إبريل 2019
ناقش أعضاء ملتقى أسبار خلال شهر إبريل 2019 م العديدَ من الموضوعات المهمة، التي تمَّ طرحها للحوار على مدار الشهر، وشملت القضايا التالية:
- البرنامج الوطني للحد من الفَقْد والهدر في الغذاء بالمملكة العربية السعودية
- ثقافة الكراهية
- الرياضة والتنمية
- مستقبل الموارد المائية واستدامتها في المملكة العربية السعودية في ظل رؤية 2030
القضية الأولى:
البرنامج الوطني للحد من الفَقْد والهدر في الغذاء بالمملكة العربية السعودية
– كاتب الورقة: ضيف الملتقى أ. زيد الشبانات – مدير البرنامج الوطني للحد من الفقد والهدر في الغذاء بالمملكة العربية السعودية
- المعقبون:
– د. خالد الفهيد.
– د. مشاري النعيم.
– أ. فائزة العجروش.
– إدارة الحوار: أ. علياء البازعي
¤ الملخص التنفيذي:
أشارت الورقة الرئيسة إلى أن السبب الرئيس لإطلاق البرنامج الوطني للحدِّ من الفَقْد والهَدْر في الغذاء بالمملكة العربية السعودية هو تفشي ظاهرة فقد وهدر الغذاء، ويهدف البرنامج إلى تقليل ومحاصرة آثاره الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ولأهميته فإن المسؤولية يتحملها المجتمع بكافة عناصره وفئاته حتى الأسر والتجار. بالإضافة إلى الإعلام الذي يُمثِّل العنصر الفاعل في المجتمع في الوقت الحالي.
وذهبت التعقيبات على الورقة الرئيسة إلى أن نسبة هدر وفقد الغذاء أعلى في الدولة الصناعية عنها في الدول النامية. وأن الهدر للغذاء يتم بشكل أكثر في الدول المتقدمة بعد وصوله للمستهلك النهائي، في حين أنه في الدول النامية يتم بشكل أكثر في أثناء مراحل الإنتاج والتسويق.
وأشارت التعقيبات أيضًا إلى أن البرنامج الوطني للحد من الفقد والهدر في الغذاء يسعى لتحقيق أهداف رؤية 2030 من خلال استغلال الموارد الطبيعية من خلال اتباع أحدث المعايير والتجارب الدولية؛ والهدف هو تقليص الكميات المفقودة والمهدرة في الغذاء، والتعرُّف على الحجم الحقيقي للمشكلة، ومحاولة إيجاد الحلول الممكنة لها.
كما أكدت التعقيبات على أهمية ما جاء في البرنامج من ضرورة تحليل الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المسببة للفقد والهدر في الغذاء بالمملكة. بالإضافة إلى أن البرنامج يربط مسألة توفير الغذاء بقضايا عدة مهمة تمسُّ عدة جوانب أساسية يعاني منها العالم أجمع في الوقت الحاضر، أهمها: الضغط على مصادر المياه الشحيحة، والخسارة الاقتصادية الكبيرة التي يخلفها عدم الترشيد في مصادر الغذاء. والتبعات البيئية التي يخلفها الهدر، وكذلك السلوك الاجتماعي غير الواعي بالمشكلة. أوضحت المداخلات التي جرت على الورقة الرئيسة أن هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلى ظهور مشكلة فقد وهدر الغذاء، ويأتي في مقدمتها الثقافة والعادات الاجتماعية ، وارتفاع المستوى الاقتصادي للمجتمع بشكل عام وللأفراد بشكل خاص، وغياب الوعي الديني، وغياب القدوة في المجتمع لمواجهة هذه المشكلة؛ بالإضافة إلى أن التطبيقات الميسرة في الهواتف الذكية ساعدت كثيرًًا في إذكاء النزوع الرأسمالي لدى التجار والسلوك الاستهلاكي لدى أفراد المجتمع. بينما ذهب البعض الآخر إلى أن الفَقْد مشكلة تتعلق بالإدارة ونسبة الإطار الثقافي فيها قليل، أما الهدر فالغالب أن الإطار العام للمشكلة فيه ثقافي بالدرجة الأولى، وهناك أيضًًا نسبة من سوء الإدارة.
ورأت العديد من المداخلات أن الهدر يُعدُّ مؤشرًا مجتمعيًّا طبقيًّا في المقام الأول، ولأنه سلوك طَبَقي، فلا بد من تضمين الجهد المجتمعي للحد منه، من خلال ضرب القدوة الحسنة، وسوف يؤدي هذا السلوك لجعل الترشيد في مظاهر الاستهلاك سلوكًا حميدًا.
كما أشار المناقشون إلى أن مواجهة مشكلة الفقد والهدر في الغذاء هي مسؤولية مجتمعية، تبدأ من البيت إلى المدرسة إلى الجامعة إلى المؤسسات بمختلف أعمالها، فضلًا عن أهمية مساهمة القطاع الخاص في المشاركة في إرساء روح الخير وتأصيلها كعمل مؤسسي متطور تتسابق في تحقيقه كافة الشركات داخل الدولة. وأن من الحلول المقترحة هو من خلال حملات التوعية؛ من خلال تقدير الكميات المناسبة للأسرة أو للضيوف، وكيفية تجنُّب الإهدار في بواقي الطعام دون إلقائها كمخلفات في صناديق القمامة، وتجميع الأطعمة الجيدة السليمة وإعادة تعبئتها لتوزيعها على المحتاجين.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: سن القوانين الخاصة بهدر الغذاء من خلال تشريعات تنظيمية، وتفعيلها لتحقيق الفائدة المرجوة، وإيقاع العقوبة على متسببي الهدر في الغذاء. التشجيع على منح تراخيص إنشاء جمعيات حفظ النعمة. تفعيل دور وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في نشر ثقافة حفظ النعمة وتبادل الخبرات، ونشر خطر هدر الطعام. إقامة ندوات تثقيفية بمساعدة مدربين مؤهلين ومتطوعين بارعين يتصفون بروح المسؤولية في المدارس والجامعات لتوجيه الطلبة والطالبات وتدريبهم على ترشيد الطعام. تشجيع الاستثمارات نحو اقتصاد معرفي لتسخير البحث العلمي في مجالات البحوث الزراعية لمتابعة ورصد تجارة المنتجات الزراعية. منح تسهيلات مالية وإجرائية للقطاع الخاص بإنشاء مصانع ذات معايير عالمية والتي يتم فيها إقامة مهرجانات سنوية سواء للتمور أو الحمضيات والخضراوات وكذلك الألبان والأجبان، للمساهمة في الحدّ من هدر الأغذية أو الخسائر التي تسببها الأخطاء في التجهيز أو التعبئة أو النقل. تحفيز القطاع الخاص للقيام بدوره الوطني بالمسؤولية الاجتماعية حول المشاركة الفاعلة عن أهمية الحد من ظاهرة الهدر والفقد الغذائي.
¤ مقدمة:
تكمن أهمية البرنامج الوطني للحد من الفقد والهدر في الغذاء كأحد برامج التحول الوطني 2020 لتحقيق رؤية المملكة 2030؛ في سعيه لتحقيق أفضل الممارسات مع الغذاء لاستثمار المتاح من موارده الطبيعية، سعيًا إلى المحافظة على بقاء النعمة بشكرها قولًا وفعلًا.
لذا فقد طرح ملتقى أسبار قضية “البرنامج الوطني للحد من الفقد والهدر في الغذاء بالمملكة العربية السعودية” من خلال ورقة العمل التي قدَّمها أ. زيد الشبانات، وجرت حولها العديد من المداخلات ناقشت: (العلاقة بين الفقد والهدر للغذاء، موقف الدين من فَقْد وهَدْر الغذاء، مساهمة تطبيقات الهواتف في زيادة مشكلة فقد وهدر الغذاء، الثقافة والعادات الاجتماعية وعلاقتها بمشكلة فقد وهدر الغذاء، المستوى الاقتصادي للأفراد وعلاقته بمشكلة فقد وهدر الغذاء، مشكلة فقدر وهدر الغذاء بين الإدارة والإنتاج، الكرم المجتمعي وانتشار الإسراف، الفقد في المنتجات الزراعية، مشكلة الهدر في المياه، نشر الوعي وثقافة حفظ الطعام مسؤولية مجتمعية، تعزيز القدوة في المجتمع للحد من مشكلة فقد وهدر الغذاء، الأسر المنتجة ودورها في الحد من المشكلة، تجارب في الفقد والهدر للغذاء، الاستفادة من بقايا ونفايات المنازل، جهود المنظمات الدولية في الحد من مشكلتي الفقد والهدر للغذاء). وفي النهاية طرح الملتقى عددًا من التوصيات المهمة، وذلك من خلال ورقة العمل التي كتبها الأستاذ/ زيد الشبانات، وعقَّب عليها الدكتور/ خالد الفهيد، والدكتور/ مشاري النعيم، والأستاذة/ فائزة العجروش.
كتب أ. زيد الشبانات: البرنامج الوطني للحد من الفقد والهدر في الغذاء بالمملكة العربية السعودية هو أحد برامج التحول الوطني ٢٠٢٠، ويمثل أحد أجزاء إستراتيجية الأمن الغذائي المسند تنفيذها للمؤسسة.
لماذا البرنامج: بسبب تفشي ظاهرة فَقْد وهدر الغذاء، بهدف تقليل ومحاصرة آثاره الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
محاور البرنامج: فَقْد الغذاء – هَدْر الغذاء.
مراحل البرنامج:
– المسح الميداني (لتحديد خط الأساس)، انتهى بحمد الله.
– التوعية والترشيد.
– دراسة إمكانية تدوير الأغذية غير الصالحة كأعلاف أو أسمدة مع بعض القطاعات.
– إنشاء منصة إلكترونية تضمُّ جَمْعًا من الجهات سواء الحكومية أو الخاصة أو الخيرية أو الأفراد؛ لنشر الترشيد وسرعة الاستفادة من فائض الغذاء.
ولأهمية هذا البرنامج، فإن المسؤولية يتحملها المجتمع بكافة شرائحه خاصة التعليم بمراحله المختلفة وكذلك منسوبوه من معلمين وطلاب. وكذلك الأسر التي هي نواة المجتمع، والتجار بالدعم والمساندة، والإعلام الذي يمثِّل العنصر الفاعل في المجتمع في وقتنا الحاضر.
عقب د. خالد الفهيد: كما يعلم الجميع أن الغذاء في صوره المختلفة في حال فَقْد جزء منه يعتبر موردًا اقتصاديًّا مهمًّا مهدَرًا، يُكلِّف الاقتصاد الوطني لأي بلد كما يكلِّف المستهلِك أعباءً مالية ليس فقط في شرائه، بل أيضًا في التخلص منه. وبعد أزمة الغذاء العالمية التي كانت في نهاية عام 2007 وبداية 2008 تعالت النداءات الدولية بأهمية إيجاد السبل لمواجهة مثل هذه الأزمة، والحد من تكرار حدوثها، وكان أحد أهم السُّبل هو الحد من الفاقد والهدر الذي يتجاوز ثلث غذاء العالم، واستجابةً لذلك على المستوى المحلي صدرت موافقة سامية عام 1435هـ بتشكيل لجنة على مستوى وكلاء وزارات عدد من الجهات الحكومية لدراسة وضع آلية تسهم في الحد من الفاقد والهدر في الغذاء. وفي عام 1437هـ عقدت وزارة الزراعة ورشة عمل “الحد من الفاقد والهدر في الغذاء” لتسليط الضوء على هذه المشكلة من عدة زوايا. وتشير بيانات منظمة الأغذية والزراعة الدولية (FAO) إلى أن أكثر من 1.3 مليار طن من الأغذية تُهدر سنويًّا على مستوى العالم بتكاليف تتجاوز 750 مليار دولار.
هدر الغذاء يتم بشكل أكثر في الدول المتقدمة بعد وصوله للمستهلك النهائي في حين أن فَقْد الغذاء يتم بشكل أكثر في الدول النامية في أثناء مراحل الإنتاج والتسويق. ويهدر الغذاء في العالم الصناعي أكثر من البلدان النامية حيث تتراوح نسبة الهدر الغذائي لكل فرد من المستهلكين بنحو 116 كجم/ سنة في أوروبا وشمال أمريكا، فيما لا يتجاوز هذا الرقم 11 كجم / سنة في بعض الدول الفقيرة.
فيما بلغت حالة الفقد والهدر الغذائي في المملكة 33.1%، وقدرت بعض الدراسات قيمة الفاقد والمهدور في المملكة من الغذاء بنحو 50 مليار ريال سنويًّا، وللأسف في المملكة يتحقق الفقد والهدر في الغذاء، وذلك يرجع إلى:
– انخفاض درجة الوعي والتثقيف لدى فئة من المستهلكين في المجتمع، وهو ما يؤثر على سلوكهم فيتم هدر الغذاء.
– ضعف البنية التحتية وانخفاض كفاءة سلسلة الإمدادات الغذائية يؤدي إلى فقد غذائي، مثل: انخفاض كفاءة الإنتاج الزراعي، وضعف القدرات التسويقية الزراعية التي تناسب خصائص المنتجات الزراعية.
– غياب أو ضعف التنسيق بين الجهات ذات العلاقة في المراحل المختلفة لإنتاج وتسويق الغذاء.
وهناك العديد من النقاط التي قد يكون لها تأثير إيجابي للحد من الفقد والهدر الغذائي، منها:
- أهمية تعزيز سلاسل الإمدادات الغذائية من خلال تشجيع صغار المزارعين لرفع كفاءة وتنظيم وتنويع وزيادة إنتاجهم وتسويقهم للانخراط في الجمعيات التعاونية الزراعية، لإيجاد كيانات زراعية تخفِّض عليهم التكاليف الثابتة للإنتاج والتسويق.
- التشجيع للاستثمار في البنى التحتية والنقل والتصنيع الغذائي والتعبئة والتخزين المبرد.
- أهمية إيجاد آلية مناسبة تسهم في تحسين كفاءة سلسلة الإمدادات الغذائية والحد من الفقد والهدر الغذائي.
- أهمية الاستفادة من الجهود السابقة سواء من الجهات الحكومية أو بيوت الخبرة داخل المملكة وخارجها، ورفع كفاءة التنسيق بين الجهات ذات العلاقة في المراحل المختلفة لإنتاج وتسويق الغذاء.
- أهمية مراجعة الخطط المتعلقة بتداول الغذاء وتخزينه وتسويقه واستهلاكه، وزيادة الوعي لدى الأفراد والأسر والمجموعات الاستهلاكية الكبرى، مثل: المطاعم، والفنادق، والمستشفيات، والجامعات.
- أهمية التدريب لكل العاملين في مجال تداول الغذاء في كل مراحله المختلفة.
- تطوير الممارسات الجيدة في الإنتاج والنقل والتصنيع والتسويق والاستهلاك، والاستفادة من فاقد الغذاء وبقايا الطعام المهدرة بعد تحويلها كأعلاف للحيوانات أو صناعات تحويلية.
وأتمنى للمؤسسة العامة للحبوب النجاح للخروج بنتائج إيجابية تسهم في الحد من هذه الظاهرة، ومثل ما أشار أ. زيد، الأمر يتطلب تعاون جميع فئات المجتمع سواء القطاع العام أو الخاص أو بيوت الخبرة.
وعقَّب د. مشاري النعيم: يربط البرنامج الوطني للحد من الهدر في الغذاء مسألة توفير الغذاء بقضايا عديدة مهمة تمسُّ عدة جوانب أساسية يعاني منها العالم أجمع في الوقت الحاضر، هي:
– الضغط على مصادر المياه الشحيحة.
– الخسارة الاقتصادية الكبيرة التي يخلِّفها عدم الترشيد في مصادر الغذاء.
– التبعات البيئية التي يخلفها الهدر، والأضرار التي تسبب في الاحتباس الحراري وغيرها.
– السلوك الاجتماعي الاستهلاكي غير المبالي بقيمة الغذاء وحفظ النعمة.
ويبدو أن الأمر متشعب جدًّا حيث تظهر سلسلة من العمليات التي تبين أن الهدر يبدأ من التحول من الإنتاج الزراعي إلى الانتقال إلى محلات البيع بالجملة والتجزئة، ثم يبدأ الهدر مرة أخرى نتيجة للسلوك الاجتماعي غير السوي في التعامل مع نعمة الغذاء على مستوى الأسرة والأفراد، وكلنا يعرف الهدر الكبير في كميات الغذاء في المطاعم وفي المناسبات التي لا تتناسب أبدًا مع قاعدة حفظ النعمة.
ولعلنا نركز هنا على الجانب الاقتصادي المهم المرتبط بترشيد الاستهلاك في الغذاء، الذي يتطلب في البداية تطوير أدوات إنتاج الغذاء وحفظه؛ لأن المنتجات الغذائية الزراعية على وجه الخصوص تكون أكثر من حاجة المستهلك في المواسم، ونتيجة لضعف الصناعات الغذائية يحدث الهدر؛ لذلك فإن التحوُّل من المنتج الزراعي إلى محلات البيع يتطلب قبل ذلك صناعة متطورة للمنتجات الغذائية، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، يحتاج الأمر إلى تطوير للتسويق والتوزيع والنقل والتخزين، وكلها مسائل حتى الآن لم تتطور بالشكل المرضي.
الجانب الاجتماعي الاستهلاكي الذي يلقي بظلاله على ثقافة حفظ النعمة هو اللامبالاة الاجتماعية التي تضرب بقوة في الثقافة المجتمعية القائمة على المظاهر والمباهاة والكرم المزيف الذي يؤدي إلى الإسراف غير المبرر. إذًا، نحن أمام قضية “لوجستية” إستراتيجية تتطلب تحرُّكًا من الدولة والقطاع الخاص من أجل تعزيز الاستثمار في البنية التحتية التصنيعية والتسويقية للغذاء؛ ومن جهة أخرى، تتطلب برامج توعية تربي أفراد المجتمع على صيانة نعمة الغذاء التي هي من مبادئ ديننا الحنيف.
والغريب أن البرنامج يؤكد أنه لا يوجد إحصائيات واضحة للفقد الغذائي، وهذا في حد ذاته يُبين حجم الإشكالية التي يعاني منها مجتمعنا؛ الأمر الذي دفع مجموعة من رجال الأعمال إلى تأسيس مؤسسة “إطعام” لحفظ النعمة، وهي مؤسسة تقوم مقام بنك الطعام للحد من الهدر في الطعام الجاهز للاستهلاك، وهذا قد لا يحل المشكلة ولا جزءًا منها؛ لأن الإشكالية – كما يوضح الهدف من البرنامج الحد من الهدر – في المصادر، وفي آليات إنتاج الغذاء والعمليات المتسلسلة للإمداد الغذائي التي تضغط على الموارد وتنهك الاقتصاد.
ومن الواضح أن البرنامج طموح جدًّا، ويثير الانتباه للجانب الاقتصادي السلبي للفقد الغذائي، ويركز على جوانب الوعي وغيرها، ويضع تصورات للتعامل مع هذه الظاهرة، لكنه في الوقت نفسه قد يحتاج إلى بناء شبكة اجتماعية تثقيفية على مستوى منتجي الغذاء وعلى مستوى المستهلكين. كما أن البرنامج يجب أن يضع تصوُّرًا إستراتيجيًّا اقتصاديًّا مبنيًا على استغلال التقنية في تطوير عملية إنتاج الغذاء، دون الإخلال بالموارد الطبيعية ودون الإضرار بها.
كما عقبت أ. فائزة العجروش: يُعدُّ البرنامج الوطني للحد من الفقد والهدر في الغذاء بالمملكة أحدَ برامج التحول الوطني 2020، ويسعى لتحقيق أهداف رؤية 2030، من خلال استغلال الموارد الطبيعية بشكل فعّال، ورفع الكفاءة التشغيلية. وذلك من خلال اتباع البرنامج لأحدث المعايير والتجارب الدولية؛ بغية تقليص الكميات المفقودة والمهدرة في الغذاء، للوصول لأرقام حقيقية ودقيقة لحجم الفقد والهدر الغذائي في المجتمع السعودي، وتبيان حجم المشكلة للمسؤولين لإيجاد الحلول الممكنة لها.
وأودُّ أن أؤكد على أهمية ما جاء في البرنامج من ضرورة تحليل الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المسببة للفقد والهدر في الغذاء بالمملكة، وسط الأرقام المفزعة للفائض عن حاجتنا الذي يكون مصيره في الغالب النفايات، الأمر الذي يُشكِّل هدرًا كبيرًا في الموارد؛ باستخدام تطبيقات الاقتصاد السلوكي بطريقة علمية، لغرس السلوك الإنتاجي والاستهلاكي الصحيح.
وهذا ما أشار إليه الاقتصادي الأمريكي “ريتشارد ثالر” الحائز على جائزة نوبل 2017 للاقتصاد عن كتابه “ Nudge“، من أننا كبشر نستخدم النظام التلقائي في خياراتنا الشرائية أكثر بكثير من النظام التأملي، وأنه من خلال تزويد الناس بمجموعة من المعلومات أو الصور أو التجارب السابقة سيكون هناك تأثير واضح على طريقة اختياراتهم وقراراتهم الاستهلاكية؛ لذلك أكد ثالر على أن صياغة “Nudge” (ويقصد بها تغيير أي جانب من جوانب عملية تصميم الخيارات الشرائية، والذي إن تمَّ تغييره سيؤثر على سلوكيات الناس بدون تقييد حرياتهم أو تغيير الحوافز الاقتصادية المقدَّمة لهم)، مع ضرورة الأخذ في الحسبان عند تصميم هذه الخيارات، العوامل التالية: كمّ المعلومات، كيفية عرضها، التوقيت المناسب، والبيئة المرافقة لتأثيرها الكبير على خيارات وسلوك وقرارات المستهلكين؛ ولذلك أؤيد بشدة أهمية استخدام تطبيقات الاقتصاد السلوكي في عدة مراحل من البرنامج.
وأطرحُ هنا بعض المرئيات والتوصيات حول البرنامج، بالإضافة إلى بعض الأخطاء والنواقص التي لاحظتها، وذلك بهدف دعم أهداف البرنامج النبيلة، ومنها:
أولًا: لفت نظري في البرنامج اختيار (4) مدن فقط في منطقة الرياض، في حين تم اختيار (7) مدن في المنطقة الشرقية، فلو نظرنا لعدد السكان في منطقة الرياض الذي كان في عام (2010 م) يبلغ (6,777,146) ملايين نسمة، في حين بلغ عدد سكان المنطقة الشرقية في نفس العام (4,105,807) ملايين نسمة (حسب إحصاءات الهيئة العامة للإحصاء). ولو حسبنا عدد السكان حاليًّا بشكل تقريبي بناءً على معدلات النمو والبالغة (2,7%و2,5%) للرياض والمنطقة الشرقية على التوالي https://www.stats.gov.sa/sites/default/files/eastern_region_ar.pdf، سيكون عدد السكان كالتالي: منطقة الرياض (8,241,009) ملايين نسمة، والمنطقة الشرقية (4,926,936) ملايين نسمة. وهذا يعني أن عدد سكان المنطقة الشرقية يعادل ما يقارب 60% من عدد سكان منطقة الرياض، فلماذا لم يتم اختيار مدن أكثر من منطقة الرياض يتناسب مع عدد السكان فيها؟ وهل وجود جمعيات خيرية متخصصة معينة ولها خبرة سابقة وتجارب ميدانية في هذا المجال في المنطقة الشرقية له دخل في هذا الاختيار؟
ثانيًا: صغر حجم العينة المذكورة في البرنامج والتي بلغت (50,500) فقط، مقارنة بعدد سكان المملكة الكلي حسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء في عام (2018 م) والذي بلغ (33,413,160) مليون نسمة، أي أن هذه النسبة تعادل (15, 0%) فقط، أي أقل من (0,2%) من عدد السكان في المملكة، وحتى لو حسبنا هذه النسبة مقارنة بعدد السكان السعوديين فقط والبالغ عددهم (20,768,627) مليون نسمة لأصبحت (24, 0%)، فهل يمكن للمتخصصين هنا إفادتنا بإمكانية الاعتماد على نتائج هذه العينة الصغيرة الحجم لاتخاذ قرارات اقتصادية واجتماعية وسلوكية باعتبارها ممثلة للمجتمع؟ كذلك لم يتم تعريف نوع العينات المستهدفة، وهل تم توزيع الاستبيانات على مختلف المناطق السكنية الثرية والميسورة الحال والفقيرة؟
ثالثًا: لم يتم استعراض الاستبيان الخاص بالمسح الميداني للدراسة حتى يمكننا المساعدة في تقييمه من حيث وضوح وشمولية الأسئلة، وسهولة فهمها لدى القارئ، ومدى إمكانية إضافة أسئلة أخرى قد تفيد الدراسة.
رابعًا: ذُكر في الدراسة أنه تم الانتهاء من مرحلة المسح الميداني، ولكن لم يتم ذكر النتيجة الأولية من تحليل البيانات، أو التطرق لخط الأساس لوضع تصوُّر مبدئي.
خامسَا: من الأهمية توزيع استبيانات خاصة بالأسر المنتجة (ممن يتفقون مع بعض محال بيع منتجات الأسر باستئجار أرفف لديهم، ويقومون بتزويد هذه المحال بكميات متفق عليها يوميًّا من منتجاتهم لبيعها مقابل نسبة معينة، وفي حال عدم البيع لأي سبب تكون هذه الأسر هي المسؤولة باسترجاع الكميات الزائدة التي لم تُبع خلال مدة معينة تختلف باختلاف أيام صلاحية المنتج)، لمعرفة الكيفية التي يتم بها التصرف بمنتجاتهم التي لم تُبع، هل يتم أكلها أو توزيعها على المحتاجين أو التخلص منها في النفايات؟ فحجم هذه النسبة تتزايد باستمرار وتستحق دراستها.
سادسًا: في رأيي المتواضع ليس من المحبذ وضع صور لأشخاص يتناولون الطعام على موائد تتصف بالبذخ الشديد، وتوضح حجم المبالغة الكبير في بعض الولائم؛ (فالهدر في هذه الولائم لا يتحملها الضيف -هو فقط قام بتلبية الدعوة-، وإنما يتحملها المضيف ) في كتيب تعريفي لبرنامج وطني.
سابعًا: في الإطار النظري للدراسة ذُكر أنه سيتم دراسة السلوك الاقتصادي الجزئي، فإذا كان المقصود به دراسة ديناميكية السوق، فمن المحبَّذ إضافة دور الاقتصاد السلوكي للمستهلكين أيضًا في هذه المرحلة؛ لدراسة سلوك البشر جنبًا إلى جنب مع سلوك السوق.
ثامنًا: ملحوظة: أودُّ التنبيه بوجود بعض الأخطاء الإملائية، بالإضافة إلى بعض النواقص في عدد من الفقرات في الكتيب الخاص بالبرنامج، (أرجو الرجوع إليها والعمل على تصحيحها)، ومنها:
- ثامنًا : صفحة رقم (3): يفضل أن يكون سياق الفقرة الأولى كالتالي وليس كما هو مكتوب في الكتيب: “يشكِّل الفقد والهدر في الغذاء مشكلةً على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؛ حيث ينجم عنه خسارة وهدر في موارد نادرة تمثِّل جزءًا لا يتجزأ من عملية الإنتاج، تتمثل في المياه والأراضي والطاقة والموارد البشرية، وهو ما يؤدي إلى انخفاض العائد الاقتصادي من الأعمال الزراعية، وتزداد حدة هذه المشكلة في البلدان ذات الموارد الضئيلة، ومن ضمنها المملكة التي تكافح لتحمُّل كلفة الإمدادات المستوردة لتلبي الاحتياجات الأساسية من الغذاء؛ “لذلك أطلقت الدولة عدة مبادرات……”.
- · صفحة رقم (4): المفروض تُكتب كلمة “تعريف” وليس “تعرُّف” في عنوان الصفحة.
- صفحة رقم (5): استندت الدراسة على نسبة الفقد والهدر في العالم لعام 2013م، ويعتبر هذا الاستناد قديمًا إلى حد كبير، ويجب التطرُّق إلى نسب الفقد والهدر في الأعوام الأحدث.
- صفحة رقم (8) في مثل هذه التقارير جرت العادة أن يُكتب “المملكة” وليس “المملكة العربية السعودية”؛ كونه تقريرًا داخليًّا.
- · صفحة رقم (9) أقترح نقل الهدفين (1و2) من أهداف المسح البياني إلى أهداف البرنامج الرئيسية.كما يفضل ذكر كلمة (حجم) بعد كلمة (قياس) في الهدف الثاني من الأهداف، لتصيح “قياس حجم الخسائر”؛ كما أنوه إلى ضرورة ذكر أي عام تقصدون في نهاية الهدف رقم (6) !.
التوصيات المقترحة:
أولًا- توصيات خاصة بالبرنامج:
- · من الأفضل أن يتم التركيز في الدراسة على المناطق الأعلى كثافة سكانية في المملكة، وهما: منطقة مكة المكرمة، تليها منطقة الرياض، حيث يبلغ متوسط معدل نمو السكان السنوي فيهما على التوالي، (2,8%) و(2,7%) حسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء. ونتيجة لوجود تباين كبير بين أفراد المجتمع في تلك المنطقتين، وما يتطلبه من زيادة حجم العينة فيهما للتقليل من مقدار الخطأ.
- زيادة عدد العينات ليتناسب حجم العينة مع عدد السكان في المملكة؛ (حتى نحصل على مستوى عالٍ من الدقة، علينا اختيار عينة أكبر عددًا (نيومان)، لتصبح ذات أثر واضح ومقبول، لنُعمم آثارها ونتائجها. علمًا أنه لا يوجد اتفاق بين الباحثين في وضع نسبة محددة لاختيار عينة الدراسة، إلَّا أن البعض يُفضِّل أن لا يقل حجم العينة عن 5% أو 10% من مجتمع البحث الأصلي.
- أن يوضِّح البرنامج ضرورة الترابط بين نتائج المرحلة الأولى الخاصة بالمسح الميداني لدراسة الفقد والهدر الغذائي والحد منهما في المملكة وبين الخطوات الواجب اتباعها في المرحلة الثالثة من مراحل البرنامج، كتحديد ماهية نوعية المنتجات ذات الأولوية ويمكن إعادة تدويرها للاستفادة منها.
- وفي المرحلة الثالثة من مراحل البرنامج المشار إليها في النقطة السابقة، أهمية إقامة العديد من الدورات التدريبية المتخصصة لتأهيل عدد كبير من الفتيات والسيدات ممَّن لا يحملن مؤهلات علمية عالية – بهدف رفع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل تحقيقًا لأهداف رؤية 2030- في كيفية استخدام المخلفات الغذائية لمحصول البرتقال على سبيل المثال: (من خلال التعاون مع المصانع أو المطاعم أو الأسر المنتجة، بحيث يتم تجميع قشور البرتقال بعد عصرها أو استخدامها لصنع الكيك أو المربات، وتجفيفها وإعادة استخدامها لإنتاج منتجات أخرى، مثل: روائح الطعام، والمكملات الغذائية، والروائح العطرية، والصابون والشموع برائحة البرتقال). وهذا مثال فقط، وقد يظهر مزيد من الأفكار الإبداعية في هذا المجال فيما بعد.
- كان من المناسب التركيز بشكل أكبر على دراسة ظاهرة الإسراف واعتماد الأنماط الاستهلاكية الخاطئة والحاضرة بقوة، في الأعياد والمناسبات الاجتماعية والأعراس ومجالس العزاء، وخاصة في شهر رمضان المبارك وما يصاحبه من كثرة الولائم وإقامة موائد إفطار صائم في معظم المساجد وما ينتج عنه من هدر كبير للنعمة؛ لذلك نُوصي باعتماد ذلك كمرحلة لاحقة من الدراسة، ولا سيما بعد ما قامت “الفاو”، بدق ناقوس الخطر والحذر، في تصريح صادر عنها في وسائل إعلامية متعددة، بتزايد كميات الطعام المهدرة في القمامة والحاويات في أيام رمضان الفضيلة مع زيادة التواصل والمحبة والقرب والروحانيات بين الناس، وأن الفرد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يقوم بهدر 250 كيلوغرامًا من الطعام الصالح للأكل سنويًًّا.
- لوحظ اختيار أنواع محدودة معينة فقط، سواء أكانت في قائمة الخضراوات أو الفواكه لإجراء الدراسة عليها. وهنا حبذا لو تم التوضيح على أي أساس تم الاختيار؟ هل على مستوى الإنتاج أو مستوى الاستهلاك؟ وهل للدعم الحكومي لبعض المحاصيل الزراعية دخل بتلك الخيارات؟
- · مناسبة تخصيص جزء منفرد من الدراسة لتوضيح الحجم الحقيقي للفقد والهدر في التمور التي تُشكِّل تاريخًا عريقًا للمملكة كموروث استهلاكي ثقافي، ولقدرة المملكة الكبيرة في إنتاج التمور، والتي كانت في 2017م (754,761) طنًّا (حسب تقديرات الكتاب الإحصائي 2017م لوزارة البيئة والمياه والزراعة، ص307)، وحجم الاستهلاك المتزايد منها سنويًّا كونها مكونًا أساسيًّا من المائدة السعودية، بالإضافة إلى الصناعات الكثيرة المشتقة من التمور؛ باعتبارها مدخلًا أساسيًّا لكثير من المنتجات. هذا إلى جانب أن المملكة تحتل المركز الثاني في إنتاج التمر بنسبة 15% من الإنتاج العالمي*.
- من الأهمية بمكان أن يتضمن البرنامج خطة إستراتيجية تهدف لزيادة وعي المواطنين بقواعد التسوق الذكي وترشيد الاستهلاك والحد من الهدر خاصة في شهر رمضان ومواسم الأعياد والتخفيضات، بحيث تتطرق لضرورة التوعية الإلزامية بعدم شراء (العبوات الاقتصادية، أو خُذْ واحدة والأخرى مجانية) التي يتم الترويج لها من قِبل التجار، وهي – في رأيي – من العوامل المساهمة في الهدر الغذائي، إلا لمن يحتاجها بالفعل من الأسر كبيرة الحجم أو الأسر المنتجة، والمطاعم والفنادق والمستشفيات.
- أن يكون من بين أهداف البرنامج خطة بضرورة الدراسة في المدن التي تُقام فيها مهرجانات سنوية باستخدام العينة القصدية أو العمدية، والتي يُقصد بها: تلك العينة التي تعتمد على رغبة الباحث للتحكم في عينة مقصودة ومضبوطة، بغية استجماع معلومات صحيحة ودقيقة وموثقة علميًّا عن الموضوع المراد دراسته لدى المواقع والأشخاص الذين يتم اختيارهم في عينة البحث، ونجد هنا أنه من المناسب أن نأخذ مهرجانات التمور في كلٍّ من منطقة القصيم على سبيل المثال لا الحصر؛ كون سوق بريدة يعتبر من أكبر أسواق التمور في العالم، وكذلك محافظة الحريق كمثال آخر، والتي يُقام فيها مهرجان سنوي للحمضيات، بغية تحقيق الهدف الاقتصادي المتمثل في استغلال الميزة النسبية لهما (زيادة الإنتاج مع الحرص في الوقت ذاته على التميز في المنتج)، لكن بالمقابل يهمنا ومن خلال هذا البرنامج ودراسته الميدانية، معرفة كم نسبة الفقد والهدر في محصول التمر والبرتقال – اللَّذَين تم اختيارهما من بين الفواكه المزمع إجراء الدراسة عليهما – التي تحدث خلال أيام المهرجانات؟ وفي أي مرحلة تزيد هذه النسبة؟ وكيف يمكن العمل على تخفيض هذه النسبة مستقبلًا؟ حيث أكد أ. زيد الشبانات في أكثر من مقابلة على حرص المؤسسة على الاستفادة من التجارب الميدانية في مجال الفقد والهدر في الغذاء مع الجهات ذات العلاقة لتعزيز الجانب البحثي النظري، للخروج بنتائج واقعية مبنية على أسس علمية تحقق الهدف من إطلاق هذا البرنامج الوطني. وهذه المناطق ستكون خيرَ مثال للتطبيق العملي.
ثانيًا- توصيات عامة:
ضرورة توحيد كافة الجهود وتكاتف المسؤولين عن البرنامج مع جميع الجهات الحكومية المعنية والقطاع الخاص لتبني مبادرات واتفاقيات مشتركة، واتخاذ القرارات السريعة والحاسمة، وتحفيز التوعية المجتمعية بثقافة حفظ الطعام ومحاربة مظاهر البذخ في مجتمعنا، وبكيفية تفادي الهدر والفقد في الطعام بكل الوسائل المتاحة، ومن أهمها:
- التسريع في سن القوانين الخاصة بهدر الغذاء من خلال تشريعات تنظيمية، وسرعة تفعيلها لتحقق الفائدة المرجوة، وإيقاع العقوبة على متعمدي الهدر في الغذاء، ومكافأة مَن يلتزم بحفظ النعمة. كما يُفضَّل تطبيقها بشكل محبب على مستوى الأسرة (مثل، التأكيد على تعليم الأطفال عدم التخلص من فطورهم الصباحي في صندوق القمامة خوفًا من إرجاعه المسبب لغضب والدته، وتحفيزه على مشاركته مع صديق أو عامل النظافة).
- تفعيل التوصيات التي خرج بها منتدى الأسرة السعودية 2019 م في نسخته الأولى، والذي تشرفت بالمشاركة في بعض توصياته مع د. نوف الغامدي، ومن أهمها:
- العمل على تبني مشروع وطني لتثقيف الجيل القادم والنشء على الاستهلاك الذكي والرشيد، وتنميته وتأهيله منذ الصغر على سلوكيات الإنفاق، وإنشاء الأكاديميات لغرس سلوك الادخار والترشيد والتوعية للحد من الهدر الغذائي.
- مراجعة التشريعات والقوانين المضللة التي تحدُّ من الإعلانات الوهمية ومعاقبة مَن يروِّج لسلع وهمية أو منتجات ضارة مضللة، والإعلانات التي تؤثر على الرأي العام.
- تبني الجهات المعنية بالأسرة البرامج الإرشادية لتوجيه النمط الاستهلاكي للأسرة والمجتمع نحو الخط المعتدل والرشيد.
- الاهتمام بتطوير المناهج التعليمية، والاهتمام بإدراج مناهج إدارة الموارد الأسرية والاستهلاك وترشيده ضمن المناهج التعليمية في المدارس والجامعات؛ لإكساب الأبناء النمط الاستهلاكي الرشيد منذ الصغر، وكذلك إكساب الأبناء المفاهيم الخاصة بالتخطيط الإستراتيجي.
- تفعيل التوصيات التي وضعتها وزارة البيئة والمياه والزراعة 2016 م بعد صدور تقريرها الذي أشار إلى أن المملكة تحتل المرتبة الأولى عالميًّا في هدر الغذاء. وأن حوالي 30% من الأغذية المنتجة يتم إهدارها، في حين تصل قيمة الطعام المهدر حوالي 49 مليار ريال سنويًًّا.
- تشجيع الاستثمارات في مجالات البحث العلمي خاصة في مجالات البحوث الزراعية؛ لمتابعة ورصد تجارة المنتجات الزراعية، وتسليط الضوء على الخسائر التي تحدث على امتداد السلسلة الغذائية بأكملها، وبيان مواطن فَقْد الغذاء المحتملة، ومن ثَمَّ إجراء تقييم لحجمها وإيضاح أهم الممارسات الزراعية والإنتاجية والتصنيعية والتسويقية السليمة، والتوعية بضرورة استخدامها للحد من الفاقد والهدر في الأطعمة.
- التشديد على أهمية قيام القطاع الخاص بدوره في المسؤولية الاجتماعية في هذا المجال مع المسؤولين عن هذا البرنامج والجهات ذات العلاقة.
- إعطاء تسهيلات مالية وإدارية وقانونية للقطاع الخاص بإنشاء مصانع ذات معايير عالمية في المناطق المشار إليها سابقًا، والتي يتم فيها إقامة مهرجانات سنوية سواء للتمور أو الحمضيات والخضراوات، وكذلك في كافة المناطق ذات النسبة الأعلى بين مختلف مناطق المملكة في حجم فَقْد وهدر الأطعمة والنفايات؛ للمساهمة في الحدِّ من هدر الأغذية أو الخسائر التي تسببها الأخطاء في التجهيز أو التعبئة أو النقل، والحدّ من التلوث البيئي بتحويلها إلى أسمدة أو منتجات غذائية مكملة أو منتجات جمالية… إلخ.
- التركيز بشكل خاص على الترويج لبيع الخضراوات والفواكه غير المثالية في الشكل أو المظهر على مستوى المستهلك، والتي لا تزال آمنة للاستهلاك وذات طعم جيد بأسعار محفِّزة؛ لخفض النسبة الصادمة والمهدرة منها بسبب معايير الجودة، فبحسب “منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “(الفاو)” أن حوالي نصف الخضراوات والفواكه تقريبًا (45 %) يضيع في عالمنا، ولا يُعَدُّ إنقاذ الفاكهة القبيحة مجرد قضية أخلاقية، وإنما مسألة موارد تستخدم الموارد الطبيعية الثمينة في إنتاج الغذاء الذي نهدره، إذ يلزم 13 لترًا من الماء من أجل زراعة حبّة طماطم واحدة و50 لترًا من الماء لإنتاج برتقالة واحدة. كما يستوجب ذلك البذور والتربة وعمل المزارعين، بل وحتى الوقود الذي يذهب إلى نقل المواد الغذائية. كل هذه الموارد تضيع عندما تُهدر ثمار هذه الجهود”، وخاصة إذا عرفنا أن الجزر الذي اختير من بين الخضراوات المراد إجراء الدراسة عليها في المملكة يعتبر من أكثر الخضروات فقدًا، حيث يُفقد حوالي (25-30%) من محصول الجزر قبل أن يصل إلى محلات البيع بسبب عيوب الشكل الخارجي.
- عمل ندوات تثقيفية بمساعدة مدربين مؤهلين ومتطوعين بارعين يتصفون بروح المسؤولية في المدارس والجامعات، لتوجيه الطلبة والطالبات وتدريبهم على ترشيد الطعام.
- تفعيل دور وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في نشر ثقافة حفظ النعمة وتبادل الخبرات، ونشر خطر هدر الطعام.
- إنتاج برامج تليفزيونية قصيرة، موجهة بالذات لربّات المنازل؛ للتعريف بالطريقة الصحيحة لحفظ الطعام، وللتحذير من مغبّة الإسراف، وحثهن على توجيه جميع أفراد الأسرة بما فيهن الخادمات للتعامل مع الطعام كنعمة ينبغي المحافظة عليها خوفًا من زوالها.
- إعطاء دورات متخصصة لربّات المنازل في كيفية إعادة تدوير الأغذية المطبوخة وعدم التخلص منها، على سبيل المثال: (عمل ساندويتشات من الدجاج المتبقي، جَمْع الخبز المتبقي وتنشيفه وتحميصه وطحنه ليصبح فتات الخبز المستخدم في كثير من الطبخات).
وختامًا؛ وعلى الرغم من أننا تربَّينا على ثقافة “الزود ولا النقص”، ونطبق غالبًا ما قاله رسولنا الكريم: ” مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ “، لكن لا يجب أن ننسى ما أمرنا به الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [ الأعراف: آية 31].
وأنوه أنه بلا شك أن من أهداف البرنامج متى ما طُبقت بالشكل الصحيح وخصوصًا في مجال نشر الوعي والترشيد الاستهلاكي سواء في مراحل التعليم المختلفة أو وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، فسيكون لها الأثر الكبير في الحد من هذه الظاهرة غير الصحية، وانعكاس ذلك على سلوكيات المجتمع من خلال استخدام تطبيقات الاقتصاد السلوكي للإسهام في خفض الهدر في الطعام والاستفادة من فائض الغذاء بما يحقق الهدف المنشود في تخفيض هذه النسبة بما يصل إلى 50 % بحلول 2030، والوصول إلى صورة ذهنية ثابتة عن المملكة بصفتها أكثر البلدان والمجتمعات حفظًا للطعام وأقلها هدرًا.
المداخلات:
العلاقة بين الفقد والهدر للغذاء:
أوضح د. خالد الفهيد أن الفقد يعني انخفاض كفاءة، ومعالجته قد يحد من الفقد، وفي الدول النامية تواجه مشكلة فقد، والدول الصناعية تواجه مشكلة الهدر، وعندنا نعاني من المشكلتين. ومن أمثلة الفقد – على سبيل المثال – أسواق الشمال للخضار بالرياض، حي المروج، حيث يتم فقد أكثر من 50 طنًّا من بقايا المنتجات الزراعية في نهاية يوم المزارع الذي يُقام في نهاية الأسبوع؛ بسبب رداءة المنتجات أو سوء الحفظ.
وأضاف أ. زيد الشبانات: إن البرنامج يتكون من محورين الهدر والفقد. فالهدر يمسُّ ثقافة الغالبية؛ لكن الفقد مكون رئيس لاقتصاد الوطن لعلاقته بالناتج الوطني الذي يعكس مستوى النمو لعلاقته العكسية بالواردات من نفس السلع، وكذلك مع نسبة الفقد. علمًا بأن البرنامج يهتم بالمرحلة التي تسبق حفظ النعمة (مرحلة ترشيد).
والبرنامج من ضمن برامج التحول الوطني 2020 وبدعم من الدولة. وسيكون للبرنامج – بإذن الله – حملة توعية إعلامية لكافة شرائح المجتمع كمرحلة ثانية، وسنعمل على الشراكة مع مختلف القطاعات ذات العلاقة سواء العام أو الخاص.
موقف الدين من فَقْد وهَدْر الغذاء:
يرى د. علي الطخيس أن الجانب الديني مهمٌّ جدًا في طرح ومناقشة هذه القضية؛ يقول الله عز وجل: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [ الأعراف: آية 31]. هذه الآية الكريمة تنهانا عن الإسراف في الأكل والشرب، فلماذا لا نبدأ بأنفسنا أولًا؟ أضافت إلى ذلك أ. علياء البازعي أن الشريعة سلوكيًّا وضعت جميعَ التنظيمات التي تنظم سلوك البشر إيجابيًّا، وبالذات في جانب التعاملات والعادات اليومية، لكن هل تُراعَى بالقدر المطلوب؟ وبالنظر حولنا نجد أن معظم الممارسات السلوكية من ناحية الإسراف في المأكل والمشرب غير متبعة كما في الآية الكريمة، والسبب قد يكون:
– إما العادات “كرم الضيافة”.
– أو لغة الخطاب “غير مؤثرة”
– أو سيطرة الجهل والنزعة الاستهلاكية. وقد تكون هذه كلها.
من جانبه أضاف أ. زيد الشبانات أننا نحتاج إدارة منزلية رشيدة ذات أبعاد دينية واقتصادية واجتماعية، يشترك فيها أفراد الأسرة ويتحملوا مسؤوليتها. فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
مساهمة تطبيقات الهواتف في زيادة مشكلة فقد وهدر الغذاء:
ذكر د. زياد الدريس أن التطبيقات الميسرة في الهواتف الذكية ساعدت كثيرًًا في إذكاء النزوع الرأسمالي لدى التجار والسلوك الاستهلاكي لدى أفراد المجتمع. ولعلِّي أتساءل: كيف يمكن لنا تخفيف (ولن أقول مقاومة) جاذبية وسائط التواصل المعززة لروح الهدر الغذائي؟
في السياق نفسه، ترى أ. فائزة العجروش أن هذه التطبيقات كانت دافعًا لمواطن إماراتي إلى تطوير تطبيق عبر الهواتف الذكية*؛ يهدف إلى الحد من هدر الطعام في دولته وبشكل خاص في المطاعم، وهذا بالفعل يُطبَّق لدينا في بعض محال المخابز والحلويات حيث تقوم بتخفيض السعر إلى 50% بعد الساعة العاشرة ليلًا؛ لذلك أجدُ هذا التطبيق وهذه الطريقة المتبعة ما هي إلا طريقة تسويق ذكية للمطاعم بالدرجة الأولى في التخلُّص من الكميات الزائدة بسعر منخفض، ولا يعالج قضية الهدر. السؤال المهم: هل من اشتراه كان بحاجة فعلية له أم أغراه السعر الرخيص فقام بشرائه؟ وهنا نعود لنفس المشكلة ألا وهي هدر الطعام، والذي يجب أن يكون مسؤولية الكل ابتداءً بمعرفة المحال لحجم مبيعاتها اليومية ومن ثَمَّ صناعة منتجاتها بالقدر الكافي فقط مع الأخذ بعين الاعتبار زيادتها في نهاية الأسبوع، وكذلك مهمة المواطنين بعدم الانجذاب لطرقهم التسويقية ما لم يكن هناك حاجة فعلية لها.
