجتمع قوي.

دور الصناديق الوقفية في تمويل وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة:

في اعتقاد د. نوف الغامدي؛ أنَّ النظر لحال الأوقاف منذ سَنِّها إلى وقتنا الحاضر، سيظهر أنها لا تخلو من ثلاث حالات، من تلك الحالات قد نذكر الأوقاف المخطّطة، وهي أوقاف يريد الواقفون وقفها، إلا أنهم يبحثون عن صيغ معاصرة، تحقق لهم ضمان استمرارية استثمار أوقافهم وتنميتها، والواضح من شروط الوقف وأركانه، إن للواقف أن يُوقف من ماله القابل للوقف ما شاء، وأن يشترط ما شاء من الشروط التي لا تخالف كتاب الله وسنة رسول الله، فمن أهم ما يُسمح للواقف هو أن يشترط في وقفه ما يضمن بقاءه وتنميته والحفاظ عليه؛ كأن يجعل جزءًا من مداخيله لعمارته وصيانته والحفاظ عليه، أو أن يحيل إلى الناظر حسب ما يراه ليختار ما يراه مجديًا لمصلحة الوقف من الوسائل المختلفة للاستثمار. ومن الحالات أيضًا الأوقاف القائمة المنصوص عليها، وهي تلك الأوقاف القائمة، التي نصَّ الواقفون في شروطهم على استثمارها بصيغ استثمارية نافعة مجدية، وخصّوا في شروطهم جزءًا من ريع أوقافهم لتنمية أصول أوقافهم. والأوقاف القائمة غير المنصوص عليها، وهي تلك الأوقاف القائمة ولكنها جاءت بمعزل عن شروط الواقف فيما يتعلق باستثمارها؛ لذا فإن هذا الأمر يحتم البحث في حكم استثمار هذه الأوقاف بصيغ استثمارية مناسبة، وعليه فإن المطالب الأخرى ستبحث في حكم استثمار أصول الوقف، وحكم استثمار ريع الوقف، أو في تخصيص جزء من ريع الوقف لتنميته.

كما أن الانتفاع بفكرة الصناديق الوقفية يحتاج إلى وجود الهيكل النظامي القادر على حماية الأوقاف النقدية، وإحكام الرقابة عليها، وتنظيم عمل نُظّار الوقف، واستيعاب المستجدات الحديثة في الإدارة والقانون لتحقيق هذا الغرض، من ذلك: وجود نظام يسمح بتسجيل صناديق الوقف، فوقف العقار معروف، وقد تطورت على مرِّ السنين طرق تسجيله والإشراف عليه. أما صناديق الوقف والأوقاف النقدية فهي تحتاج إلى نظام خاص بها، يبين طُرق تسجيلها، والهيكل الإداري المطلوب لهذا التسجيل، وتوثيق جهة الانتفاع بها، وتحديد المتطلبات النظامية لأغراض الرقابة، ويجب أن يتضمن النظام نصوصًا تتعلق بتحديد جهة التسجيل، وجهة الرقابة، وكيف يتكون مجلس إدارة الوقف، وطريقة اختيار أعضائه، والميزانيات السنوية والتدقيق المحاسبي والمراجعة. ووجود نظام للنظارة على الوقف أيضًا من الأمور التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، فقد اعتاد الناس على أن الناظر على الوقف شخصٌ طبيعي يوليه الواقف هذه المهمة، يقوم بها تحت إشراف القاضي، والحقيقة أن صناديق الوقف تحتاج إلى ولاية شخصية اعتبارية كالمؤسسات المالية ونحوها، يستحق لها الاستمرار والاستقرار، وقد أصبح من المقبول الشخصية الاعتبارية المتمثلة في الشركات المساهمة وغيرها التي أُعطيت الأهلية للتصرُّف بما يشبه الشخصية الطبيعية، ويمكن أن تنشأ هذه الشخصية الاعتبارية لغرض إدارة الوقف والنظارة له وتختص بذلك، وربما جُعلت النظارة لإحدى المؤسسات التي تتولى استثمار الأموال وتوجيه الريع إلى جهة الانتفاع، ويحتاج هذا إلى نظام خاص يصدر لهذا الغرض. وأيضًا تطوير طرق الرقابة على الوقف من الأمور المهمة، فالصناديق الوقفية تحتاج إلى إحكام الرقابة على عمل هذا النوع من الأوقاف، وإنشاء جهة مركزية مهمتها الأساسية الرقابة الصارمة على هذه الصناديق، فهذه الصناديق هي مؤسسات مالية تشبه المصارف وشركات المال، وهي تحتاج في نظام الرقابة عليها هيكلًا شبيهًا بهيئة سوق المال الذي يشرف على القطاع المصرفي، ولابد من التركيز على دور الصناديق الوقفية في إحياء سنة الوقف، فلا يخفى ما لنظام الوقف في الإسلام من منافع علمية وخيرية كبيرة. كما أنَّ هناك مصالح عامة أخرى غير مادية، لها شأن كبير في الوزن التشريعي.

إنَّ تفعيل دور الصناديق الوقفية في تمويل وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة أمرٌ مهم، ولابد من اتخاذ خطوات مهمة في هذا المجال؛ لما له من أهمية، خصوصًا في ظل التوجهات الاستراتيجية الحاليّة؛ كضرورة العمل على إنشاء وتعميم صناديق وقفية متخصصة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة بواسطة تبرعات صغيرة (صكوك الوقف)، والتي يمكن أن تُخصَّص لإنشاء وُقُوف تبعًا للأغراض التي يبتغيها الواقفون، وكذا التوسُّع في إصدار الصكوك الوقفية تمكينًا لذوي الدخل المحدود من إحياء سنة الوقف ونيل ثوابه، بوقف ما يدخل تحت طاقتهم المالية، ووضع الضوابط الشرعية لإصدار وتسويق وتداول واستثمار الصكوك الوقفية بما يزيد من ثقة الناس، وإنفاق ريع كل صندوق في مجال البر الذي يختاره المشاركون فيه، والتنسيق بين الصناديق الوقفية وفيما بينها وبين المؤسسات ذات الصلة وفيما بينها وبين أجهزة الدولة المعنية، وأن يكون الوقف أحد المصادر الرئيسية لتمويل الجمعيات الخيرية وسائر المنظمات غير الحكومية، والاستغناء به عن الدعم الخارجي الذي لا يتلاءم مع مقاصدها.

ومن المهم إعداد وتنفيذ خطة إعلامية واسعة للتعريف والتوعية بأهمية الوقف بصفة عامة، وأهمية هذه الصناديق المقترحة بصفة خاصة، في تنمية وتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

الصناديق الوقفية والصناديق الاستثمارية الوقفية:

أشار د. عبد العزيز الحرقان إلى أن صناديق الاستثمار الوقفية هي كغيرها من الصناديق الاستثمارية تختلف باختلاف المستفيد من عائداتها. ونحن نفتقد لحوافز تنمية هذه الصناديق، ومن أهم هذه الحوافز الجانب الشرعي. وفي رأي د. سليمان الطفيل، أنه يجب ألا ننسى أن الوقف قبل كل شيء هو استثمار لما بعد الموت، يدوم أجره وعمله إلى يوم القيامة.

بينما ذهب د. مشاري النعيم إلى أن الصناديق الوقفية ليست مثل غيرها من الصناديق الاستثمارية؛ لأن الأصل في الوقف هو حبس الأصل. من جانبها ترى د. وفاء الرشيد أن الاستثمارات التي تحبس الأصل capital garentee هي استثمارات تضرُّ بالمستثمر وتنفع المشغل؛ لأنها تتركه بفتات لا يتعدى ٣٪، وهو رقم غير مقبول لأي مستثمر، في حين أن المشغل يستثمر المال لصالحه.

إلا أن د. سليمان الطفيل أشار إلى أنه ليس صحيحًا أنها تعطي عائدًا 3٪ فقط، وهذا استنتاج ضعيف؛ لأن الاستثمار يتم في مجالات متنوعة، فضلًا عن كونها تُعطي عوائد مباشرة تزيد عما ذُكر كثيرًا، إلا أنها تنعكس إيجابًا على تنمية المجتمع ونموه في مجالات عديدة.

وفي رأي د. منصور المطيري، فإن هناك فرقًا بين الصناديق الاستثمارية الوقفية والصناديق الوقفية، وأن أغلب الشواهد التي ذُكرت للثناء على فكرة الصناديق الاستثمارية الوقفية هي شواهد للصناديق الوقفية، مثل وقف هارفارد مثلًا. ويظهر لي أن الفرق بين الصندوقين: هو أن الصندوق الوقفي تُنشئه الجهة التي تستلم المال والتي هي مصرف الوقف، وهي التي تستثمره بنفسها أو عن طريق غيرها، بينما الصندوق الاستثماري يبدأ بتحديد الواقف مصرف وقفه، الذي هو عبارة عن مبلغ نقدي (وقف نقود)، ولكنه لا يدفع المال الموقوف إلى المصرف الذي حُدّد؛ بل يعطيه لصندوق يستثمره تحت إدارة (شخص) لا علاقة له بالجهة المستفيدة من الوقف، ولكن ريع الوقف يؤول إلى هذه الجهة، وقد يؤول أصل الوقف إليها حينما يتوقف المدير عن الاستثمار.

الحقيقة، أنه لا اعتراض لي على أي منهما؛ لأنهما شكلان لتنمية الوقف وزيادته، ولكل منهما ميزاته وعيوبه، فمن ميزات صندوق الوقف الاستثماري خضوعة للرقابة والتدقيق، ووجود شفافية في جميع مراحله. بينما يخضع الصندوق الوقفي لمستوى أقل من الرقابة والشفافية، ومن هنا تأتي أهمية تطوير آلية للرقابة على مثل هذا الأسلوب. ومن ميزات الصندوق الوقفي- كما أظنُّها- حرية الناظر أو المدير في اختيار أساليب الاستثمار وتنمية الوقف، بينما تضيق- في ظني- أساليب الاستثمار في الصندوق الاستثماري للوقف، بحيث تكاد تنحصر في الاستثمار قليل المخاطر، وفي مجال اختصاص المدير.

وفي نظري أن الوقف الاستثماري ضرورة، ومن هنا تأتي أهمية وجود مديري صناديق مهرة وأصحاب خبرة في استغلال كل فرصة ممكنة في الأسواق المحلية أو العربية أو العالمية، مع إدراك تام لطبيعة الوقف الذي لا يحتمل المجازفة.

كلنا ندرك أهمية الوقف ولكن ما نغفل عنه أحيانًا أنَّ مصدر الوقف الذي لا ينضب ليس هو استثماره، ولكنه تلك الروح الراغبة في الأجر والمتجددة والمرتبطة أشد الارتباط بالتربية الإيمانية، فالمجتمع المسلم يحركه الإيمان؛ ولذلك يجب أن لا نغفل كمجتمع عن تزكية هذه الروح ليستمر العطاء، خصوصًا بعد أن تزايد الوعي بالدور التنموي الشامل والنافع الذي يؤديه الوقف.

وفيما يتعلق بالإشكالية الفقهية لبعض جوانب الوقف خصوصًا في جانب تنمية الوقف واستثماره، أقترحُ القيام بحملة توعية للواقفين يقوم بها علماء الشريعة والمحامون تحت إشراف الهيئة، تركِّز على ضرورة الانتباه للشروط التي عن طريقها يمكن أن تُحلّ أغلب الإشكالات، فالواقف يمكنه السماح بالتصرُّف في الوقف لصالح الغرض الذي يريده، من خلال التحكم والتوسُّع في صياغة الشروط بخصوص استثمار الوقف وتبديله، أو غير ذلك.

