نوفمبر 2018م
تمهيد
ناقش أعضاء ملتقى أسبار خلال شهر نوفمبر 2018 م العديد من الموضوعات المهمة التي تمَّ طرحُها للحوار على مدار الشهر، وشملت القضايا التالية:
- دافوس الصحراء والاستثمار في تقنيات المستقبل
- الدورة الثالثة لمنتدى أسبار الدولي 2018 بعنوان: عصر المستقبل “السعودية غداً”
- وثيقة سياسة التعليم في المملكة
- الأمن الثقافي
القضية الأولى
دافوس الصحراء والاستثمار في تقنيات المستقبل
¤ الملخص التنفيذي:
القضية: (دافوس الصحراء والاستثمار في تقنيات المستقبل).
إن أهمية مبادرة مستقبل الاستثمار في المملكة تكمن في المستقبل الاقتصادي، تماشيًا مع رؤية 2030 والتي تؤكِّد أن المستقبل للاستثمارات التي تأتي بنسبة أكبر من القطاع الخاص، تشجيعًا للمبادرين في الأعمال القائمة على التوسُّع والاستثمار، وجذب الاستثمارات الخارجية؛ وهو ما يُجسِّد سعي المملكة لتنويع مصادر الدخل من خلال تبادُل الخبرات مع المستثمرين والشركات الكبيرة.
وقد أشارت الورقة إلى أن مبادرة مستقبل الاستثمار 2018_ منتدى دافوس الصحراء- هي مبادرة محلية برؤى عالمية، مرتكزاتها الرئيسة هي “الاستثمار في التحوُّل”، و”التقنية كمصدر للفرص”، و”تطوير القدرات البشرية”. وفي المبادرة طُرِحت قضايا مهمة شملت مستقبل الإنسان بشكل عام، وآفاق الصحة العامة، وتأثير التقنية وتطوُّرها.
وأكدت الورقة على أنه بالرغم من الإيجابيات الاقتصادية في الاستثمار في المشاريع الريادية وعالية المخاطر كتقنيات المستقبل على المدى البعيد، إلا أن هناك إحجامًا واضحًا من القطاع الخاص والمستثمرين والمؤسسات المالية في تمويل تلك المشاريع في الوقت الحالي، إضافة لعدم الوعي بأهمية الاستثمار برأس المال الجريء. وفي مقابل هذا الإحجام عن الاستثمار في التقنيات الحالية؛ فإن ثمة ثورة رقمية تتطلب الاستعداد والجاهزية لها من خلال العديد الإجراءات، وأهمها: وجود خطط واضحة لتنمية المعرفة والدفع نحو الاستثمار في التقنيات المتقدمة والمستقبلية، وسنُّ تشريعات جديدة تتماشى مع هذه الثورة وتسارُعها، وتكون مشجعة ومحفزة للاستثمار في تقنيات المستقبل ضمن الإطار الإستراتيجي لرؤية 2030، وكذلك استحداث جهاز مستقل مخصص للاستثمار في تقنيات المستقبل يكون مقره مدينة نيوم.
وذهبت التعقيبات إلى أن تقنية المستقبل قد تكون في مراحلها الابتدائية الآن تتشكل في مكان ما بعيدًا عن أعيننا، ولا نعلم عنها شيئًا. نحن بعيدون جدًّا عن مكان تولُّد التقنيات الجديدة، ولكن لدينا موارد كفيلة بتحقيق الارتباط بتقنيات المستقبل إذا ما خطَّطنا لها جيدًا.
وأشارت التعقيبات إلى أنه بالرغم من كل التحوُّلات التي تشهدها المنطقة والعالم، يأتي “دافوس الصحراء” متوافقًا مع رؤية المملكة 2030، التي ترتكز على الاستثمار من خلال تحفيز فرص النمو وتعزيز الابتكار، ويعدُّ المؤتمر الذي يفتح أبوابه اليوم هو أفضل تجمُّع عالمي لعرض تلك الاستثمارات.
وأشارت المداخلات التي جرت على هذه الورقة إلى أن قدراتنا المحلية الآن لا تؤهلنا لنكون ضمن الفاعلين في تقنيات المستقبل أو في استثمارها، وأن البنية التحتية المتوفرة والمُخطَّط لها من حيث توفير السعة والسرعة اللازمين لنقل وتبادل البيانات، لا تفي بنسبة مقنعة من الطموحات المطروحة لدافوس الصحراء، كما أن المشكلة الكبرى تكمن في تكوين العقول والتفكير المطلوب للمشاركة الفعَّالة في تقنيات المستقبل واستثماراته.
بينما ذهب بعض المناقشين إلى أن مكاسب المملكة من هذا المنتدى لا تنحصر في استقطاب أموال لاستثمارها فحسب؛ وإنما المكسب الأكبر يتجاوز ذلك؛ فنقل التقنية، ونقل الخبرات، والتنوُّع في صناعة التدريب النوعي، تلكم عناصر تكتمل منها منظومة يتأسس من خلالها بناء ثقافي واقتصادي.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: توفير البنية التحتية لشبكة الاتصالات والبنية التحتية لشبكة المواصلات مع إيجاد موارد مالية للتطوير المستمر،أن تضع الدولة برنامجًا استثماريًّا في صناديق رأس المال الجريئة العالمية، تستلزم متطلبات جاهزيتنا للثورة الرقمية الهائلة والقادمة ضرورة مراجعة الإستراتيجيات والتنظيمات والتشريعات التقنية الحالية وتحديثها باستمرار، ضرورة سنِّ تشريعات جديدة تتماشى مع هذه الثورة الرقمية وتُشجِّعها وتُحفِّزها،يجب أن نبذل بسخاء في الاستثمار في العقل البشري ونطوره بشكل متوازٍ مع الاستهلاك إن لم يكن أسرع حتى نواكب متطلبات العصر ونُصبح من المصنعين.
¤ مقدمة:
إن مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار”، الذي أُقيمت فعالياته بالمملكة العربية السعودية في الفترة من 23 – 25 أكتوبر 2018، حمل خريطةً جديدة للاستثمارات بالمنطقة العربية، في ظل المنافسة القوية القائمة من كبرى الشركات والكيانات الاقتصادية الدولية، ما بين الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا ودول آسيا، واستهدف رسم ملامح مستقبل الاقتصاد السعودي، ومواصلة استكشاف الاتجاهات والفرص التي ستُسهم في تحقيق عائدات وآثار إيجابية مستدامة بالمملكة، وبناء شبكة تضمُّ أهمَّ الأطراف المؤثرين في الساحة العالمية، إضافة إلى تسليط الضوء على القطاعات الناشئة التي ستُسهم في رسم مستقبل الاقتصاد العالمي خلال العقود المقبلة.
كما أن أهمية مبادرة مستقبل الاستثمار في المملكة تكمن في المستقبل الاقتصادي، تماشيًا مع رؤية 2030 والتي تُؤكِّد أن المستقبل للاستثمارات التي تأتي بنسبة أكبر من القطاع الخاص، تشجيعًا للمبادرين في الأعمال القائمة على التوسُّع والاستثمار، وجذب الاستثمارات الخارجية؛ وهو ما يُجسِّد سعي المملكة لتنويع مصادر الدخل من خلال تبادُل الخبرات مع المستثمرين والشركات الكبيرة.
لذا تُعدُّ قضية “دافوس الصحراء والاستثمار في تقنيات المستقبل” من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدَّمها د. حامد الشراري، وتمَّ التعقيب على موضوع الورقة وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (إمكاناتنا ومواكبة تقنيات المستقبل، التقنية والجانب السياسي، مستقبل الاستثمار التقني في المملكة، ما تحتاجه منَّا الرؤية حتى نحقق النهضة، منتدى دافوس ومكاسب المملكة، “نموذج جامعة ستانفورد”، استشراف واقع التقنية، مشاكل التقنية في المملكة، متطلبات الثورة الرقمية القادمة، العنصر البشري السعودي وتسارع الثورة الرقمية، منظومة التعليم ومواكبة التطوُّر). وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديدَ من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نصُّ الورقة التي كتبها الدكتور حامد الشراري، وعقَّب عليها الدكتورة نوف الغامدي، والدكتور عبد العزيز الحرقان.
كتب د. حامد الشراري: مبادرة مستقبل الاستثمار2018- منتدى دافوس الصحراء- التي هي مبادرة محلية برؤى عالمية، مرتكزاتها الرئيسة هي “الاستثمار في التحوُّل”، و”التقنية كمصدر للفرص”، و”تطوير القدرات البشرية”. في المبادرة طُرحت قضايا كبيرة ومتعددة شملت مستقبل الإنسان بشكل عام، وآفاق الصحة العامة، وتأثير التقنية وتطوُّرها. هذه المبادرة استضافها صندوق الاستثمارات العامة الأسبوع الماضي في الرياض، واجتمع فيها أهم قادة العالم من المستثمرين والمبتكرين لاستكشاف الاتجاهات والفرص والتحديات التي ستُشكِّل ملامح مستقبل الاستثمار والاقتصاد العالمي في العقود المقبلة.
هذه المبادرة تُمثِّل البوابة الرئيسية لتوطين التقنيات والمعارف المتقدمة والتوجُّه نحو الاستثمار في تقنيات المستقبل الذي يتطلب الاستثمار في رأس المال البشري تزامنًا لملء مهن (وظائف) المستقبل التي تُولد نتيجة الاستثمار في تلك التقنيات وتوطينها. الاستثمار في المعرفة المرتبطة بتقنيات وصناعات المستقبل نقلًا وتوطينًا، والقدرة على اكتساب مهارة واستيعابها، لا اكتساب مهارة واستخدامها فقط، والتمكين من إنتاجها وتطويرها محليًّا بأيدي وطنية مستقبلًا، أصبح توجُّهًا عالميًّا في تنويع مصادر الدخل للدول مستقبلًا. الاستثمار في المعرفة يعني الاستثمار في التقنية وفي العقول التي تُطبِّق هذه التقنية.
منذ بداية القرن الماضي نما شعور متعاظم بأهمية الدور الذي تلعبه التقنية الحديثة التي تُمثِّل التقنية الخشنة (الآلات والمعدات وقطع الغيار، والسلع الوسيطة، ومكونات السلع النهائية Hardware Technology) مرتكزها، والدول المتقدمة تتحفظ على نقل أسرار تلك التقنيات إلى الدول النامية؛ لكونها تُمثِّل المحرك الرئيس لاقتصادها.
في الآونة الأخيرة، بدأت تبرز أهمية التقنية الناعمة (البرمجيات –(Software technology، العنصر المكمل (أو المشغل) للتقنية الخشنة، التي تعتمد على القدرة الذهنية للفرد مع تأسيس علمي جيد. وقد استطاعت بعض الدول الآسيوية، مثل كوريا الجنوبية والصين والهند، استثمار هذه السمة، وحقَّقت نجاحًا وتميزًا في صناعة تلك التقنيات (الناعمة)، وأصبحت من المنافسين والمؤثرين على المستوى العالمي فيها.
ولأهمية التقنية الناعمة وسيطرتها على مناحي الحياة حاليًّا ومستقبلًا، لا عجب أن تكون شركات التقنية هي المسيطرة على قطاع الأموال حول العالم؛ إذ بلغت قيمة أكبر 5 شركات تقنية (3.3) تريليونات دولار في عام 2018 (أبل 929.9 مليون دولار، أمازون 777.8 مليونًا، الفابيت 766.4 مليونًا، ميكروسوفت 750.6 مليونًا، وفيسبوك 541.5 مليونًا). ومما لا شكَّ فيه، أن العالم مقبلٌ على ثورة تقنية رقمية هائلة ستُغيِّر الكثيرَ من المفاهيم وأنماط حياتنا الاقتصادية أو الاجتماعية التي بدأت ملامحها تتجلى وأصبح بعضُها واقعًا، ومنها: الروبوت والذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، استخدام العملات الافتراضية (كالبتكوين)، والبلوك تشين، والحوسبة السحابية…إلخ، وهذه الثورة تتطلب استثماراتٍ مستقبليةً. وحسب تقرير للبنك الدولي فقد تمَّ تحديد 7 ابتكارات تُشكِّل ثورة تقنية في تقديم الخدمات بالمدن على مستوى العالم مستقبلًا، وهي: شبكات الهاتف المحمول من الجيل الخامس، تقنية البلوك تشين، الذكاء الاصطناعي- التعلُّم الآلي- البيانات الضخمة، السيارات ذاتية القيادة، استكشاف الفضاء بتكلفة منخفضة (الأقمار الصناعية الصغيرة)، القياسات الحيوية والهوية الرقمية والمدفوعات الرقمية، والطائرات المسيَّرة. هذا ليس حصرًا على التقنية خصوصًا في التقنية الناعمة، إنما هناك أيضاً الاستثمار في الصناعات المستقبلية الأخرى؛ كالصناعات التحويلية والمنتجات المستخلصة من البترول، والصناعات الدوائية…إلخ.
تُعدُّ المملكة العربية السعودية من أفضل دول العالم من ناحية الأداء والاستقرار الاقتصادي، وتمتلك مزايا نسبية عالية للاستثمار التقني وقدرات استثمارية هائلة بمقدورها تعزيز المكاسب الاقتصادية، يدعمها الإنفاق الكبير لتوفير التقنيات الحديثة، والذي يجعلها قادرةً على احتواء جميع التقنيات المستقبلية والتعايش معها، ومع كل هذه الجهود لا تزال تعتمد بصورة شبه كاملة على استيراد التقنية، بشقيها الخشن والناعم.
والحكومة السعودية تبذل جهودًا مضاعفة، وتعمل على تهيئة البيئة المناسبة لجوٍّ استثماري عالمي للانطلاق نحو مستقبل تقني مشرق. لهذا، وضعت الأطرَ التنظيمية الرئيسة نحو تحفيز وتنويع الاقتصاد الوطني؛ منها: دمج العديد من المجالس وتكوين مجلسين رئيسيين: أحدهما مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، الذي أصبح محركًا رئيسًا لتنمية اقتصاد البلد، وإطلاق رؤية المملكة2030 متضمنة برنامج صندوق الاستثمارات العامة الذي يعدُّ أحدَ المحركات الرئيسة للرؤية، وكذلك استحداث هيئات كالهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى عَقْد اتفاقيات وشراكات مع دول العالم المتقدم، والتوسُّع في استخدام التقنية، وتوسيع دور الحكومة الإلكترونية ليشمل أغلب الخدمات التي يحتاج إليها القطاع الخاص والأفراد، والتجارة الإلكترونية. ومن أهم المبادرات الوطنية لنقل وتوطين المعرفة التقنية تأسيس الشركة السعودية للتنمية والاستثمار التقني (تقنية) عام 2011م، المملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة، والشركة تسعى لتنويع الاقتصاد السعودي من خلال الاستثمار في المشاريع الواعدة وتوطين التقنيات. أيضًا، في نهاية العام الماضي (2017) صدر الأمر السامي بتخصيص 72 مليار ريال لتحفيز القطاع الخاص وتمكينه بما يحقق المزيدَ من تنمية الاقتصاد الوطني، والإعلان عن إنشاء بنك صادرات جديد برأسمال 30 مليار ريال لتشجيع نشاط التصدير ودعم مشاريع الصناعة والتعدين، وقبلها أُسِّس صندوق الصناديق لدعم الابتكارات والمشاريع الصغيرة والمتوسطة برأسمال 4 مليارات ريال، وكذلك مشروع المستقبل مشروع مدينة “نيوم” التي ستُبنى من الصفر على أرض خام؛ ما يمنحها فرصًا استثمارية في تقنيات المستقبل تميزها عن غيرها، لتصبح مركزًا رائدًا على المستوى العالمي، وتتفوق على المدن العالمية المتقدمة تقنيًّا من حيث القدرة التنافسية ونمط المعيشة. فالمملكة مستمرة وتبذل جهودًا في هذا المضمار “الاستثمار في تقنيات المستقبل”، وما حديث سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد مع وكالة بلومبيرغ قبل عدة أسابيع عن مضاعفة الاستثمار في “سوفت بانك” ليصل المبلغ لـ 90 مليار دولار، إلا خير دليل على هذا التوجُّه، وهو صندوق أسَّسته المملكة وبشراكة مع اليابان، هدفه الاستثمار في قطاعات تقنية حالية ومستقبلية، مثل: الذكاء الصناعي والروبوتات. كذلك، غرَّد معالي وزير التعليم الدكتور أحمد العيسى قائلًا: “بالتعاون مع وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات سوف نطلق بمشيئة الله مسارات جديدة للابتعاث الخارجي في تقنيات المستقبل، مثل: تحليل البيانات، والذكاء الاصطناعي، وأمن البيانات؛ لتأهيل المختصين في تقنيات المستقبل”. وما مبادرة مستقبل الاستثمار التي تعتبر من أكبر المنتديات العالمية وتُسلِّط الضوء على دور الاستثمار في تحفيز فرص النمو وتعزيز الابتكار وتوطين التقنية، واستضافتها في الرياض الأسبوع الماضي، إلا أحد هذه الجهود والقرارات النوعية.
وعلى الرغم من الإيجابيات الاقتصادية في الاستثمار في المشاريع الريادية وعالية المخاطر كتقنيات المستقبل على المدى البعيد، إلا أن هناك إحجامًا واضحًا من القطاع الخاص والمستثمرين والمؤسسات المالية في تمويل تلك المشاريع في الوقت الحالي، ربما تُعزى لتوفر الفرص الاستثمارية مضمونة النجاح والربح السريع وقليلة المخاطر؛ كالاستثمار في العقار والأسهم، إضافة لعدم الوعي بأهمية الاستثمار برأس المال الجريء. هذا الإحجام عن الاستثمار في التقنيات الحالية! فماذا عن الاستثمار في تقنيات المستقبل؟
إن ثمة ثورة رقمية هائلة وقادمة تتطلب الاستعداد والجاهزية لها من خلال:
1-مراجعة الإستراتيجيات والتنظيمات والتشريعات التقنية الحالية وتحديثها باستمرار، وسنُّ تشريعات جديدة تتماشى مع هذه الثورة وتسارُعها، وتُشجِّع وتُحفِّز للاستثمار في تقنيات المستقبل ضمن الإطار الإستراتيجي لرؤية 2030.
2-أهمية وجود خطط واضحة لتنمية المعرفة والدفع نحو الاستثمار في التقنيات المتقدمة والمستقبلية.
3-إيجاد نظام مميز للتعليم الجامعي والتطبيقي يتسم بالمرونة والسرعة بفتح برامج أو مسارات جديدة لتلبية متطلبات السوق المستقبلية، وتوفير القدرات البشرية لمساندة الاستثمار في تقنيات المستقبل.
4-إيجاد مراكز بحث وتطوير متطورة مرتبطة بالقطاع الصناعي وفق آليات واضحة، والتي تُعدُّ منطلقًا رئيسًا لأي إستراتيجية تهدف إلى التطوير العلمي والتقني في المستقبل والاستثمار فيهما، وقد يتطلب إيجادَ وزارة للبحث العلمي، وجهاز مستقل لتمويل الأبحاث كهيئة أو مؤسسة.
5-بناء قاعدة بيانات وخريطة طريق للمشاريع التقنية المستقبلية والتوجهات المحلية والعالمية بحيث تكون واضحة وشفافة لمساعدة المؤسسات الأكاديمية لبناء برامج تلبي المتطلبات المستقبلية، وتجذب المستثمرين الراغبين في الاستثمار في تقنيات المستقبل.
6- إيجاد قنوات استثمارية جديدة ترتكز بشكل كبير على رأس المال الجريء وتوفيره لتمويل الأفكار الريادية والابتكارية ذات العلاقة بتقنيات المستقبل، وكنواة اقتصادية مهمة ومنافسة في الأسواق العالمية، وقد يتطلب استحداث جهاز مستقل مخصص للاستثمار في تقنيات المستقبل يكون مقرُّه مدينة نيوم.
وفي الختام، أجدها فرصة أن نبارك للوطن قيادةً وشعبًا ما حققته مبادرة مستقبل الاستثمار 2018 – دافوس الصحراء، من نجاح رائع على المستويين المحلي والعالمي؛ منها توقيع 25 مذكرة واتفاقية استثمارية بقيمة بلغت 212 مليار ريال بما يعادل 56.5 مليار دولار أمريكي في مختلف المجالات، فضلًا عن حضور عالمي مميز.
عقَّبت د. نوف الغامدي: ليس بمستغرب أن يشهد المؤتمر الشهير بـ “دافوس الصحراء” هذا الحضورَ العالمي الكبير، بمشاركة العديد من رجال الأعمال ورواد الأعمال، والشخصيات البارزة من مختلف دول العالم، فصندوق الاستثمارات العامة السعودي هو أحد أكبر وأهم الصناديق السيادية في العالم، الذي يقود التحدي الكبير للمملكة في التحوُّل الاقتصادي، بالرغم من كُلِّ التحوُّلات التي تشهدها المنطقة والعالم، ويأتي “دافوس الصحراء” متوافقًا مع رؤية المملكة 2030، التي ترتكز على الاستثمار من خلال تحفيز فرص النمو وتعزيز الابتكار، ويعتبر المؤتمر الذي يفتح أبوابه اليوم هو أفضل تجمُّع عالمي لعرض تلك الاستثمارات.
إن مبادرة “مستقبل الاستثمار” يمكن أن تتحوّل إلى نموذج عمل دائم في السعودية وتُصبح مرجعًا في توفير الأموال لجميع مشاريع الدول، مثل “الصين وروسيا وإفريقيا أو أي دولة أخرى”، ويمكن تطوير النموذج حتى يغطي جميع الباحثين عن تمويل للأعمال الريادية أو التي تتطلب تمويلًا جريئًا أو تمويلَ حصص خاصة، مثل private equity. فالاقتصاديون الإستراتيجيون يرون أن العالم أصبح لديه تقبُّلٌ أكبر لدخول استثمارات أكثر مخاطرة، في صناعات واتجاهات استثمارية لم تكن معروفة سابقًا لا سيما بعد الأزمة المالية التي شهدها العالم خلال العقد الماضي. فالمملكة تعدُّ رابع دولة في العالم في امتلاك النقد الأجنبي بـ 501.3 مليار دولار بعد الصين واليابان وسويسرا على التوالي؛ ما يجعل المملكة من الناحية العملية أهم صانع قرارات استثمارية على المستوى الدولي، خاصة أن التمويل السعودي مستمرٌ في اكتشاف الفرص الواعدة حول العالم. ويتطلب نجاح صناعة من هذا النوع أن تكون السعودية منطقة تجمُّع وتركُّز لشركات الأموال التي تبحث عن استثمارات حول العالم، بحيث تصبح السعودية مركزًا جاذبًا لكل مَن يبحث عن تمويل سواء للمشاريع الحكومية العملاقة ومشاريع التحوُّل أو مشاريع رواد الأعمال والشركات الصغيرة ذات الآفاق الواعدة، خاصة بالنسبة للشركات التي تبحث عن جولات تمويل لأعمالها الناجحة.
وسعت المبادرة هذا العام إلى مواصلة استكشاف الاتجاهات والفرص التي ستسهم في تحقيق عائدات وآثار إيجابية مستدامة، وبناء شبكة تضمُّ أهمَّ الأطراف المؤثرين في الساحة العالمية، إضافة إلى تسليط الضوء على القطاعات الناشئة التي ستسهم في رسم مستقبل الاقتصاد العالمي خلال العقود المقبلة، وقد نجحت مبادرة “مستقبل الاستثمار” في تلبية حاجة المستثمرين والمبتكرين والحكومات إلى التواصل والالتقاء معًا؛ “لاستكشاف الاتجاهات والفرص الاستثمارية”؛ بما يعزز مظلة الأمان الاقتصادي للشعوب، من خلال التركيز على المشروعات الاقتصادية التي تتسم بطابع الديمومة والاستمرارية في القطاعات المرتبطة بالمتطلبات الأساسية للبشر. لقد جسدت المبادرة – إلى جانب أبعادها الجمَّة والمتعددة -النظرة الإنسانية للسعودية في أهمية تطويع الاقتصاد لخدمة البشرية، والتشجيع على ابتكار توجهات استثمارية واقتصادية تعود بالنفع العميم على السواد الأعظم من البشر سواء من خلال الاقتصاديات الوطنية للدول، أو إستراتيجيات الشركات العابرة للقارات.
وفِي نوفمبر الجاري سينعقد “منتدى أسبار الدولي” تحت عنوان: “عصر المستقبل، السعودية غدًا” والذي يركز على خمسة محاور رئيسية: التعليم في المستقبل، الصحة في المستقبل، التقنية في المستقبل، الطاقة في المستقبل، والبيئة في المستقبل، ومن هنا سأتطرق لتقنيات المستقبل من خلال رؤية وأهداف منتدى أسبار الدولي الذي يُعنى بمستقبل السعودية وموقعها على خارطة الطريق في التحوُّلات التقنية وفِي ظل الاقتصاد المعرفي.
التعليم في المستقبل؛ مَنْ يقرأ الواقع اليوم يحقُّ له أن يتخيل كيف سيكون التعليم في المستقبل في ظل التطور الهائل في مجال الذكاء الاصطناعي، وكيف أن الرجل الآلي قد يحلُّ محلَّ الأشخاص في كافة المجالات، والتعليم أحد هذه المجالات. وربما نحن الآن نعيش بداية انتهاء المقررات الورقية والتحوُّل للكتب الإلكترونية، وربما يومًا ما يتم الاستغناء عن الفصول الدراسية التقليدية للأبد، فمن يعلم؟ لذلك لا بد من مواكبة هذا التطوُّر العلمي والتقني، ولمواكبة هذا لا بد من إخراج أجيال مبدعة قادرة على التفكير في صناعة المستقبل، كما يحدث في أمريكا في بعض مدارس يدعمها بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، وكذلك في دولة فنلندا هناك العديد من المدارس التي تحاول تنمية قدرات الطلاب على الإبداع من خلال الأنشطة التي تنمي ملكة الإبداع والتفكير. وخلاصة القول، يبقى المعلم ركيزة أساسية في المجتمع له كل التقدير والاحترام، ولا أحد ينكر الفضل العظيم له، لكن واقع الحال يفرض علينا مواكبة التطوُّر من حولنا.
في دراسة اسكتلندية تطرقت للمهارات المطلوبة لمعلمي 2050، تمَّ تحديد أهم المواصفات اللازمة في معلمي المستقبل، وكانت على النحو التالي: الاهتمام بالتعليم بقدر الاهتمام بالعطلة، الالتزام والاهتمام بتعليم كل طفل في المدرسة، تشجيع التفكير الإبداعي الناقد، خلق الاهتمام والرغبة بالتعلُّم لدى المتعلمين، خلق بيئة مُحفِّزة على الفطنة والإبداع في فهم وتطبيق المهارات النظرية وتحويلها لواقع ملموس، إجراء الشراكات لدعم التعليم الفردي أو الجماعي للأطفال، التواصل مع الزملاء وإنشاء مجموعات الاهتمام بين الزملاء ومشاركة الأفكار، الحرص على المشاركة في أنشطة التطوير والتعلُّم الذاتي.
الصحة في المستقبل؛ تعدُّ الرعاية الصحية من المتطلبات والحاجات الأساسية للأفراد في كل المجتمعات، وتتسابق الدول في هندسة أنظمتها الصحية بناء على أوضاعها السياسية والاقتصادية والتعليمية، ومدى قوة قطاعيها العام والخاص، وكذلك الخبرات التي اكتسبتها في مجال الطب والمجالات المساندة له من التخصصات الصحية المختلفة. تتواصل الاختراعات التقنية في التطوُّر كمًّا ونوعًا؛ من برمجيات طبية وأيضًا من أجهزة طبية مختلفة بحسب اختلاف مراحلها من أجهزة التشخيص والعمليات والتعافي، وغيرها من الأجهزة التي تُعنى بصحة الإنسان بالمفهوم الشامل. ولعلَّ من أهم الأدوات التي بدأ استخدامها حاليًّا الهاتف الذكي بكل أنواعه، حيث أصبحت التطبيقات الخاصة بالصحة تزداد وتتطور، بدايةً من تسجيل المعلومات الطبية الخاصة بالفرد، مرورًا بعدد الخطوات والنشاط اليومي، ووصولًا لحالة التغذية والملف الطبي إن وُجد في بعض الحالات.
هناك حاجة إلى استخدام التقنية بالحد الأقصى والاستثمار فيها لمصلحة الإنسان، مع التطوير المستمر للسياسات التي تهدف إلى جعل حياة الإنسان أكثر صحيةً وإنتاجيةً وأكثر راحةً وازدهارًا، وكذلك الاهتمام بالجانبين التعليمي والبحثي في المجال الطبي، ولاسيما مختبرات الأبحاث التطبيقية والهندسية والبرمجية، تلك المنظومات التي ستُشكِّل مستقبل الطب، حيث يجمع الذكاء الصناعي كلَّ الخبرات الطبية المكتسبة، مع التطوُّر الحاصل في أدوات الكشف لإيجاد منظومات جديدة في علم الطب. والجدير بالمملكة البدء مبكرًا في الاهتمام بهذا المجال والاستثمار فيه، وتمكين الشباب السعودي من قيادة هذا المجال بشكل مبكر.
الطاقة في المستقبل؛ تطوَّر المشهد الدولي للطاقة خلال الأعوام الماضية بشكل دراماتيكي، من خلال اكتشاف احتياطات نفط وغاز جديدة، إضافة إلى دخول مصادر جديدة إلى السوق، أهمُّها: البترول المستخرج من الصخر النفطي، وتطوُّر تصنيع الوقود البيولوجي أو الحيوي واستهلاكه؛ ممّا أضاف عواملَ تأثيرٍ جديدة على السوق الدوليّة، التي شهدت تقلُّبات حادَّة في الأسعار أثّرت بشكلٍ كبيرٍ على النموّ الاقتصادي والاستقرار السياسي العالمي كتحدٍ جيوسياسي. وقد شهد الطلب العالمي على الطاقة تزايدًا كبيرًا بلغت نسبته 157% في الأعوام السابقة، حيث تزايد الطلب بشكلٍ بارزٍ في البلدان النامية التي شهدت ثورةً صناعية (حوالى 500%). ومن المتوقّع أن يزيد الطلبُ الإجمالي بنحو 49% إضافية حتى عام 2040.
شكَّل الصراع على ممرّات الطاقة ومعابرها، أحدَ الأوجه الخفيّة للصراعات الجديدة في شرق أوروبا، والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكان أحد أسباب التململ الصيني والعودة الروسيّة إلى حلبات هذه الصراعات، تحت مسمّيات ومبرّرات أمنيّة، بينها غايات اقتصاديّة تتمثّل في المحافظة على مستوى التأثير الحالي في هذه السوق الحيويّة، أو تأمين تدفُّق النفط بما يتوافق مع المصالح الخاصة بكلٍّ منهما، وتطرح هذه التطوُّرات تساؤلاتٍ عديدةً حول ماهيَّة التغيرات المرتقبة في مصادر الطاقة، وأثرها على الروابط الجيوسياسية المرتبطة بشبكات المصالح الاقتصاديّة، ذات العلاقة بمنابع النفط وممرّاته وأشكال الطاقة في المستقبل.
1- المصادر التقليديّة للطاقة:
تُصنَّف مصادر الطاقة إلى مستنفدة أو متجدّدة، رئيسة أو ثانويّة، ملوّثة أو صديقة للبيئة؛ كالطاقة المائية، والفحم الحجري، والنفط، والطاقة النووية، والغاز الطبيعي.
2- مصادر الطاقة الجديدة:
تُجمع المراجع على أن بقاء الطلب العالمي على الطاقة في تزايد مستمرّ. وقد أثبتت التجربة أنّه لا يمكن الرّكون إلى استمرار تدفُّق مصادر الطاقة المستثمرة حاليًّا، بطريقةٍ تلبّي الحاجات المتوقّعة مستقبلًا. ومن أشكال هذه الطاقة: النفط الصخري، الوقود الحيوي، والطاقة الشمسية، وطاقة الأمواج والمد البحري، وطاقة الرياح.
البيئة في المستقبل؛ تظل الاستدامة البيئية هي الحاضر والمستقبل، وهي ضرورة لمواكبة المتغيرات المستقبلية وركيزة مهمة لمدن المستقبل، ومع النمو الديمغرافي السريع والاستغلال غير العقلاني للموارد الطبيعية، بفعل نظام اقتصادي قائم على الاستهلاك واللامبالاة بالبيئة، يمكن للتكنولوجيا تقديم بدائل تنموية واقتصادية فعَّالة، والحد من حالة اللامساواة الطاغية الآن، والتقليل من تأثيرنا السلبي على البيئة إذا استخدمناها لتحقيق هذه الأهداف.
إذا أردتُ أن أختصرَ عصر المستقبل في بضع تقنيات ستُحدِث تغييرًا جذريًّا من وجهة نظري، فسأذكر:
– البيانات الكبيرة Big Data.
– إنترنت الأشياء.
– تقنية الواقع المعزز.
– تقنية البلوك تشين.
– تقنية الواقع الافتراضي.
– تقنيات حوسبة الحافة.
– ظهور شبكة الجيل الخامس.
– أنظمة الأمن السيبراني التنبؤية.
– تقنية الذكاء الاصطناعي وتطبيقات الحوسبة المعرفية.
ولتعزيز تلك التقنيات لا بد من التركيز على مواءمة تلك التقنيات مع:
– برامج الاستدامة الوطنية في جميع القطاعات.
– برنامج جودة الحياة وتطلعاته.
حقيقة لا نريدُ التسليم بالمُسمَّى الذي يطلقه العالم على الثورة الصناعية الرابعة، وهو تسونامي التقدُّم التكنولوجي، فتسونامي، كما هو معروف، إعصار اجتاح السواحل اليابانية وخلَّف آلافَ القتلى والمفقودين.
الانطباع الأول حول هذا المُسمَّى أنه باغَتَ العالمَ ولم يتوقعه أحدٌ، ونتج عنه الكثير من الخسائر في الممتلكات والأرواح، فهل حقًّا هذا ما نريده من الثورة الصناعية الرابعة التي ستشكِّل ملامح مستقبلنا القريب؟ أم أنَّ هناك إمكانية لقراءة التحوُّلات والاستعداد لها بجهوزية كاملة، بحيث نتحكم في توجهاتها ومخرجاتها لتكون عظيمةَ الفائدة وقليلة الخسائر؟
لو كان التطوُّر عملية تتمُّ من تلقاءِ ذاتها بدون تعب أو استعداد للمستقبل، لوجدنا جميعَ الأمم في مستوى واحد، ولكُنا نعيش الآن واقعًا خاليًا من المشكلات والتحديات. لكن التطور عبر التاريخ، كان ولا يزال ثمرةً لمجهود مجموعات كبيرة من الناس بمختلف تخصصاتها وخبراتها أبدعت وابتكرت واخترعت أدوات غدها، والتطور هو أيضًا ثمرة لرؤية قيادة أبدعت في سياساتها ونظرتها بعيدة المدى، وقادت شعبها بإصرار نحو المستقبل، وحرصت على توفير كافة المقومات التي تجعل هذا المستقبل أفضلَ بكثير من واقعها وأكثر ملاءمةً لتطلعات شعبها.
يجب الإقرار بحقيقة أن التسارع الذي تشهده ساحة الابتكار العلمي، وما أضافته من اختراعات واكتشافات، رافقها في الوقت ذاته، مزيدٌ من التفاوت بين الشعوب وارتفاع في مستويات الفقر والبطالة، وتفكك المجتمعات، وتنامي الكراهية والتطرُّف والصراعات التي تجعل من الوجه الحضاري للمرحلة كأنه مجرد قناع جميل يخفي خلفَه ملامح قاسية تخلو من الإنسانية، وإلا فكيف نُفسِّر بقاء الفقر والبطالة في البلدان ما دون النمو بالرغم من الثورة في وسائل الإنتاج، وانفتاح الحدود أمام تدفُّقات رؤوس الأموال والبضائع؟ وكيف نُفسِّر انتشار الأمراض الجديدة وعجز الأجهزة الصحية عن توفير وقاية أو علاج، وإذا توفَّر فهو بعيد عن متناول الغالبية من الفقراء حول العالم؟ وكيف نُفسِّر أنَّ في بعض الدول هاتفًا ذكيًّا واحدًا على الأقل لكل مواطن، بينما هناك نحو 4 بلايين شخص في العالم بدون اتصال بالإنترنت، و1.3 بليون بدون كهرباء، وبليونان بدون تعليم أساسي؟ وكيف نُفسِّر احتدام التناقض بين ثقافات الأعراق والمذاهب وتنامي الصراعات على الرغم من ثورة التواصل وتقنيات الاتصال التي يُفترض أن تُقرِّب الناس لا أن تفرقهم؟ والأهم من هذا كله، كيف نضمن ألا تكون الثورة الصناعية الرابعة مجرد تكرار لكل الطفرات التكنولوجية التي سبقتها؟
إن الإجابة عن السؤال الأخير تكمن في محاولة تفسير الإشكاليات التي طرحناها، ولا يوجد تفسير أكثر دقة من أن التطوُّر التقني كان نخبويًّا بالمطلق. فئات قليلة استفادت من طفرة التكنولوجيا وبقيت الغالبية متأخرةً عنها بمئات السنين وليس بعشراتها. هذه النخبوية سبَّبت تخمةً في الإنتاج والاستهلاك وأضرّت بمسيرة النمو الاقتصادي العالمي، بل تسببت في أزمات مالية ضخمة وستسبب أزمات أكبر إذا لم يُصحِّح العالم مفهومه عن التنمية وإذا لم نتسلح بالجهوزية الكاملة.