بينما تتفق أ. علياء البازعي و أ. فائزة العجروش أن هذا التطبيق ينقل المشكلة من الفقد إلى الهدر. إذًا هو ليس بحل، وإنما أسلوب تسويقي يصبُّ في مصلحة المطاعم، ويزيد من الهدر في الطعام وليس الفقد.
الثقافة والعادات الاجتماعية وعلاقتها بمشكلة فقد وهدر الغذاء:
بدأ د. خالد الرديعان مداخلته بسؤال: لماذا نُمارس هدر الطعام طالما أننا ندرك أن ذلك يتعارض مع تعاليمنا الدينية؟
أعتقدُ أن السبب يكمن في ثقافتنا ومتواضعاتنا الاجتماعية؛ فهي تُحرِّض على الكرم، وأن يكون كل شيء وفيرًا، وبلغتنا “راهي”. كما أن ثقافتنا لا تُشجِّع على “التراكم الرأسمالي” وعمل حسابات دقيقة للمستقبل أو الادخار كما يقول الاقتصاديون.
نحن “اشتراكيون فابيون” حتى العظم؛ نحن من سلالة عظماء صعاليك الجاهلية (السليك بن السلكة، ودريد بن الصمة، ولاحقًا عروة بن الورد) الذين كانوا يسرقون من الغني، ثم يطعمون الفقير بقصد توزيع الثروة بطريقتهم الخاصة.
نحن نُعيد توزيع ثروتنا فيما بيننا بأدوات متعددة؛ كالكرم والهبات والشرهات والعونات، وهذا ما يجعلنا اشتراكيين من حيث لا نعلم. قد لا نرى هذا اعتوارًا في ثقافتنا، فالكرم تحديدًا يمسح كل سيئات الرجال حتى لو كانوا لصوصًا ومرتشين وأصحاب سوابق.
أما إن أردنا أن نتحدث بلغة الأرقام ونكون رأسماليين؛ فذبيحة واحدة مع لوازم طبخها وتوابعها من فواكه وحلويات ومشروبات ستكون تكلفتها بحدود ٢٠٠٠ ريال عادةً، وهذا مبلغ أظنه معقولًا. هذه الذبيحة لا تخضع مقاييسها لعدد الضيوف؛ لأنها ستكون “راهية وكافية”، فقد تكفي لأكثر من ثلاثين مدعوًا، وربما أكثر.
أضيف على ذلك أننا في العادة لا نَعدُّ ضيوفنا، وكم سيأكلون من كميات الطعام كما يفعل الأجانب. وفي المقابل لو أردنا عمل بوفية لثلاثين مدعوًا فإن ذلك سيكون مكلفًا؛ فالشخص قد يتم احتساب وجبته بما يعادل 150 ريالًا في مطعم متوسط، وهو ما يعني أننا سندفع نحو 4500 ريال، وبالتالي ستكون الذبيحة بطريقتنا السعودية التقليدية أوفر ماليًّا حتى لو اضطررنا للتخلص من فائضها بطريقتنا الممجوجة.
وفي مناسبة الحديث عن الأنماط والطقوس الاجتماعية عندنا في الولائم، أورد د. زياد الدريس مقالة كتبها قبل مدة تحت عنوان: (العودة إلى المفاطيح)*. وأضاف أنه قد لمس بالفعل في الآونة الأخيرة، في العديد من الولائم التي حضرها، عودة ملموسة من البوفيهات المفتوحة إلى المفاطيح المفتوحة.
وذكر في المقالة: (منذ طفولتي، نشأت على نمط واحد وموحَّد للضيافة عندنا في الولائم، هو تقديم الذبائح من الأغنام، مطبوخة بالطريقة التي نسميها (مفطّح). حيث يتم تقطيع الذبيحة إلى ثلاث قطع كبيرة فقط، يتم وضع كل جزء منها على صحن رز دائري كبير، نُسمِّيه (تِبْسي)، يتحلّق حوله الضيوف، حيث يجلس ضيف الشرف والضيوف المهمّون على صحن المفطح (أي ظهر الخروف ورجليه) والبقية على الصحنين الآخرين وعلى كل منهما: جَنْب (أي يد الخروف وأضلاعه). أضع هذا التوصيف التفصيلي لمَن لم يتعرف من قبلُ على هذا التراث الشفوي لمجتمعنا.
استمر هذا النمط الضيافي سائدًا حتى ما قبل قرابة 25 عامًا حيث تعرضت ولائم (المفاطيح) إلى حملة تشهير ومكافحة بوصفها نمطًا إسرافيًّا في الضيافة، بالإضافة إلى أضرارها الصحية بسبب كثرة الشحوم فيها.
كان البديل في الولائم هو (البوفيه المفتوح)، حيث الأكل المقنّن استهلاكيًًّا وصحيًّا. فالضيوف لن “يلمسوا” إلا الكمية التي سيأخذونها من البوفيه، والباقي سيمكن الاستفادة منه بعد نهاية المناسبة. كما أن تنوُّع البوفيه بسلطاته ومقبّلاته سيحدُّ من كمية اللحوم والدهون التي يتناولها الضيف.
ابتهج الناس بطريقة البوفيه المفتوح، المتعدد والمتنوع، بعد أن ظلُّوا لسنوات لا يأكلون في الولائم سوى اللحم والرز.
وفي الواقع، إن خاصيّتي البوفيه المفتوح لم يتم تفعيلهما كما ينبغي. فالميزة الصحية لم تُطبَّق، إذ ظل كثير من الناس يأكلون نفس الكمية من الرز واللحم زائدًا الكمية من الأطباق الأخرى. أما ميزة التوفير وحفظ النعمة فلم تعمل فعليًّا بسبب أن بُعد المسافة بين أطباق البوفيه ومكان جلوس الناس جعلتهم “يحتاطون” بأخذ كميات كبيرة من الأكل فائضة عن حاجتهم تبقى متراكمة بشكل مؤلم في أطباق الضيوف بعد نهاية المناسبة، تمامًا مثلما كان الرز واللحم يبقى في زمن المفاطيح. بل ربما كان الأكل الباقي من ولائم المفاطيح أنسب للتوزيع على الفقراء والمحتاجين من ذلك الذي يبقى في صحون البوفيهيّين.
ولكن بعد سنوات من معايشة البوفيه (التعدّدي)، حدث ما لم يكن متوقعًا، إذ بدأ الملل يدبُّ في الناس من تراتبية: الحمص والمتبل والتبولة والمحاشي والمكرونة بالبشميل ثم المشاوي، والختام بأم علي وأخواتها! (وفي البوفيه الفاخر يحضر: الراڤيولي والجمبري وسمك الهامور). تحامَل الناس على مللهم هذا مدة ليست بالقصيرة، وصبروا على البوفيه المفتوح ليس لأنه الألذ أو الأصح أو الأوفر، ولكن لأنه الأفخم والأوجه من الأنماط الأخرى، رغم أن هذه الوجاهة أيضًا بدأت تذبل مع الاعتياد.
ثم راجت البيانات من دور الرعاية الصحية الكبرى في العالم تعلن براءة الشحوم الحيوانية من تهمة الجلطات القلبية وانسداد الشرايين، وأن الزيوت النباتية المهدرجة أشد ضررًا من الزيوت الحيوانية الطبيعية. وافق هذا الإعلان هوى في نفوس الناس التي ازداد تعلقها مجددًا في الآونة الأخيرة برموز الهويات الصغرى واستعادة عبق الماضي (نوستالجيا)، فتنامت من جديد خلال السنتين الماضيتين العودة إلى ولائم المفاطيح، ليس لأنها الألذ والأصح والأوفر فقط، ولكن لأنها تجمع الناس على الأكل في صحن واحد بعد أن فرّقتهم مشاغل الدنيا ولهاثها المحموم، فلا يلتقون إلا على (تبسي) الرز.
يطول الحديث ويُمتع عن سوسيولوجيا الولائم، في جوانبها الثقافية والاجتماعية والصحية، لكن يبقى العامل الاقتصادي هو المؤثر الأكبر في هذه المعادلات، وإن بدا متخفيًّا أحيانًا. وختامًا أتساءل: هل يؤدي شوق الناس لبعضهم حقًًّا إلى إغلاق البوفيه المفتوح؟!
علقت أ. علياء البازعي على مسألة ثقافة البوفيه المفتوح، أن هناك مطعمًا صينيًّا في أمريكا “من فئة البوفيه المفتوح” كتب لوحة (يمكنك أخذ كل ما ترغب بشرط أن تأكل كل ما في طبقك “نحن لا نقبل هدر الطعام”)؛ لذا فإنني أرى أنها مسألة تثقيف. فالكثير من الناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية لا يفقهون هذه الثقافة للأسف. الوعي في هذا الجانب مهم جدًًّا.
المستوى الاقتصادي للأفراد وعلاقته بمشكلة فقد وهدر الغذاء:
ترى د. مها العيدان أننا إذا تناولنا قضية هدر الطعام من خلال الجانب الاقتصادي فلا يوجد فرق بين الفقد والهدر. أما إذا تناولناه من خلال الجانب الاجتماعي فيمكن ربطه بالهدر؛ لأنه يرتبط بمجموعة من العوامل الثقافية التي تدفع الفرد إلى ممارسة بعض السلوكيات التي تجبره على إقامة الولائم حتى لا يظهر بصورة مرفوضة اجتماعيًًّا.
كما أن مما زاد من الهدر ارتفاع المستوى الاقتصادي لكثير من الأسر، بالإضافة إلى أن علاقات التواصل والزيارات العائلية مرتبطة بتقديم أنواع الأطعمة والمشروبات. كما من الملاحظ أن جميع الأنشطة الترفيهية ترتبط بالغذاء أكثر من الترفيه بحد ذاته.
وأوضحت د. هند الخليفة أنه من المفارقات العجيبة أننا انتقلنا من مجتمع كفاف بالكاد يجد أفراده قوت يومهم إلى مجتمع هدْر يتفنن في استهلاك الطعام والتباهي باستعراض تعدُّد أصنافه على موائدنا، حيث تبلغ هذه الممارسات ذروتها في المناسبات ولا سيما حفلات الزواج، لدرجة أن المبالغة في الضيافة تجعلك تشعر بالاشمئزاز وتؤلمك صورة الجياع الذين قد لا يبعدون أميالًا عن احتفالية الترف التي تشهدها في هذا المكان. في نظري أن الآثار السلبية لهذا الهدر، بالإضافة إلى ما ذكره الزملاء المناقشون من أضرار اقتصادية وصحية، هي أضرار اجتماعية إذ تعكس الوعي الزائف بالتحضر ومعنى الحضارة، كما أنها تنسج غشاءً من الأوهام على المستويين الفردي والمجتمعي، يصنف الأفراد إلى فئات وطبقات، ويعزز الفوارق الطبقية وما تحمله من مشاعر النفور والعزلة والفرقة بين أفراد المجتمع، ناهيك عن الأثر السلبي على تقدير الذات في علاقته بالقيم الوجدانية التي لا مكان لها في ثقافة الاستهلاك والاستنزاف.
وللأسف، فإن التوسُّع في المطاعم وتنوُّعها والمبالغة في أسعارها قد أسهم في نمو السلوك الاستهلاكي، والذي يمارسه الكثيرون من أجل ملء الفراغ الداخلي ومن أجل الرقي المزيف، ويعيشون في كذبة كبيرة قد لا يدركونها حتى الممات.
لذا، فإن نجاح أي مبادرة للحد من الهدر، لا بد أن تأخذ في عين الاعتبار الجوانب الاجتماعية والنفسية وآثارها المتسارعة على الفرد والمجتمع، وتعمل على معالجتها قبل فوات الأوان.
مشكلة فقدر وهدر الغذاء بين الإدارة والإنتاج:
وفيما يتعلق بالإطار العام لمشكلتي الفقد والهدر، يرى د. منصور المطيري أن إطاريهما مختلفان.
الفقد مشكلة تتعلق بالإدارة ونسبة الإطار الثقافي فيها قليل، ويمكن تغييره لأن الناس يبحثون عن المكاسب من خلال إنتاجهم، وكل ما يجلب لهم الربح فإنهم يتقبلونه إذا عرفوه وأدركوه.
وأما الهدر فالغالب أن الإطار العام للمشكلة فيه ثقافي بالدرجة الأولى، وهناك أيضًًا نسبة من سوء الإدارة.
أما بالنسبة للإنتاج، فقد أشار د. مشاري النعيم إلى مشكلة المياه التي تحدُّ من التوسُّع في الزراعة، لكن نظريًّا تظلُّ مسألة الاستفادة من الميزات النوعية للمناطق تحتاج التفاتًا، فهناك مناطق مشهورة تاريخيًّا بنوع من المنتجات، ولا أعتقد أننا استفدنا من هذه الميزات النوعية بالقدر الكافي، وهذا أمر تنظيمي وإداري.
كما أن قضية التسويق عالميًّا ومحليًّا فيها خلل، فلو نظرنا إلى مُنتَجينِ اثنين وهما التمور وحليب الإبل، وهما منتجان ضاربان في عمق بيئتنا وحضارتنا؛ التمور لم ننجح في تسويقها عالميًّا علمًا بأنها مطلوبة وخصوصًا في العالم الإسلامي. وأذكر أن دولًا، مثل إسرائيل وتونس نجحت، وأوصلت منتجاتها إلى أسواق كثيرة أفضل منا بكثير.
وأما حليب الإبل فهو ثروة مهدرة بشكل غير طبيعي محليًّا، دع عنك عالميًّا. والسبب أن ملاك الإبل الحقيقيين يفتقدون الدعمَ والتوعية بالأساليب الاقتصادية الحديثة في تسويق منتجهم، وهم يحتاجون إلى مؤسسات وسيطة تستقبل منهم منتجهم. وربما رأينا بعض كبار السن الذين يملكون بعض الإبل يدور بالحليب الذي معه يوزعه على الناس مجانًا؛ لأنه لا يعرف ما يفعل به، بل إن بعضهم لم يعد يحلب إبله خوفًا من أن يُراق في النهاية، وهذه مشكلة عامة عند مُلَّاك الإبل بعيدًا عن الاتجاه الموجود الذي حوَّل الإبل إلى مجرد منظر وزينة.
أضاف د. خالد الرديعان أنه حتى حليب الأغنام وهو متوفر بكثرة عند مربي الغنم لا يتم الإفادة منه بطريقة صحيحة وعملية؛ علمًا بأنه يمكن استخدامه في إنتاج الأجبان. ولا داعي للتذكير أن أغلى أنواع الأجبان الفرنسية هي أجبان الأغنام.
من هنا أطالب بوجود مصانع صغيرة تقوم بجمع الألبان من مربي الغنم وتصنيعها وتعبئتها حتى يكون للأغنام مردود اقتصادي إضافة إلى لحومها بالطبع. وإذا ما تم شيء كهذا فإنه قد يغطي تكلفة الأعلاف والرعاية، وهي مرتفعة للغاية.
كما أضيفُ أن تربية الأغنام أجدى اقتصاديًّا من الإبل؛ فمن الإبل نحصل على منتجينِ فقط هما الحليب واللحوم، بينما توفِّر لنا الأغنامُ عدة منتجات: حليب، لبن، زبدة، سمن، أجبان، لحوم. أيضًا فتربية الأغنام لا تحتاج أكثر من حظائر صغيرة بأطراف المدن مع رعاية صحية مناسبة وأعلاف؛ في حين أن الإبل تتطلب مراعي مفتوحة، وهي حيوانات متطلبة وتفرض نمطها الإيكولوجي على أصحابها، ومن ثَمَّ فالأغنام أجدى اقتصاديَّا.
وذكرت أ. علياء البازعي أن هذا منطقي جدًّا. والتساؤل: هل نضع تربية الحيوانات غير المجدية اقتصاديًّا في خانة الهدر (أعلاف – أموال – وقت)؟ علق د. خالد الرديعان بأن الذين يربون إبلًا لا يستفيدون منها كثيرًا، فهم يستخدمونها عادةً كنوع من الوجاهة الاجتماعية، ولكي يقول المالك: “عندي حلال” وهذا تباهٍ.
بينما يرى د. منصور المطيري أن هؤلاء فئة قليلة. عندنا قريبًا من أربعة ملايين رأس إن لم تخني الذاكرة، وهي ثروة حقيقية، لكن كيف نُعظِّم الاستفادة منها؛ سؤال يجب أن يجيب عنه صنفان من الناس: أهل الإبل أنفسهم، وخبراء الاقتصاد والتسويق. من جانبه يعتقد د. خالد الرديعان أن تربية الأغنام عملية أكثر practical ولا تحتاج خبرات كما في تربية الإبل. ومالك الأغنام ليس بحاجة إلى التنقُّل وتغيير المراعي.
أردف أ. محمد الدندني القول: بأن مردود القيمة الغذائية من الإبل ضعيفة لما تستهلكه، وأضاف أيضا أنها مدمرة للغطاء النباتي الذي هو شحيح. نسب المردود من الأفضل إلى الأسوأ هي (الأسماك، الدجاج، البقر، الأغنام، وآخرها الإبل).
كما أرى أنه يجب أن يكون لصغار مُربّي الماشية من الماعز وغيره وتنشأ شركات تسويق تضمن تسويق منتجاتهم. كنتُ في ريف تيرول في النمسا ووجدت أنه لا أحد من المزارعين يسوق الحليب، إنما يتم ذلك من خلال شركة ولو كانت لديه بقرة واحدة.
بينما تعتقد أ. فائزة العجروش أن ذلك يُحدِث نوعًا آخر من أنواع الفقد في الورد الطائفي بسبب استخدام المعامل البدائية حسب ما صرَّح به رئيس الجمعية التعاونية لمزارعي الورد الطائفي، من أن مزارع الورد الطائفي تنتج كل عام 24 ألف تولة دهن ورد، مفقود من كل واحدة منها 40 % من الدهن، مبينًا أن نسبة المفقود من الدهن أدى إلى تكبُّد المستثمرين في مجال الورد خسائر تتجاوز عشرة ملايين ريال كل عام.
أخيرًا، أضاف أ. محمد الدندني: نعم، نعيش في صحراء، ولكن مجموع الواحات يعادل أراضي لبنان وسوريا. وادي السرحان الذي به مزارع بسيطة لوحده يعادل ضعفي مساحة لبنان. فقط نحتاج تطبيق ما وصلت إليه تكنولوجيا الزراعة الحديثة لترشيد استهلاك الماء والمحافظة على جودة التربة. الصين التي تحتل المركز الأول في كثير من المنتجات الزراعية وصلت لمراحل متقدمة من إمكانية استصلاح الأراضي الصحراوية.
الكرم المجتمعي وانتشار الإسراف:
أشار أ. محمد الدندني إلى أنه إذا كان أحد أسباب الإسراف هو الكرم المتوارث وهو عادة طيبة، فأرى أنه ليس بهذا القدر من الإسراف. إنْ كان المجتمع يتنافس في الكرم، فهل تنافَس المجتمع في دعم الفقير وعلاج المريض وفك دين المعسر؟ رأينا كرمًا ممجوجًا في دفع ديات قتلة، ولم نر كرمًا في علاج مريض أو طالب متميز محتاج. أو لأن أنواع الكرم الأخرى لا تُرى، ولا تُعطي صاحبَها نشوة الحضور والتميز؛ لذا لا نراها شائعة في المجتمع. وبالتالي سأطرح بعضَ التساؤلات حول أسباب هذه الظاهرة الكريهة، وتعليقي عليها:
– هل سرعة التحول من أرض فقيرة إلى غنية مع ثروة النفط هو السبب؟ فالبحث عن تعويض ما سبق، والذي أصبح مع الوقت عادةً متفق عليها من المجتمع بكل طبقاته.
– هل الجهل حينها هو السبب، والذي لم يتغير مع انتشار التعليم وتحسُّن مصادر المعرفة؟
– هل هو نوع من الترفيه كَون المجتمع لا يملك أدوات الترفيه؟ ولذا هي مناسبة لتعويض النقص.
– هل ابن الجزيرة تاريخيًّا يحرص على إطعام الطعام لقلته؟ ومن ثَمَّ لم يحدث تغيير في نوع الكرم مع وفورة الطعام وتحسُّن الأحوال.
– لماذا لم تتمكن تعاليم الدين من تنظيم هذا الشأن؟ وليس لدينا غير الدين نستند إليه في تنظيم عاداتنا وسلوكنا.
– هل حداثة المجتمع تشكو من معرفة قيمة المال وقيمة الأشياء المادية عمومًا؟
– هل لدينا خلل في منظومة السلوك والأولويات؟ وهل تنقصنا الشجاعة للتغيير والنقد كأفراد وكمجتمع؟ مَن يُعلق الجرس، ومن يجرؤ على وقف عادة غير حسنة مع أن الغالبية العظمى تنتقدها ولكن تفعلها؟ صفة تدل على قلة التحضر!
– هل طبيعة التقليد للأغنياء وعِلية القوم أحد الأسباب؟ وهنا تغيب القدوة الحسنة حيث من المعروف قوة هذه الآلية في التغيير، وبالذات في نوع مجتمعنا.
– هل في العموم نشكو من ضعف في الالتزام وكُرْه النظام والتقنين؟
– هل هناك ضعف في قيادة الأسرة من الأب والأم بفرض عادات تحارب الإسراف والهدر؟ يطلب ما يشاء، ويأكل ما يشاء، في أي وقت ومن أي مصدر.
الفَقْد في المنتجات الزراعية:
أشارت د. وفاء طيبة إلى مثال حول قضية الفقد، مثلًا: نحن في المملكة تعتبر زراعة النخيل أهم منتجاتنا الزراعية، فما هو الفقد الحادث من بداية الزراعة إلى حين الحصول على المنتج، أو إلى حين وصول المنتج إلى المستهلك الأخير؟
علق أ. محمد الدندني بأنه ليس لديه إحصائيات، ولكن بحكم أنه من منطقة تشتهر بالنخيل فالفقد كثير، ليس في المنتج ولكن في النخلة عمومًا.
كثير من أجزاء ومكونات النخلة يمكن الاستفادة منه، حيث يمكن صناعة الليف والحبال وبعض المنتجات الخشبية، ومن النوى أعلاف وأيضًا الفحم، ومن المنتج يمكن إنتاج الخل والدبس. بعضها يتم ولكن ليس على مستوى كبير؛ لأنها تحتاج إلى وجود معامل. وقد أعجبني مصنع افتتح أخيرًا في القصيم يحوي ما ذكرت، ولعله بداية لتعميمه على مناطق زراعة النخيل.
كما أنني أرى أن الفقد في كلِّ المنتجات المحلية، والسبب ضعف التسويق؛ فالمزارع الصغير لا يستطيع تسويق منتجه خارج منطقته، وهنا الكل يزرع فتنزل الأسعار لحد مُحزِن. يحتاجون شركة تسويق تشتري منتجهم ليتم نقله في الأسواق الكبيرة في المدن، وفي الوقت نفسه – كما ذكرت – إقامة معامل للتجفيف أو التعليب وغيره من الطرق لحفظ المنتجات.
من جانبه أوضح د. خالد الفهيد أن الفقد هو ما يتم فقده في أثناء سلسلة الإمداد الغذائي، ابتداءً من العمليات الزراعية للمنتج الزراعي حتى تسويقه. فمثلًًا، في النخيل هناك كميات من التمور لا تصلح للاستهلاك الآدمي، وانخفاض كفاءة إنتاج وارتفاع تكاليف العمالة، وعدم الانتظام في الري، ووجود الآفات الزراعية والأمراض التي تصيب التمور، إضافة إلى ضعف البِنى التحتية للتسويق والتصنيع؛ كلها تؤدي إلى منتج رديء، ومن ثَمَّ فقْد جزء منه.
كما أشار د. عثمان العثمان إلى أنه وفقًا لتقرير منظمة الفاو، فمن الواضح أن الفقد أعلى بكثير من الهدر، وخاصة في الدول غير الصناعية؛ لذا فإنني أتساءل: ما الأسباب؟ هل هو ضعف كفاءة وتقنيات سلاسل الإمداد؟ أم المناخ؟ أم المستوى الاقتصادي للفرد؟ أم غيرها؟
ومن زاوية أخرى، عندما يكون الفقد – كغذاء- حتميًّا. هل لدى المركز أو غيره من الجهات ذات العلاقة، وسائل أو برامج تحت الدراسة لتحويل المفقود إلى منتجات أخرى يمكن الاستفادة منها، مثل أعلاف للحيوانات أو أسمدة أو غيرهما؟ أما تحويلها إلى وقود فربما يكون مبكرًا جدًّا وغير مُجدٍ.
مشكلة الهدر في المياه:
يعتقد د. خالد بن دهيش أن أكبر هدر يحصل في مجتمعنا هو الهدر في الماء الذي يُجلب من تحلية مياه البحر والذي يكلف كثيرًا، ناهيك عن الاستنزاف الكبير الذي حصل للمياه الجوفية خاصة في زراعة القمح والأعلاف، وهناك سوء في استغلال الماء في غسيل الأحواش والسيارات، وإسراف في سقيا الزراعة المنزلية. والدراسات العلمية تقول إنَّ هناك أزمةً في المياه قادمة على منطقتنا.
من جانبه أشار أ. محمد الدندني أن طرح قضية هدر المياه ليست جديدة أبدًا، وقد طُرحت كثيرًا، ولعلها موضوع دراسة من جانب وزارة البيئة والزراعة والمياه؛ من أن تنشأ معامل معالجة المياه الرمادية في كل منطقة للاستفادة منها في الزراعة وكل الاستخدامات الآدمية غير المباشرة؛ كغسيل الملابس، والاستحمام، وشطف الأحواش والحمامات… إلخ. ولا ضرر أن يُستخدم مباشرة حيث وصلت التكنولوجيا إلى أن يكون الماء المُعالَج صالحًا للاستخدام الآدمي. وفِي هذا وَفْر كثير، ربما يصل إلى ٨٠٪ من الماء المستهلك في إعادة المعالَجة.
وفي هذا الأمر نرجو أن تُوفَّق وزارة البلديات بالتعاون مع وزارة المياه في إعادة النظر في تصميم المنازل والمنشآت التجارية والحكومية بأن يكون للمياه مصدران: الماء المُحلَّى أو من الآبار، والماء الرمادي المُعالَج. إنه مشروع كبير وربما مكلف، ولكن أعتقد أن جدواه المالي والأمني واضح.
وأكدت د. وفاء طيبة أن هدر الماء يلقى عناية كبيرة في الدولة وإن كانت غير كافية، ولكن الاستمرارية هي المفقودة، فيأتي زمان وتكون الحركة والدعاية كلها لتركيب هذه الصمامات الخاصة التي تُوفِّر في الماء أو تُنظِّم صرف الماء في الحمامات ثم تقف؛ ثم يأتي زمان تسمع عن مسابقات لمشاريع بحثية حول الماء وتوفيره ثم تقف، ولا تعلم ما الذي تمَّ بالنسبة للأبحاث… وهكذا.
وفي اعتقادي أن الماء والبلاستيك والغذاء تحتاج عملًا دؤوبًا متواصلًا ومستمرًا توعويًّا وبحثيًّا وتنفيذيًّا.
أضاف أ. زيد الشبانات أن لدى وزارة البيئة والمياه والزراعة مبادرات متعلقة بقطاعات المياه التابعة للوزارة يتم مناقشتها خلال اجتماعاتنا مع معالي الوزير في اللجنة التوجيهية للمبادرات.
نشر الوعي وثقافة حفظ الطعام مسؤولية مجتمعية:
وأورد د. عبد الله بن صالح الحمود تقريرًا صدر عن صحيفة سبق الإلكترونية بتاريخ ٢٧ يناير ٢٠١٧ عن هدر الطعام.
تحت عناوين (أخصائيون لـ”سبق”: نشر الوعي وثقافة حفظ الطعام مسؤولية مجتمعنا)، (“هدر الطعام”.. السعودية الأولى عالميًّا ومطالبات للحد من التبذير وحفظ النعمة)؛ ذكر التقرير: إنه مع انتشار ظاهرة التبذير والإسراف في الطعام خصوصًا في السنوات الأخيرة؛ حيث تُقدَّر قيمة الفاقد والهدر الغذائي بالمملكة بـ”49.833″ مليار ريال سنويًّا حسب الورقة المقدَّمة من وزارة الزراعة في ورشة الحد من الفقد والهدر الغذائي، ورغم وجود عدد من الجمعيات الخيرية التي تسهم في حفظ الطعام كجمعية “إطعام” إلا أن هذا لم يمنع مجلس الشورى من تقديم مقترحينِ لدراسة وسن قوانين لمكافحة التبذير ومعاقبة المبذرين.
وسلطت “سبق” الضوء على ظاهرة الإسراف في الغذاء والعقوبات المترتبة:
مركز وطني:
طرح عضو مجلس الشورى السابق “الدكتور أحمد آل مفرح”، مقترحًا حول نظام الترشيد الغذائي لفرض غرامات مالية على الذين يتركون فائض طعام في أطباقهم في المطاعم، كما قدَّم لـ”سبق” نسخةً عن مسودة المشروع؛ حيث تتضمن إنشاء مركز وطني للترشيد ومحاصرة الإسراف، وفرض غرامات مالية على الأفراد والأسر الذين يتركون فائض طعام بنسبة 20٪ من قيمة الفاتورة المدفوعة، على أن تكون الغرامة بواقع 15٪ على كل جهة تشرف أو تقيم حفلة أو مناسبة رسمية أو خاصة، و5٪ على كل فرد أو جهة تقيم حفلة أو مناسبة عامة أو خاصة كبيرة من دون ترخيص، على أن تُودع مبالغ الغرامات في حساب بنكي خاص بالمركز، وأن تُعلن الغرامات في مكان بارز في أماكن الطعام وتُنشر على حسابات المركز، وأعفى النظام من العقوبة كلَّ فرد أو أسرة أو جهة تولَّى في الحال بنفسه أو كلَّف غيره بجمع وأخذ الفائض من الطعام، من فرض الغرامات. ويهدف المركز إلى الحد من ظاهرة الإسراف في الأكل والإسهام في حفظ الطَّعام وترشيد الغذاء، بالإضافة إلى دعم جهود الجمعيات والمؤسسات ذات العلاقة، وتوعية وتثقيف المجتمع بأهمية الاقتصاد الأسري وأثر الإسراف الغذائي السلبي عليه، وكذلك التوعية بالأضرار الصحية الناتجة عن الاستهلاك المفرط للطعام.
حفظ النعمة:
ومن جهة أخرى، قدَّم عضو مجلس الشورى السابق “الدكتور ناصر بن داود” المقترح الثاني الخاص بنظام مكافحة البطر وحفظ النعمة وسنّ عقوبات رادعة لبعض ممارسات “الهياط”، ومن ذلك من يُراؤون بفخامة ولائمهم التي لا يحتاطون لفوائضها، فَتُرمَى في حاويات النُّفايات، في مشاهد مقززة استفزت العالم أجمع، إضافة إلى مقاطع فيديو تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي مبرزة التبذير، مثل الأشخاص الذين علفوا جمالهم أوراقًًا مالية.
لا يوجد نظام:
“هل هناك قانون يُعاقِب المبذرين ومَن يقوم بإلقاء الطعام الفائض؟ “سبق” تواصلت مع المستشار القانوني “عبد الله صالح العنزي” للإجابة عن تلك التساؤلات؛ حيث أوضح “العنزي” أنه لا يوجد نصٌّ نظامي صريح يعاقب المسرفين والمبذرين في تجهيز الولائم، ولكن يوجد نص نظامي ورد على استحياء بمعاقبة مَن يقوم بإلقاء نفايات فضلات الطعام في غير الأماكن المخصَّصة لها سواء من المطاعم أم المنازل؛ حيث ورد في جدول الغرامات والجزاءات الملحق بلائحة الغرامات والجزاءات عن المخالفات البلدية الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (٢١٨) وتاريخ: ٦/ ٨/ ١٤٢٢ “أنه يُعاقب بغرامة الحد الأدنى بمبلغ قدره ١٠٠ ريال، والحد الأعلى منها أيضًا ١٠٠ ريال في حال إلقاء النفايات من المنازل في غير الأماكن المخصصة لها، وبغرامة الحد الأدنى بمبلغ وقدره ١٠٠٠ ريال و٥٠٠٠ آلاف ريال للحد الأعلى في حال إلقاء فضلات الطعام من المطاعم في غير الأماكن المخصَّصة لها.
وأضاف في حديثه لـ”سبق” أن النظام نصَّ على مخالفة مَن يقوم برمي فضلات الطعام في غير الأماكن المخصَّصة لها فقط، ولم ينص على مخالفة مَن يمارس صور الإسراف والتبذير في تجهيز الولائم، بحيث لا يُعَدُّ مُخالِفًا مَن يقوم بالإسراف في تجهيز الحفلات والولائم إذا قام برمي فضلات الأطعمة في الأماكن المخصَّصة لها”.
مشيرًا إلى أن الإسراف والتبذير أمرٌ مُحرَّم، والدليل قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [ الأعراف: آية 31]. وحفظ النعمة يعتبر من حفظ المال، وحفظ المال من الضرورات الخمس التي نصَّ على حفظها الإسلام.
وختم “العنزي” حديثه: “هناك مقولة تحضرني على مَن يمارس صور الإسراف والتبذير في الأطعمة، وهي: “مَن أمِن العقوبةَ أساء الأدبَ”. والآن أصبح من الضروري إصدار نظام يُحدِّد المخالفات والجزاءات الرادعة لمنع انتشار ظواهر وصور الإسراف والتبذير التي نراها في مجتمعنا.
أول جمعية:
رغم غياب القانون لم تغب الجمعيات الخيرية والنشاطات الإنسانية بهدف حفظ النعمة والحد من الهدر؛ حيث قرَّر مجموعة من رجال الأعمال نقل فكرة بنوك الطعام إلى السعودية، وانطلقت فكرة الجمعية الخيرية للطعام “إطعام” التي ساهمت منذ انطلاقتها في حفظ أكثر من 2 مليون وجبة.
“سبق” التقت مع “عامر برجس”، المدير التنفيذي لإطعام في الرياض”، وتعرف بـ”بنك الطعام السعودي”، وقد بدأ العمل منذ عامين بمبادرة من مجموعة رجال أعمال بالمنطقة الشرقية بهدف حفظ النعمة من الهدر، وذلك عن طريق نقل فكرة بنوك الطعام في دول العالم وتطبيقها في المملكة العربية السعودية بطريقة احترافية، وبعد نجاح التجربة تمَّ نقل الفكرة إلى مدينة الرياض في شهر ديسمبر 2013م بهدف حفظ الطعام؛ حيث تهدف “إطعام” بشكل أساسي إلى نشر الوعي وثقافة حفظ الطعام في مجتمعنا وإيصال الزائد من الطعام إلى المستفيدين وفق أفضل معايير الجودة والسلامة العالمية، وإيجاد فرص عمل لأبناء الأسر المستفيدة، إضافةً إلى إشاعة روح العمل التطوعي في المجتمع والارتقاء بالعمل الخيري بصورة احترافية، وقد تمَّ عقد اتفاقيات مع عدد من الفنادق وقاعات الأفراح الكبرى لتعبئة الطعام الزائد بأفضل معايير الجودة والسلامة العالمية، وتكوين شركات مع الجمعيات الخيرية الأخرى للاستفادة من الطعام وتوزيعه على المستفيدين.
صورة احترافية:
وأضاف: تمتاز “إطعام” بأن 80% من موظفيها هم شباب وفتيات من أبناء الوطن، تمَّ تدريبهم للعمل باحترافية من خلال دورات تدريبية، ومن ثَمَّ اختيار الأفضل وتوجيه كل متطوع وفق مهاراته، للعمل إما في فريق التعبئة أو فريق التوزيع، ويتم ذلك تحت إشراف مدير التشغيل ومختصين في الجودة وسلامة الغذاء، كما أن فترات العمل تنقسم إلى فترتين؛ الأولى وقت الظهر بالتزامن مع وجبات الغداء، أما الفترة الثانية فتكون في وقت متأخر من الليل، وذلك بعد انتهاء حفلات الأعراس سواء الرجالية أم النسائية، وذكر أن “إدارة التشغيل” قد بدأت العمل في حفظ الطعام الزائد وتوزيعه على المستفيدين اعتبارًا من 1/ 4/ 2014م”.
وحول الهدف من الحملات التوعوية التي أطلقتها “إطعام” الرياض؛ أجاب “البرجس”: في البداية تسعى “إطعام” من خلال الحملات الخيرية التي تطلقها في مختلف المناسبات، إلى التذكير بأهمية نشر ثقافة حفظ النعمة في مجتمعنا، والتغلب على مظاهر البذخ ورمي الفائض من الطعام وإعادة توزيعه على المستفيدين، وإيصال رسالة مفهوم حفظ النعمة الذي تسعى “إطعام” إلى تعزيزه؛ حيث يُعدُّ الدافع إلى إطلاق الحملات التوعوية. من جانب آخر، بدأت “إطعام” الرياض الاستعداد لعقد مؤتمر إطعام الدولي الأول في مدينة الرياض بمشاركة نخبة من الأخصائيين في مجال حفظ الطعام من الهدر.
مسؤوليتنا جميعًًا:
وعن الفوائد المتوقعة من تنفيذ هذه الحملات، يقول المدير التنفيذي لإطعام: “تقدير الكميات المناسبة عند إعداد الأطعمة سواء للأسرة أم للضيوف، وكذلك كيفية تجنُّب الإهدار في بواقي الطعام، من دون إلقائها كمخلفات في صناديق القمامة، وتجميع الأطعمة الجيدة السليمة وإعادة تعبئتها لتوزيعها على المحتاجين، مشيرًا إلى أن الجميع شركاء في حفظ الطعام من الهدر، ابتداءً من البيت إلى المدرسة إلى الجامعة إلى المؤسسات بمختلف أعمالها، ومن خلال صحيفتكم هذه دعوة إلى نشر رسالتنا وهي: “حفظ الطعام مسؤوليتنا جميعًا”.. وأهمية مساهمة القطاع الخاص في المشاركة ودعم رسالة وأهداف جمعية إطعام التي تعتبر خطوةً حضارية سبَّاقة لتكريس سياسة الشراكة الاجتماعية بين القطاع الخاص والجهات غير الربحية. وسوف تكون بصماته واضحة في إرساء روح الخير وتأصيلها كعمل مؤسسي متطور تتسابق في تحقيقه كافة الشركات الأخرى؛ حيث تكتمل الصورة في تحقيق رسالة إطعام من خلال حفظ النعمة، وترسم البسمة عبر إيصال الزائد من الطعام إلى المستفيدين.
وأردف “البرجس”: يجب نشر ثقافة الترشيد في كل مناحي الحياة، لتدوم علينا النعم، ويحفظها الله من الزوال، وهنا يأتي دور المدارس والمساجد ووسائل الإعلام المختلفة في التوعية ونشر ثقافة حفظ الطعام.
حفظ النعمة:
من جهة أخرى، تقول الأخصائية الاجتماعية فاطمة القحطاني” لـ”سبق”: “مليارات الأطنان من المواد الغذائية التي تعادل كميتها نصف المواد التي تُنتج عالميًّا تُلقى في النُّفايات في بلاد الحرمين، في حين يزداد عدد المجاعات في الدول المجاورة؛ الأمر الذي يتطلب تبني الأفكار التي تُسهم في حفظ النعمة والتقليل من الهدر، وتطالب “الغامدي” بأن تسنّ الجهات الرسمية قوانين رادعة للحد من الإسراف والمهايطة، وعلى المجتمع ألا يتناسى قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾، وتأمل من الجهات المعنية والخيرية وأئمة المساجد نشر ثقافة حفظ النعمة من خلال الدورات التثقيفية، والخطب الدينية التي تحثُّ الأفراد على التواصي وعدم الإسراف”.
دراسات وأرقام:
أظهرت نتائج حديثة أصدرتها مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات؛ أن السعودية تحتل المرتبة الأولى عالميًّا في الهدر الغذائي بنحو 250 كيلوجرامًا للفرد الواحد سنويًّا، أما في الدول المتقدمة فإن كمية المهدر “115” كيلوجرامًا للفرد، بينما في الدول الفقيرة 11 كيلوجرامًا للفرد الواحد. من جهتها تشير وزارة الزراعة في المملكة إلى وجود كميات كبيرة من المواد الغذائية لا تتم الاستفادة منها، وأرجعت الوزارة ذلك إلى أن هناك بعض الأنماط الاستهلاكية التي أدت إلى التباهي والإسراف، ودعا بعض المختصين في المجال الزراعي إلى أن تكون التوعية للتقليل من الفاقد والهدر في الغذاء مكثفة عن طريق وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وإيضاح أن الإعانة من الدولة على بعض السلع جاءت لمساعدة بعض فئات المجتمع، وأن هناك أموالًا طائلة تُدفع على هذه الإعانات والمطالبة بدور أكبر للجمعيات الخيرية في مجال التوعية.
تعزيز القدوة في المجتمع للحد من مشكلة فقد وهدر الغذاء:
أشار د. عبد الله بن ناصر الحمود إلى أن هناك زاوية مهمة لم يتطرق لها البرنامج، وهذه الزاوية هي: ضرب المثل (وتعزيز القدوة)، من أجل تحقيق قدر كافٍ من الحدِّ من الهدر في الغذاء؛ فمن المعلوم أن هدر الغذاء (الفردي والأسري) الأكبر، عادةً يتم فيما له علاقة بالآخر، حيث التمظهُر (الثقافي- الاجتماعي -الاقتصادي)، وهو يعبر عن ثنائية: (الثراء) و(المكانة الرمزية) في المجتمعات كافة، والنامية منها بشكل خاص، حيث شيوع الفقر وترسّخ قوّة الطبقية المجتمعية.
فالهدر مؤشر مجتمعي طبقي في المقام الأول، تفعله الطبقات الموسرة بأشكال عدة للتعبير عن قيم استهلاك مترسخة مجتمعيًّا ربما تكون الكرم، أو حسن الوفادة، أو مجرد التمايز مع الأقران، وتفعله الطبقات الكادحة، مهما كلَّفها الأمر، للتعبير عن رغبةٍ كامنةٍ ربما في نفي الفقر والعوز والحاجة، وإن تمظهر في سلوك الإكرام وحسن الوفادة.
ولأنه سلوك (طَبَقي) كما أراه، فلا بد من تضمين الجهد المجتمعي للحد منه (ضرب القدوة الحسنة)، وسوف يؤدي هذا السلوك لجعل الترشيد في مظاهر الاستهلاك سلوكًا حميدًا، بل وفضاءً للتجانس مع القدوات طبقيًّا. وأعني، مثلًا:
– الولائم والمناسبات الرسمية.
– ولائم ومناسبات الوجهاء والطبقات المجتمعية الأكثر ملاءةً اقتصادية.
– ولائم ومناسبات المشاهير وقادة الرأي.
والعمل على نشر الأنماط الاستهلاكية الرشيدة لهذه الفئات، بشكل تلقائي غير متكلف، وأن تكون رشيدة بالفعل.
إن أي جهد للحد من الهدر لدى (الدهماء) مع بقاء الهدر المضاعف لدى غيرهم من طبقات المجتمع، لن يقود إلى نتائج إيجابية معتبرة.
اتفقت أ. فائزة العجروش مع هذا الطرح، وذكرت أن هذه نقطة رئيسية؛ فالقدوة الحسنة مطلب ضروري، لكن لا تكتسب مصداقيتها إلا من خلال التطبيق الصحيح لما ندعو إليه. وفي هذا السياق، تحث جميع المنتديات والمؤتمرات الرسمية التي تدور حول الوعي المالي وأهمية الترشيد الإستهلاكي، خاصة بتطبيق ذلك عمليًا، بالاقتصاد والترشيد في كميات الطعام والشراب المقدمة للضيوف وألا تفيض عن حاجة المدعوين؛ ليصبحوا قدوة حسنة عملية للحضور، وأثر ذلك الإيجابي لمصداقيتهم أمام الآخرين فإذا كنا ندعو إلى شيء ما، فليس من المستحسن أن نخالف ما ندعو إليه، وماذا لو كانوا هم مَن بدؤوا بتطبيق ذلك عمليًّا، ليصبحوا قدوة حسنة عملية للحضور، وأثر ذلك بعد نقل الحضور لمصداقيتهم للآخرين.
من جانبه ذكر أ. عبد الله الضويحي؛ إنني أريدُ أن أؤكد أننا ننادي دائمًا بالتوعية وبالقدوة (كما ركز عليها د. عبد الله ناصر الحمود)، ولن أكون متشائمًا في الذهاب إلى احتياجنا لعقود وربما أجيال.
الدين ينصُّ على عدم الإسراف، وقبل فترة أحد الشيوخ الكِبار استضاف في منزله شيخين آخرين على مائدة فيها إسراف، وانتشرت الصورة والخبر في وسائط التواصل الاجتماعي. والموسرون يقيمون حفلات زواج وغيرها تتكلف الملايين وتُنشر أيضًا عبر الوسائط ذاتها. هؤلاء هم القدوة، ولو أنها لم تُنشر لكان الوضع أسهل.
وأذكر أن أحد أصدقائي قال لي إنه كان لديهم عزاء وفوجئوا بجارهم يُرسل لهم 10 مفاطيح، مع أن لديهم مفطحين من شخص آخر.
كلنا ننتقد الإسراف ونتهامس في المناسبات أن فلانًا (مُكثِر) الله يهديه، وعندما تنعكس الآية ونُصبح مستضيفين نُسرف وربما أكثر، وإذا عتبت على أحدهم، قال: لا تخف، يتصرف.
لذا؛ أتفقُ مع ما ورد في التقرير الذي نشره د. عبد الله صالح الحمود نقلًا عن سبق، من حيث أهمية فرض العقوبات. فلقد أثبتت العقوبات جدواها في كثير من ممارساتنا وقللت منها؛ حيث إنَّ الوعي لا يمكن أن يتنامى في مجتمع ما لم تسنده العقوبات، والغرب لم يُولَد واعيًا مثقفًا لكن العقوبات أيًّا كان نوعها هي التي خلقت منه إنسانًا واعيًا حتى أصبح الوعي جزءًا من ثقافته.
الأسر المنتجة ودورها في الحد من المشكلة:
وحول ما ذكرته أ. فائزة العجروش في تعقيبها من أنه انتشر في مدننا – وبشكل كبير – المحلات التي تبيع منتجات الأسر المنتجة. تساءلت أ. علياء البازعي: هل فتْح المجال للأسر المنتجة للبيع بهذا الشكل هو حل اقتصادي؟ وهل هذه المنتجات صحية؟ ومن يضمن جودتها؟ وبالنسبة للمنتجات التي لم يتم بيعها في فترة محددة، من هي الجهة المسؤولة عنها؟
علقت أ. فائزة العجروش: إنه حل اقتصادي لتمكين عدد من الأسر وتأمين دخل شهري لها.
وبالنسبة لمدى صحية هذه المنتجات، فأعتقد أنها من مسؤولية جهات عدة لكن حسب معرفتي من تكون من هذه الأسر مسجلة لدى “معروف”، وهو تطبيق معتمد من وزارة التجارة يضمن جودتها الصحية ومراقبتها. أما المنتجات التي لم يتم بيعها في تلك المحال ، فقد سألت أكثر من محال متخصصة في هذا المجال، وجاءتني إجابة الجميع أن من يصنعها هو المسؤول عن تصريفها. ونحن هنا نقصد الأسر المنتجة التي تعرض منتجاتها في محال متخصصة، ولها مكان ثابت يسهل الوصول لها، وتوزيع الاستبيان عليها لقياس حجم الهدر في الأطعمة غير المباعة في تلك المحال، وليست التي تُباع من داخل المنازل، ولا دخل لنا في ارتفاع أسعارها، فهي مسألة تخضع للقبول بين البائع والمشتري.