عقب د. سليمان الطفيل على ذلك، وذكر أن د.منصور ميَّزَ بين نوعين من الصناديق، وهما الصناديق الوقفية وصناديق الاستثمارات الوقفية؛ وأوضح بأننا نتحدث عن صناديق الاستثمار الوقفية التي كانت مبادرة من الهيئة العامة للأوقاف، وصدر بشأنها تعليمات الترخيص والتأسيس، وليس هناك ما يعرف لدينا بالصناديق الوقفية التي طُبِّق بعضٌ منها في بعض الدول الإسلامية، وأشهر مَن طبَّقها دولة الكويت. ومن ذلك- على سبيل المثال لا الحصر-:

– صندوق وقف القرآن.

– صندوق وقف المساجد.

– صندوق وقف التنمية الاجتماعية.

وليس صحيحًا ما ذُكر فيما يتعلق بضيق آليات الاستثمار في صناديق الاستثمار الوقفية، وانحصارها في استثمارات قليلة المخاطر، ودليل ذلك صندوق الإنماء وريف الوقفي اعتمد الاستثمار عالي المخاطر، وفِي رأس المال الجريء كذلك. ومَن يتصور أن صناديق الاستثمار الوقفية ضيقة الأفق الاستثماري فقد جانبه الصواب.

الوقف والاستثمار عالي المخاطر:

تساءل د. منصور المطيري: هل الاستثمار عالي المخاطر يتناسب أصلًا مع الغرض من الوقف الذي لا يتحقق إلا بالحفاظ على الأصل؟ وأقصدُ أن الاستثمار عالي المخاطر رغبةً في عائد مرتفع مهما كان مغريًا يعني أن احتمال الخسارة موجود بنسبة كبيرة في هذا النوع من الاستثمار؛ مما يُهدِّد وجود أصل الوقف، خصوصًا أن تعليمات الترخيص تعطي المدير حق استثمار ٧٥٪ من وحدات الصندوق.

نحن ندرك أن للاستثمار أصولًا، وله رجاله وخبراؤه، ولكن أخشى أن تكون المخاطرة العالية طمعًا في الربح العالي هي وكزة موسى التي تقضي عليه. ومن هنا أتوقع أن تكون سياسات الاستثمار في الصناديق الوقفية الاستثمارية سياسة متحفظة وليست جريئة. كما أتوقع أن تعتمد سياسة التنوُّع في مجالات الاستثمار.

أمر آخر يتعلق بالمخاطرة العالية في استثمار أموال الوقف في حال الخسارة، هل يعتبر مدير الصندوق مفرطًا في هذه الحال؟ مثل هذه الملاحظات لا يُقصد بها تضييق الأفق للاستثمار أمام هذه الصناديق  بقدر ما هي تنبيه على ضرورة الواقعية في الاستثمار.

اتفق د. سليمان الطفيل مع ما ذُكر من أنَّ خطورة الأخذ بخيار الاستثمار عالي المخاطرة ليس من مصلحة الوقف. ونحن ندرك أن درجات المخاطرة: (منخفضة– متوسطة– عالية)، لكن تبقى سياسة توزيع وتنويع الاستثمار مهمّة كذلك في هذا الجانب. وفِي ظني أن “صندوق الإنماء وريف الوقفي”- كما ذكرتُ- نموذجًا لن يدخل في هذا النوع من الاستثمار في أولى مراحله، فقد يكون في مراحل متقدمة، بمعنى يكون الاستثمار عالي المخاطر من ريع الصندوق وليس من الأصل، وهذا المُفترض أن يُعمل على أساسه حفاظًا على أصل الوقف واستدامته.

أمَّا بالنسبة في حال الخسارة، فإنه لا يكون مفرطًا إلا إذا خرج عن شروط الاستثمار المنصوص عليها، وتجاهل العمل بها أو بشيء منها، أمَّا الخسارة فليس هناك ضمان للاستثمار في الشرع، فالاستثمار دائمًا مُعرّض للمخاطر حتى لو كانت منخفضة.

أسباب إنشاء الصناديق الوقفية وتغييرات تنظيمية مطلوبة:

ذهب د. مساعد المحيا إلى أن قضية الجدوى الاقتصادية لصناديق الاستثمار الوقفية تظلُّ من القضايا التي تشغل العديد من أصحاب رؤوس الأموال، بوصفها قناة استثمارية قانونية مهمة لهم. لكن ثمة تساؤلات أحسبُها مهمة: كيف ينظر كبار رجال الأعمال لدينا لهذه الصناديق؟ وهل هناك مؤشرات على هذا؟ وهل فكرة إنشاء الصناديق هي مطلب الواقفين وبخاصة الذين أوقفوا مئات الملايين، أم هي  نتيجة وجود مشكلات في الأوقاف المتقادمة، أم هو إجراء تنظيمي الغاية منه ضبط المصروفات المالية وحوكمة مجالسها؟ كيف يُتوقع حجم الإقبال على هذه الصناديق في ضوء تخوُّف البعض من عدم إشرافه عليها، أو المشاركة في ذلك؟ عمليًّا، هل يمكن أن يكون الصندوق لواحد، خاصة إذا كان ذا ملاءة مالية؟ وحين يرغب الواقف في أن يكون المجلس لهذا الصندوق أعضاء يختارهم هو وأسرته، هل ستمضي الهيئة ذلك بوصف أن هذا ماله؟ وحين لا يتحقق هذا، ألا يُتوقع أن يكون هذا سببًا في دفع البعض إلى ترحيل الوقف لصناديق دول مجاورة، مثلًا؟

وفق ما أشار إليه بعض الزملاء حول الأحكام الشرعية المتعلقة بالوقف، وأهمية إعادة النظر في تحقيق مناطاتها على نحو يتفق والمتغيرات الخاصة بهذه الصناديق، فإنني أتطلع إلى أن تتوسع دائرة بعض مجالات مصارف هذه الصناديق المجتمعية..حدودها وطبيعتها. وأن يكون هناك تنظيمات مناسبة يمكن على ضوئها جعل مصارف هذه الصناديق واسعة، وأن تكون الجهات القضائية والإدارية التي ترتبط بها تمتلك سعة في الأفق وقدرة على إتاحة التغيير، بعيدًا عن البيروقراطية.

التوصيات:

– أن تقوم الهيئة العامة للأوقاف بتشجيع ونشر فكرة هذه الصناديق، وتسهيل متطلبات تأسيسها عبر بوابتها الإلكترونية، بالإضافة إلى دعوة المختصين عبر اللجان والمراكز الوقفية؛ للتعريف بهذه الصناديق وانعكاساتها الإيجابية على الواقفين والمنتفعين من الأوقاف.

– أن تبادر الإدارات العليا في الكيانات غير الربحية لتأسيس صناديق استثمار وقفية؛ لدعم مشاريعها، وتغطية المصاريف التشغيلية السنوية مع التوسع في مجالات عمل الخير والبر.

– عقد دورات تدريبية وتثقيفية لمسؤولي القطاع غير الربحي والمتطلعين للأوقاف لتأسيس صناديق الاستثمار الوقفية، من خلال المعاهد والمراكز التدريبية والمراكز الوقفية المتخصصة.

– البدء في إقرار الشركات الوقفية، مع أهمية عقد تحالفات بين الكيانات غير الربحية المتماثلة في النشاط والأهداف لتقليل التكلفة وتوفير فرص أكبر للعمل، مع الأخذ في الاعتبار الكيانات المتواجدة معًا داخل مناطق أو محافظات واحدة، حتى يسهل الربط فيما بين العمل، ويقوي من مراكزها التفاوضية والتنافسية.

– إعادة النظر في التشريعات الفقهية الخاصة بالوقف، مع ضرورة توسيع وتطوير الرأي الديني والاستعانة بآراء الفقهاء في شتى بقاع العالم فيما يخصُّ ملامح هذه الجدوى الاقتصادية. إذ إنَّ الأوقاف عمومًا هي شأن ديني غير ربحي، وقد يستنكر البعض تحويله إلى مشاريع اقتصادية بحتة.

– إعادة النظر في مجلس النظارة وتطوير آليات جديدة لإدارة الأوقاف. وضرورة إعطاء نظار الأوقاف اهتمامًا خاصًا فيما يتعلق بأدوارهم المتعارف عليها، وكيفية تطوير أدائهم ليواكب التطوير الحاصل في نظام الوقف الإسلامي، وخاصة ما يتعلق بأمور الاستدامة.

– تأصيل مفهوم استدامة الأوقاف، وعمل دراسات في هذا المجال.

– ضرورة تشجيع الأوقاف الثقافية والمهنية والعلمية، وتوسع دائرة الأوقاف إلى ما يواكب حاجة العصر الحالي والمستقبلي، مثل: الأوقاف البحثية، أو المستشفيات والمراكز الطبية، والمعاهد المتخصصة التقنية والعلمية والدينية، وغيرها. وكذلك الأوقاف للمشاريع التنموية والبنى التحتية.

– الأوقاف الإسلامية لا يجب أن يقتصر دورها على البلدان الإسلامية فحسب، بل أينما وُجِدَ مسلمون ومسلمات على ظهرالأرض، وهذا يتطلب وضع ضوابط وقوانين مرنة تسهل أداء الأعمال الوقفية التوسعية.

– حث الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني غير الربحية على الاستثمار في صناديق الوقف الاستثمارية؛ لضمان استمرارية تغطية المصاريف الإدارية، والتوسُّع في أعمال هذه الجهات.

– توعية المجتمع بأهمية المشاركة في صناديق الوقف الاستثمارية بتبسيط لغة الخطاب. وكذلك العمل على توعية المُوقِفين لفتح مجالات الوقف على أنشطة متعددة.

– التركيز على أن تكون مشاريع صناديق الأوقاف الاستثمارية ماثلة للعيان على أرض الواقع، ووجود شريحة واسعة من المستفيدين فعلًا يشجع الواقفين على المشاركة في صناديق الوقف الاستثمارية.

الملخص التنفيذي:

القضية: (الجدوى الاقتصادية لصناديق الاستثمار الوقفية).

تتطلع الهيئة العامة للأوقاف لأن تكون الداعم الرئيس للنهوض بقطاع الأوقاف في المملكة العربية السعودية، وتعزيز دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفقًا لمقاصد الشريعة الإسلامية والأنظمة ورؤية المملكة 2030. لذلك أطلقت الهيئة العامة للأوقاف أولى مبادراتها التنموية المتمثّلة في مشروع الصناديق الاستثمارية الوقفية، وتهدف هذه الصناديق للإسهام في تلبية الحاجات المجتمعية والتنموية، ورفع مساهمة القطاع غير الربحي في الناتج المحلي، وزيادة معدلات الشفافية في الأنشطة غير الربحية بناءً على التزام الصناديق بالمتطلبات الواردة في لوائح صناديق الاستثمار الصادرة من هيئة السوق المالية.

أوضحت الورقة الرئيسة أن أهمية صناديق الاستثمار الوقفية تأتي باعتبارها الوعاء الذي يمكن للواقفين أيًّا كان حجم أموالهم أو عددهم أن يكتتبوا فيها بوحداتهم الوقفية للأهداف التي يرغبون فيها أو يساهمون في دعمها والوقف عليها بجزء يسير من أموالهم صدقةً وبرًّا لهم عند الله تعالى إلى يوم القيامة.