إن الجهوزية للثورة الصناعية الرابعة المقبلة أهم بكثير من نتائجها، وهذه الجهوزية تكون أولًا بمراجعة نقدية جادة لأخلاقيات الاقتصاد والسياسة على مستوى العالم أجمع، لتأمين عاملين أساسيين: عامل الوقاية، وعامل المبادرة.
الوقاية تعني أن نضع مسبقًا المبادئ العامة التي توجِّه التطور التقني والاختراعات نحو خدمة الناس، فتحديد وظيفة الاختراع العلمي تفوق في أهميتها وجود الاختراع ذاته، والتجربة أثبتت أنه ليس كل اختراع أو تقنية قد وُظِّفت في مكانها الصحيح… بعض الاختراعات العلمية كانت أدوات إبادة وتخريب، وبعضها كان احتكار الأقلية لمصير الأغلبية، وبعضها بات يعدُّ تهديدًا للعلاقات الاجتماعية. وقد عبَّر «كلاوس شواب» في منتدى دافوس العالمي 2017 عن ذلك، حيث قال: “هناك سلبيات تحملها الثورة الصناعية بقدر ما تحمل من إيجابيات”.
وللاستفادة من الإيجابيات ودرء السلبيات، نأتي للحديث عن الشقِّ المبادر من الجهوزية الذي يعني إنجاز توافقات دولية حول الكيفية الأسلم لتوظيف التقنيات الحديثة لما فيه خير الشعوب، فتقنيات اليوم قادرة إذا وُظِّفت بالشكل السليم أن تحلَّ المعضلات الكبرى للمرحلة، مثل: التغيّر المناخي والاحتباس الحراري، وتحقيق الأمن الغذائي، وتطوير التعليم والبحث العلمي، وتعزيز الابتكار في الطب وتطوير علاجات للأمراض المستعصية، والارتقاء بمستوى الخدمات الحكومية المقدمة للجمهور.
التوافقات الدولية حول هذه المبادئ العامة، يجب أن تقودنا في مرحلة متقدمة إلى تشريع هذه التوافقات وقوننتها، والتركيز على تحويلها إلى ثقافة ووعي لجيل كامل من شباب اليوم الذين سيصبحون بعد سنوات قليلة قادةَ المستقبل، فتأهيل الشباب في ظل واقع علمي يتطور باستمرار، وانفتاح لا حدود له على المعلومات، لا يعني فقط تسليح عقولهم بالمعرفة والعلوم، وتوفير مؤسسات أكاديمية حديثة؛ بل تعزيز وجدانهم أيضًا، وحماية قيمهم الإنسانية التي ستُشكِّل ناظمَ عملهم ومحدد غاياتهم.
والحديث عن الشباب، يحيلنا تلقائيًا نحو تناول الشق الأهم من جهوزيتنا لمخرجات الثورة الصناعية الرابعة وهو التعليم، فكيف يمكن للتعليم أن يؤنسن التكنولوجيا ويغيّر من وظائفها؟ وكيف يمكن أن نوازن بين احتمالات أن يتولى الجيل القادم من الذكاء الاصطناعي – الروبوتات- تعليم أبنائنا، وبين الحفاظ على القيم الإنسانية التي يجب أن تكون أهم مخرجات التعليم في المستقبل؟ لا نريد أن نقفز من واقع التعليم الحالي إلى واقع مختلف تمامًا بدون ضمان أن يؤدي قطاع التعليم وظيفته التي ذكرناها مسبقًا، وهي تنمية العقول والوجدان في آن واحد.
علينا أن نُركِّز في توجهاتنا الاستثمارية المستقبلية على حل إشكالات النمو السكاني العالمي والأمن الغذائي، وكيفية استخدام المعالجات الجينية للبذور والتربة لتحقيق وفرة الغذاء وإتاحته للجميع بدون استثناء، ومكافحة عوامل البيئة المناقضة لهذا التوجه، وتركيز الاستثمار العالمي في البلدان النامية على تحسين شروط الزراعة والثروة الحيوانية، وتعليم السكان تقنيات الإنتاج الحديث.
وعلينا أن نسعى لتوظيف مخرجات التطوُّر التقني لتطوير القطاع الصحي ورفع كفاءته في مكافحة الأمراض السارية والطارئة، وضرورة اعتبار أن العالم قرية واحدة ومجتمع واحد، وصحة كل فرد في هذا العالم مسؤولية كافة الحكومات والهيئات الدولية، فهل يُعقل أن نعتبر العالم قرية واحدة عند الحديث عن التجارة وتوظيف الموارد، ولا نعتبره كذلك عند الحديث عن صحة الناس ومستوياتهم المعيشية؟
نحن بحاجة ماسَّة في هذه المرحلة بالذات للنظر بنقدية علمية للقطاعات الاقتصادية القائمة على ضوء ما ستدخله التكنولوجيا من ذكاء صناعي على سلسلة الإنتاج والإدارة والتسويق. لقد عبَّر العالم عن مخاوفه أن تكون البطالة إحدى نتائج استبدال البشر بالذكاء الصناعي، لكن هل صحيح أن البشرية قادرةٌ على اختراع هذا الذكاء وتطويره ولكنها عاجزة عن تطوير القطاعات الصناعية التقليدية واستحداث أخرى للحفاظ على وظائف البشر؟ إن النظرة لطبيعة اقتصاد المستقبل يجب أن تتغير، فالقطاعات القائمة اليوم ليست هي ذاتها قبل مئة عام، والثورة الصناعية الأولى التي جاءت بالآلة، خلقت بالمقابل فرصًا جديدة للعمل وارتقت بمهارات البشر لتتناسب مع التحوُّلات الصناعية الكبرى، وأسست لشكل جديد من المجتمعات والعلاقات الاجتماعية، ولنوع جديد من العلوم والمعارف والتفكير. الخشية أن يتحول تراكم الثروة وتركيزها الذي نتج عن تقنيات التصنيع والتسويق الحديثة إلى عائق أخلاقي أمام أنسنة مخرجات الثورة الصناعية القادمة. قد يكون العالم اعتاد التفاوت، واعتاد وجود مليارات من البشر يعيشون بشكل بدائي محرومين مما أنتجته الحداثة، واعتاد مشاهد الموت والدمار. والأسوأ من ذلك، أن هذه الظواهر أصبحت مصادر دخل لأعمال تدرُّ مليارات من الدولارات على المؤسسات التي تتاجر بعذابات البشر.
إن إعلان هيئة الأمم المتحدة لأهداف التنمية المستدامة للعام 2030، يشير إلى إمكانية تنبُّه العالم لمدى خطورة العلم بلا إنسانية والتقدم بدون غايات سامية. لن تستطيع الأمم المتحدة وحدها أن تُحقِّق غايتها التنموية بدون خطط وبرامج تتجاوز في أهدافها توسيع عملية الإنتاج لتصل إلى توسيع آفاق وجداننا وهويتنا الإنسانية. علينا أن نسبق الإنتاج المادي للطفرة التقنية بإنتاج معنوي: أدب وثقافة وفلسفة وقيم ومعايير واضحة ترتقي بشكل وجودنا الاجتماعي. وعلينا أن نتفق على حل مشكلات الجوع والفقر والأمية والبطالة والتفاوت كعوامل مشتركة مضمونة بقوانين وضوابط. وعلينا أن نقي الناس الخوفَ من الجوع والحاجة والموت. فالخوف أساس كل ما نشهده من صراعات وعُنف وكراهية.
وعقَّب د. عبد العزيز الحرقان: تقنيات المستقبل لا نعلم عنها شيئا! تاريخ تطوُّر التقنيات الجديدة دائما يشوبه الغموض، وقد مرَّت تقنيات جديدة أمام أعين خبراء ومستثمرين ولكنهم تجاوزوها، واستفاد غيرهم وخسروا خسارة كبرى.
حينما اختُرع الكمبيوتر في الخمسينيات من القرن الماضي، قال مخترعه إن الولايات المتحدة لن تحتاج أكثر من ستة أجهزة. فالمخترع لم يكن يتصور أن يتملك الفرد جهازًا أكبر قدرة من أجهزة كانت مخصصة للحكومة فقط، وهي القادرة على شرائها.
شركة كوداك لم تستثمر كما يجب في التصوير الرقمي؛ لأنها لم تعتقد أنه سيحتل مكانها في التصوير الضوئي وأفلست الشركة، اختفت من سوق الأسهم الأمريكية بالرغم من أنها كانت إحدى أكبر 500 شركة أمريكية.
تقنية المستقبل قد تكون في مراحلها الابتدائية الآن تتشكل في مكان ما بعيدًا عن أعيننا، ولا نعلم عنها شيئًا. نحن بعيدون جدًّا عن مكان تولُّد التقنيات الجديدة، ولكن لدينا موارد كفيلة بتحقيق الارتباط بتقنيات المستقبل إذا ما خطَّطنا لها جيدًا.
ففي الموارد البشرية؛ نقل الخبرة والمعرفة عن طريق المشاركة: “هاني جمجوم” يعمل في أحد أهم وأعقد مشاريع شركة “آي بي إم” في الذكاء الصناعي، وصل لهذا المنصب بمجهوده الذاتي وقدراته العلمية بدون دعم من الدولة. نحتاج لمثل هذا الشاب في المؤسسات البحثية والشركات الكبرى، ولعلَّ الدولة تؤسِّس برنامجًا خاصًّا بذلك لدعم مجهودات الطلاب في التوظيف والتعيين في شركات عالمية. الصين والهند مرَّتا بتجربة مماثلة حينما استقطبت الولايات المتحدة علماء ومهندسين من هاتين الدولتين، ثم عادوا لبلادهم ليؤسسوا شركات تقنية عالمية.
المشاركة في النجاحات الدولية بالاستثمار في رأس المال الجريء: صناديق كبرى عالمية متخصصة في اكتشاف تقنيات المستقبل، وهي التي يستهدفها الرياديون والمبتكرون العالميون؛ نظرًا لضخامة أصولها المالية، ولخبرتها ومعرفتها في تنمية الابتكارات. لذا فمن المفترض أن تتولى إدارة محفظة حكومية ضخمة لا تقل عن 30% من أصول صندوق الاستثمارات العامة.
استنبات المعرفة بتعزيز البحث العلمي المحلي: عدد البحوث في الجامعات السعودية التي نتج عنها منتجات تقنية على مدى السنوات العشر الماضية لا يكاد يُذكر؛ وهذا يعود إلى نظام الجامعات السعودية الذي لا يحفِّز على الابتكار، ونظام المشتريات الحكومية المقيد لصلاحيات الجامعات، ونظام الخدمة المدنية فيما يتعلق بأحقية عضو هيئة التدريس في المشاركة في ملكية المنتجات المطورة بناء على بحوثه. إضافة إلى ضعف مكونات منظومة الابتكار المحليةـ فلعلَّ الدولة تتولى العمل على تغيير وتعديل الأنظمة الحكومية، وتأسيس مؤسسات متخصصة لتفعيل منظومة الابتكار الوطنية.
¤ المداخلات:
إمكاناتنا ومواكبة تقنيات المستقبل:
أشار د. عبد العزيز الحرقان إلى أن قدراتنا المحلية الآن لا تؤهلنا لنكون ضمن الفاعلين في تقنيات المستقبل أو في استثمارها. أضاف د. زهير رضوان إلى ذلك أن البنية التحتية المتوفرة والمُخطَّط لها من حيث توفير السعة والسرعة اللازمين لنقل وتبادل البيانات، لا تفي بنسبة 25% من الطموحات المطروحة لدافوس الصحراء.
أيضًا ذكر د. حامد الشراري إضافة إلى ذلك البيانات الضخمة وآلية تحليلها بصورة علمية وصحيحة. فالرؤية 2030 وما تشملها من برامج ومبادرات ومشاريع هي بيانات ضخمة.
بينما يرى د. عبد العزيز الحرقان أن رفع مستوى تقنية المعلومات سهلٌ. المشكلة في تكوين العقول والتفكير المطلوب للمشاركة الفعَّالة في تقنيات المستقبل واستثماراته.
من جانبه علَّق د. زهير رضوان، إنه بالفعل سهل إذا توفرت البنية التحتية لشبكة الاتصالات، ومثلها توفير البنية التحتية لشبكة المواصلات التي تربط الوطن والعالم بعضه ببعض، فكلتاهما تحتاج إلى تخطيط والتنفيذ على مراحل، مع إيجاد موارد مالية للتطوير المستمر؛ لأنها تتغير وتتطور باستمرار، وفي كل تغير تتطلب التقنية أجهزةً وأنظمة وسرعة لنقل وتبادل المعلومات أكبر. فالخوف كل الخوف أن يسبب ضعف جاهزية البنية التحتية تأخُّرَ وفشل مشاريع تقنيات المستقبل واستثمارته.
التقنية والجانب السياسي:
يعتقد د. خالد الرديعان أن هذه القضية المطروحة للنقاش- وكما يتضح-تقنية بامتياز، إلا أن لها جانبًا سياسيًّا مهمًّا أيضًا.
وأرى أنه بما أن حكومتنا منخرطة في برنامج تحوُّل اقتصادي ضخم اتُّفق على تسميته برؤية 2030 فإنني أتمنى من حكومتنا أن لا تُشتت جهودَها في العمل السياسي العربي؛ لعدم جدوى ذلك، وأتمنى أن لا تنشغلَ بأعمال تَخصُّ دولًا عربية أخرى لكي تتفرغ لمشروعها التحوُّلي.
السياسة العربية “سائلة” وما يجري في الدول العربية من أزمات مُقلِقٌ وباعثٌ على الإحباط بسبب تردي الوضع وعدم حصول تقدُّم؛ الأمر الذي ولَّد عند الشعوب العربية حالةَ يأسٍ من صلاح الأوضاع؛ فالعراق غير مُستقِر تمامًا، وسوريا مضطربة وبشدة، ولبنان برميل بارود، وليبيا تصطلي بنار حرب أهلية، ومصر تَئِنُّ اقتصاديًّا، واليمن جُرح مفتوح لا نعلم متى يلتئم، وقطر تفعل كلَّ ما في وسعها لإلحاق الضرر بنا وتشويه سمعتنا.
وقبل كل ذلك فالصراع العربي الإسرائيلي عَصِيٌّ على الحل كما يبدو، ولا يلوح في الأفق ما يشير إلى حلٍّ جذري لهذا الصراع الذي طال أمدُه. هذه المقدمات للقول إنه ينبغي ألا ننشغل كثيرًا بهذه الملفات المفتوحة لكي نتفرغ “للداخل السعودي”، وقضية التحوُّل والرؤية. لا نريد أن تشغلنا الدول العربية بمشكلاتها عما نحن بصدد إنجازه.
بلدنا-ولله الحمد-غنيٌّ ومتماسك، والشعب مُلتف حول قيادته، وهذه نقاط قوة يُفترض أن نوظِّفها في مشروع التحوُّل.
فلندع الآخرينَ يتدبرون أمورَهم دون تدخُّل منَّا إلا بحدود ما يخصُّ أمننا، ولندع العمل السياسي العربي الذي لا طائل من ورائه؛ فقد نكون بهذا التوجه العملي الذي قد يُفسَّر بـ”أنانية إيجابية” قدوةً لغيرنا ممَّن يودُّون اللحاق بنا.
من جانبه، يرى د. مشاري النعيم أنَّ جزءًا من التنمية غائبٌ في مثل هذه المناسبات، وهو تنمية المؤسسات المحلية وتنمية المجتمعات المحلية في المملكة، كي تتفاعل مع مستقبل الاستثمار وخُطط التحوُّل.
أضاف د. عبد العزيز الحرقان أن المشكلة متعددة الأنظمة والتشريعات، ونستطيع تعديلها، ولكن لم نقم بذلك، فمثلًا: لاعب الكرة أو المطرب أو العقاري يمكن أن يكون موظفًا حكوميًّا، لكن المخترع أو الموظف الحكومي أو الأستاذ الجامعي لا يستطيع تأسيس عمل تجاري لاستثمار اختراعه، والآن لا يوجد صناديق أو قانون الصناديق الاستثمارية الجريئة.
مستقبل الاستثمار التقني في المملكة:
تساءلت د. أسمهان الغامدي عن أبرز التحديات التي تواجهنا، وكيف يُمكن لمستقبل الاستثمار السعودي أن يتبلور وفقَ فكر عرَّاب التحوُّل، والمعطيات التعليمية والعملية لا تزال تسير سيرَ السلحفاة؟
أكد د. مشاري النعيم أن هذا هو السؤال الأهم، فتغيير الثقافة الإدارية والتعليمية مهم جدًّا. كما أن العمل مع مؤسسات الدولة يُبين درجةَ الإهمال والخمول واللامبالاة والتسلُّط والانفراد بالرأي وعدم الإحساس بالمسؤولية.
ويتصور د. عبد العزيز الحرقان أن أفضل الاختيارات هي أن تضع الدولة برنامجًا استثماريًّا في صناديق رأس المال الجريئة العالمية. أمَّا إذا استهدفنا الاستثمار في المستقبل بكوادرنا الوطنية الشحيحة، والإستراتيجيات التي تتغير بتغير فريق العمل فلن نراوح مكاننا. منهج ونموذج التعليم عندنا لم يتطور أو يتغير، ومن ثَمَّ فهو لا يتواكب حتى مع المرحلة الحالية.
ما تحتاجه منَّا الرؤية حتى نُحقِّق النهضة:
ذهب أ. محمد الدندني إلى أن لدينا كلَّ العوامل المادية لتحقيق النهضة، وما ينقصنا هو العنصر البشري، وهو عمود الخيمة.
أمامنا تحدي الوقت بين تنفيذ الرؤية وتحسين التعليم. إذا تركنا الأمر آملين في تغيير وتطوُّر التعليم فنحن نخادع أنفسنا، يجب أن يكون هناك تغييرٌ جذري في التعليم بشقيه المهني والأكاديمي. ولكن إذا أردنا أن نرى شبابنا وشاباتنا في مواقع الاستثمار وفاعلين في الرؤية فلا بد من مؤسسات تعليمية مرتبطة مباشرة قدر الإمكان بالمنشآت الصناعية بأنواعها. سنعيش ازدواجيةً ولكن سلبياتها أقل من الاعتماد على نظام التعليم الحالي.
النقطة الأخرى هي بيروقراطية الوزارات الخدمية. وأرى مسارين لها في الدولة، وهما: مسار المؤسسات المعنية مباشرة بتنفيذ الرؤية، والوزارات الخدمية. وهنا يجب الانتباه لهذه النقطة، واعتماد اللامركزية في الإدارة الداخلية للدولة عدا الوزارات السيادية.
ليس من السهل تحسين الوزارات الخدمية، فالبناء من جديد أسهل من الترميم؛ لذا فإن من المجدي اختزال الوزارة في الوزير وطاقم قوي مؤهل يكفي لإدارة فروعها في المناطق الثلاث عشرة، وتفريغ الوزارات للتخطيط والمراقبة.
باختصار؛ نحتاج أن نسابق الزمن، فلسنا مترفين من هذه الناحية. لذا، والأمثلة كثيرة في العالم، فالدول التي أرادت أن تتحول وتتغير للأفضل خرجت على المعتاد، وأنتجت أنظمةً وطرقًا جديدة تتوافق مع الأهداف. ونحن لدينا الكفاءات القيادية ولكنها مشتتة ولا يوجد آلية لمعرفتها والاستفادة منها، نحتاج لجَمْع هذه الكفاءات بطُرق علمية وإيجاد أرشيف وطني يدلُّ صانعَ القرار عليهم.
العمل على بثِّ روح التضحية والالتزام في المجتمع، وجَعْل مشروعِ الرؤية هدفَ كل مواطن أو مواطنة قادر على العطاء مهما كان صغيرًا.
ذكرت د. أسمهان الغامدي أنها تتفق مع ما طرحه أ. محمد الدندني، ولكن من خلال قراءة المشهد نجد أن البعض من الداخل السعودي لم يؤمن حتى الآن بالرؤية ولا بالتحوُّل الوطني، بل لا يؤمنون بأنه مشروع الشرق الأوسط ” أوروبا الجديدة”. فكيف يمكن لنا أن نسير على خطين متوازيين: خط السعودية الجديدة، وخط الوعي والإيمان وتشمير السواعد؟
علق أ. محمد الدندني؛ لنعتبر مجازًا أن السعودية الجديدة شركة جديدة إذا لم يكن المجتمع مساهمًا لديه أسهم في هذه الشركة، فمن الصعب النجاح. يجب تغيير المجتمع من متلقٍ إلى فاعل، هنا ننجح بإذن الله. شعبنا كريم وطيب ويستحق كلَّ الخير، وقيادتنا نبيلة تحبُّ شعبها، علينا فقط إيجاد طرق التواصل والتفاعل.
منتدى دافوس ومكاسب المملكة:
يرى د. عبد الله بن صالح الحمود أن احتضان المملكة العربية السعودية لمؤتمرات تُعنى بالاقتصاديات عامة، واقتصاديات التقنية على وجه الخصوص، يُعَدُّ تَقدُّمًا ومفخرةً للوطن. المؤتمرات بطبيعتها تعدُّ أداةَ تسويق وترويج سواء لمنتج أو لفتح آفاق استثمارية يُرجى أن تكون قنوات تتأتى منها منتجات يعود نفعها ومصلحتها للوطن محتضن هذا المؤتمر أو ذاك.
ففي ظني، أن هذا النَّهج هو المدخل الرئيس لجلب اقتصاد نافع مُحقِّق لتطلعات الجميع، ومن المعروف أيضًا أن المكاسب لا تنحصر في استقطاب أموال لاستثمارها فحسب، إنما الأمر يتجاوز ذلك بكثير؛ فنقلُ التقنية، ونقل الخبرات، والتنوُّع في صناعة التدريب النوعي، تلكم عناصر تكتمل منها منظومة يتأسس من خلالها بناء ثقافي واقتصادي.
وهنا علينا أن نتساءل عن مدى الجاهزية لتنفيذ مشاريع مخرجات هذه المؤتمرات، ونعني هنا بالضرورة التسلُّح البشري بالخبرات التي يمكن لها أن تشارك في إنتاج المشروعات.
هنا لا بد أن نُدرك أن للتدريب والتأهيل أهدافًا أساسية لمشاركة المورد البشري المحلي في العملية الإنتاجية، وبطبيعة الحال هذا هدف إستراتيجي حتى تقوم جل النهضة الصناعية بأيدٍ وطنية وليس العكس.
ولهذا فإن تحقيق نجاح مشروعَي التحول الوطني 2020 أو تعديله إن حدث إلى 2022، ورؤية 2030، لن يتأتى دون أن تتأتى الجاهزية ذات المنظومة المتكاملة، بحيث يكون تنفيذ مخرجات أي مؤتمر قابلة للتطبيق من ناحية جاهزية البنى التحتية، ومن ناحية أخرى جاهزية المورد البشري.
“نموذج جامعة ستانفورد”:
أورد أ. محمد الدندني مقالًا بصحيفة الرياض لعبد الله مغرم بعنوان ” نموذج جامعة ستانفورد”، جاء في المقال (تشير بعض المصادر أن مخرجات جامعة ستانفورد منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى العصر الحديث أسسوا أكثر من 39 ألف شركة، وضخت أكثر من 5،4 ملايين فرصة عمل، وتُحقِّق إيرادات سنوية أكثر من 7.2 تريليونات دولار، وربما لو كانت ستانفورد دولة لأصبح اقتصادها من أهم وأبرز اقتصاديات العالم.
من أهم الشركات التي أسسها خريجو الجامعة في مجال تقنية المعلومات والإنترنت: ياهو، جوجل، إنتل، إتش بي، سيسكو، واتساب، نتفليكس، إنستغرام، يوتيوب، بي بال، سناب شات، لينكد إن. ومن الملاحظ في القائمة السابقة أنها شملت عددًا كبيرًا من شبكات التوصل الاجتماعي وشركتين؛ إحداهما أضافت مصداقية على التعاملات المالية عبر الإنترنت (بي بال)، والأخرى تعمل على تغيير الصناعة الإعلامية والسينمائية (نتفليكس)؛ وهذا يعني أن مخرجات جامعة ستانفورد من أهم من شَكَّلُوا العالم الحديث الذي يعيشه العالم اليوم.
تهدف جامعة ستانفورد إلى تأهيل الطلاب للنجاح الشخصي وفي الحياة، وهذا ما يجعلها مختلفة عن هارفارد والتي تهدف إلى النهوض بالمعرفة، وهنا فارق كبير في النتائج على أرض الواقع، ومن أهم أسباب تميُّز جامعة ستانفورد ومخرجاتها هي بيئة ريادة الأعمال في الجامعة والدعم المالي الذي تقدِّمه للطلاب لإطلاق المشروعات؛ لذلك من غير المستغرب أن تكون ستانفورد الجامعة الأكثر إبداعًا في العالم، وطلبتها لديهم قدرة عالية على الإبداع والابتكار، يدعم ذلك بيئة الجامعة التي تحول أبحاث الطلاب إلى شركات عملاقة، ومن أهم الأمثلة بحث طلاب الدكتوراه، والذي تحوَّل فيما بعد إلى شركة جوجل.
جامعة ستانفورد بتاريخها العريق ضخَّت كفاءات نوعية للاقتصاد العالمي، وجعلت من نفسها رمزًا لما يجب أن يكون عليه التعليم العالي، فالعالم اليوم لم يعد بحاجة إلى مخرجات لديهم معارف بدرجة جيدة وقدرة أقل على الإبداع والابتكار، فالتعلم اليوم بات أسهل من ذي قبل والبدائل الإلكترونية من دورات قللت من أهمية الدور التقليدي الذي تقوم به الجامعات منذ بضعة قرون، فما تحتاجه مؤسسات التعليم العالي اليوم هو نموذج جامعة ستانفورد، والذي برغم أن بدايات الجامعة كانت متواضعة ماليًّا إلا أنها وضعت لنفسها موقع صدارة على مستوى التعليم والأبحاث والكفاءات).
علق د. عبد العزيز الحرقان بأن جامعة ستانفورد هي جامعة خاصة ونجاحها كان بناءً على استثمار مشاريع البحوث الحكومية وعلى منظومة الابتكار الأمريكية، والجامعة بدأت بالتعاقد مع الحكومة الأمريكية لتنفيذ مشاريع تقنية، مثل تحسين وسائل التواصل اللاسلكي بين السفن الحربية والقواعد العسكرية. بمثل هذه المشاريع نمت الجامعة، ونمت جامعات بجانبها حوالي 25 جامعة الآن. هذا المنهج التعاقدي لتطوير المنتجات التقنية لا يتواجد لدينا، ويحد منه بشكل كبير نظام المشتريات الحكومية، وكذلك مشروع الإنترنت شاركت الجامعة في تأسيسه بموجب عقد مع وزارة الدفاع الأمريكية.
استشراف واقع التقنية:
ذكر أ. سمير الزهراني؛ ما أستشرفُه من واقع التقنية الحالي لدينا أن جُلَّ ما يمكن أن نلعبه هو دور الوسيط، فمهما بالغنا في تفاؤلاتنا التقنية إلا أني أزعم أننا مستهلكون للتقنية حد التخمة مقابل إنتاج لا يُذكر في صناعة التقنية وعوالمها.
عماد التقنية قائم على شركات ذات اقتصاديات أكبر من دول بعينها، وهذا للأسف لن يتأتى في عالمنا العربي مهما بالغنا في التفاؤل وتفننا في رسم الصور الوردية لذلك. جُل ما نستطيع فعله هو توطين التقنية لتصبح بإدارة كوادر سعودية، بينما التقنية ستظل مستوردة، وهذا قد يكون مشروعًا يمكن البدء فيه ومتابعته ومراقبته وانتظار فوائده.
الإشكال الآخر؛ أن مؤسسات الدولة -حفظها الله من كيد الكائدين وعبث المعتدين-لا تملك الرشاقة اللازمة لهذه الصناعة، فالتقنية ليست مجرد حاسب يُشترى أو تطبيق يُحاز، التقنية ظرف حضاري تستشعره الحكومات وينتجه الفرد ضمن عوامل مُحفِّزة تتجاوز الإنشاءات والأمنيات.
أخيرًا؛ أُورد تغريدة الشيخ محمد بن راشد التي يذكر فيها (يوم تاريخي جديد لدولة الإمارات، إطلاق “خلية سات” أول قمر صناعي عربي مصنوع بأيدٍ إماراتية 100%. محطة وطنية أثبت فيها أبناء الإمارات قدرتهم، ونضجهم، وعلمهم، وهمتهم التي يسابقون بها العالم. رأسنا اليومَ في السماء).
مشاكل التقنية في المملكة:
تساءلت د. أسمهان الغامدي: كيف سيكون مستقبل الاستثمار في التقنية ولا تزال معاملاتنا بنسبة كبيرة ورقية؟
من جانبه يرى د. حمد البريثن أن المشكلة في البيروقراطية، وهي مشكلة عالمية يعاني منها الكثير. جزء من العالم تعامل معها بتطوير الكوادر البشرية الإدارية، والجزء الآخر عمل على دراسة الأنظمة وأثرها في تعطيل العمل بدعوى تنظيمه.
خلال الطفرة السابقة لم نستطع التحرُّك جيدًا بسبب البيروقراطية والأنظمة المالية المعقدة وغير المضمونة، ومع ذلك نرى حجم المشاريع المتعثرة ليس بالقليل، فالتجهيزات المعملية وأنظمة التوظيف واستقطاب الطلاب المتميزين من العالم تعاني من بطء الإجراءات.
استطاعت جامعة الملك عبد الله تجاوز الكثير من تلك المشاكل وليس الكل، ولكنها تبقى ثكنة عسكرية لا يستطيع أي شخص زيارتها إلا بتصريح يُحدِّد وقت الدخول والخروج.
متطلبات الثورة الرقمية القادمة:
أشارت د. الجازي الشبيكي أن متطلبات جاهزيتنا للثورة الرقمية الهائلة والقادمة كما أشار إلى ذلك د. حامد الشراري؛ تشمل مراجعة الإستراتيجيات والتنظيمات والتشريعات التقنية الحالية وتحديثها باستمرار، إلى جانب سنّ تشريعات جديدة تتماشى مع هذه الثورة الرقمية وتشجِّعها وتحفِّزها.
وتساؤلي، هل لدينا إستراتيجيات وتنظيمات وتشريعات تُعنى بالتقنية وتنظمها في الوقت الحاضر؟ وما الجهة أو الجهات المسؤولة عنها؟
بالنسبة للمتطلب التعليمي والبحثي، هل بإمكاننا مسايرة هذا المطلب المهم والعاجل مع الوزارات المعنية والجامعات والمعاهد وغيرها… بإجراءاتنا البيروقراطية الحالية الطويلة المعقدة؟ فعلى سبيل المثال، لو أردنا استحداث مسارات علمية جديدة مواكِبة، لتطلب الأمر عدة سنوات بين الأقسام والكليات والوزارات وهيئة الخبراء ومجلس الوزراء، وهذا كله يبطئ من اتخاذ مثل تلك القرارات التي لا تتحمل التأخير.
أما فيما يخصُّ متطلب قاعدة البيانات، فهو مسؤولية كل الجهات الحكومية التي كان من المفترض أن تكون قد بدأت بها بقوة ودقة وشمولية منذ التخطيط لرؤية المملكة 2030.
أخيرًا، متطلب القنوات الاستثمارية المأمولة، يجب أن يكون مستندًا على ضمانات حكومية عالية الثقة حتى يتشجع رأس المال ويتجرأ ويشارك بفاعلية.
ذكر د. عبد العزيز الحرقان أن المشكلة الأساسية هي في عدم مرونة المؤسسات الحكومية وسيادة المركزية عليها. أضافت د. أسمهان الغامدي أن هذا صحيح، وللأسف حتى الآن فإن القيادات تعمل باتجاه لا يشبه الرؤية، ولا تسعى لتنظيم العمل بشكل سريع. والدليل على ذلك استحداثها لبنود سرية بهدف تسريع مسارات التحوُّل الوطني، في دلالة على بيروقراطية أنظمتها. وكذلك هناك استثناءات في نظام المشتريات وغيرها…
العنصر البشري السعودي وتسارُع الثورة الرقمية:
أشارت د. عبير برهمين إلى أن التقنية الحديثة والاستثمار والرؤية وغيرها تستلزم عنصرًا مهمًّا وفعَّالًا لم يتم التطرق له إلا بشكل خجول. العنصر البشري هو الأهم في كل هذه المعطيات. يجب أن نعرف حجم وقدرة العنصر البشري في بلدنا على استيعاب التسارُع الكبير في الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي والاقتصاد العالمي والتحديات التي تواجهه. لست أشكك في قدراتنا البشرية لكني أُسلِّط الضوء على أساسيات التطوُّر البشري. فنحن في ظلِّ هذا الزخم المتسارع كمَن يطلب من شخص كتابةَ كتاب بلغة ثانية يناقش بتفاصيل دقيقة التقنية الرقمية؛ لينافس ما هو متوافر على أرض الواقع، ويقدم إضافة جديدة للعالم. في الوقت الذي لا يعرف فيها هذا الشخص إلا الحروف الأبجدية الأولية للغته ناهيك عن معرفته بمعنى الثورة الرقمية أو خباياها. وأرجو أن لا يظن البعض أنني متشائمة جدًّا أو أُقلِّل من قيمة العنصر البشري في بلدنا، بل على العكس أؤمن أن قدراتنا البشرية قابلة للتطوُّر السريع والمنافسة متى ما هُيئت لها بيئة مناسبة ومُحفِّزة. ولكنني أحبُّ أن أكونَ أكثر واقعيةً عند مناقشة أي قضية باعتماد مبدأ” الاعتراف بوجود مشكلة هو أول خطوة لحلها”.
من السهل جدًّا أن نُطلق لمخيلاتنا العنانَ ونتصور المستقبل كشكل خارجي حسب ما لدينا من مخزون معرفي وتجارب متراكمة وخبرات سابقة وتعايش مستمر لأنماط بيئية متعددة ومتفاوتة في درجة تعقيدها، لكن من الصعب جدًّا أن نُحقِّق ذلك الواقع دون تشخيص سليم ومعرفة حقيقية بالمقدرات والقدرات الموجودة وخارطة طريق لتحقيق الهدف. يجب أن نعرف حقيقة موقعنا من الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية وكل متسارعات المستقبل بدايةً. فالمستهلك ليس كالمُصنِّع والمُبتكِر. الاستهلاك أسهل خاصةً في وجود المال الكافي لشراء مُنتَج جاهز، وهذا هو وضعنا الحالي. أما إذا أردنا أن نواكب متطلبات العصر ونُصبح من المُصنِّعين، فيجب أن نبذل بسخاء في الاستثمار في العقل البشري ونطوِّره بشكل متوازٍ مع الاستهلاك إن لم يكن أسرع.
التشريعات والقوانين المُحفِّزة والمرنة والداعمة للإبداع ضرورة وليست ترفًا. التنافس مع الآخر وتلاقح الأفكار والعمل ضمن فِرق عمل مشتركة هو ضرورة لاكتساب الخبرات والمهارات. الصرف بسخاء وتشجيع البحث العلمي والتركيز على البحوث المُنتِجة والاقتصاد المعرفي هو أساس للتقدُّم العلمي.
وإذا نظرنا إلى الدول المتقدمة نجد أنها تُخصِّص نسبًا متفاوتةً من الميزانية العامة للدولة لتشجيع البحث العلمي والاستثمار فيه. وإذا نظرنا للنسبة المُخصَّصة لدعم البحث العلمي والاقتصاد المعرفي لدينا نجدها لا تكاد تُذكر مقارنة بالدول المتقدمة، وعلى سبيل المثال: إن إسرائيل تُخصِّص لدَعْم البحث العلمي من ميزانيتها العامة مبلغًا يفوق مجموع مخصصات الدول العربية مجتمعةً في إنفاقها على البحث العلمي؛ وهذا يقودنا للتساؤل: أين يضعنا ذلك في ترتيب الدول القادرة على تطوير ودعم العنصر البشري؟ لا يمكن أن نُنافس ما لم نُكثِّف استثمارنا في العنصر البشري. مشروع الملك عبد الله -رحمه الله -للابتعاث الخارجي كان خطوةً أولى مُوفَّقةً للاستثمار في العنصر البشري إلا أن التشريعات والقوانين الحالية وخاصة في نظام التعليم تهدم للأسف هذا المشروع. فحين لا يجد المبتعث بعد عودته مكانًا يؤمِّن له متطلبات الحياة الضرورية، كيف لنا أن نستفيد من علمه ومعرفته؟ تم ابتعاث عدد لا بأس به، ولكن أين يتم توظيف هذه القدرات؟ الجامعات بلوائحها الحالية بيئة طاردة.
