يونيو 2019
تمهيد
يعرض هذا التقرير لعدد من الموضوعات المهمة التي تمَّ طرحها للحوار في ملتقى أسبار خلال يونيو 2019م، وناقشها نُخبة متميزة من مفكري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة حول القضايا التالية:
- صناعة الأدوية في المملكة وتوطينها.. واقعها والتحديات التي تواجهها.
- هل توقعات صندوق النقد الدولي لنمو الاقتصاد السعودي دائمًا صحيحة وقريبة للواقع؟
- موت الثقافة.. أم موت المثقف؟!
- متى نُحقِّق ميزة تنافسية؟
القضية الأولى
صناعة الأدوية في المملكة وتوطينها.. واقعها والتحديات التي تواجهها
(9/6/2019م)
- الورقة الرئيسة: د. عادل الهرف
التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. نزيه العثماني
- التعقيب الثاني: د. ياسر العبيداء
- متابع للقضية: د. فهد الزامل
- إدارة الحوار: د. مها المنيف
¤ الملخص التنفيذي:
أشارت الورقة الرئيسة إلى أن لدى المملكة 42 مصنعًا مُرخَّصًا للأدوية، وأن القطاع الصيدلاني في المملكة يُعَدُّ سوقًا واعدًا، لديه العديد من مقومات وفرص النجاح يتمثل أهمها في: السمعة الجيدة للمنتجات السعودية، والدعم الحكومي اللامحدود لتنمية القطاع الصيدلاني عبر منح التسهيلات لإنشاء المصانع في المدن الصناعية، واستحداث العديد من البرامج التي تزامن إطلاقها مع رؤية المملكة 2030 والتي تهدف إلى تسهيل الإجراءات اللوجستية ودعم التصدير الخارجي للمنتجات المحلية بهدف المشاركة في الناتج المحلى. بجانب الاحتياج الصحي الكبير والمتنامي للأدوية والمنتجات الطبية، والتوجه المتزايد لشراء الأدوية الجنيسة.
وفي المقابل، هناك بعض التحديات التي قد تحدُّ من مدى مشاركة الصناعات الدوائية في الناتج القومي، ومن أبرزها: قلة حصة المنتجات الوطنية في المناقصات الحكومية، وعدم الثقة في المستحضرات الجنيسة من قبل الممارسين الصحيين، وسوء التخطيط في تحديد الاحتياج الوطني من الأدوية، وعدم كفاءة بعض المجالس الإدارية، وعدم الجدية في الرغبة بالتوسع خارجيًّا، والتصنيع التعاقدي مع شركات عالمية لتسويق مستحضراتها المبتكرة، وتحديد النطاق التصنيعي، فضلاً عن ضعف نسبة التطوير في هذه المصانع الدوائية.
وركَّز التعقيب الأول على متطلبات التصنيع والتوطين في قطاع الصناعات الدوائية، في حين أكد التعقيب الثاني على أن دعم الصناعات الدوائية هو الضامن الرئيسي للأمن الدوائي الوطني.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
- واقع الصناعات الدوائية السعودية ومدى كفايتها.
- التعريف بالأدوية الجنيسة.
- التكافؤ الكيميائي بين الدواء الأصلي والدواء الجنيس.
- التحديات التي تواجه الصناعات الدوائية السعودية.
- أهمية تأهيل الكوادر الوطنية في مجال الصيدلة والصناعات الدوائية.
- تأثير التقنية الحديثة في تطوير صناعة الأدوية بالمملكة.
- توطين صناعة الأدوية في المملكة.
واتفقت غالبية المداخلات على أهمية توطين صناعة الأدوية في المملكة وكونها ضرورةً أمنية ملحة، في حين تباينت وجهات النظر حول التحديات الفعلية التي تواجه الصناعات الدوائية السعودية في الوقت الحاضر.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول قضية صناعة الأدوية في المملكة وتوطينها، ما يلي:
1- تعزيز الثقة في المنتج الدوائي المحلي وتتويج ذلك بقرار حكومي بإعطاء الأولوية لهذه الأدوية في المناقصات الحكومية، وضمان ترسية 50% من المناقصات على المصانع الوطنية.
2- تشجيع الشركات الدوائية العالمية واستقطابها للمساهمة في توطين صناعة الأدوية محليًّا، ووضع خطط ومُحفِّزات اقتصادية للمصنع العالمي للاستثمار في هذا القطاع الحيوي، وإعفاء الشركات العالمية المصنِّعة محليًّا من الرسوم.
3- تعزيز الأمن الدوائي الوطني من خلال وضع خطة وطنية متكاملة بما يتناسب مع رؤية 2030 تشتمل على:
w إنشاء جهاز يُعنَى بتطوير منظومة المخزون الاحتياطي الدوائي كمًّا وكيفًا.
w دعم التصنيع الدوائي المحلي.
w دعم الكوادر البشرية السعودية.
w تطوير البحث العلمي والمراكز البحثية.
ʘ الورقة الرئيسة: د. عادل الهرف(*):
- مقدمة:
تعتبر صناعة الأدوية والمستحضرات الصيدلانية من ضمن مجالات التصنيع النوعية التي تحرص الدول على تنميتها وتذليل الصعوبات وتسخير الإمكانات اللازمة لدعمها. ويعتبر القطاع الصيدلاني أحد أكبر القطاعات ربحيةً على مستوى العالم، خصوصًا مع التطور الكبير في الخيارات العلاجية في السنوات العشر الماضية، والتي شملت أمراضًا كانت تعتبر مستعصيةَ الشفاء كبعض الأمراض الوراثية والفيروسية، مثل التهاب الكبد الوبائي سي.
تماشيًا مع الدعم الكبير الذي أولته الحكومة الرشيدة -أيدها الله – لدعم الصناعات الوطنية في كافة المجالات؛ شهدت المملكة نموًا كبيرًا في عدد المصانع المرخَّص لها تصنيع المستحضرات الصيدلانية البشرية والبيطرية، حيث تضاعف عدد المصانع الدوائية المحلية المرخَّص لها من قِبل الهيئة العامة للغذاء والدواء خلال السنوات الخمس الماضية ليبلغ 42 مصنعًا، تغطي العديدَ من المجالات التصنيعية، مثل الأقراص الصلبة والكبسولات والأشربة والحقن، ويُتوقَّع أن تزدهر بعض الصناعات الدوائية المعقدة، مثل المستحضرات الحيوية واللقاحات (التطعيمات)، وكذلك الصناعات التي تستهدف بعض الأمراض المستعصية كالأورام.
- الفرص الحالية:
يعتبر القطاع الصيدلاني في المملكة سوقًا واعدًا، لديه العديد من مقومات وفرص النجاح تتمثل فيما يلي:
1- السمعة الجيدة للمنتجات السعودية: حيث يُنظر للمنتجات الدوائية المصنعة في المملكة على أنها ذات جودة عالية مقارنةً بالكثير من مصانع دول المنطقة؛ نظرًا لحداثة إنشائها وتطوُّر الأجهزة والمعدات التصنيعية، ووجود هيئة رقابية متمثلة في الهيئة العامة للغذاء والدواء تتابع جودة مستحضراتها باستمرار عبر برامج متابعة الجودة بعد التسويق.
2- الدعم الحكومي اللامحدود لتنمية القطاع الصيدلاني عبر منح التسهيلات لإنشاء المصانع في المدن الصناعية، واستحداث العديد من البرامج التي تزامن إطلاقها مع رؤية المملكة 2030، والتي تهدف لتسهيل الإجراءات اللوجستية ودعم التصدير الخارجي للمنتجات المحلية بهدف المشاركة في الناتج المحلي.
3- الاحتياج الصحي الكبير والمتنامي للأدوية والمنتجات الطبية.
4- التوجه المتزايد لشراء الأدوية الجنيسة (*) بدلاً عن المبتكرة. في الولايات المتحدة كمثال، تبلغ نسبة استخدام الأدوية الجنيسة أكثر من 85% من الأدوية، في حين قد لا تتجاوز النسبة الحالية في المملكة 25% من الأدوية المستخدمة؛ وهو ما يعني أن هناك فرصةً كبيرةً للتوسُّع في تداول المستحضرات الجنيسة.
- التحديات:
يعتبر النمو في عدد المصانع الدوائية في المملكة مُبشِّرًا بالالتفات لهذا القطاع التصنيعي المهم، إلا أن ذلك قد يُجابَه ببعض التحديات التي قد تحدُّ من مدى مشاركة هذه الصناعات في الناتج القومي وتحقيق الأمن الدوائي.
وفيما يلي أبرز هذه التحديات:
1- قلة حصة المنتجات الوطنية في المناقصات الحكومية:
من أكبر التحديات التي قد تحدُّ من مدى مشاركة صناعة الأدوية في المملكة قلة حصة المنتجات الوطنية في المناقصات الحكومية، فعلى الرغم من تحسُّن نسبة الأدوية المحلية في المناقصات الحكومية في السنتين الماضيتين، إلا أنه لا يزال هناك فرصة كبيرة لرفع هذه الحصة والإحجام التام عن شراء المنتج الطبي في البديل الوطني.
2- عدم الثقة في المستحضرات الجنيسة من قِبل الممارسين الصحيين:
هناك ضعف كبير في وعي الممارسين الصحيين وإصرار على عدم صرف الأدوية الجنيسة رغم فعاليتها المشابهة للأدوية المبتكرة والتوجُّه العالمي لدعم هذه المستحضرات، وهذا ينعكس سلبًا على تنافسية المستحضرات الجنيسة في مشتريات كبرى المستشفيات الحكومية.
3- سوء التخطيط: مثلاً في تحديد الاحتياج الوطني من الأدوية:
يمكن رؤية هذا الأمر جليًا في تركيز بعض المصانع المحلية على صناعة عدد محدود من الأدوية ذات الاستهلاك العالمي والإحجام عن توسيع القاعدة التصنيعية أو اختيار مستحضرات ليس لها بدائل محلية. من الشائع رؤية عشرات الأدوية الجنيسة المحلية لمستحضر يُستخدم لعلاج الآلام مثل الدكلوفيناك، ويتم التنافس بين هذه المستحضرات في المناقصات إلى حدٍ يجعل من الصعب استمرار العديد منها وإيقاف تصنيعها، في حين أن هناك مئات الأدوية التي لا توجد لها بدائل محلية رغم عدم تعقيدها تصنيعيًّا.
4- عدم كفاءة بعض المجالس الإدارية:
بعض كبرى الشركات الدوائية تُحقِّق خسائر تشغيلية رغم السنوات الطويلة التي تعمل بها في هذا المجال، وهذا يعكس الاحتياج الكبير لتطوير الآليات التي تُدار بها هذه المصانع.
5- عدم الجدية في الرغبة بالتوسُّع خارجيًّا:
هناك أسواق واعدة في المنطقة لديها احتياج متنامٍ للأدوية الجنيسة يمكن تغطيتها بإنتاج المصانع المحلية إلا أنه لا يمكن رؤية محاولات جدية لدخول هذه الأسواق مقارنة ببعض الشركات الدوائية العربية.
6- التصنيع التعاقدي مع شركات عالمية لتسويق مستحضراتها المبتكرة:
على الرغم من أن خطوة التعاقد مع شركات الأدوية المبتكرة لتصنيع مستحضراتها محليًّا تُعَدُّ خطوة مهمة في سبيل رفع الكفاءة التشغيلية ونقل المعرفة وتحقيق الأرباح، إلا أن الكثير من هذه العقود تكتفي بخطوات تصنيعية بسيطة (كتغليف الدواء بعلبته الخارجية أو ما يُسمَّى بالتغليف الثانوي)، والهدف الأساس لتوجُّه شركات الأدوية المبتكرة للتعاقد مع المصانع المحلية هو للاستفادة من ميزة عدم مراجعة أسعار منتجاتها وتخفيضها، ومن ثَمَّ ارتفاع فاتورة الدواء على النظام الصحي الحكومي والخاص. كما أنه لا توجد محاولات جادة من قبل المصانع المحلية للاستحواذ على حقوق التسويق محليًّا (Marketing authorization) وبالتالي فإن العلاقة التعاقدية لها مدى زمني محدَّد. أيضًا التوسُّع في مثل هذه العلاقات التعاقدية قد يؤثر على الهدف التصنيعي للشركات المحلية، الذي يتركز على تصنيع الأدوية الجنيسة.
7- تحديد النطاق التصنيعي:
لوحظ أن بعض المصانع الناشئة توجَّهت لبعض المجالات التصنيعية المعقدة بدون تخطيط سليم لتبعات هذا الاختيار ومتطلباته وحجم الاستهلاك المحلى ومعرفة قدرتها على منافسة الشركات العالمية؛ وأدى ذلك إلى صعوبات تشغيلية، وعدم القدرة على الربح أو تغطية التكاليف التشغيلية.
8- ضعف نسبة التطوير في هذه المصانع:
تعتبر كليات الصيدلة في المملكة هي الأبرز في المنطقة العربية والأكثر تطوُّرًا، وعلى الرغم من ذلك لا تزال نسبة المواطنين في هذه المصانع منخفضة، وهناك شبه هيمنة لبعض الجنسيات على هذه المصانع، وبعض المصانع المحلية عانت في السابق من سوء في التصنيع والمراقبة لم يتحسن إلا بعد تطوير الإدارة العليا لهذه المصانع.
التعقيبات:
¤ التعقيب الأول: د. نزيه العثماني(*):
تحوي الورقة التي أعدَّها سعادة نائب الرئيس التنفيذي لقطاع الدواء د. عادل الهرف معلوماتٍ مهمةً ووافية حول مستقبل توطين صناعة الدواء في المملكة، وأودُّ هنا أن أضيفَ بعض التعليقات حول هذا الموضوع بحكم تجربة سابقة مع وزارة الصحة عندما كنت جزءًا من فريق يعمل على إنشاء الشركة السعودية للخدمات الصحية (صحة)، والتي كان مُقرَّرًا لها أن تقوم بأربعة أنشطة (توطين تقنية المعلومات الصحية، وتوطين صناعة الأجهزة الطبية، ومصنع بلازما الدم، وتوطين صناعة اللقاحات) وكان هذا خلال الفترة من 2012-2015 مع معالي الوزير عبد الله الربيعة آنذاك.
ملاحظات:
- صناعة الدواء مسألة أمن قومي خاصة عندما يتعلق الأمر باللقاحات؛ لأن عدد الشركات التي تُنتج اللقاحات بالعالم محدودٌ جدًّا، وتنتج كمياتٍ محدودة سنويًّا من اللقاحات؛ بمعنى أنه في حال انتشار وباء بشكل مفاجئ قد لا تتوفر لدى الشركات كميات لقاح تكفي لسد الاحتياج المفاجئ.
- الاستثمار في صناعة اللقاح به مخاطر كثيرة؛ فمن ناحية تحتاج لمخزون لقاحات في حال انتشار وباء بشكل مفاجئ، ومن ناحية أخرى قد تُوفِّر المخزون وتستثمر فيه ولا ينتشر وباء فتخسر الكميات التي تمَّ تخزينها لانتهاء صلاحيتها.
- صناعة الدواء تستغرق سنواتٍ طويلة تبدأ من تجربة آثار مواد كيميائية جديدة على البكتيريا والخلايا السرطانية في ظروف مختبرية، وبعدها تجربته على حيوانات، وبعدها المرحلة الأولى من التجارب السريرية، والمرحلة الثانية من التجارب السريرية؛ وهذه عملية مُكلِّفة جدًّا؛ لأن احتمال فشل التجارب كبير، ولكن نجاح واحدة من التجارب كفيل بتغطية تكلفة هذه التجارب وغيرها إلى حد بعيد؛ ولهذا فالموضوع يحتاج لدعم حكومي كبير لمواجهة خطر الاستثمار سواء من خلال دعم مراكز الأبحاث التي تستخرج مواد كيميائية جديدة من البيئة وتجربتها على البكتيريا المختلفة، أو من خلال بناء مراكز بحث مرحلة أولى وثانية دراسات سريرية دوائية (لا توجد حاليًّا بالمملكة مراكز دراسات سريرية مرحلة أولى أو ثانية).
- مخاطر الاستثمار في تجربة الأدوية الجنيسة أقل بكثير من تلك المخاطر في الأدوية الجديدة؛ ولهذا نحتاج لأنظمة وقوانين حكومية في عدة مجالات لتشجيع المصانع الحالية للاستثمار في هذا الاتجاه، وذلك من خلال النقاط التالية:
– بدء برامج توطين صناعة الدواء والأجهزة الطبية موجَّهة من القطاع الحكومي بعد دراسة الاحتياج السنوي والكميات التي يتم شراؤها بشكل مستمر من القطاعات الصحية، والتركيز على الأدوية والأجهزة الطبية الأكثر استخدامًا، وتوجيه القطاع الخاص للاستثمار في صناعتها.
– تعديل نظام المشتريات الحكومية لشراء نسبة من الاحتياج السنوي للأجهزة أو الأدوية الأكثر استهلاكًا على مدى 3-5 سنوات من المصانع التي تُوجِّه استثماراتها تجاه التوطين (مثلاً، تخصيص 30% من الاحتياج للمصانع المحلية التي استجابت لمطالب التوطين لمدة خمس سنوات).
– الاستثمار من خلال تحالف حكومي مع شركات دولية ذات خبرة في الملكية الفكرية المُسجلة في كثير من الجامعات لتقنيات وأجهزة طبية جديدة وكذلك مركبات كيميائية جديدة، لإجراء تجارب سريرية تنقلها لنماذج صناعية تدخل السوق المحلي.
– هناك 9 مستويات معروفة لتقييم جهوزية تقنية معينة أو دواء معين للدخول للأسواق (معيار وضعته وكالة الفضاء الأمريكية ناسا)، ولدينا في المملكة الكثير من التقنيات والأدوية التي وصلت لمستوى جهوزية 3 أو4، القطاع الخاص لا يستثمر في تقنية إلا إذا وصلت لمستوى 7؛ ولهذا تُعَدُّ المستويات 4-7 واديًا لموت التقنيات. وهناك حاجة لدعم حكومي يركز على آليات رفع جهوزية التقنيات من 4-7، ولكن المشكلة هي أن معظم المبادرات الحكومية الموجودة تركِّز على مستويات 1-4 أو 8-9؛ ولهذا نتائجها ضعيفة لأنها لا تتعامل مع وادي الموت للتقنية.
– هناك الآن رسوم جمركية على المواد الخام، في حين أن الأجهزة والأدوية المصنعة خارجيًّا وقادمة للمصانع المحلية لمجرد تغليفها ووضع ملصق خارجي صُنع بالسعودية عليها – معفية من الرسوم الجمركية؛ بمعنى آخر، نظام الرسوم الجمركية لا يُشجِّع على التصنيع من المواد الخام، وإنما يُشجِّع على شراء المنتج جاهزًا من الخارج ووضع ملصق صُنع بالسعودية عليه، وهذا ينافي متطلب التوطين.
- هناك اختبارات تكافؤ حيوي تُجرى للأدوية الجنيسة لتثبت التكافؤ الكيميائي بين الدواء الجنيس والأصلي، وهناك اعتقاد سائد لدى الأطباء بأن مستويات قبول الجنيس بالسعودية أقل من تلك الموجودة في أمريكا؛ ولهذا لا يقبلون بوصفه للمريض. من ناحية أخرى، تنشر هيئة الغذاء والدواء الأمريكية نتائج اختبارات التكافؤ للأدوية الجنيسة على موقعها، وهو ما يُمكِّن الأطباء من قراءة تلك النتائج واختيار الدواء الجنيس الأمثل بالنسبة لهم، ويا حبذا لو تحذو هيئة الغذاء والدواء السعودية نفس الاتجاه وتنشر نتائج اختبارات التكافؤ الحيوي للأدوية الجنيسة؛ لرفع مستوى التصنيع المحلي، ورفع ثقة الأطباء المحليين بها.
- دعم مبادرة معرض أفد السنوي الذي يطرح الاحتياج السنوي للقطاعات العسكرية، ويُشجِّع المصانع المحلية على تصنيع ذلك الاحتياج ويدعمه.
- تأهيل كوادر بخبرة علمية أكاديمية وصناعية وتجارية في نفس الوقت، لتتولى إدارة دفة إستراتيجيات وعمليات ومبادرات توطين الصناعة؛ فالخبرة الأكاديمية وحدها لا تكفي، والخبرة التجارية وحدها لا تكفي، والخبرة المالية وحدها لا تكفي، والخبرة التصنيعية وحدها لا تكفي، بل هناك حاجة لفِرَق تحوي جميعَ الخبرات وتُوجِّهها باتجاه التوطين.
- تحتاج عملية التصنيع المحلي لتوافر خدمات واحتياجات كثيرة، وكثيرٌ من هذه الاحتياجات متوفر بشكل عشوائي لم يتم تأهيله ليدخل في سلاسل توريد المصانع الدولية.
- تنتج سابك المادة الخام للبلاستيك وتذهب لأوروبا لتُنتِج منه بلاستيكَ معيار طبي يُستخدَم في كبسولات الأدوية والأجهزة الطبية ونعود نحن لشرائه كبلاستيك طبي.
- لا يوجد مصنع يقوم بتصنيع كل شيء مئة في المئة، فكل منتج يحتاج للكثير من الصناعات الداعمة، وعادةً ما تقوم المصانع الدولية باختيار موردين يملكون أنظمةَ جودة معينة في التصنيع، وتقوم بتكليفهم بإنتاج أجزاء من المُنتَج النهائي، وهذا أيضًا جزء من التوطين نحتاج للتركيز عليه لتأهيل المصانع والورش الصغيرة بأنظمة جودة تُمكِّنها من الدخول في سلاسل توريد المصانع الكبيرة الدولية.
- بدأت وزارة التعليم مبادرة مكاتب بناء البحث العلمي لديها بهدف تحويل البحث العلمي لمنتجات تدعم الاقتصاد المحلي، وهذه خطوة ممتازة تحتاج للدعم بكوادر تعرف معنى التصنيع، وتعرف كيف يتم تحويل الفكرة لمنتج صناعي، وتعرف كيف تنقل جهوزية التقنية من فكرة لمُنتَج جاهز للتسويق.
- توطين الصناعة لا يعني شراءها من الخارج؛ بل يعني توطين معرفة التصنيع محليًّا، وتوطين جزء من سلسلة التوريد (إنْ لم تكن كلها) الخاصة بالمنتج محليًّا.
- التوطين يحتاج لبحث علمي، ولا بد من توجيه الاستثمار الخاص لدعم البحوث العلمية بالجامعات لكي تخدم احتياج القطاع الخاص، وهذا ما يحصل في كل دول العالم، فكثير من البحوث العلمية مدعومة من الشركات الخاصة لتحل مشاكلها.
- تبني نماذج توطين الصناعات بدول، مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، واللتين بنتَا مختبرات ومعامل حكومية تستقبل بحوث الجامعات والمجتمع وابتكاراتهما، وتنقلها من مستوى جهوزية 3 إلى مستوى جهوزية 7، وتتحمل الحكومة جزءًا كبيرًا من مخاطرة الاستثمار.
ختامًا، إنَّ مستقبل التوطين واعد بإذن الله تعالى، والوعي تجاه أهميته يرتفع باستمرار، ورؤية 2030 بها فرص كثيرة لدعم الاستثمار والتوطين تحتاج العقول والخبرات للاستفادة منها لخدمة الوطن ومستقبله.
¤ التعقيب الثاني: د. ياسر العبيداء(*)
الكلام عن توطين الصناعة الدوائية يدفعنا للحديث عن الأمن الدوائي، وهو من أهم ركائز الأمن الصحي كأحد مكونات الأمن الوطني الشامل، ويُعرف الأمن الدوائي بأنه حصول كل المواطنين والمقيمين في كل الأوقات على الدواء الذي يكفل لهم صحةً وحياةً نشطة وسليمة.
وهذا -للأسف – مفقود؛ حيث إنَّه يتم استيراد أكثر من 80٪ من الأدوية من الخارج، وأغلبها من الأدوية الأساسية والمهمة، وللأسف يوجد انقطاع متكرر لبعض الأدوية الأساسية.
التحديات كثيرةٌ وخاصة في نظام المشتريات الحكومية، حيث لا يوجد تفضيل واضح للمُنتَج المحلي. أيضًا فإن تأخُّر التسجيل في هيئة الغذاء والدواء وآلية التسعير يجب مراجعتها.
الخلاصة:
دعم الصناعات الدوائية هو الضامن الرئيسي للأمن الدوائي الوطني الذي لا يخضع لديناميكية العرض والطلب في السوق العالمي، كما أنه لا يتأثر بالتغيرات الجيوسياسية المحيطة، وما هو معلوم أن حاجة الدول النامية للحد الأدنى من الأمن الدوائي أشدُّ من حاجتها للسلاح والغذاء، وخاصة الدول التي تملك الإمكانيات المادية والكوادر. أما أوروبا فعندها تكامل دوائي بشكل أو بآخر.. وقد تبنَّت معظم الدول النامية إستراتيجيات واضحة وصارمة ضمن إطار زمني محدود، ومن أمثلة ذلك: الهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، وروسيا.
¤ المداخلات حول القضية:
- واقع الصناعات الدوائية السعودية ومدى كفايتها:
أوجز د. سليمان الطفيل واقع صناعة الدواء في المملكة في النقاط التالية:
– تُمثِّل 80٪ من صناعة الدواء في دول الخليج.
– المصانع الحالية في المملكة لا تغطي سوى 20٪ من حاجة السوق المحلي.
– سوق العمل في مجال الصيدلة بحاجة لأكثر من 50 ألف متخصص ومتخصِّصة.
– البرنامج الوطني السعودي لتطوير التجمعات الاقتصادية الذي أُطلِق عام 2008م، ركَّز على 5 قطاعات منها قطاع الصناعات الدوائية.
– تستهدف رؤية المملكة 2030 رفع نسبة صناعة الدواء في السوق السعودي من 20٪ إلى 40٪ بحلول عام 2020م.
– مصانع السعودية للأدوية تُصدِّر الأدوية ل ٣٤ دولة بالعالم، نحو 88 مليون عبوة في 2018م.
كذلك فقد أشار د. سليمان الطفيل إلى أن هناك مئات بل آلاف المصانع في مختلفة المجالات؛ لكننا -للأسف -نعاني ندرة في صناعة الأدوية والمستحضرات والأجهزة الطبية.. وهناك تحديات كبيرة تواجه توطين هذه الصناعة ونموها.. كما أن عدد 42 مصنعًا لا يشكِّل إلا رقمًا بسيطًا بالنسبة لحجم الاقتصاد السعودي وعدد السكان.. وبخاصة أنها مدعومة من عدة نواحٍ، مثل:
– القرض الصناعي.
– الدعم الحكومي.
– الإعفاءات الجمركية.
– المناقصات الحكومية.
– دعم الصادرات الوطنية.