وأشارت الورقة إلى أنَّ أهم ملامح الجدوى الاقتصادية لصناديق الاستثمار الوقفية تتمثل في: توسيع مشاركة قطاع الأوقاف في مجالات اقتصادية واجتماعية عديدة، تندرج تحت مفهوم الشراكة أو المسؤولية المجتمعية كأحد الأهداف الاستراتيجية لرؤية المملكة 2030، تنوُّع مجالات الاستثمار الوقفي في الصناديق الاستثمارية المتعددة الأغراض، ورفع مستوى إنتاجية القطاع الوقفي ضمن القطاع غير الربحي للاقتصاد في الناتج القومي والدخل.

وذهبت التعقيبات إلى أهمية وجود برامج الاستدامة المالية للأعمال الخيرية، ومنها الصناديق الوقفية الاستثمارية، وأن هذه الصناديق الوقفية ستكسر حالة الفردية في العمل الوقفي.

وأكدت التعقيبات أن الاستثمار الوقفي يحتاج إلى أفكار جديدة خارج الصندوق مع مراجعة عميقة للتجربة التاريخية الممتدة لأربعة عشر قرنًا، وهي تجربة فريدة ومهمة فيها كثير من الإيجابيات وبعض السلبيات. كما أن التحوُّل من الوقف التقليدي إلى الصناديق والشركات الوقفية سيوسّع من نشاطات الوقف الاستثمارية، وسيجعل منه أحد العناصر الاقتصادية المهمة التي سيكون لها إسهامٌ واضحٌ في التنمية الاجتماعية بشكل عام.

وأشارت المداخلات التي جرت على هذه الورقة إلى أن نجاح واستدامة الأوقاف بأنواعها يتطلب وجود معايير واضحة للحوكمة الداخلية قابلة للتطبيق والمتابعة، لا تقل عن تلك المعمول بها في الشركات المساهمة، وذلك حتى يثق المجتمع في جودة إدارتها وتحقيق أهدافها.

وأشار المناقشون إلى أن الأوقاف ما زالت تعاني الكثير من المعوقات النظامية والإجرائية والقضائية…إلخ. ولهذا يصعب علاجها في الفترة الحالية بشكل كلي إلا من خلال مبادرات وقفية كالصناديق والكيانات الوقفية، وعلى هذا الأساس فإن تفعيل الدور التنموي للأوقاف يتطلب مشاركتها في مجالات تنموية متنوعة، وهو ما يمكن عمله من خلال فتح صناديق وقفية عديدة من خلال الكيانات الوقفية والخيرية في القطاع غير الربحي.

وفي نهاية النقاش، طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: ضرورة أن تقوم الهيئة العامة للأوقاف بتشجيع ونشر فكرة هذه الصناديق وتسهيل متطلبات تأسيسها عبر بوابتها الإلكترونية، بالإضافة إلى دعوة المختصين عبر اللجان والمراكز الوقفية للتعريف بهذه الصناديق وانعكاساتها الإيجابية على الواقفين والمنتفعين من الأوقاف. أن تبادر الإدارات العليا في الكيانات غير الربحية لتأسيس صناديق استثمار وقفية؛ لدعم مشاريعها، وتغطية المصاريف التشغيلية السنوية مع التوسع في مجالات عمل الخير والبر. عقد دورات تدريبية وتثقيفية لمسؤولي القطاع غير الربحي والمتطلعين للأوقاف لتأسيس صناديق الاستثمار الوقفية. عقد تحالفات بين الكيانات غير الربحية المتماثلة في النشاط والأهداف لتقليل التكلفة وتوفير فرص أكبر للعمل. إعادة النظر في التشريعات الفقهية الخاصة بالوقف. إعادة النظر في مجلس النظارة وتطوير آليات جديدة لإدارة الأوقاف، وضرورة إعطاء نظّار الأوقاف اهتمامًا خاصًا فيما يتعلق بأدوارهم المتعارف عليها. تشجيع الأوقاف الثقافية والمهنية والعلمية، وحث الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني غير الربحية على الاستثمار في صناديق الوقف الاستثمارية؛ لضمان استمرارية تغطية المصاريف الإدارية والتوسُّع في أعمال هذه الجهات، بالإضافة إلى توعية المجتمع بأهمية المشاركة في صناديق الوقف الاستثمارية بتبسيط لغة الخطاب. وكذلك العمل على توعية المُوقِفين لفتح مجالات الوقف على أنشطة متعددة.

 

القضية الرابعة:

 

الورقة الرئيسة: التصحُّر والاعتداء على البيئة في المملكة

مقدمة:

يُعدُّ التصحُّر أحد التحديات البيئية التي تواجه المملكة العربية السعودية، وتبذل المملكة جهودًا طيبة في مكافحة التصحُّر، والعمل على تخطي هذا التحدي بمزيد من الجهود الرامية إلى تطبيق اتفاقية مكافحة التصحُّر وغيرها من الآليات، وهو ما تهدف إليه رؤية المملكة 2030 في سعيها نحو تحقيق استدامة بيئية.

وتُصنَّف المملكة العربية السعودية ضمن الأقاليم الجافة المتأثرة بشدة من ازدياد آثار التصحُّر على جميع مناطقها باستثناء المنطقة الجنوبية الغربية التي تقع ضمن المنطقة شبه الجافة بسبب تعدد مواسم الأمطار بها وتعرُّضها لكميات عالية من الأمطار، وتظهر آثار التصحُّر في معظم أرجاء المملكة؛ مما أدى إلى تدهور الأراضي المنتجة، وتضاعف آثار التصحُّر. ونظرًا لما تزخر به أراضي المملكة العربية السعودية من الموارد الطبيعية الغنية والمتنوعة التي تشكِّل القاعدة الأساسية لاقتصادها ومعيشة سكانها، إلا أن تلك الموارد بدأت تتصف بالهشاشة نتيجة لظروف بيئية قاسية من المناخ الجاف وشبه الجاف والتربة غير الخصبة في معظم الحالات، وأصبحت هذه الموارد تُعاني من تدهور كبير؛ الأمر الذي أدَّى إلى انتشار ظاهرة التصحُّر.

لذا تُعدُّ قضية (التصحُّر والاعتداء على البيئة في المملكة) من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدَّمها د. خالد الرديعان، وتمَّ التعقيب على موضوع الورقة، وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (التصحُّر وتأثيره على الإنتاج الزراعي، اهتمام رسمي بمشكلة التصحُّر، بعض الرؤى لمواجهة ظاهرة التصحُّر، مبادرة أمانة منطقة الرياض لتشجع الأفراد على الزراعة، النتائج البيئية والاقتصادية والاجتماعية للتصحُّر، تنامي التصحُّر واختلال التوازن البيئي، رؤية 2030 والتوسُّع في المحميات، الأنشطة البشرية وضعف الوعي البيئي من أهم عوامل التصحُّر، بعض الأفكار لإصلاح السلوك البشري المتسبب في التصحُّر، الاستفادة من مياه الوضوء في زراعة الأشجار). وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديد من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نصُّ الورقة التي كتبها الدكتور/ خالد الرديعان، وعقّب عليها الدكتور/ خالد الفهيد، والأستاذة/ علياء البازعي.

كتب د. خالد الرديعان: قبل الحديث عن “التصحُّر” عدو البيئة اللدود، لا بد من الإشارة إلى أن التنمية بمفهومها الشامل لا تعني فقط الاهتمام بالموارد الاقتصادية واستغلاها، لكنها أيضًا تشمل الحفاظ على البيئة وصيانتها والاستغلال الأمثل لمواردها؛ ما يؤكد ضرورة مواجهة مشكلة التصحُّر البيئي لضمان وجود تنمية شاملة تتوافق مع رؤية المملكة.

ووفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحُّر (١٩٩٤) التي دخلت حيز التنفيذ عام ١٩٩٦، فإن التصحُّر  desertification  يشير إلى “تدهور الأراضي في المناطق القاحلة وشبه القاحلة والجافة وشبه الرطبة؛ نتيجة لعوامل عديدة، منها التغيرات المناخية والأنشطة البشرية”.

وحسب تقارير الأمم المتحدة، تبلغ المساحات المتصحرة في العالم نحو ٤٦ مليون كيلو متر مربع، يخصُّ الوطن العربي منها زهاء ١٣ مليون كيلو متر مربع أو ما نسبته ٢٨٪ من جملة المناطق المتصحرة في العالم. ويعود ذلك التصحُّر بخسارة قُدِّرت بنحو ٤٠ بليون دولار سنويًّا في المحاصيل الزراعية وزيادة أسعارها، في حين قُدِّرت خسارة الدول النامية من التصحُّر بنحو ١٦ بليون دولار سنويًّا.

وتقع المملكة العربية السعودية ضمن المناطق الهشة والقابلة للتصحر بشدة؛ فمناخها جاف وصحراوي باستثناء أجزاء من المنطقة الجنوبية، علمًا أنَّ ١٪ من مساحة أراضي المملكة غابات (٢،٧ ملايين هكتار)، في حين تمثل المراعي ٧٠٪ من أراضي المملكة. وتشير مسوح وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية (١٤٣٨هـ) إلى أن هناك ١٣١ عائلة نباتية في المملكة تضمُّ أكثر من ٢٥٠٠ نوع نباتي مهددة بخطر التصحُّر بسبب تدهور التربة وانحسار الغطاء النباتي؛ الأمر الذي يترتب عليه كذلك تقلص التنوُّع الحيواني، والإخلال بالنظام الإيكولوجي.

ويمكن حصر أسباب التصحُّر في المملكة في عدة عوامل، وذلك على النحو التالي:

– التغيرات المناخية وتكرر موجات الجفاف.

– ارتفاع درجات الحرارة.

– الاستغلال المكثف للموارد الطبيعية.

– زيادة النشاط السكاني.

– الرعي الجائر  overgrazing والاحتطاب غير الرشيد.

– الانجراف المائي، وهبوب الرياح الذي يتبعه كذلك زحف الكثبان الرملية.

– الأساليب الزراعية الخاطئة.

وإذا ما استثنينا العوامل المناخية، وظاهرة الجفاف، وارتفاع درجات الحرارة، وزحف الرمال كعوامل يصعب التحكم بها، فإنه يتبين لنا أن النشاط البشري يعدُّ محوريًّا في حدوث التصحُّر؛ كاستغلال الموارد الطبيعية، والتوسُّع غير المدروس في الزراعة باستخدام أساليب ري خاطئة، والاحتطاب والرعي الذي يستنزف بعض المناطق، والزحف السكاني والعمراني على المناطق الزراعية، ونشاط البناء وما يتبعه من أنشطة معززة للتصحر، وعدم التخلص من النُّفايات بطرق علمية، ودخول الآلات التي تُحدث تلوثًا بيئيًّا.

لاحظت بهذا الصدد “دون شاتي” (١٩٩٦)، وهي خبيرة تنمية قامت بدراسات حقلية موسعة في سلطنة عمان ولبنان أن دخول السيارة إلى منطقة الخليج وبلاد الشام – على سبيل المثال – أسهم كثيرًا في تصحُّر بعض المناطق الرعوية التي تنمو فيها شجيرات ونباتات لا تحتاج إلى الكثير من الماء، ومن ذلك بعض الأودية؛ كأودية منطقة مكة المكرمة (أودية فاطمة ونعمان)، وأودية المنطقة الجنوبية (بيشة وتثليث) بالرغم من تعرض تلك الأودية لكميات أمطار كافية (وزارة البيئة؛ ١٩٣٨).