الحاضنات لا يكاد يكون لها وجود. المراكز البحثية المتخصصة نادرة، وإن وجدت فهي مقتصرة على نُخب قليلة وحصينة أكثر من حصن القسطنطينية سابقًا. الدراسات العليا والبحث العلمي مقتصرة على السعوديين وعصيةً على مَن سواهم، وهذا ضد التطور. عدد كبير مِنَّا درَسَ في الخارج. الجامعات العريقة وذات الصيت الواسع بَنَت صيتَها وتطوَّرت عن طريق الدارسين والدارسات الأجانب، فنحن كطلاب كُنا نُمثِّل دخلًا ماديًّا لا يُستهان به لأي جامعة، واختلاطنا بطلاب وطالبات من عدة دول يجعل عقولنا ومداركنا تتوسع وتتنافس علميًّا وفكريًّا. ناهيك عن أن تلك الجامعات تحتفظ بحقوق الملكية الفكرية لكل ناتج بحثي صادر عن أي دراسة تحصل فيها، وإن لمست وجود جدوى اقتصادية لتطويره وتحويله لمنتج، فإن تلك الجامعات تغري الباحث الرئيسي بالبقاء وإعطائه كلَّ التسهيلات اللازمة للاستفادة من أقصى طاقة لديه؛ في الوقت الذي نُقصر فيه نحن الدراسات العليا والبحث العلمي على طالباتنا وطلابنا السعوديين في نطاقنا الجغرافي المحدود جدًّا بحدود مدننا! فهل نتوقع أن تكون هذه البيئة مُنتِجة؟ مراجعة التشريعات والقوانين المنظمة للعمل في مختلف قطاعات الدولة تحتاج إلى إعادة نظر وإعادة هيكلة لتناسب عصرنا الحالي والمستقبلي، وإتاحة سقف مناسب من المرونة للقطاع الخاص يخلق نوعًا من المنافسة المحمودة، ويرقى بمستوى إنتاجية القطاع العام.
الحديث ذو شجون وقد لا ينتهي، لكن كخطوات عملية يتعين علينا العمل بشكل متسارع لتطوير الثروة الحقيقية للبلد، وهي إنسان هذا البلد. لا بأس أن نكون مستهلكين لفترة من الزمن لحين استكمال بناء عنصرنا البشري القادر على خلق أشكال متعددة من السيناريوهات المحتملة لسعودية الغد، وحتى اكتمال البناء سنظلُّ للأسف مجرد مستهلكين.
منظومة التعليم ومواكبة التطوُّر:
ذهب د. خالد الرديعان إلى أنه من الواضح من المناقشات وبعض الطروحات السابقة أن هناك تخوُّفًا من عدم اكتمال التحوُّل بسبب نقص العنصر البشري المُهيَّأ لإحداث النقلة المطلوبة.
وكما ذُكر هنا عدة مرات، فإن نظام التعليم يجب أن يتغير وجذريًا لمواكبة الحدث، ولكن ريثما يحدث ذلك فإنه يمكن الاستعانة بخبرات خارجية وافدة عند الحاجة كما فعلت دول أخرى، بحيث يتم استقدام الكفاءات المطلوبة من بعض الدول المتقدمة في مجال التقنية. هذا يتطلب ترشيد استقدام العمالة الوافدة بحيث يُقصر الاستقدام على أصحاب الخبرات العالية فقط بدلًا من فتح الباب لاستقدام عمالة غير ماهرة. وفي الوقت نفسه يتمُّ تدريب السعوديين على المهن الجديدة. يلزم-والحال كذلك- أن تقوم كل جهة حكومية بتدريب طواقم سعودية بواسطة الخبراء الأجانب الذين يعملون لديها. هذا بالطبع يتطلب استقدام كفاءات سواء من شرق آسيا أو من دول أخرى، وذلك بصورة عقود يكون من ضمنها أن يقوموا بالعمل المطلوب منهم، وفي الوقت نفسه تدريب السعوديين العاملين معهم؛ لبناء كوادر وطنية قادرة على إنجاز العمل بعد الاستغناء عن الأجانب.
معظم خبراء أرامكو في يوم من الأيام كانوا أمريكان ومن دول أخرى، وكان السعوديون يعملون في المهن المتدنية، وبعضهم كانوا يحصلون على تدريب مكثف من الخبراء؛ مما ساعد في بناء كوادر سعودية ممتازة. والآن فإن معظم خبراء أرامكو هم من السعوديين. أرامكو نموذج ماثل أمامنا.
بينما يرى د. عبد العزيز الحرقان أن رامكو منظومة عمل مستقلة لها نظامها الخاص بها، الذي تستطيع تغييره وتحديثه بناء على احتياجاتها؛ ومن ثَمَّ لا يمكن اعتبارها مثالًا. أضاف د. خالد الرديعان أن المشكلة إذًا تكمن في البيروقراطية الحكومية المترهلة؛ مما يُصَعِّبُ من عملية الحراك.
¤ التوصيات:
– توفير البنية التحتية لشبكة الاتصالات، والبنية التحتية لشبكة المواصلات مع إيجاد موارد مالية للتطوير المستمر.
– الاهتمام بتغيير الثقافة الإدارية والتعليمية.
– أن تضع الدولة برنامجًا استثماريًّا في صناديق رأس المال الجريئة العالمية.
– اعتماد اللامركزية في الإدارة الداخلية للدولة عدا الوزارات السيادية.
– جَمْع الكفاءات بطرق علمية وإيجاد أرشيف وطني يدل صانع القرار عليهم.
– ضرورة التسلُّح البشري بالخبرات التي يمكن لها أن تشارك في إنتاج المشروعات، وتنفيذ مشاريع مخرجات هذه المؤتمرات.
– تستلزم متطلبات جاهزيتنا للثورة الرقمية الهائلة والقادمة ضرورة مراجعة الإستراتيجيات والتنظيمات والتشريعات التقنية الحالية، وتحديثها باستمرار.
– ضرورة سنّ تشريعات جديدة تتماشى مع هذه الثورة الرقمية وتُشجِّعها وتُحفِّزها.
– يجب أن يكون متطلب القنوات الاستثمارية المأمولة مستندًا على ضمانات حكومية عالية الثقة حتى يتشجع رأس المال ويتجرأ ويشارك بفاعلية.
– يجب أن نبذل بسخاء في الاستثمار في العقل البشري ونُطوِّره بشكل متوازٍ مع الاستهلاك إن لم يكن أسرع حتى نواكب متطلبات العصر، ونُصبح من المُصنِّعين.
– ترشيد استقدام العمالة الوافدة بحيث يُقصر الاستقدامُ على أصحاب الخبرات العالية فقط بدلًا من فتح الباب لاستقدام عمالة غير ماهرة. وفي الوقت نفسه يتم تدريب السعوديين على المهن الجديدة، وأن تقوم كل جهة حكومية بتدريب طواقم سعودية بواسطة الخبراء الأجانب الذين يعملون لديها.
القضية الثانية
الدورة الثالثة لمنتدى أسبار الدولي2018
بعنوان: عصر المستقبل “السعودية غدًا”
¤ الملخص التنفيذي:
القضية: (الدورة الثالثة لمنتدى أسبار الدولي 2018 بعنوان: عصر المستقبل “السعودية غدًا”).
على مدى ثلاثة أيام استمرت فعاليات المنتدى برعاية صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض.وشارك في أعمال المنتدى 90 متحدثًا من 19 دولة حول العالم، وعُقدت 12 جلسة، و6 ورش عمل و8 محاضرات، فضلًا عن اللقاءات والندوات وتبادُل المعارف والخبرات. فقد جرى ذلك بحضور تجاوز ثلاثة آلاف شخص في الأيام الثلاثة من مختلف مناطق المملكة، فضلًا عن أنَّ جلسات المنتدى ومحاضراته قد نُقلت بواسطة تقنية الواقع المعزز ثلاثية الأبعاد على الإنترنت وقناة اليوتيوب؛ للتمكين من مشاهدتها والمشاركة فيها في جميع أنحاء المملكة والعالم.
بحث المنتدى خلال النقاشات والجلسات وورش العمل المتخصصة، والفعاليات المصاحبة، والمبادرات الخلاقة عدةَ محاور، من أبرزها: مستقبل الصحة والصحة التقنية، دور البيانات الضخمة في مجال الرعاية الصحية، مستقبل التقنية من حيث حوكمة البيانات وحمايتها، معالجة تحديات الخصوصية، والصورة الصناعية.إلى جانب مستقبل الطاقة، وتقنيات توليدها ونقلها وتخزينها، وتطبيقاتها الجديدة، والسياسات واللوائح المتعلقة بها، والحياة والمدن في المستقبل، ومستقبل البيئة والمياه، والتنمية المستدامة في ظل التحديات البيئية الماثلة والمستقبلية.
كما أخضع الخبراء المشاركون في المنتدى التحوُّلات الكبرى التي تشهدها مجالات: التعليم، والصحة، والتقنية، والبيئة، لنقاش علمي عميق، حيث بحثوا دور هذه التحولات في التأسيس لمستقبل العلوم والمعرفة، والاقتصاد، والرفاه، وتحسين الحياة في المجتمعات المستقرة الطموحة.
وقد اتفق المناقشون على النجاح الباهر للمنتدى هذا العام، وأنه منتدى علمي، وفكرته واقعية ومُلحّة، ومعنيٌّ بالمستقبل، كما يدعو إلى الخروج من ضيق السياسة ومشكلاتها إلى آفاق العلم والتقدُّم وخدمة الإنسانية. كما تمنى المناقشون أن يصل المنتدى لمستوى التأثير في صناعة القرار.
وأكَّد المناقشون أنَّ من جديد منتدى أسبار لهذا العام إقامة معرض من الابتكار للتأثير، والذي أُقيم بالمشاركة بين منتدى أسبار الدولي وجامعة كاوست، بالإضافة إلى كتاب العام الذي تمَّ إصداره بالتعاون بين المنتدى ومنظمة اليونسكو.
كذلك فإن منتدى أسبار بات جزءًا من مدينة الرياض، وهو ما أكد عليه راعي المنتدى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، كما أنه يُعدُّ ذراعًا فاعلة في تحقيق رؤية 2030 من خلال شعاره الذي تبناه وطبَّقه بالفعل.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: أن ينفتح المنتدى مستقبلًا نحو الشرق على دول، مثل: الصين، واليابان، والهند، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، وتايلاند، وعقد شراكات علمية مع جامعاتها ومراكزها البحثية. استحداث آلية إبداعية للتكريم والسلام على راعي الحفل تكون أجود وأرقى وأيسر.أن يكون هناك تعريفٌ بسيط عن المشاريع الفائزة مع عرض فيلم بسيط عن الفائزين في المنتديات القادمة، وأن يتم عمل لقاءات مع الفائزين. إعطاء وقت أكبر للجلسات للمناقشة مع الحضور وتلاقح الفكر.أن يكون مدير الجلسة ذا علاقة أو اهتمام قوي بموضوع الجلسة. أن تكون اللغة الأساسية للمنتدى هي العربية يتحدث بها كل العرب إلزامًا، ويتم الترجمة الفورية للمتحدثين الدوليين. ألا يتجاوز عدد متحدثي الجلسات أربعة ولا يقل عن ثلاثة. وَضْع ترجمة فورية إن أمكن للحضور ولو بعدد قليل، فهناك مَن لا يجيد اللغة الأجنبية أو يحتاج لترجمة. أن يكون هناك مُقدِّم لجلسات المنتدى تكون مهمته تقديم كل جلسة بمديرها وعنوانها، وأي إعلان يخصُّ المنتدى من الناحية التنظيمية.أن يُخصَّص المنتدى القادم للمشاريع السياحية الضخمة في السعودية، والتركيز عليها كمقوم كبير للدخل الاقتصادي والانتعاش الاجتماعي وجودة الحياة للمواطنين والمقيمين والزائرين.
¤ مقدمة:
على مدى ثلاثة أيام استمرت فعاليات المنتدى برعاية صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض.وشارك في أعمال المنتدى 90 متحدثًا من 19 دولة حول العالم، وعُقدت 12 جلسة، و6 ورش عمل و8 محاضرات، فضلًا عن اللقاءات والندوات وتبادُل المعارف والخبرات. فقد جرى ذلك بحضور تجاوز ثلاثة آلاف شخص في الأيام الثلاثة من مختلف مناطق المملكة، فضلًا عن أنَّ جلسات المنتدى ومحاضراته قد نُقلت بواسطة تقنية الواقع المعزز ثلاثية الأبعاد على الإنترنت وقناة اليوتيوب للتمكين من مشاهدتها والمشاركة فيها في جميع أنحاء المملكة والعالم.
بحَث المنتدى خلال النقاشات والجلسات وورش العمل المتخصصة، والفعاليات المصاحبة، والمبادرات الخلاقة عدةَ محاور، من أبرزها: مستقبل الصحة والصحة التقنية، دور البيانات الضخمة في مجال الرعاية الصحية، مستقبل التقنية من حيث حوكمة البيانات وحمايتها، معالجة تحديات الخصوصية، والصورة الصناعية.
إلى جانب مستقبل الطاقة، وتقنيات توليدها ونقلها وتخزينها، وتطبيقاتها الجديدة، والسياسات واللوائح المتعلقة بها، والحياة والمدن في المستقبل، ومستقبل البيئة والمياه، والتنمية المستدامة في ظل التحديات البيئية الماثلة والمستقبلية.
كما أخضع الخبراء المشاركون في المنتدى التحوُّلات الكبرى التي تشهدها مجالات: التعليم، والصحة، والتقنية، والبيئة، لنقاش علمي عميق، حيث بحثوا دور هذه التحوُّلات في التأسيس لمستقبل العلوم والمعرفة، والاقتصاد، والرفاه، وتحسين الحياة في المجتمعات المستقرة الطموحة.
لذا كان موضوع منتدى أسبار الدولي 2018 في دورته الثالثة (عصر المستقبل “السعودية غدًا”) من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال المداخلات التي جرت حولها، والتي ناقشت: (مؤتمر أسبار: منتدى علمي فكرته واقعية، مقترحات وملاحظات حول المنتدى، جديد منتدى أسبار في دورته الثالثة، منتدى أسبار ذراع فاعلة في تحقيق رؤية 2030، محاضرة مهمة حول قضية الإنسان في المستقبل، تميز ونجاح مبهر في الدورة الثالثة للمنتدى، ملاحظات حول وقائع المنتدى، معايير نجاح منتدى أسبار، انطباعات حول فعاليات المؤتمر).
وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديدَ من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نصُّ المناقشات.
¤ المداخلات:
مؤتمر أسبار: منتدى علمي فكرته واقعية:
ذكر د. خالد الرديعان؛ تابعتُ ما قِيل وما كُتب عن منتدى أسبار، وهاهو يعقد مؤتمرَه الثالث للسنة الثالثة على التوالي في مدينة الرياض. استبشرتُ خيرًا بكلام ولقاء د. فهد العرابي مع الأستاذ إدريس الدريس على قناة روتانا، وقوله: إن المنتدى علمي صِرف، وأنه يتمخض عنه مبادرات يتم متابعة تنفيذها؛ فهذا شيء ممتاز؛ وذلك للخروج من عادة طرح توصيات دون أن يتمَّ تنفيذها.
هذا المنتدى علمي وفكرته واقعية ومُلحّة، ومعنيٌّ بالمستقبل، ومن حسن الحظ أنه بعيدٌ عن السياسة والأدلجة؛ فأهدافه واضحة وتهمُّ الجميع، بما في ذلك بقية الدول العربية، فَتَقدُّم دولة عربية ما مهما كانت سيكون تقدُّمًا للدول الأخرى وإن كان بصورة غير مباشرة، فعدوى التقدُّم من المؤكد أنها ستصيب الجميعَ.
كم أتمنى لو تمَّ الانفتاح شرقًا على دول، مثل الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وتايلاند، وعَقْد شراكات علمية مع جامعاتها ومراكزها البحثية، بحيث تكون مشاركاتها عنصرًا أساسيًا في المنتدى. هذه الدول تتقدم بسرعة وغير منغمسة في شؤون المنطقة ومشكلاتها السياسية، وهي كذلك لا تُفرض قيودًا على تصدير المعرفة كما تفعل الدول الغربية؛ ولذلك أتمنى أَخْذ هذا البُعد في المنتدى وفي قادم الأيام. هذا المنتدى مهم جدًّا في تقديري، وفرصة سانحة لاستقطاب أصحاب الرؤى المستقبلية لإكمال مسيرة رؤية المملكة 2030، بحيث تُصبح نتائج المنتدى داعمةً ومُحفِّزة للرؤية.
لديَّ مُقترَح آخر؛ فبما أن المنتدى أصبح تقليدًا علميًّا سنويًّا، وبهذا الزخم المحلي والدولي؛ فإنني أقترحُ أن تتبناه الدولة؛ وذلك لضمان استمراره، وإن كنتُ أعتقدُ أن د. فهد رئيس مجلس إدارة المنتدى قد يكون له رأي آخر. ما هو مهم وأساسي-في تقديري-هو استمرار المنتدى كتقليد سنوي لفَتْح الآفاق العلمية حول اقتصاد المعرفة واتجاهاته الدولية، ومحاولة الإفادة من كلِّ ما يُمكن الحصول عليه من دول أخرى، بما يُعزِّز الشراكة بين الدول، وتخفيف هذا الاحتقان الذي صنعته السياسة في المنطقة.
نريد الخروج من ضيق السياسة ومشكلاتها إلى آفاق العلم والتقدُّم وخدمة الإنسانية؛ فالمنطقة مُثقَلة بأعباء كثيرة تعيق التقدم، ولعل هذا المنتدى يكون إحدى وسائل الخروج إلى رحابة التقدُّم والازدهار.
وذكر أ. محمد الدندني إضافة لما طرحه د. خالد الرديعان، أهمية أن نُمِد الجسور مع دول، مثل فنلندا والنرويج والسويد، فهي دول متقدمة وخطَت خطوات جبارة في عالم المستقبل. كما أنها أيضًا دول ليس لديها أجندات سياسية في المنطقة.
بينما د. رياض نجم بالرغم من اتفاقه مع ما ذهب إليه د.خالد الرديعان، إلا أنه لا يتفق مع فكرة تبني الدولة للمنتدى حتى نحافظ على استقلاليته وبعده قدر الإمكان عن السياسة. وأضاف أنه لا شك أن إدارة المنتدى قادرةٌ على استقطاب رعاة كبار للمحافظة على استمراريته.
مقترحات وملاحظات حول المنتدى:
أشار د. عبد الله بن ناصر الحمود إلى أن افتتاح المنتدى هذا العام كان رائعًا، والحفل بديع، والقاعة مهيبة، وأرى أنه لا بد أن يُراعى التالي حتى يكون الموسم الرابع أجودَ بحول الله:
أولًا: إضافة أجنحة للمنصة يمينًا ويسارًا تكون في مستوى الحضور وليس راعي الحفل، وتستوعب تجليس منظم لكل مِن المشاركين والرعاة المُكرَّمين.
ثانيًا: استحداث آلية إبداعية للتكريم والسلام على راعي الحفل تكون أجودَ وأرقى وأيسر، تحول دون كثافة المكرَّمين وتكدُّسهم وفوضوية الحدث، كمنح بطاقات فقط والعينيات لاحقًا، مع ترتيب مُسبق لكل مَن يُسلِّم على الراعي.
ثالثًا: في حال وجود جوائز وفائزين، لا بد أن يتمَّ التعريف بالجوائز وموضوعاتها بشكل جيد ومختصر.
أضاف د. حامد الشراري أنه قد يكون مناسبًا أن يكون هناك تعريف بسيط عن المشاريع الفائزة، مع عرض فيلم بسيط عن الفائزين في المنتديات القادمة، وأن يتم عمل لقاءات مع الفائزين (لا تزيد عن دقيقتين لكل فائز مثلًا)، ويُوضع في مواقع التواصل الاجتماعي للمنتدى.
كما اقترحت د. وفاء طيبة:
1. أن يكون الفورسيزون هو مكان انعقاد المؤتمر الدائم.
2. استخدام نفس آلية الدعوة والدعاية حيث أثبتت نجاحها، وكان عدد الحضور يثلج الصدر.
3. إعطاء وقت أكبر للجلسات للمناقشة مع الحضور وتلاقح الفكر، فأسبار أساسًا تختلف عن أي مؤتمر آخر، فهو منتدى فكري. ( مثال: أن تُخصَّص لجلسة التعليم ساعة واحدة وخمسة متحدثين وتعليق من مدير الجلسة، لا يكفي)، ومن وجهة نظري أنَّ ما قيل من شخصيات الوزارة هو ما يُقال لأي صحيفة محلية عن التعليم)، وكنت أتمنى أن تكون هذه الجلسة خاصة أكثر ثراءً من ذلك.
4. أرى أن يكون مدير الجلسة ذا علاقة أو اهتمام قوي بموضوع الجلسة، وقد يكون أحد أسباب ضعف أي جلسة بُعد مدير الجلسة عن الموضوع.
5. أن تكون اللغة الأساسية للمنتدى هي العربية يتحدث بها كلُّ العرب إلزامًا، ويتم الترجمة الفورية للمتحدثين الدوليين.
وذهبت د. نورة الصويان إلى أنها تتفق مع ما طُرح من الزملاء والزميلات، وأضيف عليها بعض الملاحظات، منها: أن يكون التنظيم والتنسيق أفضل مستقبلًا بين مقدِّمي فقرات الحفل، وفي فقرة تنظيم المكرمين، وأن لا يتم أي تقديم أثناء الكلمات، مع توفير ترجمة فورية، وتوفير وقت أطول للمداخلات والأسئلة، والاكتفاء بأربعة متحدثين كحد أقصى.
أضاف أيضًا د. عبد الله بن صالح الحمود بعض الاقتراحات والحلول التي يرى أنها تضيف مزيدًا من النجاح لمؤتمر ومنتدى أسبار الدولي:
1-أقترحُ ألا يتجاوز عدد متحدثي الجلسات أربعة ولا يقل عن ثلاثة.
2- أن يُؤكَّد على رؤساء الجلسات أن يكون جُلُّ مهامهم نحو توزيع الأدوار على المتحدثين، والاختصار قدر المستطاع عند تلخيص ما يقوله كل عضو.
3- لاحظتُ هذا العام كثرةَ أعداد المكرمين، وأقترحُ أن يتم التكريم على فترتين: الفترة الأولى للرعاة الرئيسيين من جانب راعي الحفل أمير الرياض، والفترة الأخرى للداعمين أو الرعاة الآخرين من خلال رئيس منتدى أسبار، ويأتي ذلك في نهاية المؤتمر.
4- الزيادة في أوقات تقديم الوجبات الخفيفة، الشاي والقهوة، حيث لُوحظ أن التقديم يأتي لفترات محدودة للغاية.
5- فيما يتعلق بالكلمات الممنوحة للرعاة في حضرة راعي الحفل الرئيس أمير منطقة الرياض، أرى أن يُؤكَّد على هؤلاء أن لا تتجاوز كلماتهم دقيقتين، فقد لُوحظ- على سبيل المثال – أن كلمة ممثل شركة أرامكو (الملحم) تجاوزت الحدَّ المسموح به في ظني، حتى أني سمعتُ من أحد الحضور أن مرافقي الأمير كانوا مستائين بسبب وقت الأمير.
6- كما أقترحُ أن يكون فندق الفورسيزون هو الفندق الذي تستمر فيه انعقاد لقاءات المؤتمر، حيث اتضح مناسبته من جميع النواحي، وبشهادة عدد كبير من الحضور.
من جانبه يتفق أ. عبد الله الضويحي مع ما ذكره د. خالد الرديعان ود.عبد الله بن ناصر الحمود تمامًا، ويضيف ويفصِّل بعض الأمور بصورة مباشرة:
1- مأسسة المنتدى لضمان استمراره وعدم ارتباطه بأفراد معينين. ورئيس المنتدى د.فهد الحارثي يقوم بعمل جبار وجهد كبير من أجل المنتدى، وهو عرَّابه، وسيبقى علامته الفارقة ومؤسِّسه لكنه يحتاج لمَن يشدُّ به أزره، ويشركه في أمره لضمان استمراريته بوصفه حدثًا مهمًّا على الساحة.
2- وضع شاشة صغيرة أمام المتحدثين ليتابعوا ما يُطرح على الشاشة الكبرى.
3- وَضْع ترجمة فورية إن أمكن للحضور ولو بعدد قليل، فهناك مَن لا يُجيد اللغة الأجنبية أو يحتاج لترجمة.
4- مع احترامي للإعلامي عماد الدين أديب، ورغم مكانته واسمه لم يكن في مستوى الحدث، وواضح أنه رأى في نفسه أنَّ الحدث عادي ولا يحتاج تحضيرًا؛ بدليل عندما نادى على وكيل وزارة التعليم قال (الجابري) لم يذكر اسمه. كما أن التنسيق بينه وبين المذيع الآخر كان مفقودًا، إذ يُفترض عادة في مثل هذه الحالات توزيع الأدوار قبل البدء بدلًا من أن يناديه دون ذكر اسمه ليكمل.
5- تكريم الرعاة وتوزيع الجوائز لم يكن منظمًا، حيث تمت المناداة عليهم أكثر من مرة، وإحدى الأخوات الفائزات ظلت تنتظر واقفة على المسرح فترة. ويُفترض أن تكون للمكرمين مقاعد مُخصَّصة قريبة من المنصة على الأقل، ينتقلون إليها قبل التكريم كسبًا للوقت ولمزيد من التنظيم.
6- بالنسبة للعشاء أثقُ أن سمو الأمير فاجأ الجميع بكلمته ولم تكن مبرمجة، ويُفترض أخذ ذلك في الحسبان مستقبلًا.
علق على ذلك د. خالد الرديعان بقوله: سبق لي أن طرحت على الدكتور فهد مقترحًا قبل سنتين، يخصُّ مركز أسبار عمومًا والمنتدى على وجه الخصوص؛ وهو أن يكون المركز شركة مساهمة أو مساهمة مغلقة، أو أن يكون له مجلس أمناء لضمان استمراره بالطبع وحتى لا يتحمل الدكتور فهد مزيدًا من الأعباء. ويرى أ. محمد الدندني أن أغلب المنتديات الدولية لها هذا النموذج، وهذا سيسمح بمقياس تأثير المنتدى فيما يُطرح حيث الاستمرارية والاستدامة.
وأزيدُ، وليس من باب التمني أن يصل المنتدى لمستوى التأثير في صناعة القرار، أقلها لدى التنفيذيين، فغالبًا الخطط الممتازة لدينا تضيع على المستوى التنفيذي، وأغلب الخلل في قلة الاستدامة والاستمرارية حيث تتغير الاستنباطات والاجتهادات مع تغير الأشخاص.
جديد منتدى أسبار في دورته الثالثة:
أشارت د. الجازي الشبيكي إلى أنَّ من أهم الشراكات الإستراتيجية لمنتدى أسبار الدولي هذا العام الشراكات مع كلٍّ من: وزارة التعليم، وزارة تقنية المعلومات، وزارة الإسكان، جامعة الملك عبد الله بن عبد العزيز للعلوم والتقنية، مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، أرامكو السعودية، ومجموعة روتانا.
كما أن من جديد منتدى أسبار لهذا العام الفعاليات المتميزة التالية:
1-معرض من الابتكار للتأثير، والذي أُقيم بمشاركة بين منتدى أسبار الدولي وجامعة كاوست، وهو مُخصَّص للشركات الناشئة تحت مظلة جامعة كاوست، والتي دعمتها الجامعة منذ أن كانت فكرة إلى أن خرجت للنور، مرورًا بإجراءات دراستها وتمويلها.
وقد تمَّ دعوة تلك الشركات للمنتدى لتكون مصدر إلهام وحافزًا للشباب السعودي الذي لديه أفكار وطاقات إبداعية.
2-من جديد أسبار لهذا العام أيضًا كتاب العام، وهو عبارة عن تقرير لمجموعة من الباحثين تم إصداره بالتعاون بين المنتدى ومنظمة اليونسكو تحت اسم” تحويل المستقبل”، حيث يطرح مفهوم استخدام المستقبل كطريقة لتغييره.
وستُخصص إحدى جلسات المؤتمر لمناقشة هذا الكتاب الذي جاء نتيجة لجهود بُذِلت خلال 5 سنوات من البحث العلمي بمشاركة أكثر من 40 من معامل قراءة المستقبل FLL في أكثر من 20 دولة، وقد صدر باللغتين الإنجليزية والعربية.
منتدى أسبار ذراعً فاعلة في تحقيق رؤية 2030:
ذهب أ. عبد الله الضويحي إلى أن كثيرًا من المشاريع والأحداث تبدأ متواضعة ثم تأخذ في التنامي نسخة بعد أخرى، وهذا أمر طبيعي. منتدى أسبار الدولي الذي نعيش نسخته الثالثة هذه الأيام غَيَّر هذا المفهوم.
عندما أُقيمت النسخة الأولى من المنتدى (ديسمبر 2016) فوجِئ الجميع بما فيهم القائمون عليه بالنجاح الكبير الذي حقَّقه، فتلقفه الركبان، وكان التساؤل المطروح: هل سيتمكن المنتدى من تحقيق النجاح ذاته في النُّسخ القادمة؟ وقد كان هناك تخوُّفٌ وهمس هنا وهناك لأسباب عديدة، لكن هذا التساؤل مَثَّل تحديًا مع الذات لدى القائمين عليه، فكانت كل نسخة أفضل من أختها، وكان التنامي يتجاوز الحسابات المطروحة.
المنتدى في نسخته هذا العام (الثالثة) أكَّد هذه الحقيقة، وبات جزءًا من مدينة الرياض، كما أكَّد ذلك راعي المنتدى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، وذراعًا فاعلة في تحقيق رؤية 2030 من خلال شعاره الذي تبَّناه وطبَّقه بالفعل.
في هذه النسخة أكَّد المنتدى أيضًا أنه ليس كغيره من المنتديات التي تنتهي بتوصيات ربما كان مآلها الأدراج، أو ملفات تُحفظ على أجهزة الحاسب وتقنياته، وإنما يطرح مبادرات ويتابع تنفيذها كواحدة من أهم أهدافه.
محاضرة مهمة حول قضية الإنسان في المستقبل:
حول محاضرة د. عبد الله ولد أباه أستاذ الفلسفة والدراسات في جامعة نواكشوط، التي جاءت بعنوان (الإنسان في المستقبل)، ذهب د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن الدكتور ولد أباه أبلى بلاءً حسنًا للغاية، بل تمنيت وقتها أن يستمر ساعة أخرى وهو يتحدث. أعجبني طرح هذا الرجل نحو الدقة في تسلسل الطرح الاجتماعي العلمي، وكان دقيقًا في ربطه بما يحدث في عالمنا حاليًّا، وإن شئت فقل: إنه قد ربط بين الصراع القائم بين الإنسان والتقنية الحديثة.
إجمالًا كانت مشاركته ضرورية للغاية، وهنا أودُّ أن أبعث برسالة إلى منظمي المؤتمر وعلى رأسهم د.فهد العرابي، من أنه كان يجب فعلًا مشاركة مثل هذه الشخصيات العلمية، فهي شخصيات تمنح مثلَ هذه المؤتمرات إضافةً نوعية يسمو بها التقرير النهائي لجلسات المنتدى.
وعلَّقت د. هند الخليفة بأنها بالفعل كانت ورقة رائعة، جمعت بين التأمل والتحليل المنطقي، فقد تدرَّج في طرح التحوُّل المتوقع في إنسان المستقبل وعالم هذا الإنسان.
ما طرحه في ورقته أخذنا إلى التساؤل، هل يمكن أن يُستبدل الإنسان بالآلة؟ وهو سؤال مطروح في السنوات الأخيرة، ويشغل تفكيرنا حول ماهية وجودنا، وإلى أين يأخذنا التطور المادي؟ ثم ماذا عن القيم والعلاقات؟ هل التحوُّل يقتضي التجرُّد من جميع ذلك؟ وما موقع العلوم الإنسانية وأبحاثها في ظل هذا التوجُّه المادي التقني؟ تثير الورقة العديدَ من الأسئلة الضمنية التي تفتح أبواب التفكير والتأمل.
كما أتفقُ مع د عبد الله حول أهمية انتقاء المتحدثين بهذا المستوى من الطرح، وقد وُفِّق القائمون على المنتدى في ذلك.
وترى د. نورة الصويان أن المحاضرة كانت أكثر من رائعة محتوى وأداءً،شخصيًّا خرجتُ محبطةً أو متخوفةً من المستقبل، شعرت بقلق من تغوُّل الآلة مستقبلًا أكثر في حياتنا، وتأثير ذلك على علاقاتنا الإنسانية. وبناء على طرح د.عبد الله، فإننا سنصل إلى عصر الروبوتات بشكل كامل. السؤال هنا: هل اعتمادنا على الآلات سيكون إيجابيًّا عمومًا؟ أم أنَّ هناك سلبيات أو مخاوف من وصولنا لذلك؛ كاحتمال فقدان سيطرتنا عليها؟ وما تبعات ذلك؟ وكيف سيتم التعامل مع هذه التبعات؟ وهل العالم مستعد وجاهز للتعامل مع هذه التبعات؟
تميُّز ونجاح مُبهِر في الدورة الثالثة للمنتدى:
ذكر د. عبد الله بن ناصر الحمود: أباركُ للدكتور فهد الحارثي رئيس مجلس إدارة منتدى أسبار هذا الصنيع، وهذا الحضور البهي. هذا الاستحقاق الرفيع، وهذا الشموخ الجلي. هذا التميُّز البديع، وهذا الجمهور الوفي. هذا الجهد الذي لا يضيع، وهذا الرصيد الثري. هذا العطاء الضليع، وهذا البذل السخي. هذا البناء المنيع، وهذا النظام العتي. هذا النموذج الوديع، وهذا الحراك الفتي. هذا الشمول في المواضيع، وهذا الختام القوي.
أضاف د. زياد الدريس، هنيئًا لنا جميعًا وللوطن كله نجاح منتدى أسبار. تهنئة استثنائية للعرَّاب د. فهد الحارثي، وللفريق العامل معه، وعلى رأسهم الأستاذة فاطمة الشريف والزملاء كافة.
أزعمُ أننا في يومين اختصرنا مسافةً طويلة نحو المستقبل المنتظر للسعودية غدًا. هذا منتدى يجب أن يستمر ويستمر ويستمر حتى نضعَ أقدامنا عند بوابة المستقبل قريبًا بإذن الله.
وأضافت د. عائشة حجازي أن الافتتاح، المتحدثين، المُنظِّمين، الحضور، الجلسات، والتنظيم فاق المتوقع.
وذكر د. خالد بن دهيش: أُهنِّئ د.فهد على هذا النجاح الباهر لعمل متقن قدَّم للوطن حزمةً متكاملة عن (السعودية غدًا)، مُستخلَصةً من نُخبة عالمية ووطنية مُتخصِّصة.
وأشكر كلَّ من أسهم في هذا الإنجاز من مجلس إدارة المنتدى وإدارته ومركز أسبار واللجان العاملة، وفي مقدمتهم الأستاذه فاطمة الشريف.
وبارك د. مسفر الموسى هذا النجاح المتكرر لمنتدى أسبار الدولي عامًا بعد عام، أصداء المنتدى عامة، قيمة عالمية وأسماء كبيرة جدًّا من الصعب أن يجتمعوا في مناسبة واحدة.
أضافت د. فوزية البكر أن الكثيرين في الجامعة يتطلعون ليوم الغد والذي بعده لحضور المحاضرات ذات المواضيع المتميزة. وذكر د. حامد الشراري أن هناك حضورًا كبيرًا من قيادات الجامعة السعودية الإلكترونية ممَّن لهم علاقة بالتقنية والمستقبل واقتصاديات المعرفة. وأكدت د. ريم الفريان أن الافتتاح فاق التوقعات خصوصًا التقنية المستخدمة (تغطية ثلاثية الأبعاد)، أصداؤها ممتازة.
من جانبه يعتقد م. أسامة الكردي أنه من خبرته الطويلة في تنظيم المعارض والمؤتمرات، لم يجد مؤتمرًا يكون الحضور فيه كامل العدد إلا هذا المؤتمر طوال الوقت، وفي كل الجلسات.