وفي ضوء ذلك، فإن ثمة تساؤلاتٍ مهمةً مطروحة، من أبرزها ما يلي:
– كم إجمالي حجم الاستثمارات الحالية لصناعة الأدوية في المملكة؟
– ما هو متوسط العائد على هذه الاستثمارات؟
– كم عدد مصانع الأدوية الطبية المملوكة للمستثمر؟
– ماهي ملامح البرنامج أو الإستراتيجية الوطنية التي تستهدف إلى رفع عدد المصانع وتوطينها بالمملكة؟
وأكَّد د. خالد الفهيد أنه في ظل انتشار بعض الأمراض المتنوعة في مجتمعنا، والتي تتطلب زيادة الطلب على الدواء، فضلاً عن السوق الواعد الجاذب في المملكة، والذي يمثِّل نحو 20 مليار ريال، ورغم الجهود التي تبذلها هيئة الغذاء والدواء بالتعاون مع جهات الاختصاص بإصدار تنظيمات مُحفِّزة لتشجيع صناعة الدواء وتوطينه، وأن هناك 42 ترخيصًا؛ إلا أنها لا تزال أقل من المأمول؛ حيث يتم استيراد ثلاثة أرباع الاحتياج من خارج المملكة، وهو ما يتطلب أهمية دعم صناعة الأدوية محليًّا؛ وذلك عن طريق:
– تعزيز الثقة في المنتج المحلي، وتتويج ذلك بقرار حكومي بإعطاء الأولوية له في المناقصات الحكومية.
– تشجيع الشركات العالمية واستقطابها للمساهمة في توطين الصناعة محليًّا.
– تأهيل الكادر الوطني للعمل في منافذ بيع الأدوية، حيث يُلاحظ سيطرة جنسية محددة للعمل في هذا المجال.
في حين يرى د. ياسر العبيداء أن العبرة ليس بكثرة المصانع، بل بسدِّ الاحتياجات المتنامية للدواء. أما د. يوسف الرشيدي فذهب إلى أنه مع الدعم وضمان الجودة من المفترض أن تكون المصانع تعمل على الإنتاج الضخم لسد احتياجات الأسواق في المنطقة.
كذلك فقد تساءلت د. مها المنيف: ما الأسباب التي تجعل المناقصات الحكومية لا تدعم المنتج المحلي مع أنه اقتصاديًّا أوفر؟ وفي هذا السياق، أوضح د. عادل الهرف أن هناك أسبابًا متعددة؛ منها: ضغوطات من الجهات الصحية لتوفير الدواء الطبي المبتكر وليس الجنيس، وكذلك دخول الشركات الكبرى بأسعار في المناقصات لا تستطيع الشركات المحلية منافستها فيه. أيضًا تنافس المصانع المحلية على جزء صغير من كعكة المنافسة وعدم توسيع القاعدة التصنيعية، وبالتالي لا يتواجد منتج محلي من كثير من الأدوية.
وذكر د. ياسر العبيداء بأن هيئة الغذاء والدواء مهمتها الأساسية ضمان جودة الدواء (المأمونية والفعالية)، ويقع على عاتق هيئة المشتريات الحكومية والمحتوى المحلي المسؤولية الأكبر لدعم الصناعة الدوائية المحلية، ويتم ذلك من خلال:
– أولاً: عمل منافسة للمنتجات المحلية فقط، إذا يوجد أكثر من جنيسين مسجلين.
– ثانيًا: عمل عقد طويل الأجل فيما يتعلق بالأدوية البيولوجية أو المتخصصة للشراء مع الشركات الوطنية أو العالمية مع وجود إطار زمني محدد ومؤشرات أداء واضحة.
بينما تساءل أ. محمد الدندني: أليس من الأفضل أن تكون شركة واحدة قوية، وتكون مساهمة أولاً لقوة الملاءة المالية، ومن ثَمَّ إمكانية تغطية كافة الاحتياجات، وكذلك المقدرة على التنافس إقليميًّا ودوليًّا؟ وهنا يمكن أن يكون لديها مركز أبحاث مميز لتحضير أفضل الأدوية وربطه بكليات الصيدلة لدينا، والتي يجب أن تكون مصدرًا للقوى العاملة في هذه الشركة. لكن د. سليمان الطفيل يرى أن مَن يقول إننا لسنا بحاجة إلى زيادة عدد مصانع الأدوية أو أن تكون شركة واحدة، هذا دليل قصور في نظر الاقتصاد، إذ كيف يمكن تعزيز الصادرات المحلية والتوظيف والتكامل الصناعي إذا اقتصرنا على مصانع محدودة أو شركة احتكارية واحدة؟! فهذا القطاع مهم لاقتصادنا وأمننا الوطني، ومن الضروري أن يُعطى أولوية كبيرة للدعم والتصنيع، خصوصًا أن قطاع الأدوية من الصناعات الإستراتيجية والعالمية في آن واحد. وفِي كل الأحوال فإن العدد قليل جدًّا مع وضعنا وتطلعات رؤية المملكة 2030.
واتفق د. عادل الهرف مع القول بأهمية الحاجة للتوسُّع في التصنيع المحلي، لكن من وجهة نظره فإن القفزات في عدد المصانع والدعم الحكومي يبشِّر بخير، ومن شأنه أن يعمل على ردم جزء من الفجوة القائمة بشكل متسارع في السنوات القادمة.
ومن جانبه تساءل د. خالد الفهيد: هل لدى هيئة الغذاء والدواء مبادرات للاستفادة من النباتات الطبية والعطرية التي تزخر بها صحارينا الشاسعة؟ وكذلك سُمُّ العقارب والثعابين باعتباره مادةً خامًا نادرةً؛ فعلى سبيل المثال فإن سعر الغرام الواحد من سُمِّ العقارب يتراوح بين 8000 _ 12000 دولار. وأوضحت د. مها المنيف أن هناك مركزَ سموم بالشؤون الصحية بالحرس الوطني يُنتِج مضادات سموم الأفاعي والعقارب معتمدين على نوع الأفاعي والعقارب المنتشرة في مناطق المملكة، ولعله المصنع الوحيد في هذا المجال. وفي هذا الصدد، ذكر د. عادل الهرف أن الهيئة تختصُّ بالمنتج النهائي الذي يثبت فعاليته ومأمونيته وجودته. ودور مراكز الأبحاث هو دعم أي اكتشاف عشبي أو كيميائي وإثبات أهليته للعلاج عبر الدراسات العلمية المعروفة. وأكد د. عادل الهرف أن تجربة مركز الأمصال مهمة جدًّا وملهمة، ويُفترَض تعميم نجاحها كمجال تصنيعي دقيق وذي حاجة.
ومن جانبها أشارت أ. فائزة العجروش إلى بعض التساؤلات والملاحظات فيما يتعلق بواقع الصناعات الدوائية السعودية، وذلك كما يلي:
1- نسبة الأدوية المصنَّعة محليًّا في المملكة تبلغ 15٪ فقط من الإجمالي، فيما يتم تصدير نحو 5٪، فهل ما تُصدِّره المملكة من الأدوية يكون بعد تغطية حاجة السوق المحلي؟
2- الأعباء المالية المرهِقة بسبب اعتماد المملكة بشكل كبير في استيرادها على الأدوية الأصلية بنسبة (82٪) من إجمالي الأدوية المستوردة، يُمكن التقليل منها بعد القيام بحملات دعائية مكثَّفة للأدوية الجنيسة في التليفزيون؛ لمتابعة كبار السن له كثيرًا، وفي مداخل المستشفيات الحكومية والخاصة، وفي كافة الصيدليات الحكومية والخاصة، واختيار أطباء مشهود لهم بالتمييز والخبرة الكبيرة في تخصصاتهم للإعلان عن تلك الأدوية الجنيسة.
3- بالنسبة للأدوية المتكررة الانقطاع هي أدوية مهمة جدًّا، وتتوقف عليها في بعض الأحيان حياة الإنسان، ومن الصعب استبدالها بأدوية أخرى، وكذلك من الممكن أن يتم تأجيل عمليات مهمة بسبب انقطاعها؛ لذا فالتساؤل المثار: ما هي خطة الطوارئ المتبعَة تجاه المرضى والعمليات المقرر إجراؤها حال انقطاع هذه الأدوية؟ وهل هناك سبب معين لتكرار انقطاع نفس الأدوية؟
4- ما أفضل الإجراءات التي يُمكن الاستئناس بها في المملكة واتباعها؟ ويمكن توجيه الاهتمام في هذا الشأن لتجربة البرازيل كدولة ناجحة في ذلك؛ فلديها بيئة مُحفِّزة وداعمة لتصنيع الأدوية محليًّا تصل إلى 74٪.
وأوجز د. ياسر العبيداء ردودَه على التساؤلات السابقة في النقاط التالية:
1- الأدوية المصدَّرة هي تُصنَّع محليًّا بعد تغطية السوق المحلي.
2- لا توجد خطة طوارئ وطنية شاملة في حال انقطع أي دواء؛ وأسباب الانقطاع كثيرة منها أن بعض المصانع يكون عندها مشاكل في التصنيع، ومن الأسباب دمج بعض الشركات وإغلاق بعض خطوط الإنتاج؛ لأنها غير مجدية ماليًّا.
3- تجربة البرازيل فريدة، ونتمنى أن يتبنى أصحاب القرار مثل هذه التجارب والحلول.
وذكرت د. وفاء طيبة أنه بهرها إنتاج الهند، وكيف أنها لا تستورد سوى 9٪ من احتياجها! والتساؤل الذي يطرح نفسه: هل للمستوى الصحي للفرد ببلد ما علاقة بالإنتاج من الأدوية الطبية والمستلزمات من الأجهزة الطبية؟ وتعقيبًا على ذلك أشار د. نزيه العثماني إلى أن توفُّر المصنع محليًّا يعني توفُّر قطع الغيار، وتوفُّر خبرة الكشف والاختبار والفحص للأجهزة بشكل سريع، وعلى سبيل المثال، لن يكون هناك اضطرار لتعطيل جهاز رنين مغناطيسي لعدة أيام انتظارًا للقطع وأجهزة الاختبار التي قد تحتاجها عند عُطل معين، لو أن المصنع موجود بالجوار؛ فهذا يعني أن القطع متوفرة وخبرات الفحص والاختبار موجودة وبسرعة.
- التعريف بالأدوية الجنيسة
أوضح د. عادل الهرف أن الأدوية الجنيسة هي مستحضرات دوائية مماثلة في فعاليتها وجودتها للمستحضرات المبتكرة، وهي تُشكِّل المجالَ التصنيعي للشركات المحلية. وتساءل د. عبد الله بن صالح الحمود: كم نسبة إنتاج الدواء الجنيس عالميًّا مقارنة بإنتاج الدواء المبتكر؟ وهل فرق التكلفة الاقتصادية كبير بين المنتَجينِ؟ وفي هذا الشأن ذكر د. ياسر العبيداء أنه عالميًّا، فإن مصانع إنتاج الأدوية الجنيسة هي الأكثر انتشارًا، وهي الأغلبية. في حين لفت د. عادل الهرف النظر إلى أن نسبة إنتاج الجنيس أعلى بكثير من المبتكر؛ فكل شركات الأدوية تستطيع إنتاج الجنيس، والعكس غير صحيح. وعلى سبيل المثال، فإنه في الولايات المتحدة 85 – 90٪ من الوصفات أدوية جنيسة. أما بخصوص التكلفة فإنها أقل بكثير، وأحيانًا سعر الدواء الجنيس يصل إلى 80٪ أقل من سعر المبتكَر (مع مرور السنوات).
المصدر: الهيئة العامة للغذاء والدواء، المملكة العربية السعودية.
- التكافؤ الكيميائي بين الدواء الأصلي والدواء الجنيس:
تساءل أ. عبد الله الضويحي: ماذا يعني التكافؤ الكيميائي بين الدواء الجنيس والأصلي؟ وفي هذا الصدد أوضح د. نزيه العثماني أن ذلك يشير إلى اختبارات تُجرى على الدواء الجنيس لمقارنة مستوى التكافؤ في التركيب الكيميائي بين الدواء الأصلي والجنيس. والواقع أن الدواء الأصلي يتكون من عدد من المركبات الكيميائية موجودة بتراكيز معينة فيه، وتمَّ إجراء دراسات سريرية على الإنسان لإثبات كفاءة الدواء الأصلي وتركيبته الكيميائية في علاج الغرض الذي صُنِع من أجله. أما بالنسبة للدواء الجنيس فهو مكون من نفس المادة الرئيسية الفعالة في الدواء الأصلي مع مواد كيميائية أخرى، ولا بد للمصنع أن يُثبت أن خلطته الجنيسة مشابهة كيميائيًّا لخلطة الدواء الرئيسي، ويتم ذلك من خلال اختبارات التكافؤ الكيميائي.
وبدورها تساءلت د. مها المنيف: هل هناك جهات أخرى غير الهيئة تقوم بعملية التكافؤ الكيميائي بين الدواء الجنيس والمبتكر؟ ومن جديد أشار د. نزيه العثماني أنه حسب فهمه لعمل الهيئة؛ فإنها لا تقوم بإجراء اختبارات التكافؤ الكيميائي على كل الأدوية الجنيسة، وإنما تطلب إجراء الاختبارات من قِبل معامل خاصة معتمدة لديها، وتراجع الهيئة النتائج. وقد تقوم الهيئة بإجراء جزء من تلك الاختبارات للتحقُّق من النتائج. والتحدي في هذا الموضوع هو أن النموذج المثالي هو أن تقوم الهيئة بإجراء اختبارات التكافؤ ليس وقت الترخيص فحسب، وإنما بعد تصنيع كل كمية من الدواء، للتحقُّق من التكافؤ وعدم وجود خلل بالتصنيع؛ وهذا يعني تراكم الشحنات في المنافذ قبل دخولها للأسواق لحين إجراء هذه الاختبارات على كل شحنة، وهو أمر يُؤثِّر سلبًا على التجارة والسوق المحلي. وعقَّبت د. مها المنيف بأن هذا صحيح؛ لأن مستوى الدواء الفعال في المنتج الجنيس يمكن أن يختلف من شحنة لأخرى حتى لو كان من نفس الشركة، كما أن فحص كل شحنة مُكلِّف ماديًّا، ويُؤخِّر دخول الأدوية من المنافذ إذا كانت مصنعةً خارجيًّا، وقد يكون الاعتماد على الأدوية الجنيسة المحلية هو الحل الأمثل. بينما اختلف د. عادل الهرف مع هذا الرأي، وأشار إلى أنه يُفترَض أنه ثابت ولا يختلف من شحنة لأخرى على الإطلاق. نفس الظروف التصنيعية وإن اختلفت، بدون موافقة الهيئة ومراجعة تأثير ذلك على المنتج يتم سحبه من السوق. وأضاف بأن التكافؤ الحيوي باختصار هو مقارنة فعالية ومأمونية الجنيس بالمبتكر. وهو ما تُجريه الشركات لتقديمه للهيئة كإثبات مماثلة دوائها للمبتكر. ولا تتم الموافقة على أي دواء إلا بعد التأكُّد من ذلك، ولا يُسمَح لأي شركة بأي تعديل تصنيعي بدون موافقة الهيئة حتى لا تُؤثِّر على التكافؤ.
- التحديات التي تواجه الصناعات الدوائية السعودية:
يرى د. يوسف الرشيدي بخصوص التحدي المتعلق بعدم القناعة أو التوصية باستخدام الأدوية الجنيسة من قِبل الممارسين الصحيين في السعودية؛ أنه نتيجة لعدم المعرفة بجودة المنتجات السعودية، والحل هو تكثيف الحملات التوعوية لمثل هؤلاء الممارسين لإقناعهم بجودة هذه المنتجات؛ كون زيادة نسبة استخدامها ستنعكس على جيب المريض، وأيضًا ستزيد من دعم المنتجات والصناعات الدوائية السعودية، وتُعزِّز من تنافسيتها في السوق، وبلا شك فإن النجاحات وتحقيق المكاسب المادية يُعَدُّ أحدَ أهم أنواع الجذب للمستثمرين للدخول في هذه الصناعات.
وفي اعتقاد د. مها المنيف، فإن الوضع الاقتصادي الحالي ومع وجود التأمين الصحي بشكل أكبر، من شأنه أن يؤدي إلى مساءلة الطبيب من قِبل شركات التأمين حول أسباب وصف دواء مبتكر من شركة طبية في حال توافر دواء جنيس مماثل له وبربع السعر أو حتى أقل من ذلك؛ وهو ما سيزيد من استخدام الأدوية الجنيسة المحلية. وأكدت د. مها المنيف على أن المطلوب أن تكون تغطية التأمين لمنتَج محلي أو جنيس أكثر من المبتكَر في حال تواجده طبعًا. ففي أمريكا -على سبيل المثال – فإن كثيرًا من شركات التأمين تغطي فقط الأدوية الجنيسة؛ لذلك فإن نسبة استخدام هذه الأدوية في أمريكا عالية جدًّا مقارنةً بنا.
أما د. خالد الرديعان فركَّز على التحدي المتعلق بالتباين الحاد في أسعار الأدوية؛ حيث ذكر أنه يُلاحَظ أن أسعار الأدوية من الصناعة المحلية مرتفعة السعر مقارنة بالأدوية الأردنية والمصرية الموجودة في السوق، وبالتالي يكون من المهم التساؤل حول طريقة وضع السعر ومعايير ذلك. وأضافت د. مها المنيف تساؤلاً آخر في السياق ذاته، مفاده: لماذا لا نزال نستورد دواءً جنيسًا لمستحضرات وأدوية بسيطة كأدوية الكحة من مصانع عربية، ونحن نعلم أن المنتج السعودي أفضل؟ وأوضح د. عادل الهرف في هذا الشأن أن الهيئة لديها قواعد تضمن التدرُّج في التسعير وانخفاضه مع مرور الزمن، وبعض المستحضرات العشبية لا تدخل ضمن هذه القواعد. ومن ناحية أخرى، فإن ربط ازدهار الصناعة المحلية بالأسعار غير مناسب في رأيه؛ فلا يمكن تحميل المواطن أو النظام الصحي العبء المالي لتطوُّر الصناعة الدوائية. الأصل هو الدعم عبر الشراء من الجهات الصحية. المتعارف عليه عالميًّا أن الجنيس يقود أسعار الأدوية للانخفاض بنسب تتعدى 80٪ من سعر الدواء المبتكر. كيف يمكن للمنتج المحلي مقارعة المنتج الخليجي أو العربي أو العالمي إذا كان نجاحه مرهونًا بسعر عالٍ في المملكة؟ هذه الاعتمادية تُذكِّرنا بكثير من اعتماد بعض منتجات البتروكميكال على الدعم الحكومي في الشراء؛ ولذلك نجدها ضعيفةً في التوسُّع عالميًّا.
وتطرَّق د. عادل الهرف إلى أن نظام بيع الدواء بالحبة يُقلِّل الهدر، وقد يُخفِّض السعر لكن يستلزم تغييرًا في نظام الصرف، وإعطاء المريض المعلومات الكافية، وهو يمكن عمله في برنامج وصفتي المطبَّق بوزارة الصحة بالتعاون مع الصيدليات الأهلية. والنظام يسمح بتسعير المنتج بناءً على الوحدة. ونظام البيع بالحبة هو أن يُصرَف للمريض عدد الكبسولات اللازمة لعلاجه بدلاً من شراء علبة بها كمية كافية لمدة شهر، قد يستخدم منها كمية أسبوعين والباقي يُهدَر. ميزة هذا النظام أنه يصرف للمريض الكمية المخصَّصة له، ويُعطَى التعليمات، وأحيانًا معها برشورات متعلقة بمأمونية الدواء، وبالطبع يكون السعر أقلَّ بحكم أن الكمية محدودة.
وأشار د. نزيه العثماني إلى أن الاعتماد بشكل أكبر على شراء الأدوية الجنيسة محليًّا هو قرار بيد المؤسسات الصحية، ويعيدنا لأهمية رفع مستوى ثقة الطبيب المحلي في الأدوية الجنيسة، وأحد الحلول المقترحة هو نشر نتائج اختبارات التكافؤ الحيوي لهذه الأدوية كما تفعل هيئة غذاء ودواء أمريكا؛ وهو الأمر الذي يتيح للأطباء اختيار الجنيس الأفضل ويُعزِّز من التنافسية بين المصانع لتحسين منتجاتها. كما أن من الحلول الأخرى أن تنشر نوبكو سنويًّا الاستهلاك المتوقع للأدوية وتركِّز على الأدوية الأكثر استهلاكًا في السوق. والتحدي الذي يواجهه المستثمر المحلي هو جهله بالخطط المستقبلية للقطاعات؛ فالمستثمر لا يعرف الاحتياجَ إلا بعد خروج المناقصة، ولو يعرف المصنِّع مبكرًا أن هناك أدوية معينة سيكون عليها ضغط كبير في الشراء لعدة سنوات؛ فإنه سيقوم بالتركيز عليها، ويسعى للاستثمار فيها، أما أن يستثمر بعجلة التخمين وانتظار نزول المناقصات؛ فهذا يعني أنه سيُركِّز على الاستثمار قصير الأجل. ومن ناحية أخرى، وفي حدود المعلومات المتاحة، فإن الأدوية التي تأتي جاهزةً ككبسولات يتم تغليفها وتعبئتها محليًّا فقط، تدفع جمارك أقل بكثير من مصنع يستورد المادة الخام ويصنع الدواء من الصفر، والأمر نفسه ينطبق على الأجهزة الطبية؛ فمَن يستورد أدواتٍ جراحيةً جاهزةً يطبع اسمه عليها مُعفَى من الجمارك؛ أما مَن يستورد مادةً خامًا يصنع الأدوات من الصفر، فيدفع جمارك باهظة.
وأشار د. زهير رضوان إلى ما تضمنته الورقة الرئيسة من تحديات في البند السادس حول التصنيع التعاقدي مع شركات عالمية لتسويق مستحضراتها المبتكرة، وبدلاً من تصنيعها محليًّا انتهت أغلبها بعقود تغليف هذه الأدوية للتهرُّب من مراقبة الأسعار الفعلية لهذه المنتجات. والسؤال هنا: لماذا لا تستورد السعودية الأدوية بدون تغليف وتصرفها للمريض بالعدد أو بالحبة على حسب مدة العلاج اللازمة؟ (وهو المتبع في الولايات المتحدة الأمريكية) لا سيما أن الأدوية المباعة بدون تغليف لها أسعار عالمية مراقبة دوليًّا، وتُباع في كل بلد بسعر مختلف؛ وهو ما يعني أنها سوف تكون تكلفتها أقلَّ على القطاع الصحي وعلى المريض.
وذكرت د. مها المنيف أنه في السنوات الأخيرة كان هناك نقص أو انقطاع متكرر في بعض التطعيمات أو اللقاحات الأساسية للأطفال لعدة أسباب، منها: المناقصات الحكومية، والبيروقراطية في الشراء الحكومي، وتحكُّم الشركات الكبيرة في هذا المنتَج لمعرفتهم بالحاجة الملِحة له، ومن ثَمَّ يكون التساؤل المثار: هل هناك خُطط وطنية لتطوير صناعة اللقاحات في المملكة، أو لمنع الانقطاع الذي يحصل بين الفينة والأخرى، ناهيك عن عدم وجود لقاحات كافية في حالة حدوث وباء؟ وفي هذا الصدد، أشار د. نزيه العثماني إلى أنه كان واحدًا من فريق توطين صناعة اللقاحات مع وزارة الصحة في أثناء تولي د. عبد الله الربيعة الوزارة، وتم في هذا الوقت عقد مباحثات مع عدة شركات لقاحات، لمعرفة عوائق فتح مصانع لها، وأبدت أكثر من شركة استعدادها لفتح مصنع لو قامت وزارة الصحة بشراء نصف احتياجها للقاحات من المصانع المحلية لثلاث إلى خمس سنوات قادمة؛ لتخفيض خطورة الاستثمار. ووافقت أيضًا جنرال إلكتريك وفوجي فيلم وكير ستريم وهيلروم للأجهزة الطبية على فتح مصانع أجهزة أشعة وشاشات طبية وتصوير مقطعي وأسرّة طبية وتصوير موجات فوق صوتية، بشرط أن تشتريَ الوزارة ثُلث احتياجها من هذه المصانع لثلاث سنوات قادمة، ولكن هل يعيق نظام المشتريات أم يشجع تطوير توطين الأدوية واللقاحات والأجهزة الطبية في المملكة؟ تم عقد اتفاق بين د. الربيعة ود. إبراهيم العساف من المالية لتجاوز هذا الموضوع.. كان هذا عام 2014م، وقبل التوقيع بليلة واحدة تغيَّر وزير الصحة د. عبد الله، وجاء م. عادل فقيه، وبعدها توالى الوزراء على الصحة ومات المشروع.. ولو تمَّ التوقيع وقتها لكان اليوم عندنا مصانع لقاحات وأجهزة طبية. الخلاصة، هناك قوة شرائية كبيرة لدى المؤسسات الصحية سواء من الأدوية أو من الأجهزة، والشركات مستعدة للتوطين لو تمَّ استغلال القوة الشرائية وتخصيص ثلث الاحتياج من الأجهزة أو الأدوية أو اللقاحات الأكثر تكلفةً والأكثر استخدامًا لفترة من 3-5 سنوات. إعطاء الشركات ضمان شرائي مؤقت مقابل التوطين سيؤدي إلى خفض خطورة الاستثمار في هذا المجال. كذلك ذكر د. عادل الهرف أن من المفترض أن يكون هناك إستراتيجية كبرى فيما يتعلق باللقاحات، منها على سبيل المثال: تملُّك صندوق الاستثمارات في شركات واعدة عالمية بحصص كبيرة، واشتراط نقل المعرفة للمملكة، وبالفعل فإن إحدى الشركات العالمية أبدت استعدادها لتوطين المعرفة إذا التزمت المملكة بشراء منتجاتها من اللقاحات لعدة سنوات.
وفي سياق متصل، فقد تساءل د. سليمان الطفيل حول موقف منظمة التجارة العالمية من استيراد وتصدير الأدوية، وهل لها ميزات تفضيلية عن غيرها من السلع؟ ومن جانبه أوضح د. عادل الهرف أن منظمة الصحة تدعم الصناعات وخصوصًا اللقاحات في المملكة؛ لنمو الخيارات المتاحة للدول، وكذلك وَأْد بعض نظريات المؤامرة في موضوع اللقاحات.
وعرضت أ. فائزة العجروش لملخص دراسة مهمة لتعظيم الاستفادة من معونات مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، وكان من بين أهم أهدافها توفيرُ كل ما يلزم المركز لتنفيذ الأعمال الإغاثية التي يُقدِّمها من أدوية ومستلزمات طبية من الشركات السعودية ومن السوق السعودي، وإعطاؤها الأولوية في المناقصات الحكومية، لمشاركة الصناعات المحلية ودعم القطاع الخاص، بحيث يمكن الاستفادة من الدول المتلقية لهذه المساعدات في جوانب اقتصادية عديدة، فيما لو تم توظيفها بالشكل الذي يخدم تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية للمملكة؛ حيث يمكن جعلها أسواقًا لصادرات المملكة بمختلف أنواعها، وأيضًا من خلال إمدادها بالمساعدات الإيوائية وجميع الأدوية والمستلزمات الطبية التي تُصنع في المملكة العربية السعودية.