وهناك عدة جهات رسمية في المملكة معنية مباشرة بظاهرة التصحُّر؛ كوزارة البيئة والمياه والزراعة، والهيئة السعودية للحياة الفطرية، ووزارة الشؤون البلدية والقروية، والرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة، وهيئة المساحة الجيولوجية. وقد قامت الأخيرة بدراسات موسعة عن التصحُّر في المملكة، وتوصلت إلى عدة نتائج، ومنها:

أن التصحُّر ظاهرة عالمية ترتبط بالانحباس الحراري، وأن من الأهمية بمكان رصد هذه الظاهرة في المملكة بطرق الاستشعار عن بعد، وعمل مؤشرات قياس للتصحر، ورصد العوامل الهيدرولوجية والجيولوجية ذات العلاقة بالتصحُّر، وحصر طرق استخدامات الأراضي، وتحديد المناطق المعرضة للتصحر. وقد أوصت الدراسة بضرورة تعظيم الاستفادة من الجمعيات التطوعية ودورها في نشر الوعي البيئي، ودور وزارة البيئة والمياه والزراعة في التشجير  (هناك برنامج قائم لزراعة ٤ ملايين شجرة حتى عام ٢٠٢٠). كما ركزت توصيات الدراسة على أهمية توعية الجمهور بضرورة الحفاظ على البيئة؛ لما لذلك من مردود اقتصادي، فالتصحُّر- وحسب التقارير العالمية- يتسبب في الفقر والهجرة من الريف إلى المدن، مع ما تسببه هذه الهجرة من ضغط على موارد المدن وانعكاسات ذلك اقتصاديًّا وبيئيًّا؛ مما يؤثِّر على عملية التنمية الشاملة.

وأخيرًا؛ فإن موضوع التصحُّر تقني بحت، لكني أردت التأكيد على أن المملكة مهددة بشبح التصحُّر بسبب طبيعتها الجغرافية، وأنه من الأهمية بمكان بث الوعي على المستوى الشعبي والرسمي بخطورة هذه الظاهرة ومواجهتها بشكل جدي؛ للحد من تداعياتها، وللحفاظ على ما تبقى من مظاهر البيئة.

عقَّب د. خالد الفهيد: مهما اختلفت التعاريف للتصحر، فالأنسب للتعريف يجب أن يحتوي على العاملَيْنِ البيئي والبشري، إلا أنه يبقى مثل ما أطلق عليه د. خالد الرديعان “عدو البيئة اللدود”، وقد لخصت منظمة الأغذية والزراعة ( FAO) التعريف: مجموعة  من العوامل الجيولوجية والبيولوجية والبشرية والمناخية المؤدية إلى تدهور المقومات الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية للأرض في المناطق القاحلة وشبه القاحلة؛ مما يؤدي إلى التأثير على التنوُّع البيئي والمجموعات البشرية. ومثل ما أشار د. خالد، هناك أمورٌ مرتبطة بالعامل البيئي للمملكة يصعب التحكم فيها رغم أن هناك جهودًا محدودة لا زالت أقل من المأمول، مثل: مشاريع مكافحة زحف الرمال، وإنشاء متنزهات وطنية في بعض المناطق، والتوجُّه للسياحة البيئية، وظهور روابط مجتمعية لديها الرغبة التطوعية للتشجير وزيادة الغطاء النباتي، إلا أنه ينقصها التنظيم والاعتماد على جهود فردية يغلبها طابع الحماس والتنافس المحمود بين المحافظات، وهنا لا بد من الإشارة إلى عدم وجود مركز متخصص عالي المستوى في مجال مكافحة التصحُّر رغم أهمية ذلك.

ومن ظواهر التصحُّر في المملكة العربية السعودية:

– الاحتطاب الجائر الذي يَنْشَط مع انخفاض درجات الحرارة.

– الرعي الجائر بزيادة الحمولة الرعوية في مراعٍ فقيرة.

– انتشار الكسارات ومكبات النُّفايات والمدافن في الأودية.

– زيادة الأراضي المهجورة بعد إيقاف زراعة بعض المحاصيل؛ مما زاد معه التصحُّر والأتربة والغبار، وأوجدت آبارًا مهجورة أصبحت مصائد لمَن يقترب منها.

– انخفاض درجة الاهتمام لدى شريحة كبيرة من أفراد المجتمع بالبيئة بأشكالها المختلفة.

وهناك مبادرات أطلقتها وزارة البيئة والمياه والزراعة ينقصها التنفيذ، مثل:

– تنمية الغابات والمواقع الشجرية، والتي تهدف لزراعة ١٠ ملايين شجرة، وإعادة تأهيل الغطاء النباتي في مساحة 60 ألف هكتار بنهاية 2020، وتقتصر هذه المبادرة على استخدام الأنواع النباتية المحلية مع استخدام مصادر المياه المتجددة، مثل استخدام تقنيات حصاد الأمطار ومياه الصرف الصحي المعالجة للمحافظة على مصادر المياه.

– خفض الضغط على المراعي وتنمية الغطاء النباتي فيها، والتحول إلى الأنماط الحديثة في تربية المواشي ورفع كفاءة الإنتاج الحيواني.

– تطوير المتنزهات الوطنية في كافة المناطق، لتكون مراكز للتنوع الإحيائي.

– دعم السياحة البيئية.

تطرق د.خالد للجهات التي لها ارتباط بقضية الأسبوع، وهنا أضيف إليها وزارة الداخلية ممثلة في أمارات المناطق، والإدارة العامة للمجاهدين، والجامعات.

وأرى أنه  يمكن تذليل أو خفض حدة أثر التصحُّر من خلال:

– إنشاء جهة واحدة معنية بالتصحُّر، توحّد الجهود التي تقوم بها الجهات المتعددة، وتُنشئ مركز أبحاث متقدم لمكافحة التصحُّر، يشمل قاعدة معلومات متقدمة ومخرجات تقلل من أثر التصحُّر.

– تعزيز استخدام مياه الصرف الصحي حول المدن.

– توسيع نشاط المحميات الملكية، ليشمل المناطق المجاورة لخدماتها.

– التوسُّع في تنمية وتطوير المدرجات الزراعية في المناطق الجنوبية والجنوبية  الغربية.

– تشجيع القطاع الخاص للدخول للاستثمار في تطوير المتنزهات الوطنية وإقامة متنزهات برية، والاستفادة من الميزات النسبية لكل منطقة. وكذلك الاستثمار في استيراد الحطب من الخارج.

– إنشاء جهاز الشرطة البيئية.

– تخصيص جوائز للنشطاء البيئيين في المجتمع، وتعزيز هذا المفهوم في المؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها.

– تنظيم الروابط البيئية المجتمعية في المناطق، وتعزيز جهودها.

كما عقبت أ. علياء البازعي: نص تعريف التصحُّر في ويكيبيديا على أنه: “يعتبر التصحُّر مشكلة عالمية تعاني منها العديد من البلدان في كافة أنحاء العالم. ويُعرف على أنه تناقص في قدرة الإنتاج البيولوجي للأرض، أو تدهور خصوبة الأراضي المنتجة بالمعدل الذي يكسبها ظروفًا تشبه الأحوال المناخية الصحراوية؛ لذلك فإن التصحُّر يؤدي إلى انخفاض إنتاج الحياة النباتية. ولقد بلغ مجموع المساحات المتصحرة في العالم نحو 46 مليون كيلو متر مربعً، يخص الوطن العربي منها حوالي 13 مليون كيلو متر مربع، أي نحو 28% من جملة المناطق المتصحرة في العالم. وتجدر الإشارة إلى أن التصحُّر يؤثر على نسبة الإنتاج النباتي لبعض المزروعات؛ وهذا ينعكس على انتشار الجفاف في العديد من المناطق خصوصًا في الوطن العربي”.

يظهر لنا من طرح د. خالد ومن التعريف ومن جميع المراجع الأخرى، أن هناك سببين رئيسين للتصحُّر:

– التغيرات المناخية.

– الأنشطة البشرية (هناك ما يخصُّ الحكومات، وما يخصُّ الأفراد)؛ فالأول هي المؤثر الأكبر كما يبدو، ولا نملك تغييره أو التحكم فيه، والثاني يعدُّ أقل تأثيرًا لكن يمكننا التحكم فيه إلى حد ما.

وتتلخص وسائل التخفيف من آثار التصحُّر في:

– سنّ القوانين التي تحدُّ من الأنشطة المسببة للتصحر، ومعاقبة مخالفيها.

– رفع نسبة الوعي بخطورة التصحُّر على البيئة بشكل عام، والإنسان بشكل خاص.

– إطلاق مشاريع لمحاربة التصحُّر (هناك الكثير من المقترحات، وأهمها زراعة الأشجار المناسبة للبيئة).

بالنظر للنقاط أعلاه، نجد أنها كلها تصبُّ في مصبّ واحد (وعي الإنسان)؛ لأنه مهما بذلت الحكومات من جهود، فإن انخفاض درجة الوعي واستشعار المسؤولية في التعامل مع البيئة لدى الفرد سيظل من أكبر المسببات، وبالذات في البيئات التي هي أساسًا صحراوية، وينخفض فيها المستويان الثقافي والاجتماعي. وستواجه مشكلة التصحُّر نفس العقبات التي تواجهها غيرها من المشكلات التي تهدد البشرية بسبب سوء ممارسات الإنسان نفسه، من هذه المشكلات ما يملك زمامها الإنسان بشكل شبه كامل، مثال على ذلك: المخدرات، التدخين، السمنة. وهناك مشكلات يستطيع الإنسان التحكم فيها بشكل كبير، مثل: الفقر، الأوبئة، وبعض الأمراض. وهناك مشكلات تحكُّم الإنسان فيها يعدُّ ضعيفًا، مثل مشكلات البيئة والمناخ، ومنها التصحُّر. ولا يعني هذا طبعًا أن يتخلى الجميع عن المسؤولية، بل علينا دراسة الموضوع بشكل أكثر منطقية، والتخفيف من آثاره على البشرية قدر الإمكان.

ختامًا؛ فإنني أنظرُ إلى الموضوع من زاوية مختلفة، فمنذ خلق الله الأرض ومن عليها وهي في حالة تغير مستمرة، تغير بطيء لا يُلاحظ إلا على مدى قرون، وقد تكون هذه الظاهرة هي مرحلة تحوُّل من بيئة إلى بيئة أو تغير في أماكن اليابسة، وأن الإنسان بالفعل لا يد له فيها، وإن كانت بعض ممارساته تدعمها “حسب وجهات النظر العلمية” إلا أن التغيير حاصل، سواء أوقف الإنسان ممارساته أم استمر فيها.

لذا فإنني أعتقد أن الأموال التي تنفقها المنظمات العالمية والدول لمعالجة مشكلات البيئة، مثل التصحُّر وغيره، الأَولَى أن تُنفق على أبحاث ودراسات تساعد الإنسان على التكيف مع البيئة الجديدة، وابتكار طرق وأساليب لتحسين مستوى الحياة على الرغم من التغيرات.