علقت د. وفاء طيبة أنه كانت هناك لجنة في وزارة العمل لتنظيم مثل هذه الأعمال والتصريح بها، ولكن أعتقدُ أنها لم تُكمِل العمل.
في هذا السياق تساءل أ. زيد الشبانات: ما مدى دقة البيانات التي ستُجمع من خلال هذه الأسر، فضلًا عن تخوُّفهم من ذلك. أجابت أ. فائزة العجروش: إن البيانات نستطيع تحصيلها من المسؤولين عن هذه المحال، فهم مَن يعرفون الكميات والأسعار وحجم الكميات المباعة وحجم غير المباعة يوميًّا، وليس الأسر نفسها.
من جانبه يرى أ. عبد الله الضويحي أن فكرة الأسر المنتجة فكرة جميلة وهدفها خيري، لكن للأسف – كعادتنا – كثير منها الآنَ تعتمد على العمالة الأجنبية تحت مسمَّى الأسر المنتجة.
ولعل البعض يتذكر ذلك الشاب الذي وضع له حسابًا على الإنستغرام بمُسمَّى سيدة باعتباره أسرة منتجة، وكان يتلقى الطلبات ويحضرها من مطاعم معروفة ويضعها في حافظات ويبيعها بأربعة أضعاف ثمنها وربما أكثر.
علق أ. محمد الدندني على ذلك، بأننا لن نصل للكمال، ودائما سنجدُ من يحاول الاستغلال، وعلينا أن ندرك أن ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جُلُّه. نعم، هناك من الأسر المنتجة من لديه عمالة وغالبًا بمُسمَّى عاملات منزلية تحت إشراف سيدة المنزل وهو أفضل من التستر التجاري، ومع هذا يوجد من الأسر الفقيرة والمحتاجة مَن تعمل بلا مساعدة عاملات. فليكن مادام هناك مصدر رزق ويكفيهم السؤال.
تجارب في الفقد والهدر للغذاء:
وحول بعض التجارب الناجحة في تقليل الفقد والهدر، ذكر أ. زيد الشبانات؛ إن شراء الخبز للمدارس يومًا في الأسبوع وتوزيعه بعدد الأيام ويُجمَّد، بشرط أن يكون الخبز ذا جودة عالية (جودة أعلى هدر أقل). ثم يُخرج خبز الغد مساءَ اليوم ويُستخدم دون تسخين. فلو أن كلًّا منَّا اشترى الخبز الجيد لكسد غير الجيد، وبذلك يضطر لرفع الجودة أو التوقُّف، ومعه بإذن الله يقلُّ الهدر. وليس الخبز فقط ولكن مدخلاته أيضًًا.
أضافت أ. علياء البازعي أنها تعتقد أن المجتمع يحتاج لحملات توعية تفصيلية في هذا الجانب مثل ما ذكره أ. زيد، فالتفاصيل أثرها أكبر على الأفراد.
الاستفادة من بقايا ونفايات المنازل:
ذهب د. خالد الرديعان إلى أنه من الهدر الملحوظ في مجتمعنا كميات البلاستيك والورق الذي نستخدمه بكثرة، وأحيانًا دونما حاجة ماسة إلى ذلك؛ فعندما نتسوق – على سبيل المثال – فإننا نحضر مشترياتنا بأكياس بلاستيك من مختلف المقاسات والأحجام، والهدر يكمن في أننا لا نعيدُ استخدامها لأغراض أخرى، بل نتخلص منها كنفايات منزلية.
ومن الأشياء الأخرى المعدنية التي فيها هدر كذلك “علاقات الملابس” التي تستخدمها مغاسل الملابس، فهي أيضًا تُعَدُّ نفايات منزلية، في حين أنها قابلة للاستخدام عدة مرات، بل إنها لا تتلف بسهولة كالورق. لذلك أقترح أن نفكِّر بطرق مناسبة للإفادة من نفايات المنزل البلاستيكية والمعدنية.
وفيما يخصُّ بقايا الطعام غير القابلة للاستهلاك كقشور الخضار والفواكه وقشور البيض والعظام، فإنه يوجد في السوق ماكينة تحوِّل هذا النوع من البقايا إلى سماد يمكن استخدامه في الحدائق المنزلية.
وأقترحُ أن يكون هناك عدة حاويات للنُّفايات أمام المنازل كما يفعلون في بعض الدول، بحيث تُخصَّص حاوية للبلاستيك، وثانية للورق، وثالثة للزجاج، ورابعة للنفايات التي لا تخضع للتصنيف.
كما أضيفُ، إننا نحتاج مع ذلك إلى وعي شديد بخطورة الهدر، والعقلانية في استخدام الأشياء. ومن يريد رؤية الهدر في البلاستيك والعلب المعدنية فيمكنه زيارة الأودية عند هطول الأمطار كوادي نمار وحنيفة، ليرى كمية القناني البلاستيك وعُلب المشروبات التي يحملها السيل إلى حواف الوادي.
علقت أ. فائزة العجروش بأن تجربة حاويات النفايات التي تُوضع أمام المنازل ومصنَّفة وفقًا لما سيُوضع بداخلها قد بدأت بالفعل، ويُعتبر حي الواحة وحي الروضة من أوائل الأحياء بمنطقة الرياض كخطوة أولى تتبعها الأحياء الأخرى.
وأشار د. مساعد المحيا إلى أنه لفت نظره حديث وزير الاتصالات السعودي في مؤتمر برشلونة حيث قال: 40% من المواد الأولية التي تُصنع بها الأجهزة الذكية في العالم، صنعتها السعودية.
ولا أعرف إن كان هذا يعني أنها صُنعت داخل المملكة أو بتمويل شركات سعودية. هذه المعلومة مهمة وترتبط بكثير من الهدر في مواد يمكن أن يتم الإفادة منها، أو يُعاد تصديرها لتمثِّل طاقةً إنتاجيةً كبيرة.
وبما أننا نصنع كثيرًا من المواد الخام التي تنتج المواد البلاستيكية، وجدت الوزير يتحدث عن أن المملكة تُسهم في تصنيع ٤٠٪ من الهواتف بالعالم، وفي تقديري أنه يتحدث عن المواد الخام الأولية التي يعتمد عليها مصنِّعو تلك الهواتف.
هذا الأمر حفَّزني للحديث عن كثير من المواد التي يمكن أن نستفيد منها من خلال أساليب عديدة تساعد على حل مشاكل الهدر أو الفقد؛ لما لها من أهمية في الصناعة وفي مزيد من الدخل ولا سيما أنها عناصر تؤثِّر في جودة الإنتاج، وفي الوقت نفسه الحد من الفاقد في المادة الخام.
هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية المزيد من الاهتمام والعناية ببقايا الأطعمة والخبز، وإعادة استثمار فضلات الأطعمة لتحويلها إلى سماد زراعي يمكن الإفادة منه على المستويين الفردي والمؤسسي، وذلك بطرق يسيرة جدًّا.
جهود المنظمات الدولية في الحد من مشكلتي الفقد والهدر للغذاء:
وحول الجهود الدولية ودور المنظمات القائمة فيما يتعلق بالحد أو معالجة قضية الفقد أو الهدر؛ تساءلت د. وفاء طيبة: هل يوجد أي توجيه دولي وتحديدًًا في الدول الغربية للمحافظة على الغذاء وعدم هدره؟ وكيف يتم ذلك؟ وما هي المشاريع والآليات المتبعة؟ في ظني أن التعليم من أهمها ولكني لا أذكر – وقد عشتُ في كندا فترة طويلة – أن ابنتي كانت تتلقى أي تربية في هذا المجال.
كلنا نشاهد البرامج الهزلية في التليفزيون الأمريكي وهم (يفقعون) البيض بالمزاح ويلعبون بالكريمة الطازجة، وهذه البرامج تعتبر قدوة سيئة.
علقت على ذلك أ. علياء البازعي، وذكرت أن في الغرب نسبة الفقد والهدر عالية، ويكفينا زيارة مطعم أمريكي لرؤية كمية الطعام في الأطباق بعكس المطعم الياباني، وكلاهما يمثل ثقافة الشعب.
من جانبه يعتقد أ. محمد الدندني أنهم تعدَّوا هذه المرحلة. وعمومًا هم لا يميلون للهدر ولو أن لديهم هدرًا، ولكن أعتقد أنه أقل منَّا بكثير، ولديهم برامج عن الفقد من باب زيادة الإنتاجية كنظام رأسمالي متأصل.
أضاف أ. زيد الشبانات؛ سبق أن اجتمعنا مع د. كلاوديا خبيرة الفقد والهدر في الفاو كمستشارة للكراسة الخاصة بالدراسة وطرق تنفيذها، وذكرت مشاكل هدر الغذاء في أوروبا وخاصة بلدها إيطاليا؛ لذا نحن يجب أن نعيَ قبل الآخرين، لا ننتظرهم، ولا سيما أن غذاءنا من الخارج بنسبة كبيرة.
كما أضافت د. وفاء طيبة؛ حسب ما فهمت مما ورد حول تقرير منظمة الفاو فإنهم في الغرب يسيطرون على الفَقْد بطريقة علمية أكثر منا، ولكن الهدر لديهم مرتفع أيضًا. علق د. مشاري النعيم بأنهم يسيطرون على الفقد من خلال صناعة الغذاء المتطورة لديهم.
وكانت من التوصيات التي اقترحها أعضاء الملتقى بعد مناقشة القضية، ما يلي:
- العمل على سنِّ القوانين الخاصة بهدر الغذاء من خلال تشريعات تنظيمية، وتفعيلها لتحقيق الفائدة المرجوة، وإيقاع العقوبة على متسببي الهدر في الغذاء.
- أن يتم تشجيع الاستثمارات نحو اقتصاد معرفي لتسخير البحث العلمي في مجالات البحوث الزراعية لمتابعة ورصد تجارة المنتجات الزراعية، مع تسليط الضوء على الخسائر التي تحدث على امتداد السلسلة الغذائية بأكملها، وبيان مواطن فَقْد الغذاء المحتملة، ومن ثَمَّ إجراء تقييم لحجمها وإيضاح أهم الممارسات الزراعية والإنتاجية والتصنيعية والتسويقية السليمة.
- القيام بمنح تسهيلات مالية وإجرائية للقطاع الخاص؛ بإنشاء مصانع ذات معايير عالمية، يتم فيها إقامة مهرجانات سنوية سواء للتمور أو الحمضيات والخضراوات، وكذلك الألبان والأجبان، للمساهمة في الحدّ من هدر الأغذية أو الخسائر التي تسببها الأخطاء في التجهيز أو التعبئة أو النقل، والحد من التلوث البيئي بتحويلها إلى أسمدة أو منتجات غذائية مكملة أو منتجات جمالية.
- القيام بمنح جوائز سنوية للفنادق والمطاعم التي تبرم اتفاقيات مع جمعيات حفظ النعمة.
- أن يتم تحفيز القطاع الخاص للقيام بدوره الوطني بالمسؤولية الاجتماعية حول المشاركة الفاعلة عن أهمية الحد من ظاهرة الهدر والفقد الغذائي بالتنسيق مع الجهات المعنية بهذه المشاريع الوطنية.
- التشجيع على منح تراخيص إنشاء جمعيات حفظ النعمة، ولا سيما أن الكثير من المناطق والمحافظات لا يتوافر فيها جمعيات متخصصة لحفظ النعمة.
- السعي إلى تفعيل دور وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في نشر ثقافة حفظ النعمة وتبادل الخبرات، ونشر خطر هدر الطعام.
- أن يتم إنتاج برامج تليفزيونية قصيرة المدد، موجهة بالذات لربّات المنازل للتعريف بالطرق الصحيحة لحفظ الطعام، وللتحذير من مغبّة الإسراف، وحثهن على توجيه جميع أفراد الأسرة بما فيهن العاملات المنزليات للتعامل مع الأطعمة كنعمة ينبغي الحفاظ عليها خوفًا من زوالها لا قدر الله.
- العمل على إقرار منح مكافآت لمَن يلتزم بحفظ وكرامة النعم، فضلًا عن جعل ذلك بمثابة تحفيز وتشجيع للأسر كافة نحو تقنين وجبات الإفطار لأولادها ممَّن هم على مقاعد الدراسة.
- الدعوى إلى إقامة ندوات تثقيفية بمساعدة مدربين مؤهلين ومتطوعين بارعين يتصفون بروح المسؤولية في المدارس والجامعات، لتوجيه الطلبة والطالبات وتدريبهم على ترشيد الطعام.
- أن يتم إعطاء دورات متخصصة لربّات المنازل في كيفية إعادة تدوير الأغذية المطبوخة، ومن ذلك على سبيل المثال: (عمل ساندويتشات من الدجاج المطهي المتبقي، وكذا جَمْع المخبوزات المتبقية وتجفيفها وتحميصها وطحنها لتصبح فتات خبز يُستخدم في كثير من الأطعمة المراد طهيها).
القضية الثانية:
ثقافة الكراهية
كاتب الورقة: د. زياد الدريس.
المعقبان:
د. خالد الرديعان.
د. منصور المطيري.
إدارة الحوار: د. فوزية البكر.
الملخص التنفيذي:
أكدت الورقة الرئيسة أن الكراهية بين أتباع الأديان وأبناء القوميات وُجدت طوال تاريخ البشرية، مع تفاوتها في الحدّة والتأجيج من حين لآخر حسب العوامل المؤثرة، كالعامل الاقتصادي والعامل الديني. وقد تصاعدت كثيرًا وسريعًا حدة مستوى الكراهية العالمية بشكل عام، وضد المسلمين بشكل خاص بعد تفجيرات سبتمبر الإرهابية.
وأوضحت الورقة أن هناك ظاهرة جديدة انتشرت في العالم أُطلِق عليها الإسلاموفوبيا، وأن الجهات والتكتلات التي تقف وراء تأجيج الإسلاموفوبيا تتنوع وتختلف، ويبلغ هذا التنوع أو الاختلاف إلى درجة وجود مسلمين يُسهمون في شكل مؤثر وبالغ في نشر وتعزيز هذه الموجة الخوفية. وأن فكرة تعزيز الإسلاموفوبيا تنطلق من ثلاثة منطلقات أساسية، هي: القلق من أسلمة العالم، تداخل العنصرية القومية بالعنصرية الدينية، تغطية جرائم إسرائيل وضغوط الصهيونية.
بالإضافة إلى ذلك، فإننا كمسلمين نُسهم في تعزيز الإسلاموفوبيا من خلال الجماعات الإسلامية المتشددة، حين تتخذ العنف والإرهاب وسيلةً لتعاملها مع الآخر، وكذلك من خلال فئة من المسلمين يُخَوِّفُون الناسَ من الإسلام من منطلقات لا دينية بل براغماتية نفعية، أي أن إسهام المسلمين أنفسهم في تأجيج الإسلاموفوبيا يمكن إيجازه في شكلين: التخويف بالإسلام، أو التخويف من الإسلام.
وأكدت التعقيبات على الورقة الرئيسة أن كراهية الغرب في العالم الإسلامي خطاب وليست ثقافة، فهناك أحداثٌ تقع وسياسات تُطبَّق يكون الغرب طرفًا فيها أو صانعًا لها في العالم الإسلامي، وتُفرِز عند المسلمين خطابًا تلقائيًّا معبرًا عن مشاعرهم تجاه هذه السياسات بالرفض لها عند الغالبية، أو بالقبول لها عند بعض الموالين له من العرب والمسلمين. وبذلك يتحمل الغرب (الدوائر السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية الصانعة للسياسة والمُشكِّلة للرأي العام) كاملَ المسؤولية عن خطاب الكراهية هذا. ولا يتحمل المسلمون أيَّ مسؤولية عن هذا الخطاب إلا بمقدار عجزهم عن اختراق الرأي العام الأوروبي، أو بمقدار خيانة الخائنين منهم.
أشارت التعقيبات أيضًا إلى أن أدوات خطاب الكراهية قد تتمثل في: اللعب على وتر الاقتصاد والتنافس على موارد شحيحة وسيطرة فئة ما وحرمان فئات أخرى، ومثل هذا الخطاب يتم ترويجه عادةً لخَلْق الكراهية ضد المهاجرين والوافدين في بعض الدول الأوروبية وخاصة عند ارتفاع مستويات البطالة فيها لأسباب لا علاقة للمهاجرين بها. بالإضافة إلى ما يجري في بعض الحملات الانتخابية التي يقودها بعض المرشحين السياسيين من بثِّ عبارات بغيضة، واتخاذ مواقف حادة ضد بعض الفئات والأقليات وأصحاب الأديان الأخرى بغرض كسب أصوات الناخبين.
وذهبت العديد من المداخلات التي جرت على الورقة الرئيسة إلى أن الكراهية هي صناعة، ولها منتجات متعددة، ولها وسائل وطرق تسويق متطورة، وعبر مناهج متقدمة تُجدِّد تلك الصناعة بشكل مستمر عبر التاريخ.
كما أكدت المداخلات على أن نسبة كبيرة من المسؤولية عن ظهور ونمو وتوسع الإسلاموفوبيا تقع على العرب والمسلمين أنفسهم. فما هم فيه يعكس صورة سلبية سيئة عنهم وإلى حد كببر، إضافةً إلى بعض المسببات الخارجية التي أهمها العداء الصهيوني الصليبي، والذي غالبًا ما يتجسد في “المؤامرة الكبرى” التي يعتبر مَن يُنكرها جزءًًا منها.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: التأكيد على مسؤولية المؤسسات السياسية والدينية والتعليمية والإعلامية في نشر قيم الإسلام السمحة المعتدلة المرتكزة على المحبة والسلام. تفعيل دور الإعلام الموجَّه داخليًّا وخارجيًّا للحد أو التخفيف من مسببات الكراهية وأعراضها. بناء إستراتيجية طويلة الأجل للتواصل والتأثير في دوائر القرار والجمهور الغربي بما يعزز المصالح المشتركة في جميع المجالات، وأهمها تغيير الخطاب السياسي الغربي المحرِّض على الكراهية والعنف ضد المهاجرين والأقليات الدينية والعرقية. دعوة المراكز البحثية عن أنجح سبل التغيير الإيجابي للأفكار والثقافات والأنظمة المعينة على التصدي لمشاعر الكراهية داخليًّا وخارجيًّا. من المهم التفكير في أن الكراهية قد تكون نتاجَ التعصب، وأنه من المهم كبح جماح التعصُّب بجميع أنواعه (المذهبي والعرقي والقبلي والرياضي)، وتبني مبادرات للحدِّ منه. قيام المراكز البحثية بدراسة مسببات ظاهرة الكراهية ونتائجها وأنجح السبل لمقاومتها والتخفيف من آثارها.
مقدمة:
إن أسوأ ما يصيب المجتمعات هو أن تسيطر عليها أجواء الكراهية، وتصبح أسيرةً للعداء وفريسة للتراشق وسبيلًا لرفض اختيارات الغير والإقلال من شأنه ورفض أفكاره والاستخفاف بآرائه. إن بيننا من البشر مَن يُمثِّلون المعادن الرديئة التي تجيد التطاول على الغير وتُردد شعارات جوفاء كالببغاوات غير المدربة، فهم يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون. إن أسوأ ما تنكب به الشعوب هو أن تشيع بين أفرادها موجات كراهية لا مبرر لها، فالكل يعتبر نفسه حالة خاصة، ويرى أنه وحيد زمانه، وأنه مخلوق لا نظير له، فتبدو فكرته عن ذاته أبعد ما تكون عن الواقع وأقرب ما تكون إلى الوهم، ويستعصي على هذا النمط من البشر أن يدرك أن الدنيا له ولغيره وأن فيها متسعًا لسواه، فينظر إلى الأمور من ثقب صغير لا يسمح له بوضوح الرؤية أو اتساع رقعة المعرفة، فهو أسير النظرة الضيقة وحبيس الإطار المحدود.
لذا فقد طرح ملتقى أسبار قضية “ثقافة الكراهية” من خلال ورقة العمل التي قدَّمها د. زياد الدريس، وجرت حولها العديد من المداخلات ناقشت: (تساؤلات وملاحظات حول ثقافة الكراهية، صناعة الكراهية، الصراع المجتمعي الإنساني الحضاري وعلاقته بالكراهية، ثقافة الكراهية ونظرية المؤامرة، شبكات التواصل الاجتماعي ونشر ثقافة الكراهية، السياسة وثقافة الكراهية، الإعلام وزراعة الخوف من المجتمعات الإسلامية، خطابات الكراهية بين المهاجرين المسلمين، مسؤولية المسلمين في نمو ظاهرة الإسلاموفوبيا، الدعاية الاستشراقية، ثقافة الكراهية تبدأ من الصغر، الكراهية بين الفطرية والاكتساب، الحب والكره أمرٌ طبيعي، تنامي العنصرية والكراهية والحقد بين أفراد المجتمع، الأصل في وجود الكراهية ومعرفة كيف نواجهها، بداية علاج الكراهية تحقيق السلام مع النفس، كيفية مواجهة الإسلاموفوبيا، دور المفكرين والكتَّاب في تحسين صورة الإسلام والمسلمين، قرارات منظمة التعاون الإسلامي حول الإسلاموفوبيا، مبادرات المملكة لحل مشاكل المسلمين، إعادة فَهْم النصوص الدينية الخاصة). وفي النهاية طرح الملتقى عددًا من التوصيات المهمة، من خلال ورقة العمل التي كتبها الدكتور/ زياد الدريس، وعقَّب عليها الدكتور/ خالد الرديعان، والدكتور/ منصور المطيري.
كتب د. زياد الدريس: الكراهية بين أتباع الأديان وأبناء القوميات ليست جديدة، ولم تكن يومًا غائبة عن تاريخ البشرية، لكنها فقط تتفاوت في الحدّة والتأجيج من حين لآخر حسب عوامل متغيرة ومؤثرة، من أهمها العامل الاقتصادي، وإن بدا متخفيًّا خلف أسباب وتفسيرات ثقافية.
والدولة الحديثة لم تستطع، لا عبر العلمانية القضاء على الكراهية الدينية، ولا عبر العولمة القضاء على الكراهية القومية؛ لكن مستوى الكراهية العالمية قد تصاعد كثيرًا وسريعًا بعد تفجيرات سبتمبر الإرهابية، وهو ما حدا بالإعلام الأمريكي أن يُطلِق حينذاك السؤال الكبير: لماذا يكرهوننا؟ ورغم مرور سنوات طويلة على السؤال، فإن “نتائج الاختبار” لمَّا تُعلَن بعدُ.
نحن أيضًا أصبح لدينا سؤالنا: لماذا يخافوننا (إسلاموفوبيا)؟ وقد تصاعد من جديد بعد الاعتداء الإرهابي في نيوزيلندا الأسبوع الماضي. ولأنه (سؤالنا) فسننشغل بمناقشة بعض تفاصيله هنا.
وتتنوع الجهات والتكتلات التي تقف وراء تأجيج الإسلاموفوبيا، ويبلغ هذا التنوع إلى درجة وجود مسلمين يُسهمون في شكل مؤثر وبالغ في نشر وتعزيز هذه الموجة الخوفية.
سنبدأ في الجانب الغربي، حيث تنطلق فكرة تعزيز الإسلاموفوبيا من ثلاثة منطلقات أساسية:
الأول: القلق من أسلمة العالم؛ وهو هاجس يبدو مُقلِقًا لدى عدد من مثقفي وإستراتيجيي أوروبا، لم يعد خافيًا أو مستترًا كما كان من قبلُ، إذ أصبح الكثير منهم يُعلن أن تزايد أعداد المسلمين في الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط هو تهديد واضح للتوازن الديموغرافي مع دول الضفة الشمالية منه.
من جانب آخر؛ فإن باحثين يسمون ما يجري بأنه ليس إسلاموفوبيا بل هو (دينفوبيا)، وأن هذه الفئة تنطلق في خوفها من الأسلمة ليس لأجل خدمة دين آخر بديل عن الإسلام، بل لأجل عالم خالٍ من الأديان.
الثاني: تداخل العنصرية القومية بالعنصرية الدينية: وهو تداخل قد يكون لاإراديًّا أحيانًا؛ إذ يكمن في العقل الباطن للباحث ضدّية مزدوجة ينصهر فيها القومي بالديني. تتصاعد أعراض هذه العنصريات إذا تمَّ تغذيتها من ثلاث فئات منتفعة، هم: الإعلاميون، والرأسماليون، ورجال الدين. يتزايد تأثير الفئتين الأوليين في الغرب عنه عندنا، ويتزايد تأثير الفئة الثالثة عندنا عنه عند الغرب. ليس هذا بسبب التسامح الديني عند الغرب ولكن بسبب أن الدين يحظى عندنا بأهمية ونفوذ أكثر مما هو عند الغرب.
الثالث: تغطية جرائم إسرائيل وضغوط الصهيونية: وهنا يكمن التنازع في مشهد الكراهية بين الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) ومعاداة السامية (الأنتي سيميتزم)، إذ لا يمكن أن تثبت أنك بريء وخالٍ من أعراض “العداء للسامية”، وهي براءة مهمة في الغرب من أجل النجاح والسلامة ما لم تكن مؤمنًا ومُعزِّزًا لهاجس الإسلاموفوبيا، الجناح الآخر الذي يحتاجه الإنسان الغربي، مع جناح عدم معاداة السامية، للطيران والتحليق في أجواء المناصب والرفاهية واللمعان.
لكن ماذا عن إسهام المسلمين في تعزيز الإسلاموفوبيا؟ في هذا الصدد يجدر الحديث عن نوعين من الإسهام: الأول هو الذي يأتي من لدن الجماعات الإسلامية المتشددة، حين تتخذ العنفَ والإرهاب وسيلةً لتعاملها مع الآخر (علمًا بأن هذا الآخر ليس هو دومًا من غير المسلمين)، لكن هذا الإرهاب الذي يُفجِّر باسم الإسلام لا بد من أن يسهم في تكوين مشاعر خوف من الإسلام، خصوصًا ممَّن لا يعرف الإسلام وبالتالي لا يستطيع التفريقَ بين قيم الإسلام وممارسات المسلمين.
لذا فإننا مهما تحيزنا لذواتنا وديننا وثقافتنا، فلا نستطيع أن نُخلي مسؤوليتنا كمسلمين من تحمُّل قسط كافٍ من شيوع الإسلاموفوبيا، بغض النظر عمَّن يُشيع هذا المفهوم أو الهاجس من زرّاع الكراهية من الطرفين.
صنف آخر من المسلمين ممن يُسهمون في خدمة الإسلاموفوبيا هم مَن يُمكن وصفهم بـ (الإرهابيين الجُدد). وهم أولئك الفئة من المسلمين الذي يُخوِّفون الناس من الإسلام، من منطلقات لا دينية بل براغماتية نفعية، يسميها الباحث الفرنسي فنسان جيسير: (إسلاموفوبيا مسلمة Islamophobie musulmane) يقدِّمها مَن يُسمِّيهم جيسير: (مسلمون تحت الطلب)؛ وهم فئة من الكُتَّاب المسلمين الذين أصبحوا ضيوفًا دائمين على الإعلام الغربي وخبراءَ في عدد من المؤسسات ذات الصلة، حيث إنَّهم يؤدون دور (الشاهد من أهله)، وهي شهادة مضاعفة القيمة والأثر. لا نعني الذين يتحدثون عن الحركات المتطرفة أو العمليات الإرهابية بالنقد والتحليل، فهذا أمر مُتاح لهم ولغيرهم، لكن جيسير يتحدث عن أولئك (المسلمين) الذين يزرعون الخوف الشمولي من الإسلام بوصفهم شهودًا من الداخل على العنف الأصيل في الدين الإسلامي، ثم يلعب هذا الخبير، ذو الاسم الإسلامي الرنان، على لغة التهيؤات والرعب التي تتيح له كوسيلة أخيرة تبرير بقائه بوصفه “خبيرًا إعلاميًّا”.
أي أن إسهام المسلمين أنفسهم في تأجيج الإسلاموفوبيا يمكن إيجازه في شكلين: التخويف بالإسلام، أو التخويف من الإسلام.
لم أستغرب أن تنجح ماكينة الإسلاموفوبيا في تأجيج العنف والوحشية لدى بعض أبناء الغرب ليخرج منهم مثل سفاح نيوزيلندا، لكني استغربتُ أن الإسلاموفوبيا نجحت في بعثرة وإرباك مواقف بعض أبناء المسلمين.
وفي هذا الصدد، فإننا كثيرًا ما نُهمل البحثَ أو الإشارة إلى تفسير دوافع العنف، ليس من منطلق تبريري، بل تفسيري للوقائع المحيطة بالعنف.
يجب أيضًا أن نُدرك شطري معادلة ذات اتجاهين تتلخص في أن: العنف يؤدي إلى الفوبيا، وبالمقابل أيضًا فإن الفوبيا تؤدي إلى عنف.
كما يجدر بنا أن نؤكد أنه لا ينبغي أن نعالج أو نقاوم الإسلاموفوبيا بفوبيا مضادة، إذ سننخرط حينها في دوامة عنف وكراهية تبادلية مع الآخر يمكن وصفها بأنها (إنسانوفوبيا) يتم تغذيتها بمشاعر الكراهية من الأطراف كافة.
والخلاصة، أنَّ تزايد نفوذ التيارات اليمينية الآنَ في هذا العالم بأسره، ستحيلنا من العيش تحت مهددات الإسلاموفوبيا والعلمانوفوبيا إلى العيش في كنف الإنسانوفوبيا، حيث الغابة البشرية التي يخاف فيها الإنسان من الإنسان.
ونحن نشعر، عند الغضب الشديد أو الفرح الشديد، أن داخل كل إنسان منَّا يوجد كائن همجي كامن، يُطلُّ برأسه عندما تحتدّ مشاعرنا، ويتفاوت حجم إطلالته وصخبه حسب تربية وتنشئة الإنسان الحاضن لهذا الكائن.
ويمكننا أن نوظف هنا تشبيه ليفي شتراوس، البدائية والتمدن بـ (النيء والمطبوخ)، في أن نقول إن الإنسان هو لحمة مطبوخة على نار الحضارات المتعاقبة، لكننا عندما نتعمق بالسكين داخل هذه اللحمة سنجد لحمًا نيئًا بالداخل لم تبلغه عملية الطبخ. نحن نختلف من إنسان إلى آخر على قدر ما فينا من لحم نيء غير مطبوخ، ومهما تتعرض اللحمة من طبخ فسنجد داخلها بقايا من لحم نيء أو غير ناضج، ما لم يتم إحراقها بالكلية… إحراق الإنسان من بشريته!
يؤكد هوبز أن «السلطة هي الشيء الوحيد الذي يقف بيننا وبين العودة للهمجية». أتفقُ مع هذا التحذير، ولكن بالمقابل أؤكد أن السلطة ذاتها (بمعنى التسلّط هنا) هي التي تفتح المجال لارتكاب الهمجية من جديد… همجية القوي ضد الضعيف.
وعقَّب د. خالد الرديعان: سوف أتناول زوايا مختلفة عما طُرح في الورقة الرئيسة، تتعلق بمفهوم “خطاب الكراهية”، وبعض “الأدوات” التي تُستخدم لتأجيج هذا الخطاب.
من خلال استعراضي لبعض الأدبيات التي تناولت خطاب الكراهية، فقد لاحظتُ وجود تباين في تحديد المفهوم وذلك لانسحابه على عدة ممارسات (كتابة، خطابة، دراما، مسرح، ترويج صور مقولبة ونمطية، حملات انتخابية… إلخ)، ينتج عنها في النهاية خلق مشاعر مضادة تجاه فئة اجتماعية؛ وهو ما قد يقود في نهاية المطاف إلى توترات وتشرذم يؤثر على النسيج الاجتماعي والعلاقات الدولية. وكتعريف إجرائي، فإنه يمكن القول: إنَّ “خطاب الكراهية” هو كل سلوك أو نص منشور أو مُذاع في وسائل الإعلام التقليدية أو وسائل التواصل الاجتماعي يقوم به بعض الرموز بغرض الحط من قدر فئة أو جماعة، والقول بدونيتها أو مسؤوليتها عن بعض الظواهر السلبية، أو الأعمال المشينة التي تجرِّمها القوانين والثقافات الإنسانية.
أدوات خطاب الكراهية – كما أشار د. زياد – قد تكون اللعب على وتر الاقتصاد والتنافس على موارد شحيحة وسيطرة فئة ما وحرمان فئات أخرى. ومثل هذا الخطاب يتم ترويجه عادةً لخلق الكراهية ضد المهاجرين والوافدين في بعض الدول الأوروبية وخاصة عند ارتفاع مستويات البطالة فيها لأسباب لا علاقة للمهاجرين بها ولا سيما أن أعداد المهاجرين في ازدياد، سواء بالهجرة أو التوالد الطبيعي. يُضاف لذلك نزعة إنجاب عدد كبير من الأبناء كما هو ملحوظ عند الباكستانيين في إنجلترا على سبيل المثال، ما يدفع الإنجليزي للاعتقاد أن ذلك مما يضغط على خدمات الرعاية الاجتماعية التي يتمُّ تغطيتها من أموال دافعي الضرائب.
ومن الأدوات الأخرى التي تُوظَّف في خطاب الكراهية ما يجري في بعض الحملات الانتخابية التي يقودها بعض المرشحين السياسيين من بث عبارات بغيضة، واتخاذ مواقف حادة ضد بعض الفئات والأقليات وأصحاب الأديان الأخرى بغرض كسب أصوات الناخبين. يصاحب ذلك كتابات صحفية وبرامج إعلامية مؤيدة لما يقوله هذا السياسي، وهو ما يجعل خطاب الأخير شعبويًّا دون أن يفطن الجميع إلى مدى التأثير السلبي الذي يُحدِثه هذا العمل الإعلامي وهو يبث خطاب كراهية.
أجادلُ بهذا الخصوص بأن خلو السياسة والعمل السياسي من الأخلاق والنزاهة والعدل والاعتدال في طرح البرامج الانتخابية يُعدُّ عاملًا قويًا في شيوع خطاب الكراهية. أقول ذلك وأنا لا أرى قدوات سياسية تاريخية تقود العالم؛ فجميعهم تقريبًًا انقرضوا، وكان آخرهم نيلسون مانديلا.
ومن الأدوات التي أشاعت خطاب الكراهية تغوُّل الاحتكار الاقتصادي والتنافس بين الدول والجماعات، ما يعيدنا مرة أخرى إلى دور العامل الاقتصادي وشدة تأثيره في خلق الأزمات؛ وذلك عندما تلجأ بعض الدول الكبرى إلى الهيمنة على دول أخرى أو ابتزازها وسلب ثرواتها بطرق سياسية ملتوية وانتهازية، كإشعال الحروب بين هذه الدول بهدف بيعها السلاح في النهاية. هذا المناخ يُولِّد خطابات كراهية متبادلة بسبب الأطماع الاقتصادية واستقواء الدول النافذة على الدول الضعيفة.
أداة إضافية من أدوات خطاب الكراهية تتمثل في توظيف الفروق الإثنية والعرقية والقومية والدينية في القول بتفوق فئة على أخرى بدعاوى لا تصمد أمام البحث العلمي لكنها تستهوي الغوغاء؛ كالقول بتفوق البيض على الملونين والتدليل على ذلك بنجاح البيض وفشل غيرهم، دون الأخذ في الاعتبار عدم تساوي الفرص أمام الجميع. مناخ كهذا من اللامساواة والتمييز العنصري واللعب على الوتر الإثني يعدُّ بلا شك عاملًا أساسيًا في توليد خطاب كراهية يقود في النهاية إلى عنف وعنف مضاد.
كما عقَّب د. منصور المطيري: عندي بعض الوقفات حول قضية “ثقافة الكراهية”:
الوقفة الأولى: حول مفهوم ثقافة أو خطاب الكراهية، الذي أراه أنه ذلك الخطاب الذي يتسم بالتنميط والوصم بحيث يشتمل على التخويف والتحريض والسب والشتم والتحقير، والمتسم بالتعميم ومحاكمة الهوية بشكل عام. وتكون الكراهية ثقافة إذا كانت مستمرة ومتواصلة ومختلطة بالعقائد والقناعات وتُمارَس يوميًًّا.
وخطاب الكراهية – كما يرى علماء الاجتماع – مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بعملية إنتاج الهوية العامة أو الضيقة حيث يتم التركيز على عوامل الاختلاف بين البشر، وتجاهل عوامل التجانس والتشابه. وهو مرتبط بالسياسة ارتباطًا وثيقًا حيث إن حشد الجمهور خلف هدف سياسي معين يتطلب خلق عدو حقيقي أو وهمي يتم من خلاله دفع الجمهور للموافقة والرضا من خلال اللعب على النوازع الفطرية كالحب والخوف والطمع والكره، كما يتم الاستعانة بالمفاهيم الكبرى كالخير والشر والمنفعة والضرر. والسياسة الغربية تجاه الإسلام والمسلمين تُطبِّق هذا بكل نجاح.
الوقفة الثانية: أتفقُ مع الدكتور زياد في أنَّ كراهية الإسلام في الغرب ثقافة وليست مجرد خطاب، لكنني أُنبه أن كراهية الغرب في العالم الإسلامي خطاب وليست ثقافة، وأقصدُ بذلك أن أحداثًا تقع وسياسات تُطبَّق يكون الغرب طرفًا فيها أو صانعًا لها في العالم الإسلامي عمومًا، تفرز عند المسلمين خطابًا تلقائيًا مُعبرًا عن أحاسيس المسلمين ومشاعرهم تجاه هذه السياسات بالرفض لها عند الغالبية، أو بالقبول لها عند بعض الموالين له من العرب والمسلمين، هذا باختصار.
الوقفة الثالثة: لفت انتباهي أن بعض الباحثين عندما يناقشون ظاهرة الإسلاموفوبيا يميلون إلى تبني موقف محايد خوفًا من الاتهام بالانحياز فيقومون بتحميل المسلمين جزءًا من المسؤولية عن تصاعُد ثقافة الكراهية والخوف من الإسلام، ويطرحون في هذا السياق وجودَ بعض الجماعات المتطرفة التي ضربت مصالح أو مناطق داخل الدول الغربية. والحقيقة التي أعتقدُ بها أن العنف الذي مارسته هذه الجماعات أسهم بلا شك في تشويه صورة الإسلام؛ لأنه خالف مبادئ الإسلام التي تُحرِّم قتل المدنيين، وترفض نقض العهد المتمثل في (تأشيرة الدخول)، إلا أن الخوف من الإسلام – في نظري – سبق هذه الجماعات بكثير، لكن تطوُّر آليات الغرب في صناعة وعي الفرد وصياغته بالشكل المرغوب جعلته يتخذ من هذه الجماعات والأحداث مادةً حيوية لإدامة هذا الرهاب لأجل تبرير السياسات العدوانية. ولا يجب أن ننخدع بفترة الهدوء التي تلت الحرب العالمية الثانية وبروز الحرب الباردة التي فرضت نوعًا من التهدئة المؤقتة انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي، فالفترة التي قبلها والفترة التي بعدها شهد فيها المسلمون ويلاتٍ ومآسيَ تجعل ظهور ردات فعل غير متزنة أمرًا محتملًا، يذكر “جيرمي سولت” في كتابه (تفتيت الشرق الأوسط) أن اضطراب الشرق الأوسط كله بسبب سياسات الأوروبيين، ويذكر أن القتلى في منطقة الشام في نهاية الحرب العالمية الأولى بلغ نحو خمسة ملايين نسمة؛ شاركت فرنسا وبريطانيا وإيطاليا في هذه المجازر، وفي هذه الأيام نُشاهد المجازر وتدمير المدن الذي تقوده وتُغذيه الدول الغربية عيانًا بيانًا في نفس المكان، والذين يلومون المسلمين في رفضهم لهذه الاعتداءات لا يقدِّمون خيارًا غير الاستسلام للذبح.
وأنا هنا أصفُ ولا أُبرر، فهذه الجماعات (القاعدة وداعش ومثيلاتها) تطرفت من وجهة نظر المسلمين في أنها تصرفت بعيدًا عن موافقتهم وبلا إذن منهم، كما أنها جعلتهم دولًا وأفرادًا أعداءً لها أيضًا واستهدفتهم بالقتل، كما أنها من ناحية أخرى تميزت بسذاجة سياسية رهيبة.
وعطفًا على ما سبق، فأنا أُحمِّل الغرب المسؤولية كاملة عن خطاب الكراهية هذا؛ وأقصد بالغرب الدوائر السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية الصانعة للسياسة والمُشكِّلة للرأي العام، ولا أقصدُ الفردَ العادي. ولا يتحمل المسلمون أيَّ مسؤولية عن هذا الخطاب إلا بمقدار عجزهم عن اختراق الرأي العام الأوروبي، أو بمقدار خيانة الخائنين منهم وهم الفريق الذي أشار إليه د. زياد، كسلمان رشدي وغيره.
الوقفة الرابعة: أتفقُ مع ما ذكره د. زياد من أسباب ظاهرة الخوف المرضي من الإسلام، وإن كنتُ أفضِّل طرحَها من خلال مداخل ثلاثة، كلها مسارات تصبُّ في مستنقع المشكلة:
– المسار الأول: المشاعر السلبية العميقة المغروسة في وعي النخبة الغربية وبعض العامة ضد الإسلام والمسلمين، وهي عبارة عن تحيُّز تاريخي وثقافي ضد الإسلام كدين وضد المسلمين كحضارة، انطلق من لحظة رفض نبوة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، مرورًا بالتراث الذي تركه يوحنا الدمشقي وتلميذه ابن قرة الذي عزَّزه ونشره وتبنَّاه فيما بعدُ الاستشراق بشكل عام، وانتهاءً بالآلة الإعلامية الهائلة المعاصرة التي تردد نفس المقولات وتزيد عليها بتأثير الصورة.
– المسار الثاني: التغذية المستمرة التي لا تتوقف لهذه الظاهرة من قبل أحداث ومواقف عسكرية وثقافية لا تنقطع، تجعل جذوة هذا الخوف مشتعلةً، فهناك هجمات ١١ سبتمبر، وما تلاها من حروب. ومن ناحية أخرى، أثرت مواقف ثقافية مفتعلة – كأزمة الرسوم، والحجاب، وتصريحات البابا بندكت السادس عشر، بل وبعض القادة السياسيين والعسكريين الغربيين أيضًا – في ديمومة هذا الخوف من الإسلام، وأوصلته إلى رجل الشارع البسيط، كمثال (تصريحات بوش الابن، وتصريحات ترامب). وشخصيًّا، عندما أتابع مثل هذه التصريحات والمواقف أتذكر عبارة قرأتها عن هرمان راشينبنج في كتابه “هتلر قال لي”، فقد ذكر أن هتلر لما سُئل: هل من الضروري إزالة اليهود؟ فكان جوابه: “كلا، بل يجب أن نخترعهم، فمن الضروري أن يكون للحركة (النازية) عدوٌّ حسي ملموس، لا عدو مجرد فقط”.
– المسار الثالث: المدخل السياسي الاقتصادي المتمثل في التغيرات الكبرى التي طرأت على الساحة الدولية سياسيًّا واقتصاديًّا خلال العقود الأخيرة؛ كانهيار الاتحاد السوفيتي، وانطلاق العولمة الاقتصادية التي تتطلب توحيد الذوق العالمي، وكذلك تراجع قوى اليسار الغربي التي صعدت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكذلك صعود اليمين الثقافي والديني في الغرب خلال الفترة ذاتها.
كل هذه المداخل تصبُّ في نفس المصب، وهو إدامة الكُره للمسلمين والإسلام، ويلعب النفوذ الصهيوني مع اليمين المسيحي المتصهين دورًا كبيرًا جدًّا في إدامة هذه الحالة وتغييب أي دور للقوى المعتدلة التي يمكن أن تظهر.
ذكرت دراسة أجراها مركز التقدُّم للأمريكيين (The Center For American Progress) عام ٢٠١٢ حول جذور شبكة التخويف من الإسلام أن شبكة صغيرة عبارة عن مجموعة صغيرة مترابطة جدًّا مدعومة بمجموعة من الممولين يقفون وراء تقديم معلومات مضللة حول الإسلام والمسلمين، ويقودون الرأي العام الأمريكي عبر شركاء إعلاميين، وهم خمسة أشخاص (صهاينة): “فرانك جافني”، و”ديفيد يروشالمي”، و”دانيال بايبس”، و”روبرت سبنسر”، و”ستيفن إيمرسون”. فهؤلاء يصنعون هذا الخطاب ويقودون الحوار وطنيًّا وعالميًّا، وما يقولونه يؤثِّر تأثيرًا حقيقيًّا على الجمهور الأمريكي بشكل عام، وعلى المسلمين الأمريكيين بشكل خاص، كما أن نشاطهم له تأثير سلبي على مسألتين مهمتين لأمريكا:
– إضعاف نسيج الديمقراطية الأمريكية وقوتها، والتأثير على الأمن الوطني.
– خرق المبدأ الدستوري الذي يُعزِّز ويدعم حرية الدين لكل الأمريكيين.
الوقفة الخامسة: باختصار؛ ما ينبغي على العرب والمسلمين أمام هذه الحالة المتكلسة والصلبة، وفي هذه الظروف المتسمة باختلال موازين القوى بشكل يفوق الوصف، هو العمل الجماعي بشكل جاد على أمرين:
* بناء نظام حكم رشيد يتسم بالمسؤولية، ويقوم على العدالة والشورى، ويلتصق بالشعوب ويرعى مصالحها، ويحاول جاهدًا صنع أدوات القوة.
* بناء إستراتيجية صبورة للتواصل والتأثير في الدوائر المؤثرة في القرار، والجمهور الغربي. يكون هدفها توثيق المصالح الاقتصادية، وتقوية الروابط العلمية انطلاقًا من وعي تام بطبيعة الإسلام كما هي لا كما يريد الغرب. ولن تكون هذه الإستراتيجية مؤثرة ما لم تكن نابعة من الإيمان العميق برسالة الإسلام. ولا ينبغي أن يكون هدف هذه الإستراتيجية إزالة الجهل عن الغرب حول الإسلام، والسبب ببساطة أن الغرب لا يجهل الإسلام بل يعرفه تمامًا، ولكن يكون الهدف توثيق العلاقة الاقتصادية والعلمية مع النخبة، والنفاذ المباشر عبر وسائل إعلام فعَّالة ومواكبة للتغيرات في التقنية إلى الشخص العادي الأوروبي والأمريكي. مع البعد التام عن السعي لأي مواجهة عسكرية. وكل هذا لن يتم دون جهد جماعي مشترك ودؤوب.
المداخلات:
تساؤلات وملاحظات حول ثقافة الكراهية:
ذكر د. حمزة بيت المال أن لديه بعض الملاحظات والتساؤلات تتعلق بثقافة الكراهية:
أولًاً: يبدو لي أن مصطلح الإسلامفوبيا مصطلح نحته الإعلام.
ثانيًا: عندما نتكلم عن الإسلام؛ هل نحن نتكلم عن إسلام واحد؟ وإسلام مَن؟
ثالثًًا: ما حجم المسلمين في الدول الغربية من غير المهاجرين؟
رابعًا: كراهية الآخر؛ يبدو لي الآن أنها ردة فعل طبيعية بعد مجتمعات الأعراق والديانات تطوُّر الدولة الوطنية. حاولت العولمة القضاء على الدولة الوطنية، ونشطت على إثرها الشعوبية العرقية، وهذا أعادنا للصراعات بين الشعوب والديانات؛ لذلك نحن الآنَ أمامَ أزمة بشرية ما لم يتم تدارُكها من قِبل عقلاء وحكماء لهم مصداقية عابرة للديانات والأعراق فيبدو لي القادم أسوأ.