لكن اتضح أن هناك كثيرًا من العراقيل والتحديات التي تواجه أعمال المركز لتنفيذ ذلك، وهي مقسمة كالتالي:
w الإجراء الحالي لعمليات المشتريات في المركز:
تعتمد عملية المشتريات في المركز والتي تتولاها إدارة المشتريات على ما يلي:
- يسترشد المركز بنظام المشتريات الحكومي، ولكنه ليس مجبرًا على التعامل به، فلدى المركز لوائح وقوانين خاصة به. في حين لا توجد لائحة خاصة يتم تطبيقها في الحالات العاجلة.
- يقوم المركز بطرح المناقصات لجميع الشركات السعودية والطبية، وخيار الموافقة على شركة دون أخرى يتم بناءً على قرار المركز.
- القيام بإرسال الدعوات للشركات والمؤسسات المتخصصة حسب طلبات الاحتياج التي ترد للمركز، ويتم إحالتها إلى لجنة فتح المظاريف، ومن ثَمَّ تقوم اللجان الفنية بالترسية على أقل العروض سعرًا مع الأخذ بالاعتبار عوامل أخرى، مثل: الجودة، وعامل الوقت، والشروط الفنية الأخرى المدرجة في الدعوات.
يعتمد المركز في لائحة الشراء الخاصة به على ما يلي:
1- توخي معايير الجودة في كافة المنتجات (غذائية ودوائية) مع التشديد على عمر صلاحية المنتجات.
2- اختيار أقل الأسعار المقدَّمة من الشركات.
3- في حقيقة الأمر يبحث المركز في تعاملاته أولاً عن الشركات السعودية والموردين من السوق السعودي لتنفيذ مشاريعه الإغاثية، ولكن هناك تحديات كبيرة تواجه هذا الموضوع، ويتم الاستعاضة بشركات طبية بدلاً عنهم لأسباب كثيرة، من أهمها:
- التكلفة العالية المقدَّمة من الشركات السعودية والموردين السعوديين مقارنةً بالشركات الطبية، والتي يصل فيها حد الربح لمبالغ خيالية.
- عدم جاهزية هذه الشركات للقيام بمثل هذه الأعمال الضخمة التي تتطلب رأس مال قوي، وأيدي عاملة مدربة وكافية، وسرعة إنجاز العمليات وتوريدها في الوقت المطلوب.
- التأخير في التوريد مما يسبب للمملكة إحراجًا مع الدول الأخرى ومع المنظمات الدولية.
- الخوف من عدم تمتُّع جودة المنتجات الدوائية السعودية بنفس جودة المنتجات غير السعودية، والتي يجدها المركز بنفس السعر من شركات طبية، ونظرًا لكون هذا الموضوع يمسُّ سمعة المملكة الخارجية عند توفيرها أدوية دون المستوى المطلوب من الجودة؛ لذلك يتم الاستغناء عن تلك الشركات.
w الصعوبات المرتبطة بتأمين العلاج والمستلزمات الطبية لدولة ما، منها:
1- احتياج الدولة المتلقية للمعونات لأدوية معينة، على سبيل المثال: عند انتشار الأوبئة، كأنواع معينة من اللقاحات والأمصال، وقد لا تتوفر مثل هذه اللقاحات في المملكة أو ليست مُسجَّلة لدى هيئة الغذاء والدواء؛ لذلك يتم اللجوء للسوق الهندي أو جنوب إفريقيا على سبيل المثال لتزويدهم بها.
2- لا توجد شركات دوائية كثيرة -فقط 7 شركات _ تغطي احتياجات المركز من الأدوية، بالإضافة إلى أن التعامل مع هذه الشركات محدود بسبب عدم قدرتها وعدم جاهزيتها على توفير الطلب؛ نظرًا لانشغالها بتأمين السوق المحلي من تلك الأدوية.
3- لا توجد غير أربع شركات مصنعة سعودية فقط، تقوم بتأمين المستلزمات الطبية، وعلى الرغم من كونها شركات مدعومة، نجد السعر الذي تقدِّمه يفوق سعر الشركات السعودية التي تقوم بالتوريد من الصين وغيرها من الدول؛ لذلك يلجأ لها المركز لتوفير ما يزيد عن 200% _ 300 % فيما لو اشترى من الشركات المصنعة السعودية.
w الصعوبات المتعلقة بنوعية المساعدات:
- إذا كانت مساعدات إغاثية، أولاً: يلعب عامل الوقت هنا دورًا مهمًّا (حيث يتطلب توصليها بأسرع وقت للدول المنكوبة)، وثانيًا: تؤثر الطريقة التي سيتم بها إيصال تلك المساعدات (عن طرق الإنزال الجوي أم بطُرق أخرى)، ومن ثَمَّ يتم اختيار نوعية الأدوية والجهات الموردة لها، والتي تُحقِّق ما سبق ذكره.
- إذا كانت مساعدات تنموية، هنا يكون المجال أكثر أريحيةً من ناحية اختيار الشركات الموردة والمنتجات والمواد المطلوبة؛ كون عامل الوقت وطرق التوصيل ليست بنفس الأهمية في المساعدات الإغاثية.
الخلاصة:
v عمل المركز يقوم على مفهوم العمل الإغاثي الإنساني، والذي يكون غالبًا عاجلاً؛ لذلك فإن المركز يقوم في البداية بتوفير وتنفيذ المشاريع وبعدها يتم النظر لكيفية الاستعانة بالشركات السعودية.
v يتم استثناء الشركات الصغيرة عند قيام المركز بتنفيذ مشاريع إغاثية كبيرة؛ بسبب عدم توفُّر القوة المالية والخدمات اللوجستية اللازمة لتنفيذ تلك المشاريع.
v إذا كانت المساعدات سيتم تقديمها عن طريق الحدود البرية لا تكون هناك مشاكل كبيرة، ولكن عندما يكون هناك نقل بحري أو نقل جوي، هنا تنشأ مشكلة التكاليف المرتفعة لتغطية تكاليف النقل اللوجستي.
v خيار الاستعانة بالشركات السعودية سواء المصنِّعة أو المورِّدة خيار ضعيف أمام المركز، للأسباب التالية:
1- الأسعار المرتفعة وغير العادلة المقدَّمة من قِبل تلك الشركات.
2- سرعة الاستجابة والتوريد.
3- تحمُّل مهمة النقل اللوجستي من قِبل الشركة نفسها؛ لأن هناك مشاريع يجب تنفيذها في وقت محدَّد لا تستطيع الشركات السعودية تنفيذها بسبب الأسعار المبالغ فيها.
ومن وجهة نظر د. ياسر العبيداء، فإنه يمكن الاستفادة من تجربة الأردن المهمة في توطين صناعة الأدوية، ويمكن الاستفادة منها؛ حيث إنَّ الأردن في الوقت الحالي تُصدِّر أدوية بما قيمته ٢ مليار دولار سنويًّا، ومن أهم ما قامت به:
1- الشراء الحكومي فقط من المنتج المحلي.
2- تسعير الدواء يخدم الشركات المحلية في التصدير.
3- وجود برامج تدريبية حكومية للشباب بالتعاون مع القطاع الخاص.
4- وجود مراكز أبحاث خاصة مدعومة من الحكومة.
5- الجامعات منبع للكفاءات الشبابية، حيث تدرس حاجة السوق، والتدريب يكون في المصانع.
وأشار أ. محمد الدندني إلى أن المنتجات المحتكرة ببراءة اختراع ممكن تجاوزها بتطويرها وتعديلها، وهذا عمل قانوني لأن الابتكار innovation يعتبر منتجًا جديدًا مستقلاً عن أصله. أيضًا فإن مدة احتكار أي دواء هي 20 سنة فقط حسب قوانين الملكية الفردية. وبدوره أوضح د. ياسر العبيداء أن الأمر يحتاج لتكلفة عالية جدًّا؛ لأن ذلك يتطلب دراسات سريرية وعملية التسجيل طويلة الأمد. وعلى سبيل المثال، فقد انتهت دراسة تكلفة عمل منتج من الخلايا الحيوية إلى أنه يجب علينا استثمار من 300-500 مليون لمدة 7 سنوات حتى نستطيع تسجيل المستحضر، ويمكن أن يفشل في الدراسات السريرية. والمشكلة أن السوق السعودي سوق مفتوح، والتنافس على الأسعار هو المتحكم. وعليه، فإنه إذا لم تتدخل الحكومة في دعم الصناعات الدوائية المتخصِّصة فقد لا نستطيع توطينها. ومن جديد ذكر أ. محمد الدندني أن كل الدول حين بدأت في تصنيع أي منتج اعتمدت على حماية الدولة، وكوريا أكبر مثال. ومع الوقت تتمكن الصناعة من التنافس والربحية المستقلة. وذهب د. حمد البريثن إلى أن بإمكاننا الاستثمار في الشركات القائمة بالإضافة للتوطين. ومن جديد أكد د. ياسر العبيداء على أن مشكلة الدواء ليست اقتصادية فحسب، بل هي مشكلة لها علاقة أيضًا بالأمن الصحي. ولعل البرنامج الذي تمَّ إنجازه في موضوع توطين الصناعات العسكرية يمكن تنفيذه في مجال الصناعات الدوائية. أما د. عادل الهرف فيرى أن هناك وسائل للتخلص النظامي من البراءة والخروج من شروطها، لكن لدينا ضعف حاد في المختصين بذلك، ودول أمريكا الجنوبية والهند لها تجارب ناجحة في هذا المجال.
أيضًا فقد تطرق د. نزيه العثماني إلى ما تواجهه مصانع الأجهزة الطبية من تنافسية كبيرة من المصانع الدولية؛ فهناك مصانع سعودية حاصلة على الاعتماد الأوروبي ce and fda وتبيع منتجاتها بأوروبا وأمريكا أيضًا، وهناك قرار بمنح المصانع المحلية أفضلية 10٪ بالأسعار بالمناقصات الحكومية لكن القرار يحتاج لتفعيل لأنه لا يُطبَّق بشكل مستمر. ومن ناحية أخرى، يتطلب التوسُّع في التصنيع والتطوير معرفة الاحتياج لخمس إلى عشر سنوات قادمة، وهذا غير متاح؛ فمصدر معرفة الاحتياج هو المناقصات المطروحة فقط، وهي ليست عملية دورية ثابتة يمكن استخدامها للتنبؤ بالمستقبل. ومناقصات الخليج تستخدم وسائل غير موضوعية لتقييم المنتجات والمستهلكات الطبية، وهذا ينتج عنه رفض لمنتجات مصانع سعودية من قِبل بعض دول الخليج، وإجراء التقييم بطريقة تحصر مشترياتهم على مصانعهم المحلية وتغلق الطريق أمام المصانع السعودية، والمطلوب أن تتخذ الوزارة قرارًا بتحديد 20٪ احتياج الوزارة من نوبكو أو مناقصات الخليج للمصانع المحلية. وأكدت د. وفاء طيبة على أهمية تفعيل هذا القرار لحماية المنتج الوطني، وأيضًا تفعيل مراكز الأبحاث الخاصة والاعتماد عليها لبناء مستقبل الأدوية في بلادنا.
أيضًا فقد تساءلت د. وفاء طيبة: هل يشمل نظام المشتريات الحكومية كلَّ أنواع المشتريات؟ وهل يشمل هذا النظام كل أنواع المشتريات؟ أليس للمشتريات الطبية والكيميائية صفة خاصة وتحتاج نظامًا خاصًّا بها كونها مسألة أمن وطني؟ وثمة تساؤل آخر مفاده: هل المنافذ في السعودية مستعدة تمامًا لفحص الأدوية المستوردة أو مركباتها؟ وفي هذا الإطار، أوضح د. عادل الهرف أن المنافذ مستعدة بالفعل لاستيراد الأدوية أو مركباتها، وهذا يتم تحت مراقبة الهيئة وبشكل يومي؛ حيث يتم استيراد أدوية حساسة يمكن أن تتأثر ظروف نقلها، كما أن هناك شروطًا لضمان سلسلة التوريد الجيدة. أما فيما يتعلق بنظام المشتريات الحكومية بوزارة الصحة، فقد ذهبت د. عبير برهمين إلى أنه يحتاج إلى مراجعة، وفي تصوُّرها فإن نظام المشتريات الحكومية هو سبب الهدر الحاصل في الأدوية والمحاليل الطبية. كما أن نظام الدعم الحكومي للمنتج المحلي ذي الجودة في نظام المشتريات بصفة خاصة بحاجة إلى مراجعة ومرونة أكبر. واتفقت د. وفاء طيبة مع هذا الرأي، وأضافت أنه لا بد من نظام خاص ضمن إستراتيجية خاصة بالأمن الدوائي، أو إن أردنا أن تشمل كلَّ المستلزمات الطبية نُسمِّيها بما يلائم ذلك. كما أوضحت أنه يمكن الاستفادة ممَّن سيُعطون الإقامة المميزة بأن يكون لهم ميزات خاصة في حال إنشاء مصانع أمصال أو أدوية.
أما أ. فائزة العجروش فركزت على عامل سوء التخطيط لتحديد الاحتياج الوطني من الأدوية، ومن ثَمَّ تساءلت: هل هذا بسبب عدم مساءلة وزارة الصحة للمستشفيات الحكومية والخاصة وللمراكز الصحية سنويًّا؛ لمعرفة الاحتياج التقديري للأدوية من حيث نوعها والكميات المستهلكة الفعلية منها؛ فهذا لو وُجِد سيساعد بالتأكيد على التخطيط السليم المبني على إحصاءات وأرقام لصناعة الأدوية المطلوبة في السوق السعودي؟ وهل هناك دراسات واقعية أو استشرافية لمعرفة الأمراض الحالية والمتوقع ازدياد حدوثها من خلال الأدوية المطلوبة والمستهلكة في السوق السعودي في مختلف مناطق المملكة؟ وهذا بدوره يحثُّ على إجراء الأبحاث الطبية حول تركُّز أمراض معينة دون غيرها في مناطق معينة في المملكة.
وأوضح د. عادل الهرف أنه كان يقصد بسوء التخطيط سوء قراءة احتياج السوق من الأدوية من قِبل بعض الشركات المحلية، وبالتالي تصنيع أدوية هناك بدائل كثيرة منها مسجلة. طبعًا هناك أيضًا ضعف مزمن في تحديد الاحتياج من اللقاحات والأدوية من قِبل الجهات الصحية، وينتج عنه عجز مفاجئ في التوفر أو هدر بسبب طلب كميات كبيرة. فبالفعل هناك بعض الدراسات والإحصاءات الاستشرافية للأمراض المزمنة، والمركز الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها له نشاط مهم في هذا الجانب.
ومن ناحيته ذكر د. مساعد المحيا في مداخلته أن د. عادل تطرَّق في الورقة الرئيسة إلى جانب من المشكلات الإدارية في شركات الأدوية، والتساؤل الذي يفرض نفسه: لماذا تُعلِن شركة الدوائية – وهي التي تحظى بامتيازات كثيرة – عن خسائر مؤخرًا؟ ولعل الإجابة تكمن في أن مجالس الإدارات تظلُّ مسؤولة عن كل هذا القصور والتقصير؛ لذا فالكفاءات الجيدة والمخلصة هي السبيل الأمثل لإصلاح حال هذه الشركات.
- أهمية تأهيل الكوادر الوطنية في مجال الصيدلة والصناعات الدوائية:
أكد د. خالد الفهيد على أن من المهم تأهيل كوادر وطنية من مخرجات المعاهد الصحية وإعدادهم للوقوف في منافذ بيع الأدوية، وهو ما يسهم في توفير فرص عمل لهم، في حين يرى د. ياسر العبيداء أن العمل في مجال الصناعات الدوائية يتطلب خبرات ومهارات – للأسف – لا تُدرَّس في كلية الصيدلة؛ ولاسيما ما يتعلق -على سبيل المثال – بالعمل كمسؤول مناطق الإنتاج أو مختبر ضمان الجودة أو إدارة المصانع.
وتساءل أ. محمد الدندني: هل نحتاج دراسة لعدة سنوات في كلية الصيدلة كي نحصل على صيدلي يقف خلف الكونتر لقراءة وصفة الطبيب؟ وفي هذا الصدد، أوضحت د. عبير برهمين أن هناك مستويات مختلفة لتخصص الصيدلة، لكل منهم دور خاص. فهناك مساعد صيدلي (دبلوم 2-3 سنوات بعد الثانوية العامة)، وهناك صيدلاني (بكالوريوس 4 سنوات + سنة امتياز)، وصيدلي إكلينيكي (بكالوريوس 5 سنوات + سنة امتياز)؛ الأول بإمكانه الوقوف في الصيدلية وصرف العلاج حسب الوصفة لكنه لا يستطيع اقتراح البدائل حسب ال generic name. الثاني يستطيع صرف العلاج حسب الوصفة واقتراح البدائل المناسبة حسب الـ generic name إضافةً إلى أنه يستطيع تحضير بعض التركيبات الدوائية معمليًّا، مثل المراهم والغسولات وغيرها. أما الصيدلاني الإكلينيكي فيعمل ضمن الفريق الطبي بالمستشفيات؛ لأن معلوماته أوسع كما أنه يستطيع أن يقترح أو يُلغي بعضَ الوصفات التي قد لا يدرك الطبيب مدى خطرها خصوصًا في حال وجود تداخل في الفعالية العلاجية مع بعض الأدوية، وخاصة لبعض الأمراض المزمنة أو المناعية، إضافةً إلى قدرته على تحديد ما يُعرَف بال monitoring therapy ويُقصد به تحديد الجرعة الفعالة لدواء ما عندما تكون الجرعة الفعالة قريبة جدًّا من درجة الجرعة السامة؛ لضمان العلاج وتفادي السمية.
ومن وجهة نظر د. ياسر العبيداء، فإن حل مشكلة بطالة خريجي كليات الصيدلة يمكن أن يتم من خلال ما يلي:
1- تعزيز عمل الصيدلي في صيدليات المجتمع.
2- تعزيز عمل الصيدلي في الصناعة الدوائية.
3- تعزيز دور الصيدلي في الفروع كمجال اهتمام أو تخصص دقيق، مثل:
- اقتصاديات الدواء كفرع من اقتصاديات الصحة.
- السلامة الدوائية والجودة.
- القانون الطبي.
- مكافحة العدوى.
- الوبائيات.
- مراكز السموم.
- تأثير التقنية الحديثة في تطوير صناعة الأدوية بالمملكة:
تساءل د. سليمان الطفيل: ما تأثير التقنية الحديثة في تطوير صناعة الأدوية بالمملكة؟ ومن جانبه ذكر د. عادل الهرف أنه إذا كان المقصود بالتقنية هو تطوُّر الأجهزة والمكائن فحتمًا سهَّلت كثيرًا من الأمور التصنيعية، والمصانع المحلية متميزة من حيث وجود أجهزة ومكائن تصنيعية حديثة مقارنةً بالكثير من دول المنطقة. أما إذا كان المقصود هو تطوُّر الخيارات العلاجية مثل المستحضرات الحيوية والعلاج الجيني والخلايا الجذعية، فهي مجالات خصبة للاكتشاف والتطوير لكن للأسف مُكلِّفة وتحتاج خبرات علمية. وهناك محاولات جيدة لخوض هذا الغمار من بعض المصانع. بينما أضاف د. ياسر العبيداء أن توطين اللقاحات يتطلب أكثر من مصنع، وبعض اللقاحات المهمة غير مجدية ماليًّا لرخص أسعارها، وقد يكون رفع الأسعار للأدوية الأساسية والمهمة ضروريًّا.
- توطين صناعة الأدوية في المملكة:
ردًّا على تساؤل د. سليمان الطفيل: هل هناك برنامج وطني مُعلَن لتوطين صناعة الأدوية بالمملكة؟ أوضح د. عادل الهرف أن هناك بالفعل برامج متعددة، ومن أهم مكونات برنامج تطوير الصناعات الوطنية والخدمات اللوجستية NDLIP
أما م. حسام البحيري فأشار إلى أن توطين وصناعة الأدوية والعقاقير الطبية في المملكة ليست بالأمر الهين ويواجه عقبات كثيرة، وأضاف قوله: من واقع تجربة سابقة في هذا المجال عندما كنتُ أعمل في إحدى الشركات الطبية، وأحد المشاريع التي كنا نعمل عليها كان إنشاء مصنع للأدوية والعقاقير، وواجهنا صعوبات ضخمة لكي نُنشِئ المصنع، وفي النهاية ألغينا المشروعَ بعد صرف الملايين لكثرة العقبات والعراقيل التي واجهتنا. أولاً: لكي تصنع أيَّ دواء لا بد أن يكون عندك دواء أو عقار تمَّ تركيبه واختراعه من خلال مركز أبحاث تابع للشركة الوطنية، وتِقنيًّا هذا أمر صعب جدًّا؛ لأن الشركة لا بد أن تعمل أبحاثًا ودراسات طويلة ومكلفة جدًّا، وبعد ذلك تدخل في مرحلة الاختبارات على عدد من المراحل، ولا بد أن تتواجد البنية الأساسية الطبية الخبيرة للقيام بهذه الإجراءات (وهي غير موجودة لدينا بشكل متكامل محليًّا)، وبعد ذلك قد تحصل أو لا تحصل على الموافقة. المراحل والأبحاث تأخذ سنين طويلة وتُكلِّف عشرات الملايين، وطبيعي أن تتعدى ال 100 مليون وأكثر من الريالات، وهذا الالتزام لن يضمن التصريح بإنتاج الدواء؛ لأن آخر مرحلة في التجارب ستكون على البشر، والمعايير المقبولة أو المرفوضة في الأعراض الجانبية للأدوية الجديدة محليًّا رمادية بحتة. والثاني هو أن تكون عندك رخصة من مصانع طبية لتركيب أدويتها، وهذه تتبع اتفاقات صعبة ومكلِّفة وستُواجَه بعراقيل إدارية ليس لها أي معنى، وكمثال على ذلك: فإنه لا بد أن يقوم وفد من هيئة الغذاء والدواء بزيارة للمصانع الطبية إذا كان الدواء مُنتَجًا في الخارج للحصول على الموافقة، ودائمًا يكون لديهم ملاحظات غريبة، أتذكَّر أننا قُمنا بترتيب زيارة لهم لأحد أقدم وأكبر المصانع السويسرية في العالم في إنتاج الأدوية للحصول على رخصة توريد دواء مُحدَّد، ولم تتم الموافقة لأن وفد هيئة الغذاء والدواء الذي زار المصنع اعترض على تصميم المصنع، لم يعجبهم وجود دورات المياه داخل المصنع، وطلبوا أن تكون خارج المبنى لكي يوافقوا. أي لكي يُفسَح للمصنع لبيع منتجاته داخل السعودية لا بد من تغيير مصنعهم. هذا المصنع تمَّ تصميمه وبناؤه من قِبل أعلى المعايير والخبرات الطبية في العالم، وعمر الشركة الطبية أكثر من 70 عامًا في ذلك الوقت، وتُصدِّر أدويتها لأكثر من 180 دولة في العالم.
بخصوص إنتاج الأدوية المستهجنة أو ال Generic Drugs، فإن هيئة الدواء السعودية وضعت شروطًا مستحيلة لتوريدها وإنتاجها، وهذا سبب أننا لا نراها في الأسواق، ومن هذه الشروط أنه إذا أردت أن تصنع أو تُنتج دواءً مستهجنًا فإنه لا بد أن تعمل الأبحاث والدراسات والاختبارات التي تمَّ عملها والموافقة عليها مسبقًا من قِبل أفضل هيئات الدواء في العالم، أي تصرف ملايين من الريالات وسنين من الأبحاث لتأتيَ بنفس النتائج السابقة المعروفة، والتي ليس لها أي معنى. سبب وجود الأدوية الهجينة هو وجود قانون يُمارَس في عدد كبير من الدول يحدُّ من احتكار المُنتَج الدوائي الذي اخترعته الشركة لأكثر من 20 سنة، وبعد ذلك يحقُّ لشركات الأدوية المنافسة إنتاج نفس الدواء تقريبًا ولكن باسم آخر، وبعض الشركات تصنع أدويةً هجينة فعاليتها أفضل من الدواء الأصلي. وشروط فسح الأدوية أو السماح لها من قِبل هيئة الدواء السعودية تعتبر الأصعب والأعقد في العالم. في ذلك الوقت كانوا يطلبون من شركات الأدوية الطبية سعر بيع أدويتهم في 28 دولة مختلفة ويختارون أرخص سعر لبيعه في السوق المحلي؛ ولهذا السبب فإن السوق السعودية غير مشجعة لشركات الأدوية الطبية. كذلك فإن معاييرهم أصعب وأعقد من هيئة الدواء الأمريكية والتي تعتبر من أفضل الهيئات في العالم، فمن الأسهل أن تستثمر وتنتج أو تعمل أبحاثًا ودراسات أو تصنع دواء في أمريكا وأوروبا والصين وأمريكا الجنوبية من أن تعمل المِثل في السعودية. شروط وتعجيزات هيئة الدواء والغذاء السعودية هي التي تُشكِّل العقبة الرئيسة في التوسُّع والاستثمار في صناعة الأدوية في المملكة.
وعقَّب د. عادل الهرف بأن صناعة العقاقير قد تكون صعبة لكن ليست مستحيلة، وقد تكون مرحلة متقدمة من التصنيع المحلي وبالتعاون مع جهات عالمية. مفتشو الهيئة يطبقون أسس الممارسة الجيدة للتصنيع الأوروبية cGMP، وهي معروفة للمختصين، ويمكن لأي شركة الاعتراض على أي تقرير للتفتيش ويتم مناقشتها، وهي الآن حصلت على القبول المبدئي لأهم شبكة لتفتيش المصانع عالميًّا PICs اعترافًا بتطبيقها للمعايير العالمية.