المداخلات:

التصحُّر وتأثيره على الإنتاج الزراعي:

ذهب م. أسامة الكردي إلى أننا نحتاج إلى مزيد من الإفادة فيما يتعلق بالتأثير الحالي للتصحر على الإنتاج الزراعي، وعلى غذاء الإنسان والحيوان؛ لأن ما فهمته من الورقة والتعقيب أن التصحُّر يشمل الغطاء النباتي بشكل خاص ولا يشمل الأراضي المخصصة للإنتاج الزراعي و الري. كما أرى أننا نحتاج إلى مزيد من التفاصيل والتوسُّع بعض الشيء في توصيات دراسة المساحة الجيولوجية؛ لأن ما ذُكر منها يبدو مختصرًا كثيرًا.

من جانبه ذكر د. خالد الفهيد أن مصادر الغذاء في المملكة يتم تأمينها من مصدرين، هما: الاستيراد، أو الإنتاج الزراعي المحلي (نباتي، حيواني، داجن، أسماك)، ومن المتوقع أن يكون للتصحر تأثيرٌ على كمية الإنتاج الزراعي أو جودته سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة خاصة الزراعة المكشوفة، إلا أن استخدام التقنية في مجال إنتاج الغذاء محليًّا- مثل: مشاريع البيوت المحمية، أو الزراعة المائية، أو مشاريع الألبان الطازجة، أو مشاريع الدواجن- يحدُّ من أثره.

أضاف د. خالد الرديعان: إن الإنتاج الزراعي القائم في المملكة لا يراعي شروط البيئة بصورة صحيحة، وأتحدث هنا عن استنزاف المياه وعدم استخدام وسائل ري مناسبة تراعي شحّ المياه التي تأتي في الغالب من مصادر غير متجددة، وهي المياه الجوفية. هذه المشكلة بدأت في الظهور في منطقتي القصيم وحائل، فقد غار الماء في بعض مناطقهما، وأصبحت الزراعة متعذرة؛ ما ترتب عليه ظهور نقص في الأعلاف، وارتفاع أسعار المستورد منها.

ما وددتُ قوله: إن التصحُّر يعني تقلص الغطاء النباتي والإنتاج الزراعي عمومًا، وإن هذا التقلص مرتبطٌ كذلك ببعض المشكلات التي تواجه المزارعين؛ كتوقف الحكومة عن شراء القمح منهم بأسعار تشجيعية بسبب مشكلة المياه واستنزافها، ومن ثَمَّ الاتجاه لشرائه من الخارج. وبعبارة أوضح: التصحُّر مرتبطٌ أيضًا بشح المياه وعدم استخدام المتوفر منها بصورة صحيحة.

اهتمام رسمي بمشكلة التصحُّر:

حول ما ذكره د. خالد الرديعان في ورقته الرئيسة من أن هناك جهاتٍ رسمية معنية بظاهرة التصحُّر، تساءلت د. ريم الفريان: هل هناك تضافر في جهود تلك الجهات المعنية؟ وما هي المبادرات القائمة التي تقدِّمها تلك الجهات حاليًّا للقضاء على التصحُّر؟ كيف يمكن تطويرها للحصول على نتائج أفضل؟

علق د. خالد الرديعان بأن هيئة المساحة الجيولوجية أنشأت برنامجًا متكاملًا لدراسة التصحُّر (برنامج التصحُّر). وحسب ما هو منشور عن البرنامج، فإنه يهدف إلى معرفة درجة وامتداد التصحُّر في مختلف مناطق المملكة، وتحديد مؤشرات التصحُّر، وتحديد العوامل الهيدرولوجية والهيدروجيولوجية والمناخية والجيولوجية المسببة للتصحر، وذلك على النحو التالي:

– حصر وتقييم الاستخدامات الحالية للأراضي.

– تحديد المناطق المعرضة للتصحر من خلال تقنيات الاستشعار عن بُعد ونظم المعلومات الجغرافية في التحليل والرصد.

– تنفيذ بعض الدراسات الحقلية للمناطق المعرضة للتدهور، بما في ذلك الدراسات الهيدرولوجية، ودراسة خصائص التربة، وتحديد الغطاء النباتي الطبيعي والمزروع، ومدى تدهورهما.

– تقييم صلاحية الأراضي للاستخدامات المختلفة، والاقتراح الأمثل بما يتفق مع مسيرة التنمية الزراعية والاجتماعية في المملكة العربية السعودية.

– إعداد برنامج مراقبة لتحديد التدهور الحالي في الأراضي، بالإضافة لمراقبة زحف الرمال.

– وضع الحلول العلمية والتوصيات المناسبة للحد من انتشار ظاهرة التصحُّر، والحفاظ على المناطق التي ستكون عرضة للتدهور في المستقبل.

– تحديد العوامل التي تساعد على توجيه وتطوير البنية التحتية والتنمية الاقتصادية للمجتمعات المحلية، وتحسين ظروف معيشتهم.

– تدريب الكوادر الوطنية في إعداد خرائط استخدامات الأراضي، ورصد وتقييم التغيرات التي تحدث، وإنشاء قواعد البيانات وإدارتها.

وَأُورِدُ هنا مقالًا نُشر في صحيفة الحياة بتاريخ ٢٤ مارس ٢٠١٨ يذكر: أن وزارة البيئة والمياه والزراعة أطلقت مبادرتين للتنمية المستدامة للغابات والمراعي، وتنظيم الاستثمار فيهما ومكافحة التصحُّر، من خلال زراعة 4 ملايين شجرة، وتوفير 6 ملايين شتلة، وكذلك العمل على إعادة تأهيل 60 ألف هكتار من أراضي المراعي، وتقويم أكثر من 100 موقع مستهدفة، بمثابة متنزهات برية، إلى جانب تطوير 24 متنزهًا وطنيًا، خلال السنوات الأربع المقبلة، إضافة إلى 17 مبادرة للارتقاء وتطوير العمل البيئي، مستعرضة تطبيق “التشجير”، الذي تنوي إطلاقه قريبًا.

كما احتفلت الوزارة بـ “اليوم العالمي للغابات”، وأشارت في موقعها إلى أهمية الشجر في تخفيف آثار التغير المناخي في المدن، مبينة أن تلوث الهواء في العالم يقتل سنويًّا نحو 5.5 ملايين إنسان.

وأوضحت الوزارة أن الشجرة الواحدة تستطيع امتصاص نحو 150 كيلوغرامًا من ثاني أكسيد الكربون سنويًّا؛ ما يسهم في تخفيف آثار تغيير المناخ في المدن، وقدَّرت مبادرة “أشجار شيكاغو” في الولايات المتحدة الأمريكية أن الشجرة الواحدة تُخزّن ما قيمته 521 ألف دولار من الكربون سنويًّا.

وكشفت دراسة حديثة أن شجرةً واحدة كبيرة يمكن أن تمنح ما يصل إلى أربعة أشخاص من الأكسجين يومًا كاملًا، وتسهم أشجار المدن في إزالة الملوثات والجزيئات الضارة، وتساعد في مكافحة تلوث الهواء. وأوضحت الدراسة أن غابة في مدينة تزيل 1821 طنًّا متريًا من تلوث الهواء.

وتغطي الغابات في السعودية ما مساحته 27 ألف كيلومتر مربع من مساحتها، بمعدل 1.26% من إجمالي مساحة السعودية، وتقع غالبية الغابات في المناطق الجنوبية الغربية منها، وتحديدًا في المرتفعات، مشيرة إلى أن الغطاء النباتي في المملكة سواء أكان غابات أم مراعي أم متنزهات يعاني من خفض الإنتاج، وتقلص التنوع الحيوي، واتساع ظاهرة التصحُّر.

وقد ألقت الجمعية التعاونية لنبات اليسر والنباتات الصحراوية مسؤولية تدهور الغطاء النباتي الصحراوي في المملكة على التوسُّع في النمو العمراني، وزيادة الثروة الحيوانية، بما ينعكس من تضخم عملية الرعي الجائر، وزيادة الطلب على الحطب، وبالتالي نمو عملية الاحتطاب، وأيضًا زيادة تعداد السكان، وتيسّر امتلاك السيارات وتعرض المجتمعات النباتية لدهسها، إضافة إلى عدم الوعي البيئي لدى شرائح المجتمع، وعدم تكامل عمليات “الحمي” من الجهات المعنية، والظروف البيئية القاسية في بيئة الصحراء.

وأشار نائب رئيس الجمعية الدكتور ناصر الخليفة، إلى أن هذه العوامل أدَّت إلى تدهور الغطاء النباتي في هذه البيئات، داعيًا المعنيين إلى السعي للإسهام بما يستطيعون لتلافي هذا التدهور، وإيجاد سُبل العلاج. ولفت إلى أهمية إنشاء شُرطة بيئية، خلال استعراضه أساليب الحماية الممكنة، ومنها الحماية الإدارية، والتي تتمثل في “إنشاء نمط أمني يُعطى سلطة تشريعية وتنفيذية للحماية، والحماية الاجتماعية من الأهالي، إضافة إلى دور خطباء المساجد في توجيه رسالة في رفع همة المجتمع لحماية مواردهم، بما فيها الغطاء النباتي، فضلًا عن دور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في الحض على الحماية، وإعادة الاستزراع”.

من جانبها ترى د. ريم الفريان أن مبادرة زراعة ٤ ملايين شجرة و٦ ملايين شتلة مبادرة جميلة، ولكن أعتقد أنها ستؤدي إلى استنزاف المياه؟ فالمعادلة صعبة.

وقد لاحظتُ في الآونة الأخيرة استخدام العشب الصناعي بدلًا من الطبيعي، الشكل جميل، ولكن أعتقد أنه يزيد من أسباب التصحُّر.

بعض الرؤى لمواجهة ظاهرة التصحُّر:

يرى د. خالد الرديعان أن أحد المقترحات هو الإفادة من المياه المستعملة بعد معالجتها، فكمياتها كبيرة، لكن لا أعلم كيف يتم إيصالها للأحياء لسقيا الأشجار. في السياق نفسه، يعتقد أ. محمد الدندني أنه يمكن استخدام محطات معالجة للمياه الرمادية وعمل خطوط مستقله للمنازل، أما الحدائق والشوارع فيمكن استخدام الصهاريج إلى أن يتم عمل شبكة مستقلة.

المصدر الآخر للحفاظ على المياه، ومن ثَمَّ زيادة نسبة المحافظة عليه، بأن يكون هناك خطٌّ خاص للحمامات والحدائق مصدره محطات المعالجة.

أضاف د. خالد الرديعان مقترحًا آخر، بأنه يمكن الإفادة من المياه السطحية، فهي قريبة ولا تحتاج إلى حفر آبار عميقة، نجد بعضها في الأحياء وتُستخدم لأعمال البناء؛ مما يُطلق عليها “شِيب”.

أضاف أيضًا أ. محمد الدندني أن الهدر المصاحب للرعي الجائر من التصحُّر هو أن ما تأكله الماشية والإبل لا ينتج ما يأكله الإنسان؛ أي أن ما تأكله لا يعطي القيمة المقابلة من البروتين، فمثلًا لو أنَّ أحد الخراف الحيَّة وزنه ٣٠ كغ، لا أعتقد أنه سيبقى منه إلا نصف الوزن للاستهلاك الآدمي. بينما في حالة الدواجن، فقد تصل الفائدة المسترجعة إلى ٨٠٪، وكذلك الحال في مزارع الأسماك؛ لذا نحن لسنا مترفين أن نعتمد على مصادر البروتين من اللحوم الحمراء، وقد يقول البعض هذه مبالغة ولكنها حقيقة، وبالتالي فإن الإكثار من المحميات ومنع الرعي لفترة لا تقل عن خمس سنوات أمرٌ مهمٌّ. ويلاحظ أن الأراضي المحمية من أفراد أو مناطق التدريب العسكري التي لا يرتادها الناس تكون غنيةً بغطاء نباتي.