ذهبت د. وفاء طيبة إلى أن الجهودَ المبذولةَ من اللجنة المشرفة على المنتدى جبارة في الواقع، فلقد كان التنظيم والروح العامة تعطي إحساسًا بالجدية والتصميم، والألوان ترتبط بألوان أسبار، فالشركة المنظمة أيضًا جيدة.
الحقيقة أن المنتدى كان تظاهرة علمية فكرية جميلة، أثبت وجوده بكل ما طُرح فيه، وبهذا الحضور الكبير من الأكاديميين والمفكرين ورجال الدولة. ويبدو لي أن جلسات اليوم الثاني كانت أكثر عمقًا وفكرًا حيث أعطت مسحة أكبر قليلًا للنقاش.
كما أكدت د. الجازي الشبيكي أن المنتدى متميزٌ بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى؛ فكرةً وتنفيذًا وتنوُّعًا ومواكبةً. افتتاحه كان مُبهِرًا، وجلساته جمعت بين الشمولية والعمق والتنوُّع.
المشاركون يُمثِّلون مواقعَ مهمة سواءً على المستوى الحكومي أو مستوى القطاع الخاص أو القطاع الثالث (غير الربحي). إضافةً إلى أن المجالات والمحاور التي تمَّ التطرُّق إليها في الجلسات (التعليم، الصحة، الطاقة، التقنية، البيئة) تُمثِّل بالفعل أهم مرتكزات بناء المستقبل الواعد والمُبشِّر بكل خير للمملكة العربية السعودية.
ملاحظات حول وقائع المنتدى:
أشار د. رياض نجم إلى أنه بالإضافة لما أشار له الزملاء والزميلات، لعليِّ أضيفُ هاتين الملاحظتين:
-لاحظتُ أنه لا يوجد مُقدِّم لجلسات المنتدى Master of Cermony، وتكون مهمته تقديم كل جلسة بمديرها وعنوانها، وأي إعلان يخصُّ المنتدى من الناحية التنظيمية.
-استمرار الجلسات حتى السابعة مساءً فيه نوع من الإرهاق لمَن يريد المتابعة لكامل الجلسات. وقد جرت العادة في المؤتمرات الدولية أن تستمر حتى الساعة السادسة مساءً بحد أقصى. وقد ترون في المستقبل أن تتواصل الجلسات على مدى ثلاثة أيام بدلًا من يومين، إن كان هناك حاجة لذلك.
بينما ترى د. الجازي الشبيكي أنَّ من أهم الجلسات التي استوقفتها: الجلسة الخاصة بالتعليم، والجلسة الخاصة بمناقشة كتاب “تحويل المستقبل”، ومحاضرة الإنسان والمستقبل، والجلسة الخاصة بتقرير مؤسسة الفكر العربي، وجلسة “السعودية غدًا”.
لذا أقترحُ على الدكتور فهد ومجلس إدارة منتدى أسبار الدولي التفكيرَ بتخصيص المنتدى القادم للمشاريع السياحية الضخمة في السعودية، والتركيز عليها كمقوم كبير للدخل الاقتصادي والانتعاش الاجتماعي، وجودة الحياة للمواطنين والمقيمين والزائرين.
وبالإمكان جَلْب تجارب سياحية ناجحة على المستوى العالمي والإسلامي والعربي للتحدُّث في جلسات المنتدى المقبلة بمشيئة الله. وتكون (نيوم، ومشاريع البحر الأحمر، ومدائن صالح، والدرعية، والأحساء، والقدية، وغيرها) هي المرتكز في جلسات المشاريع على المستوى الوطني.
وذكرت د. عبير برهمين، سعادتي كانت مضاعفة؛ لأن الهدف الشخصي منها كان أن ألتقيَ الأشخاص الذين أسعدُ بالتحاور معهم على صفحات الواتساب وأقابلهم وجهًا لوجه. ولم يفاجئني أن أجدَ أنهم في الواقع أجمل بكثير خُلقًا وخِلقة من الواقع الافتراضي. وما سنذكره من ملاحظات بسيطة عن الملتقى هي للحفاظ على القمة ولا تُقلِّل من حجم نجاح العمل إطلاقًا.
ما أزعجني حقًّا أنني اضطررت للمغادرة قبل وقت الغذاء ولم أستطع أن أحضرَ آخر جلستين للأسف (“السعودية غدًا” و”أجندة المستقبل”)؛ لأني كُنت على متن الطائرة التي أقلتني لمؤتمر دولي متخصص في الكائنات الدقيقة الطبية والأمراض المعدية في دبي دار الحي، إلا أنني سعدت كثيرًا بتجربة النقل المباشر للمحاضرة والجلسة التي تلت فترة الغذاء مباشرة وأنا في طريقي للمطار، فقد قلَّلت من توتري في زحمة مرور شوارع الرياض.
وأذكر بعض الملاحظات على المنتدى وفعالياته:
1. التنوُّع والتفاوت في مستوى المشاركين بالمحاضرات كان جميلًا جدًّا. أعجبتني كثيرًا محاضرة الضيف الياباني، فالفلسفة والمنظور الياباني للأمور غير تقليدية، وأجدها شخصيًّا أكثر إلهامًا. فلعلنا في القادم من الأيام أن نتوجه أكثر شرقًا. فالتطوُّر المتسارع وغير المسبوق تقنيًّا واجتماعيًا في دول المشرق يستحق مِنَّا وقفةً أطول لنسبرَ أغوار مفاهيم ورؤى أجدها أحيانًا أفضل بكثير من التوجُّه الغربي. إضافة إلى أن هذا التوجُّه يجعلنا فعلًا أقدر على تحديد ملامح وهوية مستقبل السعودية غدًا بدقة أكبر.
2. الضيف المتحدث عن تجربة “ترجملي” أضاف بُعدًا إنسانيًا للمنتدى، في الوقت الذي تركز فيه الحديث عن روبوتات وإنترنت الأشياء، فالضدُّ يُظهِر حُسْنَه الضدُّ.
3. ربما يكون تخصيص يوم لورش العمل أفضل، أو أن يكون المنتدى على ثلاثة أيام تبدأ الساعة التاسعة وتنتهي الساعة الرابعة أو الخامسة بحد أقصى، وتكون ورش العمل مسائيةً من الساعة السادسة وحتى الثامنة مساءً مثلًا.
4. يجب أن يُؤخذ وقت الانتقال للضيوف والمشاركين في الجلسات والصور الجماعية للمشاركين بعين الاعتبار، والتقيد بالوقت وبعدد محدد من الأسئلة.
5. لم يتسن لي أخذ الكروت الشخصية للمشاركين في الجلسات لضيق الوقت، فحبذا لو تمَّ إضافة الإيميل الشخصي لكل مشارك تحت صورته في كتيب أجندة المنتدى؛ ليتسنى لنا التواصل معهم لاحقًا.
6. حبذا لو تمَّ تخصيص ركن لأخذ الصور الشخصية لمَن يرغب بكاميرات فائقة الدقة وتصوير احترافي، ولا بأس أن تكونَ برسوم.
7. كنت أتمنى أن يتم تخصيص وقت ومكان لأعضاء وعضوات الملتقى لتعارُف بعضهم على بعض.
8. ميزة النقل المباشر جميلة، وكنتُ أتمنى أن تكون تفاعلية حتى يتسنى لمَن يشاهد البث وهم بعيدون من التداخل سواء بطرح الأسئلة أو التعليق، ويتم جَمْع ذلك والإجابة عن الأسئلة في اليوم الثاني، أو مساءً.
وافقتها في ذلك د. وفاء طيبة، وأضافت أن تقنية النقل المباشر رائعة، وقد كنتُ أستمعُ لجلسات المنتدى حتى أطفأنا الجوالات في الطائرة، وفورَ وصولي دبي تابعت الاستماع، وهذا في حد ذاته يدلُّ على أهمية هذا المنتدى الرائع ومحتواه المفيد.
معايير نجاح منتدى أسبار:
أشار أ. عبد الله الضويحي إلى أنَّ هناك معيارين مهمين لنجاح منتدى أسبار الدولي:
الأول: هذا الحضور المتميز الذي لم يحدث مثله في منتدى آخر كما أشار د.عبد الله بن ناصر الحمود، فالمقاعد ملأى منذ يوم الافتتاح وحتى نهاية الجلسة الختامية، وكأنما ينتظرون شيئًا بعدها، ولعليِّ أشيرُ هنا أيضًا للتواجد النسائي الذي كان موازيًا للرجال في العدد، ومستوى النقاش، ونوعية الطرح؛ مما يؤكد حضور المرأة السعودية وكفاءتها متى ما أُتيحت لها الفرصة، وفي أي مجال.
الثاني: ارتجال صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض كلمة لم يكن مرتبًا لها، يؤكد فيها كلَّ مرة على أهمية منتدى أسبار، وأنه أصبح جزءًا من مدينة الرياض، وفي هذه المرة أكَّد حِرص الإمارة على نجاحه ودعمه.
لقد أصبح المنتدى كما أراد القائمون عليه ذراعًا فاعلة من أذرعة رؤية المملكة 2030 عملًا على أرض الواقع لا تنظيرًا أو برامج وتوصياتٍ للمستقبل.
انطباعات حول فعاليات المؤتمر:
وعن انطباعات د. فوزية البكر عن المنتدي، ذكرت:
أولًا: أن اختيار الفورسيزون كان موفقًا جدًّا، فمن اللحظة الأولى لمغادرة السيارة أمامك اسم المنتدى، وتدخل وسط قلعة واسعة توصلك مباشرة بالقاعة الرئيسية؛ مما وفَّر مدخلًا سهلًا للجميع، وصبغ (Brand name) في أذهان مَن حضر.
ثانيًا: محاضرة د عبد الله ولد أباه كانت جميلة وضرورية لأنسنة الطرح التقني والمادي الذي غلب على الجلسات بحكم موضوع المنتدى. سبق أن حضرت للدكتور ولد أباه في مجموعات أقل، وكان طرحه أفضل. أجده محاورًا رائعًا لكن (تقنية اللحظة) ربما أربكت كلماته التي أشكُّ أنها وصلت للجميع.
ثالثًا: بالنسبة للجلستين: الأولى “التقنية في المستقبل ومستقبل الوظائف” كانت رائعة، وحتى الثانية التي أدارتها ماكينزي كانت ممتازة، والتنقل بين العربية والإنجليزية كان حاذقًا جدًّا.
أمَّا بالنسبة للدكتور إريك لاند من الدراسات المستقبلية فلم أجده ممتعًا رغم ثراء ما طرحه، لكن ورقته كانت ثقيلة وتاريخية، ولم تصل إلى بعض الحضور، وكنتُ منهم.
رابعًا: الغداء كان لذيذًا ومتنوعًا، لكنَّ فَقْد الشاي والقهوة بعده خلق أزمةً صغيرة.
خامسًا: محاضرة عضو مجلس الشورى د الجغيمان حول مدرسة المستقبل رائعة، لكن ظلمها التوقيت المتأخر.
سادسًا: أظنُّ أن المنتدى ربما كان أفضل لو استمر إلى الخامسة فقط؛ بسبب أن الناس تتعب وتحتاج إلى الراحة، كما أنه يجب عدم إغفال جانب التواصل الاجتماعي والالتقاء، حيث يحب تنظيم لقاءات اجتماعية تُنظَّم بواسطة بعض أعضاء ملتقى أسبار ممَّن لديهم إمكانات في الرياض، وهم كُثُر والحمد لله، وتُنظَّم لضيوف ومتحدثي المنتدى، فهذا ما سيبقى في ذهن الزائر في العادة.
سابعًا: الجلسات كانت مكتظةً بالمتحدثين المتميزين، لكن لم يُعطوا الفرصة الكافية للتعبير عن كنوزهم. فمثلًا، الشاب العماني ذو 23 عامًا لم يتمكن من التعبير لنا عن سره الذي مكَّنه بأن يكون فوق المنصة وهو في هذه السن، وغيره أمثلة كثيرة.
ويعتقد د. حامد الشراري أن واقعية مواضيع المنتدى وعنوانه الجذّاب هما أهم أسرار نجاحه. أقترحُ أن المحاضرات التي ألقيت وكانت مميزة أن يُغرد عنها مع وضع رابطها في اليوتيوب لوحدها، بحيث كل تغريدة تكون عن محاضرة منفردة في موقع المنتدى، مثل محاضرة د. عبد الله ولد أباه.
¤ التوصيات:
– أن ينفتح المنتدى مستقبلًا نحو الشرق على دول، مثل الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وتايلاند، وعقد شراكات علمية مع جامعاتها ومراكزها البحثية.
– استحداث آلية إبداعية للتكريم والسلام على راعي الحفل تكون أجودَ وأرقى وأيسر، تحول دون كثافة المُكرَّمين وتكدُّسهم وفوضوية الحدث.
– أن يكون هناك تعريفٌ بسيط عن المشاريع الفائزة، مع عرض فيلم بسيط عن الفائزين في المنتديات القادمة وأن يتم عمل لقاءات مع الفائزين، ويُوضع في مواقع التواصل الاجتماعي للمنتدى.
– إعطاء وقتً أكبر للجلسات للمناقشة مع الحضور، وتلاقح الفكر.
– أن يكون مدير الجلسة ذا علاقة أو اهتمام قوي بموضوع الجلسة.
– أن تكون اللغة الأساسية للمنتدى هي العربية يتحدث بها كلُّ العرب إلزامًا، ويتم الترجمة الفورية للمتحدثين الدوليين.
– ألا يتجاوز عدد متحدثي الجلسات أربعة، ولا يقل عن ثلاثة.
– أن تُخصَّص فترتان للمُكرَّمين: الفترة الأولى للرعاة الرئيسيين، والفترة الثانية للداعمين أو الرعاة الآخرين.
– وَضْع ترجمة فورية إن أمكن للحضور ولو بعدد قليل، فهناك مَن لا يجيد اللغة الأجنبية أو يحتاج لترجمة.
– أن يكون هناك مُقدِّم لجلسات المنتدى، تكون مهمته تقديم كل جلسة بمديرها وعنوانها، وأي إعلان يخصُّ المنتدى من الناحية التنظيمية.
– أن يُخصَّص المنتدى القادم للمشاريع السياحية الضخمة في السعودية، والتركيز عليها كمقوم كبير للدخل الاقتصادي والانتعاش الاجتماعي، وجودة الحياة للمواطنين والمقيمين والزائرين.
– أن يُؤخذ وقت الانتقال للضيوف والمشاركين في الجلسات والصور الجماعية للمشاركين بعين الاعتبار، والتقيد بالوقت وبعدد محدد من الأسئلة.
القضية الثالثة
وثيقة سياسة التعليم في المملكة
¤ الملخص التنفيذي:
القضية: (وثيقة سياسة التعليم في المملكة).
كثيرٌ من الدراسات والبحوث توصلت إلى نتيجة واحدة، هي أهمية تغيير وثيقة التعليم في المملكة العربية السعودية كخطوة أولى لإصلاح التعليم، وبالتالي فإنها بحاجة للتغيير والتعديل في كثير من محاورها كوثيقة تعليمية.
وقد أكدت الورقة الرئيسة أهمية مناقشة نصوص سياسة التعليم التي تحتاج إلى تطوير وتغيير بتغير حالنا اليوم، فلا يمكن لتعليمنا أن يتغير ويتطور إذا كانت الرؤية والرسالة له غير واضحة وغير متماشية مع متغيرات العصر ومع الحقائق على الأرض.
كما أشارت الورقة إلى ضرورة إعادة التفكير في مدى مناسبة الوثيقة الحالية لمرحلة القفز التاريخي التي نمرُّ بها كأمة عبر رؤية 2030 الطموحة، والتي طوَّرت من أهداف المؤسسات العامة والخاصة، وأكدت على ضرورة المراجعات الداخلية بما يتماشى مع الأهداف الإستراتيجية لرؤية التحوُّل.
وذهبت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة إلى أن الوقت قد حان بل منذ زمن طويل لمراجعة وتطوير وتحديث هذه السياسة لتتواكب مع متغيرات العصر المتسارعة في الكثير من موادها، مع المحافظة على بقاء الخطوط العامة الأساسية للسياسة التعليمية في تعريف الفرد بربه ودينه وإقامة سلوكه على شريعة الله التي يدين بها المجتمع عقيدةً وشريعةً وحكمًا ونظامًا متكاملًا للحياة، وتلبية لحاجات المجتمع المتغيرة وتحقيقًا لأهدافه بما يتفق مع تلك المتغيرات في كافة جوانبها لبناء مجتمع حيوي. كما أن تأخُّر تطوير وتحديث بعض مواد السياسة التعليمية لم يكن عائقًا في مسيرة تطوير العملية التعليمية أمام وزارة التعليم التي أخذت في الاعتبار كافة متغيرات العصر التي تمرُّ بها المملكة.
كما أضافت التعقيبات أن الوثيقة لم تهتم بوضع أسس تطويرها ونمائها عبر الزمن، فهي تفترض ثبات الحال ولا تستشرف المستقبل، والأهم من ذلك أنها لم تعر جانب تطوير التعليم ذاته كممارسات وفكر تربوي كثيرًا من الأهمية، ولم تعكس إلمام كاتبيها بأدبيات هذا المجال، وهو ما يعتبر شرخًا كبيرًا في دورها الإستراتيجي كوثيقة يُفترض أن ترسم سياسة التعليم لحاضره ومستقبله معًا، بل إن المسألة التطويرية في وثيقة سياسة التعليم ينبغي أن يكون له المساحة الكبرى وأفضلية الاهتمام.
وأشارت المداخلات التي جرت على هذه الورقة إلى أنه يبدو أنَّ مَن وضع وثيقة سياسة التعليم ليسوا متخصصين في التربية والتعليم، وإنما أقرب إلى الشيوخ أو أصحاب الفكر الإسلامي المسيس؛ لذا جاءت الوثيقة مؤدلجة للتعليم أكثر من كونها تسعى لبناء المواطن السعودي، كما اتسمت بالإنشائية في الطرح الطاغية في العرض، ويغيب عنها الجانب التنفيذي، مع إهمال البُعد الثقافي للمجتمع السعودي.
لذا اتفقت المداخلات على أنه آن الأوان لإعادة صياغة الوثيقة؛ إذ إن عملية التنمية لا يمكن أن تتم بدون مواكبة التعليم لها من مناهج وطرق تدريس، إضافة إلى أنه تمَّ التأكد بالتجربة والواقع المعاش على عدم قدرتها على تلبية متطلبات التنمية الشاملة في المملكة، وأن هناك تضاربًا بين بعض ما جاء في وثيقة سياسات التعليم وأهداف رؤية 2030؛ فبينما تركِّز الرؤية على البُعد الوطني المعتمد على العمق العربي تلغي الوثيقة الجانب الوطني والقومي. كما أنَّ أهداف رؤية السعودية في التعليم من خلال رؤية 2030 المعلنة في برنامج التحوُّل الوطني تفوق بكثير ما جاء في الوثيقة، أي أنه تمَّ بالفعل تخطي الوثيقة على أرض الواقع؛ الأمر الذي يتطلب تقويمها وتعديلها، لتكون أكثر فائدة.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: أن تُعدَّ سياسة التعليم من قِبل لجنة وطنية من ذوي الخبرة، الاسترشاد بتجارب دول نجَح تعليمُها في إحداث النقلة المطلوبة مع مراعاة توطين ما يمكن توطينه عند الضرورة، أن تتسم الوثيقة بأن تتكون من خلال منظومة تدريسية تأخذ في الاعتبار المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ومتطلبات سوق العمل، أن تشمل الوثيقة محتوى متكاملًا من الأنشطة اللاصفية وبتنوُّع شامل ونوعي ومواكب للاحتياجات التنموية المستمرة، أن تتم صياغة رؤية إستراتيجية تكاملية تتكامل مع باقي السياسات في كافة القطاعات لتحقيق أهداف رؤية 2030
¤ مقدمة:
إن سياسة التعليم في المملكة فيها من المواضع الإيجابية الشيء الكثير، ولكن مواضع القصور أيضًا كثيرة. وبنظرة فاحصة للمعايير الدولية للتعليم نجد أن سياسة التعليم في المملكة بعيدة كلّ البعد عن أهم المعايير الدولية والتوجهات العامة للسياسات التعليمية التي يُفترض أن تتضمنها وتسعى إليها أي سياسة تعليمية.
كثير من الدراسات والبحوث خرجت بنتيجة واحدة هي أهمية تغيير وثيقة التعليم في المملكة العربية السعودية كخطوة أولى لإصلاح التعليم، وبالتالي فإنها بحاجة للتغيير والتعديل في كثير من محاورها كوثيقة تعليمية. وكما يرى الدكتور أحمد العيسى في كتابه الذي يتحدث عن إصلاح التعليم أن “هناك تجاهلًا لوثيقة التعليم الوحيدة، وهي التي ترسم سياسة التعليم بالمملكة الصادرة عام 1390هـ كمرجعية لمشاريع الإصلاح والتطوير، مع أن لها حضورًا في السجال الفكري”.
لذا تُعد قضية “وثيقة سياسة التعليم في المملكة” من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدَّمتها د. فوزية البكر، وتمَّ التعقيب على موضوع الورقة، وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (الوثيقة وأزمة التعليم، تجارب دولية في سياسة التعليم، خصخصة التعليم ما لها وما عليها، وثيقة سياسة التعليم الإيجابيات والسلبيات، قراءة في وثيقة سياسة التعليم، تأسيس برامج تربوية وتعليمية، سياسة التعليم في كوريا الجنوبية، مراجعة وثيقة سياسة التعليم في المملكة، إيقاف وثيقة سياسة التعليم في المملكة، سياسة التعليم بين القيادة التعليمية والإرادة السياسية، إستراتيجية للتعليم تنطلق من رؤية 2030، وثيقة سياسة التعليم يا معالي الوزير، ملامح الإطار العام لوثيقة سياسة التعليم المقترحة، الوثيقة ودورها في إعاقة مسيرة تطوير العملية التعليمية، مقارنة بين المسارين العلمي والأدبي في دراسة المواد الشرعية، مخرجات التعليم ومساهمتها في صناعة المجتمع، المدارس الخاصة والدبلومة الدولية، أسباب مناقشة وثيقة سياسة التعليم). وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديدَ من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نص الورقة التي كتبتها الدكتورة فوزية البكر، وعقَّب عليها الدكتور خالد بن دهيش، والدكتور محمد الملحم.
كتبت د. فوزية البكر:صدرت وثيقة سياسة التعليم في المملكة عام 1970م. وهذه الوثيقة التاريخية صدرت عن اللجنة العليا لسياسة التعليم التي تمَّ دمجها عام 1425هـ مع مجلس التعليم العالي، وتتضمن بنودها المكونة من (236) مادةً أهمَّ الخطوط الرئيسة التي يرتكز عليها التعليم في أهدافه ومراحله المختلفة. غير أن ما يحدث اليوم في عصر الثورة المعلوماتية يؤكد بما لا مجال للشك فيه الحاجة الماسَّة لمراجعة هذه الوثيقة لتتواكب مع متغيرات العصر الحاضر ومع التغيرات المتسارعة الديموغرافية والسياسية والتاريخية التي تمرُّ بها المملكة العربية السعودية.
هل تنقصنا الدراسات في هذا المجال؟ لا أظن؛ إذ إنه ومنذ بداية التسعينيات وحتى اليوم والكثير من الدراسات العلمية تناقش بنودَ الوثيقة وتُحلل موادَّها المختلفة دون أن تُفلح في لفت انتباه واضعي السياسات العامة والتعليمية إلى أهمية مناقشة نصوص سياسة التعليم التي تحتاج إلى تطوير وتغيير بتغير حالنا اليوم. لا يمكن لتعليمنا أن يتغير ويتطور إذا كانت الرؤية والرسالة له غير واضحة وغير متماشية مع متغيرات العصر ومع الحقائق على الأرض.
سأحاولُ باختصار استعراض بعض بنود هذه الوثيقة لإعطاء بعض النماذج التي أتمنى أن تحفِّز واضعي السياسات على تناول الوثيقة وتطويرها. تتألف الوثيقة – كما ذكرنا – من 236 بندًا، وتتوزع على تسعة أبواب هي:
– الباب الأول: الأسس العامة التي يقوم عليها التعليم.
– الباب الثاني: غاية التعليم وأهدافه العامة.
– الباب الثالث: أهداف مراحل التعليم.
– الباب الرابع: التخطيط لمراحل التعليم.
– الباب الخامس: أحكام خاصة (المعاهد العلمية، تعليم البنات، التعليم الفني، محو الأمية…إلخ).
– الباب السادس: وسائل التربية والتعليم.
– الباب السابع: نَشْر التعليم.
– الباب الثامن: تمويل التعليم.
– الباب التاسع: أحكام عامة.
كما نعلم جميعًا، تنبثق سياسة التعليم في المملكة- وكما نصت الوثيقة- من (الإسلام الذي تدين به الأمةُ عقيدةً وعبادة وخلقًا وشريعة وحكمًا ونظامًا متكاملًا للحياة، وهي جزء أساسي من السياسة العامة للدولة)، ثم تمضي الوثيقة لبيان ذلك بشكل مفصَّل فيما يخصُّ غايات التعليم وأهدافه ومراحله إلى نهاية الأبواب.
المدهش في الأمر أنه على الرغم من أننا لا نختلف جميعًا في اعتبار الشريعة الإسلامية هي المكون الرئيس لحياة الأمة، إلا أن الإفراط في التأكيد على هذا الجانب أدَّى إلى القصور في النظر إلى جوانب أخرى مهمة في التنمية العلمية والشخصية للطالب السعودي، الذي هو إلى جانب كونه مسلمًا فهو أيضًا مواطن سعودي، وهو أيضًا مواطن عالمي يحتاج إلى أن يعيَ كيف يتعامل مع متغيرات عصر العولمة والانفجار المعرفي كما تطرحها تحديات هذا العصر، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وفي الأبواب الأربعة الأولى (الأسس، والغايات، وأهداف المراحل، والتخطيط للمراحل)، والمكونة من 115 مادة، وبحسبة إحصائية سريعة نجد أن مفردة الإسلام تكررت في 57 مادة، أي ما نسبته تقريبًا 50% من مواد الأبواب الأربعة؛ وهذا أوجد تكرارًا واضحًا للأهداف والغايات، مع استخدم مصطلحات فضفاضة وغير واضحة التنفيذ، مثل:
– المادة السادسة في أسس التعليم وغاياته: (المُثُل العليا التي جاء بها الإسلام لقيام حضارة إنسانية رشيدة…إلخ)، فبدون تحديد واضح لنماذج من هذه المُثل، كيف يمكن لمعلم في ابتدائية في الجوف أو في فيفاء أن يدرك ماذا نريد بالضبط من مُثُل عليا عامة هي جوهر الإسلام وسر بقائه وازدهاره حتى اليوم ليلقنها لطلابه؟
– المادة 11 تقول: (العلوم الدينية أساسية في جميع سنوات التعليم…إلخ)، ومرة أخرى نجد العلوم الدينية أساسية لمعرفة العبد لربه وواجباته، لكن ماذا عن باقي العلوم التي يحتاجها العصر؟ أين الرياضيات، والفيزياء، والهندسة، واللغات…إلخ؟
– المادة 25 تقول: (الدعوة إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بالحكمة والموعظة الحسنة من واجبات الدولة والأفراد). لاحظ حتى الأفراد يحقُّ لهم أن يخوضوا في مشارق الأرض ومغاربها، ولماذا؟ كما يقرر النص: (ذلك هداية للعالمين وإخراجًا لهم من الظلمات إلى النور، وارتفاعًا بالبشر إلى مستوى الفكر الإسلامي).
فماذا تقصد الوثيقة تحديدًا بالفكر الإسلامي؟ وتأتي المادة التالية لهذه العبارات الخطيرة لتذكر نصًّا صريحًا واضحًا هو الآتي:
– مادة 26: الجهاد في سبيل الله فريضةٌ محكمة وسنة متبعة وضرورة قائمة، وهو ماض إلى يوم القيامة. (لا يوجد تعليق، فالعبارة تحكي بذاتها)!
– وتأتي المادة 104 من أهداف المرحلة الثانوية لتذكر بالنص الصريح أن أحد أهداف المرحلة الثانوية هو: ( إعداد الطلاب للجهاد في سبيل الله روحيًّا وبدنيًّا)!
من جانب آخر تُحيل العديد من البنود في الوثيقة إلى بعض الأنظمة التعليمية التي تجاوزها الزمن، مثل: المعاهد العلمية، ومعاهد إعداد المعلمات أو كليات البنات التي تم ضمها للجامعات.
هناك أيضًا تداخل واضح في بنود الوثيقة مع صلاحيات مؤسسات أخرى، مثل: وزارة الإعلام وهيئة الثقافة..إلخ، ففي الفصل الثاني من الباب السادس تحت “عنوان الوسائل المدرسية” تغطي الوثيقة أمورًا ترى أنها وسائل مدرسية، وهي:
– رعاية الشباب: (ما علاقة وزارة التربية والتعليم برعاية الشباب؟ لا أحد يدري سرَّ هذا الخلط، لكن “في رعاية الشباب” تحديدًا تقول الوثيقة في البند 215 إنه: (يجب أن تهتم جهات خاصة برعاية الشباب رعايةً مُوجّهة حسب تخطيط تضعه لجنة مختارة من الشخصيات الإسلامية المعروفة)، والسؤال: هل كُنا ضحايا لمخططات منذ ذلك الحين؟ هل تُفسِّر لنا القراءة الحاضرة للوثيقة بعضَ غموض المرحلة وما حدث فيها؟
الفصل الثالث: الوسائل العامة: في البند 217(أن الدولة تُشجِّع التأليف المثمر والمفيد). والسؤال: مَن يُقيِّم ما هو مثمر وما هو مفيد؟ البند نفسه يسترسل ليشرح كما يرى المشرع ما هو المثمر، وذلك بقوله إن (الدولة تساعد كتَّابها الإسلاميين على نشر الكتاب الجيد وتعميمه).
– البند 219 يقول: (تكون الصحف والمجلات العام منها والخاص منسجمةً مع أهداف التعليم في التوجيه والتربية والفكرة والغاية). (لاحظ العام منها والخاص)!
– البند 223 يقول:( وسائل الإعلام والتوعية والإرشاد ورعاية الشباب تخدم الفكرة الإسلامية). مرة أخرى يأتي الفكر الإسلامي مرتبطًا بتوجيه ورعاية الشباب! ألا يدعونا ذلك للتوجس؟
من جهة أخرى، ورغم أن الوثيقة ذكرت في عددٍ من بنودها حقَّ المسلم رجلًا كان أو امرأة في التعليم، إلا أن تعليم البنات وُضع تحت الباب الخامس المُسمَّى بـ : أحكام خاصة، فتناول- مثلًا- المعاهد العلمية، وتعليم البنات، ومحو الأمية، والتعليم الخاص..إلخ، وفي الفصل الثاني من الباب الخامس يذكر البند 154 الآتي: (يستهدف تعليم الفتاة تربيتها “صحيحة إسلامية” (هذا هو النص فعلًا)، وربما قصَدَ تربيتها “تربية إسلامية صحيحة”!
لكن لماذا؟ لتقوم بمهمتها في الحياة؟ وما هي مهمة المرأة في الحياة، كما ترى الوثيقة؟ أمور أربعة متدرجة في أهميتها حسب الآتي: أن تكون ربة بيت ناجحة، أن تكون زوجة مثالية، أن تكون أمًّا صالحةً (ولم أفهم، كيف يحتل دور الأم وهو الأكثر محورية لبناء الأسرة المرتبة الثالثة؟)، ثم لإعدادها للقيام بما يناسب فطرتها. وما الذي يناسب فطرتها كما ترى الوثيقة؟ مهن ثلاث، هي: التدريس، والتمريض، والتطبيب!
لنتفكر، كيف تمَّ تشكيل أجيال بأكملها عبر هذه الأهداف، لتنظر إلى هذا المخلوق المُسمَّى (أنثى) بأنها ذات طبيعة (خاصة) تستدعي إجراءات حماية خاصة به، ولا يدرك ولا يُطلب منه غير إدراك مهارات المنزل، كيف؟ هل هذا قدر نساء هذه الأمة؟
الفصل الثالث: التعليم الفني: المادة 157: يهدف التعليم الفني إلى كفاية المملكة من العاملين الصالحين المؤهلين في سائر الميادين، والذين تتوفر لهم العقيدة السليمة والخلق الفاضل وإتقان العمل. (لاحظ التراتبية فيما تراه الوثيقة مهمًّا في خريجي المعاهد الفنية).
الوثيقة تحفل بالكثير والكثير من البنود والمصطلحات والتوجُّهات التي تحتاج إلى صفحات طوال، لكني أعتقدُ أن ما تمَّ تقديمه من نماذج يكفي لإعادة التفكُّر في مدى مناسبة الوثيقة الحالية لمرحلة القفز التاريخي التي نمرُّ بها كأمة عبر رؤية 2030 الطموحة، والتي طوَّرت من أهداف المؤسسات العامة والخاصة، وأكَّدت على ضرورة المراجعات الداخلية بما يتماشى مع الأهداف الإستراتيجية لرؤية التحوُّل، ناهيكم عن الآثار السالبة التي أكدتها لنا الشواهد التاريخية، وما مررنا به من مِحن التطرُّف والإرهاب، ولا نلوم شبابنا الصغار الصادقين، فهذا ما تمَّ تربيتهم عليه، فاستجابوا لهذه التفسيرات الخطرة حول علاقة الإنسان بالحياة.
وعقَّب د. خالد بن دهيش: السياسة التعليمية هي الخطوط العامة التي تقوم عليها عملية التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية التي تنبثق من الإسلام الذي تدين به المملكة التي دستورها هو كتاب الله وسنة نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم؛ ومن هذا المنطلق فإن كل ما ورد في السياسة التعليمية لا يخرج عن دستور المملكة التي قامت عليه السياسة التعليمية.
والجميع يتفق مع ما رأته الدكتورة فوزية من أن الوقت قد حان، بل منذ زمن طويل، لمراجعة وتطوير وتحديث هذه السياسة لتتواكب مع متغيرات العصر المتسارعة في الكثير من موادها، مع المحافظة على بقاء الخطوط العامة الأساسية للسياسة التعليمية في تعريف الفرد بربه ودينه وإقامة سلوكه على شريعة الله التي يدين بها المجتمع عقيدةً وشريعة وحكمًا ونظامًا متكاملًا للحياة، وتلبية لحاجات المجتمع المتغيرة وتحقيقًا لأهدافه بما يتفق مع تلك المتغيرات في كافة جوانبها لبناء مجتمع حيوي.
وللعلم، فقد قامت وزارة التربية والتعليم في عهد الدكتور محمد الرشيد-رحمه الله-بتقديم مقترح شامل لتطوير وتحديث السياسة التعليمية للمملكة يتواكب مع المتغيرات المتسارعة في ذلك الوقت (قبل 20 عامًا تقريبًا)، وأعتقد أنه قُدِّم للجنة العليا لسياسة التعليم. ولا أعلم ماذا اتخذ فيه، أو أسباب عدم الأخذ به.
كنتُ ضمن لجنة فرعية لإعادة هيكلة التعليم بالمملكة متفرعة عن اللجنة العليا لإعادة هيكلة أجهزة الدولة التي كانت برئاسة الأمير سلطان، رحمه الله، كان من ضمن توصيات هذه اللجنة إنشاء مجلس أعلى للتعليم بدلًا من اللجنة العليا لسياسة التعليم ومجلس التعليم العالي والجامعات، إلا أن هذا المجلس لم يُشكَّل أو يُعقد حتى جاء عهد الملك سلمان، حفظه الله، حيث ضُمت أعمال هذا المجلس لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، والذي نأمل أن يكون تطوير السياسة التعليمية قيدَ الدراسة حاليًّا، وأن يرى النور قريبًا في هذا العهد الذي جعلَ التعليم من أولويات الأهداف الإستراتيجية في رؤية المملكة 2030.
وهنا أودُّ أن أنوه بأن تأخُّر تطوير وتحديث بعض مواد السياسة التعليمية لم يكن عائقًا في مسيرة تطوير العملية التعليمية أمام وزارة التعليم التي أخذت في الاعتبار كافة متغيرات العصر التي تمرُّ بها المملكة. ويتمثل ذلك في عمليات التطوير والتحديث للمناهج والخُطط والمقررات الدراسية، ووسائل وطرائق وبيئة التدريس، وإدخال التقنية في العملية التعليمية، وتطوير مقررات كليات المعلمين والتربية، وفي كل ما يدخل في مهام واختصاصات وزارة التعليم، فضلًا عن تضمُّنها مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير التعليم الذي كانت أهدافه تطوير صناعة المناهج والمقررات، وتطوير المعلم والبيئة المدرسية والأنشطة الطلابية، وكُلفت شركة تطوير التعليم مع وكالات الوزارة بذلك. ولا بد من الأخذ في الاعتبار أن وزارة التعليم لا تملك صلاحية تطوير أو تعديل السياسة التعليمية الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (779) بتاريخ 17/ 9/ 1389هـ.