وأشار د. منصور المطيري إلى أن المجتمعات والدول والأمم تحتاج إلى نوعين من القوة: القوة المعنوية، والقوة المادية. وتتركز القوة المادية في ثلاثة عناصر: الغذاء والدواء والسلاح، ومن هنا تأتي ضرورة توطين صناعة الدواء في المملكة وأهمية العمل بكل إصرار لتوطينها على أكمل وجه. وأعتقد أن الجميع يتفق على أن هذا التوطين هدف حيوي يجب أن يتحقق. ولعل سياسة الإلزام بمحتوى محلي من خلال التعاقدات المختلفة في مختلف المجالات تساعد على توطين صناعة الدواء. ومن الإشكالات التي يمكن ملاحظتُها ويجب العناية بها جودة صناعة الدواء. بعض الإداريين في بعض المستشفيات الحكومية ألغى فجأةً التعاقد مع شركات تنتج أدوية فعالة استجاب لها المريض وارتاح لها، ليتعاقد مع شركات أخرى تقدِّم أدوية جنيسة ليست مماثلة لها في التركيز ولا في الفعالية ولا حتى في الشكل أدَّت إلى انتكاسات لدى بعض المرضى بأمراض خطيرة؛ كالصرع والأورام والأمراض العصبية بشكل عام. وحل مشكلة الجودة بشكل عام يكمن في نوعية منهجية التصنيع التي تقوم عليها الصناعة بأكملها، ومن أجل تشجيع المحتوى المحلي يجب أن يعتمد عقد الامتياز التجاري كقاعدة أساسية لتأسيس مصانع الأدوية؛ بحيث تنطلق صناعة الدواء من المعرفة الفنية الراسخة لشركات الأدوية العالمية، وبحيث تنتهي في نهاية العقد باستقلال هذه المصانع في اسمها التجاري وفي معرفتها الفنية وفي طرائق الإنتاج. وميزة هذا العقد أنه يبيع لك المعرفة الفنية وكل ما يتعلق بطرق الإنتاج من أبسط الأمور إلى أعقدها، إضافةً بالطبع إلى الاسم التجاري عن طريق أدلة وإرشادات وإشراف يقوم بها مانح الامتياز، ثم هو يسمح باشتراطات يشترطها الممنوح لتتوافق مع البيئة التي يعمل فيها، لكن الذي لن يتغير هو جودة المنتج. وعلى المسؤولين السعوديين العمل على وضع منهجية متكاملة تُطبَّق على التعاقدات مع الشركات المصنِّعة الكبيرة، بحيث تُحدَّد مدة الامتياز لفترة محددة، على أن تسمح هذه الشركات بعد ذلك بانتقال المعرفة الفنية الحقيقية من هذه الشركات إلى الشركات السعودية وأصحابها؛ أي بعد أن يكونوا قد حصلوا على المعرفة الفنية الكافية.
وأوضح د. عادل الهرف أن الأصل أنه لا يوجد فرق في الفعالية ولا يُفترض أن تنتكس حالة المريض عند تغيير نفس الدواء لجنيس منه (إلا في نطاق ضيق معروف علميًّا في الصرع وبعض الأدوية ذات نطاق العلاج الضيق narrow therapeutic index)؛ ولذا يتم الحث دومًا على الإبلاغ عن أي مشاكل في الفعالية لنقوم بالتحليل ومن ثَمَّ سحب المنتج، كما حدث عدة مرات العام الماضي.
وفي تصوُّر د. وفاء طيبة، فإن صناعة الأدوية مسألة أمن وطني، ولا بد من إستراتيجية وطنية منفصلة لتنمية صناعة الأدوية والأجهزة الطبية والكماليات الطبية وتوطينها مثلها مثل الاهتمام بالسلاح. كما أنه من المعروف أن انقطاع بعض الأدوية مثل الأنسولين يعتبر أمرًا خطيرًا، ومن ذلك حصار الأدوية وخاصة الأنسولين الذي تُمارسه إسرائيل على الفلسطينيين، وكيف يفقدون أبناءَهم وأحبابهم بسبب الأدوية، وفي هذه الإستراتيجية لا بد أن يُحدَّد بعضٌ من هذه الأدوية المهمة والتي يمكن تصنيعها داخليًّا (بناءً على كل الظروف القانونية)، ونبدأ بها.
وأشارت د. نورة الفايز إلى أن موضوع توطين صناعة الأدوية يحتاج منا إلى الكثير من التأني والتمحيص والتحليل، وخاصة مع ما نسمعه من إشاعات عن شركات الأدوية التجارية، ومع ما نسمعه من آراء عن أسباب بعض الأمراض، وإخفاء لبعض أنواع الأدوية سعيًا للكسب التجاري، وعما نسمعه من تدخُّل في تركيب بعض أنواع الغذاء. ويمكن تلخيص وجهة النظر حول موضوع توطين صناعة الأدوية في النقاط التالية:
1- فكرة توطين صناعة الأدوية جيدة ولها العديد من الفوائد، أهمها:
- ضمان جودة التصنيع إذا تمت المتابعة والعناية الدقيقة بموضوع الجودة.
- انخفاض الأسعار بدلاً من الاستيراد.
- إيجاد المزيد من الفرص الوظيفية لأبنائنا وبناتنا.
- الوصول بوطننا الغالي لمصاف الدول المتقدمة في مجال التصنيع.
2- من المهم جدًّا العمل على هذا المشروع الحيوي المهم بشكل احترافي عن طريق ما يلي:
- الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال.
- التقييم الجيد لواقع الشركات المحلية المُصنِّعة للأدوية حاليًّا.. والتعرف على أهم التحديات التي تواجهها.
- الاختيار الجيد لأنواع الأدوية التي يعتزم تصنيعها، بحيث يُستفاد بقدر الإمكان مما هو متوفر في المملكة من أعشاب بدلاً من استيرادها.
- الحرص على اختيار أنواع الأدوية ذات الندرة والأنواع التي تُستهلك بكثرة؛ لضمان سهولة تسويقها وبيعها في السوق المحلي والعربي والدولي.
- الحرص على وضع خطة تسويقية قوية للأدوية التي يتم تصنيعها في المملكة.
- توعية المجتمع السعودي خاصة بأهمية وجودة الصناعات المحلية.
- البدء في تصنيع الأدوية بشكل متدرج، والمتابعة المستمرة للنتائج.
- الحرص على الاختيار الجيد للأيدي العاملة، والعمل على تطوير مهاراتهم بشكل مستمر.
- الحرص على التقييم المستمر للعمل وتطويره حسب حاجة السوق المحلي والدولي.
- أن يصاحب عملية توطين تصنيع الأدوية تطوير شامل للمستشفيات وجميع الخدمات الصحية.
- أن يتم إنشاء هيئة عليا تتولى عملية وضع الأنظمة والضوابط المنظمة لمشروع توطين الأدوية، والتنسيق بين شركات التصنيع المحلية؛ وذلك لإيجاد توازن محمود بينها عن طريق:
– التخصيص: بمعنى ألا يتكرر تصنيع نفس الأدوية في جميع المصانع.
– تحديد الكميات التي يُسمَح لكل مصنع بتصنيعها.
- من المهم أيضًا الحرص على تسجيل جميع شركات الأدوية المحلية في المنظمات الدولية المعنية. وتسجيل جميع الأدوية التي يتم تركيبها محليًّا والتي تثبت فوائدها في المنظمات المعنية ببراءات الاختراعات.
- من المهم أيضًا النظر في أنواع العلاجات الشعبية وتطوير ما يثبت جدواه منها، والتوعية بالأساليب الصحيحة لاستخدامها وأضرارها.
- أن يشمل مشروع توطين صناعة الأدوية عملية تصنيع للأجهزة الطبية لأهميتها ووجود حاجة لها.
- أن يتضمن هذا المشروع دعمًا لمراكز الأبحاث الطبية في الجامعات والمستشفيات.
- أن يكون هناك أنظمة واضحة وقوية لمشروع توطين صناعة الأدوية، وعقوبات صارمة لكل مَن يتهاون في صحة البشر.
- وأخيرًا من المهم أن يكون هناك عناية كبيرة بموضوع تخزين الأدوية، ومتابعة دقيقة لتواريخ الصلاحية.
وباعتقاد د. عادل الهرف، فإن هناك دورًا منشودًا من اللجنة الوطنية للصناعات المحلية، وهو التنسيق التكاملي بين المصانع المحلية خصوصًا في الإنتاج، وأحد المستحضرات التي خرجت من براءة الاختراع له أكثر من عشرة أدوية جنيسة تتنافس على الحصة. لدينا مشروع للتعريف بالأدوية التي ليس لها جنيس أو لها طلب متنامٍ غير مُغطَّى. أيضًا أُعلِن في رمضان الماضي عن آلية حصرية تسويق بعض المستحضرات غير المتوفرة لتحفيز القطاع الخاص على تصنيعها. أما بشأن مجال توطين الأجهزة الطبية والتوسُّع فيها، فإنه مهم ويحتاج لاهتمام أكبر؛ فصناعات الأجهزة متعددة ومنها ما قليل الخطورة وأقل تعقيدًا من الأدوية، وهناك إستراتيجيات في دول آسيوية كماليزيا التي نجحت حديثًا في التصنيع. واتفق د. نزيه العثماني مع هذا الرأي، وأضاف أن سوق الأجهزة والمستلزمات الطبية يبلغ حوالي 17 مليار ريال سنويًّا، وهناك الكثير من الأجهزة منخفضة الخطورة واستهلاكها عالٍ (سوقها ضخم)، وبقليل من الدعم الشرائي يمكن توطينها بسهولة.
وأضاف د. نزيه العثماني أن أيَّ منتج سواء دواء أو جهاز طبي يتكون من عدة عناصر، ويمرُّ التصنيع بعدة عمليات تشمل الاختبارات والبحث والتخزين وغيره. ويتضمن الدواء مادةً خامًا وموادَّ أولية، ويتضمن كبسولات بلاستيكية واختبارات وغيره، كما يتضمن الجهاز الطبي قطعًا كثيرة؛ منها بلاستيكي، ومنها إلكتروني، ومنها المسامير والأسلاك والكيابل. ولا يوجد مصنع أجهزة طبية بالعالم يقوم بتصنيع كل قطع الجهاز داخله، حيث إنَّ كل مصنع يملك ملكيةً فكريةً لجزء بسيط من الجهاز فيقوم بتصنيعه بشكل مستقل ثم يقوم المصنع باختيار موردين (ورش أو مصانع صغيرة أو مؤسسات متوسطة وصغيرة) من حول العالم تقوم بتصنيع بقية القطع من الجهاز بموجب نظام جودة وطرق تصنيع يحدِّدها المصنع الرئيسي ويرسِل مفتشين من عنده للمصانع والورش الصغيرة حول العالم التي تورِّد بقية القطع للتحقُّق من التزامها بهذه الأنظمة بشكل مستمر، وأكبر مصنع لجنرال إلكتريك بالعالم هو في ويسكونسن أمريكا، ولا يقوم ذلك المصنع إلا بتصنيع جزء بسيط من الأجهزة وتأتي بقية القطع من مصانع صغيرة حول العالم تم التدقيق على تصنيعها من جنرال إلكتريك، ويقوم المصنع بويسكونسن بتجميع القطع الواردة من كل مكان واختبارها والتحقق من أدائها. والتوطين يشمل إدخال الورش والمصانع الصغيرة (البلاستيك، الكيابل، المسامير، المواد الأولية، المواطير، المختبرات، البيوسيميلر وغيره) ضمن سلاسل التوريد للمصانع العالمية. وقد قامت وزارة الصناعة مع جنرال إلكتريك قبل عدة سنوات بمشروع تمَّ فيه تأهيل 50 مؤسسة متوسطة وصغيرة لتصبح قادرةً على الدخول في مناقصات توريد قطع ومواد وخدمات تحتاجها مصانع جنرال إلكتريك حول العالم لتصنيع منتجاتها، وهذه خطوة مهمة في التوطين تحتاج للتوسُّع لزيادة قدرة سلاسل التوريد المحلية؛ لأن توفُّرها سيؤدي لبناء الصناعات التي تتطلب هذه السلاسل.
وأضاف د. نزيه العثماني أنه حتى البلاستيك الخام المستخدم في تصنيع كبسولات الدواء والشريط البلاستيكي المستخدم لتخزين كبسولات الدواء والزجاج الطبي المستخدم لتعبئة الدواء، يمكن تصنيعه محليًّا. وكذلك مكائن التغليف للأدوية، والطابعات التي تطبع المعلومات على العلب وإرشادات الدواء، والنظام الإلكتروني لتتبُّع الدواء مع قارئات الباركود لعبوات الدواء، والصناديق، ومعامل اختبارات الجودة والكفاءة الحيوية؛ كل هذه صناعات مساندة يحتاجها أي مصنع للدواء، وما لا يُدرَك كله لا يُترَك جلُّه. وذهب أ. محمد الدندني إلى أنها صناعات مساعدة ليست بالضرورة أن يُعنَى بها مصنع الأدوية؛ لذا فهي فرصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة أن تقوم بهذه المهمة.
ومن جهته أكد د. صدقة فاضل أنه لا بد لنا نحن في المملكة أن نحرص دائمًا على أن يكون لدينا مخزونٌ إستراتيجي ليس من الأغذية الأساسية (كالقمح والأرز… إلخ) فحسب، وإنما يجب أن يكتمل هذا المخزون بخزن مناسب من: الأدوية الأساسية، والوقود، والمياه. ومن المهم إعداد قائمة، وبشكل دوري، بالأدوية الأساسية التي يجب تخزين كميات محددة منها.
ʘ التوصيات:
1- تعزيز الثقة في المنتج الدوائي المحلي، وتتويج ذلك بقرار حكومي بإعطاء الأولوية لهذه الأدوية في المناقصات الحكومية، وضمان ترسية 50% من المناقصات على المصانع الوطنية.
2- تشجيع الشركات الدوائية العالمية واستقطابها للمساهمة في توطين صناعة الأدوية محليًّا، ووضع خُطط ومحفِّزات اقتصادية للمصنع العالمي للاستثمار في هذا القطاع الحيوي، وإعفاء الشركات العالمية المصنِّعة محليًّا من الرسوم.
3- تملك صندوق الاستثمارات في شركات دوائية عالمية بحصص كبيرة، بشرط نقل المعرفة وتوطينها.
4- أهمية رفع مستوى ثقة الطبيب المحلي في الأدوية الجنيسة من خلال نشر نتائج اختبارات التكافؤ الحيوي لهذه الأدوية، وهو الأمر الذي يتيح للأطباء اختيارَ الجنيس الأفضل، ويُعزِّز من التنافسية بين المصانع لتحسين منتجاتها.
5- رفع مستوى وعي العامة بالأدوية المحلية الجنيسة ومدى فعاليتها مقارنة بالمبتكرة، والتشجيع على استخدامها من خلال البرامج التوعوية.
6- نَشْر الاستهلاك المتوقع للأدوية في المستشفيات الحكومية، والتركيز على الأدوية الأكثر استهلاكًا في السوق، وإعطاء المصانع الوقت الكافي لإنتاجها وتشجيع الاستثمار فيها.
7- تسهيل إجراءات الترخيص لمصانع الأدوية في المملكة وتوطينها وتسهيل الحصول على الإعفاءات (الجمركية/ الضريبية) للمواطنين والمستثمرين ممَّن يتمتعون بالإقامة المميزة من وزارة التجارة والاستثمار، ووضع آليات واستثناءات لتسريع عميلة التمويل لهذا القطاع الحيوي، وبما يساعد على نقل المعرفة بالصناعات الدوائية.
8- إزالة الرسوم الجمركية للمواد الخام والمواد النصف مصنعة والمواد تامة الصنع التي تدخل في صناعة الأدوية المحلية، وبخاصة الأدوية المرتبطة بالأمراض المستعصية والأمراض السرطانية والمعدية، والتعاون مع هيئة الجمارك لتسهيل الفسح المباشر.
9- إنشاء شركة وطنية كبرى على غرار سابك تقوم بالاستثمار في تصنيع الأدوية محليًّا وتسويقها عالميًّا بالشراكة مع شركات عالمية، على أن تكون شركة مساهمة، ويشارك صندوق الاستثمارات بملكية أسهم فيها.
10- العمل على تعديل المناقصات الحكومية في شراء الأدوية المحلية الجنيسة واللقاحات، وعمل مناقصة حكومية خاصة بالأدوية المحلية لتكونَ مدة الشراء طويلة الأمد تتراوح بين 3-5 سنوات.
11- تعزيز الأمن الدوائي الوطني من خلال وضع خطة وطنية متكاملة بما يتناسب مع رؤية 2030، تشتمل على:
w إنشاء جهاز يُعنَى بتطوير منظومة المخزون الاحتياطي الدوائي كمًّا وكيفًا.
w دعم التصنيع الدوائي المحلي.
w دعم الكوادر البشرية السعودية.
w تطوير البحث العلمي والمراكز البحثية.
12- ضرورة أن يكون في المملكة مخزون إستراتيجي من الأدوية الأساسية، بحيث تكون هناك قائمة بهذه الأدوية تُحدَّث بشكل دوري، كمًّا وكيفًا.
13- إنشاء قاعدة بيانات خاصة بالأمن الدوائي تندرج تحتها المعلومات والإحصاءات الدوائية المهمة، منها حجم استهلاك الأدوية والعقاقير الطبية المطلوبة في السوق السعودي موزعةً حسب مناطق المملكة المختلفة وحجم الهدر والتلف والفاقد والعجز السنوي من الأدوية، ووضع الاحتياطات والتوقعات المستقبلية لكمية الأدوية والعقاقير الطبية المطلوبة خلال السنوات القادمة، وتحديد الأمراض التي تستطيع المملكة صناعة الأدوية الجنيسة لها لتحلَّ محل الأدوية الأصلية.
14- التركيز على توطين الأجهزة الطبية ذات الاستهلاك الكبير، وتخصيص نسب من الاحتياج للمصانع المحلية لتشجيعها على الإنتاج والتصنيع.
15- إنشاء تخصُّص ضمن مناهج الكليات التقنية لتخريج الفنيين المناسبين للعمل في مصانع الأدوية، والاستفادة من الكوادر البشرية الحالية (الصيادلة بجميع فئاتهم) بابتعاثهم في تخصصات صناعة الأدوية لدعم الكوادر البشرية المحلية.
16- إنشاء وتشجيع مراكز أبحاث تابعة للجامعات ومستقلة لاستخراج المواد الكيميائية اللازمة لتصنيع الأدوية من البيئة المحلية، وتوجيه الحاضنات والمعامل البحثية إلى البحوث الداعمة لتجويد المنتج المحلي من الأدوية الجنيسة.
17- أهمية دعم وتحفيز المستثمرين للاستثمار في سلسلة الإمداد لإنتاج الدواء؛ للمساهمة في تحقيق الأمن الدوائي، وإيجاد مخرج يحظى بثقة المستهلك في القطاعين العام والخاص.
18- الاستفادة من تجارب الدول الأخرى -وبالأخص البرازيل والهند -في صناعة وتوطين الأدوية بالمملكة.
19- دعم إنشاء مصانع لإنتاج المواد الأولية للمستحضرات الصيدلانية، وتقديم كافة التسهيلات لذلك.
20- تطوير وتفعيل الآليات وأنظمة مراقبة جودة تصنيع وإنتاج الأدوية، لكي لا يكون تحفيز تصنيع الأدوية مدعاةً لخفض جودتها، وهو ما يضرُّ بحياة المواطنين.
21- دعم وتمكين وتطوير هيئة الغذاء والدواء لتقوم بدورها الرقابي الفعال في مجال استيراد وإنتاج وتصنيع الأدوية.
القضية الثانية
هل توقعات صندوق النقد الدولي لنمو الاقتصاد السعودي دائمًاً صحيحة وقريبة للواقع؟
(16/6/2019م)
- الورقة الرئيسة: أ. مطلق البقمي
التعقيبات:
- التعقيب الأول: أ. فهد القاسم
- التعقيب الثاني: د. سليمان الطفيل
- إدارة الحوار: د. صدقة فاضل
ʘ الملخص التنفيذي:
أشارت الورقة الرئيسة إلى أن التقارير المتتالية للمؤسسات الدولية كشفت عن التحسُّن والتعافي الملحوظ في الاقتصاد السعودي نتيجة لبدء تنفيذ عملية إعادة الهيكلة التي شهدها ولايزال يشهدها اقتصاد المملكة في ضوء برامج رؤية 2030، والتي بدأت تؤتي ثمارها، فبعد سلسلة الرفع لتوقعات النمو للاقتصاد السعودي من قِبل صندوق النقد والبنك الدوليين، جاء البيان الختامي للاستنتاجات المبدئية لبعثة خبراء صندوق النقد الدولي في ختام بعثة مشاورات المادة الرابعة للعام 2019م، لتلقي الضوءَ أكثر على تطورات الاقتصاد السعودي والتقدُّم الملحوظ على كافة المؤشرات الاقتصادية.
وأوضح التعقيب الأول أن البيان الختامي لبعثة صندوق النقد الدولي يصف عادةً الاستنتاجات المبدئية التي يخلص لها خبراء الصندوق في ختام زيارة “بعثة” رسمية تتم في الغالب إلى البلد العضو. وقد تعرَّض البيان لبدل غلاء المعيشة، والذي من المتوقع أن يتوقف صرفه في نهاية عام 2019م وفق الخطة الموضوعة لذلك، كما يرى البيان أن هناك حاجة للضبط المالي للحدِّ من هذه المخاطر على المدى المتوسط. بينما يُعَدُّ من أبرز ما تضمَّنه التعقيب الثاني الإشارة إلى أن التوقع الذي تبناه صندوق النقد الدولي بشأن الاقتصاد السعودي 1.8% لعام 2019م لم يكن صائبًا بالنظر إلى أن رؤية المملكة 2030 قد وضعت في الاعتبار توقعات وتوصيات صندوق النقد الدولي كأحد المرتكزات التي اعتمدت عليها، وما زالت هناك العديد من التوصيات والمقترحات الاقتصادية المهمة بالنسبة لمسيرة الإصلاحات الاقتصادية للمملكة محل دراسة وتمحيص من قِبل أصحاب القرار والشأن الاقتصادي. وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
- لمحة عن صندوق النقد الدولي.
- الاختلافات بين صندوق النقد والبنك الدولي.
- أهمية تقارير صندوق النقد الدولي.
- طبيعة المخاوف المثارة بشأن توصيات صندوق النقد الدولي للمملكة.
- توقعات صندوق النقد الدولي وتوقعات الاقتصاد المحلي.
6
وتباينت الآراء الواردة في المداخلات، والتي تعكس في مجملها تأكيدات ضمنية بإمكانية الإفادة من نصائح صندوق النقد الدولي ولكن بما لا يتعارض والمصالح الوطنية، وبما يصبُّ في مصلحة تقوية الاقتصاد السعودي.
ومن أبرز التوصيات التي انتهي إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول قضية توقعات صندوق النقد الدولي لنمو الاقتصاد السعودي، ما يلي:
1- استشراف مسيري الشأن الاقتصادي (الوزارات والهيئات المسؤولة) أهمية وضع الاقتصاد بحسب مجالات عملها، ومساعدته وإزالة العراقيل التي تؤثر في مسيرته بسبب اجتهادات تلك الوزارات والهيئات.
2- المراجعة الدورية (السنوية) لعضوية المملكة في المنظمات الدولية المختلفة، وتفعيل هذه العضوية بما يخدم المصلحة العامة الوطنية.
3- وضع سياسات تُحفِّز التنميةَ في القطاع الخاص للاعتماد عليه في توليد الوظائف في المستقبل، وتنويع الاقتصاد وإنتاجيته وتنافسيته.
ʘ الورقة الرئيسة: أ. مطلق البقمي:
مقدمة:
كشفت التقارير المتتالية للمؤسسات الدولية عن التحسُّن والتعافي الملحوظ في الاقتصاد السعودي نتيجةً لبدء تنفيذ عملية إعادة الهيكلة التي شهدها ولا يزال يشهدها اقتصاد المملكة في ضوء برامج رؤية 2030، والتي بدأت تؤتي ثمارها، فبعد سلسلة الرفع لتوقعات النمو للاقتصاد السعودي من قِبل صندوق النقد والبنك الدوليين، جاء البيان الختامي للاستنتاجات المبدئية لبعثة خبراء صندوق النقد الدولي في ختام بعثة مشاورات المادة الرابعة للعام 2019م، لتلقي الضوءَ أكثر على تطورات الاقتصاد السعودي والتقدُّم الملحوظ على كافة المؤشرات الاقتصادية. فقد بدأت الاصلاحات الاقتصادية في المملكة تُحقِّق نتائج إيجابية، حيث انتعش النمو غير النفطي، وزادت مشاركة النساء في سوق العمل وارتفعت مستويات التوظيف، كما أسهم التطبيق الناجع لضريبة القيمة المضافة في زيادة الإيرادات غير النفطية، وساعد تصحيح أسعار الطاقة في خفض استهلاك الفرد من الوقود والكهرباء، واستُحْدِثت إجراءات لتعويض الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط عن ارتفاع التكاليف المترتبة على الإصلاحات المطبَّقة، وزادت شفافية المالية العامة مقارنةً بالسابق، كما أن هناك تقدُّمًا جيدًا في إصلاحات الأسواق المالية والإطار القانوني وبيئة الأعمال.
وكل هذه التطورات في المؤشرات الاقتصادية المهمة تمكننا من القول إن المجتمع السعودي يمرُّ بمرحلة الانتقال من رعوية الدولة للمجتمع والاقتصاد، إلى مرحلة مشاركة المجتمع بكافة قطاعاته مع الدولة في بناء الاقتصاد وتعزيز مكانته المحلية والإقليمية والعالمية.
- التعافي في نمو الاقتصاد السعودي وفقا لبعثة الصندوق.
في ضوء التحسُّن الإيجابي لمؤشرات نمو الاقتصاد السعودي خلال الأشهر الأولى من العام الجاري 2019، رفع خبراء الصندوق توقعاتهم لنمو الاقتصاد السعودي خلال العام 2019 إلى 1.9%، ليواصل بذلك تعافيه وتحقيقه نموًّا موجبًا للعام الثاني على التوالي بعد أن سجَّل نموًّا موجبًا نسبته 2.2% في العام 2018 إثر تحقيقه نموًّا سلبيًّا في العام 2017 قُدِّر بـ (0.7%).
وأرجعت بعثة صندوق النقد الدولي التعافي في الاقتصاد السعودي إلى توقُّع تسارع نمو الاقتصاد غير النفطي ليحقِّق 2.9% في العام 2019، على الرغم من تأكيدها أن هناك تحسُّنًا في مستوى الثقة مع ارتفاع أسعار النفط منذ بداية العام الجاري، إلا أنها أوضحت صعوبة تقييم التطورات في سوق النفط نظرًا لعدم اليقين بشأن حجم الإنتاج في بعض البلدان المصدِّرة الأساسية للنفط، حيث قدَّرت البعثة متوسط مستوى سعر 65.5 دولارًا للبرميل، ومتوسط إنتاج سيبلغ 10.2 ملايين برميل يوميًّا، إلا أن ارتفاع أسعار النفط لمستوى 70 دولارًا للبرميل من شأنه أن يزيد من توقعات نمو القطاع النفطي رغم أن الأسعار – وقت إعداد هذه الورقة – بدأت في الانخفاض إلى منتصف الستين دولارًا وأقل.
ويتوقع صندوق النقد الدولي استمرار نمو الاقتصاد السعودي في عامي 2020 و2021 بـ 2.1% و2.3% على التوالي (وفقا لتقرير آفاق الاقتصاد العالمي، إبريل 2019)، فيما رأت بعثة خبراء الصندوق أنه على المدى المتوسط من المتوقع ارتفاع النمو الاقتصادي غير النفطي إلى نسبة تتراوح بين 3% و3.25% تقريبًا مع بوادر ظهور ثمار الإصلاحات الاقتصادية الجارية، كما يُتوقَّع أن ينمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي الكلي ليستقر عند مستوى 2.5% تقريبًا.