صناعة الكراهية:
ومن جانبه، ذهب د. نبيل المبارك إلى أن الكراهية هي صناعة، ولها منتجات متعددة، ولها وسائل وطرق تسويق متطورة، وعبر مناهج متقدمة تُجدِّد تلك الصناعة بشكل مستمر عبر التاريخ، حيث يتم تعليب تلك المنتجات بشكل مبهر، يجعل المستهلك ضعيفَ المقاومة أمامها، وبالتالي لا بد أن يشتريها. وقد يكون وفي هذا الزمان قيادة الصناعة من الغرب عمومًا، بحكم السيطرة الحضارية الكاملة على العالم في كل مناحي الحياة، ولكن التاريخ يقول: إنَّ غير الغرب وفي أوقات سيطرتهم على الحضارة كان لهم شأن في هذه الصناعة، وقد لا تكون بنفس المنهجية الحالية، أو أن تكون بشكل حماس المنتصر والمسيطر على العالم فقط لا أكثر.
والفرق يكون في الأدوات التي تُسوَّق بها هذه الصناعة، مرة باسم الدين، ومرة باسم الوطن، ومرة باسم الاقتصاد، ومرة بسبب عدم صلاحية الفكر الحالي المستهدف للعصر.
السؤال؛ ما الذي نستطيع أن نفعله في ظل الظروف والمعطيات التي نعيشها حاليًّا؟ هل نستطيع أن نقاوم التيار؟ أو هل يجب خفض الرؤوس لبعض الوقت حتى تهدأ الموجة؟
إذا ما قررنا التصدي، هل لدينا الأدوات الكافية؟ ما الذي يجب أن نُغيِّره في فكرنا وثقافتنا وأنظمتنا استعدادًا للمواجهة؟ هل البيت من الداخل محميٌّ بشكل يسمح لنا بالتصدي لكراهية الآخر؟ مع افتراض أننا نحن لا نكره ولا نُقصِي الآخر.
ختامًا؛ فإنني أرى أن الصناعة المنافسة المتقدمة تحتاج إلى صناعة أفضل منها للتغلب عليها، وهو ما يجب أن نعمل عليه.
الصراع المجتمعي الإنساني الحضاري وعلاقته بالكراهية:
أوضح د. راشد العبد الكريم؛ أن الموضوع رغم خطورته، إلا أني أحاول أن أتصوره في إطاره “الطبيعي”، فهو وجه من أوجه الصراع المجتمعي الإنساني الحضاري. نعم، قد تتطرف بعض صوره، بحيث تنجرف إلى عنف مباشر، إلا أنه في سياقه المجمل طبيعي.
يبدو لي أن لهذه الحالة ثلاثة أسباب رئيسة: سببان من الغرب وسبب من أنفسنا: الأول سياسي، فهناك توجُّسات سياسية لدى قادة المجتمع الغربي من (أسلمة) للمجتمع الغربي تُهدِّد القيم الغربية، وهذا صحيح ومُشاهَد. فلا ألومهم من حيث المبدأ، لأنه يساورنا التوجُّس نفسه منهم. والسياسي قد يكون همُّه توظيف هذا التهديد لمصلحته السياسية. الثاني ديني، فكثير من قادة الرأي الديني في الغرب يشعر أن (الإسلام) يُمثِّل تهديدًا، خاصة الإسلام. وأنا أتفهم تخوُّفهم. فكل أصحاب دين لا يريدون دينًا يزاحمهم. هذان السببان – من وجهة نظري – طبيعيان ومتوقَّعان، ويجب أن نتعامل معهما بواقعية، ومن خلال الحوار. السبب الثالث، هو سبب يتعلق بنا، بوصفنا مسلمين، وهو بعض الممارسات التي يقوم بها بعض المسلمين – أو مَن ينتسبون للإسلام – في بلاد الغرب، من استعداء لأهل تلك البلاد وإيجاد شعور بالتهديد لديهم. فأذكر قبيل أحداث سبتمبر حضرتُ خطبة جمعة في مدينة أمريكية، وكان الخطيب من دولة عربية (وأظنُّه كان لاجئًا) يصبُّ جام غضبه على (الكفار) وحضارتهم، ونظامهم، وكيف أنهم يكرهوننا، لدرجة أني -وأنا أصنِّف نفسي متشددًا – استحييتُ من الأمر، وتصورت موقف الأمريكي المسلم (وغير المسلم) الذي يسمع هذه الخطبة. العدل في الخطاب مطلوب، يجب أن نحدد ما نخالفهم فيه ونُبيِّنه، لكن نعترف لهم بما لهم من جوانب إيجابية، خاصة مَن يتمتع بتلك الجوانب.
نقطة أخيرة وهي تتكرر معنا في كثير من القضايا، وهي حضورنا الإعلامي الحي والفاعل. نحن – وأعني السعوديين – لدينا مشكلة في هذا الجانب، يجب أن نعترف بها، ونعالجها. غالبًا الكراهية مصدرها الجهل، وأسوأ منه الجهل المركب وهو امتلاك المعلومة لكن الخاطئة.
ثقافة الكراهية ونظرية المؤامرة:
كذلك تساءل أ. محمد الدندني: هل الكراهية منظمة. فأنا لا أريد أن نرميها على نظرية المؤامرة، ولكن التسارع الرهيب بعد أحداث سبتمبر، وبعدها القاعدة، وداعش، وأحداث كثيرة في منطقتنا والغرب، والآن انتقلت للشرق – يدل على أنها أحداث منظمة أي وراءها إرهاب الدولة لتبرير تدخلات وابتزاز للحصول على تنازلات مادية ومعنوية. ولا أدرى عن صدفة أم لا، لماذا تزايدت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؟!
من جانبها ترى د. فوزية البكر أن قضية تصاعد الكراهية بين الأديان والأعراق قضية معقدة سياسيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا، ومن ثَمَّ لا يمكن إيعازها لسبب واحد.
وذكر د. زياد الدريس أنه مما يؤلم، ليس كراهية الغرب لنا، بل إيمان بعض أبنائنا بأننا (نحن فقط) أسباب كراهية الآخرين لنا. ولو قلتَ إننا نتقاسم الأسباب معهم لقالوا إنك تؤمن بنظرية المؤامرة. وافقه في هذا الطرح أ. محمد الدندني وأضاف: أستغرب ممن يحمل الأسباب علينا، فهل لديهم مرضُ الذاكرة الاختيارية؟ هذه الظاهرة موجودة منذ مئات السنين وبصور وآليات وأعمال مختلة. نعم، فشلت المدارس الإسلامية في استنباط علو إنسانية الدين، ومن يقرأ القرآن الكريم سيجد قمة التحضُّر والإنسانية، فلقد خاطب القرآن البشر في الأمور الكبيرة والمهمة التي تنظم علاقة المسلم بغيره.
لذا على الإنسان المسلم أن يعود لثقافته ومرجعية حياته حتى يكون عادلًًا ومنصفًا في حكمه، فلا يرمي الأحكام بدون سند وبدون دليل.
بينما يعتقد د. خالد الرديعان أن فشل بعض الدول العربية والإسلامية في التنمية، وسيادة الاستبداد السياسي فيها هو ما جعل الغرب ينظر لنا بدونية متناهية. وأتصور أننا نتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية؛ فنحن لم نصلح أحوالنا في حين أن دولًا أقل منا إمكانات اقتصادية نفذت من عنق الزجاجة والعالم ينظر لها باحترام. وهو ما يراه د. زياد الدريس في أن الدول العربية تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية في الفشل التنموي نتيجة الاستبداد السياسي، لكن لا يغيب عن ذهني دومًا أن الموقع الجيوستراتيجي للوطن العربي في وسط هذا العالم هو ميزة وعيب في الوقت نفسه.
فإذا كانت الدول القابعة في أقصى الشرق أو أقصى الجنوب تحتاج إلى جهد واحد للنهوض والإصلاح، فإن دول الشرق (الأوسط) تحتاج إلى أربعة أضعاف الجهد لتحقيق ذلك من بين أنياب القوى العظمى وأطماعها في هذه المنطقة المفصلية. اقتصاديًّا ودينيًّا ومعبريًّا بين ثلاث قارات. أسوق هذا الوضع تفسيرًا وليس تبريرًًا لحال العرب.
في السياق نفسه أوضح د. صدقة فاضل أن المسبب الذاتي للإسلاموفوبيا يسهم كثيرًا في نشوء وتفاقم هذه الظاهرة، إضافةً للمسبب الخارجي.
كثير من الدول العربية والإسلامية متخلفة سياسيًّا، وتحكمها أنظمة استبدادية، بعضها عميلٌ للغرب الرسمي ومتواطئ معه ضد أمته. وكيف يحترم العالم هذا الخرق الفاضح لحقوق الإنسان (مثلًا) الذي يحصل في بعض المجتمعات العربية والإسلامية؟
شبكات التواصل الاجتماعي ونشر ثقافة الكراهية:
في بداية مداخلتها تساءلت د. فوزية البكر: هل انتشار التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي سبب رئيس في تأجيج موجات الكراهية؟ علَّق د. حمزة بيت المال بأنه يعتقد أن لها دورًا كبيرًا، فقد أسهمت في التقارب الفكري بصرف النظر عن الجغرافيا؛ لذلك أصبح الفرد يعيش في جغرافيا بجسده، أما فكريًّا فهو في مكان آخر. وأضاف د. زياد الدريس أن لديه قناعةً بأن وسائل التواصل الاجتماعي قد أسهمت في تمدد ثقافة الكراهية لتصبح في متناول الشعوب/الأفراد وليس فقط بيد المؤسسات الحكومية والأهلية كما كان مسبقًًا.
وسائل التكنولوجيا الحديثة أتاحت للناس أن يعبّروا بسهولة عن كراهيتهم لأفراد ورموز من أبناء وطنهم أو لتأجيج كراهية قبلية ومناطقية داخل الوطن نفسه، أو لقيادة حملة شعبية عبر (هاشتاق) تكريهي ضد شعب آخر، فيكون لهذا الهاشتاق مفعولٌ أشدُّ من الحملات التي كان بها يقوم بها الإعلام الرسمي لدولة ضد دولة أخرى.
الكراهية بين السياسيين كانت تشتعل وتزول سريعًا وفق أعراف دبلوماسية تحكم السيطرة عليها، أما الكراهية بين الشعوب فأمد علاجها يطول، وقد لا يزول.
كما ذكرت د. فوزية البكر أنه كان هناك حوار جميل في الـ”سي إن إن” بين ثلة من الخبراء بعد حادثة نيوزيلندا حول الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام كذلك في تأجيج الكراهية بين الثقافات والشعوب، وتوصَّل المناقشون إلى أن طبيعة وظائف الإعلام التي تبحث عن الخبر والإثارة ستظل تلاحق الأخبار غير الاعتيادية لجذب مشاهدين أكثر، لكن أكدوا على ضرورة وجود ضوابط أخلاقية يلتزم بها الجميع. أما فيما يخص وسائل التواصل الاجتماعي فلم يجدوا حلًًّا.
بينما أضافت د. وفاء طيبة أنه يُعرض الآن في CNN خطاب كراهية عن السعودية بالذات؛ فيه خلط لحقائق بأكاذيب، وتعميم أقوال خاطئة لقلة بأنها عموم فكر السعوديين، وتحريف لمعنى حقائق لإظهار المملكة والإسلام في أسوأ صورة. للأسف ليس لدينا إعلام مقابل يتمكن من توصيل الحقائق.
وذهبت د. عائشة الأحمدي إلى أنه ما من شك فيه أن وسائل التواصل الاجتماعي تتشارك مع فئة من السياسيين والمُنظِّرين والمنحرفين الدينيين في تحمُّل مسؤولية نشر الكراهية والترويج للتطرف، وأُولَى الإجابات المطلوبة على هذه الظاهرة التدميرية:
١. قيام السلطات المعنية بممارسة دورها القانوني والسياسي، وإيجاد مدونة سلوك عالمية لضبط وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاتها، حتى لا تُعمم التسمم العنصري والتلوث الفكري، في مواجهة ثقافة الكراهية والموت.
٢. لا بد من بلورة ميثاق شرف بين الدول والأديان ضد التطرف والقتل الجماعي، على مثال وثيقة “الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” التي وقَّعها في أبو ظبي في فبراير 2019 البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب.
ولا يخفى على المراقب لهذه الظاهرة، ما للدور الإعلامي بأدواته المختلفة من تأجيج لهذه الظاهرة، وإحياء نارها، كلما خفَّ لظاها، وجميعنا يذكر الفكرة التي دار حولها فيلم “القناص الأمريكي”، وهذه الصناعة المسمومة للفيلم الذي تحدثت عنه الميديا بطريقة مكثفة حتى تصنع حوله ضجة كبرى. وفحوى رسالته دارت حول مضمون “كل العراقيين إرهابيون ويستحقون الموت”، وجميعنا أيضًا يعلم الدور الذي يلعبه الخطاب السياسي والإعلامي والثقافي والديني في تأجيج ثقافة الكراهية، وفي إخماد نارها برفع أصوات ثقافات مناهضة لها كثقافة التسامح، والحوار والانفتاح، ولا يمكن في هذا الباب إلا أن تتصدر مؤسسات التربية النظامية وغير النظامية المشهد الدولي والإقليمي والمحلي.
السياسة وثقافة الكراهية:
وترى أ. فائزة العجروش أن المواطنين البسطاء، والمقيمين الأبرياء، والمهاجرين العزّل، هم من تبلعهم نيران الكراهية والحقد والشر الناتج عن التطرف النتن والسياسة المتقلبة. والكراهية تتشكل في عدة أنواع، منها: العنف الفكري والعنف النفسي على مدار الوقت، وهما من الأمور المهمة التي لا يجب إغفالها، ولكن للأسف فإن ما يلفت الانتباه هو العنف الجسدي فقط عند حدوث هجوم إرهابي.
كما أننا إذا عدنا لحادثة نيوزيلندا نجد أن رئيسة الوزراء وما فعلته كان طريقة إدارة دولة باحتواء الموقف ولبس الحجاب كرمزية للتضامن، هي بذكاء تخلصت من العنصرية التي منعت بقية حكام الغرب من نفس ردة الفعل في الحوادث المشابهة السابقة. وأكدت على أن وحدة الشعب والوطن أكبر رد على العنصرية وكراهية المسلمين
(We are one) “نحن واحد” هذا ما كررته رئيسة وزرائهم، وكأنها طبقت حديث سيدنا محمد: ”مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. وهذه أخلاق الإسلام ورحمته، (وليت قومنا يفقهون لو حدث العكس كيف سيكون تصرفهم؟.
وهذه فرصة لتفعيل دور الإعلام المُوجَّه داخليًّا وخارجيًّا لكل مَن تسوِّل له نفسه بالتنمر والتهجم على أي فئة مستضعفة في الوطن، لن نقول: نحن وهم، بل كلنا واحد. والتأكيد على أن وحدة الشعب والوطن أكبر علاج للعنصرية ونبذ الكراهية ونشر ثقافة التعايش مع الأديان الأخرى، ولبثِّ سماحة الإسلام ودعوته للتعايش بدلًا من أن تقوم بها الدول الغربية.
الإعلام وزراعة الخوف من المجتمعات الإسلامية:
يتصور د. منصور المطيري أنَّ تحويلَ المشكلات الخاصة إلى دراما محزنة ذارفة للدموع تتضمن شيطنة الأسرة السعودية والمجتمع والدولة – أحدُ أساليب الإعلام الغربي الثابتة المتكررة معه، ومع كل المجتمعات الإسلامية. يبدأ هذا الأسلوب عادةً بتحويل الخلاف الأسري إلى مشكلة، والمشكلة إلى جريمة يُنسب السبب فيها إلى الدين والثقافة والمجتمع، ثم يلي ذلك السعي الجاد إلى تحويل أي قضية من هذا النوع إلى رمز لحالة تخلُّف ورجعية وبدائية في محاولة لإقناع المشاهد بالتفوق الثقافي لهذا الغربي، وتغرس في نفس المسلم أو العربي فضلًًا عن غيره حاجةَ المجتمعات المسلمة لتبعية الغرب، وهي عملية يُطلق عليها دائما اسمُ التحديث والحداثة.
هذا الأسلوب الذي تمارسه وسائل الإعلام الغربي باستمرار يزرع فعلًا الخوفَ والنفورَ وسوءَ الظنِّ من المجتمعات المسلمة وفيها. ويدل على أن هذا الأسلوب صناعة مقصودة هو تغييب مشكلات المرأة الغربية التي هي أشدُّ وأنكى عن هذا الأسلوب، وإذا عُرضت فإنها تُعرض في إطارها وحجمها الحقيقي.
وهذا التغييب يشبه تمامًا أسلوب هذا الإعلام نفسه مع تغييب العمليات الإرهابية التي يرتكبها الغربيون، فالتناسب بين التغطية وواقع العمليات الإرهابية فظيعٌ جدًًّا.
خطابات الكراهية بين المهاجرين المسلمين:
وأكد د. عبد العزيز الحرقان أن التخوُّف من الإسلام في دول الغرب مهما كانت تسميته يعود لعدة ظواهر تنتشر لدى المسلمين: أولها، صعوبة ذوبان المسلمين في المجتمعات المحيطة بهم. تجد أكبر مثال لذلك في بريطانيا التي ما زال الجيل الثالث للمهاجرين الهنود المسلمين مُحافِظًا على دينه وهويته.
ثانيها، أن تدريس ودراسة التاريخ بشكل عام ما زال يركِّز على الأحداث السياسية وليست الثقافية أو العلمية، ومن ثَمَّ ما زالت عداوات الماضي تعود في الخطاب الثقافي الإعلامي.
ومما يعزز خطاب الكراهية بين المهاجرين هو التبني الآلي للخلافات بين الأمم والمذاهب التي انحدروا منها. ومن ذلك الشعور لدى المسلمين بأن استعادة القدس هي واجب إسلامي مرتبط بالعقيدة؛ لذلك وجد اليهود أن ذلك سببٌ كافٍ لتغذية التخوُّف من المسلمين ودينهم.
مسؤولية المسلمين في نمو ظاهرة الإسلاموفوبيا:
يعتقد د. صدقة فاضل أن نسبة كبيرة من المسؤولية عن ظهور ونمو وتوسع الإسلاموفوبيا يقع على العرب والمسلمين أنفسهم. فما هم فيه يعكس صورة سلبية سيئة عنهم وإلى حد كبير. وترى د. فوزية البكر أن هذا بلا شك أحد المسببات، لكن د. منصور المطيري – مثلًا – ذكر اللعبة الصهيونية وخوف الغرب من انتشار الإسلام. ونظرية صراع الحضارات التي تبنتها مراكز البحوث في بعض الدول الغربية. أفلا يُعَدُّ هذا أيضًا أحدَ مسببات الإسلاموفوبيا؟
في الوقت نفسه يتفق د. صدقة فاضل مع ما طرحه د. زياد الدريس في ورقته، ويميل لتقسيم مسببات الإسلاموفوبيا لقسمين: مسببات ذاتية، ومسببات خارجية. من أهم المسببات الخارجية: العداء الصهيوني الصليبي، الذي غالبًا ما يتجسد في “المؤامرة الكبرى” التي يُعتبَر مَن يُنكرها جزءًا منها، كما يقولون. علمًا بأن المسببين متداخلان أشد التداخل.
بينما تشعر د. فوزية البكر أننا أحيانًا نتحدث مع أنفسنا فقط. أي أن الآخر المعنيَّ بهذا الحوار، والذي يدور جدلنا حول موقفه لا يسمعنا ولا يعي أيًّا من مواقفنا! ما العمل؟
هل يمكن للقاءات بين مفكرين من الأطراف المتضادة تقودها مراكز فكر ودراسات إستراتيجية قد يكون لها أثر في تخفيف حدة هذه العزلة والمساعدة على فهم الآخر المختلف؟ في هذا السياق يرى د. عبد الرحمن الهدلق أن الدراسات متعددة واللقاءات كثيرة، منها الرسمي والأكاديمي والمتضمن مفكرين، لكن للأسف دون نتائج تُذكر على أرض الواقع، حيث تغلبُ عليها المجاملات والتنازلات. الأفضل تحييد المتطرفين من الطرفين من خلال نشر الوعي كخطوة أولى.
الدعاية الاستشراقية:
أشار د. منصور المطيري إلى أن أحد الدارسين المشهورين للنازية، وهو الألماني وليام شيرر تحدث في دراسته الرائعة التي عنوانها (صعود وسقوط الرايخ الثالث) عن العقلية الملتوية أو الذهنية المعوجة، ويَقصد بالعقلية الملتوية تلك العقلية التي خضعت وسلمت لما تبثُّه الدعاية النازية في ذلك الوقت، فذكر أن هذه الذهنية تُردد بشكل ببغائي ما تقوله الآلة الإعلامية لجوبلز وهتلر، ويكون الحوار معها ضربًا من العبث، فعندما تحاول تصحيح معلومة أنت تعرف جيدًا كيف صُنِعت؟ ومتى أُذيعت؟ تُجابه باستنكار شديد وكأنما نطقتَ بالكفر. ويصل شيرر إلى نتيجة مفادها (أن الاعتياد على غذاء مستمر على مرِّ السنين من التزييف والتشويه والتزوير يُنتِج عقلًًا مُضلَّلًا وزائفًا).
تركت الدعاية الاستشراقية الغربية المتواصلة والمتصفة بمنهجية ملتوية أيضًا في البحث تعتمد على آلية “الانحياز التأكيدي” (assertive bias) في المجتمع الغربي، وعند بعض المسلمين الذين تعرضوا لها نفس الآثار التي تركتها الدعاية النازية في نفوس الألمان في حينه، وهي الذهنية الملتوية والعقلية المعوجة، ومن المعلوم للمتابع أن الدعاية الاستشراقية انتقلت إلى الآلة الإعلامية الغربية والتصقت بالقرار السياسي الإستراتيجي الغربي.
هذه الذهنية الملتوية ألحظها عند بعض المسلمين الذين يُكررون بشكل ببغائي نفس الدعاية الاستشراقية. وأقتصرُ على مثال المرأة، فالدعاية الاستشراقية تقول إنَّ الإسلام يأمرُ بضرب المرأة. والحقيقة أن الإسلام نهى عن ضرب المرأة وحرَّمه وجعله من الاعتداء الذي يُؤاخذ عليه الشخص، وأمر بإكرامها وعدم إهانتها. وإنما ورد في القرآن معالجة لمشكلة حقيقية واقعية قد تتكرر كثيرًا في بعض الأسر وهي (نشوز الزوجة)، ومعناه رفض الزوجة القيام بما يجب عليها، وأكرر يجب عليها، وجاءت هذه الخطوة كآخر حلٍّ، أي أنها آخر الخيارات، والغرض منه ليس العدوان وإنما التأديب؛ ولذلك أفاض الفقهاء في وضع صفة التأديب والأداة والموضع الذي يكون فيه الضرب. وفوق ذلك كله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولن يضربَ خيارُكم). هذا الأمر الواقعي الذي يهذِّب لحظة الاختلاف بين الزوجين ويمنع تطورها إلى عدوان وتهشيم رؤوس كما تعانيه الزوجة في الغرب والزوجة في بعض المجتمعات المسلمة الجاهلة، جعلته الذهنية الملتوية عند المستشرقين وتلاميذهم من المسلمين أن الإسلام يأمر بضرب المرأة.
والقضية الثانية التي تدندن حولها الذهنية الملتوية هي بعض الأحاديث التي حذرت المرأة من النار، فقد جاءت هذه الأحاديث في سياق تعليمي في أثناء اجتماع النساء في العيد وفي صلاة الكسوف، فكانت مناسبة للوعظ عبر التنبيه على بعض العيوب والطباع المذمومة، والتحفيز على البذل والعطاء والصدقة، ولم يقصد – صلى الله عليه وسلم – سوء الظن بالمرأة وتحقيرها وفضيحتها، ولا يفهمه بهذا الشكل إلا العقلية والذهنية الملتوية.
فالمرأة والرجل لا يدخلون الجنة أو النار بسبب جنسهم وإنما بسبب أعمالهم، وهذه هي القاعدة التي عليها كل نصوص الكتاب والسنة. الذهنية الملتوية هي التي تُخرِج بعضَ النصوص عن سياقها وتُفسِّرها حسب هواها كنوع من الانحياز التأكيدي. والأغرب من ذلك أن هؤلاء التوابع لا يعترفون ولا يفهمون أن لله في كلامه قصدًا أو دلالة، وإنما يسعون لأن يكون قصدُهم هم كيفما كان هو معنى النص. وهذا انحراف لا علاجَ له في العقل، فهم لا يسمحون أن يُسقِط غيرُهم فهمَه على كلامهم، ويغضبون حينما يُفسِّر غيرُهم كلامَهم بغيرِ مقصودهم.
أضاف د. خالد الرديعان؛ وذكر إدوارد سعيد وأظن في كتابه “الاستشراق” أن الباحث العربي قد يقتبس عن كُتَّاب غربيين وأوروبيين كتبوا عن مجتمع هذا الباحث العربي، ومن ثَمَّ يُكرِّس فكرة نمطية عن مجتمعه اعتمادًا على مصادر متحيزة.
فعندما يأتي باحث عربي يريد دراسة البداوة – مثلًا – فإنه قد يقتبس عن مستشرقين ومستعربين عاشوا مع البدو، لكن هذا الباحث لا يفحص مقولاتهم بدقة بغرض نقدها وتصحيحها. وهنا خطورة بعض المصادر الغربية التي تتحدث عن مجتمعاتنا بتحيُّز وعدم فَهم.
ثقافة الكراهية تبدأ من الصغر:
أشارت أ. بسمة التويجري إلى أن ثقافة الكراهية قد تنشأ في مرحلة مبكرة من حياة الإنسان، وحتى قبل أن تُلوثه المعرفة السلبية وتغزو عقله الكثير من الأفكار والمعتقدات غير السليمة، وإلا كيف نُفسِّر حالات التنمر التي يقوم بها بعض الأطفال في المدارس والتي تؤدي إلى اضطهاد وتعذيب غيرهم من زملائهم، أعتقدُ أن منطق القوة والتسلط قد يلعب دورًا في تغذية دوافع الكراهية لدى الصغار، ومنطق الاستعلاء واعتقاد الشخص أنه على حق والآخرين على باطل قد يُفسِّر تنمُّر بعض الكبار في وسائل التواصل الاجتماعي؛ لذلك يجب التنبُّه لذلك وتوضيح الأمور للصغار قبل تجذُّر هذه الثقافة وقبل فوات الأوان.
الكراهية بين الفطرية والاكتساب:
بدأ أ. عبد الله الضويحي مداخلته بقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [ سورة البقرة: آية 30]. وأضاف أن كلًّا منَّا لديه درجة من الكره تجاه شيء ما. قد يكون هذا الشيء إنسانًا أو حيوانًا أو جمادًا، وقد يكون حسيًّا ماديًّا أو معنويًّا. هذا يدفعني لطرح بعض التساؤلات: هل الكراهية فطرية لدى الإنسان أم صفة مكتسبة؟ لماذا يكره الشخص الآخر؟ هل الكراهية تؤدي للتعصُّب، أم العكس، بمعنى أن الكراهية نتاج للتعصب؟
بينما يعتقد د. خالد الرديعان أن الكراهية سلوك مكتسب ولستُ مع الرأي الذي يقول إنها غريزية؛ الخوف هو الغريزي. يُغذِي الكراهية الإعلام المُوجَّه، والأدلجة السياسية، والمعتقدات عندما تضع حدودًا فاصلة وسميكة بين البشر. كما تلعب الطائفية دورًا مهمًّا في ترسيخ الكراهية، بل وتبريرها والدفاع عنها.
هل نمارس خطاب كراهية؟ أعتقد أننا نفعل ذلك وإن لم يكن بصورة مباشرة؛ وذلك من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية والتربية، والثقافة السياسية، واستحضار الماضي وإسقاطه على الحاضر، والحروب وما يتبعها، إضافة إلى ضرورة خلق العدو أحيانًا لدوره في تماسُك الجماعة، وما يطلق عليه لويس كوزر وظيفية الصراع.
الحُب والكُره أمر طبيعي:
وذكر د. مساعد المحيا؛ الذين يصفون خطابنا أو ثقافتنا بأنها تحمل الكراهية هل هم بريئون منها؟ وهل الكراهية في ذاتها تُعَدُّ أمرًا سيئًا على الإطلاق؟ وهل هناك فرد أو جماعة أو حزب يحبون كلَّ شيء ولا يكرهون أيَّ شيء؟ من يعتقد هذا فأحسب أنه من بادِيَ الرأي، إذ كلُّ مَن يحبّ لا بد أن يكره شيئًا أو أشياء.
فالكراهية من مقتضيات الحب ومن لوازمه، ومن يُحب لا بد أن يكره؛ ولذا كلما ازداد لدى المجتمع والأفراد حُب شيء ما، كان هناك قدرٌ من الكراهية لضده والعكس.
فإذا كنت تحب فلا بد لك أن تكره؛ فالمرء لا يحب الشيء وضده؛ ولذا أشعر أن التخويف من وجود الكراهية والمبالغة في ذلك ربما يقود لنمط من الحياة لا يمكن تصوُّر وجودها.
وكما أشار د. زياد الدريس والزملاء المناقشون فإن الغرب لا يزال مترعًا بأحزاب ومنظمات يمينية متطرفة، برغم كل مظاهر التسويق لمدنيته وتسامحه؛ لذا أجدُ أن من الطبيعي مثلًا أن نكره كلَّ مَنْ يقف ضد مصالحنا، لكن ذلك لا يعني أن نظلمه أو نبخسه حقه؛ ولذا فإن الله نهى عن عدم العدل ولم ينه عن الشنآن، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[ المائدة: آية 8].
بينما يرى د. زياد الدريس أن هناك فرقًا بين “الكراهية” و”ثقافة الكراهية”، فشتان بين الأمرين.
“الكراهية” أمرٌ فطري مجبول عليه الإنسان بطبعه، يزيد وينقص في وجدان الإنسان بحسب طيبة قلبه وسعة باله. أما “ثقافة الكراهية” فهي شعورٌ صناعي غير فطري، تصنعه الأيديولوجيا وتغذيه وسائل الإعلام والتحريض.
أضاف د. مساعد المحيا أنه ما دامت الثقافة أمرًا غيرَ فطري، فبالتالي يمكن أن تصنعه الأحداث ومتغيراتها. ويمكننا أن ندعو الناس لثقافة الحب ونبذ ثقافة الكراهية، لكن هذا سيظل في إطاره النظري، إذ حينما يصطدم بواقع الممارسة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية يتضح أن الواقع يتحول لصناعة ممارسة ثقافة كراهية.
المثالية البعيدة عن الواقع تظلُّ حالمةً ولا تستطيع الصمودَ في واقع الإنسانية البشري. والايمان بهذا الواقع يخفف وطأة كلِّ ما نعيشه من ممارسات ومعايير مزدوجة؛ لأن ذلك يصبُّ في إطار فَهمه، ومن ثَمَّ حُسن التعامل معه، والنفي المطلق هو تعلُّق بأستار حبال وهمية.
نحن – في تقديري – لا نستطيع أن نكون ورديين وندعو أو نَدّعي العيشَ بلا ثقافة كراهية، لكننا نستطيع أن ندعوَ لترشيدها وتخفيضها إلى الحدود الدنيا.
تنامي العنصرية والكراهية والحقد بين أفراد المجتمع:
ذكرت د. عبير برهمين؛ أتفقُ مع كثير مما طُرح، وأختلفُ مع بعض الجزئيات. الكراهية هي تعبير عن الرغبة في التمايز والفوقية لمَن لا يملك أيَّ مقومات. وهي نوع من أنواع السلوك الممثل لعدد كبير من المشاعر السلبية؛ كالعنصرية، والحسد، وقلة الإيمان بالله، والرغبة في الانتقام وتدمير الآخر. وهي – في رأيي – سلوك مُكتسَب لا يُولد معنا أو يكون في أساس تركيبة جيناتنا الموروثة بل نتشربه ونتقبله ونحاكيه من خلال نشأتنا متأثرين بيئتنا التي نتربى فيها. الطفل عادةً يُولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. وكذا الشعور بالكراهية، حينما يفشل المرء في الحصول على ما يريده من نجاح وتقدير ومكانة اجتماعية ومادية تتناسب وحجم طموحاته يلجأ لكراهية الآخر ليصب جامَّ غضبه، ويجد شماعةً يُعلق عليها أسبابَ فشله ببساطة لأنها أسهل الطرق.
العمل الدؤوب لتحقيق الرضا النفسي والاستقرار العاطفي والاجتماعي والمادي يعني بذل جهد مضاعف ومواجهة التحديات بصبر وعزيمة، قلَّ من عمِل عليها ونجح في تحقيقها. أما شعور الكراهية فهو حيلة سلوكية نبرِّر فيها إخفاقنا بسبب الآخر الوهمي ونبدأ بتجييش شعور الكراهية وتغذيته حتى نصدق هذه الكذبة. هل نحن كمسلمين مسؤولون عن كراهية الآخرين لنا؟ الإجابة: نعم، وهي ليس من باب جلد الذات أو نظرية المؤامرة، ولكن فلننظر لسلوكيات المتأسلمين ممَّن لم يعرفوا الإسلام الحقَّ، وهم كثيرون، وفي بلادنا بلاد الحرمين مع الأسف عددٌ ليس بقليل، ينطبق عليهم القول ذاته.
الإسلام الحقُّ دين تسامح وحب وتعاضد وتكافل، الأفضلية فيه والتمايز بالتقوى لا غير. وانظروا لواقعنا كمجتمع؛ فنظرة سريعة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والمفردات اللغوية ولغة الخطاب المستخدمة فيه، ونظرة أخرى لمفردات التمييز في خطابنا لبعضنا كمجتمع يُوضِّح كمَّ العنصرية والكراهية والحقد المتنامي بين أفراده، وهو عادةً ما نُلبسه مُسوحًا دينيةً وشعارات وطنية كاذبة لنُبرِّر إقصاءَنا للآخر ونُزايد عليه هذا، ونحن نعيش في وطن واحد. فكيف يا تُرى ستكون نظرة الآخر لنا؟ وما زلنا نلوم الآخرينَ ونتساءل: لماذا يكرهوننا؟ ولماذا يتولد شعور الإسلامفوبيا لدى الغرب؟ من الإنصاف القول: إنَّ السبب بعضه عليهم وبعضه علينا.
الأصل في وجود الكراهية ومعرفة كيف نواجهها:
ذكر د. عبد الله بن ناصر الحمود؛ لعلنا نتناسى لبعض الوقت تقسيماتنا لأنفسنا: عرب وعجم، غرب وشرق، وسط وأطراف، ثم ننظر لكراهية بعضنا لبعض. فعلى مرِّ العصور كان بعضنا (كبشر) يكره بعضنا الآخر، ويُعِدُّ له العُدة للإجهاز عليه بطرق شتى ولمقاصد متنوعة.
والكراهية ليست أمرًا يُعلّمه الناس للناس، أبدًا؛ فهي ليست مُركَّبًا خارجيًّا عن الكينونة الإنسانية، بل هي جزءٌ أصيل منها، وعنصر رئيس من عناصرها، فلا يمكن القول بأن ثمةَ مَن علَّم قابيل كراهية هابيل وقتله، لكنَّ “غرابًا” علَّمه، كيف يواري سوأته. كما لا يمكن تجاوز قول الملائكة لله تعالى: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ وذلك، حتى قبل “الجَعل” نفسه.
كما أن الكراهية هي أحد المنتجات السالبة لـ “الاختلاف”. والاختلاف أصل في خلق الإنسان، فلا يزال الناس مختلفين إلا من رحم الله، “وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ”.
كذلك فإن سنة الله قضت أن يكون الاختلاف أصلًا في خِلْقتنا، فقد شملتنا حكمته تعالى بأن أرسل لنا الرسلَ ليُعلِّمنا “سُلَّم الأخلاق” كلها، لنتسابق في الخيرات. ومن الخيرات زراعة الحب والتآلف والتعايش ونحوها لنكبح مركَّب الاختلاف و”الكراهية” الذي هو ليس من الأخلاق الحميدة أبدًا. ومن هنا، يمكن قراءة ختام الرسالات، في قوله تعالى:﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [ سورة القلم: آية4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
والحل كما أراه؛ ليس في تقصي أسباب الكراهية أبدًا، سواء لتبريرها أو لتشريعها، ولا حتى لنقدها أو انتقادها. الحل في مراجعة دائمة لـ “سُلَّم الأخلاق” في مؤسسات “الناس” كلهم.
فإن أردنا كبح جماح “كراهيتنا” للآخرين، فلندرسْ تعليم بعضنا بعضًا للـ”أخلاق الحميدة”، ولنجعلْ من “الأخلاق الحميدة” معيارًا لكافة شؤوننا فيما بيننا وفيما بيننا وبين الآخرين. فمن غير ترسيخ “مكارم الأخلاق” في الأوساط البشرية لن ينجح “الناس” في مواجهة الـ”كراهية”؛ وبالتالي لن ننجح أبدًا في مواجهة الغلو والتطرف والعنف والإرهاب. نحن في مواجهتنا لكل ذلك، نبدو كمَن يعالج الصداع، بدواء النزلة المعوية.
بداية علاج الكراهية تحقيق السلام مع النفس:
في اعتقاد أ. فايزة الحربي، فإنه من المهم البدء بمصالحة الإنسان لنفسه، وعدم كراهيته لجزء منها وتقبُّلها كما هي، ومحاولة تعديل سلبياتها أساس السلام الإنساني والتصالح الحقيقي، فلو كان الأساس قويًا متينًا فسينطلق منه جميع السلام العالمي المنشود على شتى الأصعدة والمجالات.
كما أنه لا بد من إعادة بناء الذات بشكل صحيح لتعيش السكينة والهدوء، ثم تهذيب هذه الذات لتقبُّل العالم من حولها وتحاول مسايرته والمرونة في مواجهته ومحاولة تطويره وتغييره بما لا يسبب مواجهات صعبة، بل يُحقِّق تأقلمًا وتكيُّفًا وانسجامًا.
كيفية مواجهة الإسلاموفوبيا:
وفي سياق الحديث عن كيفية مواجهة الإسلاموفوبيا أو خطاب الكراهية، ترى أ. مها عقيل أن تكون عبر التناول بشكل رسمي ومقنن:
١. فمبدأ أو حق حرية التعبير المطلقة التي يتمسك بها الغرب والتي تسمح بانتشار الأيديولوجيات المفخخة بالتطرف والكراهية والعنصرية. فرغم أنني أؤمن بحرية الإعلام والتعبير، إلا أنه لا بد أن تكون هناك حدودٌ وضوابط للتعبير.
٢. الخطاب السياسي المحرِّض على الكراهية والعنف يجب أيضًا محاسبة مَن يقوم به. التحريض عبر الخطب السياسية ضد المهاجرين والأقليات الدينية في الغرب في أثناء الانتخابات للفوز بالأصوات يشبه التحريض عبر “الفتاوى” التي يتبناها المتطرفون من أمثال القاعدة وداعش. النتيجة واحدة.
٣. كما أنَّ تطور منصات التواصل الاجتماعي من قدرتها على اكتشاف خطابات الكراهية والعنف وإزالتها قبل فوات الأوان، ووضع أنظمة تجرِّم بثَّ ونشرَ مثل هذه الخطابات والمقاطع. شيءٌ مستغرب أن فيس بوك أزالت مقطع الفيديو لعملية القتل في المسجد في كرايستشيرش ١.٥ بليون مرة خلال ٢٤ ساعة. لماذا تنشر الناس مثل هذا المقطع البشع والمؤذي لمشاعر ذوي الضحايا.
٤. مؤسسات المجتمع المدني وكذلك دور العبادة والجامعات والإعلام والمدارس، لها دور كبير في نشر ثقافة التسامح ومعرفة الآخر وقبوله.
٥. وضع قوانين أكثر صرامةً لبيع الأسلحة.
دور المفكرين والكتاب في تحسين صورة الإسلام والمسلمين:
بينما تعتقد أ. بسمة التويجري أنها لا ترى فائدةً من دور المفكرين والكُتَّاب فيما يخصُّ العالم الخارجي إلا من باب تحسين صورة المسلمين لدى المجتمعات وليس الحكومات. الأجدى أن ينشغل المفكرون والكُتَّاب لدينا بتثقيف العامة، مع أنني من المؤمنين أن العرب والمسلمين شعوب متسامحة في الغالب، وعنصريتنا إن وُجدت فهي ردات فعل ولكن للأسف خاطئة، ومن ثَمَّ تُعمَّم ليس على المسلمين فقط ولكن على الدين كما يقول هذا المخلوق في مقابلته.
في اعتقادي أيضًا أن كراهية الغرب للإسلام والمسلمين ترتكز على آلية علو العرق الأبيض إن جاز القول، وهي ماكينة التحريك، ومع طغيان العلمانية، ولكن الهوية العميقة حتى للملحد منهم هي المسيحية وهي مسيحية مصهينة، أو كما يسميها الغرب نفسه مسيحية البابتيست، فالكنيسة مختطفة وبالذات في أمريكا.
قرارات منظمة التعاون الإسلامي حول الإسلاموفوبيا:
أشارت أ. مها عقيل إلى أن الاتحاد الأوروبي يتفق مع قرار لمنظمة التعاون الإسلامي أصدرته الأسبوع الماضي في اجتماعها الوزاري حول الإسلاموفوبيا بعقد جلسة خاصة في الأمم المتحدة حول الظاهرة.
ومن أهم القرارات التي صدرت عن اجتماع منظمة التعاون الإسلامي الجمعة الماضية: ودعا الاجتماع الوزاري، مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لإحداث مرصد يُعنَى بأعمال الكراهية والعداء والعنف الديني ضد المسلمين، ودعا البيان الختامي الأمينَ العام للأمم المتحدة إلى عقد دورة خاصة للجمعية العامة من أجل إعلان الإسلاموفوبيا شكلًا من أشكال العنصرية وتعيين مقرر خاص معنيّ بمكافحة الإسلاموفوبيا، كما دعا الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الإقليمية والدولية إلى إعلان ١٥ مارس يومًا دوليًّا للتضامن ضد الإسلاموفوبيا، كما طلب من الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي التواصل مع آليات الأمم المتحدة لتوسيع نطاق القرار ١٢٦٧ بشأن العقوبات ليشمل الأفرادَ والكيانات المرتبطة بالمجموعات العرقية المتطرفة.
مبادرات المملكة لحل مشاكل المسلمين:
ترى أ. فائزة العجروش أنه قد يكون من المناسب في ظل الظروف والأزمات المتصاعدة التي تواجه الإسلام والمسلمين في مناطق كثيرة من العالم، أن تتبنى المملكة مبادرةً تحت عنوان “خطة إدارة الطوارئ والأزمات الإسلامية” تكون برئاستها وذلك لمكانتها الإسلامية الرائدة، وعضوية ممثلين من جميع الدول الإسلامية؛ بهدف مواجهة الأزمات التي تستهدف الإسلام والمسلمين، والعمل على إدارة هذه الأزمات بالشكل الذي ينعكس إيجابًا على مصالح الإسلام والمسلمين، ويمنع ردات الفعل السلبية وحدوث أعمال انتقامية من المسلمين لا سمح لها، مما قد يسبب ردود فعل عكسية تجاههم، والدخول في دوامة من الفعل وردات الفعل والانعكاسات المدمرة للجانبين الإسلامي والغربي.
بالإضافة إلى دراسة المفاهيم المغلوطة التي روَّج لها الكثير من المستشرقين الغربيين في فترات زمنية سابقة عن الإسلام والمسلمين، وهو ما رسَّخ من الصورة النمطية السائدة لدى المجتمع الغربي عن الإنسان العربي المسلم.
إعادة فهم النصوص الدينية الخاصة:
وركز أ. جمال ملائكة في مداخلته على أهمية إعادة فهم نصوصنا الدينية الخاصة، وذلك من خلال:
١- الجهاد، وأنه ليس لنشر الدعوة، بل لصد العدوان حيث يُصوِّر الإسلام أنه دين عنف وهجوم.
بل إن بعض مَن يسمونهم علماء ودعاة وخطباء يتحدث صراحة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة بأنه حال أن يصبح للمسلمين قوةٌ فعليهم شنُّ الحروب وغزو العالم بل وسبي نسائهم…إلخ.
٢- الجزية، وقد فُرضت على مَن حارب المسلمين “وقتها”، وليس كل أهل الكتاب كما فسرها المفسرون خطأً.
٣- ضرب المرأة، وأن المقصود هو الانفصال وليس الضرب.
٤- أحاديث التمييز ضد أهل الكتاب، وفي أكثرها إما مكذوبة أو نزلت لحالات خاصة لا يجوز تعميمها.
٥- أحاديث تنم عن إهانة وتمييز ضد المرأة (أكثر أهل النار النساء – لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة – ناقصات عقل ودين… إلخ).
٦- الخطاب الخطير ضد أهل الكتاب والإصرار على أنهم كفار دون فهم أن أكثر الآيات نزلت في اليهود والنصارى “وقت” الرسالة، وأن الآيات كانت ديناميكية مع الحوارات مع أهل الكتاب وجحودهم..إلخ.
الموضوع هنا ليس فقهيًّا كما يعتقد البعض، الموضوع هو سوء تفسير وأخطاء تفسير “يستخدمها” الصهاينة وأعداء المنطقة من سياسيين وإعلاميين في الغرب، للنفخ في نار التمييز والكراهية وتخويف الناس من الإسلام.
إذا قمنا بإعادة فهمنا لديننا ونصوصنا، فسنقوم بتجريد الكارهين لنا من مضي أسلحتهم وهي المصائب التي ذكرتها أعلاه.
أعرف أن البعض لن يعجبه ذلك ولكن هذه هي الحقيقة للأسف، وكل ما ذكرتُه وأكثر يذكره برنارد لويس وفيلدر في هولندا، والسياسي الأسترالي أو النيوزيلندي الذي صرَّح بتصريح يقول: إن ديننا عنيف، ورسولنا كذا، وغيرهم كثير جدًّا، نسمع ونقرأ لهم ليل نهار. علينا إصلاح أنفسنا.
وكانت من التوصيات التي اقترحها أعضاء الملتقى بعد مناقشة القضية، ما يلي:
- التأكيد على مسؤولية المؤسسات السياسية والدينية والتعليمية والإعلامية في نشر قيم الإسلام السمحة المعتدلة المرتكزة على المحبة والسلام.
- تفعيل دور الإعلام المُوجَّه داخليًّا وخارجيًّا، للحد أو التخفيف من مسببات الكراهية وأعراضها.
- ضرورة الشروع في إصلاح سياسي حقيقي، يضمن سيادة الشعوب وتحقيق مصالحها.
- الخطاب السياسي الغربي المحرِّض على الكراهية والعنف ضد المهاجرين والأقليات الدينية موازٍ للتحريض عبر الفتاوى التي تتبنَّاها التنظيمات المتطرفة.
- بناء إستراتيجية طويلة الأجل للتواصل والتأثير في دوائر القرار والجمهور الغربي، بما يُعزِّز المصالح المشتركة في جميع المجالات، وأهمها تغيير الخطاب السياسي الغربي المحرِّض على الكراهية والعنف ضد المهاجرين والأقليات الدينية والعرقية.
- الالتفات إلى دور العامل الاقتصادي وشدة تأثيره في خلق الأزمات، وبالتالي تأجيج مشاعر الكراهية.
- دعوة المراكز البحثية عن أنجح سُبل التغيير الإيجابي للأفكار والثقافات والأنظمة المعينة على التصدي لمشاعر الكراهية داخليًّا وخارجيًّا.
- مؤسسات المجتمع المدني لها دور مفقود في نشر ثقافة الحب والتسامح وقبول الآخر؛ لذا فإنه لا بد من الاهتمام بقيام مؤسسات المجتمع المدني – وأهمها المؤسسات التعليمية – بدورها المهم في نشر مكارم الأخلاق وقِيم الإسلام السمحة المعتدلة وثقافة التسامح والمحبة وقبول الآخر.
- من المهم التفكير في أن الكراهية قد تكون نتاج التعصب، وأنه من المهم كبح جماح التعصُّب بجميع أنواعه (المذهبي، والعرقي، والقبلي، والرياضي)، وتبني مبادرات للحد منه.
- الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني في موضوعه وفي أسلوبه وفي مراعاة المخاطبين، بحيث يتناول المواضيع الملحة التي يطرحها العالم المتشابك المترابط، وبحيث يتسم بأسلوب معاصر في الخطاب وفي انتقاء المعلومة، وبحيث يراعي تنوُّع المخاطبين من مسلمين وغيرهم، ويراعي أعمارهم واحتياجاتهم الفكرية، ويهتم باستعمال الأدوات والوسائل المؤثرة؛ وذلك لكي يقطع الطريق على النزعات والتوجهات الأيديولوجية الراغبة في تبديل حقائق وأحكام الإسلام وتحريفه باسم التجديد.
- قيام المراكز البحثية بدراسة مسببات ظاهرة الكراهية ونتائجها وأنجح السبل لمقاومتها والتخفيف من آثارها.
- الحزم في تطبيق ما نصت عليه الأنظمة في حق مرتكبي كل ما يثير الكراهية في المجتمع، وتطبيق العقوبات المناسبة بعد المحاكمة العادلة لمرتكبيها.
- تطبيق العدالة في المؤسسات الحكومية بشكل يُعزِّز المساواة والمسؤولية.
- حث الجهات المعنية على منع المُحرِّضين بكافة السُّبل، ومحاسبة أصحاب المقاطع أو التغريدات التي تُعزِّز الكراهية في المجتمع.
القضية الثالثة:
الرياضة والتنمية
كاتب الورقة: أ. عبد الله الضويحي.
المعقبان:
د. خالد بن دهيش.
أ. سعيد بن دحية الزهراني.
إدارة الحوار: د. حسين الحكمي
الملخص التنفيذي:
أشارت الورقة الرئيسة إلى أن العلاقة بين الرياضة والتنمية علاقة أزلية، فقد مارس الإنسان الرياضة منذ القدم، حيث كان للرياضة دورٌ كبير في التنمية والتنمية المستدامة. فلم تعد الرياضة غايةً في حد ذاتها يحقق الفرد عن طريقها ذاته وتشغل الأمم وقت شبابها من خلالها، بل أصبحت وسيلةً مؤثرةً، وتسهم بصورة فعالة في تحسين الحياة عمومًا والأفراد والمجتمعات على وجه الخصوص؛ وهو ما يجعلها عنصرًا تمكينيًّا مهمًا في التنمية، وتلعب دورًا كبيرًا في تحقيق التنمية والسلام بالنظر إلى دورها في بث روح التسامح والاحترام وتنميتها بين الأفراد والمجتمعات والكيانات.
وكذلك أوضحت الورقة أنه نظرًا لهذه الأهمية التي تُمثِّلها الرياضة فقد أدركت القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية أهمية الرياضة ودورها في التنمية، فأولتها اهتمامًا كبيرًا في رؤية المملكة 2030، كما تحظى بمتابعة واهتمام من صاحب السمو ولي العهد.
وأكدت التعقيبات على الورقة الرئيسة أن الرياضة من الممكن أن تُسهم بصورة فاعلة وقوية في مجالات التنمية المختلفة؛ الصحية والفكرية والجسدية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. فهي تُعَدُّ من العناصر التمكينية المهمة للتنمية المستدامة لمساهمتها في تحقيق التنمية والسلام؛ لدورها في تشجيع التسامح والاحترام، وتمكين المرأة والشباب والأفراد والمجتمعات لبلوغ الأهداف المنشودة في مجالات الصحة والتعليم والاندماج الاجتماعي، والتقريب بين البشر لدعم مبادرات تسخير الرياضة لأغراض السلام من خلال المناسبات الرياضية العالمية والقارية والإقليمية.
وأشارت العديد من المداخلات التي جرت على الورقة الرئيسة إلى أن الرياضة هي وسيلة ترفيه لكنه ترفيه مفيد في تأثيراته الجانبية، فالرياضة ظاهرها الترفيه وباطنها البناء.
وأوضحت المداخلات أن الرياضة تحوَّلت لتكون إحدى أدوات السياسة، بهدف الوصول لشريحة معينة للتأثير السياسي عليها، والمملكة أمامها فرصة كبيرة لاستخدام الرياضة كقوة ناعمة تستطيع من خلالها التأثير في الآخرين ولا سيما المباريات الكبرى التي يتابعها الملايين في العالم.
كما أكدت المداخلات على أننا بحاجة للالتفات إلى الرياضة وتنميتها على وجه الخصوص باعتبارها مجالًا كاملًا للأعمال الريادية، والتخصصات المهنية القائمة على المهنية والاحترافية، وله وظائف مستقبلية. كما تُعَدُّ الرياضة رافدًًا مهمًّا من روافد الاقتصاد المحلي، وما تسابُق مدن العالم المختلفة لاستضافة الأحداث الرياضية إلا دليل قاطع على ما لهذه الاستضافة من مردود اقتصادي ومنافع معنوية وسمعة دولية.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: أن يتم التعامل مع الرياضة كصناعة قائمة بذاتها لها مردود اقتصادي مؤثر في الاقتصاد المحلي والعالمي سواء باعتبارها منتجًا أو شريكًا في الإنتاج أو باعتبارها قيمة اقتصادية مضافة، التأكيد على أهمية الاستثمارات في قطاع الرياضة في المجتمع باعتبارها توفِّر موردًا هامًا من موارد الاقتصاد الوطني إنْ تمَّ توظيفها بالشكل الصحيح، حث القطاع الخاص على الاستثمار في بناء عدد من الفنادق والمرافق الرياضية وتطوير البنية التحتية والنقل اللوجستي في المناطق الجاذبة للسياحة الرياضية، دفع الشركات الرياضية العالمية- التي نُعتبر من أهم أسواقها- لاستثمار بعض عوائدها في دعم رياضتنا المحلية، دراسة إمكانية استثمار الرياضة كقوة ناعمة يمكن من خلالها التأثير بشكل إيجابي في الآخرين من المجتمعات الأخرى، استغلال الميزة الجغرافية لمناطق مختلفة من المملكة الاستغلالَ الأمثل باحتضان رياضات تتناسب وطبيعة تلك المناطق وجعلها مصدرَ جذب للسياحة الرياضية لتلك المناطق، تسهيل منح التأشيرات السياحية بالتزامن مع إقامة الفعاليات الرياضية العالمية لتنشيط السياحة الرياضية، حث الجهات المسؤولة على استضافة المملكة للأحداث الرياضية الإقليمية والدولية بما يتناسب مع تقاليد المملكة.
مقدمة:
إن ممارسة الرياضة هي وسيلة مُعترف بها لتؤدي دورًا مهمًا في مجال التنمية في مختلف السياقات الجغرافية والثقافية والسياسية. وتشكِّل الرياضة أداةً قوية لتوطيد الروابط والشبكات الاجتماعية، ولتعزيز المُثل العُليا للسلام والأخوة، والتضامن واللاعنف، والتسامح، والعدالة. ويمكن تسهيل معالجة المشاكل في الحالات التي تعقب الأزمات، إذ إنَّ للرياضة قدرةً على جَمْع شمل الشعوب.
وتأتي أهمية قضية الرياضة وعلاقتها بالتنمية في وقت مناسب جدًّا، حيث إنَّ هناك اهتمامًا كبيرًا من الدولة بالقطاع الرياضي، والتأكيد على أهمية الرياضة في جوانب حياتية مختلفة، حتى أن لها تأثيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية؛ لذا فقد طرح ملتقى أسبار قضية “الرياضة والتنمية” من خلال ورقة العمل التي قدَّمها أ. عبد الله الضويحي، وجرت حولها العديد من المداخلات ناقشت: (اعتبار الرياضة نوعًا من الترفيه.. وحصرها في كرة القدم، محاور مهمة حول الوضع الرياضي في المملكة، النشاط الرياضي والعملية التربوية، إستراتيجية تطوير الرياضة المدرسية، الرياضة من منظور ومفهوم سوسيولوجي، الرياضة وأهميتها التي يغفل عنها الكثيرون، علاقة الإعلام بالرياضة، قراءة في مفهوم الرياضة واقتصادياتها، اقتصاديات الرياضة، الرياضة كقوة ناعمة وإحدى أدوات السياسة، أهمية استضافة المملكة للأحداث الرياضية العالمية). وفي النهاية طرح الملتقى عددًا من التوصيات المهمة، وذلك من خلال ورقة العمل التي كتبها الأستاذ/ عبد الله الضويحي، وعقب عليها الدكتور/ خالد بن دهيش، والأستاذ/ سعيد الزهراني.
كتب أ. عبد الله الضويحي: إنَّ العلاقة بين الرياضة والتنمية علاقة أزلية، فقد مارس الإنسان الرياضة منذ استخلافه في الأرض، إذ كان المشي وسيلته الوحيدة في التنقل بين الأمصار لطلب الرزق وعمارة الأرض، فكان لها – أي الرياضة – دورٌ كبير في التنمية والتنمية المستدامة.
وقد جاء الإسلام ليؤكد هذه العلاقة من خلال النصوص القرآنية والسنن النبوية الشريفة، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا… الآية﴾ [هود: آية 61].
وبالعودة إلى الجذور فإن الحروب هي الرحم الذي خرجت منه الرياضة التنافسية؛ فقبل حوالي 3000 سنة كانت الحروب قائمةً بين الولايات المكونة لدولة اليونان، ولإيقاف هذه الحروب ونزيف الدماء جاءت فكرة استبدالها بألعاب تنافسية بين الولايات، منها العدو والمصارعة وسباق الخيل، يشعر الفائز فيها بالنصر على الآخر دون ضحايا أو إراقة للدماء، وكانت تُقام كل أربع سنوات حيث بدأت في عام 776 ق. م واستمرت حتى أصدر الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول في العام 393 ميلادية قرارًا بإلغاء الألعاب الأولمبية، لكن الفرنسي بيير دي كوبرتان أعادها في العصر الحديث بدءًًا من عام 1896 واستمرت حتى الآن.
إذًا؛ الهدف من الرياضة في الأساس هو السلام، والسلام هو القاعدة الصلبة لأي تنمية.
لقد بدأت الرياضة كهواية، وكانت لائحة الدورات الأولمبية تنصُّ على أن يكون المشاركون فيها من الهواة، لكن مع تطوُّر الرياضة وتحولها إلى صناعة وتغير مفهومها والنظر إليها، تحوَّل الرياضيون إلى محترفين للعبة، يمارسون الرياضة كمهنة حيث أصبحت تمثِّل دخلًا قوميًّا للدول ومصدرَ رزق للأفراد.
ولم تعد الرياضة غايةً في حد ذاتها يُحقِّق الفرد عن طريقها ذاتَه وتُشغل الأمم وقتَ شبابها من خلالها، بل أصبحت وسيلةً مؤثرةً وتسهم بصورة فعالة في تحسين الحياة عمومًا، والأفراد والمجتمعات على وجه الخصوص؛ وهو ما يجعلها عنصرًا تمكينيًا مهمًا في التنمية المستدامة، وتلعب دورًا كبيرًا في تحقيق التنمية والسلام بالنظر إلى دورها في بثِّ روح التسامح والاحترام وتنميتها بين الأفراد والمجتمعات والكيانات.
ومن هنا تتسابق الدول ليس على المشاركة فقط في المناسبات الرياضية، ولكن على استضافتها أيضًا، لما في ذلك من مردود اقتصادي ومعنوي على الدولة المستضيفة.
فعلى سبيل المثال: فإن كأس العالم الأخيرة التي أُقيمت الصيف الماضي في روسيا حققت للاقتصاد الروسي ما يقارب 15 مليار دولار، وزارها خلال البطولة 3 ملايين سائح (بزيادة 60% عن نفس الفترة من العام الماضي)؛ ما دعا نائب رئيس الحكومة الروسية “أركادي دفور كوفيتش” أن يقول في مؤتمر صحفي: (لو لم تكن هناك بطولة كأس العالم ما كان الاقتصاد ليسجل النمو الذي نلاحظه الآنَ)؛ فيما قال الرئيس الروسي بوتين قبل أشهرٍ من انطلاقها: “إن صورة بلاده دوليًّا تعتمد على بطولة كأس العالم وكيفية إدارة موسكو للحدث”؛ مضيفًا: “إن المنشآت الخاصة بكأس العالم ستكون في خدمة الشعب بعد البطولة”.
والمكسب الروسي لم يكن فقط في الجانب الاقتصادي؛ بل في تقديم نفسها للمجتمع العالمي في حلة عظمى جديدة، وأنها لم تعد فقيرة أو بقايا إمبراطورية عظمى، وبصورة لم يكن لها أن تتحقق مهما دفعت من مبالغ وبرامج للعلاقات العامة. وقد لمستُ ذلك بنفسي من كثب إبان تواجدي في موسكو الصيف الماضي في أثناء كأس العالم مقارنة بزيارتي لها عام 1985 أيام غورباتشوف والستار الحديدي.
وقد أدركت القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية أهمية الرياضة ودورها في التنمية، فأولتها اهتمامًا كبيرًا في رؤية المملكة 2030 التي أُطلقت برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في مثل هذه الأيام من عام 2016، وتحظى بمتابعة واهتمام من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، حيث تنصُّ الرؤية على “أن النمط الصحّي والمتوازن يعدُّ من أهم مقوّمات جودة الحياة. غير أن الفرص المتاحة حاليًّا لممارسة النشاط الرياضي بانتظام لا ترتقي إلى تطلعاتنا؛ ولذلك سنقيم مزيدًا من المرافق والمنشآت الرياضية بالشراكة مع القطاع الخاص”.
وبحسب رؤية السعودية 2030، هناك إعادة هيكلة للقطاع الرياضي شأنه شأن جميع القطاعات، ليتواءم مع الرؤية الجديدة، من خلال فصل المنافسة الرياضية عن الممارسة المجتمعية التي أظهرت الإحصاءات والدراسات تدنيها في السنوات الماضية برقم لا يتجاوز 13 في المائة قياسًا بدول أخرى تشابه ظروف المملكة، إذ شددت الرؤية على رفع معدل ممارستها في المجتمع لتصل نسبة الممارسين إلى 40 في المائة خلال الخمسة عشر عامًا المقبلة.
وبالنظر إلى الأهداف المباشرة لبرنامج “جودة الحياة”، وهو أحد برامج تحقيق رؤية المملكة 2030، ويُعنى بتحسين نمط حياة الفرد والأسرة وبناء مجتمع ينعم أفراده بأسلوب حياة متوازن، نجد أن أول هذه الأهداف: تعزيز ممارسة الأنشطة الرياضية في المجتمع؛ وهو ما يؤكد حرص الرؤية واهتمامها بالرياضة المجتمعية وتعميمها.
ولعل مشروع طريق الأمير محمد بن سلمان الذي أعلن عن تفاصيله الأسبوع قبل الماضي أحد الطرق المؤدية لتحقيق تلك الأهداف.
إنَّ نجاح القطاع الرياضي في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030، والقيام بدوره كرافد من روافد التنمية يتطلب تغييرَ مفهومنا نحو الرياضة عمومًا، والأندية الرياضية على وجه الخصوص.
لدينا أكثر من 150 ناديًا كل منها يحمل لوحةَ “ثقافي اجتماعي رياضي”، ويكلِّف الدولة دعمًا سنويًّا دون أن يقوم بالدور المطلوب منه ولا تزال النظرة المجتمعية لها دونية، وهذا يتطلب تصنيف هذه الأندية إلى فئتين كما ورد في الرؤية: أندية منافسة، وأندية ممارسة. والأخيرة يُفترض أن تكون مراكز رياضية في المدن والمحافظات والمراكز، بحيث تخدم جميعَ فئات المجتمع (الذكور والإناث، والصغار والكبار). فيما يتم تحويل أندية المنافسة، وهي التي تشارك في المسابقات الرسمية إلى القطاع الخاص.
والحديث عن خصخصة الأندية يطول ويحتاج لتفصيل، لكن المهم أنه ليس (ضغطة زر) أو قرارًا رسميًّا، فهو يحتاج لدراسة وتهيئة تضع الميول جانبًا وتركِّز على الجانب الاقتصادي، فهو السبيل لنجاحها رياضيًّا وتنمويًّا.
الأمر الآخر؛ أن ممارسة الرياضة ودورها المجتمعي ليس حكرًا على الأندية الرياضية، فمشروع كمشروع طريق الأمير محمد بن سلمان يُفترض تعميمه على المدن الكبيرة ولو بصورة مصغرة، وكذلك تحويل الحدائق إلى ممرات للمشاة ومراكز للهوايات كما كان مشروع الـ 100 حديقة مفتوحة، الذي تبنَّاه أمين منطقة الرياض الأسبق الأمير د. عبد العزيز بن عياف، وغيرها الكثير من المشاريع.
إن تحويل القطاع الرياضي إلى رافد اقتصادي يُمثِّل قفزةً هائلةً وإيجابية لمصلحة القطاع، إذ سينقله إلى عالم مغاير عن الواقع الحالي ولا سيما أنه يتوافق مع مشروع التحول الوطني، وبالتالي يصبح رافدًا مهمًّا من روافد التنمية في المملكة العربية السعودية.
ويبقى الأمر الأكثر أهميةً، وهو زرع محبة الرياضة وممارستها لدى الشخص منذ الصغر، حتى تتحول لديه مع الزمن إلى جزء من ثقافته وحياته العامة، وهذه مسؤولية التعليم.
إن الاهتمام برياضة النشء من شأنه تكوين جيل صحي مُحِبّ للرياضة وممارس لها، بما يسهم في بناء أجسامهم وعقولهم، ويصقل مواهبهم وينمي فيهم روحًا جديدة مبدعة ومطورة، تسهم في تنمية وطنهم وبناء مستقبله.
وتناول تعقيب د. خالد بن دهيش عدة نقاط، هي:
– تُعرَّف الرياضة بأنها: (جميع الأنشطة المنظمة التي تساعد أو تهدف إلى تطوير اللياقة البدنية وصحة الإنسان بشكل عام، وقد تُشكِّل بذلك مشاركات اجتماعية أو مشاركات ذات طابع احترافي تهدف جميعًا إلى تحقيق نتائج متقدمة).
والرياضة من العناصر التمكينية المهمة للتنمية المستدامة لمساهمتها المتعاظمة في تحقيق التنمية والسلام لدورها في تشجيع التسامح والاحترام، وتمكين المرأة والشباب والأفراد والمجتمعات لبلوغ الأهداف المنشودة في مجالات الصحة والتعليم والاندماج الاجتماعي، والتقريب بين البشر لدعم مبادرات تسخير الرياضة لأغراض السلام من خلال المناسبات الرياضية العالمية والقارية والإقليمية.
وإنه من المهم، ومن خلال الرؤية وخططها التنموية الإستراتيجية وبرامجها، التركيز على تنمية الرياضة وتوسيع نطاق المشاركة المجتمعية بجميع فئاتها وتعدداتها لرفع قيمة الأنشطة الرياضية في حياة الإنسان، وبالتالي لتنمية الوطن.
كذلك فإن ضعف مشاركة المجتمع في التمارين الرياضية سواءً كانت ضمن رياضة معينة أو ضمن النشاط اليومي للأفراد، يكلِّف الدولة ماليًّا الكثيرَ للصرف على علاج الأشخاص من الأمراض الناتجة عن ضعف اللياقة البدنية ناهيك عن الوفاة التي تسببها هذه الأمراض.
وتعتبر هيئة الأمم المتحدة الرياضةً وسيلةً فعالة لتعزيز التنمية والسلام في جميع أنحاء العالم من خلال مساعدة الملايين في جميع أنحاء العالم على المشاركة في الألعاب الرياضية وغيرها من الأنشطة البدنية التي تُشدِّد على التنافس الشريف؛ لكون الرياضة أداةً فعالة لتنمية وبناء السلام.
وتنص المادة رقم (٣١) من اتفاقية حقوق الطفل على أن الرياضة واللعب حقان من حقوق الطفل، كما أنهما وسيلة مسلية لتعليم القيم والدروس التي ستستمر طوال الحياة، إضافة إلى تعزيز الصداقة والمنافسة الشريفة، وتعلُّم روح العمل في الفريق والانضباط والاحترام، وتعلُّم المهارات اللازمة لكي ينمو الطفل ويصبح فردًا منتجًا ومتمكنًا لمواجهة التحديات التي سيتعرض لها في حياته والقيام بدور قيادي داخل مجتمعه.
– الرياضة والتنمية في رؤية المملكة ٢٠٣٠:
تُعنى برامج تحقيق الرؤية ٢٠٣٠، من خلال برنامج جودة الحياة، بتحقيق جانبين مهمين، هما:
أ – تطوير حياة الأفراد.
ب – تحسين جودة الحياة.
حيث يركز برنامج تطوير نمط الحياة على توفير خيارات للمواطنين والمقيمين لتكون لديهم حياة ممتعة ورغيدة، وذلك من خلال تعزيز مشاركتهم في الأنشطة الثقافية والترفيهية والرياضية بتحقيق عدة أهداف، منها ما يخص الرياضة وذلك على النحو التالي:
أ – ممارسة الأنشطة الرياضية في المجتمع.
ب – تحقيق التميُّز في عدة رياضات اجتماعية عالمية؛ وذلك لكون الرياضة بشقيها الاحترافي وغير الاحترافي لها أثر مباشر على العديد من الأصعدة التنموية، أبرزها: الصحة، والاقتصاد، والأداء الرياضي، والتماسك الاجتماعي.
وتتطلع المملكة من خلال برنامج جودة الحياة ٢٠٢٠ إلى تطوير نمط الحياة، ففي جانب الرياضة تتطلع المملكة إلى:
أ – زيادة المشاركة في الأنشطة الرياضية من خلال تحفيز المجتمع السعودي على ممارسة التمارين الرياضية بشكل أسبوعي.
ب – أن تصبح المملكة رائدة في المنطقة من حيث المشاركة في الألعاب الأولمبية الصيفية.
ج – رفع مستوى عروض البنية التحتية المتاحة للأنشطة الرياضية لتضاهي أفضل البلدان عيشًًا.
– الرياضة المدرسية:
قامت وزارة التعليم ببناء إستراتيجية لتطوير الرياضة المدرسية للبنين والبنات، كان من ضمن أهدافها إنشاء الاتحاد السعودي للرياضة المدرسية الذي أُنشئ بقرار لمجلس الوزراء عام ١٤١٤هـ، وهو مؤسسة ذات شخصية اعتبارية أُوكل لوزارة التعليم الإشراف عليه ليتولى كافة أنواع الرياضة، مثل كرة القدم والسلة… إلخ، بجانب الإشراف على تنفيذ أهداف إستراتيجية الرياضة المدرسية.
– الرياضة في برنامج التحوُّل الوطني ٢٠٢٠:
تضمن برنامج التحول الوطني ٢٠٢٠ للهيئة العامة للرياضة تحقيق الأهداف الإستراتيجية التالية:
١ – زيادة نسبة الرياضة والأنشطة البدنية.
٢ – تطوير الجيل القادم من الشباب وزيادة فخرهم واعتزازهم الوطني، وتحسين نظرتهم ورضاهم عن برامج الهيئة العامة.
٣ – حُسن استخدام المنشآت الرياضية والشبابية للهيئة.
٤ – تمكين وضمان استدامة رياضيي النخبة من تحقيق أداء عالي المستوى في المحافل الدولية، للفوز بالميداليات في الألعاب المختلفة.
كما عقَّب أ. سعيد الزهراني: إن الرياضة بوصفها ثقافةَ مجتمع وشكلَ حياة، هي الخطوة الارتكازية في حقل الرياضة بوصفها عاملًا تنمويًّا شاملًا. وهي خطوة تتطلب اشتغالًا جادًّا وعميقًا ينطلق من مفهوم الإيمان بأن الرياضة شكل حياة يجب أن تُزرع في حياتنا وسلوكنا ابتداءً من النشء، ليمضي هذا النمط الحياتي في ممارسة الرياضة بقية مراحل العمر.
بأسف عميق؛ مفهومنا عن الرياضة لا يتعدى مفاهيم الفوز والخسارة بين أضداد في لعبة كرة وحسب، مع أن المفترض يحتم زرع أهمية الرياضة والإيمان بها في حياتنا منذ الصفوف الأولى في مقاعد الدراسة. فلا بد أن تكون مادة التربية البدنية مادةً لها كتاب ومنهج كباقي كتب العلم. فالرياضة ليست فوزًا وخسارة؛ بل شكل حياة وثقافة سلوك يومي أصيل.
ومن هذا المدخل من الممكن أن تسهم الرياضة بصورة فاعلة وقوية في مجالات التنمية المتغياه؛ الصحية والفكرية والجسدية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ولنتخيل حين يكون شغف الأجيال الناشئة كم كيلو مترًا يقطعونه يوميًّا، أو كم ساعة سباحة قضوها في الأسبوع. وليس كم لعبة إلكترونية فازوا فيها وهم يلتهمون أرطال السعرات الحرارية من وجبات التسمين السريع المشبعة بالدهون والأصباغ من مطاعم الفاست فود.
حينما أشاهدُ رجلًا بلغ الثمانين من عمره يمارس رياضة الجري، فلا بد أن أعرفَ أنه لم يبدأ هذا الشغف في سن الخمسين، بل نشأ وتعلَّم وترعرع في مجتمع واعٍ يدرك مدى أهمية الرياضة بوصفها ثقافةً وشكلَ حياة. وهذا ما يجب أن نتجه لغرسه وتعزيزه في نسيج ثقافتنا المجتمعية العامة.
المداخلات:
اعتبار الرياضة نوعًا من الترفيه.. وحصرها في كرة القدم:
تساءل د. حسين الحكمي: ما رأيكم فيما يحدث من تحجيم، وأن الرياضة فقط كرة القدم، وأنها نوع من الترفيه فقط؟ علق أ. عبد الله الضويحي: إن الرياضة هي وسيلة ترفيه لكنه ترفيه مفيد في تأثيراته الجانبية. الرياضة ظاهرها الترفيه وباطنها البناء، ونظرتنا للرياضة يجب أن تتجاوز ذلك إلى أبعادٍ أخرى ذكرتها في الورقة.
أما كرة القدم فذاك شأن آخر، وأتفقُ معك د. حسين فيما يتعلق بأن هناك تحجيم للرياضة لصالح كرة القدم؛ وذلك لسببين:
الأول: أنها اللعبة الشعبية في معظم أنحاء العالم والعالم يهتم بها، هذه الشعبية سهَّلت من مهمة مزاولتها وفهم قوانينها.
الثاني: وهذا يخصنا؛ أنه لا توجد لدينا ساحات ومراكز رياضية عامة مخصَّصة للألعاب الأخرى، حتى الأندية بدأت تنحسر لديها هذه الألعاب، وتجد أندية محددةً كل منها يهتم بلعبة غير كرة القدم.
المدارس وهي الأساس في تنمية وصقل المواهب لا تهتم بحصص التربية البدنية وهذه مسؤولية الوزارة، إذ لا توجد فيها صالات مخصصة للألعاب المختلفة، هناك فقط ساحة لكرة القدم، والمعلم يُعطي التلاميذ الكرة للترفيه فقط.
محاور مهمة حول الوضع الرياضي في المملكة:
وحول الوضع الرياضي في المملكة تركزت مداخلة د. مساعد المحيا في ثلاثة محاور، وهي:
أولًا: اليوم تنتشر مجتمعيًّا ثقافة الاهتمام بالرياضة من خلال الأندية والصالات الرياضية، ومن خلال الأماكن المخصصة للمشي.
هذا الوعي خلقته كثير من برامج الرياضة والبرامج الصحية، ودعوة عدد من الأطباء لذلك. وجميل أن البلديات نجحت في تخصيص أماكن للمشي وهيَّأتها ليستفيدوا منها.
القناعة بأهمية الرياضة للجسم والصحة سلوك رشيد حريٌّ بأن يتم تناقله بين أفراد الأسرة والأصدقاء؛ لأن ذلك سيسهم في خفض كثير من التوترات النفسية والأمراض في المجتمع، وهو ما أصبح معروفًا لدى الجمعيات والمؤسسات الطبية.
هذا النشاط حريٌّ بأن يحظى بدعم مؤسساتي لأهميته بالنسبة لتعزيز الصحة ومكافحة الأمراض المزمنة، وأن يشهد منافسات عدة وجوائز ومحاضرات ولقاءات ثقافية تجعل ثقافة المشي سلوكًا عامًّا، وهو ما يُمارِس جانبًا منه عددٌ من المتخصصين والمهتمين من مثل المتخصص دكتور صالح الأنصاري طبيب الأسرة والمجتمع وأحد مؤسسي مشاة الرياض، وأن تنمو في كل مدينة وحي الأماكن المخصصة للمشي، وأن تشتمل على كل الوسائل التي تشجِّع الفرد على الاستمرار في ذلك.
ثانيًا: بالنسبة للرياضة العامة والتي يمارسها الشباب في إطار الأندية الرياضية. فالاتجاه العام اليوم ينحو نحو تقليص وجودها، والإبقاء على الإطار التنافسي وهو ما أشار اليه أ. عبد الله الضويحي، وهي خطوة بدأ الاهتمام بها قبل الرؤية منذ وجود الأمير عبد الله المساعد. وفي هذا حرمان لفئات كثيرة من الشباب الذين يجدون في هذه الأندية الرياضية متنفسَهم المهم، ومكانهم الذي يستمتعون به في مختلف مدن المملكة.
من المؤكد أنه حتى الآن لم يحدث إلغاء لأيٍّ من هذه الأندية؛ ولذا أؤكد على توصية أهمية الإبقاء على هذه الأندية، بوصفها تُقدِّم خدمةً مجتمعية في استيعاب أوقات وطاقات كثير من الشباب.
ثالثًا: في السنوات الأخيرة غابت المملكة عن تحقيق إنجازات رياضية مهمة باستثناء مشاركتنا في كأس العالم في الصيف الماضي، والتي كان حضورنا فيها مخجلًا. وهو نتاج أعمال مرتجلة وفردية.
ولذا لا بد من العمل على إعادة التخطيط الإستراتيجي المؤسسي المهني كي نعود للمنافسات الآسيوية والدولية، ولا سيما أن المملكة تنفق على الرياضة ومؤسساتها بسخاء كبير.
نتيجة الارتجال وربما الفساد في بعض الأندية، أصبح على كاهل كثير من الأندية ديون ضخمة كادت أن تعصف بها وبالرياضة السعودية لولا تدخل الدولة وتحمُّلها لتلك الديون، إذ كان غالبية الأندية في متناول عقوبات الفيفا بسبب عدم وفائها بالتزاماتها المالية المليونية.
هذا الدعم السخي والكبير من الصعب أن يستمر؛ لذا فمن المهم العمل على خصخصة هذه الأندية بطريقة تدريجية.
كما أن الأندية شهدت في السنوات الأخيرة ومثلها اتحاد كرة القدم إلغاء عقود مدربين، ودفع الغرامات الجزائية مرتين أو ثلاث في الموسم الواحد، وهذا لا يُعزِّز العمل المهني إطلاقًًا.
كما أن الصورة الذهنية للتدريب في المملكة أصبحت سلبية نتيجة التدخلات والممارسات غير المقبولة.
ولعل آخر ما يسيء إلى الصورة الذهنية للوسط الرياضي ما تحدَّث به قبل أيام مدرب منتخبنا مارفيك الذي وصلنا معه لكأس العالم ثم تخلينا عنه، إذ أشار إلى عدد من التدخلات التي كانت تتم في أثناء عمله.
الرياضة اليوم في العالم أصبحت صناعةً تُدرُّ الكثيرَ من الملايين، وأصبحت كثيرٌ من الأندية العالمية تُمثِّل عمودًا مهمًا في أسواق المال، ويمثل الحراك المالي فيها جانبًًا اقتصاديًّا كبيرًا.
كل ذلك يتطلب العمل على خصخصة الأندية الاستثمارية، مع ضرورة إيجاد بيئة تشريعية تتيح المناخ الاستثماري دون أي تدخلات.
النشاط الرياضي والعملية التربوية:
أوضح أ. محمد الدندني أنه في السابق ومع قلة الموارد، كان النشاط الرياضي في المدارس ركنًا أساسيًّا في العملية التربوية. كان ما يُسمَّى بالقسم المخصوص وهو حفل ختامي للمدارس يحضره الطلبة وأولياء الأمور والمواطنون، ويشمل كلَّ الألعاب ماعدا كرة القدم، والتي لها دورها من خلال المنافسات السنوية. القسم المخصوص كان يحوي الجمباز وألعابَ القوي والزانة والجلة والرمح… إلخ. كان نشاطًا ممتعا وما زلتُ أذكره بتفاصيله، وفي النهاية يظلُّ همنا الوصول إلى كأس العالم.
حتى هذا لم نُجهز له الطرقَ السليمة، لا أحد يجول الأرياف والمدارس والحارات، وبها من المواهب الكثيرة في كافة الألعاب، وبخاصة كرة القدم.
لِمَ لا تُقام المجمعات الرياضية في الأحياء وتكون بسيطة وقريبة من الأطفال والمراهقين ليتدربوا فيها، فضلًا عن اكتساب المهارات، وقتل الوقت بما هو مفيد؟
وذهبت د. الجازي الشبيكي إلى أنه وعلى الرغم من الحاجة الماسة للفتيات والنساء لممارسة الرياضة، وعلى الرغم من قرارات السماح بممارسة النشاط الرياضي في المدارس بل وتخصيص حصص إضافية له، وعلى الرغم من إنشاء إدارة أو وحدة النشاط الرياضي المجتمعي، إلَّا أنني لا ألمس واقعًا يُجسِّد كلَّ تلك القرارات.
وأتساءل بالفعل عن السبب؛ فالمرافق الرياضية في جامعة الأميرة نورة وحدها كفيلة باستيعاب العديد من الأنشطة وعشرات الآلاف من نساء مدينة الرياض، ولكنها للأسف لم تُستثمر.
إستراتيجية تطوير الرياضة المدرسية:
وحول إستراتيجية تطوير الرياضة المدرسية للبنين والبنات التي تطرق لها د. خالد بن دهيش، علَّق د. حسين الحكمي؛ يظهر لي من المعلومات الموجودة في الورقة الرئيسة أن الإستراتيجية حديثة؛ لذا أتساءل: هل تمَّ البدء فيها؟ وهل يمكن أن تفي بالغرض وتُحقِّق الأهدافَ المنشودة؟ خصوصًا وأن وزارة التعليم عليها عبء كبير في هذا الجانب، إضافة لكثير من الأعباء الأخرى.
من جانبه يعتقد د. خالد بن دهيش أن الإستراتيجية الوطنية لتطوير الرياضة المدرسية تم البدء بتفعيلها بعد اعتمادها مباشرة للنهوض بالتربية البدنية والرياضية المدرسية، واستفاد من برامجها التطويرية أعدادٌ كبيرة من الطلاب والمعلمين ومشرفي التربية البدنية سنويًّا في مجالات الألعاب المختلفة. حيث تم بناء وتصميم نموذج لتطوير مهارات الطلاب وفقًا لكل لعبة من الألعاب المختلفة. كما أن الوزارة تعمل على توفير كافة الإمكانات لتأهيل مدارس البنات لتطبيق الرياضة المدرسية الملائمة.
أما تحقيق الأهداف فأعتقد أن ذلك يحتاج لوقت ووضع معايير قياس لنتائج تطبيق الإستراتيجية؛ فمثلًا، في مجال ألعاب القوى لن نتمكن من الحصول على المخرجات المطلوبة إلا بعد عدة سنوات من رعاية الطالب المنظم لهذه اللعبة.
الرياضة من منظور ومفهوم سوسيولوجي:
تناول د. خالد الرديعان الرياضة من مفهوم سوسيولوجي، وذكر: سأستفيد من نظريتين؛ الأولى: البنائية الوظيفية، وهي نظرية محافظة ونتاج فكر رأسمالي. والثانية: نظرية الصراع الاجتماعي (الماركسية)، وهي نظرية ثورية تؤمن بحتمية الصراع الطبقي بسبب الاحتكار وشيوع اللامساواة. والهدف من النظريتين هو محاولة لمقاربة الرياضة كظاهرة اجتماعية يتم تفسيرها من خلال ظواهر أخرى كما يجادل دوركايم.
فيما يخصُّ النظرية البنائية الوظيفية؛ فالوظيفيون عمومًا يهتمون باستقرار النسق الاجتماعي (المجتمع) والحد من توتراته لدوام الاستقرار وازدهار الإنتاج الذي يحتاج إلى بيئة مستقرة سياسيًّا واجتماعيًّا. هذه النظرة محافظة ووليدة مجتمع رأسمالي كما أسلفت. وبالتالي فالرياضة كنظام قائم تؤدي وظيفتين: وظيفة ظاهرة، ووظيفة خفية حسب مفاهيم روبرت ميرتون في تشريح الوظيفة. وبناءً عليه فالوظيفة الظاهرة manifest للرياضة هي أنها ميدان للتنافس وبناء الأجسام، وإشغال وقت الفراغ بما هو مفيد، وتحسين الظروف النفسية لممارسي الرياضة؛ وهو ما سينعكس على إنتاجيتهم، بل ونجاحهم في الحياة.
أما الوظيفة الكامنة والخفية latent للرياضة فقد تتمثل في أنها أداة سياسية وملهاة شعبية، تُستخدم لخفض توترات الجمهور وإشغاله بما يصرفه عن مماحكات العمل السياسة والتنظيمات السرية، بل وحتى السلوكيات الجانحة والباثالوجية؛ كالعنف والجريمة وتعاطي المخدرات. ومن هذا المنطلق البنائي- الوظيفي تتجلى لنا وظيفة الرياضة في الحفاظ على النسق العام، وازدهار المجتمع، بل والحد من أمراضه وعلله من خلال نشاط خلَّاق يصنع كذلك الكثيرَ من الفرص التجارية؛ بحكم أن الرياضة تخضع للتسليع لارتباطها بالإعلانات التجارية، وماركات الملابس والأحذية، وحقوق نقل المباريات، وصفقات بيع اللاعبين، وشركات بناء الملاعب والأدوات الرياضية، وهي صناعة ضخمة يصعب تجاهل أهميتها في الاقتصاد العالمي، بل والمحلي لبعض الدول.
كما تؤكد نظريات الصراع الاجتماعي (الماركسية) على الفكرة التي مؤداها أن الرياضة ليست سوى أداة أخرى من أدوات الاستغلال، والذي يجري في المجتمع طبقًا للنوع والعرق والطبقة الاجتماعية. بعض الرياضات على سبيل المثال؛ كالتنس والغولف والبولو والفروسية وصيد الثعالب تظل حكرًا على طبقة بعينها، فهي ليست في متناول الطبقات الشعبية مهما أبدت من مهارة في لعبها.
وغالبًا يصعب اختراق دائرة هذه الرياضات الأرستقراطية أو الانخراط فيها بسبب كلفتها العالية وتجهيزاتها باهظة الثمن، وارتباطها بالطبقة البورجوازية.
ويرى الماركسيون أن الرياضة تظلُّ عملًا تجاريًّا؛ حيث الربح هو الأساس بصرف النظر عن صحة وسلامة الرياضيين والممارسين لها، ويدللون على ذلك بتسليع الرياضة، وبيع اللاعبين، وما يتم الحصول عليه من أموال طائلة من الإعلانات والترويج لبعض السلع ذات العلاقة بالرياضة.
يقول شافير ولام (١٩٩٥): إن الرياضة طبقًا للماركسيين هي أفيون يُستخدم لإخضاع بعض الفئات على ممارستها كالسود والملونين (في الولايات المتحدة) الذين يتم الدفع بهم قُدمًا إلى مضامير اللعب بغرض التسلية والمتعة، تمامًا كخيول السباق، في حين يتم في الواقع تنحيتهم عن مراكز اتخاذ القرار والتدريب ورئاسة الأندية وامتلاكها. إنهم في نهاية المطاف مجرد أدوات تسلية لطبقة الملاك. وفيما يخصُّ المرأة؛ فالرياضة من خلال هذا المنظور تُركِّز عادةً على مفهومي “الذكورية أو الرجولة” و”القوة البدنية المفرطة” للقول إنها مهنة رجالية، وذلك كحيلة يتم توظيفها وترويجها لإبعاد النساء عنها، وإذا ما تم لهن ممارسة رياضة ما؛ فإن ذلك قد يتم بطرق وأساليب مبتذلة يمكن ملاحظتها في لباس اللاعبات واستخدامهن في التشجيع بتنانير فاضحة، أو توزيع الميداليات.
وأخيرًا؛ فالكاتب لا يتبنى هذا الطرح المتطرف لكنه يعرضه من باب العلم بالشيء.
من جانبه ذكر د. محمد الملحم أنه يشعر أن هناك تساؤلات هنا: فبالنسبة للمدخل الوظيفي في تفسير الرياضة وقيمتها، فأي الوظيفتين يمكن أن تكون قد تغلبت في عالم اليوم الظاهرة أو المضمرة؟
وبالنسبة لمدخل الصراع الاجتماعي الماركسي المشنأ، فهل تعتقد إنه يتوقف عند ما أشار إليه د. خالد من تسخير البروليتاريا لمتعة الأرستقراط، وكذلك جندرة الرياضة ذكوريًّا، وإبعاد النساء كسمة لهذا الاتجاه (ولا أدرى لماذا؟ لكن ربما قُصِد لتسلط العامل الذكوري في هذا المذهب على السلطة!).
وأخيراٍ؛ ألاحظُ أن التوظيف الاستثماري المالي متواجد في تحليل د. خالد للفريقين، وإن كنتُ أظنُّ أن هذا الجانب انسلَّ إلى أجندة الماركسيين في إطار العولمة، ولم يكن كذلك من قبلُ.
الرياضة وأهميتها التي يغفل عنها الكثيرون:
أشار د. حسين الحكمي أننا عندما نرى كيف تتصارع دول عظمى على استضافة بطولة كأس العالم أو الأولمبياد ونحن نتفرج فقط، هذا مؤشر أننا لم نفهم اللعبة حتى الآن.
وعندما نرى نسبة السمنة في المملكة مقارنة بدول العالم والتي تُعد الرياضة أحد روافدها، نعلم أن هنالك خللًا في مَن هم حول صاحب القرار والمستشارين، حيث إنَّهم ربما يرون أن الرياضة ما هي إلا شيء ثانوي ونوع من الرفاهية.
قد يقول قائل: إن هنالك أولويات أهم من الرياضة يجب التركيز عليها، ورأيه وجيه، لكن هذا لا يعني أن نتوقف عن أن نسير في كل الخطوط بتوازٍ.
ومَن يشاهد كيف يتابع شباب العالم وكثير من أطيافه المناسبات الرياضية، يعرف أن الرياضة يمكن أن تكون مُوجَّهة وأداة للوصول لكثير من الأهداف إذا أُحسِن استغلالها.
وفي إشارة إلى معنى مجمل يشترك في أكثر التعليقات حول القيمة الحقيقية للرياضة، ودورها الاجتماعي وأثرها الاقتصادي، وتراوح هذه المعاني بين النظرية والواقع خاصة في مجتمعاتنا العربية، ولدينا محليًّا؛ يرى د. محمد الملحم أنه ربما ينبغي لنا أن نُحرِّر المصطلح ونتحدث عن “اللياقة” بدلًا من مصطلح الرياضة الذي تلوَّن كثيرًا اليوم بمعاني التنافس وإسقاطاته السياسية والاستثمارية المالية بكل أبعادهما المختلفة
أعلم أن العاطفة المتجذرة نحو تعبير “الرياضة” لن تتقبل ذلك، ولكن واقع التصورات الشخصية لإنسان اليوم والمخالف للطموح الحضري كثيرًا ربما يبرر ذلك، وربما تكون أدنى مقاربة من ذلك طرح إضافة كلمة تربية مع تعليم أو التحوُّل من “وزارة المعارف” أصلًًا.
علق د. يوسف الحزيم أن الرياضة كانت ولا تزال تُمارس رأسيًّا في اتجاهين: كرة القدم المحصورة عناية بأندية الدرجة الممتازة أو دوري المحترفين تاليًا، وكذلك في 21 لاعب من كل نادٍ؛ ما يعنى أن استثمارنا يتمحور حول 300 لاعب بالكثير. وفي الناحية الأخرى، أهملنا أفقيًّا الألعاب الأخرى، ونتائجنا الأولمبية تاريخيًّا أكبر شاهد، ولحقه إهمال المجتمع برمته، فنحن من أقل الشعوب ممارسةً للرياضة كثقافة.
ويُذكر أن الدولة لم تُقصّر تاريخيًّا في الإنفاق على الرياضة، وكان هناك جزء معتبرً يُهدر بالفساد المالي.
ويُلاحَظ أن الرياضة اختُزلت كهدف وطني في التأهُّل لكأس العالم، علمًا أن الرياضة أوسع من ذلك، إذ إن لها أهدافًا في الصحة العامة والنفسية والاجتماعية، وكأداة دمج وتسامح وتعايش في حالة السلم، ناهيك عن إعداد المجتمعات جسديًّا ومهاريًًّا لحالة الحرب.
كما أننا نفتقد في رياضتنا للاحتراف كصناعة، فليس هناك معاهد أو جامعات تُخرِّج مختصين مرموقين في: التسويق الرياضي، والتدريب الرياضي، والطب الرياضي، واقتصاديات الرياضة، والإدارة الرياضية؛ بل كل مَن عمِل بالرياضة أخذها بالخبرة، أضف إليها العلاقات الشخصية، وليست عن معرفة متخصصة.
كما أكد أ. وليد الحارثي أننا بحاجة للالتفات إلى الرياضة وتنميتها على وجه الخصوص باعتبارها مجالًا كاملًا للأعمال الريادية والتخصصات المهنية القائمة على المهنية والاحترافية، وله وظائف مستقبلية.
وعلى هذا الأساس تُدرس أساليب الإدارة الرياضية، وإدارة المرافق الرياضية، وإدارة أعمال الرياضيين، والتسويق الرياضي… إلى آخر ذلك، وتُعقد الدورات التدريبية، أو الدبلومات، وبرامج الزمالة وغيرها. وأعتقدُ أنَّ من شأن ذلك أن يُسهم بفعالية في تنمية الرياضة في المملكة، ويُحقِّق الرؤى والتصورات المستقبلية لها.
علاقة الإعلام بالرياضة:
أشار د. إبراهيم البعيز إلى علاقة الإعلام بالرياضة؛ فلعبة كرة القدم لم تنتشر في الولايات المتحدة على غرار ما هو في كل قارات العالم، والسبب في ذلك أن الشبكات التلفزيونية الثلاث ABC, CBS, NBC لم تجد فيها الربحية التي تجدها في لعبتي كرة القدم الأمريكية والبيسبول أو السلة، فهذه الألعاب على عكس كرة القدم تستطيع القنوات التلفزيونية تحديد وقت التوقُّف للإعلانات ومدته، وبما لا يخالف قواعد اللعبة.
وأضاف د. يوسف الحزيم: إنَّ مَن يتابع الإعلام الرياضي يصطدم بضحالة الحوارات والمحللين، ونقص المعلقين، والكتب، والمجلات، والنشر، إجمالًا أغلبها حفلة صراخ وشتائم وعشرون مصطلح تتكرر في كل لقاء. اليوم ومع رؤيتنا 2030 نشهد تطوُّرًا كبيرًا عندما دخلت الرياضة من مدخل جودة الحياة، ويبقى التحدي الكبير هو ليس الإنفاق الملياري على كرة القدم بل الاستثمار في رأس المال البشري المحترف لتحويل المشهد الرياضي كاملًا إلى صناعة تخضع للعلم وليس لجلسات خاصة، كما يدرس تعظيم المحتوى المحلي وتأهيل البنى الأساسية وصيانتها، علمًًا بأنني أزعم أنه ليس هناك نقص، وإنما هناك منشآت رياضية ضخمة حبيسة الجزر المعزولة دون فتحها للقطاعات الحكومية أو للمجتمع، وهو ما أدَّى إلى ضعف كفاءة الاستخدام. وأيضًا التخطيط المدني ينبغي أن يكون صديقًا للإنسان.