فوزارة التعليم لم تنتظر تطوير السياسة التعليمية، بل عملت وبشكل مكثف على تطوير العملية التعليمية التي تحتاج نتائجها لسنوات لكي يلمس المجتمع ذلك التطوير.
كما عقَّب د. محمد الملحم: إن موضوع “وثيقة سياسة التعليم في المملكة” من الموضوعات المهمة جدًّا، وقد كنتُ أتمنى منذ زمن بعيد أن أتناوله، بل منذ أول مرة وقعت عيني على الوثيقة عندما رُشِّحت للعمل مشرفًا تربويًّا (وكانت حينها مقابلات المشرفين تُجرى بالوزارة)، نصحني مَن سبقني بقراءة (وثيقة سياسة التعليم)، فلا بد لي مِن معرفتها؛ لأني سأُسأَل فيها، ولما تصفَّحتها ووجدتها بحرًا لا ساحل له، تساءلت بيني وبين نفسي: ما هذا؟ هل هذه وثيقة ترسم لنا طريقًا ما؟ بل هذه كل شيء تقريبًا، فما أبقت شيئًا إلا تضَّمنته! وما هكذا تورد الإبل- في نظري- لسياسة تعليم، إذ يجب أن يكون لدينا أولويات بحسب موقفنا الحالي في التنمية (حيث التعليم أهم أدواتها)، ثم نعيد صياغتها بعد 10 سنوات (أو أكثر) لتلائم الموقف الجديد، وهكذا يستمر الحال بنفس النمط باعتبارها خارطةَ طريق لنهضتنا.
أمَّا تعليقي على هذه الوثيقة فأوجزه في الآتي:
وثيقة سياسة التعليم تمَّ تأليفها بنفس إنشائي طويل (مملّ أحيانًا)، فـقـلم كاتبيها مستطرد غير موجز، موغل في الحشو والتكرار دونما حاجة، وتظهر فيها رغبة جامحة في التأكيد على القيم الإسلامية من خلال التكرار المستمر، وهو نتيجة طبيعية للفترة التي أُلِّفت فيها 1970م، حيث كانت هناك حالة من تفلت الهوية الإسلامية، وظهور هجمة التغريب في كل الدول العربية، وقد طالت بلادنا بدون شك، خاصة مع انتشار التلفاز (بدأ 1965 وانتشر في المناطق عبر السنوات حتى 1971، كانت آخر محطة توسُّع له في الشمال، وظهر التليفزيون الملون في 1974). كما تطوَّرت برامج الراديو وتعدَّدت الصحف والمجلات بشكل كبير في تلك الفترة، فكانت هذه النقلة “الثقافية” الكبيرة مقـلـقة لتزامنها مع انتشار ظواهر تقليد الغرب؛ كحركة الخنافس والهيبيز، وهجر المساجد، وانتقاد التدين، مع محاولات الحركات الثورات الفكرية “التقدمية” في التغلغل إلى شباب المملكة (البعثيين، والاشتراكيين، والقوميين، وغيرهم)، وقد تصدت لها السلطات فقمعتها مبكرًا، ولكن ظل هاجسها مُقلقًا لكلٍّ من المفكرين المحافظين والوطنيين معًا.
كلُّ ذلك شكَّل ضغطًا نفسيًّا قويًّا وقلقًا حاشدًا على واضعي هذه السياسة؛ مما ألجأهم إلى هذه اللغة الموغلة في التأكيد على الهوية الإسلامية، ولا شك أن المبالغة في أي شيء تؤدي أحيانًا إلى وأده وربما رفضه، والحقُّ أن الإسلام بقــيَـمِه ومُــثُــلِه ومعانيه السامقة لا يحتاج إلى مساعدة مِن هذا النوع، فهو يقوم بذاته، ويعيش في نفوس معتنقيه والمؤمنين به متى ما فهموه الفهم الصحيح وآمنوا بفكرته، وغالب مواطني المملكة- ولله الحمد- هم كذلك.
هذا من جانب الطرح الإسلامي العام؛ أما من جانب الطرح الإسلامي الخاص الذي أشارت إليه الدكتورة فوزية فهو بدون شك حاضر بوضوح، وهو انعكاس مباشر لثقافة كُتَّاب هذه الوثيقة، سواء كان بوعي منهم أو بدون وعي، وبعيدًا عن نظرية المؤامرة التي لا أؤمن بها كثيرًا، فإن هذا اللون من الكتابة هو استخدام غير مهني في وثيقة سياسة تعليم، وينبغي حذفه فعلًا… فلو حذفت الكثيرَ من فقرات هذا النوع (مثلًا: 17،22،25،26 29،31،32،60،61،94،96،104،113)، فلن تتأثر روح الوثيقة ومضامينها التربوية والتنموية أبدًا.
وأقرر هنا حقيقة لمستها (وليس هذا دفاعًا عن أحد بل مجرد شهادة) أن صياغة الوثيقة الإنشائية الطويلة المملّة وانتشارها على كل المجالات دون التركيز على إطار تنموي خاص، جعل منها مادةً غير مهضومة أو مستساغة، ولم تظهر للميدان كأداة Tool؛ لذا لم يَعبأ بها (عمليًّا) أحدٌ من الناس، لا على مستوى المعلمين ولا المسؤولين التربويين (باستثناء الإشارة إليها في الأدبيات)؛ ولذا فإن أي “اتهامات” لها بالتأثير السلوكي على التعليم في الفترة الماضية ليس لها أرضية واقعية ألبتة، فهي وثيقة مهجورة تقريبًا حتى “الإسلاميون” أنفسهم كثيرٌ منهم لا يعرفها إلا عند الحاجة إليها في بحث أو تقرير.
فيما يتعلق بـ (الفتاة)، فإني أؤيد الدكتورة فوزية من حيث حاجة الوثيقة للعناية بها في مجالات أشمل مما ذُكر، والتوسُّع في بيان حقوقها وواجباتها، بيد أني لا أجد فيما كُتب (بحسب رؤية تاريخ تأليفها) إشكالًا، ففي تلك الفترة كانت هذه النظرة للفتاة ومجالات عملها هي المتاحة والمقبولة اجتماعيًّا، ولو افترضنا جدلًا أننا طالبنا واضعَ هذه الفقرة بإعادة صياغتها لوقتنا هذا الآن لكتبَ هو نفسُه شيئًا مختلفًا وملائمًا.
ملمح آخر في هذه الوثيقة هو عدم عنايتها بوضع أُسس تطويرها ونمائها عبر الزمن، فهي تفترض ثبات الحال ولا تستشرف المستقبل، والأهم من ذلك أنها لم تُعر جانب تطوير التعليم ذاته كممارسات وفكر تربوي كثيرًا من الأهمية، ولم تعكس إلمام كاتبيها بأدبيات هذا المجال، وهو ما يعتبر شرخًا كبيرًا في دورها الإستراتيجي كوثيقة يُفترض أن ترسم سياسة التعليم لحاضره ومستقبله معًا، بل إن المسألة التطويرية في وثيقة سياسة التعليم ينبغي أن يكون له المساحة الكبرى وأفضلية الاهتمام. ومع ورود فقرات تناولت المناهج والتدريب والتقييم إلا أنها لم تعالج هذه المجالات بما يمكن أن يُعتبر نظرة إستراتيجية للتطوير والتحسين المستمر، وظل هذا الجانب متوافرًا فقط في العبارات العامة لبعض فقرات الوثيقة، والتي شملت “كلَّ شيء” تقريبًا كما أسلفتُ؛ مما لا يجعلها فقرات جاذبة لتركيز المنفذين واهتمامهم.
أخيرًا، ملمح مهمٌّ تَبدَّى كنتيجة مباشرة لكثرة فقرات الوثيقة وعدم تركيز عباراتها، وهو تماوجها بين العام والخاص هنا وهناك، إذ تضَّمنت فقرات يمكن بسهولة الاستغناء عنها لتوافر فقرات أخرى “عمومية” تشملها، أو ربما لكون هذه الفقرات تفصيليةً فهي لا تناسب وثيقة “سياسة تعليم” (مثال: 74، 77).
¤ المداخلات:
الوثيقة وأزمة التعليم:
يرى م. سالم المري أنه من الواضح أنَّ هذه الوثيقة هي أحد الأسباب الرئيسة لما يعانيه التعليم، وإعادة مراجعتها وإصدارها في هيئة نظام جديد ضرورة ملحة. يبدو أن مَن وضعها ليسوا متخصصين في التربية والتعليم، وإنما أقرب إلى الشيوخ أو أصحاب الفكر الإسلامي المسيس.
ويعتقدُ أ. فهد القاسم أن ربط أزمة التعليم بسياسة التعليم تبسيط للمشكلات الحقيقية في التعليم. التعليم- في رأيي- يفتقر إلى القيادة الاستثنائية التي يمكن أن تنقله من الماضي إلى المستقبل، والقيادة التي يُفترض أن تكون على رأس الهرم هي التي ستُغيِّر مسار التعليم، والذي يحتكم إلى الإدارة (خاصة إدارة البشر والتغيير)، والإرادة (خاصة توفير السياسات والأموال).
تجارب دولية في سياسة التعليم:
حول الاستفادة من التجارب العالمية، تساءل د. خالد الرديعان: ألا يوجد سياسة تعليم جاهزة عند دولة ما، ومن ثَمَّ نقلها بحذافيرها مع “شيء من التوطين” عند الضرورة؟ وقد تشارك معه في هذا التساؤل د. راشد العبد الكريم.
ذكر د. عبد الله بن صالح الحمود أنَّ هناك تجارب من اليابان وكوريا الجنوبية، بينما يرى د. زياد الدريس أن هذا هو الحاصل في معظم الدول، فسياسات التعليم تبنيها الدول من استرشادها بمواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى محفوظات منظمة اليونسكو، ثم تضيف عليها موادَّ خاصةً لتوطينها.
وذهبت د. فوزية البكر، إلى أنها ربما لا تُسمَّى سياسة تعليم، بل قد تُطلق عليها مسميات أخرى؛ مثلًا، في الإمارات ومنذ التسعينيات تمَّ إطلاق ما يُسمَّى إستراتيجية رؤية التعليم. كما أطلقت الإمارات في العام 2017 الإسترتيجية الوطنية للتعليم العالي 2030. وفي المغرب تم إطلاق ما سُمِّي بـ “الرؤية الإسترتيجية لإصلاح المدرسة المغربية 2015-2030 لكن لا يوجد بلد كما أعرف يحتفظ الوثيقة ذاتها أو الإستراتيجية أو الرؤية دون أن يمسَّها أيُّ تعديل لخمسين عامًا متتالية إلا لدينا فقط.
ترى د. وفاء طيبة، كبداية؛ لا بد من وجود ما يُوجِّه دفةَ التعليم (سياسة التعليم، وثيقة التعليم أو فلسفة التعليم كما يسميها البعض) لتصبَّ في بناء الشخصية التي تريدها كل دولة، وتتفق مع سياستها العامة ورؤيتها، ولنقُل رؤية 2030، فيجب أن يتفق (موجِّه الدفة) مع نظام الحكم القائم في الدولة وسياستها العامة، وهذا ما فعلته سنغافورة – على سبيل المثال- بقيادة لي كوان يو، حيث رسمت صورة للشخصية السنغفورية العملية التي تريدها، لتتفق مع سياستها العامة ورؤيتها أن تكون واحدةً من أكبر الدول الصناعية، ثم وجَّهت التعليم لذلك.
سياسات التعليم لا بد أن تواكب التطورات، خاصة عندما يحدث مثل هذا التطور الإلكتروني الهائل في هذا العصر، ولا تبقى كما بقيت سياستنا عبر الأجيال ثابتة لا تتغير.
ومن الجميل أن نطلع على سياسات أو معايير أو فلسفات التعليم في دول مختلفة لنستشف كيف تُشكل شخصية المواطن، بالتالي نصدر وثيقةً تواكب تطلعات المملكة وتتفق مع رؤيتنا، ونعمل على التخطيط لها وتفعيلها. وهنا أتفقُ مع التعليق القائل إن هذه السياسة التعليمية التي وُضعت في السبعينيات لم يكن لها دور بالفعل، ولم يكن يعرفها القائمون على التعليم.
في رأيي، سياسة التعليم التي وُضِعت في السبعينيات لا نعدلها، وإنما نتركها جانبًا ونبني وثيقةً جديدةً بمعيارين أساسيين، وهما: المبادئ الإسلامية (وهي صالحة ومرنة تصلح لكل زمان ومكان)، ورؤية 2030، وماذا نريد من المواطن السعودي أن يكون. بالإضافة إلى معايير فرعية مهمة خاصة بجودة المخرجات (أهداف، إدارة، معلم، منهج، طالب…).
المهم- في رأيي- أن تكون الوثيقة مرتبطةً بسياسة الدولة ورؤيتها ومنبثقة منها، هي وما عداها من السياسات أو الوثائق كالإعلام مثلًا؛ لتكون جميعُها مترابطةً غيرَ متعارضة، ومنسجمةً فيما بينها ومع المصدر الأم سياسة الدولة.
خصخصة التعليم ما لها وما عليها:
تساءل د. راشد العبد الكريم، هل فعلًا كان لسياسة التعليم أثرٌ عملي؟ هل كان يُعتمد عليها عند اتخاذ القرارات؟ مثلًا، الوثيقة تنصُّ على مجانية التعليم، لكننا نرى الوزارة من عقود تسعى حثيثًا في خصخصة التعليم، ولم يلتفت أحدٌ لسياسة التعليم.
علَّق د. محمد الملحم بأن خصخصة التعليم حظُّها من الواقع العملي ضئيلٌ جدًّا، وأعتقدُ أن الخصخصة لا تتناقض بالضرورة مع مجانية التعليم، فهذا يعتمد على أسلوب الخصخصة والمودل الذي سيُستخدم فيه. وعلَّق د. راشد العبد الكريم بأن هذا ممكن إذا كان خيارًا، لكنَّ كثيرين “يضطرون” للخاص لعدم وجود الحكومي.
من جانبها أكدت د. فوزية البكر أنها بلا شك كان لها أثرٌ على الواقع العملي، ربما لا يدري عنه الممارسون في الميدان، لكنَّ صانعي السياسات التعليمية استرشدوا بها في الخطط والمناهج والأنشطة اللاصفية لعقود، وحتى حينما حاول وزير التعليم د. محمد الرشيد-رحمة الله عليه- طَرْح بعض التغيير أُقيل من منصبه مباشرة.
محاولات التمرُّد على الوثيقة بدأت بعد أحداث سبتمبر، حينما بدأ الإعلام الغربي يلاحق المناهج الدراسية والنشاطات اللاصفية داخل المدارس السعودية ويُحلِّل محتواها؛ ولذا فالتعاقب المتسارع لوزراء التعليم لم يأت من فراغ بل من قوى الضغط التي حاولت إعاقة أي تغيير يحاولونه. لكن مع رؤية 2030 بدا واضحًا أن النهج تجاوز الوثيقة تطبيقيًا؛ مما يجعلنا نتساءل عن سرِّ الإبقاء عليها كما هي دون تغيير.
وثيقة سياسة التعليم الإيجابيات والسلبيات:
يرى أ. محمد الدندني أنه لا شكَّ أن موضوع التعليم هو حجر الزاوية في مسيرة ونهضة أي دولة وشعب.
باعتقادي، وبغض النظر عن الوثيقة، فالنتائج هي الحكم في هذا المجال وفي كل مجال. لا داعي للتفصيل في نتائج التعليم ومخرجاته، فهي ملموسة ونتعايش معها يوميًّا من حيث الكفاءة والجودة أو أخلاق العمل.
المطلوب هو نسيان هذه الوثيقة؛ لأني لا أرى فيها ما يُسمَّى بسياسة التعليم للأسف، والتي أطلت بظلالها على المجتمع سنين طويلة سواء أكانت مؤثرة ومتبعة أم لا. قبل 40 سنة كانت المواد الدينية مركزة في الابتدائية، وتقلُّ في الإعدادية، وأقلّ في الثانوية. هل كُنّا مجتمعًا غيرَ إسلامي؟ أبدًا، كُنَّا أفضل بكثير، ولَم نكن نعرف الأمراض الاجتماعية الحاليّة؛ من رشوة، وفساد…إلخ.
بلغ التشدُّد من فئة في المجتمع متنفذة في التعليم إلى الامتداد إلى الجامعات وإدخال مادة الثقافة الإسلامية. لستُ ضدها، ولكن ماذا أفادت؟ لذا يجب مراجعة المحتوى.
وأتساءل: هل على الدولة أن تُذكِّر الطالب بأنه مسلم كل ساعة؟ أبدًا. الدين-والحمد لله -موضع حِرص لدى الغالبية العظمى من المجتمع. ما دخل الرياضيات والعلوم الأخرى في الدين؟ وما هو المطلوب من التعليم أن نخرج دعاة أو مهنيين تنهض بهم البلاد والعباد؟ ألا ترون أن كثرة المواد الدينية قد أسهمت في بُعد البعض عن الدين؟!
أرى أنَّ الوثيقة مؤدلجة للتعليم أكثر من كونها تسعى لبناء المواطن السعودي، كما أشير إليه في مَثل سنغافورة في مداخلة الدكتورة وفاء طيبة. إن كانت سياسة التعليم تُستمد من دستور البلاد، فلا تناقضَ ولا ابتعادَ في نظرة عصرية للتعليم، وماذا نريد في خطط واضحة ومناهج مرتبطة برؤية البلاد في النهضة والتقدم. أيُعقل أن تكون لبنان والأردن أفضل منَّا في مخرجات التعليم؟
مَن يريد إيجاد مجتمعًا إسلاميًّا يلتزم بأخلاق الدين ومنهاجه القويم، فليست المدرسة هي المكان الوحيد فقط. أين دور المسجد؟ وأين الإعلام؟ لا بأس من وجود مناهج دينية في جميع المراحل وتكون في العقيدة، والتركيز على حِرص الدين على أخلاق العمل وكافة المعاملات، وليس أن أُدرِّسَ مراهقًا زكاةَ الإبل، والتحريض المستمر على كراهية الأديان الأخرى بطرق مباشر وغير مباشر، ناهيك عن الخروج عن المنهج من قِبل متشددين همهم نشر فكر مقيت عن ديننا السمح والعادل مع الأمم الأخرى.
علينا أن نكون أكثر جرأةً، وأن نعترف بأن التعليم يحتاج تغييرًا جذريًّا في مناهجه وطرق التدريس والأهم التربية، وهنا دور بناء الشخصية السعودية في الامتثال لأوامر الدين؛ من إخلاص، وأمانة، وحب العمل والإنتاج.
لا أريد الإطالة، ولكن أين إنجازات التعليم الفني والمهني، لدرجة أن الشركات الكبرى أقامت معاهدها، والسبب ضعف مخرجات التعليم الفني والمهني؟ أين تعليم الكبار adulteducation لتعليم مَن فاتهم التعليم، أو تعلُّم مهن تفيدهم في منازلهم وحياتهم اليومية؟ أين معاهد اللغات لنخلق مجتمعًا منفتحًا على الثقافات الأخرى؟
الأمر واضح ولا يحتاج إلى لجان ودراسات خرجت من نفس البيئة والتوجه. حان الوقت لنُفكّر خارج الصندوق، وأن نتبنى خططًا عملية وسهلة، والتجارب العالمية كثيرة. ننسى أننا لسنا مترفين في عامل الوقت، وأن لدينا سباقًا مع الزمن، ليس فقط أن نضع أرجلنا على سُلَّم التقدم، ولكن لنضع أرجلنا على أول درجة في سُلَّم التقدُّم والرُّقي بتعليمنا ومنهاج حياتنا.
أخيرًا؛ هناك مقولة وأراها خفتت، وهي الخصوصية السعودية، لا بأس أن تكون لدينا هويتنا المميزة ولكن ليس لدرجة الحساسية المفرطة في الانفتاح على تجارب الآخرين، والتوقف عن أن نبدأ من الصفر؛ مثلًا، تصنيف أفضل الدول في التعليم بمواد معينة، لِمَ لا نستنسخ هذا المنهج وننقله إلى مدارسنا، مع تهيئة الطالب والمدرس لقبوله والاستفادة منه؟
أضاف د. راشد العبد الكريم، أنه من المهم أن لا نغرق في عادتنا بتحميل عجزنا وفشلنا على مبررات وهمية وافتراضية، ومن خبرة ثلاثين عامًا في التدريس من الابتدائي إلى الدكتوراه أؤكد أنه لم يتحجج أحدٌ -من الوزير إلى المعلم- في اتخاذ قرار أو الاحتجاج عليه بسياسة التعليم. اتفق معه في ذلك د. خالد بن دهيش، وأضاف؛ عملتُ في الوزارة مدة اثنين وعشرين عامًا، لم أذكر أن سياسة التعليم كانت عائقًا في أي قرار تعليمي (كما ذكرت ذلك في تعقيبي)، مع دعمي التام لجهود ومحاولات الدكتور الرشيد وزملائي لتطوير سياسة التعليم للحاجة الضرورية لذلك، خاصةً أن هناك محاولات من البعض من خارج الوزارة الاستفادة من بعض موادها كحجة في مطالبهم بتفسيراتهم.
بينما ترى د. فوزية البكر أن المخرجات التاريخية تتجه بأصابع الاتهام إلى الوثيقة كسياسات كانت تقود العمل الميداني. ومن جانبه يعتقد د. راشد العبد الكريم أنها “حالة فكرية” كانت شائعة، ونمت وتطوَّرت، وربما خرجت في بعض حالاتها عن السيطرة.
وأتصور أن “الوثيقة” صورة من صورها، ولم تكن هي المنشِئة لها، ولا حتى المؤثرة فيها. فالوثيقة غير معروفة عند أكثر المشتغلين بالتعليم، ولم تكن يومًا مُوجِّهة لهم.
ما نحن فيه فيما يتعلق بتطوير التعليم مرجعُه عجزٌ إداري/تربوي، يعلق هذا العجز على مشاجب دونكيشوتية! التطرف جاءنا بالدرجة الأولى من أفغانستان، وتطوَّر بعوامل خارجية من بعض مخيمات الجامعات والمراكز الصيفية، ومن بؤر منعزلة عن التعليم النظامي تمامًا.
قراءة في وثيقة سياسة التعليم:
ذكر د. خالد الرديعان؛ اطلعتُ على الوثيقة وفحصتُ محتوياتها وبنودها، ووجدتُ أنه يطغى عليها الإنشائية، إضافة إلى الإفراط في التركيز على البُعد الإسلامي ما يَسِمُ الوثيقة بأنها مؤدلجة.
ليس لديَّ اعتراض على أهمية هذا البعد الإسلامي؛ فنحن في النهاية مسلمون ولنا خصوصية لا يجوز تجاهلها، كبلد يحتضن الحرمين الشريفين، لكنَّ المبالغة في التركيز على هذا البعد أفقدَ الوثيقة أهميتها التربوية.
وجدتُ في الوثيقة كذلك بعض المفردات الإسلامية التي يتمُّ تحاشي ذكرُها هذه الأيام، ومنها: (الجهاد، والأمة الإسلامية، والولاء…إلخ)، وهي المفردات التي كان لها تأثيرات سلبية فيما أصبح لاحقًا تطرُّفًا، قاد في النهاية إلى الإرهاب وتشويه صورة الإسلام.
الإنشائية في الطرح- كما ذكرتُ- طاغية في العرض، ويغيب الجانب التنفيذي؛ كطُرق تحويل بعض المفاهيم إلى ممارسات إجرائية تنعكس على الطلاب سلوكًا حياتيًّا. كنت أتمنى لو تمَّ تفصيل تلك المفاهيم بصورة نماذج تطبيقية تكون بمثابة خارطة طريق للتربويين ينطلقون منها.
الذي أهملته الوثيقة هو “البعد الثقافي” للمجتمع السعودي، وبعض المعوقات التي لا تدفع بالتعليم قدمًا؛ فالتعليم- وحسب الثقافة الدارجة- هو للحصول على الشهادة ثم الوظيفة، دون أن يكون التركيز على التعليم كغاية في عملية إحداث التغيير الاجتماعي والفكري في المجتمع بما يتواءم مع المرحلة.
لم ينجح تعليمنا المهني والفني-على سبيل المثال- في خلق طبقة عاملة وماهرة تقوم بأعمال مفيدة في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية؛ بدليل وجود ملايين الوافدين الذين يشكِّلون زهاء ثلث سكان المملكة.
العمل المهني لا يزال موصومًا من قِبل فئة عريضة في المجتمع، وهذا عائق ثقافي، رغم أهمية العمل المهني سواء من ناحية مردوده المادي أو جدواه على المستويين الوطني والأمني كذلك؛ فنحن نوكل مهنًا كثيرة وحساسة إلى عمالة وافدة، والتمريض إحدى هذه المهن إضافة إلى مهن أخرى.
أخلصُ إلى القول إن الوثيقة جيدة عمومًا عدا ما ذكرتُ، لكنها تحتاج إلى إعادة نظر وشرح لجميع تفاصيلها، مع الأخذ في الاعتبار الجانب الثقافي وسمات المجتمع السعودي في إعادة صياغة الوثيقة بما يخدم مرحلتنا الراهنة. تفصيل الوثيقة قد يستغرق مئات الصفحات، وهذا هو المطلوب في رأيي المتواضع، إذ لا بد من العناية بالتفاصيل.
علق د. راشد العبد الكريم بأنه يبدو أننا بحاجة لتعريف (مؤدلجة)؛ لأنها مرَّت كثيرًا، وهي كلمة سائلة. أجاب د. خالد الرديعان أنه فيما يخصُّ الأدلجة سنجدها عند النظر في الفقرات التالية: الفقرة 12، الفقرة 19، الفقرة 24، الفقرة 26 (الجهاد)، الفقرة 29 (البراء)، الفقرة 31، الفقرة 42 (إنشائية طاغية)، الفقرة 50 (أي كلام)، الفقرة 60 (الجهاد مرة أخرى)، الفقرة 61 (الأمة الإسلامية)، الفقرة 207، الفقرة 215، الفقرة 227.
كما أضاف د. محمد الملحم؛ إن الوثيقة صدرت 1969، والتطرف والإرهاب خرج إلى السطح نهاية التسعينات، وأنا أثقُ في أن كلَّ الذين فجَّروا أنفسهم أو الذين جاهدوا في أفغانستان أو مَن هم موجودون بالعرق حاليًّا، لم يقرؤوا هذه الوثيقة، بل لم يعلموا عنها. ولنكن واقعيين في تعاملنا مع مواضيع الأدلجة والتطرف لنتمكن فعلًا من معالجتها، فهي مرضٌ مُخيف فعلًا، وهي أشدُّ ما أُحذِّر أولادي منه، وأباتُ كلَّ يوم (مثل كلِّ أب) ويدي على قلبي ألا يغشهم أحدٌ فيشتري عقولهم. ولكن حقيقة التطرُّف ودواعي الإرهاب إن اختفت وراء أسباب غير حقيقية مثل هذه، فإننا نغش أنفسنا، وربما -دون أن ندرك- نساهم في انتشار التطرف.
لغة الوثيقة ركيكة نعم، ومليئة بعبارات “نصنفها اليوم” أنها أدلجة، ولكنها بالأمس وفي أطر خطابات الملك فيصل عن التضامن الإسلامي وعن الجهاد لتحرير المقدسات المغتصبة..إلخ، لم تكن حينها لغة مستنكرة.
أعتقد أنه من الأجدر أن نضعَ جميعَ العوامل والمتغيرات في سياقها التاريخي والفلسفي المناسب عندما نُقيّم الموقف، والوثيقة فاشلة بمقاييس الإدارة والتخطيط، وبها تحيز كاتبها إلى أدبياته التي لا تلائمها، وتحتاج إلى تغيير بدون أي شك، فوثيقة احتاجت قرابة ثلاثين سنة لتعمل أعتبرُها فاشلةً بمعنى الكلمة في هذه المهمة.
كما ذهبت د. مها العيدان إلى أن مناقشة وثيقة سياسة التعليم في المملكة تعتبر من أهم القضايا؛ باعتبار أن بناء مجتمعنا يقوم عليها من خلال إعداد جيل من النشء يتناسب مع متغيرات العصر، حيث أتفقُ مع الدكتورة فوزية أنه آن الأوان لإعادة صياغة الوثيقة، إذ إن عملية التنمية لا يمكن أن تتم بدون مواكبة التعليم لها من مناهج وطرق تدريس.
السؤال هنا، مَن قام بوضع هذه الوثيقة؟ وهل تمَّت مراجعتها؟ وهو ما يدفعنا لطرح سؤال آخر، هل هناك مُخطَّط لخلق شباب يهدف إلى خدمة أفكار معينة؟ مع أني لا أميل إلى إرجاع وحَصْر فشلنا في بعض الأمور في زاوية التخطيط أو المؤامرة، إلا أن حادثة جهيمان وما تعاقبها من خلق أفكار ارتبطت بالوثيقة، انتهاء بأحداث 11 سبتمبر.
تأسيس برامج تربوية وتعليمية:
يعتقد د. عبد الله بن صالح الحمود أن الصحيح لخدمة التعليم والنهوض به هو أن تُؤسَّس له برامج تربوية وتعليمية، تستند على الاحتياج الفعلي للمدى المتوسط، بمعنى ألا تمتد هذه البرامج نحو أزمنة مديدة، ودون تحديد فترة زمنية يكون لصاحب القرار الوقت المناسب لمعالجة وتطوير ما يتفق والمتغيرات الاجتماعية والثقافية والفكرية، تزامنًا مع كل احتياج تنموي.
وهنا لعليِّ أطرحُ بعضًا من التساؤلات، وهي: هل الوثيقة لا تزال قائمةً وملزِمة التطبيق؟ ما هي الأسباب التي أدت إلى أن تُوقف وزارة التعليم الدراسة في كليات التربية أخيرًا؟ وقبل ذلك إغلاق كليات المعلمين؟ فهل نحن وصلنا إلى اكتفاء ذاتي من المعلمين إلى عقدين قادمين من الزمن، بالرغم من كثرة الإقبال على تقاعد المعلمين والمعلمات؟ هل هناك توجُّه لنهج سياسة التعلم مع التقليل من سياسة التعليم التلقيني؟ أليس التعليم المتميز مقترنًا بالتأهيل النوعي للمعلم أو المعلمة؟ متى سنجد فصولًا دراسية ذات بيئة صحية، تتسم بالتعلُّم والمعرفة لنجني ثمرة أجيال يحملون فكرًا مستنيرًا؟
ويرى د. عبد العزيز الحرقان أنه لا يعتقد أن وثيقة سياسة التعليم في المملكة المنشورة هنا هي فاعلة أو تتبعها الوزارة حاليًّا.
سياسة التعليم في كوريا الجنوبية:
ذهب د. محمد الملحم إلى أنه مقارنة لنقاط تركيز سياسة التعليم في كوريا الجنوبية عبر مراحلها الثلاث منذ الستينيات وتزامنها مع سياسة التنمية الاقتصادية معًا في تناغم متميز وفعال.
المرحلة الأولى في الستينيات حتى منتصف السبعينيات كان هدف الاقتصاد الوطني هو الانتقال من الاستيراد إلى التصدير، والاهتمام بالصناعات الثقيلة والكيماويات تحديدًا، وتزامن معه في السياسة التعليمية الاهتمام بالمرحلتين الابتدائية والمتوسطة، والتركيز بشكل خاص على التعليم الفني لإيجاد القوى العاملة المدربة، ثم المرحلة الثانية من منتصف السبعينيات حتى الثمانينيات (وأظنُّها مرحلة انفجار الشحن البحري وارتفاع التجارة العالمية)، أصبح هدف الاقتصاد مهتمًا بتصنيع الناقلات البحرية، والانتقال في الصناعات من مرحلة التقليد إلى الابتكار، وتزامَن معه في سياسة التعليم التوسُّع في المرحلة الثانوية والتعليم ما بعد الثانوي وتطوير نوعي للتعليم الفني، ثم المرحلة الثالثة تشمل التسعينيات حيث الهدف الاقتصادي هو التنافسية وبناء الاقتصاد القائم على المعرفة، وتزامَن معه سياسة تعليم تهتم بجودة التعليم العام واستثمار أكبر في التعليم العالي، وأخيرًا تعزيز مفهوم التعلم مدى الحياة.
أنا من المعجبين بسياسة كوريا التعليمية؛ لذلك استشهدتُ لكم بسياستها (أو إستراتيجيتها) التعليمية، وكيف نمت وتطوَّرت مع الاقتصاد؛ مما يعكس دورها المهم في نموه وازدهاره، وهي أمنية نتمنى أن نراها تتحقق في مجتمعنا.
علَّق د. زياد الدريس بأن وثيقة سياسة التعليم عندنا لم تُعق أحدًا عن العبث بالتعليم، كما أنها لم تساعد أحدًا على العمل لتطوير التعليم.
بعض أسباب مراجعة وثيقة سياسة التعليم في المملكة:
في محاولة للإجابة عن السؤال الرئيس الذي طرحته الدكتورة فوزية البكر، والذي هو محور النقاش: ألم يحن الوقت لمراجعة وثيقة سياسة التعليم في المملكة؟ ذكر م. سالم المري: برأيي، نعم، فالعلم سرُّ تقدُّم وتطوُّر الأمم، والتعليم هو السلاح للوصول إلى ذلك، وجميع الأمم المتقدمة في عصرنا الحديث لديها أنظمة تعليمية متميزة والعكس صحيح؛ لذا فإن إعادة النظر في السياسات التعليمية وتعديلها أمرٌ ضروري ومُلحّ، للأسباب التالية:
1-أهم معايير الجودة في أي نظام وضوح أهدافه وسهولة فهمها من قِبل العاملين فيه، وهذا ما لا يتوفر في وثيقة سياسة التعليم، فصياغة أهدافها غامضة لا يمكن فهمها واستيعابها بسهولة؛ ومن ثَمَّ يصعب تطبيقها.
2-تمَّ التأكد بالتجربة والواقع المعاش على عدم قدرتها على تلبية متطلبات التنمية الشاملة في المملكة.
3-التغيُّر والتبدُّل المستمران لاحتياجات المجتمع بناءً على المتغيرات والتطوُّرات الاجتماعية والتقنية والسياسية والاقتصادية في المجتمع ومحيطيه الإقليمي والعالمي، يفرضان أن يكون هناك تغييرٌ موازٍ لهما في الأهداف، فالأهداف التي كانت منطقية قبل نصف قرن- مثلًا- لم تعد مناسبة لاحتياجات المجتمع حاليًّا.
4-هناك تضارب بين بعض ما جاء في وثيقة سياسات التعليم وأهداف رؤية 2030؛ فبينما تركز الرؤية على البُعد الوطني المعتمد على العمق العربي تلغي الوثيقة الجانب الوطني والقومي، وتنطلق من بُعد أممي إسلامي أثبتت الأحداث بُعدَه عن الواقع العملي.
5-أهداف رؤية السعودية في التعليم من خلال رؤية 2030 المعلنة في برنامج التحوُّل الوطني تفوق بكثير ما جاء في الوثيقة، أي أنه تمَّ بالفعل تخطي الوثيقة على أرض الواقع؛ الأمر الذي يتطلب تقويمها وتعديلها، لتكون أكثر فائدةً.
إيقاف وثيقة سياسة التعليم في المملكة:
تساءل د. عبد الله بن صالح الحمود: هل الوثيقة لا تزال قائمةً ومُلزِمة التطبيق؟ من جانبها ذكرت د. فوزية البكر؛ أعتقدُ أنها موجودة كوثيقة لسياسة التعليم في المملكة ويجدها كل باحث في جوجل منذ أن يضع العبارة. وحاولتُ أن أبحثَ عمَّا إذا كانت الوزارة قد أصدرت أيَّ تعميم بشأن إيقافها، ولم أجد على حد علمي، ولا أدري إذا كان قد صدر أيُّ شيء بخصوص هذه الوثيقة.
علَّق عليها د. عبد الرحمن الهدلق؛ فيما أعلم يقينًا أن وثيقة سياسة التعليم كانت تُدرَّس كمقرر أساسي في جامعة الأميرة نورة حتى تم إلغاؤها منذ سنتين، وكان المقرر كتابًا للدكتور الحقيل. وأذكرُ منذ سنتين تمَّ تشكيل لجنة في هيئة الخبراء، وكنتُ عضوًا في هذه اللجنة، لوضع مشروع نظام التعليم العام، وتمَّ إعداد النظام الذي يحتوي على أكثر من مئة مادةٍ، عالج فيها النظام كلَّ ما له علاقة بالمؤسسة التعليمية ومبانيها وخدماتها والهيئة التعليمية؛ كالمعلم والمعلمة وترقياتهما ومخالفاتهما وعقوباتهما، والمناهج، والخصخصة، والأوقاف المتعلقة بها… إلخ.