- مقارنة توقعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لنمو الاقتصاد السعودي.
تشير مقارنة توقعات نمو الاقتصاد السعودي في العام 2019م إلى تقارب كلٍّ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في هذه التوقعات، حيث توقَّع البنك الدولي في تقرير المرصد الاقتصادي لدول الخليج العربية الصادر في مطلع شهر مايو2019م أن يكون معدل نمو الاقتصاد السعودي عند 1.7%، وذلك مقابل 1.8% نموًا متوقَّعًا للاقتصاد السعودي من قِبل صندوق النقد الدولي؛ إلا أنه وفقًا للبنك الدولي، فإن نمو الاقتصاد السعودي سينتعش في العام 2020 إلى أكثر من 3% مع بدء زيادة إنتاج النفط، وظهور الآثار الإيجابية غير المباشرة لمشروعات البنية التحتية الكبيرة على نمو القطاع الخاص، إلا أن نسبة النمو المتوقعة من قِبل صندوق النقد الدولي للعام 2020 عند 2.1% وعلى المدى المتوسط أكثر من 3%، وبالتالي فإن الرؤية المستقبلية لكلٍّ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تشير إلى توقعات استمرار تعافي الاقتصاد السعودي في السنوات المقبلة وتخطيه معدل نمو يفوق 3%.
ويتفق كلٌّ من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على قيادة القطاع غير النفطي لمعدلات نمو الاقتصاد السعودي، في إشارة واضحة إلى نجاح برامج رؤية المملكة 2030 في وضع الاقتصاد السعودي على المسار الصحيح، والذي يستهدف خفض الاعتماد على صادرات النفط والتنوُّع في مصادر دخل الاقتصاد السعودي، ولتسريع العملية الإنتاجية بإصلاحات سوق العمل وتشجيع العمل في القطاع الخاص. فوفقًا لتوقعات صندوق النقد الدولي، فإن نمو القطاع غير النفطي في السعودية سيدعم استقرار نمو الاقتصاد على المدى المتوسط ما بين 2.25% و2.5%؛ على العكس من النظرة الضعيفة لنمو أسعار النفط والتزام المملكة بخفض معدلات الإنتاج وفق اتفاق أوبك وكبار المنتِجين خارجها، فيما يرى البنك الدولي أن نمو القطاع غير النفطي سيكون هو المحرِّك لتسارع نمو الاقتصاد السعودي خلال العام 2020م.
- هل توقعات صندوق النقد الدولي لنمو الاقتصاد السعودي دائمًا دقيقة؟
يرصد الجدول التالي توقعات صندوق النقد الدولي لنمو الاقتصاد السعودي وذلك في تقريره الدوري الذي يصدر في شهر إبريل من كل عام، وذلك مقارنة بالنمو الفعلي المتحقق وَفق بيانات الهيئة العامة للإحصاء لنفس العام، حيث تمَّ الاعتماد على تقرير إبريل من كل عام؛ نظرًا لكونه آخر تقرير صادر في العام 2019م، وجاء في نفس توقيت زيارة فريق خبراء الصندوق للمملكة.جدول (1)
يتضح من هذا الجدول أن تنبؤات صندوق النقد الدولي لحجم النمو في الاقتصاد السعودي لم تكن دقيقة في معظم الأحيان، وأن هناك فروقات إيجابية أو سلبية بنسب كبيرة كما هو الحال في الأعوام 2013، 2015 و2017. وبناءً على ذلك لا يمكن الاعتماد على نسبة 1.8% كمعدل نمو للاقتصاد السعودي في العام 2019، إذ قد تقوم الإصلاحات الاقتصادية والتحسُّن المستمر في المؤشرات الاقتصادية الفرعية برفع مستوى النمو المتوقع للعام 2019 عن هذا المستوى.
أخيرًا، وبعيدًا عن الآراء الإنشائية التي تتهم صندوق النقد الدولي بالهيمنة على اقتصاديات العالم الثالث وما يتم ذكره من البعض أن أفكار الصندوق ومعه البنك الدولي هي بقصد الهيمنة، وأنها أفكار ضارة تجعل الدولة تحت رحمتهم، مستشهدين بما يذكره الرئيس الماليزي مهاتير محمد وتعامله مع صندوق النقد ومخالفته مقترحاتهم إبان أزمة النمور الآسيوية نهاية التسعينيات من القرن الماضي؛ كل ذلك لا يمكن تعميمه على الجميع، فلكل مرحلة مؤشرات ترسم ملامحها وتضع سياساتها. ومن أهم تلك المؤشرات التي ترسم خارطة طريق الاقتصاد السعودي ليس للداخل فحسب بل للخارج أيضًا، هي توجهات وقراءات صندوق النقد الدولي، والذي يُعتبر من الجهات الاقتصادية السيادية التي تتمتع بتأثير كبير على توجهات الاقتصاديات الكبرى، وتقاريره تعتبر شهادة دولية يُعتمَد عليها في أكثر من محفل وخاصة عندما تتوجه المملكة أو شركات القطاع الخاص إلى الاقتراض الدولي. وما يطرحه الصندوق من آراء لا تعدو كونها مقترحاتٍ وتوصيات، وهنا لا بد من الأخذ في الاعتبار أن تلك التوصيات تمثِّل (نصائح) وليست (شروطًا) يجب على المملكة تطبيقها، فالمملكة في نموذج إعادة هيكلة اقتصادها اعتمدت على رؤيتها “رؤية السعودية 2030” ولم تعتمد على تطبيق “روشتات” إصلاح من مؤسسات دولية مرتبطة بقروض معينة كما هو في الكثير من حالات الدول التي تلجأ للصناديق الدولية للحصول على قروض مشروطة بإجراءات إصلاحية، الكثير منها “قاسٍ”.
ومع ذلك يجب أن نعيَ أن لكل اقتصاد ظروفَه التي تؤثر فيه وتلعب دورًا مهمًّا في حاضره ومستقبله، وأعتقد أن المؤثرات في واقع الاقتصاد المحلي تتلخص في أمرين، كما يلي:
- استشراف مسيري الشأن الاقتصادي – وأعني هنا الوزارات والهيئات المسؤولة – أهمية وضع الاقتصاد بحسب مجالات عملها، ومساعدته وإزالة العراقيل التي تؤثِّر في مسيرته بسبب اجتهادات تلك الوزارات والهيئات.
- الأرقام والإحصائيات المنشورة يجب أن تكون واقعيةً وتعكسه، لا أن تُجمِّله أمام صانع القرار، وأن يكون لكل إحصائية منشورة تفسيرٌ يوضِّحها بشكل لا يجعل للاجتهاد دورًا في ذلك.
التعقيبات:
¤ التعقيب الأول: أ. فهد القاسم
إن البيان الختامي لبعثة صندوق النقد الدولي يصف عادةً الاستنتاجات المبدئية التي يخلص لها خبراء الصندوق في ختام زيارة “بعثة” رسمية تتم في الغالب إلى البلد العضو. وتوفَد البعثات كجزء من المشاورات المنتظمة بمقتضى المادة الرابعة من اتفاقية تأسيس الصندوق، أو في سياق طلب من البلد العضو باستخدام موارد الصندوق (الاقتراض منها)، أو كجزء من المناقشات بشأن البرامج التي يتابعها خبراء الصندوق، أو في إطار ما يجريه الخبراء من عمليات متابعة أخرى للتطورات الاقتصادية. وقد وافقت السلطات السعودية على نشر هذا البيان. وتعبِّر الآراء الواردة فيه عن وجهات نظر خبراء الصندوق، ولا تمثِّل بالضرورة آراء مجلسهم التنفيذي.
تطرقت الورقة للنتائج الإيجابية للإصلاحات الاقتصادية في المملكة، وشمل ذلك زيادة الإيرادات غير النفطية، ومستويات التوظيف، والتطبيق الناجح لضريبة القيمة المضافة، وخفض استهلاك الفرد من البنزين والكهرباء نتيجة تصحيح أسعار الطاقة، إضافةً إلى تطبيقات حساب المواطن، وكذلك الجهود المبذولة في زيادة شفافية المالية العامة والإصلاحات في الأسواق المالية، ولم يذكر البيان الصادر عن الصندوق التحسُّن الطارئ مؤخرًا على تنافسية المملكة في بيئة الأعمال.
لم تتعرض الورقة للتحديات القادمة، ومن أبرزها زيادة الإنفاق الحكومي، الذي سينتج عنه تعرُّض المالية العامة على المدى المتوسط لمخاطر التأثُّر بانخفاض أسعار النفط. واستمرار ارتفاع البطالة بين المواطنين، وزيادة معدلات التضخم في الرقم القياسي لأسعار المستهلك متزامنةً مع زيادة الأعباء على المواطنين. لذلك تبرز الحاجة للضبط المالي الحكومي، إضافةً إلى وضع سياسات تحفِّز التنمية في القطاع الخاص للاعتماد عليها في توليد الوظائف في المستقبل، وتنوُّع الاقتصاد وإنتاجيتها وتنافسيتها، كما يجب العمل الدؤوب لتحسين تنافسية المواطنين للحصول على الوظائف، ورفع مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر، وإقرار سياسات وحزم تحفيزية للمنشآت الصغيرة والناشئة. وقد تراجعت الهوامش المالية الحكومية وتركت آثارها على نسبة دين الحكومة من إجمالي الناتج المحلي، لتصل إلى 19,1% في نهاية عام 2018 (في حين كانت أقل من 2% في نهاية عام 2014)، ورغم أن هذا المعدل لا يزال مقبولاً دوليًّا؛ إلا أن هذه المقارنة غير عادلة وفي غير صالح المملكة، حيث إنَّ المقارنة لدولة تعتمد على النفط اعتمادًا كليًّا، مع دول ذات اقتصاديات منتِجة يتنوع اقتصادها بشكل كبير.
وتعرَّض بيان البعثة لبدل غلاء المعيشة، والذي من المتوقع أن يتوقف صرفه في نهاية عام 2019 وفق الخطة الموضوعة لذلك، ولم يتم التعرُّض لآثار التوقُّف أو عدمه فيما لو تقرر استمراره، خاصة في ظل الظروف المالية والضغوط على الموازنة.
ويرى البيان أن هناك حاجةً للضبط المالي للحد من هذه المخاطر على المدى المتوسط، بما في ذلك أهمية تحقيق التوازن المناسب بين استدامة المالية العامة، والإنفاق الاجتماعي، والتنمية. والمشكلة المقلقة أن البعثة ترى أنه في حالة تراجع أسعار النفط عن مستواها المفترض في الميزانية، ستواجه المملكة عجزًا كبيرًا في الميزانية لن يتم تداركه إلا بتخفيض الإنفاق، لكن ذلك سيحدث في ظل هوامش مالية أضعف بكثير مقارنة بما كان عليه الحال في عام 2014.
وأثنت ورقـة الـعمل عـلى اتفاق كـلٍّ مـن صـندوق الـنقد الـدولـي والـبنك الـدولـي عـلى قيادة الـقطاع غير الـنفطي لـمعدلات نـمو الاقتصاد الـسعودي، فـي إشارة واضـحة إلى نـجاح بـرامـج رؤية الـمملكة 2030 فـي وضـع الاقتصاد الـسعودي عـلى الـمسار الصحيح، والـذي يستهدف خفض الاعـتماد عـلى صـادرات الـنفط والـتنوُّع فـي مـصادر دخـل الاقتصاد السعودي. وحقيقةً، لـم تـتضح معايير الـوصـول لهذه الـنجاحـات بـشكل جـلي، حيث إنَّ هناك الكثيرَ مـن التساؤلات والتحديات الـقائـمة لـلحكم عـلى نـجاح هذه الـبرامـج، ولـعلَّ مـن أهمها أن بـرامـج تنويع مـصادر الـدخـل لا تزال فـي معظمها تـعتمد عـلى الـضرائـب والـرسـوم أكثر مـن الـدخـل مـن الاستثمارات والقيمة الـمضافـة لـبرامـج الرؤية، إضافةً إلى الضغوطات ما بين برامج الرؤية لتحقيق التوازن المالي ورفاهية المواطن. كذلك فقد ركَّز البيان على نجاح برامج الحكومة في تنويع مصادر الدخل، إلا أنه يعيب هذا الوصف _ وكما هي عادة توصيات صندوق النقد _ التركيز على فرض الضرائب والرسوم، والتي بدأت بفرض الضرائب على الأراضي البيضاء، ثم تمَّ تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وفي البيان توصية مباشرة من الصندوق برفع ضريبة القيمة المضافة البالغة 5% حاليًّا!
ركَّز البيان على أهمية الاستمرار في تحسين إدارة الإنفاق الحكومي وشفافية المالية العامة، وإذا لم يتم السيطرة على مستويات الإنفاق المتناسبة مع أسعار النفط، فسيتعين على الحكومة إجراء تعديلات كبيرة في مستويات الإنفاق خلال فترات انخفاض أسعار النفط؛ وهو ما قد يؤدي إلى تقلبات في النمو.
أثنى البيان على إصلاحات الحكومة لتقوية الإطار القانوني والحد من القيود التي تعيق ممارسة الأعمال، إلا أنه لا تزال وتيرة برنامج الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص والاستثمار الأجنبي دون المستوى المأمول. كما ركَّز البيان على مشكلة البطالة والتوطين والتحدي الكبير الذي تواجهه الحكومة في هذا الإطار، وأهمية إصلاح سوق العمل، ووضع البيان أربعة محاور للإصلاح لكن لم يتم التعرض للآثار السلبية على الاقتصاد ككل وآثار التضخم المتوقعة نتيجة تطبيقها، إضافةً إلى التعارض المحتمل بين تطبيقات بعض هذه المحاور.
¤ التعقيب الثاني: د. سليمان الطفيل:
أودُّ أن أشيرَ في البداية -بحكم تخصصي وتجربتي الاقتصادية كأحد المختصين في الشؤون الاقتصادية بوزارة المالية سابقًا، وواحد من فريق عمل اقتصادي أسهم في صياغة العديد من الأنظمة واللوائح والقرارات الاقتصادية المحلية والخليجية – إلى أن التقارير السنوية وتوقعاتها التي تصدر من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، مثل: تقرير آفاق النمو الاقتصادي العالمي، وتقرير التنمية في العالم، وتقرير التنمية البشرية في العالم، وتقرير التنمية المستدامة في العالم،… إلخ) هي محل اهتمام أصحاب القرار في جميع دول العالم، وبالأخص الدول المشاركة فيه، أو تربطها علاقة أساس أو تابع لهاتين الجهتين السياديتين، وكلاهما تُعَدُّ المملكة العربية السعودية عضوًا أساسيًا ومؤثرًا فيهما لما تملكه من نسبة في تملُّك الحصص ونسبة في الإيداعات النقدية؛ حيث تمثِّل المملكة العربية السعودية واحدة من أهم ثماني دول مؤثرة في سياسات وقرارات الصندوق.
سأعرض -باختصار – دور وأهداف صندوق النقد الدولي، وما تضمنته الورقة التي أعدَّها أ. مطلق البقمي، وبعد ذلك سأعرض وجهة النظر الخاصة بما ورد فيها من رأي ومقترحات وتقييم توقعات صندوق النقد الدولي للنمو الاقتصادي السعودي، كما يلي:
أولاً: صندوق النقد الدولي:
صندوق النقد الدولي هو وكالة متخصصة من منظومة بريتون وودز تابعة للأمم المتحدة، أنشِئ بموجب معاهدة دولية في عام 1944 للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي. ويقع مقر الصندوق في واشنطن العاصمة، ويديره أعضاؤه الذين يشملون جميعَ بلدان العالم تقريبًا بعددهم البالغ 189بلدًا.
ويمثل الصندوق المؤسسة المركزية في النظام النقدي الدولي؛ أي نظام المدفوعات الدولية وأسعار صرف العملات الذي يسمح بإجراء المعاملات التجارية بين البلدان المختلفة. وتنحصر المهام الرئيسية للصندوق في الآتي:
1- مراقبة التطورات والسياسات الاقتصادية والمالية في البلدان الأعضاء وعلى المستوى العالمي، وتقديم المشورة بشأن السياسات لأعضائه استنادًا إلى الخبرة التي اكتسبها منذ تأسيسه.
2- إقراض البلدان الأعضاء التي تمر بمشكلات في موازين مدفوعاتها، ليس لإمدادها بالتمويل المؤقت فحسب، وإنما أيضًا لدعم سياسات التصحيح والإصلاح الرامية إلى حل مشكلاتها الأساسية.
3- تقديم المساعدة الفنية والتدريب في مجالات خبرة الصندوق إلى حكومات البلدان الأعضاء وبنوكها المركزية.
ثانيًا: ملخص ما جاء في ورقة العمل:
1- تسعى الورقة للإجابة عن حقيقة التوقعات التي يقدمها صندوق النقد الدولي حول نمو الاقتصاد السعودي، هل هي دائمًا صحيحة أو قريبة من الواقع؟ وخلصت الإجابة إلى أن ما يقدمه الصندوق من آراء وتوقعات لا تعدو كونها مقترحاتٍ وتوصيات، وأن تلك التوصيات تُمثِّل (نصائح) وليست (شروطًا) يجب على المملكة تطبيقها، وأنه لا يصح اتهام صندوق النقد الدولي ومعه البنك الدولي بالهيمنة على اقتصاديات العالم الثالث، وأن ما يقدمانه يحمل أفكارًا ضارة تجعل الدولة تحت رحمتهما.
2- قدمت الورقة مقارنة سريعة لتوقعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشأن نمو الاقتصاد السعودي لعامي 2019م و2020م، وخلصت إلى التوقع بأن الاقتصاد السعودي على المدى المتوسط سينمو أعلى من 3%، الذي سيعود بشكل أكبر إلى النمو المتوقع في القطاع الاقتصادي السعودي غير النفطي، والذي يُعزَى إلى النجاح الذي تنتهجه برامج رؤية المملكة 2030 نحو الإصلاحات الاقتصادية.
3- قارنت الدراسة بين توقعات صندوق النقد الدولي (تقرير الاقتصاد العالمي) لنمو الناتج المحلي الحقيقي للاقتصاد السعودي وتوقعات الهيئة العامة للإحصاء خلال الفترة من 2013م حتى 2019م، وخلصت إلى أن توقعات صندوق النقد الدولي لم تكن دقيقةً في معظم الأحيان، وأن هناك فروقات إيجابية أو سلبية وبنسب كبيرة، ومن ثَمَّ لا يمكن الاعتماد على توقعات صندوق النقد الدولي بأن الاقتصاد السعودي سينمو في عام 2019م بنسبة 1.8% مقارنة ب 1.7% في عام 2018م؛ لأن الإصلاحات الاقتصادية للمملكة والتحسُّن المستمر في المؤشرات الاقتصادية لها دلالات تحسُّن أفضل من المتوقع.
4- انتهت الورقة إلى أن هناك عاملين مؤثرين وفي غاية الأهمية على واقع الاقتصاد المحلي، هما:
s دور الوزارات والهيئات في المملكة في تيسير الشأن الاقتصادي وإزالة العراقيل التي تؤثِّر في مسيرته.
s الأرقام والإحصائيات المنشورة يجب أن تكون واقعيةً ومفصَّلة لا تقبل الاجتهاد ولا تكون مجملة أمام صانع القرار.
ثالثًا: الرأي بما ورد في ورقة العمل:
لقد تناولت الورقة – كما تم التوضيح سابقًا – نقاط مهمة وسريعة فيما يتعلق بالإجابة على دقة التوقعات الاقتصادية التي يقدمها صندوق النقد الدولي وشقيقه البنك الدولي بشأن الاقتصاد السعودي، كما انتهت إلى أن هناك أمرين مهمين ومؤثرين في توقعات النمو الاقتصادي السعودي. وقد عرضت الورقة في مجملها شيئًا من الحقائق الاقتصادية المهمة، لكنها لم تفسِّر بوضوح الإجابة عن السؤال، ومن ثَمَّ يرى كثير من الاقتصاديين والمحللين الإستراتيجيين في كثير من دول العالم ضرورة أخذ الحيطة والحذر من التوصيات والمقترحات التي يقدِّمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في أبحاثهما وتقاريرهما الدولية المنشورة أو مشوراتهما الدولية الخاصة. وقد حذَّر من ذلك العديد من الخبراء والكتَّاب والمراقبين الاقتصاديين، وشنّوا انتقادات كبيرة على برامجهما، من أمثال عالم الاقتصاد ميشيل تشوسودوفيسكي، الذي أكد أن برنامج صندوق النقد الدولي قد يترك البلد في بعض الأحيان فقيرًا كما كانَ من قبلُ، لكن مع مديونية أكبر وصفوة حاكمة أكثر ثراءً. كما انتقد الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيغليتز، كبير الاقتصاديين في البنك الدولي الحائز على جائزة نوبل وأحد أهم مساعدي الرئيس الأسبق بيل كلينتون، صندوق النقد الدولي في أحد أبحاثه مؤكِّدًا أن القروض التي تُقدَّم من الصندوق إلى الدول تكون ضارةً في حالات كثيرة خاصة التي تُوجَّه إلى الدول النامية ودول العالم الثالث. ومن ضمن الانتقادات الموجَّهة أيضًا للصندوق سطوة الولايات المتحدة الأمريكية على البنك وتحكُّمها وقدرتها على إعطاء القرض من عدمه لأي دولة، حيث إنَّها الدولة الوحيدة التي تمتلك حق الفيتو من بين الدول الأعضاء.
أيضًا ينتقد صندوق النقد الدولي لتبنيه سياسات رأسمالية تساعد على السوق الحر، فهو يرفض أية قيود من الدول المقترضة على النقد الأجنبي، وضد الرقابة على الصرف، وضد أي تدخل من الحكومات في السياسات النقدية، ويُشجِّع أيضًا بشكل مباشر القطاع الخاص واقتصاد السوق الحر، حيث يعطي نفس التوصيات والنصائح لكل الدول، وهو ما لا يعطي أية مساحات للدول التي قد يكون وضعها الاقتصادي والاجتماعي مختلفًا إلى حد كبير مع نظيرتها من الدول المقترضة الأخرى(*).
ورغم أن صندوق النقد الدولي التابع للأمم المتحدة، دوره دعم الاقتصاد العالمي، والمعاملات التجارية بين البلاد المختلفة، فإنّه عادة ما يتهم صندوق النقد الدولي بكونه إحدى أدوات الشركات العالمية لبناء إمبراطورية تسيطر على اقتصاد العالم، وتهزم الدول، “ونهب وتدمير اقتصاد الدول النامية”، وفقًا لـ”جون بيركنز”، مؤلف كتاب “اعترافات قاتل اقتصادي” الذي تُرجَم إلى ثلاثين لغة بما فيها اللغة العربية التي صدر فيها تحت عنوان: “الاغتيال الاقتصادي للأمم”.
كما أكد د. صلاح هاشم، أستاذ التنمية والتخطيط في جامعة الفيوم، ورئيس الاتحاد المصري لسياسات التنمية، أنه على مدار 90 سنة من وجود الصندوق، ما من دولة حصلت على قرض منه وحقَّقت عائدًا تنمويًّا ملموسًا. وأشار إلى أن كل الدول التي حصلت على قروض من الصندوق لا تستطيع تحقيق نهضة اقتصادية أو تنموية، فالقرض يدمِّر الاقتصاد، ويؤدي إلى تآكل الطبقة الوسطى لتهبط إلى طبقة الفقراء، وتتقلص طبقة الأغنياء(**).
وبحسب معرفتي الاقتصادية المحدودة وزيارتي لمقر الصندوق والبنك الدوليين، وقراءة ومتابعة ما يُكتَب في تقاريرهما وأبحاثهما المنشورة من سنوات، وكذلك توصياتهما التي يُعلَن عنها في كثير من الأحيان بشأن الإصلاحات الاقتصادية للدول، وبالأخص الدول التي تطلب قروضًا أو مساعدات دولية؛ نجد أن صندوق النقد يفسِّر بلا شك الكثيرَ من الإجابات بشأن ما تتعرَّض له اقتصادات بعض الدول النامية والفقيرة من تحديات وتهديدات داخلية وخارجية، وبالأخص الأنظمة المحلية وقضايا الفساد والاحتيال المالي، ويكشف العديدَ من المسائل الغامضة بشأن أسباب التضخم وشيوع البطالة وضعف الإنتاجية وتدهور العملات وضعف التحويلات وتعقُّد التجارة البينية بكل شفافية ووضوح.
بل إننا نجد بعثة مشاورات المادة الرابعة تعمل وباستمرار على الكشف عن الكثير من الأرقام والإحصائيات والمعلومات التي قد لا توجد في المصادر المحلية، وهو ما يدعو إلى الريبة فيما يقدِّمه من مقترحات أو توصيات ونصائح اقتصادية للدول والمؤسسات الدولية. وبصدد تقييمنا لتوقعات صندوق النقد الدولي بشأن النمو الاقتصادي السعودي، من المؤكد أن تلك التوقعات لن تكون بنسبة 100%؛ لاعتبارات عديدة أهمها: الفرق بين مفهومي ومعدلات التنمية والنمو الاقتصاديين؛ فالأول معنيٌّ بالتغييرات الجوهرية في البناء والهيكل الاقتصادي، والثاني معنيٌّ بالسياسات والبرامج الاقتصادية، ولا يمكن بأي حال فصلهما وإلا كان الضرر على الاقتصاد والوقوع في دائرة التخلف الاقتصادي أو دائرة الفقر؛ لهذا فإن التنسيق المستمر بين خبراء الصندوق والبنك الدوليين بشأن الإصلاحات والتوقعات تكاد تكون متلازمةً منذ تأسيسهما، وهي مهمة مشتركة فيما بينهما، وعلى هذا الأساس لا يمكن القول بضعف أو فشل التوقعات الاقتصادية التي غالبًا تكون قريبةً منها، وبنسبة خطأ قد لا تزيد عن 10% أعلى أو أدنى من المتوقع.
التوقع الذي تبنَّاه صندوق النقد الدولي بشأن الاقتصاد السعودي 1.8% لعام 2019م لم يكن صائبًا بالنظر إلى أن رؤية المملكة 2030 قد وضعت في الاعتبار توقعات وتوصيات صندوق النقد الدولي كأحد المرتكزات التي اعتمدت عليها، وما زالت هناك العديد من التوصيات والمقترحات الاقتصادية المهمة بالنسبة لمسيرة الإصلاحات الاقتصادية للمملكة محل دراسة وتمحيص من قِبل أصحاب القرار والشأن الاقتصادي، وبخاصة ما أشير إليه في الآونة الأخيرة بشأن توجُّه المملكة لفرض ضريبة الدخل ورفع الدعم عن أسعار الطاقة وتقليل الوظائف في القطاع العام وتخفيض رواتب الموظفين في القطاع العام لتصبح قريبةً من وظائف القطاع الخاص؛ الأمر الذي يجعل من الأهمية بمكان النظر إلى ما تضمنته الورقة بشكل أكثر تفصيلاً وبعمق اقتصادي يعتمد على البيانات الحقيقية كما كان وما سيكون من آثار لتلك التوقعات التي دائمًا تظلُّ محل اهتمامنا الاقتصادي، والنظر إليها بكل حيادية وتجرُّد، وبعيدًا عن العواطف أو المجاملات. نحن نمرُّ في اقتصادنا السعودي بمنعطفات اقتصادية تاريخية تتطلب منا المزيدَ من التأمُّل والبحث والتقصي في كافة الحقائق؛ لأن المملكة -ولله الحمد – بما حباها الله من خيرات ومكتسبات نادرة وربما عديمة في دول أخرى، وهي في نمو متسارع أخذ يلفت أنظار قادة أصحاب القرار والمستثمرين في دول العالم كدولة منافسة اقتصاديًّا، وبالتالي التهديد لمصالحهم الاقتصادية؛ لهذا فإن دقة المعلومات والتوقعات في نمو الاقتصاد السعودي يجب أن تنطلق من حقائق اقتصادية دقيقة وليست معلومات متضاربة، وبخاصة ونحن نعيش مرحلة ثورة المعلومات والحكومة الإلكترونية.