قراءة في مفهوم الرياضة واقتصادياتها:
أوضح د. عبد الله بن صالح الحمود أن الرياضة هي عبارة عن أداء مجهود جسدي عادي، أو ممارسة مهارة معينة، وتحكمها مجموعة من القواعد والخطوات، ويكون الهدف منها التميُّز، والمتعة، والترفيه، وتطوير المهارات، والمنافسة، كما أنّ الرياضة تضيف على جسم ممارسيها جمالًا جسديًّا مميّزًا، وتضمُّ الرياضة كمًّا كبيرًا من التمارين والمهارات، مثل: اليوغا، والجمباز، والفروسية، والسباحة، والمشي، والركض، وكمال الأجسام، والوثب الطويل والقصير، وكرة القدم، وكرة السلة، وغيرها.
وممّا لا شكّ فيه أنَّ للرياضة كمًّا كبيرًا من الفوائد على صحّة الفرد، ففوائد الرياضة تحدُّ وتقلِّل من مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية؛ وذلك لأنّ الرياضة تعمل على تخليص الجسم من الدهون الثلاثية، والكولسترول الضار في الجسم، ومن الأنشطة الرياضية الفعّالة في الوقاية من هذه الأمراض: التجديف، والمشي، وركوب الدراجات، إلى العديد من الفوائد التي لا يتسع المجال لذكرها.
وقد استُوحيت العديدُ من الرياضات من الأنشطة التي قام بها الإنسان البدائي، مثل:
– مطاردة الفريسة من أجل لقمة العيش، فقد استُوحي منها رياضة العدو والرماية.
– القفز لتجاوز الكوارث الطبيعية، وقد استُوحي منه رياضة القفز.
– السباحة في البحر، وصيد الأسماك، وقد استُوحي منها رياضة السباحة.
– استعمال الخيل للتنقل، وقد استُوحي منها رياضة سباق الخيل.
وهناك أيضًا الرياضات التي كان يمارسها الصينيون منذ آلاف السنين حيث كانوا يلعبون كرة القدم بالحديد.
وإذا تطرقنا إلى اقتصاديات الرياضة؛ لعلِّي هنا أستشهدُ بما كُتِب عن اقتصاديات الرياضة من الكاتب/ نعمان عبد الغني، حيث قال: إن الرياضة تُعدُّ أحد فروع الاقتصاد الحديث، حيث إنَّ ممارسة النشاط الرياضي ذات أهمية اقتصادية ثنائية بالنسبة للفرد والدولة، فبالنسبة للفرد فإنها تقوم بتحسين قدراته الصحية والبدنية وإطالة عمره الإنتاجي وتقليل فرص إصابته؛ أما بالنسبة للدولة فالرياضة تعمل على زيادة كفاءة المواطنين، وحفظ معدلات الاستهلاك العلاجي والتأهيلي.
مؤكدًا أن أولى بدايات الارتباط الاقتصادي الرياضي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كون أن الرياضة تمثِّل وسيلة دعاية ومجال إشهار واسع الانتشار، كما أن تزايد الرياضيين قد أوجد سوقًا رابحة في مجال إنتاج وتسويق واستهلاك الأجهزة والمعدات الرياضية.
ويعتقد “ستوكفيس” عالم اجتماع الرياضة الهولندي، أن تكامل الأنشطة الرياضية مع المصالح الاقتصادية قد أدى إلى احتلال الرياضة مكانةً رفيعة في الحياة الاجتماعية؛ كون أن النظام الرياضي يقوم على دعائم اقتصادية، فالغرض الأول للعلاقة بين الرياضة والاقتصاد يتمثِّل في اعتماد الرياضة على الاقتصاد لتمويل مختلف أوجه النشاط بها، والغرض الثاني يتمثل في رعاية المصالح التجارية والاستهلاكية للرياضة كمصدر للربح ووسيلة دعاية ناجحة.
أخيرًا؛ فإنني أرى أن الرياضة تأتي كإحدى الركائز الاجتماعية والاقتصادية نحو بلوغ العديد من المنافع والمكاسب الوطنية.
اقتصاديات الرياضة:
تركزت مداخلة أ. فائزة العجروش على اقتصاديات الرياضة؛ باعتبار أن الرياضة رافدٌ مهم من روافد الاقتصاد المحلي. وذكرت أن تسابُق مدن العالم المختلفة لاستضافة الأحداث الرياضية ما هو إلا دليل قاطع على ما لهذه الاستضافة من مردود اقتصادي ومنافع معنوية وسمعة دولية – كما ذكر ذلك أ. عبد الله الضويحي في ورقته الرئيسة- وذلك من خلال النقاط التالية:
أولًًا: كلنا نعلم ما حظيت به الرياضة من تركيز كبير في رؤية 2030، ومع نشاط هيئة الرياضة والفعاليات العالمية التي تتبنَّاها وما نلاحظه من توجُّه حالي لفتح التأشيرات السياحية بالفترات المتزامنة مع الفعاليات العالمية. وهذه قفزة مهمة لتنشيط السياحة الرياضية وسياحة المناسبات؛ غير أن تنفيذها محفوفٌ بكثير من التحديات اللوجستية والتنظيمية التي تحتاج لمعالجة قبل الانطلاق في التنفيذ؛ وذلك لضمان نجاح التجربة واستمراريتها.
ثانيًا: لعل أهم عنصر محفز باقتصاد الرياضة، هو تنشيط السياحة وما يعقبه من سلسلة مشاريع خدمية تلبي الطلبَ المتزايد على هذا القطاع.
ومنها المشروع الرياضي التجريبي القادم المسمى “جغرافيا الرياضة” الذي يقوم على استغلال الميزة النسبية للمناطق، وسيتم بحث إمكانية تطبيقه في منطقة عسير، وخمس مناطق أخرى تضم تضاريس جبلية وساحلية وما يستلزم ذلك من تهيئة للبنية التحتية في تلك المناطق لجعلها مهيأة لرياضات تتناسب مع تضاريس المنطقة وتستوعبها مثل رياضات النخبة المحترفة، ورياضات الهواة ( إضافة هذه الجملة >>) والتزحلق على الجليد .وأثر ذلك على زيادة عدد المشاريع الاستثمارية في تلك المناطق وما ينتج عنها من زيادة لفرص العمل وخفض لمعدلات البطالة وإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص لتنفيذ تلك المشاريع. ثالثًا: أن هناك تعاونًا مع عدة قطاعات لإدخال استثمارات رياضية في المملكة؛ وهو ما سيساعد على النمو الاقتصادي، ويعدُّ داعمًا كبيرًا للناتج الإجمالي المحلي، حيث من المتوقَّع – حسب الخطة المعدة له إذا سارت بحسب المخطَّط لها – أن يصل إلى 8 % من الناتج الإجمالي المحلي في 2030، في حين تُمثِّل النسبة الحالية 1% فقط حسب تصريحات الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان.
رابعًا: من مزايا أهمية تعويد النشء على ممارسة الرياضة منذ نعومة أظفارهم-إضافة لما ذكره أ. عبد الله الضويحي، وتتفق مع ما ذكره د. خالد في تعقيبه وتؤكد ما جاء في تعقيب أ. سعيد – أنها ستُوفِّر لهم تعلُّمًا مستمرًا مدى الحياة، حيث سيكتسبون تلقائيًّا مهارات أساسية تعدُّهم للمشاركة المستقبلية في الأنشطة الجماعية وللحياة المهنية، من خلال حرصهم على التقيُّد بالقيم الرئيسة للرياضة، التي من أهمها: (روح الفريق الواحد والتعاون، احترام القواعد والآخرين، اللعب النظيف، الانضباط والمثابرة، تقبُّل الخسارة بروح رياضية، والحرص على التحسين المستمر لمستواهم).
خامسًا: لماذا لا نستغل القوة الإيجابية الهائلة، والقيم والمبادئ العالمية التي تتسم بها الرياضة، والشغف الهائل لجماهير رياضة معينة ككرة القدم على سبيل المثال، وتوحد جماهير النادي الواحد لأداء دور مهم في المجتمع، بحيث يمكن استخدام نادٍ معين يشتهر بكثرة جماهيره وحبهم ووفائهم الكبير لناديهم، لتشجيع ثقافات معينة تصبُّ في مصلحة تحقيق أهداف التنمية المستدامة- تأكيدًا لما جاء في تعقيب د. خالد- بالإضافة للترويج عن تغيير بعض السلوكيات من خلال توعية المجتمع ليكون مجتمعًا نشطًا ومتحركًا لتحقيق أهداف برنامج “جودة الحياة “. كما أؤيد د. مطلق تمامًا فيما طرحه في مداخلته حول أهمية استخدام الرياضة كقوة ناعمة.
الرياضة كقوة ناعمة وإحدى أدوات السياسة:
يرى د. مطلق البقمي أن الرياضة تحولت لتكون إحدى أدوات السياسة، بهدف الوصول لشريحة معينة للتأثير السياسي عليها.
وأعتقد أن السعودية أمامها فرصة كبيرة لاستخدام الرياضة كقوة ناعمة تستطيع من خلالها التأثير في الآخرين ولا سيما مباريات الديربي؛ فمباراة النصر والهلال مثالٌ حيُّ على ذلك، فكمية المتابعين من الوطن العربي ملاحظة، وبجولة على قنوات عربية إضافة إلى مواقع شبكات التواصل الاجتماعي ستعطينا دليلًا حيًّا على شغف المتابعة للمباراة.
إذًا، أعتقد أنه من المهم أن تلجأ السعودية إلى تعزيز ذلك حتى تغدو مباريات الديربي تُنتظر في كل قطر عربي، فالرياضة تعتبر من أهم وسائل القوة الناعمة؛ لأن الشغف الرياضي يمنع العقل عن التمعُّن في الرسائل المبطنة، وأرى أنه من المهم الآتي:
– استقطاب جماهير من الدول العربية لحضور مباريات الديربي. وهناك عدة أفكار لتنفيذ ذلك، ومنها – مثلًا – تخصيص جوائز للجمهور العربي لحضور مباريات الديربي سواء من هيئة الرياضة السعودية أو حتى من القطاع الخاص في القطر العربي عبر تقديم بعض المميزات لهم.
– استقطاب مشاهير (لاعبين، فنانين، إعلاميين) من كافة الدول العربية لحضور مباريات الديربي، وتركيز التغطية الإعلامية عليهم.
– استضافة إعلاميين ولاعبين قدامى عرب، للمشاركة في التحليل والتعليق على المباريات والبرامج الرياضية.
– استقطاب حكام عرب للمشاركة في تحكيم بعض المباريات.
– إقامة مباراة السوبر السعودي كل مرة في إحدى الدول العربية، على أن تصاحبها إعلانات وتغطية إعلامية كبرى تجعل الحدث تاريخيًّا في ذلك القطر.
الهدف من كل ذلك هو إلصاق عاطفة أكبر قدر من الشباب العربي بالسعودية كمكانة دينية في المقام الأول، ثم من خلال الرياضة عبر تشجيع أحد فرقها بهدف تعزيز الولاء للمملكة. وهنا سأضرب مثالًا خصوصًا لمَن يهتم بالرياضة؛ فحين إقامة مباريات بطولة كأس العالم هناك منتخب (قد يكون وحيدًا) إذا لم يتم تشجيعه كمنتخب أول فلن يكون هناك مَن يكرهه وهو المنتخب الإسباني، والسبب يعود في المقام الأول لفريقي ريال مدريد وبرشلونة.
وأرجع للتأكيد على أن الرياضة تعتبر من أهم وسائل القوة الناعمة؛ لأن الشغف الرياضي يمنع العقل عن التمعُّن في الرسائل المبطنة.
أمَّا على المستوى الداخلي، فالرياضة تتجاوز الترفيه لتكون أحد أهم مسببات جودة الحياة ووصف المجتمع بالصحة، فهي تقضي على الأمراض، وتسهم في إطالة أعمار الشعوب، وتُخفِّف على الحكومات تكاليفَ الرعاية الطبية.
إضافة إلى نقطة في غاية الأهمية؛ وهي أن الرياضة تُعزِّز الانتماء الوطني، فالمنافسات الرياضية والمشاركة في البطولات وتحقيقها يُعزِّز الانتماء الوطني، ولعل الكثير يذكر أنه في منتصف الثمانينيات وتسعينيات العقد الماضي كيف كان الجمهور يخرج بمسيرات في الشوارع حاملين الأعلام السعودية حتى حفظ الجيل أغاني (خضر الفنايل سوو الهوايل..)، (وجاكم الإعصار..).. إلخ.
أهمية استضافة المملكة للأحداث الرياضية العالمية:
يرى د. خالد الرديعان أن كثيرًا من الدول تتوق وتسعى إلى استضافة المناسبات الرياضية؛ كالألعاب الأولمبية، وكأس العالم في كرة القدم، وغيرها من الألعاب؛ يتم بذلك تحقيق عدة أهداف ربما يأتي على رأسها الهدف السياسي للدولة المستضيفة من خلال الترويج لدورها في السياسة العالمية، ومدى تأثيرها وقدرتها على التأثير. يُضاف إلى ذلك الهدف الاقتصادي والسياحي.
وأتساءل: إلى أي مدى تستطيع المملكة أن تستضيف مناسبات رياضية عالمية؟ وهل لديها منشآت رياضية كافية وطقس مناسب؟ وما الموقف من المشاركة في المناسبات الرياضية التي تضمُّ عناصر نسائية؟ هل نحن جاهزون لشيء كهذا؟ دول الخليج العربية الأخرى تستضيف مثل هذه المناسبات دون عراقيل كبطولات التنس والفروسية في الإمارات، وكذلك في البحرين والكويت، والآنَ قطر تعمل لاستضافة كأس العالم لكرة القدم للعام ٢٠٢٢م.
لذا أقترحُ بهذا الخصوص اختيار منطقة مناسبة في المملكة من حيث المناخ وتوفر البنية التحتية (مطارات، فنادق… إلخ) وتجهيزها بمنشآت رياضية حديثة لنكون على استعداد لمناسبات رياضية عالمية. وأعتقدُ أن مدينة الطائف ومدن المنطقة الجنوبية قد تكون أماكن مثالية لهذا الغرض؛ بحيث يُبنى بها منشآت حديثة.
أضاف أ. عبد الله الضويحي؛ من حيث المنشآت والإمكانات الفنية والمادية والبشرية، المملكة لديها القدرة على ذلك، وسبق أن استضافت بطولة كأس العالم للشباب وكأس القارات (مرتين).
هناك بطولات أتفقُ مع د. خالد في أهمية استضافتها، ومنها كأس الأمم الآسيوية. أمَّا البطولات العالمية الكبرى، مثل الدورة الأولمبية وكأس العالم، فهناك شروط لا يمكن تطبيقها لتعارُضها مع قيمنا الاجتماعية والدينية.
وكانت من التوصيات التي اقترحها أعضاء الملتقى بعد مناقشة القضية، ما يلي:
- اعتبار قطاع الرياضة من الأولويات الوطنية، ويتم تبنيه من قِبل أعلى الهرم القيادي في الدولة.
- وتبرز حاجة القطاع الرياضي السعودي الماسة إلى:
– إستراتيجية فعَّالة لاقتصاديات الرياضة، للإسهام في تحقيق رؤية المملكة 2030 الهادفة لتنمية رياضية شاملة.
– تبني القيادة الرياضية للتخطيط طويل المدى.
– دعم ثقافة الاحتراف والخصخصة في الأندية السعودية التي لا تزال تعتمد في مواردها على الهبات المقدمة من أعضاء الشرف ورؤساء الأندية وغيرهم.
– إنشاء قاعدة بيانات شاملة للرياضيين لمختلف المراحل العمرية في المملكة؛ لتسهل اكتشاف وانتقاء المواهب الرياضية وتطويرها تمهيدًا للبروز عالميًّا.
– تعديل القوانين والتشريعات الرياضية؛ لتواكب التقـدم الرياضـي والتغيـرات الاقتصادية العالمية.
– العمل على التطوير المستمر للكوادر الفنية والإدارية في الرياضة.
– تفريغ اللاعبين والكوادر الفنية والإدارية في الرياضة.
- التعامل مع الرياضة كصناعة قائمة بذاتها، لها مردود اقتصادي مؤثر في الاقتصاد المحلي والعالمي، سواء باعتبارها منتجًا أو شريكًا في الإنتاج أو باعتبارها قيمة اقتصادية مضافة.
- التأكيد على أهمية الاستثمارات في قطاع الرياضة في المجتمع، باعتبارها توفِّر موردًا مهمًّا من موارد الاقتصاد الوطني إن تم توظيفها بالشكل الصحيح.
- تسهيل اشتراطات وإجراءات الاستثمار في القطاع الرياضي، توافقًا مع توجُّه الدولة الحالي.
- حثّ القطاع الخاص على الاستثمار في بناء عدد من الفنادق والمرافق الرياضية، وتطوير البنية التحتية والنقل اللوجستي في المناطق الجاذبة للسياحة الرياضية.
- دفع الشركات الرياضية العالمية – التي نُعتبر من أهم أسواقها- لاستثمار بعض عوائدها في دعم رياضتنا المحلية.
- توجيه القطاع الخاص لعمل ما يلي:
– دعم الأنشطة الرياضية المحلية.
– تبني الرياضيين السعوديين الموهوبين والمؤهلين لسطوع نجمهم خارج المملكة، بتقديم العون والرعاية الكافية لهم؛ للوصول بهم للاحترافية.
- تفعيل الجانب الاقتصادي في الشأن الرياضي، من خلال الآتي:
– توفير البيئة المناسبة والداعمة للرياضة المحلية (منها: الميزانيات المخصصة للأنشطة والبرامج، توفير الأدوات والأجهزة، أجور المدربين والإداريين، حوافز الرياضيين).
– ضمان حضور قوي ومُشرّف لبعثات المملكة الرياضية في المناسبات الإقليمية والعالمية.
– إنشاء مختبرات ومراكز أبحاث رياضية.
- دراسة إمكانية استثمار الرياضة كقوة ناعمة، يمكن من خلالها التأثير بشكل إيجابي في الآخرين من المجتمعات الأخرى.
- استغلال الميزة الجغرافية لمناطق مختلفة من المملكة الاستغلالَ الأمثل، باحتضان رياضات تتناسب وطبيعة تلك المناطق (كتسلُّق الجبال، والتزلج على الجليد)، وجعلها مصدرَ جذب للسياحة الرياضية لتلك المناطق.
- تسهيل منح التأشيرات السياحية بالتزامن مع إقامة الفعاليات الرياضية العالمية؛ لتنشيط السياحة الرياضية.
- حثّ الجهات المسؤولة على استضافة المملكة للأحداث الرياضية الإقليمية والدولية بما يتناسب مع تقاليد المملكة.
- استثمار القوة الإيجابية في تشجيع الأندية في:
– تعزيز الولاء والانتماء الوطني.
– تعزيز القيم الأخلاقية الإيجابية والسلوكيات الوطنية التي تخدم أهداف التنمية.
- السعي إلى جعل أهداف التنمية المستدامة في صُلب أهداف جميع المنظمات الرياضية؛ لتحقيق مجتمع رياضي مستدام.
- على الهيئة العامة للرياضة في المملكة مواصلة مكافحة التجاوزات وتشجيع تبني الحوكمة الرشيدة، والنزاهة، والشفافية، والقضاء على الفساد في المؤسسات الرياضية.
- العمل على إيجاد أفضل السُّبل لزرع محبة الرياضة وممارستها لدى الأشخاص منذ الصغر كي تكون جزءًا مهمًا من ثقافتهم وحياتهم.
- أن يكون لمادة التربية الرياضية نصيبٌ ملموسٌ من المناهج العلمية، وأن تكون اختباراتها عملية (كتخفيف الوزن عدة كيلوجرامات، أو المشي والركض لمسافة معينة… إلخ)، على أن تُحسب نتائجها ضمن المعدلات الدراسية.
- تفعيل برنامج جودة الحياة في رؤية المملكة، بالعمل على تنمية الرياضة، وتوسيع نطاق المشاركة المجتمعية بجميع فئاتها في المجتمع.
- أهمية إدراك حقيقة الربط بين ضعف ممارسة الرياضة في المجتمع السعودي والأمراض المرتبطة به (كالسمنة وأمراض القلب)، وحجم تكلفة ذلك على الدولة.
- إلزام المدارس والجامعات للجنسين بالآتي:
– وضع آلية مدروسة لتحقيق أهداف برنامج التحوُّل الوطني في قطاع الرياضة.
– استغلال الصالات الرياضية لديهم بصورة إيجابية وإتاحتها بمبالغ رمزية لكافة الشرائح العمرية على مدار اليوم بعد انتهاء أوقات العمل الرسمي بها.
- الربط المباشر بين المشرفين على المدارس العامة والجامعات بالأندية الرياضية في استقبال ترشيحات سنوية للطلاب الموهوبين رياضيًّا لاستقطابهم ورعايتهم بالأندية.
- أهمية العمل على توفير الساحات والمراكز الرياضية ومضامير المشي في كافة الأحياء.
القضية الرابعة:
مستقبل الموارد المائية واستدامتها في المملكة العربية السعودية في ظل رؤية 2030
كاتب الورقة: د. علي الطخيس.
المعقبان:
د. عثمان العثمان.
م. محمد الشهري.
إدارة الحوار: أ. وليد الحارثي.
الملخص التنفيذي:
أشارت الورقة الرئيسة إلى أن هناك مجموعة من المتغيرات التي تؤثر على مستقبل الموارد المائية واستدامتها، أهمها: مصادر المياه التقليدية وتشمل المياه السطحية والمياه الجوفية، ومصادر المياه غير التقليدية وتشمل مياه البحر المحلاة ومياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي المعالَجة، وكذلك العرض والطلب على المياه واللذان يمثلان وجهين لعملة واحدة، ويؤثر كل منهما على الآخر إما سلبًا أو إيجابًًا.
وأوضحت التعقيبات على الورقة الرئيسة أن هناك فرقًا كبيرًا بين الطلب على المياه والمياه الموزعة، وهذا الفرق مُغطَّى غالبًا عن طريق الآبار الأهلية، وهذه غالبًا مصادر مياه غير متجددة. وأن القطاع الزراعي هو القطاع المستهلك لقدر كبير جدًًّا من المياه المحتسبة، وهذا يعني أن التخطيط الإستراتيجي للمياه يجب أن يركز على سياسات إدارة الطلب لهذا القطاع.
وذهبت بعض التعقيبات إلى أن التفكير في المصادر التقليدية للمياه في المملكة غير مجدٍ ويجب أن يكون الاستثمار والدعم في مجال حماية وتوفير مصادر للمياه بطرق إبداعية وتقنية ابتكارية من خارج الصندوق، وترى أهمية أن تتوحد وتتركز الجهود في إنتاج المياه للمصارف الرئيسة بأفضل وأسرع طُرق ممكنة وبأقل التكاليف من خلال تسخير العلوم والتقنيات الحديثة.
وأشارت العديد من المداخلات التي جرت على الورقة الرئيسة إلى أن شُحَّ الماء من أهم التحديات إن لم تكن أهمها في المملكة، والتحدي يكمن في أن الماء ثروة طبيعية ناضبة إن لم نُوفَّق في إحداث التوازن في الاستهلاك. كما أن تقدير الموارد المائية في المملكة وخاصة المياه الجوفية غير المتجددة من أصعب المهام وقد لا تعني شيئًا بل مجرد أرقام، وأن قطاع المياه في المملكة عانى من تخبُّط وسوء الإدارات المتعاقبة، فمن مبالغةٍ في تقدير موارد المياه إلى إهمال وعدم اكتراث.
كما أوضحت المداخلات أنه حسب إحصائيات استخدام المياه، فإن القطاع الزراعي هو المستهلك الأكبر للمياه، وهذا يعني أن القطاع الزراعي أصبح يُشكِّل خطرًًا على المخزون الإستراتيجي للمياه.
وقدمت المداخلات بعض المقترحات الخاصة بترشيد المياه، منها: تطبيق الحصد المائي لحفظ مياه الأمطار، وقد يكون ذلك بحفر خزانات كبيرة في نهاية مصبات السيول والأودية للإفادة من مائها في الزراعة، وكذلك استخدام التنقيط في الزراعة المنزلية وفي الحدائق مع اختيار الأشجار المناسبة التي لا تستهلك قدرًا كبيرًا من المياه. كما أن خفض الاستهلاك في مياه الشرب سيترتب عليه مكاسب بيئية واقتصادية وصحية وغير ذلك، عن طريق عدم التوسُّع في إقامة محطات معالجة الصرف الصحي وسهولة المعالجة لعدم وجود فائض غير مُخطَّط له.
وفي نهاية النقاش طرح الملتقى عددًا من التوصيات، أهمها: العمل على ربط استدامة الموارد المائية مع استدامة الطاقة المتجددة، وتوفير الغذاء لتجاوز التحديات الكبيرة التي ستواجه المملكة خلال السنوات الخمس القادمة. تحديث وإصلاح قطاع المياه بما في ذلك الشركة الوطنية للمياه، وتقويم أدائها الإداري والفني. الاستثمار والدعم من قبل الحكومة في مجالات تقنية المياه ومعالجتها يجب أن يكون بنفس القدر والأهمية الذي تقوم به تجاه الطاقة وتنويع مصادرها. وضع الأنظمة والتشريعات التي تكفل إيقاف الهدر في المياه، والمساهمة في تنميتها، والاستثمار فيها، وإيجاد جهاز رقابي مستقل عن الوزارة المعنية لمعالجة قضايا المياه وفواتير المياه ومراقبة أداء وإنتاجية شركات المياه العامة والخاصة. التركيز على أن تستهدف البحوث والدراسات المقبلة والتقنية إنتاج المياه للمصارف الرئيسة للمياه، والمتمثلة في المياه المستخدمة في الشرب والري والسقي داخل المدن، والتصنيع والمنشآت الصناعية الكبيرة، والمياه المستخدمة في الزراعة وبالذات في الشركات الزراعية الكبرى. التثقيف والتوعية المجتمعية بالمشاركة حتى يندمج أفراد المجتمع في التوعية ويكونوا جزءًًا منها.
مقدمة:
تحتل السعودية المرتبة التاسعة على قائمة دول العالم المعرَّضة للفقر المائي خلال الـ25 سنة القادمة، لكن المشاريع والأفكار المطروحة ضمن “رؤية السعودية 2030” تؤكد أن هناك خُططًا لتجاوز هذه الأزمة، سواء عن طريق ترشيد الاستهلاك أو عن طريق الاستثمار في مجال المياه. حيث جاء في رؤية السعودية 2030 أنه سيتم العمل على مقاومة ظاهرة التصحُّر والاستثمار الأمثل للثورة المائية عبر الترشيد واستخدام المياه المعالجة والمتجددة، وذلك من خلال مشروعات تموِّلها الصناديق الحكومية والقطاع الخاص.
كما أكّدت هذه الرؤية أنه سيتم ترشيد استخدام المياه في المجال الزراعي، بما يقلل من قيمة التحذيرات التي أطلقها تقرير عن مركز ستراتفور Startfor الأمريكي للأبحاث بشأن أزمة المياه التي تلوح في الأفق بالسعودية، إلا أنه في الوقت نفسه أشاد برؤية السعودية 2030 كونها لم تغفل هذا التحدي الذي قد يكون سببًا في تعطيل تنفيذها.
ومع أن التكنولوجيا يمكن أن تُخفِّف من أزمة نقص المياه وندرتها، بالإضافة إلى المشاريع المطروحة في سياق الأهداف الطموحة والضخمة لرؤية 2030، التي ستُشكِّل الوجه الجديد للسعودية في عصر ما بعد الاعتماد التام على النفط؛ إلا أن الاستمرار بنفس نسق الاستهلاك وغياب ثقافة الترشيد يظلان التحدي الأكبر.
لذا فقد طرح ملتقى أسبار قضية “مستقبل الموارد المائية واستدامتها في المملكة العربية السعودية في ظل رؤية 2030” من خلال ورقة العمل التي قدَّمها د. علي الطخيس، وجرت حولها العديد من المداخلات ناقشت: (مستقبل المياه في المملكة، الاهتمام بقضية المياه في المملكة على المستويين الرسمي والفردي، المتغيرات التي تؤثر على مستقبل الموارد المائية واستدامتها، بعض المقترحات الخاصة بترشيد المياه، العلاقة بين خفض استهلاك المياه وإمكانية استدامتها، أمثلة لعملية تدوير المياه، كيفية الاستمرار في المحافظة على المخزون الإستراتيجي للمياه الجوفية، التوازن في الاستهلاك لمواجهة شُحِّ المياه، اكتشافات تحتاج إلى البحث والتطوير من أجل استدامة المياه وتقليل الهدر، اقتراح فكرة مدِّ أنبوب مياه مالحة من الخليج إلى الرياض وإنشاء محطة تحلية فيها، مسؤولية الإشراف على الزراعة والمياه في المملكة، مدى جدوى التفكير في المصادر التقليدية للمياه، إحصائيات حول نسب استهلاك المياه بالمملكة، العلاقة بين استهلاك المياه وحجم الاستهلاك الزراعي للمياه، الأمن الغذائي وتفعيل مبدأ الإدارة المتكاملة لموارد المياه، ماء زمزم: بين القدسية والخواص الصحية). وفي النهاية طرح الملتقى عددًا من التوصيات المهمة من خلال ورقة العمل التي كتبها الدكتور/ علي الطخيس، وعقَّب عليها الدكتور/ عثمان العثمان، والمهندس/ محمد الشهري.
كتب د. علي الطخيس: تقع المملكة العربية السعودية في الركن الجنوبي الغربي من قارة آسيا، وتُصنَّف بأنها من أشد الدول تصحُّرًا وجفافًا، حيث يبلغ المعدل السنوي لهطول الأمطار بما في ذلك صحراء الربع الخالي نحو 60 ملم. تنعدم مصادر المياه الطبيعية العذبة دائمة الجريان، مثل الأنهار والبحيرات التي تغذي طبقات المياه الجوفية التي تُعدُّ المخزونَ الإستراتيجي الطبيعي لكافة الاستخدامات المائية حاليًًّا ومستقبلًا.
قبل الدخول إلى صلب الموضوع أرى أن نتعرف – ولو بشكل مختصر – على جيولوجية المملكة حتى نتمكن من فهم موضوع المياه بشكل أفضل، لعلاقتها الوثيقة بخزن المياه الجوفية قبل عشرات الآلاف من السنين. تُقَسَّم المملكة من الناحية الجيولوجية إلى منطقتين رئيستين هما:
1. منطقة الدرع العربي، وتشمل ثلث مساحة المملكة، وتمتد موازية للبحر الأحمر وتضمُّ غرب تبوك، غرب العلا، حائل، غرب القصيم، غرب منطقة الرياض، المدينة المنورة، مكة المكرمة، وجدة والطائف، الباحة، عسير نجران وجازان. تتمثل صخور منطقة الدرع العربي من الصخور النارية والمتحولة شديدة الصلابة والشحيحة في مصادر المياه التي تعتمد على معدلات هطول الأمطار السنوية والتي تزداد كلما اتجهنا من الشمال حيث حدود المملكة مع الأردن حتى حدود المملكة مع اليمن. تُعرف المياه السطحية بأنها المياه الجارية الناتجة عن السيول والفيضانات، وتختزن في الرواسب الوديانية وفي الصخور التي تعرضت لعمليات التعرية. نظرًا للارتفاع النسبي في معدلات هطول الأمطار في المنطقة الجنوبية الغربية من المملكة التي قد تصل 400 ملم/سنة، فقد أنشأت وزارة الزراعة والمياه المئات من السدود لتخزين مياه السيول الجارية في الأودية، وأشهرها وأكبرها سدود الملك فهد على وادي بيشة، وسد وادي بيش، وسد جازان، وسد نجران، والليث، وخليص والمرواني، ورابغ…إلخ.
2. منطقة الرف الرسوبي، وتغطي ثلثي مساحة المملكة بصخور رسوبية تختلف من أحجار الرمل إلى أحجار الجير والطين الصفحي (السيل) والمار والدبلوماسية، وكل نوع من هذه الصخور له خصائصه الجيولوجية والهيدوجيولوجية ومعاملته الهيدروليكية التي تؤثر على قدرته على تخزين ونقل المياه الجوفية.
يوجد مجموعة من المتغيرات تؤثر على مستقبل الموارد المائية واستدامتها، أهمها الآتي:
أولًاً-مصادر المياه:
1- مصادر المياه التقليدية، وتشمل المياه السطحية والمياه الجوفية.
2- مصادر المياه غير التقليدية، وتشمل مياه البحر المحلاة، ومياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي المعالجة. يوجد لدى الجهات المختصة العديد من الأنظمة والضوابط والقوانين الهادفة للمحافظة على مصادر المياه من التلوث والنضوب إلا أن متابعة تنفيذ هذه الأنظمة يواجه الكثير من العقبات رغم وجود بنود لمخالفي هذه الأنظمة، ويعود السبب الرئيس في ذلك إلى تضارُب المصالح وتقاطعها.
تواجه البيئة بعناصرها المختلفة المياه والزراعة والتربة بما فيها الحياة الفطرية تصرفات فردية سيئة، تزيد من تسارع عمليات التصحُّر، وتؤثر على التنمية المستدامة بشكل عام، وعلى مصادر المياه بشكل خاص، ويتم ممارسة الآتي:
– الاحتطاب الجائر وتأثير ذلك على تماسُك التربة وبنيتها، وعلاقة هذا التصرف الممقوت بقدرة التربة على الاحتفاظ بالمياه الجوفية الضحلة.
– الرعي الجائر أيضًا الذي يفوق طاقة المراعي الطبيعية، حيث يوجد مئات آلاف المواشي من أغنام وجمال وغيرها تأكل الأخضر واليابس، فاحتياج هذه الحيوانات يفوق ما يعرف بالحمولة الرعوية للمراعي، كما أن الرعي الجائر يُعري التربة ويثير غبارها عند أدنى عاصفة هوائية عابرة.
– الصيد الجائر والتعدي على المحميات الطبيعية. وهنا لستُ أنادي بالتوقُّف عن استعمال الحطب أو التوقُّف عن تغذية المواشي، بل أودُّ أن أطرح بعض الحلول التي تحافظ على بيئتنا وبدأ الاستثمار فيها على استحياء، وأهم حلول الاحتطاب والرعي الجائرين هو الاستثمار فيهما، واستيرادهما من الدول التي لا تعاني من شح في الموارد الطبيعية.
ثانيًا- العرض والطلب على المياه:
يمثل العرض والطلب على المياه وجهين لعملة واحدة، ويؤثر كل منهما على الآخر إما سلبًا أو إيجابًا، واستمرار تلبية الطلب المتزايد على المياه لمقابلة الاحتياجات البلدية والزراعية والصناعية يتطلب البحثَ المستمر عن مصادر مائية جديدة، وتنمية المتوفِّر منها وزيادة كفاءتها.
يتزايد الطلب على المياه بشكل كبير يفوق معدلات التغذية الطبيعية للمياه وخاصة المياه الجوفية غير المتجددة، وهنا يأتي دورنا كأفراد ومجتمعات وجهات مختصة ومنظمات مجتمع مدني للعمل معًا على إدارة مورد متناقص في الأساس، عن طريق تخفيض معدلات استهلاك القطاعات المختلفة من المياه لإطالة عمر ما تبقى من مصادر مائية.
على مستوى الفرد في المملكة، يعتبر معدل استهلاكه اليومي مرتفعًا جدًّا مقارنة بغيره من شعوب الأرض، ولعل التطور وتحسُّن سُبل العيش والنمط السكني وتحوُّل الكماليات إلى ضروريات، وتعدُّد نمط الاستهلاك المنزلي من تعدُّد دورات المياه التي قد تفوق عدد أفراد الأسرة، وانتشار المسابح والحدائق المنزلية التي تُروى بماء الشبكة العامة وغيرها – أصبحت مصدرًا للهدر المائي يزيد من احتمالية كثرة التسربات المرئية وغير المرئية داخل المنازل، وهو ما يصعب أحيانًا رؤيتها أو اكتشافها، وتنعكس على قيمة فاتورة المياه الشهرية.
كما أن الجهات المختصة عليها أيضًا واجب مراقبة التسربات من شبكات المياه العامة، حيث تنفجر بعض أنابيب المياه في الشوارع العامة نتيجة ارتفاع الضغوط، وتُهدر كميات هائلة من المياه عالية التكلفة دون رقيب أو حسيب، وهذا يتطلب تحديثَ شبكات المياه العامة واستبدالها بوتيرة أسرع من الأسلوب المتبع حاليًّا. وهذا العمل يتطلب مبادرات جديدة تتوافق مع رؤية المملكة 2030 بالاتفاق مع القطاع الخاص، بالاستثمار في تجديد الشبكات واستبدال التالف منها، حسبما يتم توفيره من المياه المهدرة بالشبكات العامة وفق سعر يتفق عليه مع الجهات ذات العلاقة مع تقديم التسهيلات والضمانات الحكومية اللازمة.
الأمن المائي والأمن الغذائي:
يمكن تشبيه الأمن المائي والأمن الغذائي في المناطق الشحيحة بالموارد المائية المتجددة وغير المتجددة مثل المملكة العربية السعودية بقطبي مغناطيس، فهما متنافران ولا يمكن أن يلتقيا، وهذا ما تعانيه الجهات المختصة المسؤولة عن الماء والغذاء. يستهلك القطاع الزراعي 84% من إجمالي الاستهلاك السنوي من المياه، وأكثر من 95% من هذه المياه مصدرها المياه الجوفية غير المتجددة، في حين يستهلك القطاع البلدي والصناعي ما نسبته 10% و60%على التوالي، ومع ذلك لم نُحقِّق أمنًا غذائيًّا أو أمنًا مائيًّا.
يعتبر موضوع الأمن المائي في أي دولة جزءًا لا يتجزأ من الأمن الشامل، فالمياه تُستخدم بصفة عامة لإطفاء الحرائق، وإن لم يُحسن استخدامها فستكون يومًا ما مصدر لإشعالها؛ لذلك يجب علينا كأفراد ومجتمعات وجهات معنية أن نتعامل مع الموارد المائية بكفاءة عالية، وتعقُّل في الاستخدام، والأخذ بعين الاعتبار أن الموارد المائية المتاحة حاليًّا ليست من حقِّ هذا الجيل فقط بل هي ملك أيضًا للأجيال القادمة.
الماء – الغذاء- الطاقة:
ضمن المفهوم الحديث للتنمية المستدامة يتوجب ربط استدامة الموارد المائية مع استدامة الطاقة المتجددة وتوفير الغذاء، وهذا يُعدُّ من أكبر التحديات التي تواجه الدول ومنها المملكة العربية السعودية، حيث تشير الأرقام إلى أن عدد سكان العالم في عام 2050 سيبلغ 9 بلايين نسمة، وهؤلاء بحاجة إلى توفير 55% زيادة في توفير المياه و60% زيادة في توفير الغذاء و80% زيادة في الطاقة. هذه الأرقام المخيفة تحتاج إلى وقفة وتأمُّل في الحلول الممكنة التي ستساعد على تحقيق هذه المعادلة الصعبة.
من أصعب التحديات التي تواجهها المملكة هو كيفية إدارة مورد مائي يتناقص باستمرار مع الوفاء بمتطلبات التنمية المستدامة. من هذا المنطلق جاءت رؤية المملكة 2030 لتكون البداية الحقيقية لإيجاد توازن مدروس بين احتياجات كل قطاع تنموي من المياه بشكل يضمن إطالة عمر المصادر المائية، وعلى هذا الأساس قدَّمت الجهات المختصة والجهات ذات العلاقة مبادرات يشترك في تنفيذها القطاع الخاص.
الاستثمار في توفير المياه:
يُعدُّ الاستثمار في توفير جزء من الاحتياجات المائية من قِبل القطاع الخاص أفضلَ الحلول المبتكرة في الوقت الحاضر، حيث طرحت وزارة البيئة والمياه والزراعة عدة مبادرات كجزء من تحقيق رؤية المملكة، وهذه تشمل على سبيل المثال لا الحصر:
1- مبادرة تخصيص المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة من خلال تخصيص مشاريعها المستقبلية وأصولها الحالية، لتقليل الاعتماد على التمويل الحكومي؛ وذلك بإشراك القطاع الخاص في تمويل المحطات، وتحسين الكفاءة والفاعلية، والوصول إلى استدامة مالية وإضافة عوائد مالية للمملكة.
2- مبادرة التوسُّع في المناطق المستهدفة ضمن مختلف مناطق المملكة ومشاركة القطاع الخاص.
3- مبادرة إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالَجة.
4- مبادرة تعزيز مصادر المياه الجوفية.
5- مبادرة تعزيز مصادر المياه السطحية من السدود وحصاد مياه الأمطار.
6- مبادرة خفض نسبة الفاقد في شبكات المياه.
7- مبادرة قياس استهلاك المياه في القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية.
وعقَّب د. عثمان العثمان: على ضوء ما ذكره د. علي الطخيس في ورقته حول المشكلة المزدوجة للمياه في المملكة العربية السعودية، وهي شُح المصادر وارتفاع الاستهلاك؛ أشير إلى بعض الإحصاءات حول المياه لبيان حجم المشكلة، وما يمكن أن نستنتجه منها، ثم أستعرضُ باختصار قضية (إدارة الطلب على المياه) مع اختيار تجربة عالمية في هذا المجال، وأختمُ ببعض التساؤلات لبدء الحوار.
أولًًا: أرقام إحصائية:
- الطلب والإنتاج الموزع:
الطلب | الإنتاج الموزع | |||||
الكمية (مليار م3/سنة) | النسبة (%) | المصدر | الكمية (مليار م3) | النسبة (%) | ||
البلدي | 3.15 | 13.5 | آبار | 0.975 | 31.0 | |
الصناعي | 1.00 | 04.3 | تحلية | 3.175 | 69.0 | |
الزراعي | 19.20 | 82.2 | ||||
المجموع | 23.35 | 100.0 | المجموع | 3.150 | 100.0 | |
المياه المعالجة (مليار م3/سنة) | 1.55 | |||||
نسبة المياه المعالجة المُعاد استخدامها (%) | 16 | |||||
- متوسط استهلاك الفرد 265 لترًا / يوم.
- زيادة الطلب على الماء في السعودية بنسبة الثلث بحلول عام 2050.
- (عالميًّا)، من المتوقع زيادة الطلب على المياه للزراعة بنسبة 80%، وللطاقة بنسبة 60% بحلول عام 2025.
ثانيًا: نظرة على الأرقام:
من خلال الأرقام أعلاه، يمكن القول بأنه:
- القطاع الزراعي هو القطاع المستهلك لقدر كبير جدًّا من المياه المحتسبة، هذا يعني أن التخطيط الإستراتيجي للمياه يجب أن يركِّز على سياسات إدارة الطلب لهذا القطاع.
- هناك فرق كبير بين الطلب على المياه والمياه الموزعة، وهذا الفرق مُغطَّى غالبًا عن طريق الآبار الأهلية. وهذه غالبًا مصادر مياه غير متجددة؛ وبحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن استخدام المياه الجوفية للري هو السبب الرئيس لنضوب المياه الجوفية.
- تُشكِّل المياه المُحلاة 70 % تقريبًا من المياه الموزَّعة (تحدي/فرصة؟).
- على الرغم من وجود كمية جيدة من المياه المعالجة تقارب نصف المياه المحلاة، إلا أن نسبة إعادة استخدامها منخفضة (16% فقط).
ثالثًا: إدارة الطلب على المياه:
- التعريف:
يمكن تعريف إدارة الطلب على المياه بأنها: “أية ممارسة أو تقنية أو أداة أو سياسة ينتج عنها استخدام المياه بأسلوب أكثر فعاليةً ومساواةً واستدامةً”.
- الآليات:
هناك ثلاث آليات رئيسة لإدارة الطلب على المياه، وهي:
– ترشيد استهلاك الموارد المائية المتاحة: ويشمل كثيرًا من الإجراءات، مثل:
- رفع كفاءة شبكات نقل وتوزيع المياه من خلال (الأنظمة والصيانة والمعايير والتقنيات).
- تحسين ممارسات الاستخدام من أجل تقليل الفاقد في المياه.
- تحسين السلوك الاستهلاكي (التوعية والترشيد).
- تطوير طرق الري ورفع كفاءة الري الحقلي.
- تغيير التركيب المحصولي، واستنباط سلالات وأصناف جديدة من المحاصيل تستهلك كميات أقل من المياه، وتتحمل درجات أعلى من الملوحة.
- تجنُّب السياسات التي تزيد من استهلاك المياه.
– تنمية الموارد المائية المتاحة: من خلال عدد من الإجراءات، مثل:
- مشروعات السدود والخزانات.
- تقليل المفقود من المياه عن طريق التبخُّر من أسطح الخزانات ومجاري المياه.
- معالجة التسريب من شبكات نقل المياه.
– إضافة موارد مائية جديدة:
– ويمكن أن يشمل هذا ما يأتي:
- إضافة موارد مائية تقليديـة مثل المياه السطحية والمياه الجوفية، مثل: نقل المياه من بلد لآخر عن طريق الأنابيب كما هو متبع في النفط والغاز، والعمل على استكشاف خزانات مياه جوفية جديدة.
- إضافة موارد مائية غير تقليدية: ويمكن الإشارة هنا إلى:
v معالجة مياه الصرف بأنواعها الثلاثة (الصناعي والزراعي والصحي)، وإعادة استخدامها في ري الأراضي الزراعية وفي الصناعة وحتى للاستخـدام الآدمي (تحت شروط وضوابط معينة)، بدلًا من تصريفها دون معالجة وتكون سببًا في مشاكل بيئية.
v تحلية المياه المالحة.
- الاعتبارات النظرية:
يلخص تورتن ((Turton , 1999 الاعتبارات النظرية ذات الصلة بإدارة الطلب على المياه فيما يلي:
– تميل المناطق القاحلة إلى وجود أنظمة بيئية مائية حساسة، وهذا يعني أن الإدارة المستدامة لهذه الموارد الهشة يجب أن تستند إلى فهم قوي وقياس كمي لمفهوم (العتبة Threshold).
– سيكون لاستخدام أي مياه تتجاوز هذه العتبة آثارٌ مدمرة طويلة الأجل على البيئة والاقتصاد ومجالات الحياة الاجتماعية والسياسية. وهنا تصبح الاستدامة عنصرًًا مهمًّا في الهدف الشامل للسياسة.
– مع تطوُّر البلدان في المناطق القاحلة، يتعين عليها سحب المزيد من الموارد المائية بشكل متزايد، هذا هو ما يُعرف باسم الإدارة من جانب العرض (Supply-sided Management).
– أصبحت مشاريع العرض أكثر تعقيدًا. إنها تعمل إلى الحد الذي يتم فيه تجاوز العتبة التي تفشل بعدها في تلبية الطلب المتزايد خاصة خلال فترات الجفاف.
– تسمح أزمات الجفاف بإعادة التفاوض حول السياسات المائية، من خلال مفاهيم الاستدامة التي ترتبط بإستراتيجيات إدارة الطلب.
– المراحل الأولية لإدارة الطلب مرهقة سياسيًّا؛ لأنها تنطوي على إعادة تخصيص الموارد بعيدًا عن الامتيازات السابقة (إعادة جدولة التعرفة، مثالًا).
– لهذا السبب، يحتاج الانتقال الناجح إلى عصر إدارة الطلب إلى مؤسسات سياسية قوية، تدعمها الإرادة السياسية والشرعية لتغيير السياسات اللازمة، مع الاستمرار في البقاء.
– يجب أن تسعى السياسات إلى تحقيق هدف واضح، وهو ما يعزز الحاجة إلى وجود قاعدة مؤسسية قوية لتنفيذ إدارة الطلب.
– أحد الجوانب التي تجعل إدارة الطلب معقدة حاجتها إلى تغيير تصورات الإنسان حول المياه.
– تصورات الإنسان مستمدة من الجوانب الاجتماعية والثقافية، وهو ما يجعل من الصعب تغييرها.
– أحد التصورات الموجودة تعني أن المياه على المستوى الاقتصادي لها خاصية فريدة في شكل فرق كبير بين متوسط السعر والسعر الهامشي.