واطلعت اللجنة على عدد من الأوراق والوثائق ذات العلاقة، ومنها وثيقة سياسة التعليم الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (779) بتاريخ (16-17)-9-1398هـ. كما تم الاطلاع على أنظمة التعليم في عدد من الدول الأوروبية وكندا وأستراليا، للاستفادة منها.
هذا، وقد تم رفع مشروع النظام للسلطة العليا، ولا أعرف عنه شيئًا بعد ذلك. طبعًا لا أنسى أنه تمَّ الأخذ بعين الاعتبار رؤية 2030 في مشروع نظام التعليم العام.
علَّق أيضًا د. محمد الملحم بأن الوثيقة لا تزال سارية، وعندما كنتُ في تطوير القابضة كُلفت الشركة بعمل “إستراتيجية” للتعليم لتحلَّ مكان هذه الوثيقة، وراجعتُها في مرحلتها الابتدائية، ووجدتُها أيضًا تحشد المعاني وإن كانت تربوية اللغة، ولكن الفريق المُكلَّف بها كان مقتنعًا بها، وغادرتُ الشركة ولا أدري ما صُنِع بها، لكنها حتمًا لم تحل محل هذه الوثيقة حتى الآن، بحسب علمي. ولا أدري، هل اعتُمدت داخليًّا لتكون وثيقة توجيه steering doc لمشاريع الوزارة التطويرية أم لا؟
ويرى م. سالم المري أن هذه الوثيقة لا يمكن استبدالُها أو إلغاؤها إلا بقرار من مجلس الوزراء أو أمر ملكي، وهذا صعبٌ أن يحدث إلا في حالة مراجعتها وتحديثها وتعديلها في نظام عام جديد للتعليم يصدر بأمر ملكي أو بقرار من مجلس الوزراء، ويكون بديلًا للوثيقة.
سياسة التعليم بين القيادة التعليمية والإرادة السياسية:
أشار د. مساعد المحيا إلى أن السياسة التعليمية منذ أكثر من ثلاثين عامًا لم يعد لها أيُّ ذِكر تمامًا مثل السياسة الإعلامية منذ ثلاثين سنة أيضًا، لا يعرفها رؤساء التحرير ولا مديرو المحطات، فقد أصبحت السياستان ملفين ضمن ملفات الماضي.
التعليم- كما أشار د خالد بن دهيش- منذ أكثر من عشرين عامًا لم يعد يهتم ببنود هذه السياسة، وأصبح هناك قناعة بأنها موادُّ صِيغت كما أشار د. الملحم متمثلة بظروف سياسية واجتماعية قادت لهذا النمط من الاهتمام.
وكما أشار أيضًا د. راشد العبد الكريم، حَرِيٌّ بنا أن لا نغرق في تحميل عجزنا وفشلنا على مبررات وهمية وافتراضية، فمنذ 30 سنة لم يتحجج أحدٌ -من الوزير إلى المعلم -في اتخاذ قرار أو الاحتجاج عليه بسياسة التعليم، وهو ما أشار لمثله د. زياد الدريس. وأميل مع أ. فهد القاسم بأنَّ ربط أزمة التعليم بسياسة التعليم هو تبسيط للمشكلات الحقيقية في التعليم.
التعليمُ حظي بالكثير من التطوير من حيث المنهج والإدارة والمدرسة والمعلم وتقنيات التعليم، لكن المعضلة فيما يبدو أنها تبقى خارج بيئته التعليمية في أكثر الأحوال، وبخاصة المجتمع بكل أثقاله وحمولاته. التعليم يحتاج لرؤية يضعها صانع قرار يمتلك القيادة التعليمية والإرادة السياسية، وبدون إرادة سياسية سيبقى الحال على ما هو عليه، فالوزير الجديد جاء وفقًا لكتابه ” إصلاح التعليم في السعودية”، فوجد نفسه في معمعة التعليم لا يستطيع أن يغيِّر ما كان يؤمِّله. وفي مقابلته قبل أسبوعين، حين سُئل عن رأي له بشأن رواتب المعلمين تحدَّث عن أن المرء حين يكون في المسؤولية يختلف عنه عندما يكون خارج المسؤولية.
أقول دائمًا إن التعليم والإعلام إصلاحهما يحتاج إرادةً سياسية مثل تلك الإرادة التي حوَّلت مشكلة الجمرات الأزلية إلى واحد من أيسر وأجمل الأنساك في الحج.
في الإطار نفسه، تساءل د. عبد الله بن صالح الحمود: وهل كلُّ شيء لا بد أن يقترن بإرادة سياسية كي تتطور المجالات كافة، أم أن المفترض توافر حراك مستمر من المختصين للنهوض بمسؤولياتهم تجاه الأعمال المُوكَلة لهم؟ علَّق على ذلك د. رياض نجم بأننا لا نزال نفتقر للعمل المؤسسي على جميع المستويات، ولا يزال الأفراد (برغم اجتهادهم) هم مَن يديرون الأمور.
بينما ذهبت د. مها العيدان إلى أن كلَّ التغيرات خاصة الجذرية كانت بقرار سياسي، وقد يرجع ذلك إلى أن جميع أطياف المجتمع لا تثق أو تخشى الرفض إلا بالقرار السياسي.
من جانبها ذكرت د. هند الخليفة أنها تتفق مع ما ذكره د. مساعد من أهمية الالتفات إلى المستقبل، وترك السياسة التعليمية السابقة برمتها؛ لعدم فعاليتها أو تفعيلها في أي وقت سابق أو حاضر.
آن الأوان لكي تُطوى الصفحة تمامًا، ونبدأ في وضع إستراتيجية للابتكار مرتبطة بخطوات عملية لإحداث تغيير حقيقي، يشارك فيه ويؤثر ويتأثر به جميع العاملين في قطاع التعليم. مثل هذا الحراك لا يمكن إلا أن يبدأ من الداخل ويمتد للخارج، من الفلسفة والفكر إلى المناهج والأساليب، من الصغير والكبير في الموقع والمهام، من حيث ما لدينا من خبرات وكفاءات، وإلى ما انتهت إليه الأنظمة التعليمية المتقدمة. إستراتيجية للابتكار، ترتبط بها إستراتجية للعمل، وإجراءات تنفيذية للتنفيذ والتقييم والمراجعة ثم الابتكار من جديد. من وجهة نظري، الداعي لمراجعة الخطط والمؤشرات وغيرها من أوراق بقيت أوراقًا دون روح؛ لذا فإنه لا داعي لإضاعة مزيد من الوقت والفرص. لنبدأ الآن من الجديد.
إستراتيجية للتعليم تنطلق من رؤية 2030:
في اعتقاد د. نورة الصويان أنه من الواضح أننا نتفق جميعًا بأنه حان الوقت بضرورة مراجعة الوثيقة وإعادة صياغتها. وفي رأيي، نحن نحتاج لإعداد إستراتيجية وطنية للتعليم منطلقة من فلسفة مغايرة. وأثني على طَرْح بعض الزملاء والزميلات أنه بالإمكان الاستفادة من التجارب المميزة للدول الأخرى مع مراعاة الخلفية المجتمعية والتكييف بما يناسبنا.
نحتاج لإستراتيجية تنطلق من رؤية 2030 في تركيزها على بناء الكادر البشري ليكون هو صانع المستقبل لدينا، مع التأكيد على ضرورة الاستمرار في الإصلاح والتطوير، فالإصلاح لا بد أن يكون منهجيًّا ومستمرًا وفعَّالًا.
وثيقة سياسة التعليم يا معالي الوزير:
أورد د. عبد الله بن صالح الحمود مقالة للأستاذة أريج الجهني (أكاديمية وباحثة في قضايا التعليم)، بعنوان “وثيقة سياسة التعليم يا معالي الوزير”. وكذلك نظامنا التعليمي الذي نتمتع به منذ طفولتنا من خلال مجانيته وإتاحته، وأيضا الدعم المتواصل لبرامج الدراسات العليا والابتعاث وغير ذلك، لكن بقيت وثيقة سياسة التعليم في معزل وجمود عن هذا الحراك، والذي أثَّر سلبًا، بل أحدث تناقضًا واضحًا بين رؤية 2030 وما يدرسه الطلاب في المناهج، والشواهد لا تُعد ولا تُحصى. سمعنا كثيرًا عن وجود نوايا لتغيير وتعديل هذه الوثيقة، وهذا أمر مُبشِّر بالخير ولكن هناك عدة بنود تتطلب التسريع في وتيرة إصلاح التعليم الذي يقوده حاليًّا أحمد العيسى وسط موجة مقاومة عالية جدًّا؛ بعضها بسبب خلل في التواصل المؤسسي، وبعضها بسبب هيمنة أيديولوجية معينة على التعليم في حقبة من الزمن.
على ضوء ذلك طرحتُ هاشتاقًا بعنوان “وثيقة سياسة التعليم”، وأرفقتُ عددًا من الأوراق البحثية التي تناولت «وثيقة سياسة التعليم بالمملكة» بالنقد، والتي تم وضعها عام 1390هـ، أي أنها الآن تدخل عامها الـ50! دون تجديد ودون تعديل رسمي مُعلَن، وكيف لا وهي التي تمثل حقبة تغوَّل فيها فكر الإخوان في الوزارات والجامعات، وهو المُصنَّف حاليًّا كمنظمة إرهابية وفق بيان وزارة الداخلية الذي صدر في تاريخ 3/4/1435هـ، استنادًا إلى الأمر الملكي رقم أ/44، والذي نصَّ على لائحة تشمل الأحزاب والجماعات الإرهابية، وذكر منها «جماعة الإخوان المسلمين»، وعند العودة لوثيقة سياسة التعليم نجد مصطلحات هذه الجماعة حاضرةً في جُل بنودها التي وُضعت قبل 49 عامًا؛ كالبند 205 حول المناهج ومفردة «الأمة»، والبند 104 الذي نص على «الجهاد»، بل تضمنت أكثر من بند حول «الجهاد» وأن الطالب «السعودي» دوره في الحياة الجهاد! وهذا هو الحس الإخواني البغيض الذي جرَّمه أيضًا الأمر الملكي ذاته المشار إليه، حيث يوضح أن كل مَن يشارك في «أعمال قتالية» خارج المملكة بأي صورة كانت، عليهم مراجعة النفس والعودة للوطن!
المملكة دولة قائمة على العدل وحفظ حقوق مواطنيها وحمايتهم داخل حدودها وخارجها، فمَن هذا الذي يريد أن نرمي بالمواطنين خارجها! النظر في هذه المفاهيم في سياق الوثيقة يجعلك تتعجب من محاولة توظيف مصطلحات أساسية في مكون الهوية الثقافية لكل مسلم، ولكن بصيغة مغايرة لمعناها التربوي السليم، فنشأت أجيال الثمانينيات وهاجس «الأمة المزعوم» يسيطر على خواطرهم، حتى بدأ المجتمع في السنوات الخمس الماضية بفتح الحديث عن المفهوم الحقيقي للمواطنة وهوية المواطن السعودي والمأمول منه.
يقول الدكتور عبد العزيز الشهوان، في ورقة بحثية حول الوثيقة، إن هذه الوثيقة وُضعت في سياق زمني كانت في حينها متوافقةً، ولكن حان وقت التعديل. في حين طرحت الدكتورة سارة المنقاش أفكارًا محورية حولها، وعن مدى توافق هذه الوثيقة مع المعايير الدولية التعليمية، ومدى دقتها وتطبيقها على أرض الواقع. كذلك قدمت الدكتورة هيا البراهيم رؤية نقدية رصينة حولها. جميع هؤلاء الأساتذة نخبة مختصة في أنظمة التعليم، ويتحدثون من خلال أدوات بحثية وتأصيل علمي رصين، فلِمَ لا تتقدم الوزارة بتفعيل لجنة دائمة لتطوير السياسات التعليمية تتضمن الخبراء والمعلمين؟ فلا تطويرَ دون رأي المعلم، فهو العرَّاب الحقيقي لنهضة التعليم، وبدون رأيهم تصبح الرؤى تنظيراتٍ لا قيمة لها.
كما أن معالي الوزير الدكتور أحمد العيسى تناول هذه الوثيقة بالنقد في كتابه المعروف عن إصلاح التعليم، وهذا ما يجعل بارقة الأمل تلوح بأن يُشكل لجنة من هؤلاء الخبراء في المجال، ويُعلن للوطن عن ولادة وثيقة سياسة تعليم تتوافق مع رؤية 2030، وثيقة لا تقود المواطن السعودي لبراثن القتال تحت دعوى «الجهاد» الذي له شروطه، وأولها طاعة ولي الأمر! في كل يوم نتساءل: كيف تم اختطاف التعليم؟ انظروا للوثيقة بتمعن تجدوا بنودها التي صادرت أولويات التمكين والحضارة، وقولبت المناهج لأعوام، من منَّا لا يتذكر دروس التاريخ والجغرافيا، وكيف ينتهي كل درس بأهمية التبرع وإرسال الأموال للأمة، حتى كبرنا ولدينا شعور بالذنب! فبدل أن ننشغل بتطوير أنفسنا ووطننا الكبير انشغلنا بالمجهول. الجهود عظيمة ومتتالية من كل الجهات، لكن وزارة التعليم عليها العبء الأكبر، والدكتور أحمد العيسى خير مَن يقود هذا التغيير، مازلتُ مؤمنة بأنه سيستطيع مواجهة هذا المدَّ المؤدلج في أجهزة الوزارة، وقراراته الأخيرة جميعها تجعل دعمه حقًّا علينا كمجتمع أكاديمي، بل إن لم يكن تغيير الوثيقة وتعديلها في عهده، فمتى سيكون؟ هذا رجاء أن نواجه جميعنا كلَّ مَن يحاول عرقلة هذا التغيير ومقاومته.
تبقى بنود تعليم البنات في الوثيقة 153 -156 الأكثر سوءًا في الوثيقة، حيث تتعارض تمامًا مع رؤية 2030، وتنمّط المرأة السعودية في قوالب هامشية ومُسلَّم بها، الفتاة السعودية التي تكسر هذه الأنماط عادةً تكون قوية ذاتيًّا ومساندة غالبًا من محيطها، لكن التعليم يقتضي العدل، والعدل أن تتساوى ابنة الجوف مع ابنة الدمام، وأن تمارس فتاة حفر الباطن حريتها كفتاة الرياض داخل جامعتها، قرار العيسى عن السماح للجامعيات بالجوالات كان مفاجئًا لفتيات الطبقة المترفة والمخملية في المدن، وأغلبهن تعجبن! بالمقابل كثُر النقد للوزير من جهات مختلفة، دون أن يرى أحدٌ تحديات «الخطابات المجتمعية» في المدن المختلفة؛ لذلك حتى نخرج من هذه الوثيقة بسلام نشكر ما جاءت به من نقاط جيدة، لكن لمصلحة الوطن حان وقت التعديل، بل لنصبح أكثر مرونةً تُطرح البنود الجديدة للتصويت للجميع بموقع إلكتروني لمدة شهر، ولأجل الوطن، ولا مزيد من المجاملات.
علق د. راشد العبد الكريم على المقالة، وتساءل: كيف “الجهاد” صار من مفردات الإخوان؟ هذه الدولة قامت على فكرة الجهاد، وهو إحدى أدوات التأسيس والتوحيد فيها. و”المجاهدون” قطاع عسكري حكومي لا زال قائمًا. كون الإخوان أو غيرهم استغلوا مفهومًا شرعيًّا أو وظَّفوه لا يعني أن يكون في أصله أو في صوره الحديثة غير شرعي.
هل نلغي صفة الجهاد والرباط والشهادة عما يحصل على الحد الجنوبي، فقط لأن هذه المصطلحات استُخدمت يومًا من الإخوان؟
ملامح الإطار العام لوثيقة سياسة التعليم المُقترحة:
ذكر د. محمد الملحم أهم ملامح الإطار العام لوثيقة سياسة التعليم المقترحة:
– أن تُستقَى من الفكر التربوي، ويكتبها مختصون “ممارسون”.
– أن تُكتب بأيدٍ وطنية بعيدًا عن الشركات الاستشارية وما ماثلها.
– أن تُكتب متزامنةً ومنسجمة مع الرؤية الاقتصادية.
– أن تكون محققةً لكلٍّ من الإصلاح والتطوير معًا.
– أن تهتم بالتناغم والتكامل بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، وكذلك ما بين مناهج التعليم العام والجامعي.
وذهب د. حمد البريثن إلى أنه يؤيد ذلك، ولكن سوق العمل مرتبط بالتعليم، وسوق العمل يتأثر بالعالم الخارجي.
الوثيقة ودورها في إعاقة مسيرة تطوير العملية التعليمية:
أشار أ. عبد الله الضويحي إلى أن سياسة التتعليم وُضعت في عام 1970 وفي تلك الفترة كان الصراع والمنافسة بين القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر والإسلامية بقيادة الملك فيصل على أشده، واحتضنت المملكة آنذاك الإخوان المسلمين، ولا أستبعدُ أن يكون لبعضٍ منهم ممَّن عمل في الوزارة في ذلك الوقت دورٌ فيها.
أذكرُ عندما كنا طلابًا في اليمامة الثانوية نهاية الستينيات أو بداية السبعينيات كان يعلمنا الرياضيات معلم سوري من الإخوان (فيما بدا لي بعد ذلك)، رحمه الله وعفا عنه، كانت أسئلته كلها مرتبطة بالدين، فمثلًا: جماعة من المرابطين في سبيل الله على قمة جبل زاوية رؤيتهم للعدو أسفل الجبل..إلخ. أو مئذنة مسجد ارتفاعها كذا، وطول ظلها كذا.. إلخ وكنا نعزو ذلك لتدينه.
وأختلفُ مع مَن قال إن التطرف جاءنا من أفغانستان، بل بدأ قبل أفغانستان، وحادثة جهيمان إحدى نتائجه، وأتذكر وكلنا يتذكر متى بدأت تتغير البرامج والنشاطات اللاصفية في السبعينيات، وأعرف بعضًا ممن ذهبوا مع جهيمان، ومنهم المهدي وآخرون. صحيح أنه زاد مع أفغانستان لكنها لم تكن الأساس، بل كان شبابنا مُهيَّأً للذهاب إلى أفغانستان.
وأرى أن وثيقة سياسة التعليم التي نحن بصددها-في ظني- لم يطلع عليها إلا مَن وضعها وكتبها (مَن سيطلع على حوالي 236 مادة، معظمها مكرر)، وكل ما حدث في التعليم اجتهادات وسياسات ووجهات نظر من المتعاقبين على قيادته.
وخلال العقود الخمسة الماضية وخططنا الخمسية، لم يمر على التعليم مسؤول له علاقة بالتعليم بصورة مباشرة كممارس أو متخصص باستثناء الدكتور محمد الرشيد، رحمه الله؛ لذلك كان هو الوحيد الذي لامس هموم المهنة، وعندما استوى على سوقه استُبعد! ثم تعاقب عليه عدد من الوزراء في زمن قياسي، كل منهم رجل مرحلة، وكل منهم (ينسف) من سبقه.
التعليم وكلنا نعلم ذلك عمل مؤسسي وجماعي لا يخضع لاجتهادات وقرارات فردية، وأثق أن الجميع متفقون على أن الوثيقة لا جدوى منها في ظل بنودها الحالية، وأعتقد أن إزالتها من موقع الوزارة لم يأت صدفةً، وإنما كان مقصودًا لأسباب يعرفها الجميع.
“وثيقة سياسة التعليم”- في ظني- أنها ظلت طوال هذه السنوات دون تغيير؛ لأنه لم يظهر “مَن يجرؤ على الكلام”، و”مَن يعلق الجرس”، كل شيء فيه إشارة للدين أو يتعلق به خط أحمر غير قابل حتى للمناقشة في نظر البعض؛ لذلك فالذين مروا على التعليم كُلٌّ (قال كلمته ومضى)، ولم يُلتفت للوثيقة؛ لأنه لا أحد سيسأله، ولأنه لا أحد يعرف ما في الوثيقة.
أتفقُ مع كلِّ ما قاله الزملاء حولها؛ لذلك فالحلُّ الوحيد في نظري إلغاؤها (وفق النظام)، وتشكيل فريق عمل من مختلف التخصصات والتوجهات والرؤى لإعداد وثيقة تتماشى مع رؤية المملكة 2030 وتحقق أهدافها، وإلزام مَن يقود التعليم التمشي بها وتحقيقها.
أضاف د. خالد بن دهيش؛ ذكرتُ في تعقيبي أن هذه السياسة التعليمية لم يكن لها دورٌ في أي إعاقة لمسيرة تطوير العملية التعليمية. والوزارة انتهت من إعداد خطتها الإستراتيجية بأهدافها ومبادراتها، وتعمل على تنفيذها حاليًّا من خلال برنامج تقييم الأداء المؤسسي، حيث وُضعت معايير لقياس الأداء، وأحدثت مكتب تحقيق الرؤية VRO. وأقترح أن تتم مراجعة هذه السياسة، وأن يتم إيجاد البديل المناسب للسعودية للحاضر والمستقبل وفق رؤية المملكة 2030، على أن تراجع كل عشر سنوات.
مقارنة بين المسارين العلمي والأدبي في دراسة المواد الشرعية:
ذهب أ. سمير الزهراني إلى أن الطالب حينما يتخرج من الثانوية العامة في المسار الشرعي أو الأدبي يكون قد درس 3488 حصة دينية، وإذا اختار المسار العلمي فإنه يكون قد درس 2976 حصة دينية. بينما لا تُدرس لطلاب المسار الشرعي سوى 1408 حصة رياضيات والمسار العلمي 1792 حصة رياضيات فقط. هذه الأرقام البسيطة ألا تعتبر مثالًا بسيطًا للأثر الفعلي لوثيقة سياسة التعليم وبنودها على أرض الواقع؟
يعتقد د. محمد الملحم أن ذلك لا يعتبر مثالًا؛ لأن الأستاذ سمير هنا يتحدث عن تخصص، وملخصه أن طالب التخصص الشرعي يدرس موادَّ دينية أكثر من العلمي، وطالب العلمي يدرس موادَّ علمية أكثر من الشرعي، وكلاهما منطق مباشر لمقتضى “تخصص” كل منهما، ولو تخيلنا أنه لم يكن هناك شيء اسمه وثيقة سياسة تعليم، ماذا سيحصل هنا؟ النتيجة نفسها.
بينما يرى أ. سمير الزهراني أن الطلاب والطالبات يدرسون المنهج الأمريكي للعلوم والرياضيات الذي يدرسه الطالب الأمريكي، وهو المعرب لبعض دول الخليج (عن طريق شركة العبيكان للأبحاث التعليمية)، ولا اجتهاد في عدد ساعاته.
وعلَّق د. مساعد المحيا بأن مقارنة الأستاذ سمير غير منطقية وغير منهجية، إذ المقارنة كان يُفترض أن تكون بين ساعات المواد الدينية وساعات كل المواد الأخرى، بما فيها التربية الفنية والرياضية، هنا ستكتشف أن حجم المواد الدينية التي قُلِّصت كثيرًا ودُمجت مناهجها، قليلٌ جدًّا.
من جانبها ذكرت أ. علياء البازعي أنه بالرغم من ذلك، ليت عدد حصص مواد التربية الإسلامية يكون لها دورها وتأثيرها على السلوك. للأسف أنَّ أبناءَنا بعد كل هذا الحشد “الديني” يذهبون لتعلُّم سلوكيات بسيطة مثل النظام والنظافة في دول الابتعاث. ليت مواد الدين تُدرَّس تحت مبدأ “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فتحت هذا المبدأ تنضوي كل نجاحات الحياة.
مخرجات التعليم ومساهمتها في صناعة المجتمع:
أشار د. مساعد المحيا إلى أننا مع كل ما نتحدث عنه من جوانب سلبية اشتملت عليها الوثيقة المتعلقة بسياسة التعليم، وأن التعليم حين ذاك قام على تحقيق أهدافها، إلا أن من الجدير ذكره أنكم أيها الزملاء والزميلات جميعًا نتاج هذه الفترة وهذه الحقبة وهذه السياسة وذلك المحتوى، ليتنا اليوم ننعم بمثلكم (جديةً، وحرصًا، وتفوُّقًا، وصلاحًا، وأدبًا، ورغبةً في التعلم).
واقع التعليم ومناهجه ومواده ومحتواه تغيَّر اليوم كثيرًا، ومع أن هذا التغير كثيرٌ منه إيجابي إلا أن مَن يشاهد جيلَ اليوم يحزن كثيرًا للواقع السلبي المؤسف الذي تعيشه مدارسنا ونراه في طلابنا.
أدركُ أنَّ ثمة متغيراتٍ مهمة أسهمت في هذا الواقع السلبي، لكني فقط أردت أن أشير إلى أن التعليم لن يصلحه فقط إستراتيجية برغم أهمية صناعتها.
إنَّ مخرجات التعليم السلبية والضعيفة جدًّا أصبح يُسهم في صناعتها المجتمع بقيمه ونمط اهتماماته الهامشية. كما أنَّ ذلك ربما يكون نتاجَ كثير من الرفاهية التي عاشها المواطن بسبب رعوية الدولة للفرد، والتي يُعتقد بأنها أسهمت في سلبه كثيرًا من إرادته وقدراته وإمكاناته، في الوقت الذي قلَّ وتدنى الاهتمام بالاستثمار في التعليم وفي الفرد أو المواطن.
أضاف أ. محمد الدندني، أن الوضع الذي ذكره د. مساعد؛ لعدة عقود ليس راسخًا ولا يعبر عن أُسلوب حياة الإنسان السعودي. الكل يدرك هذا، وهو حديث البيوت، هناك شعوب كانت أو مرت بظروف أسوأ من ظروفنا ولو عكسية ولكنها نهضت بالهمة والمشروع الوطني الثابت. والاقتصاد يسيِّر العادات والطباع؛ لهذا من المفيد أن يواكبَ التغييرَ الاقتصادي تغييرٌ في العادات والسلوك إلى الأفضل، أي التركيز على المشروع التربوي كهدف موازٍ ومساوٍ للمشروع التعليمي.
المدارس الخاصة والدبلومة الدولية:
يعتقد د. محمد الملحم أن الرفاهية لم تكن قط سببًا في تخلُّف الأمم أو تدهور التعليم، أو تراجع القيم الوطنية. وفي اعتقادي، أن سبب تدهور التعليم هو الفساد الإداري (بمعناه الإداري لا المالي)، وسببه وقوع مجتمعنا فيما أسمته أدبيات التعليم الدولي بـ (مرض الدبلومة) Diploma Disease. اتفقت معه أ. علياء البازعي، وأضافت أن “الدبلومة الدولية” أعتبرُها كارثةً وابتلاءً، جميعنا تعلَّمنا اللغة الإنجليزية بدون مدارس أجنبية، فالأفكار التي تُقدَّم للنشء في هذه المدارس تجعلني أصدق “نظرية المؤامرة”. والآن في طبقة معينة “ليست بالقليلة” من المجتمع أصبحت الأسر تستشعر أهمية تعليم أبنائها اللغة العربية والقرآن ومواد دين أخرى مثل الفقه، عن طريق الدروس الخصوصية.
بينما ترى د. فوزية البكر أن ما يُطبَّق في بعض المدارس الخاصة على أنه بكالوريا دولية قد لا يكون بالضرورة، وأنا أتحدث هنا تحديدًا عن برنامج “الإ بي بروجرام IB program“، وهو يقدِّم مقررات في الرياضيات والعلوم (فيزياء، وبيولوجي، وهندسة)، بجانب تركيز هائل على مهارات الفهم وكتابة المقالة في اللغة الإنجليزية تُعِدُّ الطالب للدخول إلى أحسن الجامعات العالمية، لكن امتحاناته تتم بالتعاون مع المنظمة الأم خارج السعودية (التي تمثل الكرديتيشن)، وهناك شروط صعبة تضعها هذه المؤسسة للالتحاق، ودرجات تراكمية…إلخ.
ما يُقدَّم في بعض المدارس الخاصة لدينا هو صور مشوهة للـ “إلا بي بروجرام IB program” فلا نحكم عليه من هذه التجارب.
ما حدث أنَّ كثيرًا من المدارس الخاصة لدينا حاولت جذب الأهالي تحت مُسمَّى التعليم الأجنبي مقابل التعليم الأهلي، واستعارت ما استطاعت من برامج عالمية في “آي بي” أو غيره، فأخذت نصفه أو ربعه دون أن تكون هناك هيئات محلية أو عالمية تقيم جدوى هذه البرامج، ودون أن يكون عندها معلمون متخصصون في تدريس مواد “الآي بي” وقدمته كله باللغة الإنجليزية، مع العلم أن “الآي بي” الحقيقي يشترط تعلُّم الدارس من لغتين إلى ثلاث، وفي بعض المدارسالأجنبية تجد العربية أو الإسبانية هي المفضلة.
وعلَّق د. محمد الملحم بأن دخول البرامج الدولية ومنها البكالوريا في السوق ليس شرًّا كله؛ لأن التحدي الذي تضعه اختباراتها المقننة الجادة للتخرج تجعل المدارس تتسابق للحصول على المعلم المتميز علميًّا لتدريس الطلاب، ومن ثَمَّ تمكنهم من الحصول على الشهادة، وهذا ملاحظ، ونحن نراه مكسبًا كفرصة متاحة لجودة التعليم أمام انحدار كلٍّ من التعليم الحكومي والأهلي.
لكن الملاحظة المهمة هي إهمال جودة تدريس مواد الهوية: اللغة، والدين، والتربية الوطنية، وكذلك الوقوع في متلازمة التقليد الانهزامي وشيوع مظاهر التغريب في هذه المدارس، وهذا ليس جديدًا على مجتمعنا كظاهرة اجتماعية، حيث كانت في السبعينيات، وظننا أن وعي الناس تحسَّن وتدينهم أدى إلى أنها تنتهي تمامًا، لكنها عادت مع العولمة والانفتاح” الثقافي”، وجاءت هذه المدارس لتقدِّم نفسها بوصفها بيئة جديدة لهذه المتلازمة.
أسباب مناقشة وثيقة سياسة التعليم:
وحول تساؤل د. خالد الرديعان؛ لماذا نناقش إستراتيجية قديمة عفاها الزمن وغير معمول بها؟ لماذا نُضيع الوقت في موضوع كهذا؟ لماذا لا نُناقش ما نريده من نظام التعليم، وكيف يكون متوافقًا مع رؤية 2030؟ أجابت د. فوزية البكر بأننا أضعنا الوقت؛ لأن الوثيقة موجودة فعلًا، وأي شخص يضع على جوجل الاسم سيظهر له مباشرة. إذًا هي فعلًا تمثل إستراتيجيات التعليم السعودي حتى لو حاول الوزير حذفها من موقع الوزارة وهو صامت، لكنَّ أي متربص أو عدو حاقد يستطيع التقاط أي من موادها المتفجرة، ويطلقها في وجوهنا.
كذلك أكد الإخوة الكرام المناقشون أن هذه الوثيقة مجرد وثيقة لا أثر لها على أرض الواقع، وأرى أنَّ في هذا تبسيطًا مُخلًا أو محاولة للهروب مما ترتب على موادها من مآسٍ نعرفها جميعًا.
الوثيقة التي نتحدث عنها كانت تُدرَّس في كليات المعلمين ولا زالت تُدرَّس في كليات التربية في معظم أقسام إعداد المعلمين أو طلاب الدراسات العليا، ويمكن لأي أحد بضغطة زر بسيطة الدخول على المكتبة السعودية الرقمية والاطلاع على العدد الكبير من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تمت في دراسة الوثيقة، وهؤلاء الدارسون هم مَن يصبحون صنَّاعًا للقرار لاحقًا في الوزارة، ويتخذون ما يرونه متفقًا مع السياسات العامة للوثيقة، لكنَّ الممارسين في الميدان لا علاقة لهم بذلك بالطبع.
¤ التوصيات:
-أن تُعد سياسة التعليم من قِبل لجنة وطنية من ذوي الخبرة، ويمكنها الاستعانة بجهة استشارية متخصصة في مجال التعليم حتى تستعرض اللجنة التجارب الدولية التي أثبتت نجاحها، ويُختار الأفضل والأنسب منها للمملكة.
-الاسترشاد بتجارب دول نجح تعليمها في إحداث النقلة المطلوبة مع مراعاة توطين ما يمكن توطينه عند الضرورة.
-أن يكون الإسلام المعتدل هو الإطار العام للإستراتيجية التعليمية دون الإغراق في التفاصيل.
-أن تتسم الوثيقة بأن تتكون من خلال منظومة تدريسية تأخذ في الاعتبار المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومتطلبات سوق العمل.
-أن تشمل الوثيقة محتوى متكاملًا من الأنشطة اللاصفية، وبتنوُّع شامل ونوعي ومواكب للاحتياجات التنموية المستمرة.
-إعادة فتح كليات معلمين في المناطق، بحيث تتسم مناهجها الدراسية بما تذهب إليه الوثيقة الجديدة من مضامينَ؛ لتتفق مخرجات الكليات والمحتوى الأساسي للوثيقة.
-أن يُشترط على خريجي كليات المعلمين الحصول على (رخصة معلم)، وأن تكون ذات ثلاث فئات: الفئة الثالثة تُمنح لمَن حصل على الرخصة مباشرة، والفئة الثانية تُمنح لمَن أمضى خمس سنوات في الخدمة مع اجتياز امتحان ترقية، والفئة الأولى لمَن أمضى عشر سنوات خدمة بعد مرور السنوات الخمس الأولى، وتتطلب الترقية لهذه الفئة الحصول على عدد من الدورات التدريبية والتأهيلية، وكافة هذه الفئات تأتي على شكل سُلَّم وظيفي على غرار سلم الأكاديميين في الجامعات.
-التركيز على دور مؤسسات التعليم في بناء الكادر البشري والاستثمار فيه، ليكون هو المحرك الحقيقي لصناعة المستقبل.
-أن تتم صياغة رؤية إستراتيجية تكاملية تتكامل مع باقي السياسات في كافة القطاعات لتحقيق أهداف رؤية 2030.
-يرتبط النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية لأي مجتمع ارتباطًا وثيقًا بمهارات المواطنين؛ مما يؤكد على أنه يجب أن يكون الهدف الأساسي للتعليم واتساقًا مع رؤية 2030، هو اكتساب جميع الشباب للمهارات الأساسية كحد أدنى، وخاصة المهارات التي يتطلبها القرن الواحد والعشرين، وكأساس للعمل ولمزيد من التعلُّم، وليس فقط الالتحاق بالتعليم، بالإضافة إلى توجيه كل طالب إلى ما خُلق له، بالتوعية بالقدرات الخاصة للطلبة وكيفية اكتشافها ومساعدتهم على ذلك.
-لا يجب أن يدخل جميع طلبة الثانوية الجامعات، بل يتم العمل على توجيه مَن لديه مهارات معينة للتعليم المهني والتقني، وهذا يستوجب: (التوسُّع في مجالات هذا التعليم حسب حاجة المملكة، أن يبدأ تطوير مهارات الطالب من الثانوية العامة، تحسين صورة هذا النوع من التعليم ومكانته في المجتمع بالتكاتف مع عدة جهات أخرى من أجل هذا الهدف وحتى يقبل عليه طلابنا)، وبالطبع سوف يخدم التعليم التقني رؤية 2030 في مجال توسيع مصادر الدخل.
– من الضروري العودة إلى الأصل، وهو فصل التعليم العالي عن التعليم العام، وفصل التعليم المهني والتقني في هيئة مستقلة تحت أي مسمى، بحيث تنحصر مسؤولية وزارة التعليم في تعليم البنين والبنات فقط (التعليم العام).
-أن تتحول الوزارة إلى جهة رقابية تشريعية وتنظيمية، وتستقل الجامعات والكليات، والتعليم الفني، وإدارات التعليم في المناطق.
القضية الرابعة
“الأمن الثقافي”
الملخص التنفيذي:
القضية: (الأمن الثقافي).
لم يعد الأمن الثقافي في حياتنا المعاصرة، مجرد هدف ثقافي- فكري، وإنما أصبح هدفًا حضاريًّا شاملًا، ينطوي على جوانب سياسية ووطنية لا تقل أهمية عن جوانبه الثقافية.فالأمن الثقافي يُعدُّ عنصرًا لا غنى عنه من عناصر النهضة الاجتماعية، ومظهرًا من مظاهر القدرة على التحرر من المؤثرات الخارجية الوافدة، فهو أعلى مظاهر استرداد الهوية التي سعت قوى الشر والبغي عبر التاريخ إلى إنهاء خطوط الدفاع الفكرية والعقدية كخطوة أولى لعملية الاستيعاب والسيطرة، ويخطئ مَن يعتقد أن الأمن الثقافي، هو عبارة عن غلق الأبواب والانطواء على النفس وتكثير لائحة الممنوعات، والابتعاد عن وسائل الاتصال والإعلام الحديثة، فالأمن الثقافي لا يُشكِّل حالة سلبية تتجسد في صد الناس عن المخاطر المحتملة.