أما ما يخصُّ الأمرين اللذين أكدت عليهما الورقة الرئيسة في نهايتها بشأن التأثير في توقعات الاقتصاد المحلي، فهما بلا شك يعتبران من أكثر العوامل المؤثرة في مسيرة الإصلاحات الاقتصادية خاصة ما يتعلق باستمرار البيروقراطية الإدارية في بعض الجهات الإدارية والقضائية، وكذلك عدم فاعلية العديد من المبادرات التي ثبت فشلها بسبب عدم مواءمتها للتطبيق على أرض الواقع، وما تسببت في إحداثه بشأن خسارة العديد من الأعمال أو الهدر المالي والوقت والجهد البشري. ولا ننسى تأثير العوامل الأخرى الداخلية والخارجية، مثل: المنافسة، والحرب الاقتصادية والتجارية، والتأثير الإعلامي الداخلي والخارجي على كثير من القرارات الاقتصادية وتفاعل المجتمع معها، وبخاصة وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها على توجهات الأسواق محليًّا وعالميًّا؛ الأمر الذي يدعو إلى ضرورة النظر في هذه التطورات الجديدة ونحن في مسيرة الإصلاح الاقتصادي، وتحقيق معدل أفضل للاقتصاد.
رابعًا: وجهة النظر الاقتصادية بشأن توقعات صندوق النقد الدولي:
لا أجد تفسيرًا واضحًا وصحيحًا لتوقعات الصندوق بشأن الاقتصاد السعودي، والذي وضحته الورقة خلال الفترة من 2013م عند 4.4% إلى 2019م عند 1.8%، والذي رسم منحنى تصاعدي بعد وصول الاقتصاد السعودي إلى ما يمكن تسميته ب (القاع) عام 2017م حسب توقعاته عند (0.7%)، وحسب توقعات مصلحة الإحصاءات العامة عند نسبة (0.74-) خاصة وأن الصندوق يعلم أن المملكة وضعت برنامجًا حازمًا وصارمًا بشأن الإصلاحات الاقتصادية الكلية، وهو ما كان يجب على بعثة الصندوق أن تدركه، وأن توضِّحه بكل تجرُّد ووضوح.
ففي نظري، أن البعثة قد أخفقت في تقديراتها، ولا أعلم سرَّ الإخفاق؛ ربما لأنها لم تتوقع حجم وقوة القرار الاقتصادي من جانب القيادة السعودية حينما أطلقت رؤية المملكة 2030، بل وفي أبسط الحسابات والمعادلات الاقتصادية وبعيدًا عن تلك القرارات، فإن معامل المتوسط الحسابي للتوقعات التي ذكرت في الورقة خلال الفترة بين 2013م و2019م تشير إلى أن النمو الاقتصادي السعودي المتوقع عام 2019م سيرتفع إلى 2.3%، وهو ما توقعه تقرير ميزانية وزارة المالية 2019م، وأكده تقرير مؤسسة النقد العربي السعودي لعام 2018م، وهذه النسبة تظهر من خلال حساب المعادلات الكلية للاقتصاد السعودي أخذًا في الاعتبار (حساب الناتج أو الدخل الكلي، حساب المسح النقدي، حساب مالية الحكومة، حساب القطاع الخارجي)، والتي يجري التأثير في معادلاتها الفرعية العديدة لتقدير نسبة معدل نمو الاقتصاد.
وفي ختام هذا التعقيب، أشير إلى بعض التوصيات التي أرى أهميتها بشأن ما تضمنته الورقة على النحو التالي:
1- العمل على توحيد نشر البيانات والمعلومات الاقتصادية وتحديثها أولاً بأول وبشكل مستمر، ليستفيد منها صاحب القرار وجميع أصحاب المصالح الاقتصادية والمستثمرون في الداخل أو الخارج، وكذلك مراكز الأبحاث والدراسات العلمية والجامعات.
2- أن تكون هناك منصة رقمية للمعلومات الاقتصادية التي تيسّر على المسؤولين المختصين والباحثين الحصول عليها.
3- الإسراع باشتراك المملكة العربية السعودية في “المعيار الخاص لنشر البيانات” الذي وضعه صندوق النقد الدولي، وتطوير إحصاءات سوق العمل والحسابات الكلية للاقتصاد بما يُحقِّق تطلعات رؤية المملكة 2030.
ʘ المداخلات حول القضية
- لمحة عن صندوق النقد الدولي (*)
الاختلافات بين صندوق النقد والبنك الدولي
تساءلت د. وفاء طيبة: ما هي العلاقة بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؟ وما هو الفرق بينهما؟ وفي هذا الصدد أشارت أ. فائزة العجروش وكذلك أ. مطلق البقمي إلى أن كلاً من صندوق النقد والبنك الدوليين يُعدَّان مؤسستين شقيقتين ضمن منظومة الأمم المتحدة، تعقدان اجتماعات مشتركة منذ العام 1946 بهدف تحسين مستويات المعيشة في الدول الأعضاء. أما عن أبرز الاختلافات بينهما فتتمثل في التالي:
1- يُركِّز الصندوق على قضايا الاقتصاد بشكل عام، في حين أن البنك الدولي يركِّز بشكل رئيسي على الحد من الفقر في الدول الأعضاء.
2- يهدف صندوق النقد الدولي إلى ضمان استقرار الأنظمة المالية بما فيها سعر صرف العملات، ومساعدة الدول الأعضاء على وضع برامج لسياساتها الاقتصادية عند مواجهتها للمشاكل. أما البنك الدولي فيهدف إلى تقديم المساعدات المالية والفنية للدول الفقيرة لإجراء الإصلاحات وتنفيذ مشاريع محددة، مثل: بناء المدارس والمراكز الصحية، وتوفير المياه والكهرباء.
3- قروض صندوق النقد الدولي قصيرة الأجل نسبيًّا، في حين أن المساعدات التي يقدِّمها البنك الدولي طويلة الأجل.
4- بالنسبة للتمويل، يقوم الصندوق بتأمينه من مساهمات الدول الأعضاء في شكل اشتراكات للعضوية، وتعكس حصة كل دولة مركزها النسبي في الاقتصاد العالمي؛ فيما يؤمِّن البنك الدولي القروض للدول المحتاجة من مساهمات الدول الأعضاء ومن خلال إصدار السندات.
وتُعد كلٌّ من البرتغال واليونان وأوكرانيا وأيرلندا من بين أكبر المقترضين من صندوق النقد الدولي بحسب بيانات فبراير 2016، أما أكبر المقترضين من البنك الدولي منذ تأسيسه فهي الهند والبرازيل والصين والمكسيك.
وبدوره تساءل أ. محمد الدندني: هل الصين بحاجة للاقتراض من البنك الدولي. وكذلك الهند، أليست القروض للدول الفقيرة؟ وفي هذا الشأن، أوضحت أ. فائزة العجروش أن البنك الدولي لا يعتبر بنكًا تقليديًّا، ويهدف في قروضه إلى: القضاء على مشكلة الفقر، وزيادة معدل النمو (تحسين مستوى القطاعات العامة كالصحة والتعليم والبنية التحتية، وتنمية القطاع الخاص…) في الدول المقترضة. وللمعلومية، تُعدُّ فرنسا أول من استفادت من قروض البنك الدولي (الهدف الأساسي لإنشائه هو مساعدة الدول التي تضررت بشكل كبير بعد الحرب العالمية)، حيت تنافست فرنسا مع تشيلي وبولندا للحصول على القرض، وحصلت عليه فرنسا بقيمة 250 مليون دولار بعد شروط مشدَّدة معينة باستبعاد أعضاء من الحزب الشيوعي الفرنسي حتى يتم الحصول على هذا القرض.
وحول تساؤل د. وفاء طيبة: لماذا تتساوى حصة المملكة مع حصة مصر مثلاً في صندوق النقد الدولي، مع أنه -برأيها – المملكة أهم اقتصاديًّا؟ ذكر أ. مطلق البقمي أنه لا يوجد اقتصاد أهم واقتصاد أقل أهميةً.. ولكن هناك اقتصاد كبير واقتصاد صغير. وبشكل عام، تسيطر الدول الصناعية الكبرى على أكبر الحصص في الصندوق وذلك منذ إنشائه، وخضعت عملية توزيع الحصص لزيادات متتالية خلال السنوات الماضية إلا أن تلك الزيادات لا تتم بشكل ديناميكي يعكس الوضع الحالي لأي اقتصاد، فتحديد حصص المساهمات في الصندوق تمَّ بناءً على حجم الاقتصاد وتأثيره في الاقتصاد العالمي وقت تأسيس الصندوق، وبالتالي كان للاقتصاد المصري وزنٌ نسبي كبير على مستوى اقتصاديات المنطقة في خمسينيات القرن الماضي، إضافةً إلى التعداد السكاني الكبير لمصر وتنوُّع اقتصادها وتصنيفها ضمن الاقتصاديات الناشئة التي حصلت على زيادة في حصتها في التحديثات الأخيرة. ومع تنامي الاقتصاد السعودي، فإن الجهود تتجه نحو زيادة حصة المملكة بما يتناسب مع حجم اقتصادها بوصفها أحدَ أعضاء دول مجموعة الـ20، وأحد الاقتصاديات المؤثرة على الاقتصاد العالمي، إلا أن زيادة الحصص تواجهها عقبات من الدول الكبرى الغربية التي ترغب في استمرار هيمنتها على الصندوق. وأضافت د. وفاء الرشيد أن الحصص في صندوق النقد الدولي تعتمد على عناصر أساسية، هي: الناتج المحلي الإجمالي، والاحتياطي من العملات الصعبة والذهب، وميزان المدفوعات من حيث الصادرات والواردات، كما أن هناك تجاوزات واضحة لا مجال لذكرها هنا.
- أهمية تقارير صندوق النقد الدولي:
أوضحت أ. فائزة العجروش أن التقارير السنوية الصادرة من البنك الدولي أو من صندوق النقد الدولي محل اهتمام أصحاب القرار في جميع دول العالم، وفي الدول المشاركة فيه. وتتضح أهمية هذه التقارير الدولية بالدرجة الأولى من كونها تقارير في معظمها قراءة لأحداث سابقة ومنتهية عن الوضع الاقتصادي والسياسي والهيكلي للمملكة؛ لذا فهي تُشكِّل أساسًا قويًّا يستطيع الكتَّاب والمراقبون من خلالها قراءة الأحداث السابقة لعمل دراسات مستقبلية وعمل التوقعات والتنبؤات، ودراسة تأثيراتها المستقبلية. أيضًا فإن هذه التقارير مهمة جدًّا للمستثمرين الأجانب في تأكيد نظرتهم عن السعودية واقتصادها، والبيئة الاستثمارية فيها، بتفاصيلها التي تحوي أحيانًا معلومات وبيانات غير متاحة للخارج؛ في حين توفرها للمستثمر المحلي والمراقب للشأن السعودي بالداخل. وبالمجمل، فالمستثمر الخارجي لا يتابع الاقتصاد السعودي إلا في حالات نادرة ومهمة، وحتى تحين له فرصة الاستثمار في المملكة، وحينئذٍ يقوم المستثمر الأجنبي بما يلي:
- يراجع المستثمر الأجنبي تلك التقارير المتعلقة بالمملكة للحصول على تصوُّر عام عن مؤشرات النمو والتنمية والمعدلات الأخرى.
- يقوم المستثمر بالتركيز على تقارير المخاطر التي تصدر من المؤسسات الدولية مثل شركات التقييم الائتماني، والتي تعطي تقييمات عن المخاطر المالية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
- يأخذ المستثمر تصوُّرًا عامًا عن الشفافية والفساد والبيروقراطية ومحاذير الاستثمار في المملكة مقارنةً بالدول الأخرى، من خلال مؤشرات التنافسية التي تحصل عليها المملكة.
- يعقد المستثمر المقارنات بين الدول المختلفة ومخاطرها الاقتصادية والسياسية والتنموية؛ ما يجعل مقارنة البيئة الاستثمارية مع دول أخرى ذات فائدة للمستثمر الأجنبي.
وفي حال ارتياح المستثمر الأجنبي لبيئة الاستثمار في المملكة، فإنه سيتوجه إلى:
1- دراسة الفرصة الاستثمارية نفسها من حيث حجم رأس المال المستثمر، والعائد المتوقع، وسنوات الاستثمار.
2- دراسة الأنظمة والتشريعات الخاصة بالاستثمار، بما فيها النظام القضائي والضريبي، وأي أنظمة أخرى لها علاقة باستثماراتها.
3- التركيز على الحوافز والإعفاءات التي قد يجنيها من الاستثمار في المملكة، مثل: القروض الحكومية، والأراضي الصناعية والزراعية الرخيصة، وغيرها من المحفِّزات الأخرى. وعلى ضوء هذه المعايير، فإن المستثمر الأجنبي قد يفكر في اللجوء للاستثمار مع مستثمرين محليين لمعرفتهم بالأنظمة والقوانين الاستثمارية، وللمساعدة في الحصول على القروض الحكومية والبنكية، وما يتطلب لذلك من دعم لوجستي مهم لاختراق الأسواق والمساعدة على التصدير والتسويق والتوزيع.
- طبيعة المخاوف المثارة بشأن توصيات صندوق النقد الدولي للمملكة:
ذهب أ. محمد الدندني إلى أنه ورد بالورقة الرئيسة والتعقيب عليها الإشارة إلى أن الصندوق الدولي يأتي بنصائح وليست شروطًا؛ لذا لا يجب أن يُتهم بأنه يعمل على السيطرة على اقتصاديات العالم الثالث، وفي الوقت نفسه فقد تمت الإشارة إلى انتقادات علماء اقتصاديين عالميين للصندوق؛ أليس هناك تناقض؟ وحول هذه النقطة أوضح د. سليمان الطفيل وجهة نظره بقوله: إن الصندوق يقدِّم من خلال دراساته وأبحاثه المنشورة أو من خلال استشاراته المقدَّمة للدول نصائح وتوجيهات؛ لكن هذا لا يعني أن الصندوق لا يضع شروطًا في حال تقديم قروض دولية.. وهذه الشروط غالبًا تتعلق بالضمانات وليس بتغيير سياسات؛ وهو بعكس البنك الدولي الذي غالبًا يضع شروطًا أمام المساعدات التي يقدِّمها للدول النامية أو الفقيرة.. أما فيما يتعلق بانتقادات الاقتصاديين للصندوق، فهذا من الطبيعي أن يوجد؛ فلكل عمل مؤيد ومعارض.. ومسألة انتقاد الصندوق أو غيره يجب أن يكون موضوعيًّا وعلميًّا ولا يتعارض مع الأسس والمبادئ التي يجب أن تكون أساسًا للحكم على الأداء.. وكما هو معلوم، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره.. فقد تكون السياسة أو التوصيات التي يقدِّمها الصندوق صالحةً لدولة ومضِرة بدولة أخرى.. والحكمة دائمًا ضآلة المؤمن، توصيات الصندوق يجب ألا تُؤخذ إلا في حدود مصلحة اقتصاد الدولة، ولا يوجد غضاضة في الاستفادة من النصائح أو التوصيات التي يقدمها الصندوق طالما أنها تصبُّ في مصلحة اقتصادنا، وهذا لا يعني بالضرورة قبول جميع النصائح التي يتقدم بها، مثل تطبيق سياسة الضرائب على الدخل في الوقت الراهن حتى تتمكن المنشآت من تجاوز أزمتها في المرحلة الحالية بسبب الاختلالات الحاصلة نتيجة تطبيق عدد من القرارات الاقتصادية العامة لمصلحة الاقتصاد الكلي.. كذلك النصيحة برفع الدعم عن الطاقة مثل الكهرباء أو عن الماء حتى نضمن التوزيعَ الأمثل للموارد على جميع أفراد المجتمع، وبخاصة ذوو الدخول الضعيفة!
وعقَّب أ. محمد الدندني بأنه ورد في تعقيب أ. فهد القاسم أن الصندوق نصح برفع ضريبة القيمة المضافة، أليس من الأفضل أن تكون هناك ضريبة دخل على الشركات وربما على المرتبات العالية تُحدَّد بسقف معين؟ وفي الوقت ذاته يتم العمل على حث الأفراد على الزكاة حيث لا يوجد قانون أو آلية للتحقُّق من التزامهم بأدائها؛ حيث تُحصَّل فقط على الشركات، مع الإبقاء على الضريبة المضافة الحالية. ومن جانبه أوضح أ. فهد القاسم أن الأنظمة نصَّت على استحقاق الدولة لضريبة الدخل على الشركات الأجنبية وأرباح الشريك الأجنبي في الشركات المختلطة، والزكاة على المنشآت السعودية.. أما الضريبة على الدخل (الرواتب) فقد تم إقرارها على الأجانب في الثمانينيات، وعُطِّلت بعد ثلاثة أيام نتيجة للضغوط الرهيبة التي تعرضت لها الشركات الكبرى وعلى رأسها أرامكو من الموظفين الأجانب في حينه. أما فيما يخص الضريبة على الدخل من حيث التطبيقات والأثر؛ فهي أفضل من الرسوم والضرائب الأخرى التي يتساوى فيها الجميع، ولكن السؤال الأهم: لماذا الضرائب على الدخول أصلاً، وهذا جدل قديم مرتبط بشيئين: الأول غنى الدولة وفقرها، والثاني التبعات الشعبية والسياسية للضرائب التي قد لا نكون جاهزين لها بعدُ؟!
واتفق أ. محمد الدندني مع القول بأن الضريبة على الدخل أفضل من الرسوم والضرائب التي يتساوى فيها الجميع. أما أهمية إقرارها أساسًا ففي رأيه ترجع إلى عدة عوامل، كما يلي:
1- تعدُّ نوعًا من المشاركة الشعبية في التنمية، وبالذات في الصرف على البنية التحتية.
2- هي ضريبة تصاعدية تزيد مع زيادة الدخل، أي يُراعى فيها أصحاب الدخل المنخفض.
3- هي مكملة لهدف تحويل المجتمع من رعوي إلى مُنتِج.
بينما ذكر د. سليمان الطفيل أنه في الأساس لا يؤيد مطلقًا استخدام الضريبة في مجتمع يُطبِّق شعيرة الزكاة مثل مجتمعنا ولله الحمد.. لكن لولي الأمر ما يراه أصلح، وبخاصة في ظل ظروف اقتصادية صعبة وتعاملات مماثلة في دول عالمية أخرى تُطبِّق الضريبة بأنواعها.. وكما نعلم أن النظام المالي العالمي اليوم إما أنه يستند على الفكر الرأسمالي أو الفكر الاشتراكي.. ويكاد يكون النظام الاقتصادي بالنسبة للمملكة أقرب منه للرأسمالي المقيد أو المختلط؛ ولهذا تسعى الحكومة للتقارب مع الاقتصادات العالمية المشابهة خاصة بعد انضمامها لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية WTO، والتي توجب مراعاة مبدأ الأولوية ومبدأ الأفضلية ومبدأ المنافسة.. والمساواة في التعاملات بهدف تيسير حركة التجارة وتكافؤ الفرص بين الدول الأعضاء في المنظمة. أما عن الاقتراح برفع القيمة المُضافة أو تطبيق ضريبة الدخل أو تقنين فرض الزكاة على الأفراد؛ فهذه مسائل مالية ليس من السهولة اتخاذ رأي بشأنها، لاعتبارات أهمها:
1- أن ضريبة القيمة المُضافة هي أوسع الضرائب قاعدةً من بين أربعين نوعًا من الضرائب المطبَّقة عالميًّا.. وأن نسبة ال 5٪ هي الأكثر شيوعًا في التطبيق لجدواها الاقتصادية.
2- أن ضريبة الدخل كما ذكر أ. فهد القاسم تُطبَّق على الشركات الأجنبية والمستثمر الأجنبي؛ لكن المطالبة بتطبيقها على المنشآت الوطنية من شأنه أن يرفع التكلفة على المنشآت، ومن ثَمَّ فإن ضررها الاقتصادي سيكون أكبر خشيةَ تعرُّض هذه المنشآت للإفلاس؛ خاصة في هذه المرحلة الصعبة التي تحتاج وقتًا للتكيُّف الاقتصادي والتعاطي مع المتغيرات الجديدة.
3- أن شعيرة الزكاة فريضة، وركن من أركان الإسلام، وكل مواطن مُكلَّف ولله الحمد (رجل وامرأة) يدرك أهمية الالتزام بتطبيق هذه الشعيرة.. ومتى ما فُرِّط فيها وشاع هذا الأمر، وهو -ولله الحمد – شبه معدوم، لزم تقنينها.. أما الزكاة على الشركات سنويًّا فقد أصبحت على قمة المعاملات الإلكترونية الواجب دفعها من قِبل أي منشأة عند إصدار ميزانيتها السنوية.
وعقَّب أ. محمد الدندني بأنه يمكن النظر للقضية من هذه الزوايا:
1- لا نقاشَ في شعيرة الزكاة، فهي ركنٌ من أركان الدين، كما أنها مُلازِمة للصلاة فيما لا يقل عن ٩٠٪ من آيات القرآن الكريم، ولكن ألا يحقُّ ولظروف اقتصادية وتنموية لولي الأمر أن تُرفَع النسبة؟
2- فرض ضريبة الدخل على الأجنبي فقط وتحمُّل السعودي الزكاة التي هي ليست عبادة فحسب، بل نظام حياة لتوازن المجتمع ماديًّا؛ ربما يكون هذا النظام فيه نوعٌ من الخلل من حيث العدل بين الطرفين، وربما كان مُنفِّرًا لاستقطاب الاستثمارات، وكذلك مدخل للشيطان في التحايل ورفع نسبة السعودي كي يُخفِّف عن الأجنبي في الضريبة.
وبدوره عقَّب د. سليمان الطفيل بأن الزكاة لها شروط وأنواع ومقدار محدَّد لا اجتهاد فيه مع النص، ويمكن الرجوع إلى بحوث الزكاة الفقهية للاستزادة منها.
وفي سياق متصل، ذكرت د. عبير برهمين أن الدولة -رعاها الله -تستند في رسم سياستها للإصلاحات الاقتصادية على توقعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كمؤشر مرجعي أو benchmark لتقديراتها الاقتصادية. وبالتالي قد تتوافق هذه التوقعات أو لا تتوافق تبعًا للظروف السياسية والاقتصادية للدولة، وكما يقولون “أهل مكة أدرى بشعابها”؛ لذلك فإن توقعات وآراء الخبراء والاقتصاديين في بلدنا قد تكون هي الأقرب للواقع. وقد لا تحتاج المملكة للاقتراض من الصندوق أو البنك الدوليين؛ لكن في حالة لجوئنا لدعمهما فإنه يصبح من المهم أن لا تكون هناك ضوابط وضمانات يُطالبون بها تتقاطع وتتداخل مع مشاريع الدولة للإصلاحات الاقتصادية أو السياسية. ومن جانبه ركَّز د. سليمان الطفيل على أن المملكة عضو أساسي في الصندوق، وهي واحدة من ثماني دول لها حق التصويت من بين 189 دولة.. وهذا الأمر يجعل توقعات الصندوق أقرب للواقع بالنسبة للمملكة التي يُعَدُّ ممثلوها أساسيين ودائمين في مقر الصندوق والبنك الدوليين.
وفي الإطار ذاته تساءلت أ. فائزة العجروش: ما مدى صحة أحد مقاييس البنك الدولي المعتمدة، وهو استهلاك الفرد من السعرات الحرارية وهو ما يُسمَّى بـ “مقياس الجوع”، والذي يُستخدَم في البلدان المنكوبة بالكوارث وفي غيرها؛ وهو ما قد يُعطي نتائج مضللة؟ وما يهم أكثر الإجراءات التي ستترتب على هذا المعيار عند الخروج بنتائج حول الفقر، وخصوصًا السياسات المتبعة لخفض نسب الفقر وتعزيز وجود الطبقة الوسطى، كذلك إيجاد مقاييس أداء تُبيِّن مدى نجاح تطبيق هذه السياسات! وحول هذا التساؤل أشار أ. مطلق البقمي أن لدى البنك الدولي العديدَ من الخبراء من مختلف دول العالم، ويُمثِّل بعض خبرائه أفضل الكفاءات الاقتصادية على مستوى العالم، ويركِّز البنك بشكل كبير على مكافحة الفقر في البلدان الفقيرة، ولديه أبحاث علمية وميدانية في هذا الجانب، ومن ثَمَّ فإن اعتماده استهلاك الفرد للسعرات الحرارية كمقياس للجوع تم بناؤه على دراسات علمية وتجارب عالمية.. وتُشير تجارب البنك الدولي في مكافحة الفقر إلى نجاحه في بعض الدول خاصة الإفريقية، ويمكن اعتبار جهود البنك في هذا المجال من النقاط المضيئة، والتي تدعمها المملكة، وتُعَدُّ من كبار المساهمين في تمويل برامج البنك الدولي التي تهدف إلى مكافحة الفقر في العالم، انطلاقًا من دور المملكة الإنساني في هذا المجال. وبدوره أكد د. سليمان الطفيل على أن مقياس الجوع هو من أحد المقاييس التي وضعها البنك الدولي لقياس الفقر في العالم، وجعل له مقاييس أخرى، مثل: (خط الفقر، وخط الكفاف، وخط الكفاية) حتى يتمكن من رسم خارطة الانتزاع من الفقر والخروج من دائرته؛ حيث يُخصِّص لكل دولة فقيرة برامج مساعدات تختلف باختلاف درجة فقرها إلى درجة الجوع.