توجد مساهمات جيدة في القصيم وسدير وإلى حد أقل في الشمال، في عمل مشاتل واستنبات لنباتات صحراوية يمكن زرعها في مواسم الأمطار، وكذلك نشرها حول المدن؛ كونها لا تحتاج إلى مياه كثيرة.

لا أملك أرقامًا ولكن لدينا آلاف من الإبل تخصُّ مواطنين خليجيين في مناطق الرعي، والمميزة بمناطق رعي كما في الصمان والشمال، والمُحزِن أنهم يستفيدون من الشعير المدعوم من الدولة.

وأضيفُ: إننا يجب أن نقلل من الاعتماد على اللحوم الحمراء لكلفتها البيئية، وربما يكون الاستيراد أفضل من أن نهلك بيئتنا. كذلك يمكن تفعيل (يوم أو أسبوع الشجرة)، حيث يخرج الطلبة لزرع الأشجار في مدينتهم أو قريتهم. كما أن بعض الجمعيات النشطة على تويتر من المهتمين بالبيئة يقومون بعمل حملات لزراعة نباتات برية في المراعي التي تصحرت. وقد نادى بعضهم بإنشاء قوة أمنية لمحاربة الاحتطاب الجائر، وهي نباتات لها دور في تماسك التربة، وأصول الاحتطاب أن يُحتطب الجزء اليابس من شجرة الحطب، كالأرطى- مثلًا- في صحراء النفود، ولكن للأسف الآن ينزعون الشجرة من جذورها.

وذكرت د. فوزية البكر أن مما وجدته في توتير صدور قرار في ١/١/1440هـ بإيقاف دخول الرعاة ومواشيهم من دول مجلس التعاون الخليجي لأجل الرعي، اعتبارًا من التاريخ المذكور ولمدة خمس سنوات، وتمَّ وضع خطة زمنية لإعادة الرعاة الموجودين على أرض المملكة إلى دولهم.

من جانبه أشار د. مساعد المحيا إلى أهمية إعداد مواد فلمية احترافية محفّزة للاهتمام بمزيد من الغطاء النباتي، وتوعية المتنزهين والرعاة بأن اهتمامهم بهذا الغطاء النباتي وزراعة أنماط الأشجار هو مما يُؤجر عليه المرء، ويبقى في سجل حسناته، فضلًا عن كونه بذلك يسهم في صناعة مستقبل أفضل للأرض، لا سيما أن الدولة اليوم تتجه لمحاربة الاحتطاب، وفسح المجال للحطب والفحم من مصادر خارجية متعددة.

هذه المواد الفلمية ينبغي أن يكون محتواها نوعيًّا، وأن تكون قصيرة وسريعة ومشتملة على أفكار جميلة تشجِّع الجمهور، ويتم نشرها عبر السوشل ميديا، وأن يتم الاحتفاء بكل مادة ينشرها الجمهور من خلال تطبيقات الإعلام الاجتماعي، فالمواد التي يعدها البعض قد تحظى بقبول وجماهيرية أوسع.

مبادرة أمانة منطقة الرياض لتشجع الأفراد على الزراعة:

أشار أ. وليد الحارثي إلى أنَّ من المبادرات الجميلة في هذا الإطار، والتي نحتاجها في جميع مناطق المملكة وعلى مستوى الأفراد؛ الخدمة التي أطلقتها أمانة منطقة الرياض، لتشجيع الأفراد على الزراعة، من خلال الدخول على موقع tashgeer.com  وطلب أشجار، ويتم التواصل مع الشخص طالب الخدمة، وتتأكد اللجنة من الموقع ومدى مناسبته، بعدها تصله الشجرة إلى البيت.

وإذا كان الشخص لا يعرف طريقة زراعة الشجرة، فالأمانة أتاحت على الموقع شرحًا مصورًا حول كيفية التشجير. كما يقدِّم الموقع صورًا لبعض الأشجار المقترح استخدامها في تنسيق الأرصفة، مع توفير صور لكل نوع. كذلك هناك فريق دعم لتقديم المساعدة.

النتائج البيئية والاقتصادية والاجتماعية للتصحر:

ذكرت د. نوف الغامدي، حسب قراءتي لبعض الدراسات في هذا الموضوع، وجدتُ أن هناك العديد من النتائج البيئية، والاقتصادية، والاجتماعية للتصحر، وهي:

أولًا: النتائج البيئية:

– تدهور الحياة النباتية والحيوانية، فبعض فصائل النباتات والحيوانات انقرضت فعلًا.

– تدهور التربة والمراعي.

– تقلص مساحة الأراضي الزراعية.

– نقص الثروة المائية وتدهور نوعيتها، وبالأخص ارتفاع نسبة الملوحة فيها، كل ذلك يعود إلى الاستخدام غير السليم والجائر لهذه الموارد.

وفي النهاية يمكن أن يكون تدهور البيئة عاملًا رئيسًا في تغير المناخ.

ثانيًا: النتائج الاقتصادية المباشرة:

– تدهور الأرض وتصحُّرها يظهر في قدرة البلدان على إنتاج الأغذية، وينعكس بالتالي على تخفيض الإمكانيات الإقليمية والعالمية لإنتاج الأغذية، كما أنهما يتسببان أيضًا في إحداث العجز الغذائي في المناطق المهددة.

– آثار على الاحتياطات الغذائية وتجارة الأغذية في العالم، أيّ أن له أثرًا سلبيًا على الأمن الغذائي.

– نظرًا لأن التصحُّر يتسبب في تدميرٍ للحياة النباتية ونقصان مجموعات نباتية وحيوانية كثيرة، فهو أحد الأسباب الرئيسة لخسارة التنوُّع البيولوجي.

ثالثًا: النتائج الاجتماعية للتصحر:

– الهجرة العكسية، تتمثل في تزايد هجرة سكان القرى إلى المدن طلبًا للعمل ولحياة أفضل، وينتج عن هذه الهجرة العكسية ضغوط متزايدة، على إمكانيات المدن المحدودة، وتسهم في زيادة معدل نمو سكانها أسرع من معدل نمو سكان القرى.

– معدلات النمو العالية في المدن تشكل عبئًا على الحكومات لتوفير الخدمات الاجتماعية المكلفة على حساب الهياكل الأساسية المنتجة، ويولد ضغط الهجرة (القروية – الحضرية) الكثير من المشاكل الاجتماعية في المدن، مثل: انخفاض المستوى المعيشي، والبطالة، وقلة الخدمات الصحية والتعليمية، وقلة السكن، والتوترات والنزاعات الاجتماعية، والإخلال بالأمن…إلخ.

– إفراغ القرى من سكانها وترك الأرض يسهم هو الآخر في استمرار التصحُّر.

تنامي التصحُّر واختلال التوازن البيئي:

أورد د. خالد الفهيد و د. زياد الدريس أحد الفيديوهات الذي يرى أن من العوامل المؤثرة في تنامي التصحُّر اختلال التوازن البيئي، ويثبت أن أسباب ضعف أشجار الطلح أو موتها، والمشكلة التي تواجهها هي صيد الطيور المهاجرة؛ وهو ما أدَّى إلى انتشار مجموعة حشرات تعيش بين القشرة الخارجية للشجرة والعود، وهي الحِزم الناقلة للأغذية وللماء من عروق الشجرة إلى فرعها العلوي، هذه الحشرات تخرق القشرة الخارجية وتضع بيضها تحت اللحاء. توقيت انتشار هذه الحشرات وخروجها للتزاوج يوافق موسم هجرة الطيور، فتتغذى الطيور عليها، ولكن بدأ الناس يقومون بصيد هذه الطيور بشكل وبائي وبشكل عشوائي، وبالتالي لم تعد هناك طيور تأكل هذه الحشرات، فأصبح عددها يتكاثر بسرعة رهيبة جدًّا، وقد اختل التوازن الذي كان قائمًا بين عدد هذه الحشرات وعدد الطيور، فأصبحت الغلبة للحشرات، وبات هناك قضاءٌ شبه محتم على أشجار الطلح.

رؤية 2030 والتوسُّع في المحميات:

في تصوُّر د. حمزة بيت المال، فإن هناك فعلًا مشكلةً حقيقة ومثبتة كظاهرة وضررها على الإنسان والتوازن البيئي. كما تمَّ ذكرُ الكثير من البرامج والمبادرات الرسمية والخاصة، وتجارب بعض الدول الأخرى. الملاحظ عندنا أنني لم أر شيئًا على أرض الواقع؛ بل الأمر يزداد سوءًا.

لذلك أقترحُ تشكيل فريق لتقييم نموذج المعالجة عندنا، والنظر في أسباب محدودية المردود، والتوسُّع في المحميات بحسب رؤية ٢٠٣٠، وهي خطوة إيجابية تسير في هذا الاتجاه، ومن أجل استكمال نجاحها أقترحُ أن تُوزَّع المحميات على الشركات الكبيرة لدينا، مثل أرامكو وسابك وبعض البنوك، كل واحدة منها تُعطى محمية، ويُترك لها الخيار في تطويرها في إطار مسؤوليتها الاجتماعية، وبذلك نخلق منافسةً بينها، ويمكن إضافة فكرة جائزة سنوية لأفضل محمية مطورة، وبذلك يمكن تحقيق السيطرة على التصحُّر.

مع اتفاقها مع هذا المقترح، إلا د. ريم الفريان ترى أنه لا بد أن تكون هناك معايير لإسناد المحميات لبرامج المسؤولية الاجتماعية بالشركات، مثل أرامكو وسابك وبعض البنوك؛ لأن هذه شركات غير متخصصة في الحياة البيئية، هي تتحمل التمويل ولكن الأهم هو المنفذ.

الأنشطة البشرية وضعف الوعي البيئي من أهم عوامل التصحُّر:

أرفقت د. نورة الصويان بعض الروابط لمجلة البيئة والتنمية لإثراء موضوع التصحُّر والاعتداء على البيئة، منها مقالٌ، بعنوان: (دبي تخطِّط لتنفيذ حديقة ضخمة صديقة للبيئة)، تموز- آب/يوليو-أغسطس 2017/عدد 232*. يذكر المقال ” تعمل دبي على وضع خطة طموحة لبناء حديقة عامة صديقة للبيئة تبلغ مساحتها 1.43 كيلومتر مربع، وستكون هذه الحديقة هي الأضخم في الإمارة، وتوفّر عند اكتمالها مساحات متنوعة الأغراض، تتيح للناس ممارسة نشاطاتهم المفضلة على مدار السنة.

تضمُّ الحديقة مسارات للجري بطول 20 كيلومترًا، وممرات بطول 30 كيلومترًا، وأكثر من 7 كيلومترات من الدروب الطبيعية، وما يزيد على 14 كيلومترًا من المسارات المخصصة للدراجات الهوائية، و45 ملعبًا لمختلف أنواع الرياضات، وخمس مناطق رئيسية لإقامة النشاطات، و55 منطقة لعب للأطفال، إضافة إلى مساحات مخصصة للمحلات والمطاعم والمقاهي.

 ستعتمد الحديقة حلولًا نظيفة تساعد على الحفاظ على البيئة ودعم جهود الاستدامة، حيث ستستخدم حلولًا مبتكرة تساعد في الحد من استهلاك المياه لتصل إلى 5 لترات للمتر المربع الواحد، إلى جانب زراعة ما بين 10 آلاف و15 ألف شجرة محلية ومتأقلمة.