أشارت الورقة الرئيسة إلى أنالأمن الثقافي يعتبر جانبًا من جوانب الأمن القومي بجانب الأمن السياسي، والاقتصادي، والعسكري. كما أنه يمثل جانبًا مهمًّا، فهو الذي يحافظ على الهوية ويدافع عنها، وهو الطريق لصد الغزو الثقافي أو عملية الحصانة ضد الغزو الثقافي الذي قد يُوجَّه ضد بلد ما.
وأكدت الورقة أن أحد أسباب الدعوة إلى الأمن الثقافي هو التغيير والعولمة التي اجتاحتنا في عقر دارنا، وأن أهمية الأمن الثقافي تتحدد في كونه يعمل على تحصين الثقافة بالمبادئ الإسلامية والأخلاقيات والسلوكيات، وبناء ثقافة ذاتية تحمي نفسها بنفسها، وتصمد أمام المؤثرات الخارجية، بالإضافة إلى حماية الذات الثقافية وتحصينها ضد التيارات الفكرية التي تستهدف الشباب في دينه ولغته وحضارته من أجل أن يتمكن من التصدي لها، والتعامل معها من أجل تحقيق التنمية والتقدُّم.
كما أنَّ الأمن الثقافي يرتكز على عدة مقومات، يؤدى الاهتمام بها إلى تحقيق الأمن الثقافي، وتتمثل في الدين واللغة والتراث والانتماء والمواطنة.
وذهبت التعقيبات التي جرت على هذه الورقة إلى رفض الجمع بين كلمة الأمن مع الفكر أو الثقافة؛ كونها متغيرات ومتحولات يجيء استيعابها في حدود القيود الموجودة مسبقًا ضمن الهوية الاجتماعية؛ كالدين، والأعراف، واللغة، وغيرها. فضلًا عن أن توظيف أو تمييز الثقافة بالعنصر الأمني سيجعلها أكثر صدامًا مع رغبة الإنسان في الخروج من قيوده الحالية التي يفرضها عليه المجتمع والدولة حاليًّا؛ مما يولِّد صدامًا غير مفترض وغير حقيقي لمجرد الوقوع تحت وطأة الرقابة.
كذلك أضافت التعقيبات أن الشعور بأهمية الأمن الثقافية، والهوية وما تتعرض له من نخر داخلي وخارجي، هي مرحلة أساسية في الوعي بهذه الهوية، وبالأخطار التي تهددها وتنذرها بالطمس والذوبان، فيجب تكاتف الجهود والمبادرات لخلق جبهة قوية وقدرة هائلة تواكب توجهات السعودية الجديدة.
كما اتفقت معظم المداخلات التي جرت على هذه الورقة على عدم الجَمْع بين الأمن والثقافة؛ لأن الجمعَ بينهما متناقضٌ تمامًا، فمفهوم الأمن يعني الثبات والجمود؛ لذا فهو بعيد عن مفهوم الثقافة التي هي متغيرة غير ثابتة، وهي تؤثِّر وتتأثر مكانيًّا وزمانيًّا، وتختلف باختلاف منظور متعاطي هذه الثقافة، واقترح المناقشون استخدام مصطلحات بديلة، مثل: الوعي الثقافي، أو الحصانة الثقافية.
وذهبت بعض المداخلات إلى أن الأمن الثقافي ضمان وطريقة للمحافظة على هويتنا الثقافية، فلا يوجد مجتمع قوي بهوية ركيكة أو يعيش بهوية مستوردة، والتحدي والمعادلة الصعبة تكمن في كيفية الجمع بين الأصالة والمعاصرة في ثقافتنا وهويتنا، وذلك دون الخوف أو القلق من انتشار العولمة الثقافية، وإنما القلق من عدم التفاعل معها بصورة إيجابية أو التشرُّب السلبي لمظاهرها الثقافية.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: التركيز على إدارة الثقافة بمفهومها الأعمق (ثقافة المفاهيم والسلوك)، على سبيل المثال: “ثقافة عمل احترافية، تقبُّل الآخر، احترام القانون”. نشر المعارف وتشجع العمل الفكري والإبداعي للأفراد والجماعات. العمل على تفعيل دور الجامعات في تنمية مجتمعاتها ثقافيًّا ليُضاف إلى مهام الجامعات الرئيسية الثلاث (التدريس، البحث، خدمة المجتمع)، مع توفير الدعم اللازم لذلك. توظيف وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة لنشر ثقافة الاعتدال وتقبُّل الآخر والحوار الهادف والبناء. بناء جسور الثقة والتواصل بين الأجيال المختلفة في محددات الثقافة، ما هو مقبول وما هو مرفوض، مع ذكر الأسباب الوجيهة والمنطقية الداعمة لذلك. إجراء استفتاء وطني عن ملامح ثقافتنا التي تُحدِّد هويتنا الوطنية والتي لا يجب أن تذوب في أي ثقافة أخرى لتغيبها وإلغائها.
¤ مقدمة:
إن الأمن الثقافي جديرٌ بأن يكون في طليعة صنوف الأمن التي ينبغي أن تُوَجَّه إليها عناية الدول العربية والإسلامية، فلئن كانت أنواع الأمن المُعتنى بها تحافظ على جسد الإنسان وراحته ومتعته في دنياه، فإن الأمن الثقافي يحافظ عليه كله، لا سيما روحه وفكره المتحكم في نمط حياته.. وفي مصيره في آخرته.
ولم يعد الأمن الثقافي في حياتنا المعاصرة، مجرد هدف ثقافي- فكري، وإنما أصبح هدفًا حضاريًا شاملًا، ينطوي على جوانب سياسية ووطنية لا تقل أهميةً عن جوانبه الثقافية.فالأمن الثقافي يُعدُّ عنصرًا لا غنى عنه من عناصر النهضة الاجتماعية، ومظهرًا من مظاهر القدرة على التحرُّر من المؤثرات الخارجية الوافدة، فهو أعلى مظاهر استرداد الهوية التي سعت قوى الشر والبغي عبر التاريخ إلى إنهاء خطوط الدفاع الفكرية والعقدية كخطوة أولى لعملية الاستيعاب والسيطرة، ويخطئ مَن يعتقد أن الأمن الثقافي، هو عبارة عن غلق الأبواب والانطواء على النفس وتكثير لائحة الممنوعات، والابتعاد عن وسائل الاتصال والإعلام الحديثة، فالأمن الثقافي لا يشكل حالة سلبية تتجسد في صدِّ الناس عن المخاطر المحتملة.
لذا تُعد قضية “الأمن الثقافي” من القضايا المهمة التي طرحها ملتقى أسبار من خلال ورقة العمل التي قدَّمتها د. زينب الخضري، وتمَّ التعقيب على موضوع الورقة، وجرت حولها مداخلات عديدة ناقشت: (تعزيز الهوية الوطنية والانتماء، الأمن الثقافي والحفاظ على الهوية، دور الجامعات في الحفاظ على الهوية الثقافية، أزمة الثقافة والمثقفين، تحدي الحفاظ على ثقافة آمنة وهوية باقية، ازدواجية الفكر والثقافة، الوعي الثقافي والفكري، الحصانة الثقافية أم الأمن الثقافي؟ نماذج التعامل والتكيف مع الثقافة). وفي النهاية اقترح الأعضاء المناقشون العديدَ من التوصيات المهمة؛ وفيما يلي نصُّ الورقة التي كتبتها الدكتورة زينب الخضيري، وعقَّب عليها الأستاذ إبراهيم آل سنان، والأستاذة أسمهان الغامدي.
كتبت د. زينب الخضيري: تتقاطع الثقافات والعادات مع بعضها دون مقدمات، وتحتل هذه مساحتها في حياتنا بشكل يُعلن عن نفسه بشيء من النرجسية، ففي عصر العولمة أصبح كل شيء يحاصرنا، فتجمعنا أخبار وتخيفنا الأخرى، يفرقنا خبر ويسعدنا الآخر، هذه الثقافة العالمية الكونية التي تنقل لنا كلَّ شيء دون تنقيح وتجعلنا نرغب في التوقف عن اللهاث خلف هذه الجغرافية الهائلة التي اتسعت مع التطور التكنولوجي المرعب. وفي عصر المعلومة السريعة السهلة، وعصر إحلال الثقافة الواحدة وفرضها وهيمنتها على العالم، أصبح التداخل الثقافي وتضخُّم وتضارب المعلومات والأفكار وانتشارها بسرعة هائلة بحاجة إلى إعادة بناء لمجتمعاتنا وعقول أبنائنا وحمايتها، فنحن نعيش في صراع ثقافي، ولكن كيف نحمي ثقافتنا؟ وكيف يكون لدينا أمنٌ ثقافي كضرورة إستراتيجية لبقاء هويتنا، بمعنى حماية النشاط الفكري والفني والعادات والآثار وغيرها؟ وما هو دور المثقف؟ هذه الأسئلة تحيلنا إلى إعادة تعريف الثقافة، فهي حلقة الوصل بين أفراد المجتمع بمختلف فئاتهم وطبقاتهم؛ لذلك فهي مسؤولية كبيرة وعظيمة، فالأمن الثقافي هو الحلقة المكملة للأمن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وبالتالي الأمن الوطني.
وفي هذه الورقة سوف نناقش المحاور الآتية: (مفهوم المثقف ودوره، مفهوم الأمن الثقافي، أهمية الأمن الثقافي، مقومات الأمن الثقافي، كيف يمكن تحقيق الأمن الثقافي؟).
ماهية الثقافة:
تختلف الآراء والاجتهادات حول ماهية الثقافة، ويكمن دور المثقف في هذه الحالة في ترجمة الصراع الدائر مع كل ما حولنا من ثقافات وأفكار وآراء، وذلك “بقلب الساعة الرملية في الاتجاهين” أي من الحدث إلى تفسيره، ومن الهوية إلى الانتماء. نحن في خندق واحد لحماية هويتنا وثقافتنا إلا أن المثقف هو مَن يُعوّل عليه في التصدي لكل ما يمس ثقافتنا وتاريخنا ولغتنا، وقول الحقيقة وفضح الأكاذيب وكل ما علق بثقافتنا وهويتنا يتطلب التغيير بالقول أو الفعل، فهو مطلوب منه تفسير لمعنى أي مصطلح جديد يهمُّنا ويخدمنا، حيث يفسرها تفسيرًا حقيقيًا وبموضوعية، فالتفسير الواضح والحقيقي هو المفتاح للمحافظة على هويتنا وأمننا الثقافي، ومن ثَمَّ وضع المساعدة في طرح الرؤى والإستراتيجيات لحلها. إن المثقف هو مرآة المجتمع وقلبه النابض، وإذا امتلك أدواتٍ واقعيةً وفهمًا واعيًا للمجتمع ومعطياته والأحداث التي تسيّره فسوف يحدث التغيير بلا شك.
إن أحد أسباب الدعوة إلى الأمن الثقافي هو التغيير والعولمة التي اجتاحتنا في عقر دارنا، وإذا لم نتكاتف ونقف في وجه هذا الإعصار سيقتلعنا لا محالة، وسنفقد الكثير من ثقافتنا وهويتنا، فلو عشنا مع الماضي فهذا بالتأكيد ما ستكون عليه حياتنا في المستقبل، وتحطيم الماضي الذي يجب أن نعترف أنه انتهى وللأبد هو مطلب طبيعي لنعيش بتفتح ذهن وسلام داخلي حتى لا ندع تأثيرات الماضي تُفسد جمال الحاضر والمستقبل، فالحالة الذهنية التي نعيش بها هي ما ترتكز عليها حياتنا؛ لذلك فالحفاظ على ثقافتنا لا يتم إلا عندما يكون هناك علاقة متينة وقوية بيننا وبين قيمنا وإرثنا الثقافي، وجَعْل الثقافة هي روح المجتمع، بحيث تصل إلى كل أفراد المجتمع باستخدام جميع الطرق، فهي مطلب مُلحِّ؛ لأنه ليس هدفًا ثقافيًا فقط بل أصبح هدفًا حضاريًا يحتوي على جوانب كثيرة اجتماعية ووطنية وسياسية.
وقد عرَّف الفيلسوف الألماني “هيغل” الثقافة بأنها: “مفهوم يحمل معنى واسعًا يمتد ليشمل كل ما ينتجه الإنسان، ابتداءًمن التقنية حتى الشعر، بما في ذلك السياسة والدين والفلسفة “. وهذا ما يؤكد على أن للثقافة محتويات ووظائف تختلف باختلاف الأطر الاجتماعية والاتجاهات الثقافية والمراحل التاريخية الخاصة بكل مجتمع، هذه المحتويات والوظائف يجب أن تكون واضحة المعالم وترتبط بالهوية، فالثقافة لها دور كبير في تجذير الهوية ورسمها وربطها بكل ما حولها، ولما كانت الثقافة الغربية هي المسيطرة الآن، فهي ثقافة تسلطية نتيجة شعورها بالقوة ونتيجة نفوذها السياسي، وتوافر وسائل الهيمنة لها؛ كان يجب علينا أن نتصدى لها عن طريق الأمن الثقافي؛ بالاعتماد على الذات، وتشجيع التعاون الأفقي بين شعوبها، ووضع آليات وطنية للاتصال للخروج من التبعية الثقافية والإعلامية. والمتعارف عليه أن المتغيرات الثقافية تظهر أولًا عبر اللغة، والكليات الثقافية تبقى ثابتة بمدى رسوخ اللغة، وبالتالي تحافظ اللغة على الهوية الثقافية.
وإذا كانت الهوية هي البيت الكبير الذي يحوي الأشياء ويتفاعل معها، فالثقافة هي تلك التفاصيل الملموسة وغير الملموسة، والتي تحدد لنا كيفية التعامل مع كل الأشياء وكيف نستجيب لها. والمثقفون- كما يعرفهم روبرت ميشيل-: “هم أولئك الأشخاص الذين يمتلكون المعرفة، وعلى أساس هذه المعرفة الموضوعية وتأملاتهم الذاتية يصوغون أحكامهم على الواقع دون أن يستخدموا هذه الأحكام مباشرة أو بالضرورة من خبراتهم الحسية”.
ماهية المثقف:
وتختلف الآراء والاجتهادات حول ماهية المثقف، إلا أن المثقف لا بد أن يكون له مواقف واضحة تخدم الشؤون الثقافية والاجتماعية عامة. ويكمن دور المثقف في ترجمة الصراع الدائر مع كل ما حولنا من ثقافات وأفكار وآراء، وذلك “بقلب الساعة الرملية في الاتجاهين” أي من الحدث إلى تفسيره، ومن الهوية إلى الانتماء. نحن في خندق واحد لحماية أمننا الثقافي إلا أن المثقف هو مَن يُعوَّل عليه في التصدي لكلِّ ما يمسُّ ثقافتنا وتاريخنا، وكما يقول نعوم تشومسكي: “من مسؤولية المثقفين قول الحقيقة وفضح الأكاذيب”. وقول الحقيقة وفضح الأكاذيب يتطلب التغيير بالقول أو الفعل، فهو مطلوب منه تفسير لمعنى أي مصطلح جديد يهمنا ويخدمنا مثل الأمان الثقافي، حيث يفسره تفسيرًا حقيقيًا وبموضوعية، فالتفسير الواضح والحقيقي هو المفتاح للمحافظة على هويتنا وأمننا الثقافي، ومن ثَمَّ وضع المساعدة في طرح الرؤى والإستراتيجيات لحلها. إن المثقف هو مرآة المجتمع وقلبه النابض، وإذا امتلك أدوات واقعية وفهمًا واعيًا للمجتمع ومعطياته والأحداث التي تسيره سوف يحدث التغيير بلا شك، وكما يقول عالم النفس الحديث د. ويليام جيمس: “أعمق المبادئ في الإنسان هو تلهفه على تقدير الآخرين له”.
إن أحد أسباب الدعوة إلى البحث في أمننا الثقافي هو التغيير والعولمة التي اجتاحتنا في عقر دارنا، وإذا لم نتكاتف ونقف في وجه هذا الإعصار سيقتلعنا لا محالة، وسنفقد الكثيرَ من ثقافتنا وهويتنا، فلو عشنا مع الماضي فهذا بالتأكيد ما ستكون عليه حياتنا في المستقبل، وتحطيم الماضي الذي يجب أن نعترف أنه انتهى وللأبد هو مطلب طبيعي لنعيش بتفتُّح ذهن وسلام داخلي حتى لا ندع تأثيرات الماضي تفسد جمال الحاضر والمستقبل، فالحالة الذهنية التي نعيش بها هي ما ترتكز عليها حياتنا؛ لذلك فالأمن الثقافي لا يتم إلا عندما يكون هناك علاقة متينة وقوية بيننا وبين ثقافتنا، وجَعْل الثقافة هي روح المجتمع، بحيث تصل إلى كل أفراد المجتمع باستخدام جميع الطرق، فهي مطلب ملح؛ لأنه ليس هدفًا ثقافيًا فقط بل أصبح هدفًا حضاريًا يحتوي على جوانب كثيرة اجتماعية ووطنية وسياسية.
مفهوم الأمن الثقافي:
والأمن الثقافي- كما تعرفه “نهلة جبر”- هو: “مصطلح يبدو للوهلة الأولى متناقض المفردات، فهو كمصطلح لفظي يتكون من كلمتين ذات معنيين مختلفين، هما الأمن والثقافة؛ فالأمن كمفهوم عام ومُتداول هو توفير الجو الآمن لتداول الحريات التي نمارسها ودلالته دومًا تشير إلى الدفاع، والعزلة والسيطرة لتوفير الحماية المطلوبة، أو الانغلاق والتكتم لو تطلب الأمر ذلك في أحيان كثيرة. أما الثقافة فتتضمن- حسب الكثير من التعريفات المختلفة والمتعددة – النشاط الفكري والفني للأعمال المُنتَجة من جهة، والمعتقدات والفنون والعادات والآثار والأعمال التي ينتجها مجموعة من الناس في وقت ما عبر التاريخ من جهة أخرى. وهو المفهوم الذي يتناقض مع مفهوم الأمن”. فالأمن الثقافي يعتبر جانبًا من جوانب الأمن القومي بجانب الأمن السياسي، والاقتصادي، والعسكري.
فالأمن الثقافي يمثل جانبًا مهمًّا، فهو الذي يحافظ على الهوية ويدافع عنها. ويعرف الدكتور عاصي حمود الأمن الثقافي بأنه: “هو الطريق لصد الغزو الثقافي أو عملية الحصانة ضد الغزو الثقافي الذي قد يُوجَّه ضد بلد ما”.
لذلك هو يهتم بثقافة البلد وأدواتها ووسائلها ومؤسساتها من أي مؤثرات خارجية، مع الأخذ بالتطور والتخطيط الثقافي، فالمصادر الثقافية تنبع من ثلاثة أشياء: مكون ثقافي تراثي، ومكون فكري علمي، ومكون ثقافي جاء مع الاحتكاك بالآخر والترجمة ومع المنظمات المعنية بالحضارة؛ لذلك كان لا بد من وجود الأمن الثقافي؛ إذ إنه يوفر حماية للفكر والقيم والعقائد. لذلك تأتي أهمية الأمن الثقافي متمثلة في الآتي:
أهمية الأمن الثقافي:
- يعمل الأمن الثقافي على تحصين الثقافة بمبادئنا الإسلامية والأخلاقيات والسلوكيات، فهو حالة إيجابية يعمل على تقوية البنيان النفسي والفكري للمجتمع، ويعمل على تثبيت الهوية التي يحاول أن ينتزعها منا العالم الغربي بواسطة العولمة.
- حماية الذات الثقافية وتحصينها ضد التيارات الفكرية التي تستهدف الشباب في دينه ولغته وحضارته؛ من أجل أن يتمكن من التصدي لها، والتعامل معها من أجل تحقيق التنمية والتقدُّم.
- توفير ثقافة نقية للناس للعيش بإيجابية ومواكبة التطورات مِن حولهم، مع الحفاظ على هويتهم.
- مهم في نهضة المجتمع ورسم سياساته وتحديد أولوياته وأسلوب الحياة.
- بناء ثقافة ذاتية تحمي نفسها بنفسها، وتصمد أمام المؤثرات الخارجية، ولكي يتحقق ذلك ذكر الأستاذ محمد المحفوظ أن هناك عنصرين أساسيين، هما: الاعتزاز بالذات الثقافية، والانفتاح والحوار مع الثقافات المعاصرة.
وخلاصة القول هنا أن الأمن الثقافي يجعل الفرد مشاركًا وإيجابيًا وفعَّالًا، وقادرًا على مواجهة أي تغيرات مجتمعية خارجية أو داخلية، وتجعله قادرًا على التكيف مع أي تغيرات في مجتمعه وحاجاته وطموحاته، ويساعده على توظيف أفكاره بطريقة فعالة لتحقيق أفضل مستويات التقدُّم للوطن.
مقومات الأمن الثقافي:
يرتكز الأمن الثقافي على عدة مقومات، يؤدى الاهتمام بها إلى تحقيق الأمن الثقافي، وتتمثل في الآتي:
- الدين: حيث إنه نظام حياة شامل يسير عليه الإنسان، ومرتبط بكل جوانب حياته ومعاشه ومرجعيته.
- اللغة: إن العلاقة بين الهوية واللغة هي علاقة الأنا الفردية بالأنا الجمعية، ولو افترضنا أن إنسانًا نشأ في مجتمع مختلف عن مجتمعه الأصلي، لتطبع بطباع ذاك المجتمع ونشأ نشأتهم، حتى وإن كان لا يحمل نفس الجينات التي يحملونها في ذلك المجتمع، إذ إن اللغة تؤدي دورًا رئيسيًا وبارزًا في تشكيل هوية الفرد؛ ومن ثَمَّ تحديد هويته الثقافية والمعرفية والتاريخية.
- التراث: فالتراث هو تاريخ وذاكرة أي مجتمع، ولا شك أنَّ الثقافة تتمتع بأهمية جوهرية في تأسيس القيم والسّلوكيات، وهو الأمر الذي يتطلَّبُ الاستمرار في تثبيت الهوية؛ لأن الثقافة هي إرث لكل مجتمع؛ لذلك كان التراث هو أحد المقومات للأمن الثقافي.
- الانتماء والمواطنة: وهي مشاعر تربط الفرد بوطنه ومجتمعة وهويته، وهذه المفاهيم هي ما يجعل الفرد يعتز بهويته وثقافته ودينه ومعتقده، وعندما يحقِّق الفرد الانتماء يحافظ على أمنه واستقراره، وهنا تأتي المواطنة التي يعرفها مجد خضر بأنها: حصول الأشخاص على مجموعةٍ من الحقوق العامة التي تضمن لهم العيشَ بحياةٍ كريمةٍ في دولتهم، والتي تحافظ على توفير هذه الحقوق لهم، ومن أهمها: الحق في التعليم، والحق في العمل، والحق في المشاركة في الحياة السياسية؛ كالترشُّح للمناصب السياسية، والحصول على حق الانتخاب، والتصويت، كما أنها تضمن للمواطنين التمتُّع بالحريات الفردية.
كيف يمكن تحقيق الأمن الثقافي؟
- ضرورة ربط موضوعات الإعداد الثقافي بالتحديات الثقافية المعاصرة (الإنترنت- الانفتاح الإعلامي- غياب الوعي الديني)؛ وذلك حتى يتحقق الأمن الثقافي لدى الشباب، ويتم الحفاظ على الهوية الوطنية.
- الاهتمام بالتربية ودورها في الأمن الثقافي، حيث أشارت دراسة “عبد الله السنبل 2001مإلى أهمية دور التربية وخاصة المؤسسات التربوية في تناول قضايا الأمن وحماية المجتمع من خلال المدخل الثقافي أو الأمن الثقافي؛ لأنه يُمثِّل حجرَ الأساس في دعم الأمن القومي وترسيخ قيمته في المجتمع، ويحمى الشباب من الانحراف في طريق الجريمة والمخدرات والانحلال الأخلاقي.
- ضرورة تفعيل دور الجامعات والمؤسسات العلمية للاهتمام بالأمن الثقافي، وتشجيع المؤسسات والمراكز الخاصة بما يخدم الحفاظ على الأمن الثقافي في عصر العولمة.
- مزاحمة ما يُطرح في شبكة الإنترنت بكل ما يمسُّ الأمن الثقافي، وتثقيف الشباب وحمايتهم، عوضًا عن أن يذوبوا في ثقافات أخرى.
- ضرورة الانفتاح على الثقافة الغربية والاستفادة من تطوُّرها العلمي وعمل مقارنة، ونقل التجارب من خلال عمل برامج تضمن هذا الانفتاح على الآخرين دون فَقْد هويتنا وثقافتنا؛ من خلال إنشاء مراكز للأمن الثقافي لتأسيس رؤية ثقافية، وعمل تبادل ثقافي بين المراكز الثقافية المختلفة.
- ضرورة دعم الدراسات العلمية والبحثية التي تهتم بالأمن الثقافي.
عقَّب أ. إبرهيم سنان: تعرضت د. زينب الخضيري في ورقتها لعنصرين مهمين في بناء مفهوم “الأمن الثقافي”، ولطالما كنتُ مشغولًا في اعتماد اللغة وفهمها، موجهًا للمفاهيم التي نريد المغامرة في شرحها والجدال حولها؛ كونها نقطة الالتقاء الوحيدة التي يمكن للجميع الاتفاق عليها. والعنصر الأول في الورقة هو تعريف الثقافة عند “هيغل”، فهي وصف غير مميز لمجموع من المعارف والعلوم والخبرات والعادات والتقاليد والقيم الدينية والأخلاقية والعرفية يملكها الفرد أو المجموعة؛ وبذلك فهي لا تعني على التحديد التمييز بين الحسن والسيئ أو المسموح والممنوع، ويجب إضافة هذا التمييز حسب النتيجة النهائية للثقافة وأثرها الاجتماعي على كافة أوجه حياة الفرد والمجتمع، وما يصعد إليه من مقومات اقتصادية وسياسية، ولكن اللغة تصبح أكثر تطويعًا بالاستخدام.
ولذلك وجدنا أنفسنا في طرح مفهوم الثقافة نحو القيود والمعايير حتى وصل بنا الأمر أن أصبح تعريف المثقف أقرب إلى النخبوي والفئوي ضمن مجموعة صغيرة ومحدودة خارج إطار الثقافة العامة. ليأتي تعريف نهلة جبر في مصداقية واضحة لتناقض كلمة أمن مع ثقافة، ويتحول مصطلح “الأمن الثقافي” إلى مفهوم رقابي أكثر من كونه توعويًّا وتعليميًّا. ولو حاولنا هيكلة هذا المفهوم ضمن مشروع أو توجُّه محدد فسيصبح من الصعب التحرُّك بمرونة، وتحوُّله إلى عمل مؤسسي تشوبه مع الوقت شوائب العمل البيروقراطي وما يعتريه من تهالك وتضخُّم بالموانع والضوابط مع الوقت.
حقيقةً أرفض إطلاقًا جمع كلمة الأمن مع الفكر أو الثقافة؛ كونها متغيرات ومتحولات يجيء استيعابها في حدود القيود الموجودة مسبقًا ضمن الهوية الاجتماعية؛ كالدين والأعراف واللغة وغيرها من المحددات التي يوجد لها إما قوانين ونُظم مؤسسية أو اجتماعية. إنَّ توظيف أو تمييز الثقافة بالعنصر الأمني سيجعلها أكثر صدامًا مع رغبة الإنسان في الخروج من قيوده الحالية التي يفرضها عليه المجتمع والدولة حاليًّا؛ مما يُولِّد صدامًا غير مفترض وغير حقيقي لمجرد الوقوع تحت وطأة الرقابة. وكنا في فترات مضت قد خرجنا من عُنق زجاجة التحصين الاجتماعي الذي فرضته مؤسسات القبيلة أو مجموعات دينية، وأخذت على عاتقها مسؤولية تحديد ما ينفع وما يضر انطلاقًا من وجهة نظرها الخاصة والمنغلقة والفئوية، وهذا ما لا يجب أن يفعله المثقف أو الداعي للثقافة، لا تصريحًا ولا تلميحًا.
لدينا نزعات فردية في المجتمع تشعر بالتحدي والخروج عن المألوف لمجرد وضعها تحت سلطة أبوية من أي نوع، ولا أعتقد أن المثقفين أو رواد الثقافة أو رموزها يريدون العودة إلى تلك الخانات التي سبق للمجتمع أن كسَّر طوطمها وتحداها ليجد لنفسه فرصة في الانفتاح والتجربة، واكتشاف حدود قيمه، وخلق رقابته الذاتية بما يجده من نتائج.
ولذلك أرى أنَّ دور المثقفين يجب أن يكتفي بوجوده كتوجيه وتوعوية وتعليم دون تأطير نفسه في هيكلة من نوع ما تضفي عليه نكهة بوليسية، ويترك هذا الأمر إلى المؤسسات التي تتولى بطبيعة الحال وضع الحدود والقيود والقوانين، وتضبط كل الناتج الثقافي العام. الثقافة هي المعنى الآخر للحرية، وكلمة أمن لا يمكن لها أن تتسق معها أبدًا.
كما عقبت أ. أسمهان الغامدي: لعليِّ أتوقف أولًا عند عنوان الورقة ( الأمن الثقافي)، والذي يفتح آفاقًا كبيرة من الفكر والأهمية، فهما كلمتان ولكنْ كلٌّ منهما بحر. ولعلنا نعلم أن أغلب ما يعانيه العالم العربي اليوم هو فقدان إحداهما إن لم يكن كلتيهما، فلا يمكن خلق شعب مثقف دون أمن، ولا يمكن أن نجد مجتمعًا آمنًا دون ثقافة. علاقة مترابطة صعب فصلها، ومنها أجد أن الموضوع من أهم الأطروحات المقدمة لعدة أسباب، منها:
• الرؤية السعودية الشابة بتحديث الثقافة المجتمعية.
• التحوُّل الوطني الذي ننشده.
• الهجمات الشرسة التي تطالنا، وتتطلب ثقافة قوية ولحمة وطنية لتشكيل جبهة دفاع قوية.
اليوم الحاجة والمعطيات جعلتنا نتجاوز الأحاديث والتنظير إلى العمل، وشحذ همم الجميع من مؤسسات وأفراد لتفعيل مفهوم الأمن الثقافي. فاحترام الرأي وحرية التعبير من أهم الأدوات الواقعية لتقديم فهم واعٍ للمجتمع وللدولة.
فالأمن الثقافي يعني وجود ثقافة فاعلة وقادرة على حماية نفسها وحماية المؤمنين بها، ومستخدميها؛ لأن الخطر يأتي من الانغلاق الذي يمنع الثقافة من التمدد والنمو. ولذلك يجب تبني مشاريع إستراتيجية تصبُّ في مفهوم الأمن الثقافي، لتمثل خطوةً جديدة في مسيرة الدولة نحو ترسيخ ثقافة العلم والمعرفة والاطّلاع على ثقافات العالم. فالهوية الثقافية – كما تطرقت كاتبة الورقة – مفهوم متعدد يحتاج من الباحثين إلى تفكيكه، وتحليل مختلف علاقاته الداخلية والخارجية قبل الخوض في مختلف تجلياته في الأفراد والجماعات.
قضية الأمن الثقافي باتت تندرج في عصر صارت فيه ثقافة المنثور المطبوع، والمجالسة والمشافهة، أمرًا عرضيًا إزاء تداول عاصف للمعلومات والمشاهد وعروض “المشاهدة”، وهو تداول قابل للخرق والتأليف والتزوير والتدليس.
وأختم، بأن الشعور بأهمية الأمن الثقافية، والهوية وما تتعرض له من نخر داخلي وخارجي، هي مرحلة أساسية في الوعي بهذه الهوية، وبالأخطار التي تهددها وتنذرها بالطمس والذوبان، فيجب تكاتف الجهود والمبادرات لخلق جبهة قوية وقدرة هائلة تواكب توجهات السعودية الجديدة.
¤ المداخلات:
تعزيز الهوية الوطنية والانتماء:
ذهب د. خالد الرديعان إلى أنه يتضح من طرح الدكتورة زينب الخضري تخوُّفها من ذوبان الهوية ومهددات تطال الانتماء بسبب العولمة وتداعياتها؛ في حين أن العولمة- والتي من تجلياتها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي- قد تكون عاملًا إيجابيًا في تعزيز الانتماء وتجذير الهوية.
إن انتشار شبكات التواصل الاجتماعي قد يكون ضمن أدوات تعزيز الهوية الوطنية والانتماء، بما توفره هذه الوسائل للأفراد من سرعة التواصل وتبادل المعلومات، ومن ثَمَّ زيادة وعيهم بالأخطار المحدقة بهم وتجانس مواقفهم؛ مما يخلق فرصًا للتلاحم وإعادة تشكيل الوعي بما يخدم الهوية والانتماء.
علَّقت على ذلك د. زينب الحضيري بقوها: لست متخوفة بقدر ما أبحث عن تأصيل هويتنا. نحن في عالم ضاجٍّ بكل شيء؛ لذلك أبحث عن شرفة لنا أو نافذة نطل بها على العالم الآخر بثقة واعتزاز بثقافتنا. قد يكون لديَّ شكوكي الداخلية، ولا يمنع أن نثرتُ قليلًا منها عبر الورقة.
من جانبه يعتقد د. خالد الرديعان أن شرعية الإنجاز التي نراها كلَّ يوم قد تكون عاملًا في تأصيل الهوية. أيضًا فالأخطار المحدقة بالمنطقة وتقلبات السياسة ورغم أنها شرٌّ إلا أن لها وجهًا إيجابيًّا فيما يخصنا؛ فقد ساعدت هذه الأخطار على زيادة اللحمة الوطنية وتعزيز الانتماء، وإن لم يكن بدرجة كافية ومرضية.
الأمن الثقافي والحفاظ على الهوية:
أشار د. محمد الملحم إلى أن الأمن الثقافي مطلبٌ للحفاظ على الهوية بدون شك، فلا يوجد مجتمع قوي بهوية ركيكة أو يعيش بهوية مستوردة، وهذا ما حدث لكثير من الدول التي ذابت في الثقافة الغربية؛ ولذلك تنبهت الصين إلى ذلك واستقلت بتطبيقاتها الحاسوبية، ووفَّرت كلَّ ما يحتاجه المواطن الصيني بلغته، وبنفس مميزات التطبيقات الغربية. ولذلك فهي دولة مستقبل وقوة سياسية لا اقتصادية فقط كما هو حال بعض الدول الآسيوية الأخرى، مثل سنغافورة أو اليابان مثلًا.
الأستاذ إبراهيم سنان متأزم من تجربة غير ناضجة في الماضي؛ ولذلك طوَّع رؤيته الفكرية في هذا السياق كرد فعل مباشر، ولستُ ألومه، فالممارسات غير الحضارية التي اتسم بها (سد الذرائع) كانت مجحفة ومدمرة، ولكن عند تحليل أي موضوع يجب أن نتحرر من ذواتنا وظروفنا وضغوطنا لتأتي آراؤنا عن عطاء فكري (ثقافي) لا من معمل التفاعلات الاجتماعية والجيوسياسية والسيكواجتماعية؛ ومن ثَمَّ فإنه يمكن تصوُّر إطار أكثر نضجًا للحفاظ على الهوية الثقافية مع التعاطي الكامل مع كل مدخلات الحضارة أو المدنية وتقنياتها.
علق د. خالد الرديعان؛ لكن يظل عدم انفتاح الصين على ثقافات الآخرين مما يلفت الانتباه، ربما بسبب الحاجز اللغوي وانصرافهم عن اللغة الإنجليزية. لغتهم كذلك غير منتشرة بدرجة انتشار اللغات الأوروبية؛ مما يوحي بانغلاقهم ثقافيًا، وإن كانوا يتقدمون اقتصاديًا. فهل هذا كافٍ؟
أجاب د. محمد الملحم، واتفقت معه فيه د. زينب الحضيري: نعم، كاف؛ لأن هدفهم واضح، وهو تكوين قوة محلية، فهم لا يستهدفون العولمة أو السيطرة كما يريد الغرب، وأمريكا تحديدًا. لذلك ليس عندهم أيضًا إرساليات تبشيرية بالبوذية أو غيرها من الأديان والمذاهب. كما أنهم لا يحتاجون استقطاب يد عاملة أو مفكرين أو حتى جنود، فعندهم ما يكفيهم. المعادلة مختلفة تمامًا في حالة الصين، لكنها مثال جيد في الحفاظ على الهوية الثقافية، بل أظنها أكثر مَن حافَظ على الفكر الشيوعي والمذهب الاشتراكي وممارساته الاقتصادية حتى اليوم (نسبيًا)، هناك اهتمام مستمر بالهوية أيًّا كانت.