وطرحت د. الجازي الشبيكي تساؤلاً مفاده: إلى أي مدى يمكن أن يتدخل العامل السياسي ومصالح الدول الكبرى في تقارير الصندوق الدولي عن اقتصاد المملكة؟ في حين ذهب د. صدقة فاضل إلى أنه من الناحية السياسية، عندما يُذكَر صندوق النقد الدولي، يستحضر نظام “بريتون وودز”… وهو النظام الاقتصادي -المالي -النقدي، الذي أقامته أمريكا تحت مظلة الأمم المتحدة، وعمَّمته على العالم، والذي تبيَّن لاحقًا أنه “أداة” للهيمنة الأمريكية، وسيادة الدولار الأمريكي الذي كان مُغطَّى بالذهب، ثم أصبح مكشوفًا منذ عام 1973م. وقد حقَّقت أمريكا الكثيرَ من أهدافها عبر الصندوق والبنك؛ فالسياسة داخلة بقوة في نظام “بريتون وودز “. ولا شك أن ذلك يُؤثِّر (إيجابًا وسلبًا) على مخرجات الصندوق والبنك.
أما أ. مطلق البقمي فقد أكد في هذا الإطار أن هناك هيمنةً للدول الكبرى في إدارة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلا أن إصدار التقارير في المجال الاقتصادي يخضع لمعايير اقتصادية معينة خاصة بكل اقتصاد؛ فعلى سبيل المثال، أسعار النفط وتطورها وأثرها على اقتصاديات الدول النفطية عامل يصعب التلاعب به، كما أن نمو الاقتصاد غير النفطي في ضوء رؤية المملكة 2030 عامل لا يمكن إنكاره من أي جهة. أما بخصوص تدخل المصالح والعوامل السياسية في عمل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فإنه عادةً يكون عندما تلجأ الدول للاقتراض منهما، وهنا يتم فرض شروط للاقتراض فيما يُسمَّى برامج الإصلاح. وفيما يخصُّ المملكة فوَضْعها يضعُها بعيدًا عن ذلك، فالإصلاح وإعادة الهيكلة اللذان تبنتهما المملكة لاقتصادها نابعان من رؤيتها الداخلية المتمثلة في رؤية 2030 وليس برنامج للصندوق أو البنك الدوليين؛ لأن المملكة لم تلجأ لهما للاقتراض ولكنها تستفيد من الخدمات الاستشارية التي يقدمانها، في حين أنها تعتمد في الدرجة الأولى على مواردها وفوائضها الكافية لتمويل برامج الرؤية أو حتى الاستفادة من سجلها الائتماني للاقتراض من البنوك العالمية سواء كاقتراض مباشر أو من خلال إصدار الصكوك والسندات.
- توقعات صندوق النقد الدولي وتوقعات الاقتصاد المحلي:
تساءلت د. وفاء طيبة: ما العلاقة بين توقعات صندوق النقد الدولي وتوقعات الاقتصاد المحلي (في الانتاج المحلي نفسه)، وكيف يؤثِّر الأول في الثاني؟ وفي هذا الشأن، أشار أ. مطلق البقمي إلى أن توقعات نمو أي اقتصاد تتم وفق معايير محددة تأخذ في الحسبان المكونات الأساسية للاقتصاد؛ وبالتالي فيما يتعلق باقتصاد المملكة، فإن نمو القطاع النفطي وارتفاع أسعار النفط تلعب دورًا مهمًا في توقُّع معدلات النمو. أيضًا فإن القطاع غير النفطي ووزنه المتزايد في الاقتصاد له دور. وللتوضيح فيما يتعلق بمعدلات النمو للاقتصاد السعودي، فقد تمت المقارنة بين المعدلات الفعلية المتحقَّقة بعد نهاية كل عام وفقًا للهيئة العامة للإحصاء والتوقعات التي أعلنها صندوق النقد الدولي قبل انتهاء العام؛ وذلك لبيان مدى دقة توقعات صندوق النقد الدولي، وتحديد الانحراف الموجب أو السالب لهذه التوقعات.
ولفتت د. وفاء الرشيد النظر إلى أن هناك فرقًا كبيرًا بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية؛ فالتنمية تعني التغيرات الهيكلية في الاقتصاد بصورة شاملة. أما النمو الاقتصادي فهو الزيادة المجردة في الناتج المحلي الإجمالي GDP Growth بغض النظر عن أين تصبُّ الزيادة، هل هي في جيوب الأثرياء دون الفقراء؟ وفي أي منطقة وفي أي قطاع؟ كلما كبُرت تلك النسبة كان الأمر أفضل من حيث حجم الدخل، ليس إلا. الأمر الآخر هو أن النمو غير النوعي يمكن أن يحدث عنه سوء في توزيع الموارد وانخفاض في مستوى المعيشة لشريحة كبيرة من أفراد المجتمع، وتدهور لقطاعات واعدة في الاقتصاد ولمناطق ذات ميزة نسبية أفضل من غيرها.. وهنا يأتي الاقتصاد النوعي ودوره في تعزيز الاقتصاد الحقيقي، فالنمو لا يعني شيئًا إنْ لم يكن مُوجَّهًا.
وفي رأي د. صدقة فاضل، فإن السعي لتنمية الاقتصاد، بشكل سليم، هو هدف ووسيلة في الوقت ذاته لأي حكومة مسؤولة ورشيدة وصالحة. والهدف الأسمى لهذه العملية هو إفادة أكبر عدد ممكن من المواطنين كمًّا وكيفًا، وتحسين مستوى معيشتهم. لذلك، فإن النمو السليم يجب أن يكون هو الهدف. أما النمو الاقتصادي السلبي فإنه لا ينعكس بالإيجاب على غالبية الشعب، وهذا ما يجب تجنُّبه. وهناك عدة وسائل لتحقيق الهدف الإيجابي الأسمى للنمو الاقتصاد ى، منها: السياسات المالية المنضبطة، والضرائب المعقولة.
واهتمت د. الجازي الشبيكي بكيفية تبسيط وتوضيح الوضع الاقتصادي للمملكة بشكل مستمر للمواطن العادي غير المتخصص اقتصاديًّا، وتبصيره وطمأنته. وبدوره أشار أ. مطلق البقمي إلى أن كافة وزارات المملكة شهدت في الفترة الأخيرة موجةً من الاهتمام بالجانب الإعلامي والتواصل مع المواطنين من خلال وسائل إعلامية متنوعة، مباشرة أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، لشرح مؤشرات الأداء وتبسيطها للمواطن، وهذا ما تبنَّته إدارة برامج رؤية المملكة منذ إطلاقها، فالاعتماد على الإنفوجراف يعتبر من الوسائل المهمة التي تستطيع إيصال المعلومة للمواطن العادي بشكل سلس ومبسط، أيضًا الدور الكبير الذي تقوم به الهيئة العامة للإحصاء وتعدُّد تقاريرها في الأعوام الأخيرة من شأنه أن يُنمِّي الوعي لدى المواطن حول مؤشرات أداء الاقتصاد السعودي. ولا يزال بالإمكان -وخاصة من المؤسسات الإعلامية -تقديم دور أكبر في هذا المجال.
وألمح أ. محمد الدندني إلى أنه وردت مسألة فاعلية القطاع العام وبالذات الوزارات الخدمية، كمثال البلديات وأي جهة تُصدر الرخص للمشاريع صناعية أو زراعية؛ فهي بطيئة نوعًا ما؛ الأمر الذي يُشكِّل عقبةً في طريق النمو الاقتصادي، فضلاً عن التكلفة في رواتب الموظفين قياسًا بالإنتاجية والهدر، ولم تُعطَ هذه النقطة حقها بعد، فهي مهمة جدًّا وحساسة لما لها من تأثير مباشر على عدد كبير من المواطنين والمواطنات. كيف نجعل من القطاع العام مراكز ربحية profit centers بدلاً من مراكز تكلفة، وبواقعية أكثر؟ لو توصَّلنا إلى جَعْلها تتحمل تكلفتها لكفى. ومن ناحيته ذكر د. سليمان الطفيل أن من أكبر المشكلات التي تواجه التنمية اليومَ وقطاع الأعمال بصفة خاصة البيروقراطية -القاتل الخفي للأعمال بسبب ضعف كفاءة العاملين وعدم التزامهم، وضعف معدلات الأداء والإنتاجية عمومًا، والإهمال الواضح لكثير من المعاملات، وعدم وجود التنسيق بين الجهات الحكومية وبالأخص البلديات والزراعة والصناعة والقضاء… إلخ. وقد قطعت الحكومة الإلكترونية شوطًا كبيرًا في هذا الأمر؛ لكننا نتطلع إلى أن تنتهيَ هذه المشكلة قبل انتهاء فترة التحول 2020م.
وحول التساؤل عن مدى مزاحمة صندوق الاستثمارات العامة للقطاع الخاص، بيَّن أ. مطلق البقمي أن هذا السؤال يطرحه كثير من المعنيين بالقطاع الخاص، وهو حقيقة ينقسم إلى فرعين:
- الأول: هو دخوله كمستثمر في بعض المجالات وتخوُّف القطاع الخاص من عدم القدرة على منافسته.. قطاع السينما مثال حيٌّ، لكنَّ الواضح أنه قد يكون مشجعًا لهم للدخول في هذا المجال، خاصة أن القطاع الخاص في السنوات الأخيرة ليس كما كان في السابق وتحديدًا من حيث الجرأة؛ فقد انكفأ على نفسه في ظل إعادة هيكلة الاقتصاد السعودي.
- الثاني: صندوق الاستثمارات العامة سعى – وتحديدًا خلال العامين الماضيين -إلى استقطاب كثير من الكوادر في القطاع الخاص بمزايا مالية ضخمة لا تستطيع شركات القطاع الخاص مجاراته. هذا الاستقطاب لا شك أثَّر على الشركات وأفقدَها كثيرًا من مسؤوليها، وهو يعتبر منافسًا لهم أو مزاحمًا في استقطاب الكفاءات.
لكنه بشكل عام، وكما أوضح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله – يعتبر صندوق الاستثمارات العامة أداةً مهمةً جدًّا من أدوات الدولة لتنويع الاقتصاد، حيث يراعي الصندوق بشكل كبير عدمَ مزاحمة القطاع الخاص في استثماراته المحلية؛ فهو يستهدف الاستثمارات في الداخل في المجالات التي لا يستطيع القطاع الخاص وحده الاستثمار فيها، فالمشاريع الكبرى التي أطلقها الصندوق مثَّلت حافزًا ومشجعًا للقطاع الخاص لضخ الاستثمارات، فمشروع نيوم والبحر الأحمر والقدية وغيرها من المشاريع الكبرى مثَّلت للقطاع الخاص فرصًا قويةً، ما كان لتلك الفرص أن توجد بدون إطلاقها من قِبل الصندوق.
ومن ناحية أخرى، تساءل د. سليمان الطفيل: لماذا أصدرت وزارة المالية مؤخرًا سندات حكومية وطرحتها على المستثمرين المحليين والمواطنين؟ هل المملكة بحاجة للسيولة…؟! فمن وجهة نظره، هناك أدوات للسياسات المالية، أهمها: عمليات الإقراض المالي، وإصدار الصكوك والسندات، وغيرها.. الهدف منها تعميق الاقتصاد وتحفيز المستثمرين، ورفع مستوى الشفافية والإفصاح عن الأنظمة المالية من الدول طالبة القرض، وإشعار الطرف المقرِض بالملاءة المالية والقدرة على السداد.. والمشاركة في تعظيم العائدات على الحصص أو الأسهم التي تملكها هذه الدول في الصندوق… إلخ.
وفي تصوُّر م. إبراهيم ناظر، فإنه ورغم التفاؤل الكبير والإيمان ببرامج الرؤية ٢٠٣٠ومستهدفاتها في التحول من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي تنافسي يؤدي إلى توسيع القاعدة الإنتاجية وتنويعها، والتحول من ميزانية تعتمد على الإيرادات النفطية إلى ميزانية مستدامة تُشكِّل الإيرادات غير النفطية نسبةً متوازنة فيها، والتحول إلى GDP تُشكِّل الإيرادات والصادرات غير النفطية غالبيته؛ فإن القطاع الخاص المعوَّل عليه أن يقود هذا التحول (اقتصاد السوق والتنافسية والمعرفة)، ومما نراه من واقع الحال فهو غير مؤهل حاليًّا ليقود هذا التحول الكبير، طبعا لعدة أسباب ليس المجال لذكرها. وبعبارة بسيطة، من المهم مقارنة تقرير صندوق النقد الدولي بما هو حاصل في الواقع، والإشارة للمؤشرات الاقتصادية والإحصائية إنْ أمكن، مع العلم الأكيد أن الهيكلة لا بد أن يكون لها ضحايا بصفة مؤقتة.
وبشكل محدَّد، تساءل د. صدقة فاضل: هل سينمو الاقتصاد الوطني في الفترة 2013-2030م بشكل سليم أم لا؟ وما هي معدلات نموه أو عدم نموه الحقيقية؟ ومن جانبه لفت د. سليمان الطفيل النظرَ إلى أنه ذكَر في تعقيبه -كما ورد في الورقة الرئيسة -أن توقعات الصندوق لنمو الاقتصاد السعودي في 2019م جاءت بنسبة 1.9٪؛ في حين توقَّعت مصلحة الإحصاءات العامة نسبة 2.2٪، وتوقعت وزارة المالية ومؤسسة النقد أن تكون النسبة 3.2٪. وهناك توقعات بأن النمو الاقتصادي للمملكة سيواصل الارتفاع وسيحقِّق 5.2٪ في 2020م، في حين ستُحقِّق دول اقتصادية متقدِّمة معدلاتِ نمو أقل من ذلك، مثل ألمانيا بنسبة 1.9٪ في 2020م. أيضًا فقد أكد د. سليمان الطفيل على مسألة دور القطاع الخاص، وأنه مازال غيرَ مؤهل لقيادة الاقتصاد، إلا أنه يجب ألا يغيب عنَّا أن أهداف الرؤية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل؛ ولهذا فمن الظلم الحكم على دور القطاع الخاص، ونحن لم نقطع سوى 20٪ من الفترة المقرر للرؤية، ولا تزال أمامنا فترة طويلة لاختبار الرؤية ومدى نجاحها في جعل القطاع الخاص شريكًا وقائدًا للاقتصاد بدلاً من القطاع العام؛ بمعنى قلب المعادلة: 20٪ -80٪ إلى 80٪-20٪.
ʘ التوصيات:
1- استشراف مسيري الشأن الاقتصادي (الوزارات والهيئات المسؤولة) أهمية وضع الاقتصاد بحسب مجالات عملها، ومساعدته وإزالة العراقيل التي تؤثر في مسيرته بسبب اجتهادات تلك الوزارات والهيئات.
2- الحرص التام على مواصلة واستدامة تنمية الاقتصاد الوطني بكل قطاعاته نموًّا إيجابيًّا سليمًا، ووفق الأسس والإجراءات العلمية المعروفة، وأن يتلازم مع ذلك – بالضرورة – تنمية شاملة في كل المجالات.
3- الأخذ بمعايير قياس النمو وقياس الأداء المعتمدة عالميًّا، ومقارنة ذلك بما هو حاصل في واقع النمو لاقتصادنا الوطني، ومتابعة ذلك بشكل دوري وإجراء التصحيح اللازم بما يتفق مع تلك المعايير كلما أمكن.
4- دراسة إمكانية تجزئة خطط التنمية إلى خُطط خمسية، أو عشرية مستقبلية.
5- تطوير اقتصادنا النفطي كرافد دخل رئيس، بالاستفادة من تجارب الدول النفطية المتقدمة.
6- المراجعة الدورية (السنوية) لعضوية المملكة في المنظمات الدولية المختلفة، وتفعيل هذه العضوية بما يخدم المصلحة العامة الوطنية.
7- الاستمرار في دعم وتشجيع القطاع الخاص للقيام بدوره المستهدَف في التحوُّل إلى اقتصاد السوق، وتحسين بيئة الاستثمار سواء الوطني (الاستثمار الداخلي) والأجنبي المباشر، من حيث مكوناته ودوافعه وقنواته ومقاصده.
8- الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في مجال الاستفادة من رأس المال الأجنبي المباشر والتخصيص.
9- رغم أن هنالك تحسُّنًا ملموسًا وكبيرًا في إتاحة البيانات الاقتصادية، لكن لا بد من بذل جهد أكبر؛ لتشترك المملكة في “المعيار الخاص لنشر البيانات” الذي وضعه صندوق النقد الدولي.
10- على الحكومة مواصلة معالجة مواطن الضعف في إحصاءات سوق العمل وميزان المدفوعات والحسابات القومية.
11- أهمية تحقيق التوازن المناسب بين استدامة المالية العامة، والإنفاق الاجتماعي، والتنمية في حالة تراجع أسعار النفط عن مستواها المفترض في الميزانية.
12- الأرقام والإحصائيات المنشورة يجب أن تُحاكي الواقعَ وتعكسه، لا أن تُجمِّله أمام صانع القرار، وأن يكون لكل إحصائية منشورة تفسيرٌ يوضِّحها بشكل لا يجعل للاجتهاد دورًا في ذلك. كما يجب مراعاة دقة المعلومات والتوقعات في نمو الاقتصاد السعودي، وأن تنطلق من حقائق اقتصادية دقيقة وليست معلومات متضاربة، وبخاصة ونحن نعيش مرحلة ثورة المعلومات والحكومة الإلكترونية.
13- تبرز الحاجة للضبط المالي الحكومي.
14- وضع سياسات تُحفِّز التنمية في القطاع الخاص للاعتماد عليه في توليد الوظائف في المستقبل، وتنويع الاقتصاد وإنتاجيته وتنافسيته.
15- يجب العمل الدؤوب لتحسين تنافسية المواطنين للحصول على الوظائف، ورفع مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر، وإقرار سياسات وحِزم تحفيزية للمنشآت الصغيرة والناشئة.
بغض النظر عن توصيات صندوق النقد الدولي، يجب على المملكة استمرارها في النظر في الوتيرة الملائمة لتنفيذ التصحيح المالي، مع العمل على مراجعة وتحديث الأهداف المحدَّدة على فترات منتظمة، ومراعاة التغييرات في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
القضية الثالثة
موت الثقافة.. أم موت المثقف؟!
(23/6/2019م)
- الورقة الرئيسة: د. فهد العرابي الحارثي
- التعقيبات:
ʘ التعقيب الأول: د. زياد الدريس
ʘ التعقيب الثاني: د. عبدالله ناصر الحمود
- إدارة الحوار: أ. عبدالله الضويحي
ʘ الملخص التنفيذي
أشار د. فهد الحارثي في الورقة الرئيسة إلى أنه وتحت تأثير التطورات التي تشهدها صناعة الإعلام وقنوات التواصل، نلاحظ أن الثقافة تتغير، وأنَّ “قيمَها” تتعرض لانتهاكات كبرى؛ وأول مظاهر هذا الذي يجري، الانتقال من ثقافة ذات معايير محددة وتراتبية إلى ثقافة تسقط فيها الأفكار والصور والرموز في دوامة حقيقية، والفرد ينقِّب عبر مختلف العناصر ليكوِّن فسيفساءَه أو ملصقاته الخاصة. والقيم الثقافية المتعارف عليها تكون محل خلاف، بل إنها أصبحت مجهولةً أحيانًا لدى الكثيرين. فالبنية الاجتماعية بكاملها تتغير، كما يؤكد الباحثون المعنيون. والواقع اليوم هو واقع مُتوهَّم، افتراضي، وهو ينتقل في أكثر مقوماته من الملموس إلى اللاملموس، ومن الصناعي إلى ما فوق الصناعي؛ أي المعلوماتية وتقنيات الاتصال. ليس هذا فحسب، بل إن الثورة التقنية، في الميديا والفن مثلًا، عملت على ترسيخ فكرة “الافتراضي” في الأشياء والأشكال والمعاني.
وفي هذا الإطار، فقد تحقَّق النمو الأفقي للثقافة، فهي لم تعُد حكرًا على “النُّخبة” إنتاجًا أو استهلاكًا. وهي لم تعد، كما السابق، تأتي فقط من “الأعلى” إلى ”الأسفل”؛ بل إنها تتوالد وتتكاثر من الجوانب والأطراف، اتسعت كثيرًا قاعدة الجمهور المساهم في نموها. أما السرعة في هذا كله فقد قفزت فوق كل الحواجز، وفوق كل الممنوعات الثقافية، وقد عُرفت تلك الحواجز والممنوعات، فيما سبق، بالصرامة والتدقيق والحدة، وبالمتطلبات الشروطية المتعلقة بما يُسمَّى بالمهنية أو الحرفية، ما كان له أبلغ الصلة بالضوابط والمحددات التي تميِّز المحترفين عن الهواة والدخلاء. ولا شك أن انتشار أدوات إنتاج “الثقافة” بين الناس، وسهولة تداولها، مهَّدت لما ورد في العنوان “موت المثقف” أو ”موت النخبة”، وهذا الموت هو الموت المعنوي حسب المفاهيم التقليدية، فاجتاحتها جحافل “المثقفين الجُدد” أو ” الدخلاء ” الذين رفضوا التحصينات التقليدية في اللغة والمعاني والأخلاق وحتى “القيم”.
في حين أوضح د. زياد الدريس في التعقيب الأول أنه لا يؤمن بموت الثقافة؛ فالثقافة لا تموت لكنها تتحول في زمانٍ ما ومكانٍ ما إلى كينونة أخرى تحتفظ في حوصلتها ببذرة الثقافة، لتُخرجها إلى الحياة بعد حين. أما المثقف فقد أُمِيت بفعل فاعل، فمن يكون؟! وأشار د. عبد الله ناصر الحمود في التعقيب الثاني إلى أنه وبالفعل (تم خطف) كلٍّ من مصطلحات (المثقف) و(النخبوي) و(الإعلامي) أيضًا. وأصبحنا في مرحلة تاريخية ومجتمعية جديدة بكل اشتراطاتها.
وتباينت الآراء المتضمنة في المداخلات ولا سيما حول إشكالية موت الثقافة.. أم موت المثقف؟! وكذلك علاقة وسائل التواصل الاجتماعي بالثقافة والممارسات ذات الصلة في إطارها في الوقت الراهن.وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
- من هو المثقف؟ وما هي الثقافة؟
- إشكالية موت الثقافة.. أم موت المثقف!؟
- موت النموذج الحضاري.
- وماذا عن النخب الثقافية!؟
- سبب “الأزمة/ المأساة” العربية: هل هو سبب ثقافي- سياسي؟
- وسائل التواصل الاجتماعي: وسيلة!؟ أم رسالة!؟
- اللغة العربية وتويتر.
- وزارة الثقافة ومسؤولية نشر الوعي الثقافي.
ومن أبرز التوصيات التي انتهي إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول قضية موت الثقافة.. أم موت المثقف؟! ما يلي:
1- أن تمارِس وزارة الثقافة دورَها في تطوير المنظومة الثقافية، وتمكين المثقف وإزالة العقبات من أمامه ليمارس إبداعه بما يخدم المجتمع ويدعم وحدة الوطن.
2- أن تتبنى وزارة الثقافة إعادة جائزة الدولة التقديرية للأدب، وأن تُفكِّر في جوائز أخرى للشباب للإعلاء من شأن الصناعة الثقيلة للثقافة لتكون مطمحًا للشباب وهدفًا لهم.
3- تنظيم ورشة عمل ولقاءات وعقد شراكات تتبناها وزارة الثقافة أو جهة اعتبارية بين المثقفين ومشاهير “وسائل التواصل الاجتماعي”؛ للوصول إلى صيغ تقارب وتكامل بين الطرفين باعتبار وحدة الهدف.
¤ الورقة الرئيسة: د. فهد العرابي الحارثي:
تحت تأثير التطورات التي تشهدها صناعة الإعلام وقنوات التواصل نلاحظ أن الثقافة تتغير، وأن “قيمها” تتعرض لانتهاكات كبرى؛ وأول مظاهر هذا الذي يجري، الانتقال من ثقافة ذات معايير محددة وتراتبية إلى ثقافة تسقط فيها الأفكار والصور والرموز في دوامة حقيقية، والفرد يُنقِّب عبر مختلف العناصر ليكوِّن فسيفساءَه أو ملصقاته الخاصة. والقيم الثقافية المتعارف عليها تكون محل خلاف؛ بل إنها أصبحت مجهولةً أحيانًا لدى الكثيرين. فالبنية الاجتماعية بكاملها تتغير، كما يؤكد الباحثون المعنيون. والواقع اليوم هو واقع مُتوهَّم، افتراضي، وهو ينتقل في أكثر مقوماته من الملموس إلى اللاملموس، ومن الصناعي إلى ما فوق الصناعي؛ أي المعلوماتية وتقنيات الاتصال. ليس هذا فحسب، بل إن الثورة التقنية، في الميديا والفن مثلاً، عملت على ترسيخ فكرة “الافتراضي” في الأشياء والأشكال والمعاني، وهي نقلتنا بسرعة هائلة إلى عالم “ما بعد الحداثة”، مُسخِّرةً بذلك كلَّ المتاح من إمكاناتها من الرموز والأرقام والصور والتصورات، فأصبح “الافتراضي” يزاحم “الحقيقي” ويأخذ مكانه. وشرع الافتراضي في استنساخ الواقع، بذريعة المحافظة على الأصل، أو لعدم القدرة على الوصول إلى الحقيقي، فتستطيع أن تزور مُتحف “اللوفر” دون أن تذهب بالضرورة إلى باريس. كما تستطيع أن تفعل أشياء أو تملك أشياء، دون أن تلمسها أو تقترب منها، في عالم يتم فيه إجراء كل شيء “عن بعد”.
من الجهة الأخرى، فإن الجميع اليوم يُحاوِر الجميع، والجميع يُرسِل ويستقبل ويتبادل المعرفة مع الجميع أيضًا. فأضحت هكذا التكنولوجيات الجديدة، ولا سيما الإنترنت، هي “غزو العقول، وتكييف المنطق، وتوجيه الجمال، وصنع الأذواق، وقولبة السلوك، وترسيخ قيم عالمية جديدة. وهي تجعل في متناولنا المعارض السريعة، والفن، والرسم، والموسيقى”؛ وبالتالي فهي الملاذ الوحيد الواسع لـ”ديمقراطية المعرفة” التي أضحت الآن متاحةً للضعفاء مثل الأقوياء، وللفقراء مثل الأغنياء، وللمغلوبين مثل الغالبين، وللمقهورين مثل المستبدين.
إن وجهًا من وجوه أثر الإنترنت ووسائل الاتصال الجديدة هو انحسار ”نخبوية الثقافة” في ظل ديمقراطية المعرفة، بل إن ذلك الوجه للواقع الجديد هو نهاية ”ديكتاتورية المثقفين” ووصايتهم، ومنح أنفسهم الحق دون غيرهم في التصرُّف والإملاء والادعاء.
إن مشروع إلغاء الحدود جغرافيًّا، وتوهين السيادات القومية سياسيًا، انسحب كذلك على البنيات التقليدية الراسخة لفروع المعرفة، فتداخلت المناهج، وتنوعت فرص الاستعارة والدمج والخلط والتوليد، وأصبحنا نقف على أبواب مفهومات ومنهجيات جديدة، ليس لها إلا أن تكون مصدرًا للثراء المعرفي والغنى الثقافي، في الوقت الذي تُجسِّد هي نفسها مخاطرَ ماحقة على الثقافة في صيغها التقليدية، وعلى المثقف في إهابه القديم قبل الفضاء المفتوح والمنصات المشاعة.