 الحديقة لن تكون مجرد وجهة رياضية وترفيهية، بل ستصبح مكانًا لاختبار الابتكارات الجديدة وحلول الاستدامة البيئية. إذ من المخطط استخدام حلول مبتكرة لتوليد الكهرباء في الموقع، وتطبيق التناضح العكسي لتحلية المياه، وتدوير النُّفايات، وتقنيات الظل الطبيعي، بالإضافة إلى البطاقات الذكية الخاصة بالتذاكر والمشتريات وتقنيات الواي فاي.

 بلدية دبي والمجموعة الاستثمارية “دبي القابضة” وقَّعتا مذكرة تفاهم لإطلاق الحديقة التي من المقرر البدء في تنفيذ مرحلتها الأولى مع نهاية العام الحالي، وفق ما أعلن المكتب الإعلامي لحكومة دبي.

الشراكات بين القطاعين العام والخاص في الإمارات توفِّر وسيلة فاعلة لإنجاز مشاريع التنمية المستدامة، وذلك من خلال مساهمتها في جلب استثمارات وطنية وإقليمية وأجنبية، وتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية التي تهمُّ المجتمع، وتعزيز الوضع التنافسي للدولة”.

المقال الثاني بعنوان:(البيئة العربية في عشر سنين: تقرير واستطلاع للرأي العام)- تموز-آب/ يوليو-أغسطس 2017 / عدد 232*. ويذكر “البيئة العربية في عشر سنين” موضوع التقرير السنوي العاشر الذي يصدر عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، ويُطلق في مؤتمره السنوي الذي يُعقد في بيروت في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. التقرير يتابع التغيرات البيئية على مدى العقد الماضي، استنادًا إلى تقرير المنتدى لعام 2008 كأساس للمقارنة. وهو يسلّط الضوء على التغيرات في الإدارة والسياسات البيئية، مع التركيز بوجه خاص على مواضيع المياه، والطاقة، والغذاء، ونوعية الهواء، والبحث العلمي البيئي، والاقتصاد الأخضر. ويوثّق التقرير قصص النجاح، وليس الإخفاقات فقط، لاستخلاص النتائج واقتراح الإجراءات العلاجية، للمساعدة في رسم مسار أفضل للمستقبل.

وكان المنتدى قد بحث مسوّدات التقرير في اجتماعات عُقدت في القاهرة وعمّان وبيروت ومارسيليا، للاستفادة من ملاحظات الخبراء في إعداد النصوص النهائية. وقال الأمين العام نجيب صعب: إنه في موضوع الحوكمة والسياسات البيئية، أظهرت المسودات أن المقررات الإقليمية لم تتحول إلى أفعال على الأرض، على الرغم من عشرات الإعلانات البيئية التي صدرت عن جامعة الدول العربية. في المقابل، حصلت تطورات فعلية على المستوى الوطني، حيث تبنى 12 بلدًا عربيًا استراتيجيات للتنمية المستدامة، وتم إطلاق سياسات لتعزيز الكفاءة وتعديل دعم أسعار الطاقة والمياه. وتبين أن البلدان العربية خصَّصت موارد أكبر في مجالات الاقتصاد الأخضر والتمويل، وباشرت إجراءاتٍ لتنويع الاقتصاد وتخضيره، كما في “رؤية السعودية 2030″، واستراتيجية الاقتصاد الأخضر في الإمارات.

ومع حدوث تغيرات إيجابية في إدارة المياه، استمرَّ نقص المياه المتجددة بسبب الزيادة السكانية والتلوث وموجات الجفاف، ولم تتجاوز معالجة مياه الصرف 60 في المئة، في حين لم يتم استخدام معظم المياه المعالجة بسبب عدم توافر البنى التحتية. كما أن صناعة التحلية ما زالت تعتمد بشكل كامل تقريبًا على التكنولوجيا والمعدات المستوردة، مع أن البلدان العربية هي الأكثر إنتاجًا لمياه البحر المحلّاة.

وكشفت مسوّدات التقرير عن اهتمام متزايد بكفاءة الطاقة، مع استثمارات ضخمة في الطاقة المتجددة، خاصة في المغرب، والإمارات، والسعودية، والأردن. وتميزت السنوات الأخيرة باتجاه لدى بعض الدول العربية إلى إدخال الطاقة النووية والفحم الحجري في مزيج الطاقة، في اتجاه معاكس للتراجع العالمي في المجالين. وتبين أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تضاعفت في عشر سنين، فيما ارتفعت مستويات تلوث الهواء في المدن العربية بمعدل سبعة أضعاف عن المستوى المقبول من منظمة الصحة العالمية.

وبالتزامن مع التقرير، يُجري المنتدى استطلاعًا للرأي العام العربي لتتبُّع التغيرات في المواقف تجاه البيئة، مقارنة مع استطلاع مماثل كان أجراه عام 2006. واجتذب الاستطلاع الجديد أكثر من 20 ألف مشاركة من 22 بلدًا، يجري فرزها وتحليلها لتُنشر بالتزامن مع التقرير. وظهر من الأرقام الأولية أن نحو 70 في المئة من المستطلعين وجدوا أنَّ وضع البيئة في بلدانهم تراجع خلال العقد الأخير.

وسيناقش أربعون من كبار الخبراء العرب والدوليين وصُنَّاع القرار مواضيع التقرير خلال المؤتمر السنوي، من بينهم عدنان بدران، رئيس مجلس إدارة الجامعة الأردنية ورئيس وزراء الأردن الأسبق، وعبد السلام ولد أحمد، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة، ومحمود الصلح، المدير العام السابق للمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة، ووليد زباري، مدير برنامج المياه في جامعة الخليج العربي، ومحمد العشري، الزميل الأول في مؤسسة الأمم المتحدة، ومعين حمزة، الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان، وكريستين لينس، الأمينة التنفيذية لبرنامج الطاقة المتجددة الدولي.

وستشارك منظمات المجتمع المدني من 12 بلدًا عربيًا في جلسة تعرض فيها وجهات نظرها حول كيفية إدماج جميع الأطراف الفاعلة في عملية التنمية المستدامة. كما تُعقد جلسة خاصة بعنوان: “نحن المستقبل”، تستضيف طلابًا جامعيين من مختلف أنحاء المنطقة، وتديرها الدكتورة ماريا إيفانوفا، مديرة مركز الإدارة البيئية والاستدامة في جامعة ماساتشوستس في بوسطن.

وقال صعب: إن “عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي والحروب والنزاعات والاحتلالات تبقى عوامل معرقلة لإحراز تقدُّم فعلي في مجالات البيئة. لكن هذا لا يبرر إهمال العمل البيئي؛ لأن الإدارة السليمة للموارد هي أيضًا عامل مؤثر في تحقيق الاستقرار”.

تعقيبًا على ما ورد بهذه المقالات، أشارت د. نورة الصويان إلى أنه يُلاحظ أن الأنشطة البشرية وضعف الوعي البيئي تعدُّ من أهم العوامل للتصحُّر وتراجع المساحات الخضراء؛ لذا فإننا نحتاج إلى تضافر عدة جهات ومؤسسات للتعامل مع هذه الظاهرة، نحتاج لبرامج واستراتيجية وطنية لحماية بيئتنا، وترجمةً أيضًا للاتفاقية الدولية لمكافحة التصحُّر (2008- 2018)، ومما يدعونا للفخر أنه في التقرير السنوي العاشر الذي يصدر عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، قال الأمين العام نجيب صعب: إنه في موضوع الحوكمة والسياسات البيئية أظهرت المسودات أن القرارات الإقليمية لم تتحول إلى أفعال على أرض الواقع، لكن في المقابل تبنى ١٢ بلدًا عربيًا استراتيجيات للتنمية المستدامة، وتمَّ إطلاق سياسات لتعزيز الكفاءة، وأُطلقت مبادرات وإجراءات لتنويع الاقتصاد وتخضيره، وأشاد برؤية المملكة ٢٠٣٠ بهذا الخصوص، إضافة لاستراتيجية الاقتصاد الأخضر في الإمارات.

بعض الأفكار لإصلاح السلوك البشري المتسبب في التصحُّر:

أشارت د. عبير برهمين إلى أنه يتضح من مداخلات الأعضاء أن السلوك البشري الخاطئ هو أساسي في قضية التصحُّر، فالهجرة العكسية للمدن، والتوسُّع في إنشاء المساكن والمدن الصناعية على حساب الزراعة والأراضي الزراعية، إضافة إلى الصيد الجائر للحيوانات والطيور المهاجرة، والاحتطاب الجائر، وهدر الثروة المائية؛ فهذه كلها أسباب جوهرية تفضي إلى مشكلة التصحُّر.

لذا أرى أن السلوك العدواني للبشر على البيئة يجب أن يُقوّم ويُصلح في أقرب وقت. وأعتقد أن فكرة إنشاء شرطة بيئية فكرة جيدة، ولكن زيادة الوعي لدى الناس وانتهاج سياسة التغيير الإيجابي للسلوكيات البشرية هي أكبر تحدٍ قائم، فكلما زاد تدخل الإنسان في التوازن البيئي الطبيعي للكائنات الحية أفضى ذلك لمشاكل بيئية جمَّة، تنعكس آثارها سلبًا على جودة الحياة البشرية. وكذلك العمل على استصلاح الأراضي بطرح المفهوم الديني “إحياء الموات”، بحيث يشارك فيها الشباب العاطل عن العمل بصفة خاصة، وبمشاركة من البنوك في تمويل هذه المشاريع من باب المسؤولية المجتمعية، وتفعيل أسبوع الشجرة بمشاركة المدارس والجامعات في زرع عدد محدد سنويًّا من الأشجار داخل المدن وفي محيطها، إضافة إلى إلزام المصانع بزراعة أعداد محددة من الأشجار لتقوم بتخفيف آثار الانبعاث الكربوني.

من هنا فإن قضية التصحُّر هي مسؤولية مجتمعية، يجب أن يشارك فيها كل الناس والجهات المختلفة، كلٌّ في مجاله؛ لأن جهةً واحدة لن تتمكن من أن تُحدِث أيَّ إصلاح بيئي يُذكر.

علَّق على ذلك د. خالد الفهيد؛ ” بأن فكرة “إحياء الموات” غير ملائمة؛ لأن البعض يستخدمها فقط بغرض تملك الأراضي بزراعة نخيل أو أشجار صحراوية، مثل الأثل ثم هجرها، إضافة إلى شحّ المياه، والسعي لتقنين التوسع الأفقي للزراعة. كما أن أسبوع زراعة الشجرة تم تعديله بقرار من مجلس الوزراء إلى أسبوع البيئة، ويعتبر مناسبة لزيادة الغطاء النباتي إذا أُحسِن استغلاله في المناطق بدلًا من التركيز على المناسبة والبحث عن التغطية الإعلامية، ثم غرس شجرة وينتهي الموضوع.

وأتفقُ مع د. عبير في ضرورة إلزام المصانع بالتشجير، وأضيفُ إليه: كلّ مشروع يتم ترسيته يجب أن تتضمن كراسة الشروط زراعة أشجار، مع تجهيز نظم ري لها باستخدام مياه الصرف المعالج.