تساءل د. خالد الرديعان: ألا يدخل ذلك في التقوقع غير الحميد؟ فالعولمة تتطلب أن نكون فاعلين ومتفاعلين معها. أجاب د. محمد الملحم بأن العولمة تتطلب أن نكون فاعلين، ولكن هل تفرض علينا ما تتطلبه؟ نحن نُحدِّد كيف نتفاعل معها بما يحقق مصالحنا، ولا يعتبر تقوقعًا إلا إذا كانت ثقافتنا محدودة، بينما إرثنا قوي جدًا. كما أنه لا يمنعنا أن نفيد من تقنيات العولمة وطرائقها الحديثة.
وأكد د. خالد الرديعان أن العولمة واقعٌ لا نستطيع صدَّه أو ردَّه، ولكن نتفاعل معه بما يؤسس لبناء هوية ثقافية تستفيد مما هو متاح على المستوى العالمي، الأمر الذي يصبُّ في مد الجسور مع العالم دون توجس.
لسنا طارئين على التاريخ، فنحن أبناء أمة لها إرث ثقافي طويل وممتد عبر التاريخ، والعالم يدرك ذلك.
لست قلقًا من تأثير العولمة، ولكني قلق من عدم التفاعل معها بصورة إيجابية، والانكفاء ليس حلًّا، والتركيز على شرور العولمة لا يساعد على رؤية إيجابياتها.
في هذا السياق ذكر د. محمد الملحم أنه بالنسبة للدول القوية لا تحتاج إلى العولمة (فللعولمة بُعد سياسي)، ولكن بالنسبة لبقية الدول فهي مضطرة إلى ذلك، ولكن يبقى السؤال: كم نسبة الذوبان؟ تتفاوت من دولة لأخرى ومن مجتمع لآخر، وهذا الفرق النسبي من شأنه أن يحافظ على أساس القوة الذاتية المحلية على أقل تقدير.
وأنا هنا مع طرح د. خالد في أنها واقع لا يمكن صدُّه، وإنما أحاول توضيح كيفية التفاعل الواعي معه كما أشرت، فالتشرب السلبي لمظاهرها الثقافية هو المشكلة. كما أن التأثر دون التأثير هو مشكلة أخرى أيضًا. ما هي منتجات الدول العربية في العولمة؟
وظيفة الثقافة:
ذكرت د. نورة الصويان؛ من وجهة نظري يصعب الجمع بين الأمن والثقافة كمفهومين، فمصطلح الأمن الثقافي مفهوم رقابي أكثر من كونه مفهومًا توعويًّا تنويريًّا.
وفي رأيي، أن محاولة قولبة الإنسان (في أي مجتمع) في نمط تفكيري واحد لهو إضعاف أو تدمير لإبداع الإنسان. فوظيفة الثقافة هي بناء إنسان سليم ومجتمع راشد عن طريق البناء القويم للإنسان بروافد فكرية وفنية تحفز وتحرص على التمسك بالقيم النبيلة، والحفاظ على مقومات الهوية العربية الإسلامية، والانفتاح على الآخر، والسعي إلى الإبداع.
إن التربية على القراءة وتنفيذ مختلف المشاريع الثقافية والمبادرات التنويرية من أهم مداخل تقدُّم المجتمع وازدهاره الحضاري، فالقراءة والمعرفة تبني الإنسان وتزوده بالوعي والحس النقدي، وتجعله يعتاد على ممارسة التفكير العقلاني.
تمكين أفراد المجتمع من تملك مقومات اختيار المنتج الثقافي المناسب يعدُّ بديلًا عن الرقابة ومنع الاختراق الفكري والغزو الثقافي؛ لأنه من غير الممكن في عصرنا الحاضر، عصر العولمة.
التمكين يكون بمنح المجتمع أدوات النقد الإيجابي البَنَّاء، والتحاور الحضاري والتواصل والانفتاح على أساس المساواة والندية، وليس التبعية والثقافة التبريرية.
دور الجامعات في الحفاظ على الهوية الثقافية:
ذكر د. حامد الشراري؛ في هذه القضية “الأمن الثقافي” كتبت مقالًا سابقًا يسلِّط الضوء على دور الجامعات الجديدة في مناطقها، وكذلك الدور المطلوب لجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في إيجاد بيئة تتلاقح فيها الثقافات، وتخلق مجتمعًا محافظًا على هويته وثقافته ومنفتحًا على المجتمعات والثقافات الأخرى.. ذكرتُ فيه: (في أحد منتديات التقنيات المتقدِّمة، التقيتُ إحدى قيادات جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ودار نقاش حول ما هو المطلوب من جامعاتنا الجديدة وجامعة الملك عبد الله، وكيف تصبح تلك الجامعات أكثر تأثيرًا في تغيير ثقافة المجتمع وسلوكه، وهو جانب مغيب تمامًا – كما أرى- وأبعد من المفهوم الأكاديمي التقليدي لوظائف الجامعات الرئيسية الثلاث (التدريس، البحث، خدمة المجتمع). أي أن الجامعات يجب أن تُغيِّر من ثقافة وسلوك المجتمع للأفضل، التي أرى أنها “وظيفة رابعة”، مع الحفاظ على قيم المجتمع النبيلة المستقاة من سياسة القيادة الرشيدة المبنية على مبادئ ديننا الحنيف، بحيث تكون الجامعات مؤثّرة في ثقافة وسلوك المجتمع لا متأثرة به، تقود التغيير الاجتماعي للأفضل، وهو ما تصبو له قيادة هذا البلد المعطاء من خلال توثيق العلاقة والتفاعل البناء مع المجتمع، ومن تلك الأمور المهمة في هذا الموضوع -تغيير ثقافة المجتمع وسلوكه- كما أراها:
1 – تأصيل مفهوم الوحدة الوطنية والحفاظ على مقدرات الوطن.
2 -تأصيل ثقافة الانضباط والالتزام واحترام العمل.
3 -الجدية في العمل والمقدرة على خلق فرص العمل مستقبلًا.
4 -أن يكون الفرد منتجًا ومساهمًا في خدمة المجتمع لا أن يكون عبئًا عليه.
5 -احترام الأنظمة والقوانين وتطبيقها على الوجه المطلوب.
6 -احترام الغير، وتأصيل ثقافة الحوار والتسامح ونبذ التعصب.
7 -المحافظة على القيم والمُثل العليا للمجتمع.
8 -أن البقاء في المنصب الإداري ليس مخلدًا.
9 – قرب المسؤول للمواطن وأنه وُجد لخدمته.
أما بخصوص العلاقة بين جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية والجامعات الجديدة بوجه خاص، فأرى أهمية توثيق تلك العلاقة واستمراريتها، على أن يكون محور العلاقة على تغيير ثقافة العمل والبحث العلمي في تلك الجامعات التي لا شك أنه سينعكس إيجابًا على تنمية مجتمعاتها، والتي منها:
– نقل الفكر الإداري الحديث ومنهج البحث العلمي المتقدِّم.
– إعطاء فرصة لأساتذة تلك الجامعات للمشاركة في إنجاز أبحاث متقدِّمة تتحوّل في نهايتها إلى منتج وطني يغزو الأسواق العالمية، ويحقِّق مكانة اقتصادية ودخلًا إضافيًا للبلد، ليصبح أحد محاور اقتصاد البلد مستقبلًا.
– إعطاء الفرصة لبعض المتفوّقين (أو المعيدين والمحاضرين) في تلك الجامعة لإكمال دراستهم وأبحاثهم لينهلوا من الثقافة العلمية في هذه الجامعة العالمية، أو إعطاء مقاعد دراسية محددة لكل جامعة جديدة مع الأخذ بشروط القبول في هذه الجامعة.
إن تغيير ثقافة المجتمع وسلوكه والنهوض به للأفضل هي النقطة الأساسية في الانطلاق نحو التغيير والتطوير، والعلاقة الوثيقة بين الجامعات الجديدة وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية سيكون لها نتائج إيجابية على البلد والمجتمع من خلال تغيير الثقافة والسلوك السائد وتطوير الفكر الإداري والعلمي. إن جامعة الملك عبد الله ستكون هي همزة الوصل بين تلك الجامعات والجامعات العالمية المرموقة، ومن خلال تلك العلاقة يتحقق التطور العلمي والفكري والرقي بالمجتمع، وهذا ما يطمح له المخلصون في هذا البلد.
أخيرًا، لا شكَّ أن الجامعات هي مصنع القيادات وكوادر المستقبل، وتعتبر ركنًا أساسيًا من أركان بناء الدولة الحديثة والعصرية القائمة على الفكر المتطور والمنفتح على الثقافات الأخرى. والبيئة الجامعية لها أبعاد كبيرة أكثر أهميةً وتتجاوز المهام التقليدية للجامعة، ومن هنا يأتي إدراك أهمية دور الجامعة، التي ما هي إلا مؤسسة اجتماعية تؤثّر في مجتمعها، كما أنها تتأثر بما يحيط بها من ثقافات، وتكون قناة لجلب ثقافات بعيدة أخرى مفيدة.
علقت د. زينب الخضيري على المقال بأنه بالرغم من اتفاقها مع ما طرحه د. حامد الشراري. ولكن عندما تُفعَّل الحرية الأكاديمية في الجامعة سيكون لتأصيل الهوية دورٌ.
بينما يرى د. خالد الرديعان أن ما ذهب إليه د. حامد حول دور الجامعات مهمٌّ جدًا؛ فهي لا تقتصر على التعليم والبحث وخدمة المجتمع؛ بل إن دورها يتجاوز ذلك إلى مهمة نشر وتأصيل الثقافة والهوية الوطنية والوحدة. ولحسن الحظ، فإنه يتوفر الآن نحو 28 جامعة حكومية في جميع مناطق المملكة إضافة إلى الجامعات الخاصة والتي تقوم بأدوار لا تقل عن دور الجامعات الحكومية. عمومًا قد ينقص جامعاتنا (الحكومية والأهلية) بعض المقومات الأساسية للنهوض بدورها؛ كالاستقلالية، وزيادة هامش الحرية الأكاديمية، والتخلص من قيود البيروقراطية لكي تقوم بدور واسع فيما أشرتم إليه.
من جانبه يرى د. حامد الشراري أننا نعول على نظام الجامعات الجديد الذي صوَّت عليه مجلس الشورى الأسبوع قبل الماضي، وما فيه من هامش استقلالية كما نسمع، وأن يكون البعد الثقافي أحد مرتكزات وعمل مجالس أمنائها لتحافظ على ثقافتنا، وتؤصِّل الانتماء الوطني. الجامعات الجديدة (جامعات المناطق) عليها دور (وعبء) كبير في قضية “الأمن الثقافي” في جميع جوانبها.
في السياق نفسه، طرح د. خالد الرديعان تساؤلًا حول دور المثقف، وما الذي نريده منه؟ وما الذي يعيق مهمته في مسألة “الأمن الثقافي”، هذا إذا اتفقنا على مصطلح الأمن الثقافي؟ وهل يجد المثقف صدى لما يقوم به، وهل يتوجه للجميع ام أنه نخبوي في طرحه ويتوجه للمثقفين فقط؟
أجابت د. زينب الخضيري بأن المثقف لا يعمل لوحده، هذا يحتاج إلى منظومة ثقافية المثقف عنصر فيها، ومازال المثقف نخبويًّا؛ لأنه لا يعرف كيف يصل للميدان، أي للجمهور. المثقف العضوي كما يصفه غرامشي هو الذي يتواجد بين الناس، ويضع تصورات، ويطرح رؤى.
بينما يعتقد د. خالد الرديعان أن مفهوم غرامشي قد ينطبق على الداعية (الشيخ) في مجتمعنا، وذلك بصورة أكبر.
أزمة الثقافة والمثقفين:
يرى أ. إبراهيم سنان أن الحوار حتى الآن يدور حول الأمن الثقافي كضمان وطريقة للمحافظة على الهوية. وأرى أن الهوية كائن حيوي ينمو ويتطور، ومن المفترض به أن يتغير شكلًا ومضمونًا، ولا يوجد مظهر واحد يستطيع اختزالها أو تصورها من خلاله. ولو بدأنا في قراءة سريعة على محطات صغيرة عن نمو الهوية في منطقتنا من بدء الإسلام نجد أن أول المبادئ التي أُقِّرت كمبدأ لتطور الهوية وتغيرها قول الرسول، صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق”، فهو أضاف وأكمل ما كان قبله في الجاهلية من الأخلاق الكريمة والحسنة. وفعلًا، فإن الرسول- صلى الله عليه وسلم-خرج من مسقط رأسه، واستقر في غير بيئته وقبيلته، واحتوى كلَّ ما كان قائمًا في هوية ثقافية تنعكس على كل أوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ثم كانت من بعده كذلك الدول الإسلامية فخرجت وتوسعت واحتوت وأضافت لكل ما وجدته من معارف وعلوم، ولو على أبسط الأمثلة (الفلسفة الشرقية والغربية)، ووُظِّفت في فهم الإسلام وتنوعه مع المحافظة على الحد الأدنى من الأصول المتفق عليها، كذلك في الجانب العلمي والحضاري المدني، فلم ينقل العرب من الجزيرة طرق عمارتهم وأكلهم وتراث حياتهم، بل استخدموا ما وجدوه في تلك البلدان التي توسعوا فيها.
كما أودُّ الحديث هنا بشكل شعبوي وعام، يمثل على الأقل وجهة نظر المتلقي من غير النخبة والمفكرين والذين يفهمون الهوية كنوع من الوصف الشكلي أكثر من فهمهم للمضمون، ولو على أبسط الأمثلة، شاركهم في هذا الفهم بعض المثقفين والمختصين، وأتذكر أنني في يوم ما سمعت أنَّ أحد مجامع اللغة العربية قرَّر تعريب كل الأجهزة الحديثة، فاختار للفاكس كلمة “طبقصل” نحتًا من (صورة طبق الأصل)، فكان تشويهًا للغة العربية أكثر منها تعريبًا، وفي المقابل نستدعي كيف أن الغرب نفسه حافظ على المسميات العربية ومظاهر الثقافة العربية ودمجها بهويته دون تحوير قصري، فمازالوا يستخدمون في علومهم كلمات عربية؛ كالجبر، وأسماء النجوم والأسطرلاب، وفي الكيمياء كذلك.
وعلى الجانب الإسلامي كهوية دينية، كان من الأمثلة المخربة خروج مفاهيم الأسلمة لبعض الثقافات الغربية في محاولة لإعطائها شرعية أكبر إن اعتبروا الذبح الحلال كافٍ لتحليل أكل الخنزير، أو أن تُسمَّى بعض الملابس بكلمة، مثل “مايوه إسلامي”. وفي ذلك بعد واضح عن المعنى الحقيقي للمحافظة على الهوية، والتي هي مبادئ وأصول يؤسس عليها، ويقيس قدرتنا على الانفتاح والتنوع واحتواء كل اختلاف ممكن، وإعطائه فرصة التجربة والاستنتاج لمدى صلاحه ضمن تلك الحدود البسيطة والواضحة للهوية التي نريد. وهذا أمر آخر، وهو ما هي الهوية، بشكل أدق تلك التي نريد المحافظة عليها؟ وما هي الثقافة التي نريد تحديدها وتجسيمها في حدود معينة لنستطيع المحافظة عليها وتعزيزها ثقافيًّا؟
في وطن كوطننا، كلمة التراث نفسها لا يمكن احتواؤها في شكل أو مضمون واحد على مساحة جغرافية فيها الكثير من الاختلافات العرقية والقبلية والحضارية والمدنية، وغيره من المسميات والمفاهيم المتنوعة والمتباعدة بشكل أو آخر.
وأتساءل: ما هي الهوية العربية التي نريد المحافظة عليها؟ هل هي الانتماء للغة، أم القضايا، أم المبادئ، أم الأخلاق؟ وما هي الهوية الإسلامية التي نريد تحديدها في ظل التنوع المذهبي؟
إن أزمة المثقف ليست الأمن الثقافي، بل هي شرحه للثقافة وتعريفه لها في حدود هذا الوطن ومصالحه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية.
نحن نطالب بطرح رؤية ثقافية تتناسب مع رؤية 2030، وأنا أعتقدُ أن الرؤية نفسها كاملة بكل جوانبها وأهدافها تحقق الغرض الثقافي إن وفقت في إنجازه، فهي لم تترك مجالًا يقع تحت تعريف الثقافة بمفهومها العام إلا وجعلت له مناشطه وخطط تطويره، حتى ثقافة البادية كان لها حظ من الاهتمام.
الهوية الثقافية يجب أن تتطور وتتغير، وحتى لو قاومنا ذلك، كل جيل سيأتي بهويته التي تضيف وتكمل مسار تطورنا. ولو حدث أن أقر المثقفون صورة ذهنية وفكرية للثقافة أو الهوية الثقافية لهذا الوطن هو بكل بساطة يريد قتلها أو إيقافها عن النمو والتغير والتطور.
اتفق معه في ذلك د. خالد الرديعان، فمفهوم الهوية ديناميكي ومرن ويصعب حصره بسمات ثقافية محددة، بحكم أن الأخيرة متحركة كذلك؛ فنحن عرب ومسلمون وسعوديون وخليجيون وشرق أوسطيون، وجزء من العالم العربي، والأمة الإسلامية، وجميعها مكونات للهوية تتقاطع هنا وهناك، ونحن بذلك نأخذ بعض الشيء من كل شيء بوعي أو بدون وعي، دون تنافر بين هذه الدوائر والمكونات.
كما أن الثقافة التي تشكل مكونًا أساسيًا للهوية متغيرة هي الأخرى؛ فهي تتجدد وتخضع للحذف والإضافة والتحوُّل بسبب التثاقف والاختراعات، والتواصل البشري، بل إن بعض مكونات الثقافة تضمحل بفعل الانتشار وسيادة أنماط جديدة، وبروز الهوة بين الأجيال ودور التعليم في خلق هذه الهوة، إضافة إلى دور العامل السياسي والأيديولوجيا التي تُوظَّف في تشكيل الثقافة وإعادة تشكيلها عند الضرورة. السوفيتي الذي كان يُمجِّد النظام الاشتراكي والشيوعية وتعاليم ماركس ولينين واللجنة المركزية، ويؤمن بحتمية الصراع الطبقي وحتمية الثورة عام 1990 وما قبل ذلك التاريخ لم يعد يتحدث بنفس المفردات، فهو اليوم إما روسي أرثوذكسي أو أوكراني يهودي أو كازاخي مسلم… إلخ. إذًا الهوية ليست قالبًا جامدًا أو كتلة صماء بل متحركة، ولن أقول “سائلة” حتى لا نصمها بالسلبية.
هذا يعني ضمن ما يعنيه ضرورة الانفتاح على الآخر وفهمه وفكره والتعايش معه، والتسامح مع الاختلاف، والإفادة مما لديه؛ لتعزيز “الثقافة المحلية” بكل جديد ومفيد بعد هضمه وتمثُّله ليصبح جزءًا من النسيج الثقافي العام، وبالتالي جزءًا من الهوية الوطنية دون الاعتقاد أن العملية “اقتلاع”.
العولمة وبكل ما توصم به من مثالبَ قد تساعد في التقارب الثقافي بين الشعوب، ومن ثَمَّ خلق رؤى مشتركة بين الأفراد بحكم أن احتياجاتهم متشابهة، شريطة التخلص من عقدة الهيمنة والسيطرة التي تبدو أكثر ممارسة في الجانب السياسي للعولمة، مع الأخذ في الاعتبار أن من هو مهيمن اليوم قد لا يكون كذلك مستقبلًا؛ فكل شيء متحرك وقابل للتغير.
تحدي الحفاظ على ثقافة آمنة وهوية باقية:
ذكرت د. هند الخليفة؛ أتفقُ مع الرأي الذي يدعو إلى فصل مفهوم الأمن عن الثقافة، إذا كنّا نتحدث عن الأمن من المنظور الرقابي. إلا أننا لو أعدنا صياغة القضية في شكل سؤال، فقد يكون: كيف نحافظ على ثقافتنا آمنة؟ كيف نتصدى لعوامل استلاب الثقافة ومعها هويتنا؟
وبالرغم من أن مفهوم الهوية هو مفهوم ديناميكي، يفسح مساحة للتجديد والتحديث. إلا أن هناك عناصر أساسية تلتصق بالهوية لتعبِّر عن انتمائها لثقافة بعينها. وإذا كانت عوامل التغيُّر والتجديد تعمل كعوامل تعرية تمسح الذاكرة الجماعية للشعوب، وتبدل القيم والأخلاق وبواعث السلوك، فإن ما يحدث هو طمس للهوية والثقافة والانتماء لكلتيهما.
التحدي كبير أمام الحفاظ على ثقافتنا آمنة وهويتنا باقية. وتصبح المعادلة الصعبة كيف نجمع بين الأصالة والمعاصرة في ثقافتنا وهويتنا، وهي قضية ليست جديدة، فقد انشغل بها الفكر العربي لعهود طويلة. الآن الكل مسؤول من موقعه؛ الجامعات، الإعلام، الأسرة….إلخ. إلا أن مربط الفرس، من وجهة نظري، تحديث الأدوات التي نخترق بها هذا الحجاب الحاجز. الأدوات لا بد أن تكون من جنس العمل، ومن طبيعة العصر، وبلغة الجيل الجديد، وأعتقد أن السؤال الآن… كيف نبدأ؟
أضافت د. منى أبو سليمان نحتاج أيضًا أن نعرف ونُعرِّف ما هي أبجديات هويتنا وثقافتنا على مستوى يسهل استيعابه للعامة. وما معنى الثقافة العربية أو السعودية؟
ازدواجية الفكر والثقافة:
أشار أ. محمد الدندني إلى أنه لا يغيب عن أي متابع مرور الأمة الإسلامية بتعدد قومياتها بمخاض فكري كبير يتمحور حول الإسلام من الناحية الفقهية، ومن ثَمَّ التشريعية. قبل أن نقول ونحاول حماية ثقافتنا المتشعبة، والتي تمرُّ بمخاض أغلبه حول عوامل ذاتية قبل أن تكون نتيجة العولمة، علينا تعريف من نحن؟ هل هناك تعريف لثقافتنا، ومن ثَمَّ هويتنا؟ أرى أنها تمر بمرحلة رخوة، فإما أن تكون صلبة أو سائلة تختلط بما أتاها، وسريعة التأثُّر، وبطيئة التأثير إن لم تكن معدومة.
هل نملك منهاج حياة شبه متجانس فكريًا ولو يوميًا في كلامنا وعاداتنا؟ ألا نمرُّ بازدواجية وأكثر فيما نقول وما نفعل حسب المكان والمستمع؟ ما هو المقبول وغير المقبول؟ نحاول أن نظهر للآخر بما هو تراثي أو موروث مع عدم القناعه في كثير من الأحيان بالفكر، والعادات، إلخ. علينا تعريف هويتنا بشفافية وبما نود أن يعرفنا العالم به قبل أن نخشى ما هو غريب، فبعض هذا الغريب ربما ما ننشده في فكرنا وثقافتنا ومن ثَمَّ هويتنا، أو ربما هذا الغريب هو الناتج عن مخاض الأمة والتي نحن جزء منها، وربما نمثل المثال الأفضل في هذا الصراع لأسباب واضحة، وهي كون بلادنا تعتمد الدين شرعًا ومنهاجًا، وكونها بيت المسلمين لوجود الحرمين الشريفين.
الوعي الثقافي والفكري:
وفي مداخلته ذكر د. مساعد المحيا أنه يتحفظ كثيرًا على مفهوم الأمن الثقافي تمامًا كتحفظي على مصطلح الأمن الفكري؛ لأن الثقافة أو الفكر إذا ارتبط بالأمن فقد تكبَّل أو تأطَّر، كما أتفقُ مع رأي أ. إبراهيم سنان، ود. نورة الصويان.
ولذا أميل عند الحاجة لذلك إلى استخدام الوعي الثقافي أو الفكري، وإن كنتُ أرى أن الفكر والتفكير والثقافة والتثقيف وظيفة عقلية تحتاج لأفق رحب من الحرية للإبداع والإنتاج.
مجتمعنا اليوم يعيش أزمة تغييب لهذا المناخ الثقافي، وتغييب للنخب المثقفة عن صناعة القرار أو المشاركة فيه، فالمناخ الثقافي الرحب يتيح الحرية للتنوُّعات الفكرية والمجتمعية لتعبر عن آرائها وتطلعاتها في ضوء مسؤولية الفرد تجاه حقوق المجتمع والآخرين ودون الاعتداء عليها.
ولا أظنُّ أننا اليوم نمتلك القدرة على المحافظة على هويتنا الثقافية من أي استلاب، وبخاصة لدى النشء والأطفال، في ضوء الحضور الطاغي لتطبيقات ومحتوى شبكات التواصل الاجتماعي واليوتيوب، في مقابل تدجين كثير من الكتَّاب والمثقفين أو تغييبهم، ومن ثَمَّ توقفهم عن المشاركة في عدد من المجالات. والمشكلة أن المكان حين يملؤه التافهون أو الذين لا يمتلكون محتوى مقبولًا، فيتم دعمهم وتشجيعهم، فيتصدرون المشهد سيظهرون على أنهم هم المثقفون، وسيملؤون الساحة، وستصبح الثقافة الحقة مستقبلًا أمرًا عزيزًا نادرًا، والنتيجة هي أن الصورة الذهنية للمجتمع ستتأثر بذلك التدني الثقافي.
المثقفون والثقافة والنخب المثقفة هم عماد المجتمع، ولا يمكن أن يكون لأي مجتمع قوة دون منحهم المناخ الذي يتيح لهم هواءً نقيًا يجعلهم يتنفسون بفكرهم دون تخويف أو تخوين أو تأطير أو تدجين.
الحصانة الثقافية أم الأمن الثقافي؟
أشار د. راشد العبد الكريم إلى أنه لا يرى الحرج الذي يبدو لبعض الزملاء من الجمع بين (الأمن) و(الثقافة)، فأنا أنظرُ إلى الأمن بمعنى الأمان وليس بالمدلول البوليسي لكلمة الأمن. فالثقافة منجز حضاري، وأجزاء كثيرة منها مرتبطة بهوية أي أمة والمكونات الفكرية الأساسية لها؛ فلذلك من المهم أن تحظى بالعناية والحماية، خاصة في أوقات الضعف والاستلاب الحضاري. فالمهددات كثيرة ومتعددة الأوجه، خاصة في عصر العولمة الشاملة، و”الرأسمالية المتوحشة”، والاستهلاكية الطاغية. وبعض الزملاء أشار للتجربة الصينية، ولم أر -ولعله فاتني- مَن أشار للتجربة الفرنسية في “ضمان الأمان” للثقافة الفرانكفونية بشكل عام.
أول مكونات الأمن الثقافي هو التوافق على المكونات الأساسية له، والاتفاق على الثابت فيه والمتحول أو الأقل ثباتًا. ثم يأتي بعد ذلك مرحلة تحديد العوامل الأكثر تهديدًا، والتعامل معها بشكل علمي، على أبعاد متعددة وبشكل إيجابي، ضمن خطط إستراتيجية بعيدة المدى، تُترجم في خطط تنفيذية من خلال برامج ثقافية وإعلامية وتعليمية، وتنموية. فالعمل العشوائي في الحصانة الثقافية، قد يكون عديمَ الجدوى.
أفضل وسيلة لتحقيق الأمن أو الأمان الثقافي، هو بيان المعاني الثقافية الأصيلة للنشء، وتعويد الشباب على الاعتزاز بثقافتهم، دون انتقاص شوفيني بالضرورة من ثقافة الآخرين. كذلك إيجاد مراكز أبحاث لتحسس المهددات الأمنية للثقافة بالأساليب العلمية المعروفة، والسعي في اقتراح العلاج لأي خلل قد يطرأ، ضمن خطط تتوافق عليها الجهات ذات العلاقة بالثقافة (وزارة الإعلام، ووزارة الثقافة والتعليم والشؤون الإسلامية، ووزارة الشؤون الاجتماعية)، وربما غيرها.
إن الخطر الخارجي يتضخم عند فقد الحصانة الداخلية، وعند وجود استلاب فكري وروحي في الكيان الثقافي لأي أمة؛ وبذلك يكون تحقيق الأمن الثقافي مطلبًا أساسيًا لتحقيق رؤية 2030.
علق د. خالد الرديعان على مداخلة د. راشد بقوله: لفت انتباهي استخدامكم لمصطلح “الحصانة الثقافية”، ولعله بديل مناسب لما نريده “بالأمن الثقافي”.
وقد خطر على بالي وأنا أقرأ كلماتكم قضية مهمة للغاية، وهي أننا (عن السعوديين أتحدث) نحتضن الحرمين الشريفين؛ ما يعني أنه يقع على كاهلنا مهمة كبيرة في صيانة “الهوية الإسلامية” ليس أمام أنفسنا فقط ولكن أمام غيرنا من شعوب “الدول الإسلامية” التي تنظر لنا من خلال هذه الخاصية الدينية والثقافية. نحن لا نستطيع الانسلاخ من هذه الخاصية وما يترتب عليها من واجبات، لكننا وفي الوقت ذاته لا يجب أن ننكفئ على أنفسنا لندعي الحصانة التامة؛ في ظل هذا التباين المذهبي والفقهي بين الدول الإسلامية، وهو التباين الذي أصبح يشكِّل قلقًا لنا في السنوات الأخيرة (مؤتمر الشيشان أنموذجًا).
مهمتنا هي لَمُّ هذا الشتات وخفض التوترات داخل منظومة الموزاييك الإسلامية بقدر ما نستطيع للخروج من أتون الصراعات السياسية والفرقة.
ليس مطلوبًا منَّا بالطبع التقريب المذهبي والفقهي بين الشعوب الإسلامية لاستحالة ذلك، ولكن المطلوب هو احتواء التباينات واستيعابها بآليات جديدة وفاعلة، لكي نعزز الهوية الإسلامية الكبرى كهوية جامعة، ومنع كل ما من شأنه خلق الفرقة بين الدول والشعوب. ويقع على كاهل المثقفين مهمة كبيرة في إشاعة أجواء التسامح والتعايش، وخلق وعي جديد ينأى عن ترويج الاحتراب والفرقة وتزييف الوعي.
نماذج التعامل والتكيف مع الثقافة:
كذلك اتفقت د. عبير برهمين مع رأي أ. إبراهيم ود. نورة الصويان في أن مصطلح الأمن الثقافي متناقض تمامًا. وأعترفُ أن مصطلح الأمن مسوق مبهر. بمعنى أن عبارة أمن ثقافي تجتذب الأذن، ومن ثَمَّ الانتباه. وقد استُهلك مصطلح الأمن كثيرًا مؤخرًا. فهناك أمن مائي، وأمن غذائي، وأمن سيبراني، وأمن ثقافي، وأمن أسري، والقائمة تطول. عبارة أمن قد يُقصد بها مصطلح بوليسي أو قد يُراد به الإحساس بالأمان، وكلاهما يعني الثبات أو الجمود أو إن شئتم التأطير والحجر، وهي نقيض الثقافة. المعنى البوليسي يعني أن هناك ضوابط معينة يجب أن تكون الثقافة محصورة بها وإن جاوزتها طُبقت عقوبة. والمعنى أمن أي شيء خامل أو ثابت أو جامد يبقى على حاله. وفي ذلك شيء من الممارسة الأبوية. فالأب- مثلًا- يرسم طريقًا معينًا لأولاده يحصر أن لا يحيدوا عنه ظنًّا منه أنه يحمي أولاده. وذلك طبقًا لتراكم خبراته الشخصية ومعرفته المسبقة. وكلا المفهومين يناقضان مفهوم الثقافة، والتي هي متغيرة غير ثابتة، وهي تؤثر وتتأثر مكانيًا وزمانيًا، وتختلف باختلاف منظور متعاطي هذه الثقافة.
لن أخوض في تعريفات أدبية للثقافة، ولكن سأحاول شرح ما بدأتُ به. نُولد وتسير حياتنا وفق نمط معين يتأثر بالأسرة وخلفيتها والمكان المحيط به، تتشكل لدينا عادات وتقاليد معينة ليست بالضرورة تتوافق مع قناعتنا الشخصية لكننا نتعايش مع ذلك احترامًا وتقديرًا لمحيطنا من الناس والمكان وغير ذلك. نكبر فنسافر إلى بلدان أخرى تختلف جغرافيًا وديموغرافيًا عما ألفناه.
البعض منا يفتن بالمحيط الجديد فينسلخ من جلده ويتبنى ثقافة ومفاهيم وعادات الوسط الجديد (يذوب تمامًا)، والبعض يندمج ويتعايش مع محيطه ويصل لحلول وسط، فيتفهم ثقافة الوسط الجديد ولكنه لا يذوب تمامًا؛ لأنه يظل متمسكًا بما يراه صوابًا، ويتفق مع مُثُله العليا؛ كتعاليم دينه مثلًا، وهذا شخص ( متفاعل ثقافيًا). وهناك مَن يرفض تمامًا ثقافة الوسط الجديد، ونراه يصبح أكثر تمسُّكًا بموروثه بغض النظر عن صحته، وهذا (منعزل ثقافيًّا). النموذج الثاني في رأي الشخصي هو الأكبر أثرًا في تطوُّر الشعوب وتعدُّد ثقافتها، مع الحفاظ على نكهة خاصة تعود لجذوره، وتتوافق مع مُثله وقيمه العليا.
في ظروفنا الحالية حيث العالم أصبح قرية صغيرة، بوجود وسائل السفر ووسائل تواصل عابرة للقارات، يصعب عمل تأطير أو تحديد وإلزام شعب ما أو فئة معينة بشيء معين. إذًا السؤال، يجب أن يتغير من” ماذا سنفعل لتحقيق الأمن الثقافي؟ لأنه لا شيءَ يحققه، إلى طرح تساؤل آخر هو: ما هي ملامح ثقافتنا وهويتنا الوطنية؟ وكيف نعزز الانتماء إليها؟ وهناك سؤال آخر يطرح نفسه، وهو ما الذي نخشى ضياعه فعلًا، أهي ثقافتنا أم هويتنا الوطنية؟
¤ التوصيات:
– التركيز على إدارة الثقافة بمفهومها الأعمق (ثقافة المفاهيم والسلوك)، على سبيل المثال: “ثقافة عمل احترافية، تقبُّل الآخر، احترام القانون”.
– الثقافة قوة ناعمة إذا لم تستخدمها الدول بحكمة استُخدمت ضدها؛ وعليه علينا تحويل الثقافة لمنتج جذاب لتحفيز الجودة المجتمعية، وكسب النفوذ المحلي والإقليمي والدولي.
– انخراط الدولة في العمل الثقافي بتبني كافة المؤسسات المشتغلة بالفكر والعلم والتربية والتعليم، وتعهدها بالرعاية والتشجيع، ومن خلال هندسة سياسية اجتماعية للثقافة تقوم على نشر المعارف، وتُشجّع العمل الفكري والإبداعي للأفراد والجماعات.
– العمل على تفعيل دور الجامعات في تنمية مجتمعاتها ثقافيًّا، ليضاف إلى مهام الجامعات الرئيسية الثلاث (التدريس، البحث، خدمة المجتمع)، مع توفير الدعم اللازم لذلك.
– توظيف وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة؛ لنشر ثقافة الاعتدال وتقبُّل الآخر والحوار الهادف والبناء.
– بناء جسور الثقة والتواصل بين الأجيال المختلفة في محددات الثقافة، ما هو مقبول وما هو مرفوض، مع ذكر الأسباب الوجيهة والمنطقية الداعمة لذلك.
– إجراء استفتاء وطني عن ملامح ثقافتنا التي تحدد هويتنا الوطنية، والتي لا يجب أن تذوب في أي ثقافة أخرى لتغيبها وإلغائها.
المشاركون في مناقشات هذا التقرير
(حسب الحروف الأبجدية)
- أ. إبراهيم آل سنان.
- م. أسامة الكردي.
- أ. أسمهان الغامدي.
- د. الجازي الشبيكي (رئيس الهيئة الإشرافية لملتقى أسبار).
- د. حامد الشراري.
- د. حمد البريثن.
- د. خالد الرديعان.
- د. خالد بن دهيش.
- د. راشد العبد الكريم.
- د. رياض نجم.
- د. زهير رضوان.
- د. زياد الدريس.
- د. زينب الخضيري.
- م. سالم المري.
- أ. سمير الزهراني.
- د. عائشة حجازي.
- د. عبد الرحمن الهدلق.
- أ. عبد الله الضويحي.
- د. عبد الله بن صالح الحمود.
- د. عبد الله بن ناصر الحمود.
- د. عبد العزيز الحرقان.
- د. عبير برهمين.
- أ. علياء البازعي.
- أ. فهد القاسم.
- د. فوزية البكر.
- أ. محمد الدندني.
- د. محمد الملحم.
- د. مساعد المحيا.
- د. مسفر الموسى.
- د. مشاري النعيم.
- د. منى أبو سليمان.
- د. مها العيدان.
- د. نورة الصويان.
- د. نوف الغامدي (رئيس لجنة التقارير).
- د. هند الخليفة.
- د. وفاء طيبة.
تحميل المرفقات: التقرير الشهري 44