– هياكل التعرفة وحدها هي أداة ضرورية ولكنها غير كافية لتحقيق فعالية إدارة الطلب على المياه.
- تجربة عالمية:
بلدة هيرمانيوس (جنوب إفريقيا): بلدة ساحلية سياحية سكانها المستقرون بحدود 20,000 نسمة، ويتضاعفون 3 مرات خلال مواسم الإجازات. كان اعتمادها في الماء على سد أنشئ في نهاية السبعينيات. ومع زوال حقبة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وتحسُّن الظروف الاقتصادية، تجاوز الطلب القدرة التصميمية للسد.
- دراسة الخيارات:
أُجرِي التحليل الجغرافي المائي، ووجد أن:
- زيادة السعة الاستيعابية للسد لن يكون لها مردود يُذكر، وهو ما يعني إلغاء (الحل من جانب الإمداد).
- المياه الجوفية واعدة ولكنها تحتاج إلى تكلفة عالية للتنقية والتوزيع.
- التحلية تحتاج إلى طاقة مكلفة جدًّا.
وبناءً على استبعاد كل الحلول أعلاه لزيادة الإمداد، اتخذت خطة يمكن تلخيصها في الآتي:
- هيكلة التعرفة حسب الشرائح والحاجة الموسمية.
- زيادة كفاءة السد.
- استخدام عمالة محلية في الأعمال الملائمة (مثال: تنظيف السد وروافده من الحشائش غير المرغوبة).
- إشراك المجتمع في مراقبة الاستهلاك كطريقة من طُرق التوعية (مثال: قراءة طلاب المدارس لعداد المدرسة ومراقبة كمية الاستهلاك، ثم فعل الشيء نفسه في بيوتهم).
- إدارة فَقْد المياه.
- برنامج الإصلاحات (مساعدة السكان لمراقبة العدادات ودقتها، وإصلاح التسربات، واستخدام وسائل الترشيد وغيرها).
- السقي المرشد للحدائق (ويشمل أيضا اختيار النباتات الملائمة).
- العدادات مسبقة الدفع.
- سن الأنظمة المائية.
- التواصل الفعال مع المجتمع.
… والنتيجة، انخفاض واضح في معدل استهلاك المياه.
- تجارب أخرى:
– استطاعت سرقسطة، إسبانيا من خلال خطة لإدارة الطلب على المياه تعتمد على التثقيف بالمشاركة، أن تخفض الاستهلاك اليومي من 113 لترًا إلى 96 لترًا خلال 10 سنوات.
– استطاعت إمارة أبو ظبي خفض المياه المفقودة إلى 17% تقريبًا من خلال رفع كفاءة مراقبة الشبكة وإصلاحها.
– استطاعت مدينة سيدني، الأسترالية الإبقاء على كمية الاستهلاك الكلية ثابتة لمدة أكثر من 10 سنوات، مع زيادة عدد السكان 850 ألف نسمة.
– هناك تجارب متعددة ناجحة، في أستراليا لإعادة استخدام المياه في القطاع الصناعي، وتقليل الاعتماد على المياه النقية.
– وغيرها.
رابعًا: الفرص الاستثمارية:
يمكن تقسيم الفرص الاستثمارية في المياه بحسب القطاعات الفرعية لقطاع المياه، وهي:
- الإنتاج.
- النقل.
- التوزيع.
- الصرف والمعالجة.
- إعادة الاستخدام.
خامسًًا: أسئلة ختامية:
– تواجه أي عملية تغيير ثلاث مشكلات أساسية: التوجُّهات (المصالح)، والاستمرارية، والشكوك. كيف يمكن التغلُّب عليها في قضايا استدامة المياه؟
– في حال خصخصة قطاع المياه، كيف يمكن ضمان التوازن بين الرغبة الإستراتيجية في الترشيد ورغبة المستثمر (الشركة) في زيادة المبيعات؟
– كيف يمكن تفكيك التعقيد في العلاقة بين الماء والغذاء والطاقة، للوصول للقرار الأكثر استدامةً وأمانًًا؟
كما عقَّب م. محمد الشهري: إن الحديث عن المياه وخاصة في المملكة العربية السعودية من أهم أمور الحياة والبقاء ولا سيما أن السعودية تُصنَّف من أشد الدول تصحُّرًا وجفافًا. يعتبر موضوع المياه على مستوى الكثير من الدول من أكثر الأمور المصيرية التي تُهدِّد بقاءَها. وتشير العديد من الدراسات إلى أن مستقبل الصراعات بين الأمم ستكون على موارد المياه، ولو رجعنا للصراعات بين الشعوب تاريخيًّا لوجدنا أنها قامت على مصادر الكلأ والماء.
إن التفكير في المصادر التقليدية للمياه في المملكة غير مجدٍ ويجب أن يكون الاستثمار والدعم في مجال حماية وتوفير مصادر للمياه بطرق إبداعية وتقنية ابتكارية من خارج الصندوق.
تمَّ مؤخرًا في شهر مارس الماضي عقد منتدى المياه السعودي تحت رعاية وزير المياه والبيئة والزراعة، يستعرض التجارب الدولية الناجحة في إنتاج وتوزيع المياه، شارك فيه خبراء دوليون قاموا باستعراض العديدَ من التجارب الناجحة.
ولقد رأيتُ من المفيد استعراض ما ورد في صحيفة عكاظ عن هذا المنتدى في مقال لحازم المطيري، ويمكن تلخيصه فيما يلي:
- خبرة من الأردن: وزير المياه والري السابق د. حازم الناصر، حيث قال:
– الحاجة إلى منصات إقليمية تزيد من الوعي العام والمعرفة بالمياه على نطاق إقليمي.
– 14 دولة عربية تحت خطر الفقر المائي.
– نسبة الفاقد من المياه في الوطن العربي تبلغ 50%.
– استهلاك الفرد العربي للمياه هو الأكبر عالميًّا، إذ يتراوح بين 200 إلى 300 لترٍ، مشيرًا إلى أن الإحصائيات العالمية تقدِّر الاستهلاك الطبيعي للفرد العربي بـ 130 لترًا يوميًّا.
– تعرفة المياه ستحدُّ من ارتفاع الاستهلاك غير المبرر للمياه في الوطن العربي.
- تجربة من كاليفورنيا في محاربة الجفاف، ووضع خطط إستراتيجية تهدف إلى:
– توفير المياه بتكلفة أقل، وتنويع المحاصيل التي تستهلك كميات مياه قليلة.
– تشجيع القطاع الخاص للاستثمار في مجال الخزن المائي، وهو ما أسهم في محاربة ندرة المياه في جنوب كاليفورنيا.
– ضرورة التعاون الدولي في مجال مكافحة التغيُّر المناخي.
- تجربة من أستراليا: إستراتيجية أمن المياه في أستراليا الغربية:
– مناخ أستراليا الغربية شبيه بمناخ المملكة.
– تقليص التبخُّر وإيجاد مصادر جديدة من خلال تدوير المياه.
– توعية المجتمع عبر وسائل الإعلام وخاصة الإعلام الجديد، والمناهج التعليمية، وكان لهذه التجربة نتائج جيدة، مؤكدة أن الحملة نجحت في تقليص استهلال الفرد للمياه منذ 1985 وحتى 2015 بنسبة تصل إلى 40%.
– 50% من المياه كانت تأتي من تحلية المياه، وهذا الخيار كان مكلفًا جدًّا، حتى بدأت رحلة معالجة مياه الصرف الصحي وضخها في شبكات التوزيع، وذلك بعد وضع إطار قانوني لاستعمال هذه المياه، مبينةً أن حملة توعية المجتمع استمرت نحو 15 عامًًا، وهي عملية طويلة الأمد بدأت منذ 2004 حتى نجاح استخدامها عمليًًّا في 2016.
- تجربة من الصين:
– تجارب ناجحة في معالجة مياه الصرف الصحي في المناطق الحضرية في الصين.
– تطبيق قانون حماية البيئة منذ 2015.
– معالجة مياه الصرف الصحي، واستخدام التقنيات الحديثة، والاستمرار في توعية المجتمع لترشيد استهلاك المياه.
- تجربة “حصاد المياه من هواء الصحراء” من الدكتور عمر ياغي أستاذ في جامعة كاليفورنيا – بيركلي في أمريكا والحائز على جائزة الأمير سلطان العالمية للمياه، وأفضل طرق الاستفادة من المسطحات الخضراء. يؤكد د. عمر أن هناك 160 دولة تُطبِّق تقنية حصد المياه من هواء الصحراء، مستعرضًا تجربة لطلاب جامعة كاليفورنيا في حصد المياه من الهواء باستخدام جهاز بسيط، ونجاح التجربة في جَمْع ماء نقي صالح للشرب في أجواء ساخنة وقليلة الرطوبة، موضحًا أن هذه التقنية يمكن استخدامها في الأماكن الرطبة وبتكلفة معقولة.
- تجربة من اليابان:
تطور نظام تقنية الميغاطن، من الدكتور ماسارو كوريهارا من شركة توراي الصناعية في اليابان. حيث أكد د ماسارو أن المناخ جاف، ويوجد تركيز كبير من الملوحة في المياه في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في المملكة، ويمكن باستخدام الأغشية استعادة 20% من المياه الصالحة للاستخدام. التحوُّل من المحطات الحرارية إلى المحطات الغشائية لمياه البحر.
- تجربة من الإمارات العربية المتحدة:
تجربة الإمارات في رفع كفاءة استخدام الفرد وتعظيم الاستفادة، حيث تم تخفيض التكلفة بنسبة تصل إلى 50 %، إضافة إلى التحوُّل الكبير في تصميم وتنفيذ محطات تحلية المياه في الإمارات والكفاءة العالية في هذه العمليات. تناول ذلك السيد توماس التمان نائب رئيس التكنولوجيا بشركة أكوا باور في الإمارات. ولقد أكد السيد توماس على أن هناك تجارب تسريع الابتكارات في تحلية المياه، مؤكدًا أن 2018 هو عام “تحلية المياه”، وأن هناك تسابقًا دوليًّا في قطاع تحلية المياه.
- تجربة من السعودية:
“تقنيات واستخدامات المياه المجددة”، تجربة المؤسسة العامة للري في استخدام المياه المجددة، وكان نموذجها “واحة الأحساء”. ذكر ذلك مدير إدارة مختبرات جودة المياه في المؤسسة العامة للري مستعرضًا إستراتيجية المؤسسة في الاستخدام الآمن للمياه المجددة لأغراض الري، وتطوُّر مصادر مياه الري، إضافة إلى اللائحة السعودية لإعادة استخدام المياه المجددة لمراقبة نوعية المياه المجددة ومطابقة جودتها للمعايير القياسية.
كنت خلال اليومين الماضيين في زيارة لمنطقة البسيطاء في منطقة الجوف وزرتُ مزرعة الوطنية. لقد اندهشت مما رأيتُ ومن ضخامة المشاريع الزراعية في البسيطاء. وتجدر الإشارة إلى أن هناك مشاريع مماثلة للبسيطاء في مناطق أخرى في المملكة؛ كتبوك وحائل والدواسر وغيرها. ولقد استرعى انتباهي نظام لري النخيل قامت شركة الوطنية بتطبيقه، وهو الري بالتنقيط تحت التربة؛ أي أن الماء يصل لجذور النخلة من داخل التربة. ولقد أشار لنا المختص أن حجم التوفير في مياه الري وصل إلى 60%، وهذا شيء مذهل وجدير بأن يُعمَّم على مزارع النخيل التي تستهلك كمًّا هائلًا جدًّا من المياه.
إن الهدف من التطرُّق للتجارب المحلية والدولية في مجال تقنية المياه ومصادرها، التأكيدُ على أن هناك المئات إن لم تكن الآلاف من التجارب والبحوث في هذا المجال، والتي استهلكت استثمارات مادية وبشرية ضخمة جدًّا، بل إن جميع ما ذُكر من تحليلات للأوضاع الراهنة للمياه في السعودية والتوصيات والمقترحات للحلول تمت مناقشتها والكتابة عنها مرارًًا وتكرارًا.
أرى أن تكون التوصيات لهذا الموضوع ذات قيمة نوعية ومستدامة، وقد يرى المختصون والباحثون في مجال المياه وتقنيتها ما يفيد فيما أراه تجاه ذلك، مثل:
أولًا) الاستثمار والدعم من قِبل الحكومة في مجالات تقنية المياه ومعالجتها يجب أن يكون بنفس القدر أو الأهمية الذي تقوم به تجاه الطاقة وتنويع مصادرها.
ثانيًا) تبني ودعم جائزة “الأمير سلطان العالمية للمياه” وتوسيع نطاقها ومجالاتها، للاستفادة من التجارب العالمية في مجال تقنية المياه ومعالجتها.
ثالثًا) التركيز على أن تكون البحوث والدراسات تستهدف إنتاج المياه للمصارف الرئيسة للمياه، والمتمثلة في:
– المياه المستخدمة في الشرب.
– المياه المستخدمة في الري والسقي داخل المدن.
– المياه المستخدمة في التصنيع والمنشآت الصناعية الكبرى.
– المياه المستخدمة في الزراعة، وبالذات في الشركات الزراعية الكبرى.
بالطبع هناك مجالات أخرى يجب أن يتم تناولها، مثل: الأنظمة والتشريعات، التعرفة والرسوم وغيرها، ولكن الذي أراه أن تتوحَّد وتتركز الجهود في إنتاج المياه للمصارف الرئيسة بأفضل وأسرع طرق ممكنة وبأقل التكاليف، من خلال تسخير العلوم والتقنيات الحديثة.
المداخلات:
مستقبل المياه في المملكة:
أورد د. عبد الله بن صالح الحمود فيديو لتصريحات أدلى بها د. محمد الغامدي ضيف الجمعة في قناة روتانا خليجية، والذي حذَّر من مصير العطش المحتوم نتيجة شحّ المياه الذي يمكن أن تتعرض له المملكة، إذا استمرت المؤشرات الموجودة، والمتعلقة بنسب الاستهلاك الفردي للمياه، ونسب الاستهلاك الزراعي.
علق د. علي الطخيس بأنه يرى أن د. محمد الغامدي قد بالغ في التخويف من شح المياه؛ لذا فإنني سأُعلق على ما تناوله في المقابلة في شكل نقاط:
1. صحيح أن الميزان الوطني للمياه سلبي، أي أن كميات المياه التي يتمُّ سحبها من الطبقات المائية والمياه السطحية ومياه الصرف الصحي المعالجة وتستخدم لكافة الأغراض – أكثر بكثير من المياه التي تغذي الطبقات المائية، وهذا يعدُّ من الأخطاء الإستراتيجية إذا تُرك الوضع بدون تحرُّك سريع لإيجاد التوازن المطلوب بين العرض والطلب على أسس مستدامة.
٢. انتقد د. الغامدي بشدة مشروع توفير (٢٠٠،٠٠٠) متر مكعب يوميًّا من مياه الصرف الصحي المعالجة بالخُبر، وقال: إنه لا يوجد جدوى اقتصادية من المشروع. ومع أن د. الغامدي أمضى سنوات عديدة في الأحساء كعضو أكاديمي في جامعة الملك فيصل، إلا أنه فات عليه أن المشاريع ليست كلها مبنية على دراسات الجدوى الاقتصادية. هل مشاريع الطرق والأنفاق والمستشفيات والمدارس والجامعات والمياه والصرف الصحي وغيرها مبنية على دراسات جدوى اقتصادية؟ واحة الأحساء يوجد بها أكثر من (٢٠،٠٠٠) فلاح تقليدي ليس لديهم مصادر دخل غير الزراعة التقليدية، وتولت الحكومة – أيدها الله – تنفيذ مشروع الري والصرف بالأحساء قبل نصف قرن تقريبًا لحل مشكلة الصرف الزراعي الناتجة من كثرة مصادر المياه آنذاك، وبعد أن نضبت العيون وغارت مستويات المياه في طبقة النيوجين أصبحت المزارع تعاني من نقص مصادر المياه كي تبقى المزارع مصدرَ دخل لأهل واحة الأحساء فكيف يطالب المذكور بجدوى اقتصادية للمشروع؟ للمعلومية، يتم حاليًّا توفير أكثر من (٦٠٪) من مصادر مياه الري بمشروع الري والصرف بالأحساء على مياه الصرف الصحي المعالجة من محطات الأحساء والخبر.
3. أمَّا انتقاده استخدام تحلية مياه البحر ففيه مبالغة شديدة، وإنْ كنتُ أتفق معه شخصيًّا في أن مياه البحر المحلاة يجب أن تصل للمناطق التي تتوفر فيها مياه جوفية، وزيادة نسبة استخدام مياه التحلية عن (٥٠٪) فيه نوع من المخاطرة، فمثلًا: مَن يضمن قوة الاقتصاد إلى الأبد؟ ومَن يضمن توفُّر الطاقة؟… وهكذا. بعض المدن تعدُّ تحلية مياه البحر هي الخيار الإستراتيجي لبُعدها عن مصادر المياه الجوفية، مثل مدن جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف والباحة وعسير وجازان.
٤. وبالنسبة لانتقاده بناء السدود، وأنها تجمع المياه لتضيع في البحر، فهذا كلام غير علمي، وغير منطقي، ويفتقد للخلفية الجيولوجية.
5. أخيرًا؛ فإنني أذكر أنه في عام ٢٠٠٦ نظَّمت وزارة المياه والكهرباء مؤتمرًا عن السدود، ووجَّهت للدكتور محمد الغامدي دعوةً خاصة لتقديم ورقة علمية عن السدود لمعرفتي بأن لديه شطحات، ولم يقدم أي ورقة علمية، بل حضر بعض الجلسات وغرد خارج السرب في أسئلته واستفساراته!
وعلَّق أيضًا د. مساعد المحيا بأن هناك تهويلًا واضحًا في الحديث، وربما أنه كان يريد الإقناع باستخدام أسلوب الصدمة، لكن من المهم أن يكون الحديث منطقيًّا ومقبولًًا.
مثلًا؛ هو تحدَّث عن تصدير بعض المنتجات الزراعية مثل الخيار والبطاطس، ومعلوماتي أن هذا التصدير أُوقِف منذ فترة، بل الآنَ أُوقِف إصدار منتجات تعتمد على المنتجات الزراعية، مثل: شيبس ليز وغيره.
وأضاف د. عبد الله بن صالح الحمود أن المشكلة في هدر المياه الجوفية في المنتجات الزراعية والألبان أنها لا تعود بالنفع الاقتصادي إلا بالنذر اليسير للغاية، ووزارة الزراعة سابقًا جاملت كثيرًا ملَّاك المزارع والشركات الزراعية، أو أنها لم تكن حازمة نحو الحد من هدر المياه الجوفية وغيرها. من جانبه يرى أ. جمال ملائكة أن أكبر خطأ هو هدر المياه لزراعة منتجات نستطيع استيرادها من عدة مصادر. الماء الحياة، ونحن نهدره بسهولة عجيبة.
وفي رأي د. عبد الله بن صالح الحمود، فإن د. الغامدي مُحِقٌّ للغاية، بدليل أن شركة زراعية واحدة في المملكة تستهلك ما تستهلكه مدينة الرياض. وأذكر تصريحات لوزير المياه والكهرباء السعودية المهندس عبد الله الحصين في 2016، ذكر فيها: “أن تكلفة إنتاج لتر واحد من حليب الأبقار في السعودية يُقدَّر بـ500 لتر من مياه الشرب، وتشمل مياه شرب الأبقار واحتياجات التصنيع ومياه ري الأعلاف. وقطاع الألبان يستنزف المياه الجوفية.
وأوضح م. الحصين – حسبما أوردت صحيفة “مكة” – أن الدراسات الميدانية كشفت أن 96% من كمية المياه المستخدمة في إنتاج الحليب تُستهلك لتلبية الاحتياجات المائية للأعلاف المزروعة محليًّا لتغذية قطيع الأبقار.
وأضاف أنه بحسب آخر إحصاءات وزارة الزراعة، بلغ إنتاج المملكة من الحليب الخام 1.78 مليار لتر، في المقابل كان إجمالي استهلاك مزارع إنتاج الحليب 892 مليون متر مكعب، وهذا يجعل من قطاع الألبان مكونًا رئيسًا في زراعة الأعلاف التي تستنزف المياه الجوفية.
وحذَّر الحصين من حدوث مشكلة حقيقية في حال استمرار استنزاف مصادر المياه الجوفية غير المتجددة.
وحسب البيانات المتوفرة في “أرقام”، كان مجلس الوزراء قد وافق في ديسمبر الماضي على إيقاف زراعة الأعلاف الخضراء في مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات.
كما علق د. عثمان العثمان: إنه إذا كانت الزراعة تستهلك قرابة ٨٥٪ حسب إحصاءات الوزارة نفسها، فأظنُّ أن ما قاله د الغامدي معقول أو مُبرَّر على الأقل.
الاهتمام بقضية المياه في المملكة على المستويين الرسمي والفردي:
أوضح م. سالم المري أن موضوع المياه في المملكة موضوع مهمٌّ وخطير، وللأسف، لم يحظ في العقود الماضية بما يستحقه من اهتمام وعناية سواء على المستوى الرسمي أو المستوى الفردي بين أفراد المجتمع. كان هناك دائمًا كلام كثير حول الموضوع ولكن دون نتائج ملموسة. وأنا هنا لا أنكر الجهودَ الحديثة التي تبذلها الوزارة حاليًّا بقيادة الوزير النشيط معالي الفضلي، ولكن قضية المياه في المملكة قديمة ومزمنة، ويمكن تلخيص المشكلة وبعض حلولها في المحورين التاليين:
١- عانى قطاع المياه في المملكة من تخبُّط وسوء الإدارات المتعاقبة، فمن مبالغةٍ في تقدير موارد المياه إلى إهمال وعدم اكتراث إلى درجة أن لجنة المياه في مجلس الشورى ١٢ سنة (الدورات ٣-٤-٥) تطالب الوزارة بإنهاء الدراسات وتقديم معلومات موثوقة عن تقدير الموارد المائية، ووضع نظام للمياه يوضِّح مسؤوليات الجهات المختلفة، ويضع الخطوط العامة لسياسات الدولة في هذا الشأن قبل التخصيص، ولكن لم يستطع مجلس الشورى في ذلك الوقت الحصول على شيء. ولا أعلم، هل اكتملت الدراسات؟ وهل لدى الوزارة حاليًّا تقدير موثوق للموارد المائية أم لا؟
ومن نتيجة التخبُّط وسوء الإدارة ما حصل في الشركة الوطنية للمياه ومشكلتها المعروفة والمستمرة (جزئيًّا) إلى يومنا هذا في قضية عدادات المياه وقراءاتها غير المنطقية؛ ولذلك لا أتفق مع القول بأن السبب الرئيس للمشكلة التصرفات الفردية، ولا حتى القول بأن معدل استهلاك الفرد في المملكة من أعلى المعدلات في العالم؛ لأن المعلومات المتوفرة مغلوطة وغير دقيقة، وفيها محاولة للتخلُّص من المسؤولية ورميها على التبذير وهدر المياه؛ كيف نُحمِّل المواطن مسؤولية الهدر في حين أن الهدر في الشبكة العامة في المدن الرئيسة يصل إلى ٣٥٪، بل وبعض التقارير تذهب إلى ٥٠٪ في جدة؟! كما أنَّ هناك فوضى وعدم ضبط للمياه المسحوبة من الشبكة للأغراض البلدية، وليس هناك ضامن بأن جزءًا كبيرًا من هذه المياه يذهب لأغراض أخرى. ويكفي أن نُلقي نظرة على أداء شبكة المياه في العاصمة لكي نعرف مدى الإهمال وعدم الاكتراث بهذا القطاع الحيوي، حيث يعتمد المواطنون على خزانات أرضية تُعبَّأ مرة أو مرتين في الأسبوع. والكل يعلم ما يمكن أن يلحق بهذه المياه من تلوُّث، وكان بإمكان الوزارة تشييد خزانات مركزية موزعة في مناطق مختلفة من المدينة تُغذي المنازل مباشرة، وعن طريقها يمكن التحكُّم في كميات المياه وجودتها كما هو معمول به في المدن الحديثة.
٢- مع الشُّح المعلَن في المياه لم تتبن الوزارة سياسات مهمة لترشيد استخدامات المياه تكون على مستوى حجم المشكلة وتفرض تطبيقها، بل تركت الأمور مفتوحةً بدون ضابط، وكان بالإمكان؛
أ- تبني مبادرات تدوير المياه وإعادة استخدام نسبة كبيرة منها في دورات المياه والحدائق، بحيث يكون هناك خطان: واحد للشرب والاستخدامات الآدمية، وآخر لدورات المياه والحدائق، ويمكن فرض هذه السياسات في المخططات الجديدة والمساجد أو على الأقل في المجمعات التجارية.
ب- رفع كفاءة استخدام الطاقة بفرض الإنتاج المزدوج للماء والكهرباء على جميع محطات إنتاج الكهرباء الجديدة، والسعي بجدية لتطبيق قرار مجلس الوزراء الصادر في هذا الشأن، حيث إنَّ الطاقة المهدرة عند إنتاج الكهرباء في المملكة كفيلة بإنتاج ما يحتاجه السكان من مياه الشرب.
ت- قصر الاستثمارات في الصناعة والزراعة على المياه السطحية ومصادر المياه غير التقليدية، مثل مياه الصرف الصحي والزراعي المعالجة.
ث- الحفاظ على موارد المياه غير المتجددة كمخزون إستراتيجي للشرب في الحالات الطارئة وللأجيال القادمة.
ج- الاستفادة الاقتصادية من تشجير المدن.
ح- بناء شبكات الصرف الصحي وشبكات المياه، حيث إنَّ معظم القرى والكثير من المدن تفتقر لشبكات الصرف الصحي وشبكات المياه، وهو ما يتسبب في هدر الموارد المائية.
اتفق د. علي الطخيس مع ما طرحه م. سالم من ملاحظات؛ وأضاف: تقدير الموارد المائية في المملكة وخاصة المياه الجوفية غير المتجددة من أصعب المهام، وقد لا تعني شيئًًا بل مجرد أرقام، للأسباب التالية:
١- طبقات المياه الجوفية في المملكة تُقَسَّم إلى قسمين هما: الطبقات الرئيسة، وهي التي تحتوي على كميات كبيرة من المياه الجوفية غير المتجددة التي اختزنت من عشرين ألف سنة أو أكثر، وهي التي تُمثِّل المخزون الإستراتيجي للمملكة، وتشمل طبقات الساق وتبوك والوجيد والمنجور والوسيع والبياض وأم الرضمة والنيوجين. والطبقات الثانوية محدودة الامتداد الجغرافي والسماكة وكمية المياه، وتستغل على نطاق ضيق، وتشمل طبقات الخف والجلة وحنيفة والجبيل والعرب والسلي وغيرها.
كل الطبقات تمتد رأسيًّا لأعماق تزيد أحيانًا عن (٢٠٠٠ متر) في باطن الأرض، وبعضها تمتد أفقيًّا لعدة مئات من الكيلومترات حيث تغوص تحت الطبقات الأحدث منها، وتميل باتجاه الشرق والشمال الشرقي، وكثيرًا ما تختفي تحت رمال النفود أو رمال الدهناء أو رمال الربع الخالي. من الناحية العلمية البحتة يجب معرفة امتداد تلك الطبقات في كل اتجاه وتحديد سماكتها المشبعة بالمياه ومعرفة نوعية المياه أيضًا؛ لأن بعض الطبقات المائية بها مياه جوفية تزيد أملاح بعضها عن أملاح مياه البحر.
أفضل طريقة – في رأيي – الشخصي لتقدير كميات المياه الجوفية غير المتجددة هي مقارنة مناسيب المياه أو ما يُعرف بمستوى الماء الثابت لكل طبقة في كل منطقة (هذه القياسات متوفرة من الدراسات التي عُملت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ويمكن الاسترشاد بها) مع مناسيب المياه في الوقت الحاضر. على سبيل المثال، عيون الأحساء كانت فوارة ومع كثرة السحب نضبت، وتمَّ مؤخرًا تنفيذ توصية قطاع المياه بوزارة الزراعة والمياه في منتصف الثمانينيات بسحب كمية مقدارها (٢٠٠،٠٠٠) متر مكعب مياه صرف صحي معالجة من محطة الدمام لسد الفجوة المائية في مشروع الري والصرف بالأحساء، والحمد لله نُفِّذ المشروع قبل ثلاث سنوات تقريبًًا.
وطبقة الوجيد بوادي الدواسر كانت فوارة، ووصل مستوى الماء الثابت (٦٠) مترًا فوق سطح الأرض في الستينيات، والآنَ وصل مستوى الماء (٢٥٠) مترًا تحت سطح الأرض.
وفيما يتعلق بشركة المياه الوطنية وقراءاتها غير المنطقية، بالفعل يوجد شكاوى متعددة عن ارتفاع مبالغ فواتير المياه، وقد لاحظتُ ذلك عند زياراتي لمكتب خدمات العملاء، وشاهدت مَن لديه فواتير بعشرة آلاف ريال وعشرين وثلاثين إلى سبعين، وكل ما تفعله الشركة هو تزويد هؤلاء بقائمة بشركات مرخَّصة من الشركة لتكليف المناسب منها لعمل دراسة عن مشكلة التسربات داخل المنازل، وهذه الشركات تقوم بعمل الدراسة المطلوبة، وتتكرر مشكلة الفواتير في الشهر القادم، وهكذا. كنت أتمنى أن تتولى شركة المياه الوطنية عملية الكشف عن التسربات في المنازل التي تعاني من ارتفاع فواتير استهلاك المياه عن طريق فِرقها الفنية وتحميل المواطن تكاليف هذه العملية، وبذلك يكون الطرفان مقتنعينِ وخصوصًا شركة المياه الوطنية.
أمَّا بالنسبة لقصر الاستثمارات في الصناعة والزراعة على المياه السطحية ومصادر المياه المتجددة، إلخ؛ فأعتقدُ أن قصر الاستخدامات على هذه النوعية من المياه فيه مخاطرة كبيرة؛ لعدم ضمان توفُّر هذه المياه على مدار العام إلا في منطقتي عسير وجازان، لكن يمكن الاستثمار في مصادر المياه الجوفية غير المتجددة في توفير مياه الشرب للمدن والقرى والهجر وتوصيل المياه لمناطق أخرى عن طريق ما يُعرف بالربط المائي بين المناطق، على أن يتم التنسيق مع وزارة البيئة والمياه والزراعة في تحديد الأولويات وآلية الاستثمار، ونحو ذلك.
وقد مرت أنظمة المياه والإستراتيجية الوطنية للمياه بمراحل من عدم الاتفاق بين الجهات المستفيدة وتضارُب المصالح، فكل وزارة تدافع عن جمهورها المستهدف بغض النظر عن مصير المياه الجوفية ومستقبلها.
كما أنَّ عملية بناء شبكات المياه والصرف الصحي عملية مستمرة، لكن التوسع الأفقي للمدن والقرى والهجر واعتماد مخططات جديدة يحول – في رأيي – دون اكتمال تغطية هذه الشبكات في وقت قصير. فتح مجال الاستثمار في تنفيذ هذه الشبكات وملحقاتها من محطات معالجة وخزانات وغيرها أمرٌ في غاية الأهمية.
المتغيرات التي تؤثر على مستقبل الموارد المائية واستدامتها:
أشار أ. وليد الحارثي إلى أن د. علي الطخيس تناول المتغيرات التي تؤثر على مستقبل الموارد المائية واستدامتها؛ لذا أتساءل: أين الإنسان، والعنصر البشري الفاعل في ذلك سواء المستهلك أو المستثمر (إن صح التعبير)؟ وما الأدوار المنوطة بهما؟
علق د. علي الطخيس بأن الإنسان هو محور المتغيرات سواء أكانت إيجابية أم سلبية. فئة قليلة من الناس (أفراد وشركات) قدَّمت مصالحها الخاصة على المصلحة العامة خاصة العاملين في القطاع الزراعي، بالإضافة إلى ضعف تنفيذ الأنظمة والقرارات الصادرة من جهات الاختصاص.
هذا هو التطوير في ترشيد المياه في الدول الغربية، وليس العودة إلى الخلف بالسطل، أداء ٢٪ وتوفير ٩٨ ٪ على مستوى الدول، وهذا الكلام لأهل العلم وليس كلام شخص لا دراية له بالأمر.
أتمنى من كل شخص في هذا الوطن أن يتأمل كأس الماء بعد تعبئته تمهيدًًا لشربه، كيف وصل هذا الماء إلى المنزل؟ وما هو مصدره؟ وكم التكاليف والجهود المبذولة لتوفيره وفق أفضل المواصفات القياسية؟ مصدر هذا الماء مياه بحر محلاة أو مياه جوفية أو الاثنان معًا.
ولنا أن نعرف أن تحلية مياه البحر عملية مُكلفة اقتصاديًّا؛ لأنها تنقل بعيدًا عن محطات التحلية التي تُقام على الشواطئ، وتحتاج إلى طاقة هائلة لإنتاجها ونقلها إلى مناطق ترتفع عن سطح البحر مئات أو آلاف الأمتار، ومسافات تصل مئات الكيلومترات، وهي كلها عكس الجاذبية.
أما المياه الجوفية فيتم الحصول عليها عن طريق حفر آبار تتفاوت أعماقها بين أقل من (١٠٠٠) متر إلى أكثر من (١٥٠٠) متر في باطن الأرض، ويتم تبريدها ومعالجة أملاحها، وميزتها قربها من المدن والقرى المحتاجة لمياه الشرب.
ماذا فعلنا كمستخدمين لهذه المياه من جهود لترشيد استخدامها؟ هل امتثلنا لقول الله عز وجل: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾؟
أضاف د. زياد الدريس: إن هذه موعظة ترشيدية بليغة وحاذقة. لا توجد وسيلة لإقناع الناس بترشيد المياه أبلغ من دعوتهم للتأمُّل في كأس الماء الذي بين أيديهم، كيف وصل إلى أيديهم؟
بعض المقترحات الخاصة بترشيد المياه:
من جانبه ذكر د. خالد الرديعان بعض المقترحات الخاصة بترشيد المياه، فهاجس نقص الماء لدى الجميع. نحن في بيئة صحراوية وجافة، لكن وعينا باستخدام الماء ليس كما ينبغي، فهناك هدر واضح في استخدامه في حين أنه يمكننا الترشيد إذا أردنا. هذه المقترحات تتعلق بحفظ الماء واستدامة الموارد المتاحة، وهي على النحو التالي:
– استخدام الشفط الهوائي في مراحيض المساكن بدلًا من السيفون المائي الذي يستهلك الكثير من الماء. سيفون هوائي كالذي نراه في مراحيض الطائرات (شفط) وتركيبه بطريقة متقنة.
– تدوير مياه المطابخ (مياه الغسيل وقبل ذلك فصلها عن المجاري)، واستخدامها في شطف الأحواش بدلًا من ماء المشروع.
– استخدام التنقيط في الزراعة المنزلية وفي الحدائق، مع اختيار الأشجار المناسبة التي لا تستهلك قدرًا كبيرًا من المياه.
– اقترح أحد الزملاء سابقًا وفي هذا الملتقى فصل مياه الوضوء في المساجد عن المجاري بمسار أنابيب خاصة، وتوجيهها نحو الزراعة بحيث تُزرع بعض الأشجار حول المساجد كالنخيل والأشجار ذات الظلال الوارفة، وما لذلك من فوائد بيئية من خلال الإفادة من مياه مستعملة.
– تطبيق “الحصد المائي” لحفظ مياه الأمطار، وقد يكون ذلك بحفر خزانات كبيرة في نهاية مصبات السيول والأودية للإفادة من مائها في الزراعة.
– مياه “الحصد المائي” المقترحة في الفقرة السابقة يمكن توظيفها لغرضين فقط: زراعة القمح لتغذية الإنسان، وزراعة الأعلاف لتغذية الحيوان؛ لخلق اكتفاء ذاتي في الأعلاف واللحوم والألبان كذلك.
– وأقترح لترشيد الماء في البيوت استخدام الصنابير التي تصبُّ لعدة ثوانٍ عند ضغطها ثم تتوقف، وهناك التي تصبُّ بتقنية الأشعة الحمراء.
علق د. علي الطخيس على ما طرحه د. خالد من مقترحات، ويرى أن استخدام الشفط الهوائي في مراحيض المساكن هي فكرة في ظاهرها معقولة، إلا عندنا بالذات لا يمكن تنفيذها لتعدُّد البدائل، وأهمها: توفُّر سيفونات صغيرة الحجم (أقل من ٤ لترات) مقارنة بـ (١٢) لترًا في السابق، والاعتماد على العمالة الأجنبية داخل المنازل، والأخطار التي قد يتعرض لها أطفالنا في ظل غياب ربة المنزل في عملها، وكذلك تدني مستوى الثقافة العامة لدى البعض قد يترتب عليها مشاكل غير محسوبة العوائق.
وفيما يتعلق باستخدام طريقة الري بالتنقيط في الزراعة المنزلية والحدائق فهي موجودة ومطبَّقة، وعلاج الهدر هنا يظهر في فاتورة المياه. تطبيق الحصد المائي لحفظ مياه الأمطار مناسب في منطقة الدرع العربي، لكن هناك عوامل يجب توفرها لنجاح الفكرة، أهمها: توفُّر مياه الأمطار، ووجود سماكة كبيرة من الرواسب لحفظ مياه الأمطار، وتقوم السدود حاليًّا بنفس المهمة.
أما ترشيد المياه في البيوت باستخدام بزابيز تصبُّ لعدة ثوانٍ، فهذه الطريقة تناسب مجتمعات أخرى غيرنا تؤمن بالترشيد. مجتمعنا في غالبه قليل الصبر، بدليل أن الوزارة وزَّعت مجانًا مرشدات للمياه على المنازل، والقليل منها لا يزال يعمل.
وبالنسبة للحصد المائي لخلق اكتفاء ذاتي في القمح والأعلاف واللحوم والألبان، فإنني لا أتفق مع د. خالد في أن الحصد المائي سيحقِّق الاكتفاء الذاتي فيما ذكر.
العلاقة بين خفض استهلاك المياه وإمكانية استدامتها:
وتساءل أ. وليد الحارثي: هل خفض استهلاكنا من المياه سيسمح بأن تدوم المياه فترة أطول فقط؟ أم هناك ما هو أبعد من ذلك؟ أجاب د. عثمان العثمان بأن خفض الاستهلاك هو: استدامة أفضل للموارد غير المتجددة، وتوفير للطاقة، وتقليل للصرف، وإطالة لأعمار المحطات والمضخات وغيرها من الأجهزة، وربما هناك فوائد أخرى…
وعلق د. علي الطخيس بأن خفض الاستهلاك هو أكثر مما ذُكر؛ أما استدامة أفضل للموارد المائية غير المتجددة، فالموضوع ليس فيه خيارات منها استدامة أفضل، فنحن إن كنا ننظر إلى أن مستقبلنا على هذه الأرض المباركة سيستمر لعقدين أو ثلاثة أو نحو ذلك، فيمكننا البحث عن مستقبل أفضل للموارد المائية غير المتجددة، أما إذا كنا نفكر في مئات السنين فيجب علينا أن نتخذ إجراءات غير قابلة للتأجيل، وهي التخفيض الإلزامي لكميات المياه الجوفية غير المتجددة إلى حد يعادل التغذية السنوية من الأمطار، وعودة مناسيب المياه إلى وضعها قبل أربعة عقود، وهذا يصعب تحقيقه. التحدي الذي نعيشه الآن كيف ندير مصدر مائي يتناقص باستمرار؟
وخفض الاستهلاك في مياه الشرب سيترتب عليه مكاسب بيئية واقتصادية وصحية وغير ذلك، عن طريق عدم التوسُّع في إقامة محطات معالجة الصرف الصحي وسهولة المعالجة؛ لعدم وجود فائض غير مخطَّط له، وكذلك الحيلولة دون تجمُّع المياه الجوفية الضحلة عند حفر أساسات المباني والأنفاق، والمحافظة على سلامة الطرق وعدم تأثُّرها بالمياه الضحلة التي لن تتجمع؛ كل ذلك سيؤدي حتمًا إلى حماية البيئة والصحة العامة من الحشرات والبعوض وحمى الضنك وغيرها.
أمثلة لعملية تدوير المياه:
ذهب د. علي الطخيس إلى أنه يوجد أمثلة رائعة لتدوير المياه، ففي سنغافورة تُعالج مياه الصرف الصحي إلى درجة متقدمة، وتُباع في السوبرماركت على أنها مياه شرب درجه ثانية، ولها لون خاص معروف لدى مرتادي هذه الأسواق.
لدينا مياه صرف صحي يتم معالجتها للدرجة الثلاثية لكن المستخدم منها في الزراعة والصناعة لا يتعدى ١٦٪ فقط، والسبب هو بُعد محطات المعالجة عن مناطق الاستخدام كالمزارع الكبيرة، فهذه مشاريع توصيلها مكلف جدًّا، كما أن هذه المزارع محفور بها آبار خاصة بها، والمياه الجوفية مجانية؛ لذا لا يوجد مبرر لاستخدام مياه الصرف الصحي المعالجة في الزراعة. يمكن حقن هذه النوعية من المياه في طبقات المياه الجوفية، وفي ري حدائق المدن والقرى وتشجير الطرق السريعة، وهكذا.
كيفية الاستمرار في المحافظة على المخزون الإستراتيجي للمياه الجوفية:
وفي مداخلة م. أسامة الكردي، تساءل: كيف يمكن الاستمرار في المحافظة على المخزون الإستراتيجي للمياه الجوفية إذا كانت طبقاتها عابرة للحدود مع دول لا تتفق مع المملكة في الحفاظ على هذا المخزون؟ ثم ما هي أهمية تغليف الآبار Casing فيما يتعلق بحُسن استخدام المخزون؟
علق د. علي الطخيس بأنه لا يوجد دولة لا تريد المحافظة على المخزون الإستراتيجي للمياه الجوفية، بل يوجد دولة / دول تريد أن تستفيد من المياه الجوفية العابرة للحدود، والأردن أول حالة لأن الأردن يُعدُّ من أفقر دول العالم في مصادر المياه، وكانت العاصمة عمان تعاني من شح في مصادر المياه، وتقدَّمت رسميًّا للمملكة بطلب إنشاء مشروع مياه حوض الديسي الذي يُعرف بالمملكة بطبقة الساق. دُرِس الطلب بعناية وتمَّ وضع ضوابط ومسافات عن خط الحدود لحماية المياه الجوفية في البلدين، وشُكِّلت لجنة فنية من جهتي الاختصاص لمراقبة الأوضاع المائية من خلال آبار المراقبة المحفورة في كل دولة. كان لي شرف العمل مع اللجنة التي أعدت الشروط والضوابط، واقترحنا إنشاء مشروع مياه تبوك المركزي مقابل مشروع الأردن لتزويد مدينة تبوك وقراها خاصة الواقعة بالدرع العربي شحيحة المياه. ولله الحمد، تمَّ تنفيذ مشروعنا واستفادت منه تبوك كمرحلة أولى. للمعلومة، درسنا الضوابط والشروط المذكورة في المجلس، وصدرت الموافقة السامية على توقيع الاتفاقية مع الأردن قبل عدة سنوات.
بالنسبة للدول المجاورة الأخرى، قامت الوزارة بتنفيذ دراسة هيدروجيولوجية للطبقات المائية العابرة للحدود مع الدول المجاورة، لتحديد اتجاه سريان المياه الجوفية في الطبقات المائية العابرة للحدود، ولا أتوقع إثارة للموضوع لأن معظم الطبقات المائية توجد منكشفاتها في أراضي المملكة، ولنا الأولوية في استثمارها قبل أن تعبر الحدود.
ويوجد معاهدات ثنائية بين الدول لإدارة المياه الجوفية العابرة للحدود، مثل: اتفاقية بين فرنسا وسويسرا، وكذلك اتفاق أربع أو خمس دول في أمريكا اللاتينية لإدارة حوض جواراني وغيرها كثير.
وفيما يتعلق بمسألة أهمية تغليف الآبار Casing؛ فأرى استخدام أنابيب التغليف مهمٌّ جدًّا ويجب إنزال هذه الأنابيب التي يتفاوت طولها حسب عمق البئر، فإذا كانت البئر تخترق أكثر من طبقة جيولوجية، فإن إنزال أنابيب التغليف حتى تمتد داخل الطبقة المائية لعشرة أمتار أو أكثر، وهذا يعتمد على وجود مصافي أم لا، ثم تسميت أنابيب التغليف من أسفل البئر حتى يخرج الإسمنت من فوهة البئر بإشراف جيولوجي، وهذه العملية تمنع ما يُعرف بتداخل الطبقات أي تسرب المياه من الطبقة المستهدفة إلى الطبقات التي تعلوها، ومَن يقوم بخلط الطبقات ويتم اكتشافه فهو معرض لعقوبات يتضمنها نظام المحافظة على مصادر المياه.
أضاف م. أسامة الكردي: إن إحدى مشكلاتنا في هذا القطاع هو الاستدامة. جميع قراراتنا وقتية مرتبطة باهتمامات المسؤولين. فبرنامج ترشيد المياه في المباني والمساكن كان برنامجًا ممتازًا في رأيي، وتمَّ توزيع أدوات الترشيد مجانًا، ولكن لغياب النظام المناسب يكاد يكون البرنامج توقف. وفي الزراعة تحدثنا وقررنا حول القمح والأعلاف ولم يتحدث أحد عن ارتفاع حاجة النخيل من المياه، وعندما أوقفنا زراعة القمح بموجب القرار ٣٣٥ نسينا الأعلاف (لولا مبادرة شركة المراعي)، ثم عدنا بالسماح لصغار مزارعي القمح؛ لذلك أتمنى التطبيق (الكامل) للقرار ٣٣٥ لاحتوائه على جزئيات جميلة ومهمة جدًّا، وبخاصة للمناطق الزراعية النائية التي ليس لها مورد للمعيشة إلا الزراعة. وأضاف أيضًا د. علي الطخيس بأن الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، وهو أول وزير للمياه في المملكة عندما قدم من بريطانيا، ويتذكر إجراءات ترشيد استخدام المياه هناك رغم اختراق الأنهار لبريطانيا، بعد أن تَعرَّف من كثب عن حالة المياه في المملكة، قال: لو كنت خارج المملكة لأعلنتُ حالة الطوارئ.
التوازن في الاستهلاك لمواجهة شُحِّ المياه:
يعتقد أ. محمد الدندني أن شُحَّ الماء لا شك من أهم التحديات إن لم تكن أهمها في بلادنا، والتحدي يكمن في أن الماء ثروة طبيعية ناضبة إن لم نُوفَّق في إحداث التوازن في الاستهلاك.
كنتُ قد اقترحت موضوع النمو السكاني وعلاقته باقتصاد البلاد ومواردها، وهنا يبرز موضوع المياه وترشيد الاستهلاك وربطه مع مواضيع أخرى بالنمو السكاني. هذا من باب النظرة إلى الموضوع على مستوى عالٍ من التخطيط، وهو معرفة وتحديد ما هو عدد السكان الذي لا يستحسن أن نتجاوزه.
لقد ورد في ورقة د. علي الطخيس نسب الاستهلاك، والملاحظ أن الزراعة تُشكِّل نسبةً عالية جدًّا، وهنا لدينا خياران أحلاهما مُرٌّ؛ إما التضحية بالأمن الغذائي أو الأمن المائي إن جاز التعبير. ومن المعروف أن هناك نوعين من مستودعات الماء: فمنها ما هو Rechargeable، ومنها لا يمكن. هذه مرتبطة بالأعماق وأيضًا وجود ما يُسمَّى الصدوع الحافظة أي sealing faults، أو التشققات التي تسمح بنفاذ مياه الأمطار إلى المستودعات. وللأسف، إنَّ كل المشاريع الزراعية العملاقة تُغذَّى من مستودعات عميقة تنخفض عن مستوى سطح الماء بدرجات عالية جدًّا.