الاستفادة من مياه الوضوء في زراعة الأشجار:

ذهب د. خالد الرديعان إلى أنه  قبل فترة طُرِحَ في هذا الملتقى من قِبل بعض الزملاء فكرة الإفادة من مياه الوضوء في المساجد التي تذهب هدرًا، بحيث يتم زراعة أشجار حول المساجد، والاستفادة من مياه لا تحتاج إلى معالجة، هذه الفكرة لو طُبقت ستزيد من نسبة الأشجار المزروعة في كل حي، بحيث تُفصل مياه الوضوء عن مياه دورات المياه، ويُراعى ذلك عند بناء المساجد. هي عمومًا فكرة بسيطة وغير مكلفة ويمكن تطبيقها، فالمشكلة هي دائمًا توفُّر المياه. اتفق معه في ذلك د. خالد الفهيد، وأضاف: إن هناك أيضًا مياه التكييف بعد دورة التبريد داخل جهاز التكييف.

التوصيات:

 – استصلاح الأراضي بطرح المفهوم الديني ” إحياء الموات”، يشارك فيها الشباب العاطل عن العمل بصفة خاصة، وبمشاركة من البنوك في تمويل هذه المشاريع من باب المسؤولية المجتمعية.

– إطلاق مبادرات مجتمعية موسعة لأنسنة المدن وزيادة التشجير، تُوجب على الناس زراعة شجرة أو أكثر أمام المنزل.

– تفعيل أسبوع الشجرة بمشاركة المدارس والجامعات في زرع عدد محدد سنويًّا من الأشجار داخل المدن وفي محيطها.

– إنشاء شُرطة بيئية ذات صلاحيات تنفيذية لمحاربة المخربين، الذين يقومون بالصيد أو الاحتطاب الجائر، وتوقيع غرامات صارمة بحقهم.

– إلزام المصانع بزراعة أعداد محددة من الأشجار، لتقوم بتخفيف آثار الانبعاث الكربوني.

– استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة لزراعة مصدات من الأشجار، لوقف زحف الرمال للمدن.

– تشجيع البحوث المرتكزة على إيجاد حلول مبتكرة لوقف التصحُّر واستنزاف  الموارد الطبيعية.

– يُعدَّل مُسمَّى هيئة المحافظة على الحياة الفطرية إلى هيئة المحافظة على البيئة بشكل متكامل (الحيوان والنبات)، وتوسيع دور مراقبيها لخارج المحميات؛ للمحافظة على البيئة، والقضاء على مسببات التصحُّر.

– إعداد مواد فلمية احترافية محفِّزة للاهتمام بمزيد من الغطاء النباتي، وتوعية المتنزهين والرعاة بأن اهتمامهم بهذا الغطاء النباتي هو مما يُؤجر عليه المرء.

– تشجيع إنشاء الحدائق المنزلية الصغيرة.

– إنشاء المحميات الطبيعية.

الملخص التنفيذي:

القضية: (التصحُّر والاعتداء على البيئة في المملكة).

إنَّ التصحُّر هو أحد التحديات البيئية التي تواجه المملكة العربية السعودية، وتبذل المملكة جهودًا طيبة في مكافحة التصحُّر، والعمل على تخطي هذا التحدي بمزيد من الجهود الرامية إلى تطبيق اتفاقية مكافحة التصحُّر وغيرها من الآليات، وهو ما تهدف إليه رؤية المملكة 2030 في سعيها نحو تحقيق استدامة بيئية.

وتُصنَّف المملكة العربية السعودية ضمن الأقاليم الجافة المتأثرة بشدة من ازدياد آثار التصحُّر على معظم مناطقها، وتظهر آثار التصحُّر في معظم أرجاء المملكة؛ مما أدَّى إلى تدهور الأراضي المنتجة، وتضاعف آثار التصحُّر. ونظرًا لما تزخر به أراضي المملكة العربية السعودية من الموارد الطبيعية الغنية والمتنوعة التي تشكِّل القاعدة الأساسية لاقتصادها ومعيشة سكانها، إلا أن تلك الموارد بدأت تتصفُ بالهشاشة نتيجة لظروف بيئية قاسية من المناخ الجاف وشبه الجاف والتربة غير الخصبة في معظم الحالات، وأصبحت هذه الموارد تُعاني من تدهور كبير؛ الأمر الذي أدَّى إلى انتشار ظاهرة التصحُّر.

أوضحت الورقة الرئيسة أن التنمية بمفهومها الشامل لا تعني فقط الاهتمام بالموارد الاقتصادية واستغلالها، لكنها أيضًا تشمل الحفاظ على البيئة وصيانتها والاستغلال الأمثل لمواردها، وهو ما يؤكد ضرورة مواجهة مشكلة التصحُّر البيئي؛ لضمان وجود تنمية شاملة تتوافق مع رؤية المملكة.

وأشارت الورقة إلى أن المملكة مُهدّدة بشبح التصحُّر بسبب طبيعتها الجغرافية، وأنه من الأهمية بمكان بثّ الوعي على المستوى الشعبي والرسمي بخطورة هذه الظاهرة ومواجهتها بشكل جدي؛ للحد من تداعياتها، وللحفاظ على ما تبقى من مظاهر البيئة.

وذهبت التعقيبات إلى أن هناك أمورًا مرتبطة بالعامل البيئي للمملكة يصعب التحكم فيها رغم أن هناك جهودًا محدودة لا زالت أقلَّ من المأمول، مثل: مشاريع مكافحة زحف الرمال، وإنشاء متنزهات وطنية في بعض المناطق، والتوجه للسياحة البيئية، وظهور روابط مجتمعية لديها الرغبة التطوعية للتشجير وزيادة الغطاء النباتي، إلا أنه ينقصها التنظيم، والاعتماد على جهود فردية يغلبها طابع الحماس، والتنافس المحمود بين المحافظات.

وأكدت التعقيبات أن هناك سببين رئيسين للتصحر، هما: التغيرات المناخية، والأنشطة البشرية. وأن من ظواهر التصحُّر في المملكة الاحتطاب الجائر الذي يَنْشَط مع انخفاض درجات الحرارة، والرعي الجائر بزيادة الحمولة الرعوية في مراعٍ فقيرة، وانتشار الكسارات ومكبّات النُّفايات والمدافن في الأودية، وكذلك زيادة الأراضي المهجورة بعد إيقاف زراعة بعض المحاصيل؛ مما زاد معه التصحُّر والأتربة والغبار، بالإضافة إلى انخفاض درجة الاهتمام لدى شريحة كبيرة من أفراد المجتمع بالبيئة بأشكالها المختلفة.

كما تتلخص وسائل التخفيف من آثار التصحُّر في سنّ القوانين التي تحدُّ من الأنشطة المسببة للتصحر ومعاقبة مخالفيها، ورفع نسبة الوعي بخطورة التصحُّر على البيئة بشكل عام والإنسان بشكل خاص.

وأشارت المداخلات التي جرت على هذه الورقة إلى أن هناك اهتمامًا رسميًّا بمواجهة مشكلة التصحُّر، يتمثل في إنشاء هيئة المساحة الجيولوجية برنامجًا متكاملًا لدراسة التصحُّر، يهدف إلى معرفة درجة وامتداد التصحُّر في مختلف مناطق المملكة، وتحديد مؤشرات التصحُّر، وتحديد العوامل الهيدرولوجية والهيدروجيولوجية والمناخية والجيولوجية المسببة للتصحر. بالإضافة إلى قيام وزارة البيئة والمياه والزراعة بإطلاق مبادرتين للتنمية المستدامة للغابات والمراعي، وتنظيم الاستثمار فيهما ومكافحة التصحُّر

وأشار المناقشون إلى أن السلوك البشري الخاطئ هو أساسي في قضية التصحُّر، فالهجرة العكسية للمدن، والتوسُّع في إنشاء المساكن والمدن الصناعية على حساب الزراعة والأراضي الزراعية، إضافة إلى الصيد الجائر للحيوانات والطيور المهاجرة، والاحتطاب الجائر، وهدر الثروة المائية؛ فهذه كلها أسباب جوهرية تُفضي إلى مشكلة التصحُّر.

وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: مشاركة الشباب المتعطلين عن العمل في استصلاح الأراضي وبمشاركة من البنوك في تمويل هذه المشاريع من باب المسؤولية المجتمعية، إنشاء شرطة بيئية ذات صلاحيات تنفيذية لمحاربة المخربين الذين يقومون بالصيد أو الاحتطاب الجائر وتوقيع غرامات صارمة بحقهم، إلزام المصانع بزراعة أعداد محددة من الأشجار لتقوم بتخفيف آثار الانبعاث الكربوني، استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة لزراعة مصدات من الأشجار لوقف زحف الرمال للمدن، تشجيع البحوث المرتكزة على إيجاد حلول مبتكرة لوقف التصحُّر واستنزاف الموارد الطبيعية، يُعدل مسمى هيئة المحافظة على الحياة الفطرية إلى هيئة المحافظة على البيئة، تشجيع إنشاء الحدائق المنزلية الصغيرة، إنشاء المحميات الطبيعية.

 

المشاركون في مناقشات هذا التقرير:

  • د. إبراهيم البعيز.
  • م. أسامة الكردي.
  • د. الجازي الشبيكي (رئيس الهيئة الإشرافية لملتقى أسبار).
  • أ. جمال ملائكة.
  • د. حامد الشراري.
  • م. حسام بحيري.
  • د. حسين الجحدلي (ضيف ملتقى أسبار).
  • د. حمزة بيت المال.
  • د. حميد الشايجي.
  • د. حميد المزروع.
  • د. خالد الرديعان.
  • د. خالد الفهيد.
  • د. خالد بن دهيش.
  • د. راشد العبد الكريم.
  • د. رياض نجم.
  • د. ريم الفريان
  • د. زياد الدريس.
  • م. سالم المري.
  • د. سليمان الطفيل (ضيف ملتقى أسبار).
  • أ. سمير خميس.
  • د. عائشة الأحمدي.
  • أ. عبد الله الضويحي.
  • د. عبد الله بن صالح الحمود.
  • د. عبد الله بن ناصر الحمود.
  • د. عبد الله محمد بن صالح.
  • د. عبد العزيز الحرقان.
  • د. عبير برهمين.
  • أ. علياء البازعي.
  • د. علي الحارثي.
  • د. فوزية البكر.
  • أ. محمد الدندني.
  • م. محمد الشهري.
  • د. محمد الملحم.
  • د. محمود رمضان (مُعِدّ التقرير).
  • د. مساعد المحيا.
  • د. مسفر الموسى.
  • د. مشاري النعيم.
  • د. منى أبو سليمان.
  • د. منصور المطيري.
  • د. نورة الصويان.
  • د. نوف الغامدي (رئيس لجنة التقارير).
  • د. هند الخليفة.
  • أ. وليد الحارثي.
  • د. يوسف الرشيد.

http://alwatan.com.sa/Discussion/News_Detail.aspx?ArticleID=174394&CategoryID=8

http://www.al-jazirah.com/2014/20140427/ln32.htm.

http://www.al-jazirah.com/2016/20160623/ln44.htm

https://makkahnewspaper.com/article/153047

http://www.alriyadh.com/1696732.

https://twitter.com/norasow/status/1041604447800119297?s=12

https://twitter.com/norasow/status/1041604279277113344?s=12

تحميل المرفقات: التقرير الشهري 42

تحميل المرفقات

وقت البيانات لتقنية المعلومات شركة برمجة في الرياض www.datattime4it.com الحلول الواقعية شركة برمجة في الرياض www.rs4it.sa