لنتكلم عن الزراعة كونها المستهلك الأكبر للمياه، وكيفية معالجة هذا الأمر ولو بالتدريج، من خلال:
١. تقليص المساحات الخضراء كزراعة البرسيم والأعلاف، وقد بدأت هذه السياسة، ولكن سمح بهذا النوع في المساحات التي لا تتعدى ٥٠ هكتارًا. وفي رأيي أن هذا يجب منعه أيضًًا.
٢. الاعتماد على التقنيات الحديثة من الزراعة المائية للورقيات والخضار، كون جُزءٌ كبيرٌ من الماء يُعاد استخدامه إن كان معالجًا أو طبيعيًّا. اعتماد التنقيط والاهتمام بزراعة الأشجار المنتجة. عمومًا تطبيق الطرق الحديثة في كل ما يوفِّر الماء. مثلًا، وضع مواد حول منبت الشجرة لها القدرة على الاحتفاظ بالماء، وهنا يقل التبخُّر والاستهلاك.
٣. البدء في تقليص المزارع العملاقة وتشجيع الملَّاك على الخروج خارج المملكة للاستثمار في الزراعة، كما سمعنا من أيَّام عن استثمار زراعي وحيواني في أستراليا، وبذلك نُحافظ على ما بَقي من المياه للاستهلاك الآدمي، ولعلها تستعيد عافيتها مع الوقت بارتفاع مستوى سطح الماء.
٤. تقليص الثروة الحيوانية لتقليل استيراد الأعلاف والمحافظة على الغطاء النباتي. وهنا أرى أن يكون مصدر البروتين في غالبه من الدجاج والأسماك. القيمة الغذائية المستهلكة في تربية الإبل والماشية تُعطي ناتجًا لا يتعدى ٥٠٪ من اللحوم، في حين أن الدجاج ٨٠٪ والأسماك ٩٠٪. تخمين مبني على الحجم والوزن وما يستفيد منه الإنسان.
أما من ناحية الاستهلاك البشري؛ فهناك الكثير من الطرق لتقليل الاستهلاك، منها:
١. مراجعة تصميم المنازل وفصل دورات المياه من حيث مصدر الماء، ولا مناص من جعل الماء المعالج هو المصدر، وإلزام البلديات والمكاتب الهندسية بهذا التخطيط.
٢. نشر الوعي وباستمرارية في تقليل الاستهلاك، وتطبيق ما يحافظ على بطء تدفق الماء في الحنفيات والاستحمام وغيره من الاستخدامات في المنازل والمناطق الصناعية… إلخ. والطرق كثيرة ومعروفة.
٣. نشر الوعي في منصات التواصل الاجتماعي، وأهم منها تربية الأطفال في المدارس على الحرص على الماء. ولا ننسى المساجد ليس فقط في صلاة الجمعة بل دائمًا، وتنبيه الناس على أن هدر الماء من الإسراف، وأنه أمر مشاع للجميع.
يجب أن تُوضع خطة محكمة بحيث نصل إلى تعويض – وبالتدريج – كل لتر ماء، إلى أن نصل إلى ما لا يقل عن ٨٠٪. هنا نصل إلى توازن معقول.
إذا كانت شركات النفط تَسعى لتعويض الاحتياطيات بتطبيق ما أمكن من التكنولوجيا لتعويض الإنتاج ولها علمها وقوانينها الملزمة، فكيف نهمل ما هو أهم من النفط؟!
أخيرًا، فإن البحث والتنقيب ورفع مستوى علم الهيدرولوجي من أهم العلوم عالميًّا لدول غنية بالماء، فكيف بنا ونحن نعيش في منطقه صحراوية؟
اكتشافات تحتاج إلى البحث والتطوير من أجل استدامة المياه وتقليل الهدر:
ذكر د. حمد البريثن أنه في الوقت الحالي هنالك عددٌ من الاكتشافات التي تحتاج إلى بعض البحث والتطوير من أجل استدامة المياه وتقليل الهدر، وهي:
١- تطوير مصادر الأشعة فوق البنفسجية والتي لها القدرة على قتل العوالق الميكروبية بكفاءة عالية. هذه المصادر مكونة من مصابيح LED تحتاج إلى طاقة منخفضة وصديقة للبيئة.
٢- مواد عضوية معدنية Metal organic frameworkلديها القدرة على استخلاص الماء من الجو وتخزينه، ومن ثَمَّ ضخُّه كماء، وهذه المواد تحتاج للتطوير والاختبار. نجاح هذه التجربة يماثل الخلايا الشمسية في مجال الطاقة، وهذه تعتبر طفرة في مجال المياه.
٣- تطوير الأغشية الخاصة بمعالجة المياه، وهذا مهم جدًّا لإعادة التدوير.
٤- تقليل نسبة التسرُّب من الشبكات عن طريق تطوير حساسات لذلك الغرض.
من جانبه يرى د. علي الطخيس أن ما تطرق إليه د. حمد البريثن مهمٌّ جدًًّا في معالجة تلوث المياه، وخاصة مياه الشرب ومعالجة مياه الصرف الصحي للتخلص من المواد الميكروبية.
إن تطوير أغشية معالجة المياه وتقليل نسبة التسرُّبات من الشبكات عن طريق تطوير حساسات لهذا الغرض – تُعدُّ من أولويات الجهات المسؤولة، ولا أستطيعُ أن أؤكد أو أنفي قيام هذه الجهات بتنفيذ ما أُشير إليه، مع العلم أن استخدامها يوفِّر مليارات الريالات سنويًًّا.
اقتراح فكرة مد أنبوب مياه مالحة من الخليج إلى الرياض، وإنشاء محطة تحلية فيها:
كذلك تساءل د. خالد الرديعان: ألا يمكن مدُّ أنبوب مياه مالحة من الخليج إلى الرياض، ومن ثَمَّ إنشاء محطة تحلية في هذه المدينة، بدلًا من نقل الماء المحلى من الشرقية إلى الرياض؟
علق على ذلك د. علي الطخيس، بأنه ليست هناك فائدة من مدِّ خط مياه مالحة من الخليج العربي للرياض، فهناك أمور تتعلق بالتوفير في تكاليف التحلية وتكاليف مد الأنابيب وغير ذلك.
وزارة الزراعة والمياه سابقًا درست الفكرة قبل أكثر من عشرين عامًا، وكانت النتائج غير مناسبة بل ضررها سيكون أكبر، حيث كانت الفكرة إنشاء بحيرة كبيرة حول الخفس شمال الرياض؛ لأن المياه المالحة ستصل إلى طبقات المياه الرئيسية وتلوثها.
كما أن تحلية المياه في الرياض بعيدًا عن الخليج سيُكلِّف أكثر من ناحية كيفية التخلص من المياه المرفوضة التي تزيد أملاحها عن (000.70) جزء بالمليون وهذه المياه ستلوث التربة وتقضي على الحياة النباتية، وتحتاج إلى مساحات شاسعة تصل لآلاف الكيلومترات المربعة. وستتكون بحيرات من المياه التي تتعدى درجة حرارتها درجة الغليان.
لذا فأنا شخصيًّا لا أتفق مع الفكرة لا شكلًا ولا مضمونًا. نحمد الله أن لدينا خليجًا يتحمل كل أنواع التلوث التي تنجم عن تحلية مياه البحر، حيث تنقل الملوثات مع المياه شديدة الحرارة إلى داخل البحر.
في السياق نفسه علق م. سالم المري بأن مدّ أنبوب مياه مالحة من الخليج إلى الرياض غير مجدٍ لسببين رئيسين: أحدهما اقتصادي؛ لأن كلفة نقل المياه المالحة أعلى بكثير من كلفة نقل المياه المحلاة بسبب ما تسببه الأملاح من أضرار في الأنابيب الناقلة والمضخات والأجهزة الأخرى. والسبب الآخر بيئي، لما ستسببه مياه الرجيع عالية الملوحة من أضرار، وستكون كُلفة التخلص منها عالية.
مسؤولية الإشراف على الزراعة والمياه في المملكة:
من جانبه تساءل د. خالد بن دهيش عن مسؤولية الإشراف على الزراعة وكذلك المياه. فقبل 15 عامًا، فُصِل الإشراف على الزراعة عن الإشراف على المياه في وزارتين، بحكم أن هناك تعارضًا في المصالح، إذ إنَّ نمو الزراعة يقوم على استهلاك مصادر المياه. وقبل خمس سنوات أُعيد الارتباط بين مسؤولية الإشراف على الزراعة والمياه، كما كان تحت مسؤولية وزير واحد بالرغم من وجود تعارض في المصالح.
أيضًا، سبق أن ذُكر أن دراسة لوكالة ناسا أثبتت أن المملكة بها مخزون مياه يعادل مجر نهر النيل ٦٠٠ عام، وأعلن ذلك مدير جامعة البترول أمام الملك فهد رحمه الله، فهل هذه الدراسة كانت قائمة على افتراضات غير علمية أو دقيقة؟
ذكر د. علي الطخيس أن مسؤولية الإشراف على قطاع الزراعة من مهام وزارة الزراعة سابقًا، أما مسؤولية الإشراف على قطاع المياه فهو من مهام وزارة المياه سابقًًا. والآنَ عادت الأمور كما كانت، فبعد أن صدر القرار (٣٣٥) المعروف بقرار إيقاف استلام محصول القمح عام ١٤٢٨هـ، تمَّ نقض القرار بالسماح بزراعة القمح مرة أخرى رغم أن استيراده أقل تكلفةً من زراعته في المملكة لكن بمساحات أصغر، والسماح كذلك بزراعة الأعلاف بمساحات أصغر، وكأنَّ هذا الإجراء لن يترتب علية زيادة في معدلات نضوب الطبقات الجوفية غير المتجددة.
أمَّا دراسة ناسا فهي ليست تلك التي تتحدث عن وجود مخزون مياه جوفية تعادل تدفق نهر النيل لفترة ٥٠٠ سنة، وذكر ذلك معالي مدير جامعة الملك فهد.
في الواقع شُكِّلت بأمر سامٍ لجنة علمية من الجامعات ذات العلاقة، ومنها جامعة الملك فهد وبعض جهات الاختصاص ومنها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، واستمرت اللجنة في اجتماعاتها ورفعت محضرها وتوصياتها للمقام السامي، حيث تبين أن الجامعة استخدمت فرضيات ومدخلات وعمَّمت قيم المعاملات الهيدروليكية على كل الطبقات المائية، وهو ما أدى إلى الخروج بأرقام فلكية. وللمعلومية وللتاريخ، يوجد بالجامعة وقت إعداد الدراسة خبيران سعوديان متخصصان في علم المياه الجوفية ونمذجتها لم يشتركا في هذه الدراسة.
مدى جدوى التفكير في المصادر التقليدية للمياه:
أشار أ. وليد الحارثي إلى أن م. محمد الشهري في تعقيبه على الورقة الرئيسة عَرض لتجارب متنوعة وثرية، ودعا إلى أن تركِّز البحوث والدراسات على إنتاج المياه للمصارف الرئيسة للمياه كما حددها. ولعل تفعيل البحوث والدراسات في هذا الموضوع سيكون له عظيم الأثر في استدامة موارد المياه في المملكة وتنوعها. والسؤال كيف يكون ذلك، ومَن يتبنَّاه؟
علق د. علي الطخيس بأنه لا يتفق مع ما ذهب إليه م. محمد الشهري في تعقيبه من أن التفكير في المصادر التقليدية للمياه غير مجدٍ؛ وذلك لأن المياه التقليدية هي المياه السطحية وتشمل مياه الأمطار والسيول التي يتم حجزها في بحيرات السدود لتحقيق أهداف متنوعة، وكذلك تشمل المياه الجوفية بنوعيها المتجددة التي تعتمد على معدلات هطول الأمطار وتكرار حدوثها، وغير المتجددة التي اختُزنت في الطبقات الجيولوجية من آلاف السنين، وهي المياه التي ننادي بكل ما أوتينا من قوة بالمحافظة عليها والعمل على استدامتها؛ لأن إهدارها ونضوبها سوف يعيدنا إلى ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا من عطش وتصحُّر وفقر ونزوح للدول المجاورة.
توجد تجارب عالمية ناجحة في تنمية مصادر المياه وزيادة كفاءة استخدامها وَجُرِّب العديد منها في المملكة، إلا أنها لم يُكتب لها النجاح بسبب ضعف أو عدم وجود مقومات النجاح من الجهات ذات العلاقة والقطاع الخاص على حد سواء.
كما أن تجربة حصاد المياه من هواء الصحراء جربناها في وزارة المياه والكهرباء في حقل صلبوخ شمال مدينة الرياض ولم تنجح؛ لأن نجاح أي تجربة يتطلب أن يتوفر لها عناصر النجاح، وأهمها في هذه الحالة توفُّر رطوبة بنسب معينة ودرجات حرارة محددة، وهكذا. هذه التجربة قد تنجح في المناطق الساحلية والمنطقة الجنوبية إلا أن الإنتاج المتوقع لن يعادلَ إنتاج بئر من المياه الجوفية.
إحصائيات حول نسب استهلاك المياه بالمملكة:
أورد د. خالد الرديعان بعض الإحصاءات نقلًا عن صحيفة الاقتصادية، والتي نشرت بتاريخ ١٤ مايو ٢٠١٧م: بلغ نصيب الفرد في السعودية من استهلاك المياه خلال العام الماضي 2016م، نحو 271 لترًا يوميًّا، مقارنة بـ 268 لترًا يوميًّا في عام 2015م.
وحقق نصيب الفرد من الاستهلاك أدنى نسبة نمو في الأعوام الأربعة وتحديدًا منذ 2013 حتى 2016م، حيث نما متوسط استهلاك الفرد في عام 2016م عن مستوياته في عام 2015م، بنسبة بنمو 1.1 في المئة؛ أي ما يعادل ثلاثة لترات.
ووفقًا لتقرير وحدة التقارير الاقتصادية في صحيفة “الاقتصادية”، استند إلى بيانات الهيئة العامة للإحصاء، فإن كمية الاستهلاك المحلي من المياه خلال العام الماضي 2016م، بلغت نحو 3.129 مليارات متر مكعب “3.129 تريليونات لتر” مقارنة بـ 3.025 مليارات متر مكعب “3.025 تريليونات لتر” في عام 2015م.
سجل الاستهلاك العام في المملكة أدنى نسبة نمو خلال الأعوام الأربعة السابقة وتحديدًا منذ 2013 حتى عام 2016م، حيث نما استهلاك العام الماضي بنسبة 3.4 في المئة مقارنة باستهلاك عام 2015م.
ولم تذكر بيانات الهيئة العامة للإحصاء عدد المشتركين في المياه بنهاية عام 2016م، حيث بلغ عددهم بنهاية عام 2015م نحو 1.99 مليون مشترك.
كما بلغت نسبة المياه المحلاة من إجمالي كمية المياه المستهلكة في السعودية نحو 38% في عام 2016م، مقارنة بـ 43% في عام 2015م.
وتعتبر نسبة المياه المحلاة من إجمالي المياه المستهلكة أدنى نسبة من عام 2010 حيث بلغت خلاله 37%، ثم ارتفعت إلى 50% في عام 2012م، وتراجعت إلى 43% في عام 2015م، ثم إلى 38% في عام 2016م.
وعادلت كمية استهلاك المملكة من الماء خلال عام 2016م، نحو 173.84 مليون صهريج ماء سعته 18 مترًًا مكعبًا مقارنة بنحو 168 مليون صهريج خلال 2015م. وعند توزيعها على عدد أيام السنة، يتبين أن المملكة تستهلك نحو 476.3 ألف صهريج يوميًّا خلال العام الماضي 2016م، مقارنة بنحو 460.5 ألف صهريج خلال 2015م.
وبهذا فإن الفرد الواحد في السعودية تبلغ حصته من استهلاك الماء خلال 2016م، نحو 5.48 صهاريج ماء، سعة الواحد 18 مترًا مكعبًا “18 ألف لتر”، مقارنة بـ 5.42 صهاريج ماء خلال عام 2015م.
وبتوزيع الاستهلاك على مناطق المملكة، يتبين أن منطقة “الرياض” هي الأكثر استهلاكًًا خلال العام الماضي، بـ 1.032 مليار متر مكعب، تشكل نحو 33 في المئة من إجمالي استهلاك المملكة. فيما تحتل منطقة “مكة المكرمة” الترتيب الثاني في المناطق الأكثر استهلاكًا من المياه بـ 707.12 ملايين متر مكعب، تمثل نحو 22.6% من الإجمالي. بينما جاءت منطقة “الشرقية” في المركز الثالث في القائمة باستهلاك قدره 659.1 مليون متر مكعب، تشكِّل نحو 21.2% من الإجمالي.
تليها منطقة “المدينة المنورة” باستهلاك قدره 183.7 مليون متر مكعب من المياه خلال 2016. بعدها جاءت منطقة “القصيم” بـ 123.8 مليون متر مكعب، وبعدها منطقة “عسير” بـ 100.6 مليون متر مكعب، تليها “تبوك” بـ 71.4 مليون متر مكعب، ثم “جازان” بـ 60.4 مليون متر مكعب.
وجاءت “حائل” في المرتبة التاسعة بـ 55.9 مليون متر مكعب، وعاشرًا منطقة “الجوف” بـ 44 مليون متر مكعب، وفي المرتبة 11 جاءت منطقة الباحة بـ 43.2 مليون متر مكعب.
بينما حلت منطقة “نجران” في المرتبة 12 باستهلاك قدره 24 مليون متر مكعب، وأخيرًا حلت منطقة “الحدود الشمالية” في المرتبة 13 باستهلاك قدره 23.7 مليون متر مكعب.
وأشار د. رياض نجم إلى أن د. علي الطخيس ذكر في ورقته أن استهلاك المياه في القطاع الزراعي هو ٨٤٪ من مجمل الاستهلاك، وأن ٩٥٪ من هذا الاستهلاك هو من المياه الجوفية غير القابلة للتعويض على المدى المنظور. وبالرغم من هذا فلم نصل إلى الأمن الغذائي الكامل.
مع كل التقدير لجميع المبادرات التي تمت خلال الأعوام الماضية، فإنها لم تفعل ما يكفي لمواجهة هذه المعضلة الخطيرة.
وأتساءل: هل تحتاج المملكة أن يكون لديها أكبر مزرعتين للأبقار وإنتاج الألبان في العالم؟ ليس فقط للاستهلاك المحلي ولكن أيضًا للتصدير. لماذا نستمر في زيادة المساحات الخضراء في مدننا (النجيل بشكل أساسي) التي تستنزف قدرًا كبيرًا من المياه؟ ألا يمكن استبدالها بالنجيل الصناعي فورًا؟
ما نتحدث عنه للاقتصاد في استهلاك الأفراد من المياه، بالرغم من أهميته، لن يُحدث أثرًا يُذكر إذا استمر الهدر في القطاع الزراعي. فهل نريد أن نزرع ونموت، أو نقلل مما نزرع لكي نستمر في الحياة؟!
أظن أننا بحاجة إلى ترتيب أولوياتنا، واتخاذ قرارات حاسمة وسريعة لإنقاذ الأجيال القادمة.
العلاقة بين استهلاك المياه وحجم الاستهلاك الزراعي للمياه:
أوضح د. مساعد المحيا أنه لا يذكر استهلاك الماء إلا ويتم تناول حجم الاستهلاك الزراعي للمياه، إذ ندرت المياه في عدد من المناطق بسبب حجم استنزاف المياه. وقد منعت مؤخرًا الوزارة عددًا من الأصناف الزراعية كالأعلاف رغبة في الحفاظ على المياه. ودون شك، فحجم استهلاك النخيل للمياه ضخم جدًّا.
والوزارة وفقًا لتصريحات مسؤوليها مثل الوزير المهندس عبد الرحمن بن عبد المحسن الفضلي في حديثه لكبار منتجي ومصدري التمور عن أهمية دور النخلة والتمور في الأمن الغذائي الوطني، حيث أكد أنَّ على الجميع العمل لتعظيم الفائدة من النخيل ورفع كفاءة الري باستخدام طرق الري الحديثة، للتأكُّد من الاستخدام الأمثل للمياه في الري، منوهًا بالهدف الإستراتيجي بأن تكون المملكة المصدر الأول للتمور ضمن برنامج التحول الوطني ٢٠٢٠، حيث تحتل المملكة الآنَ المرتبة الثالثة من حيث القيمة.
كما أوردت أ. فائزة العجروش فيديو عن زراعة التين في أحواض النخيل في محافظة الزلفي، كتجربة ناجحة عمرها 30 سنة، وبدون أي سلبيات تُذكر بخلاف التوقعات والتنظير. علق د. مساعد المحيا بأن هذا يتعلق بمسألة استنزاف المياه من قبل الشركات المعبأة للمياه. فمثلًا، إحدى المزارع المشهورة فيها مليون نخلة، هذه يُتوقَّع أنها تستهلك عشرة أضعاف ما يصدر من المياه. ويُلاحظ أن الحديث هنا لبيان حجم الاستهلاك من الماء وليس لتأييد عملية التصدير.
الوزارة في بياناتها تشير إلى أن استهلاك الفرد في حدود ٣٠٠ لتر يوميًّا. هذا يعني أن حجم استهلاكنا للماء كبيرٌ لدرجة لا يعلمها كثير من الناس.
ولعل ما يعزز فكرة ازدياد حجم الاستهلاك ما أشار إليه الزملاء حول الهدر في استخدام الأشياء الضرورية، وبالتالي نحن نحتاج أن ندرك ونعيش ثقافة المحافظة على المياه. طبعًا الأعلاف تمَّ إيقاف زراعتها إذ إنَّ استهلاك مزرعة من ٥٠ دونمًا يبلغ ٨٠٠ ألف متر مكعب.
أضاف د. علي الطخيس: لقد أشرتُ في ورقتي أن القطاع الزراعي يستهلك ٨٤٪ من إجمالي استهلاك المياه السنوي. ثلاثة محاصيل فقط تستهلك ٨٩٪ من إجمالي استهلاك القطاع الزراعي، وهي الأعلاف والحبوب (القمح) والنخيل. بعد الإجراءات التي سيتم تطبيقها على الأعلاف والقمح سيكون النخيل هو المستهلك الأكبر للمياه، فيجب أن تُركِّز الجهة المختصة جهودها على تخفيض معدلات استهلاك النخيل من المياه، فهناك نخيل يروى بطريقة الغمر، وهناك طريقة الري تحت السطحي، ويجب أن لا ننخدع بما يُدلي به أصحاب مزارع النخيل عن تخفيض الاستهلاك باستخدام طرق الري المرشدة، في ظل غياب جهة محايدة تتولى الرقابة والقياس وتطبيق العقوبات والمخالفات.
كذلك فإن المياه الجوفية غير المتجددة متى ما نضبت فلا يمكن تعويضها، والشواهد واضحة أمامنا، مثل: نضوب بحيرة الأفلاج، ونضوب عيون الأحساء، وعيون الخرج، وهكذا.
ومع كل هذا الهدر المائي في القطاع الزراعي، لم ولن نحقق الأمن الغذائي. الأمن الغذائي ليس قمحًًا فقط.
هل يعرف الجميع أن كل كأس حليب يستهلك (٥٠٠) لتر من الماء غير المتجدد، شاملًا زراعة الأعلاف والتنظيف وخلافه، ومع الأسف نجد منتجات الحليب والألبان السعودية منتشرة في كل البلدان المجاورة حتى تلك الغنية بالأنهار، كأننا نُصدِّر المياه الجوفية غير المتجددة.
وعندما توقفت الدولة عن استلام القمح تم استيراده من الخارج بأسعار أقل مما تدفعه الدولة للقمح المحلي.
كما أن وزارة الزراعة شجَّعت الاستثمار الزراعي في الخارج وفشلت في تنفيذه، وقامت الشركات الزراعية بهذا الدور بالزراعة في مصر والسودان ودول في أمريكا اللاتينية، ونجحت من جانب زيادة دخلها وفشلت في تقليص حصتها من تخفيض المساحات المزروعة محليًًّا.
كذلك فإن الأمن الغذائي يشمل أيضًا إنتاج الدواجن التي لا تستهلك المياه ولا تزال المملكة بعيدة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من الدواجن. كما تُعدُّ الأسماك جزءًا مهمًّا في معادلة الأمن الغذائي، ولدينا آلاف الكيلومترات من الشواطئ التي لمَّا تُستثمر بعدُ. زراعة الخضار في البيوت المحمية لم تنل ما تستحقه من اهتمام رغم صدور أمر سامٍ بزيادة إعانة المزارعين إلى ٧٠٪ من تكاليف أنظمة الري وغيرها.
علق د. رياض نجم بأنه إذا كان هذا الهدر الكبير في المياه لأجل إنتاج الألبان التي يُصدَّر للخارج جزء منها؛ لِمَ لا نوصي بطلب الحد من التوسُّع في إنتاج الألبان، أو على الأقل منح هذه المزارع كوتا محددة في استخدام المياه الجوفية، وتقليلها حسب جدول زمني؟ بينما ذكر د. علي الطخيس أنه لم يقصد الهدر المائي بسبب تصدير الألبان فقط؛ بل الهدر الإجمالي لكل المنتجات الزراعية التي تستهلك ٨٤٪ من إجمالي استهلاك المياه السنوي.
كما أشار م. حسام بحيري إلى أنه حسب إحصائيات استخدام المياه، فإن القطاع الزراعي هو المستهلك الأكبر للمياه، وبما أن معظم مصادر المياه في الدولة مصادره غير متجددة، لماذا لا يكون هناك ارتباط بين مصادر المياه المتجددة ونسبة نمو القطاع الزراعي؛ لأنه لا يمكن أن يتوسع بدون مصادر مستدامة؟ القطاع الزراعي أصبح يشكِّل خطرًًا على المخزون الإستراتيجي للمياه.
أيضًا؛ لماذا لا يتم سنُّ قوانين جديدة خصوصًا في قطاع الإنشاءات، للاستفادة من المياه الرمادية وإعادة تدويرها واستخدامها في أغراض إضافية؟
المياه المستخدمة في جميع المباني المنزلية والحكومية والتجارية والصناعية تعتبر مياه سوداء (مياه صرف صحي)؛ لذا لا بد من سنِّ قوانين لفصل مياه الصرف الصحي عن المياه الرمادية في جميع قطاعات الإنشاءات (المياه التي تُستخدم في التنظيف والغسيل فقط).
الأمن الغذائي وتفعيل مبدأ الإدارة المتكاملة لموارد المياه:
اقترح د. علي الطخيس أنه يمكن تحقيق جزء من الأمن الغذائي بتفعيل مبدأ الإدارة المتكاملة لموارد المياه عن طريق:
1- تعظيم الاستفادة من المياه المتجددة في منطقة الدرع العربي.
٢- الاستخدام الأمثل لمياه الصرف الصحي المعالجة التي تُرمى حاليًّا إمَّا في البحار أو في الأودية (يُستفاد حاليًّا من ١٦٪ فقط من المياه المعالجة).
٣- فرض رسوم رمزية على مستهلكي المياه الجوفية غير المتجددة، وتُوضع في صندوق للأجيال القادمة.
٤- محاولة تخفيض أعداد الحيوانات الحية التي يفوق استهلاكها طاقة المراعي الطبيعية (الحمولة الرعوية)، والتركيز على استيراد حاجتنا من اللحوم المستوردة.
٥- تغيير نمط الغذاء والحد من استخدام اللحوم بصفة مستمرة لأضرارها الصحية ودورها في انتشار السمنة وأمراض السكر والكوليسترول وغيرها.
ماء زمزم: بين القدسية والخواص الصحية:
أشار د. مساعد المحيا إلى أنه برغم أن مسؤولية مياه زمزم تعود لجهة أخرى غير وزارة البيئة والزراعة والمياه، إلا أن أحد المختصين وهو الدكتور: عبد الله بن عبد الرحمن المحيذيف مدير عام المختبرات والجودة بوزارة البيئة والمياه والزراعة (سابقًا) ألقى محاضرة قبل أيام، اشتملت على معلومات مهمة بشأن مياهها، تحت عنوان: “معلومات حول (الإعجاز العلمي في مياه زمزم)”. عقد المحاضرة مجلس حي بئر عثمان بن عفان بالمدينة المنورة في يوم الإثنين 18 رجب 1440هـ الموافق 25 مارس 2019م، وحضرها جَمْعٌ من أهالي المدينة المنورة. هذا أبرز ما ورد فيها:
– يرى الدكتور أن مصطلح نبع زمزم أدق من بئر زمزم.
– أثنى المحاضر كثيرًا على الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف سماحة الشيخ الدكتور: صالح محمد الحصين يرحمه الله؛ لأنه كان يبحث عن كل ما يتعلق بمياه زمزم من أبحاث وإعجاز وأسرار، ويحرص على توثيق ذلك علميًًّا وتقديمه للعالم كله بشفافية ومنهجية.
– مصادر نبع مياه زمزم ثلاثة: أولها من جهة جبل أبي قبيس، والثاني من جهة الكعبة والحجر الأسود، والثالث من جهة الركن اليماني.
– تلقى المحاضر توجيه الشيخ صالح يرحمه الله، بالنزول إلى النبع لدراسة وضع ماء زمزم والتربة المحيطة به.
– رأى الباحث أن سحب الماء من تحت النبع عن طريق مضختين تعملان دفعةً واحدةً، حتى قلَّ منسوب الماء إلى متر ونصف تحت النبع.
– أصبح الوضع مُهيَّأً لأخذ عينات محققة وعلمية من كل مصدر من مصادر زمزم، بدءًا من النبع الأول ثم الثاني ثم الثالث، كل عينة عشرة لترات، والعينة الرابعة هي مخلوط تلك المصادر الثلاثة.
– بيـَّن المحاضر أن تدفُّق مياه زمزم كان قويًّا جدًّا، خاصةً القادمة من جهة جبل أبي قبيس، حتى أنه عانى أشهرًا من ألم في جنبه جراء تعرُّضه لها.
– وضع المحاضر لكل عينة بصمةً، بمعنى معرفة مكونات كل مصدر من مصادر النبع، وتم الاستفادة من هذه البصمات لمعرفة مياه زمزم غير المخلوطة، ومعرفة نوع المصدر، وتغيُّر التدفق لكل مصدر، وجودة كل مصدر؛ لأن كل مصدر يختلف عن الآخر كمًّا ونوعًا.
– هذه البصمة تتغير كل ستة أو ثمانية أشهر؛ ولهذا يقتضي الأمر عمل بصمة جديدة كل فترة.
– مع كل هذه المعرفة للمكونات، فمن المستحيل تصنيع مياه زمزم في المختبرات.
– بعد سحب العينات من النبع، وبعد خروج المحاضر من النبع، وبعد مرور عشر دقائق ارتفع منسوب الماء إلى الوضع الطبيعي؛ وهو ما يدل (علميًّا) أن مياه زمزم لا تنضب.
– تبين من خلال الدراسة أن مياه زمزم مياه طبيعية لم تختلط بالمياه المجاورة لها.
– كان السائد عند الناس أن مياه زمزم إذا قلت فيها الأملاح فإن ذلك بسبب خلطها بمياه أخرى، وثبت بالتجربة أن هذا غير صحيح، فإن نسبة الأملاح تخفُّ في مياه زمزم كلما زاد تدفق المياه.
– بعد البحث العلمي، وبالتعاون مع مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وجامعة الملك فيصل بالدمام، وباشتراك باحثين يرأسهم طبيب متخصص في وظائف الأعضاء، وبالمقارنة مع المياه الأخرى، ثبت أن مياه زمزم هي الوحيدة التي تُنتِج مضادات أكسدة في الدم، وهي أسباب الشفاء من كثير من الأمراض بأمر الله.
– نُشرت نتائج هذا البحث في مؤتمر الإعجاز العلمي في مدريد بإسبانيا، في محاضرة استغرقت عشرين دقيقة، حضرها مسيحيون وقساوسة، نتج عنها كثرة الاستفسارات من الأطباء والصيدلانيات، ولم يكن الوقت يتسع للإجابة عن تساؤلاتهم التفصيلية الدقيقة.
– اقترح القساوسة عرض هذه المحاضرة داخل الكنيسة يوم الأحد. وهذا ما تم بالفعل، وكان الحضور كثيرًا، واستمرت المحاضرة ثلاث ساعات، فكانت النتيجة إسلام أربعة قساوسة وبعض الصيدلانيات. وكبَّر المسلمون في الكنيسة، وانتشر الخبر هناك، حتى أن السفير السعودي في إسبانيا انبهر من هذه النتائج، فقد أسلم على يد هؤلاء القساوسة جَمْعٌ من الناس، واستضافتهم المملكة للعمرة.
– أكثر ما شدَّ الحضور في الكنيسة هي مضادات الأكسدة الموجودة في مياه زمزم؛ لأنها هي المعتبرة لقتل الخلايا السرطانية والقضاء عليها تمامًا، بالإضافة إلى أن مياه زمزم سبب لشفاء الأمراض الأخرى.
– الحفاظ على مياه زمزم دَأْب كل ملوك هذه الدولة المباركة منذ عهد الملك عبد العزيز يرحمه الله، وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان يحفظه الله.
– مشروع الملك عبد الله – يرحمه الله – لسقيا زمزم إضافة هائلة ملموسة.
– عندما ظهرت شائعة في أوروبا عن تلوث مياه زمزم، طلب المحاضر من الشيخ صالح الحصين يرحمه الله الإذن بالرد على هذه الإشاعة، فأعدَّ الباحث دراسةً مع المقارنة بين أسلوب التعبئة السابق، وتعامل الحجاج مع العبوات، كما طلب عينات من بريطانيا لمياه زمزم المزعوم تلوثها، فوجد أنها فعلًا قد تلوثت، بسبب جهل الحاج بطريقة التعامل مع مياه زمزم، في حين أن مياه زمزم في مصادرها وفي الخزانات وفي الحرمين وفي الصهاريج وفي المشربيات كانت متطابقةً وغير ملوثة، ولله الحمد.
– كتب الشيخ صالح الحصين – يرحمه الله – خطابات لسفراء أوروبا وأمريكا بالرياض، بعدم تلوُّث مياه زمزم، وأن العينات الملوثة والمضبوطة في دولهم هي بسبب جهل التعامل معها من البعض، وسلَّمهم نتيجة هذه الدراسات، وطلب منهم عرضها عبر وسائلهم الإعلامية، وهذا ما تم بالفعل في بعض تلك البلدان.
– مضى على هذا الحدث سبع سنوات حتى الآن ولم يصدر عن الاتحاد الأوروبي أي تعقيب على هذه الدراسة أو التشكيك فيها، بل هناك مذكرة تفاهم بين المحاضر وبين الاتحاد الأوروبي لبيان الإعجاز العلمي لمياه زمزم من خلال أبحاث يقوم بها علماء من الاتحاد الأوروبي، ليثبت للعالم أن ماء زمزم شفاء وعلاج وغذاء.
– سُئِل المحاضر عن الفرق بين نزوله لنبع زمزم ونزول الغواصين من قَبله، فأجاب أن نزول الغواصين من قبلُ، يهدف لتنظيف النبع مما رُمِي فيه على مرِّ السنين، وهي الموجودة الآنَ في متحف الحرمين الشريفين بمكة المكرمة، في حين أن نزول المحاضر هو نزول علمي لمعرفة مكونات مياه زمزم.
– وردًا على سؤال حول ما أثارته الدكتورة بمستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض/ خولة الكريع، بأنه لم يثبت علميًّا أن مياه زمزم تشفي من السرطان، بل حذرت مرضى السرطان من شرب مياه زمزم لأنها مضرة بسبب ملوحتها، قال المحاضر: إنه تواصل مع الدكتورة وطلب منها المقابلة في مركز الأبحاث بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، وبحضور متخصصين، لإثبات ما ذكرته عن مياه زمزم، فوافقت بعد تردد شديد، فجرت المقابلة بينهما، وبدأت المناقشة عن الخلفية العلمية أو الأبحاث التي تؤيد ما ذهبت إليه، فردت بأنها تعتقد أن الأملاح هي السبب، فأوضح المحاضر لها أن الأملاح في مياه زمزم ليست سببًا للمرض بل هي سبب للعلاج؛ ذلك لأنها تحتوي على عناصر صحية تعالج الأمراض، فطرح المحاضر عليه فكرة الاشتراك في بحث علمي في مركز الأبحاث لدراسة رأيها، لكنها اكتفت بما سمعت، فطلب منها المحاضر إصدار بيان صحفي ردًا على ما ذكرته من قبلُ ولا سيما أن وزارة الصحة أصدرت بيانًا ردت فيها ما ذهبت إليه الدكتورة، فوعدت بذلك ولكنها لم تفعل حتى الآن.
– لا صحة لاختلاف طعم ماء زمزم في المدينة المنورة عنه في مكة المكرمة، ولكن الأمر يخضع للعامل النفسي.
– مياه زمزم لا تزيد في موسم الأمطار.
علق على ذلك أ. محمد الدندني؛ بحكم دراستي وهي الجيولوجيا أن مكامن المياه توجد في الغطاء الرسوبي (الصخور الرسوبية)، وليس في الصخور النارية أو المتحولة كموقع نبع زمزم في الدرع العربي. هل هو مجرد أودية قديمة تحت الأرض ومن أين مصدرها؟ الله أعلم.
بينما يرى د. خالد الرديعان أن ماء زمزم مقدَّس وله صفة دينية، وليس من الضروري إقحام الأبحاث العلمية في هذا الباب بحكم أن مصادر الماء (جميع أنواع المياه) معروفة. ولا يُستبعَد أن يختلط بماء زمزم مياه من مصادر أخرى؛ بدليل زيادة الملوحة فيه، وغرابة مذاقه مقارنة بالمياه الأخرى.
نحن نشرب ماء زمزم ونتضلع به لخاصيته الدينية، وليس لخصائصه الفيزيائية أو التركيبية فهذه مسألة جدلية، ولا يُفترض أن نجادل في ذلك حتى لا نُسيء لديننا بالقول، إنَّ هذا الماء له خصائص طبية لا تتوفر في المياه الأخرى، وإلا لأغلقنا المستشفيات.
مسألة أخرى تتعلق بمفهوم قدسية ماء زمزم؛ فالبعض لديه اعتقادٌ راسخ بأن الشفاء هو من الماء ذاته، في حين أن الشافي هو الله سبحانه وتعالى، وأن شُرب ماء زمزم هو طاعة لله ونبيه. والخوض في هذه المسألة عمومًا محفوفٌ بالمخاطر والوصم جاهز. أنا أحبُّ ماء زمزم وأشربه دون أن أكثر منه، وأعتقد أن الشفاء هو من الله.
السؤال الذي يمكن طرحه في هذا الباب هو: لو حفرنا بئرًا أخرى في مكة شرفها الله، وقريبة من بئر زمزم، ألا نحصل على ماء مشابه لماء زمزم؟ وماذا نُسمِّي ماء هذه البئر الجديدة؟
ويعتقد د. عبد الله العساف أن ماء زمزم في تركيبته حالة خاصة، لا تماثلها بقية خصائص المياه، وإن وجدت بينهما مشتركات.
كما أورد د. خالد الرديعان مقطع فيديو للدكتور الخضيري وهو أستاذ وعالم أبحاث في تخصص المسرطنات، حول المياه المعبأة، وأنه ليس من الضروري الاعتقاد أنها مفيدة. وذكر أيضًا أن ماء زمزم تبلغ نسبة الأملاح فيه ٦٥٠ وهي مرتفعة، فالمعدل الطبيعي يُفترض أن يكون بحدود ٣٠٠ إلى ٣٥٠.
من جانبه ذكر د. رياض نجم أنه لا يتفق كثيرًا مع ما قاله د. الخضيري. وعلينا أن ننظر لخزانات المياه في بيوتنا (الأرضيّة والعلوية) كل سنتين أو ثلاث، ونرى كمية الأتربة وغيرها التي تتراكم فيها. فهو لم يؤكد وجوب تنظيف هذه الخزانات، هذا على افتراض أن مياه البلدية أفضل صحيًّا من المياه المعلبة.
أضاف د. رياض نجم: لم أطلع على دراسة تؤكد أن شبكات توزيع المياه في المدن خالية من الشوائب. ما هو متداول أن في هذه الشبكات نسبة هدر تصل إلى ٢٥٪. فهل هذه التسربات لا تؤدي إلى دخول شوائب للمياه التي تصل للبيوت، حتى قبل دخولها في الخزان؟
ويرى د. مساعد المحيا أن كلام د. الخضيري غير دقيق، وقد نفاه قبل أيام رئيس هيئة الغذاء والدواء.
وكانت من التوصيات التي اقترحها أعضاء الملتقى بعد مناقشة القضية، ما يلي:
- العمل على ربط استدامة الموارد المائية مع استدامة الطاقة المتجددة، وتوفير الغذاء لتجاوز التحديات الكبيرة التي ستواجه المملكة خلال السنوات الخمس القادمة. وتعزيز مبدأ الإدارة المتكاملة للموارد المائية في المملكةIntegrated water resources management (IWRM).
- أن تقوم الجهات المختصة بمراقبة تسربات شبكات المياه العامة بطرق عملية تحدُّ من هدر كميات هائلة من المياه.
- أن يتم تحديث شبكات المياه العامة واستبدالها بوتيرة أسرع من الأسلوب الحالي عبر مبادرات جديدة تتوافق مع رؤية المملكة 2030.
- الاستثمار والدعم من قِبل الحكومة في مجالات تقنية المياه ومعالجتها يجب أن يكون بنفس القدر أو الأهمية الذي تقوم به تجاه الطاقة وتنويع مصادرها.
- إعادة النظر في الاستثمارات التي تستخدم المياه الجوفية، ووقف أي هدر أو استنزاف ينتج عن استخدامها.
- قصر الاستثمارات الزراعية على الزراعة الحديثة المعتمدة على المياه المتجددة، وتلك التي تستخدم التقنيات الحديثة التي تعتمد على المياه المالحة وتدوير المياه.
- وَضْع الأنظمة والتشريعات التي تكفل إيقاف الهدر في المياه، والمساهمة في تنميتها، والاستثمار فيها، وإيجاد جهاز رقابي مستقل عن الوزارة المعنية لمعالجة قضايا المياه وفواتير المياه ومراقبة أداء وإنتاجية شركات المياه العامة والخاصة.
- قيام صندوق الاستثمارات العامة بشراء أراضي الشركات الزراعية ذات المساحات الكبيرة للاستفادة منها في تنفيذ مشاريع مياه الشرب أينما وُجدت هذه المزارع؛ لعدم حاجة الشركات لها في ظل تقنين زراعة الحبوب والأعلاف ذات الاستهلاك العالي للمياه والتي تهدد مستقبل الموارد المائية واستدامتها.
- الإسراع في تنفيذ مشاريع الربط المائي بين مناطق المملكة ومدنها وَقُراها.
- تحديث شبكات مياه المدن وربط المنازل بخزانات مياه للتوزيع داخل المدن بحيث يسهل التحكم في نوعيات وكميات المياه، كالمعمول به في مدن المنطقة الشرقية الرئيسة.
- تحديث وإصلاح قطاع المياه بما في ذلك الشركة الوطنية للمياه، وتقويم أدائها الإداري والفني.
- وضع رقم مباشر خاص للتواصل مع جهة تعالج أي تسريبات أو هدر مائي في الأماكن العامة.
- تطوير الصناعات والأبحاث المتخصصة في أنظمة وأجهزة تحلية المياه.
- التشدد في تطبيق قرار مجلس الوزراء فيما يخصُّ الإنتاج المزدوج للماء مع الكهرباء عند الترخيص لمحطات توليد الكهرباء الجديدة.
- العمل (أفرادًا ومجتمعات وجهات مختصة ومنظمات مجتمع مدني) على تخفيض معدلات استهلاك القطاعات المختلفة للمياه، لإطالة عمر ما تبقى من مصادر مائية.
- أن يتم منع تصدير المنتجات المعتمد إنتاجها على المياه، أو رفع الضرائب عليها.
- التأكيد على الاستخدام الأمثل لمياه الصرف الصحي والصرف الزراعي المعالجة.
- أن تعمل وزارة الزراعة على منع الري بالغمر في الزراعة سواء كان ذلك في المزارع الصغيرة أو الكبيرة، واستبداله بالوسائل الحديثة في الري التي توفِّر في المياه.
- تطوير الزراعة البعلية والمدرجات الجبلية في المنطقة الجنوبية.
- العمل على تنظيم ودعم تسويق المنتجات الزراعية المحلية في المناطق الزراعية في المملكة، وإيصالها للأسواق في المدن الكبرى، وإعطائها الأولوية في مشتريات الدولة.
- أن يتم تحويل المشاريع الزراعية الخيرية التي تعتمد على المياه الجوفية غير المتجددة إلى مشاريع استثمارية لأنشطة غير زراعية.
- القيام بحصر الأراضي الزراعية المملوكة للحكومة، والتخلص من المساحات التي لم تعد الحاجة لاستزراعها، لتكون متنزهات للعامة أو بيعها للانتفاع بها كمساكن أو مقار للصناعات الخفيفة تفاديًا للتلوث البيئي. وحصر المناطق الزراعية طاغية الاستهلاك للمياه الجوفية، بنزع ملكيتها أو تحويلها إلى صناعات أخرى، توفيرًا لثروة مائية مهدرة.
- الإفادة من بعض الينابيع التي لا تنضب مثل بئر زمزم، في توزيع مياه الشرب بكميات استهلاكية بأسعار اقتصادية في عبوات متنوعة.
- أن يتم تبني ودعم جائزة “الأمير سلطان العالمية للمياه” وتوسيع نطاقها ومجالاتها، للاستفادة من التجارب العالمية في مجال تقنية المياه ومعالجتها.
- التركيز على أن تستهدف البحوث والدراسات المقبلة والتقنية إنتاج المياه للمصارف الرئيسة للمياه والمتمثلة في: المياه المستخدمة في الشرب، والري والسقي داخل المدن، والتصنيع والمنشآت الصناعية الكبيرة، والمياه المستخدمة في الزراعة وبالذات في الشركات الزراعية الكبرى.
- تقديم الدعم السخي لأبحاث المياه في مراكز البحث والتطوير، واعتبارها أولوية بحث ملحة، مع توجيه الباحثين والمخترعين للكشف عن سُبل جديدة حول المياه ومعالجتها وطرق استهلاكها بشكل اقتصادي.
- التثقيف والتوعية المجتمعية بالمشاركة، حتى يندمج أفراد المجتمع في التوعية ويكونوا جزءًا منها.
المشاركون في مناقشات هذا التقرير
(حسب الحروف الأبجدية)
- د. إبراهيم البعيز.
- م. أسامة كردي.
- أ. بسمة التويجري.
- أ. جمال ملائكة.
- م. حسام بحيري.
- د. حسين الحكمي.
- د. حمد البريثن.
- د. حمزة بيت المال.
- د. خالد الرديعان.
- د. خالد الفهيد.
- د. خالد بن دهيش.
- د. راشد العبد الكريم.
- د. رياض نجم.
- د. زياد الدريس.
- أ. زيد الشبانات (ضيف الملتقى).
- م. سالم المري.
- أ. سعيد الزهراني.
- د. صدقة فاضل.
- د. عائشة الأحمدي.
- أ. عبد الله الضويحي.
- د. عبد الله بن صالح الحمود.
- د. عبد الله بن ناصر الحمود.
- د. عبد العزيز الحرقان.
- د. عبير برهمين.
- د. عثمان العثمان.
- أ. علياء البازعي.
- د. علي الطخيس.
- أ. فائزة العجروش.
- أ. فايزة الحربي.
- د. فوزية البكر.
- أ. محمد الدندني.
- د. مساعد المحيا.
- د. مشاري النعيم.
- د. مطلق البقمي.
- د. منصور المطيري.
- أ. منى أبو سليمان.
- د. مها العيدان.
- أ. مها عقيل.
- د. محمد الشهري.
- د. نبيل المبارك.
- د. وفاء طيبة.
- أ. وليد الحارثي.
- د. يوسف الحزيم.
*https://www.google.com.sa/amp/s/www.albayan.ae/across-the-uae/news-and-reports/2018-09-02-1.3347647%3fot=ot.AMPPageLayout.
*http://www.alhayat.com/article/4615068/رأي/سياسي/العودة-إلى-المفاطيح
تحميل المرفقات: التقرير الشهري 49