لقد تحقق النمو الأفقي للثقافة، فهي لم تعُد حكرًا على “النُّخبة” إنتاجًا أو استهلاكًا. وهي لم تعُد، كما السابق، تأتي فقط من “الأعلى” إلى ”الأسفل”؛ بل إنها تتوالد وتتكاثر من الجوانب والأطراف، اتسعت كثيرًا قاعدة الجمهور المسهِم في نموها.
أما السرعة في هذا كله فقد قفزت فوق كل الحواجز، وفوق كل الممنوعات الثقافية، وقد عُرفت تلك الحواجز والممنوعات، فيما سبق، بالصرامة والتدقيق والحدة، وبالمتطلبات الشروطية المتعلقة بما يُسمَّى بالمهنية أو الحرفية، ما كان له أبلغ الصلة بالضوابط والمحددات التي تميز المحترفين عن الهواة والدخلاء. ولا شك أن انتشار أدوات إنتاج “الثقافة” بين الناس وسهولة تداولها مهَّدت لما أسميناه في العنوان “موت المثقف” أو ”موت النُّخبة” كما أسميناه في مناسبات أخرى، وهذا الموت هو الموت المعنوي حسب المفاهيم التقليدية، فاجتاحتها جحافل “المثقفين الجُدد” أو ” الدخلاء ” الذين رفضوا التحصينات التقليدية في اللغة والمعاني والأخلاق وحتى “القيم”.
أما في مجال الإعلام فقد كانت فكرة التضحيات ببعض التقاليد أو القيم الإعلامية تتصاعد باستمرار في مقابل أن تتجدد المعلومات في كل لحظة أو كل ثانية. لم يكن في حسبان أصحاب الإعلام الجديد التفريط فيما حبَتهم التقنيات الجديدة من مميزات هي من صميم مهماتهم، ومنها إشراك الناس ”السريع” في تفاصيل تطوُّر الحدث ونموه (الحدث ينمو) أو إشراكهم في تبدُّد الحدث ونهايته (الحدث يموت). ولقد بدأت المساحات المخصَّصة للقارئ تزداد بصورة كبيرة (التفاعلية)، منذ ظهور الصحف الإلكترونية والمواقع الإلكترونية للصحف المطبوعة؛ بل إنها تطغى على مساحات المحررين، وتُحوِّل القارئ إلى شريك ومتلقٍ إيجابي.
وكما غيَّرت التقنية العادات التي درَج عليها أهل الصحافة (وغير أهلها)، فقد غيَّرت عادات القراء في التعامل أو التفاعل مع المواد الصحفية. وإذ يتلاقى في الصحافة اليوم “الصحافي” و”القارئ” في فضاء صناعة الكتابة، فكلاهما يصنعانها وينقلانها، وهكذا يتم تبادل السلطات بينهما أو أن هذه السلطات تتداخل وتتكامل. حيث يتعامل المتلقي مع الوسيلة وكأنها وسيلته الخاصة، تمنحه سلطات جديدة لم تكن تتيسر له في السابق، وهو يستطيع أن يمارِسها عن طريق اشتراكه في التحرير، فيصبح فاعلاً ومنفعلاً، فهو مُرسِل جديد يُقلِق المرسِل الأساسي.
وقد تطوَّرت الأدوات التي تسمح للأفراد بالتدوين، لدرجة أصبح فيها التدوين ممكنًا وسهلاً لأي شخص يريد ذلك. وهناك الملايين من المدونات الإلكترونية. ويكفي أن نعلم أن عدد مستخدمي “فيس بوك” يتجاوزن 2 مليار مستخدم حول العالم شهريًّا، بانتشار شاسع في أكثر من 120 دولة في العالم. وتشير الإحصاءات إلى أن حصة الإنترنت اليوم من سكان الأرض نحو 4 مليارات نسمة، بما يوازي أكثر من 50% من مجموع سكان الكوكب.
هذا التحوُّل الذي اجتاح العالم بلا هوادة، من أمثلته أن أهم تطبيقات المراسلة – واتساب، وفيس بوك، وماسنجر، ووي شات، وQQ وسكاي بي – تجمع ما يقرب من 5 مليارات مستخدم نشط شهريًّا، وفقًا للإحصائيات الرقمية العالمية التي قامت بها Hootsuiteg We Are Social في الربع الثالث من عام 2018.
وعلى إثر ذلك كله، فقد تهاوت تقاليد وقيم كثيرة في صناعة الإعلام والثقافة معًا، وفي التعامل مع مصادرهما، وفي مواصفات القائمين عليهما إنتاجًا وتصديرًا. فهما أضحا بلا حيطان، فيسهل اختراقهما من الأطراف، وهما لم يعودا بتلك الوعورة إذ يسهم في خلقهما وإنتاجهما الجميع. (أفقية الثقافة). القارئ يصبح هو نفسه الصحفي؛ يكتب ويحرر، ويتدخل ويضيف ويحذف، والمؤلف يصبح هو نفسه الناشر، بل إنه يجعل من عمله نصًّا مفتوحًا، لا يكتبه هو وحده، بل يشترك معه في هذا الإنجاز آخرون. وفي كل مكان هناك اليوم مشروعات كثيرة من هذا النوع.
عرفنا وشاهدنا اليوم “الثقافة الرخوة” التي تنتسب إليها جماهير كبيرة من الناس في كل مكان بلا شروط وبلا مواصفات محددة غير القدرة على الكتابة الممتلئة بالعاهات الفكرية والأخلاقية واللغوية. كما عرفنا وشاهدنا في الوقت نفسه أجيالاً من الإعلاميين الذين يحلو للبعض أن يصفوهم بـ “الدخلاء”، وهؤلاء الدخلاء قلبوا عليهم الطاولة، وتجاوزوا الإعلاميين “المنضبطين” أو المتمثلين لقواعد وضوابط المهنة، لقد تجاوزوهم في أعداد المتابعين، فأصبحوا بالملايين، وهم سَمّوا أنفسهم بـ “المشاهير” أحيانًا، وأحيانًا بـ “المؤثرين”، ويبدو أنهم بالفعل مؤثرون في آفاق إعلامية مفتوحة جديدة، خلقت هي جماهيرها، بمقتضى نوعية منتجاتها البسيطة المباشرة. لكن هذا الوضع الثقافي اليوم فتح الأبواب على مصاريعها (وهو وضع لم يكن لأحد أي خيار فيه) لثقافة إعلامية تواصلية منفلتة، ليس على مستوى قيمة المنتج في الفكرة والمعنى واللغة فحسب، وإنما كذلك على المستوى الأخلاقي أو القيمي، إن صح التعبير، فمن الواضح أن منظومة القيم تتعرض لتهديدات بالغة، فأصبحت استباحة الأعراض والسباب والشتائم والتسفُّل ثقافةً متداولة، ولم تعُد مستنكرةً في الكثير من الأحيان.
وعلى المستوى الثقافي، تحدث المستويات نفسها من التبسيط والتخبط والادعاء، وتوارى بناءً عليه صانعو الثقافة الثقيلة، وبرز في الساحة صانعو الثقافة المليئة بالعاهات الفكرية والأسلوبية، وأصبح “يكتب” الشعر مَن لا يُحسِن “قراءة” خمسة أبيات للمتنبي أو البحتري أو حتى نزار قباني، وأخذ يكتب الرواية مَن لا يستطيعُ إنتاجَ صفحة واحدة بلا سقطات مُحزنة في اللغة والفكر. والتنازلات المقدَّمة على مستوى اللغة تجاوزت موضوع الكتابة باللغة المحكية بدلاً من الفصحى إلى ما هو أدنى من ذلك، فنذكر مثلاً: ظهور فكرة استخدام الحروف اللاتينية في كتابة النصوص العربية؛ وقد نتج عن ذلك اصطلاحات للتعبير عن بعض الحروف العربية، مثل الحاء والخاء والعين والغين والضاد وغيرها من الحروف غير المتيسرة في لغات أخرى، واستُخدمت بعض الأرقام اللاتينية على سبيل المثال، للتعبير عن تلك الحروف.
إن مما تُسبِّبه مثل هذه الثورات أو الهزات العنيفة لقيم الكتابة وتقاليد النشر، ما يُسمَّى بسقوط السلطات اللغوية الذي أشرنا إليه قبل قليل، بل إن ما كان يُسمَّى تراجعًا أو انهيارًا للغة أخذ يبدو مقبولاً ومرحبًا به اليوم. والواقع الذي لا مراء فيه هو أن تحول اللغة (المحكية) إلى لغة مكتوبة هو انحدار إعلامي وثقافي يتحقق بصمت.
وكما يُقال فلكل ثورة ضحاياها، ولكل معركة شهداؤها، وهذا هو ما جرى ويجري بالنسبة إلى “مزاج” الثقافة الصارم، الثقافة القادمة “من فوق”.. وبما أن الواقع المحتشد بتحديات التقنية يقول إن الثقافة هي اليوم صناعة الجميع، والجميع هم الذين يختارون ما يرون من وسائلها.. ومنها طبعًا اللغة! فلا مفرَّ من أن يكون لهذا الواقع تجلياته الخاصة به، وقد ظهر أنَّ من تلك التجليات: سقوط سلطات اللغة. كما ظهر أن من تجليات الإعلام في صيغته الجديدة سقوط سلطة “القيم”، فالسباب والشتائم والإغراق في الأعراض والذمم والشرف أصبح مقبولاً في سياقات التدخلات المنفلتة لكل مَن يريد أن ينتقم أو يحقِّق مكاسب لا تخصُّ سواه، ويفهمها هو بطريقته.
من أبرز شهداء الوضع القائم اليوم “منظومة القيم” التي وجدت نفسها تسبح في بحر هادر من الكلام الذي لا يشبه الكلام. والحديث يطول في كل ما نحن عليه اليوم.
التعقيبات:
¤ التعقيب الأول: د. زياد الدريس:
بل: إماتة المثقف!
يُعَنون د. فهد الحارثي ورقته البديعة هذه، وإن طالت، بـ (موت المثقف أم موت الثقافة). وسأجعل عنوان تعقيبي هذا هو (إماتة المثقف) وليس موته، وسأعود لتفسير ذلك بعد قليل. أما عن موت الثقافة فهذا ما لا أؤمن به أبدًا، إذ إني عند كينونة الثقافة أؤمن بتناسخ الأرواح، فالثقافة لا تموت لكنها تتحول في زمانٍ ما ومكانٍ ما إلى كينونة أخرى تحتفظ في حوصلتها ببذرة الثقافة، لتخرجها إلى الحياة بعد حين.
وأعود إلى المثقف الذي يقول د. فهد إنه مات، وأنا أقول إنه أُمِيت بفعل فاعل، فمَن يكون؟!
حين طغت الرأسمالية وهيمنت، كما لم تفعل من قبلُ، بسبب تحالفها مع الموجة الرقمية الراهنة، بقيت (القيم) هي مصدر القلق الوحيد لمَشَاغِب الرأسمالية وعبثياتها وجشعها اللامحدود، والحل يكمن في تذويب القيم أو على الأقل إزاحتها عن الطريق.
كيف يمكن للرأسمالية أن تُحقِّق ذلك؟
مثلما تتم مكافحة الأمراض المعدية عبر القضاء على (الناقل) الرئيسي للعدوى، كان لا بد من القضاء على (المثقف) الناقل الرئيسي لعدوى (القيم) بين الناس!
أدرك أرباب الرأسمالية أن إماتة المثقف تتم بإحدى طريقتين: إماتته وجوديًّا (عبر تهميشه) أو إماتته أخلاقيًّا (عبر تحويله إلى بيَّاع ثقافة).
ولذا تبدَّى لنا مؤخرًا، ما أشار إليه د. فهد، من بذاءة وسوقية في نقاشات تُسمَّى ثقافية، ومن كُتَّاب كانوا يُعدّون من النخبة في زمنٍ مضى. وعليه، فإني أتفقُ مع د. فهد في انحسار نخبوية الثقافة بسبب ديمقراطية المعرفة، لكنه ليس انحسارًا تامًّا بل جزئيًّا، إذ تم التحوُّل من نخبوية إلى نخبوية أخرى؛ من النخبوية التي تُميِّز بين المثقف الواعي والإنسان البسيط إلى النخبوية التي تُميِّز بين المثقف الصادق (المهمَّش) والمثقف المرتزق (المُرمّز)، أي أن المثقفين قد تحولوا في التمايز من نخبوية معرفية إلى نخبوية أخلاقية.
أما حديث د. فهد عن استخدام الشباب للحروف اللاتينية في الكلام العربي، فهي ظاهرة تُسمَّى (العربيزي) انتشرت في بدايات استخدام الجوال ثم اضمحلّت، أو تكاد تندثر الآن، بعد أن توفَّرت خدمة التعريب في برامج التواصل الاجتماعي، وخصوصًا في تويتر الذي قلتُ عنه في ندوة دولية قبل سنوات، إن اللغة العربية مدينة لتويتر، بتيسير استخدام الشباب لها والكتابة بها.
¤ التعقيب الثاني: د. عبد الله ناصر الحمود:
مدخل:
ليطمئن الجميع. فلم يمت المثقف، ولم تمت الثقافة.
استهلال:
ما يجري اليوم في الساحة الثقافية هو بالنسبة لنا – معشر (الخمسينيين والستينيين) – شيء عجيب. لقد كان أبي، رحمه الله، يدخل علينا في ردهة البيت في شقراء، بداية السبعينيات الميلادية الماضية، ليجدنا وقد (تسمَّرنا) أمام شاشة التلفزيون الأبيض والأسود، بقناته الوحيدة الأولى، التي لم يكن بثُّها يصل إلا عندما يهب الهواء (جنوبًا) عبر (الإريال المتواضع) الذي نصبناه بطول (ستة أمتار) فوق سطح المنزل. نعم (ستة أمتار).. وسأحكي لكم باختصار.. كيف كان يتم ذلك؟ كنَّا نشتري (ماسورة حديد 2 بوصة) نربطها بجوار الأعمدة من الأرض حتى أعلى جدار السطح العلوي (الدور الثالث) فتأتي متساويةً مع أعلى الجدار. نشتري بعدها (ماسورة أخرى 1:45 بوصة) فندخلها في الأولى، إلا (50سم)، نُثبت عليه (إريال لاقط بسيط مكوَّن من عدد من شرائح الألمونيوم مع جهاز تجميع بسيط للإشارة التلفزيونية (مقوّي) يساعد في التقاط البث القادم من محطة التلفزيون بالرياض. يتم سحب ورفع هذه الماسورة الأخيرة حتى قبل نهايتها بقليل، ولها أربعة أربطة في أعلاها تربطها من جهاتها الأربع لتحافظ على توازنها وعلوها. وهكذا يمكن التقاط بث ضعيف للقناة التلفزيونية.
كانت تلك الأيام أيام ازدهار برامج حيوية للأخبار، وللمصارعة الحرة بتعليق المرحوم إبراهيم الراشد. وهي أيضًا فترة مسلسل وضحى وابن عجلان، للفنانة القديرة والمطربة الجميلة سميرة توفيق. وهي كذلك فترة ذهبية لبرامج الأطفال التي كان ينتجها التلفزيون وتُبثُّ بعد العصر من كل يوم. لا أزالُ أحفظُ أغنية (مرة أخويا أخذ كبريت.. وأمي وأبويا خارج البيت.. يا ليتني شفتو يا ليت).
كان التلفزيون هو النافذة الوحيدة، الجديدة، والمتواضعة جدًّا.. التي تأتي بشيء من المعرفة والترفيه. لكن أبي، رحمه الله، لم يكن يروق له ذلك قط، وهو ابن الأربعين حينها.. كان كثيرَ القول (صارت الحسية له) بمعنى: أصبح التلفزيون سيد الكلام في المنزل. حتى إنه كان يخشى على تديننا من هذا الجهاز السيئ، ويقول حين يؤذِّن المؤذِّن: (قوموا صلوا.. ترى مهو بنافعكم وأنابوك)، بمعنى (انهضوا للصلاة، ودعوا مشاهدة التلفزيون، فلن ينفعكم التلفزيون إن تركتم الصلاة). هكذا كان أبي، رحمه الله.. وهكذا كان كثيرون من أبناء جنسه (خائفين جدًّا على ثقافة بيوتهم، وأبنائهم من قناة تلفزيون لا تكاد تصل إشارتها).
واليوم.. أخالُ د. فهد الحارثي، وإن بدا صامدًا في محاولات موضوعية لاستيعاب المرحلة.. يكاد يقع في شرك التباكي على الثقافة التقليدية.. حيث يقول في قضية عنوانها (موت المثقف.. أم موت الثقافة).. (الانتقال من ثقافة ذات معايير محددة وتراتبية، إلى ثقافة تسقط فيها الأفكار والصور والرموز في دوامة حقيقية)، والسبب ليس التلفزيون هذه المرة، ولكن ما هو أدهى وأمرُّ؛ إنها ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي التي ضربت بكل أطنابها لتُغيِّر المشهدَ الثقافي بكل جدارة.
ما الذي جرى؟
لماذا يبدو المشهد الثقافي الراهن كما يذكر د. فهد الحارثي؟ هل من خلل في الثقافة، أم في مُشكِّلاتها ووسائلها؟
أعتقد، ابتداءً، أن الأمر طبيعي جدًّا.. وهو مقبول جدًّا أيضًا في قاموسي شخصيًّا. صحيح أن الثقافة التي تربعت بشروطها على مسرح المجتمع الإنساني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى بداية التسعينيات الماضية (عند بزوغ فجر الإنترنت) هي ثقافة عبرت عدة محطات تطوُّر وتغيُّر.. لكنها حافظت على حد أدنى من كيانها، وهو (النخب الثقافية).. فقد تبجَّحت النخب الثقافية على صفحات الكتب والمطبوعات عقودًا من الزمن.. ثم على صفحات الصحف الورقية عقودًا أخرى.. ثم بلغت ذروتها عبر الفضائيات.. وحافظت على قدر لا بأس به أيام المنتديات والمدونات الإلكترونية.. فيما قبل الألفية الجديدة وفي سنواتها الأولى. لكنها انحسرت (بسرعة فائقة) مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي. وبالفعل (تمَّ خطف) كلٍّ من مصطلحات (المثقف) و(النخبوي) و(الإعلامي) أيضًا، وأصبحنا في مرحلة تاريخية ومجتمعية جديدة بكل اشتراطاتها.
اليوم.. (لم يعُد المثقف التقليدي) مثقفًا أصلاً.. (ولم تعُد النخب التقليدية) نُخبًا أصلاً، بل رعيل أول.. لا يكاد يتلمس خطواته وسط فضاءات الإعلام والاتصال المتعددة والمتنوعة والفائقة القدرة والكفاءة الاتصالية.. بل وسط (المثقفين الجُدد) و(النخب الجُدد).. شاءَ مَن شاء.. وأبَى مَن أبى.. وهم مثقفون ونُخب (يافعون) و(قليلو تجربة إنسانية) وأحيانا (تافهون)، لكنهم في المقابل يتوافرون على خصائص إبداع تواصلي جديدة وفعالة ومختلفة.. ولدى كثيرين منهم (محتويات) جميلة ومفيدة.. لا يعرفها ولا يطيقها التقليديون كلهم سواء منهم المثقفون أم أتباعهم. والحال تمامًا كما يذكر د. فهد الحارثي (لقد تحقق النمو الأفقي للثقافة، فهي لم تعُد حكرًا على “النخبة” إنتاجًا أو استهلاكًا. وهي لم تعُد، كما السابق، تأتي فقط من “الأعلى” إلى ”الأسفل”؛ بل إنها تتوالد وتتكاثر من الجوانب والأطراف، اتسعت كثيرًا قاعدة الجمهور المسهِم في نموها).
هاجس المراوحة:
راح هذا الكاتب الفذ.. د. فهد.. يصول ويجول في فكر الثقافة أو في ثقافة الفكر، يُطوِّعهما كيف يشاء متكئًا على رصيد لفظي ومعرفي مهيب.. وعلى دراية مهنية عميقة بالثقافة وبالإعلام.. وهو في الوقت الذي يغازل فيه (المثقفين الجُدد) ويورد عددًا من الإحصاءات التي تعبِّر عن سطوتهم واكتساحهم لفضاءات الثقافة والإعلام.. لا يهدأ باله حتى يجلدهم بأقذع الصفات.. فهم حينًا (مثقفون رخوون) وحينًا (دُخلاء) و(مخترِقون) وحين ينحو للتجرد، يقول: (تهاوت تقاليد وقيم كثيرة في صناعة الإعلام والثقافة معًا).. ويشتكي من (التبسيط والتخبط والادعاء)، ومن الواضح لديه أن (منظومة القيم تتعرض لتهديدات بالغة، فأصبحت استباحة الأعراض والسباب والشتائم والتسفُّل ثقافة متداولة، ولم تعُد مُستنكَرةً في الكثير من الأحيان)، لتتجلى مراوحته حين يقول: (الثقافة المليئة بالعاهات الفكرية والأسلوبية).
هذه المراوحة العجيبة.. أظهرت أمامي موقفًا خاصًّا مثَّل نصفه الأول والدي رحمه الله قبل أربعين عامًا بكل (مركباته القيمية الصارمة).. ونصفه الآخر رئيس ملتقى أسبار بكل وسائطه وتقنياته.
نعم، ليس لنا نحن جيل الخمسينيات والستينيات إلا تلك المراوحة.. فعسيرٌ علينا التسليم (هكذا) بهذا التحول الدراماتيكي للفكر والثقافة والإعلام.. وأدواتها.. ورموزها.. لكننا سنكون، دون شك، متباينين نسبيًّا في مدى صلافتنا في مواجهة تلك الثقافة الجديدة والمثقفين الجُدد.
حقيقة الأمر:
أعتقد أن حقيقة الأمر تستدعي منَّا عدم التباكي نهائيًّا على ما مضى من مجد الثقافة والمثقفين الذي نؤمن به ونزعمه. فسنة الله ماضية في التغيُّر والتحوُّل. ولو حاول شاعر حداثي مجاراة أصحاب المعلقات لم تُسعفه بضاعته. ولو قرأ امرؤ القيس قصيدة حداثية لقال فينا ما لم يقله د. فهد في نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي.. وحاصل الأمر -في ظني – ما يلي:
s “المثقفون الجُدد” وهؤلاء “النشطاء” أو “المستخدمون” أو “المشاهير” أو “رواد شبكات التواصل” أو “الإعلاميون الجُدد” أصناف في مهنتهم.. تمامًا كما هي محطات الإذاعة أو قنوات التلفزيون حول العالم وعلى مرِّ التاريخ، وكما هي دور الثقافة. وكما هي الصحف والمؤسسات الصحفية حول العالم وعلى مرِّ التاريخ، من حيث تنوُّعها بين الغثِّ والسمين.
s فكما توجد قنوات وإذاعات وصحف تمتهن التفاهة والتضليل الإعلامي، فمن “الإعلاميين المثقفين الجُدد” من هو كذَّاب ومُضلِّل؛ وحيث توجد قنوات وصحف رصينة ومهنية، فمن “الإعلاميين المثقفين الجدد” مَن هم كذلك.
s أين تكمن المشكلة إذًا؟ لماذا يتكاثر الجدل حول هذا الموضوع؟ أعتقدُ أن الإشكال متعدد العوامل، ومُعقَّد للغاية؛ لاشتماله على مركبات يمكن فهمها، وأخرى لا يمكن فهمها بسهولة. والأمر يطول تحريره، ولكن سأجتهدُ في ذكر أربعة عوامل، أعتقدُ أنها تؤدي إلى “الرفض” الذي يحمله البعض تجاه هؤلاء.
– الأول: الانتشار السريع لهذه الظاهرة وتكاثُر روادها أحدثَ ربكةً في قدرة البعض على استيعاب مستوى التحوُّل المطلوب في التعاطي مع فكرة “الاتصال والثقافة” الجديدين، إذ لا يسوغ للبعض قبول عملية اتصالية يجريها يافعون، أو “صبيان” صغار، تتناول قضايا الشأن العام مثلاً، فهم عند البعض دون الأهلية للتواصل.
– الثاني: كثرة تداول مقاطع “تافهة” من سناب شات أو يوتيوب مثلاً عبر الواتس آب.. فالمحتوى التافه والنكت، وأخطاء المحتوى والشكل، هي الأكثر تناقلاً، وهو ما شكَّل شعورًا جمعيًّا لدى البعض بسوء هؤلاء النشطاء، حيث لا يعرف بعض الناس عن هؤلاء إلا ما يتم تداوله من هذه المحتويات.
– الثالث: نقص المعرفة لدى البعض. فمن ينفي عنهم، مثلاً، صفة (إعلاميين) أو (مثقفين) لا يستند إلى حقيقة علمية مفاهيمية؛ وإنما إلى “فكرةٍ” عن الإعلام، في ذهنه، أقرب إلى “رأيه” حول ما ينبغي أن يكون عليه الإعلام أو تكون عليه الثقافة.. من فهمٍ علمي دقيق لمفردة “إعلام” و”ثقافة”، وبالتالي الإعلام عنده ليس الإعلام ولكن ما يراه هو إعلام، والثقافة هي تلك التي يتصوَّرها.
– الرابع: شيء من الغَيرة. وهذه حقيقة تظهر عند البعض الذين فاجأهم هؤلاء النشطاء بحضور جماهيري عريض، وحصد منافع مباشرة وغير مباشرة كثيرة، فلم يرُق لهم ذلك.. وتتكاثر هذه الفئة لدى الجيل ذوي المنافع من الإعلام التقليدي والثقافة التقليدية الذين يخشون فوات منافعهم ومكانتهم.
ʘ المداخلات حول القضية:
- من هو المثقف؟ وما هي الثقافة؟
طرحت د. وفاء طيبة التساؤلات المهمة التالية: مَن هو المثقف؟ وما هي الثقافة؟ وهل المثقف هو المفكر؟ أم أنه الذي يستظهر معلوماتٍ كثيرةً يقرؤها من الصحف اليومية بدون أن يستخلص منها أفكارًا؟ أم هو واسع المعرفة المطلع على تخصصات كثيرة يجمع بينها ويستفيد منها في إنتاج أفكار جديدة؟ أم هو الملتزم بثقافة موطنه الأصلي؟ وأضافت قولها: في الواقع، أبحث عن تعريف يرتبط بفاعلية المثقف، وهل يرتبط سلوك المثقف بالثقافة وتعريفها؟
الثقافة -كما نعرفها في العلوم الإنسانية -هي مقابل كلمة culture، في حين اشتهر استخدامها قديمًا لكثرة الاطلاع والمعرفة. إنْ كان المثقف هو المفكر، فقد تكون الأدوات الجديدة مساعدةً على الاطلاع والتفكر والربط بين المعلومات لإنتاج أفكار جديدة، ومن هذا المنطلق قد تكون لهذه الأدوات الجديدة دورٌ كبير في زيادة عدد المثقفين وتسهيل الحصول على المعلومة، فلم يعُد الموضوع كما كان في الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات يحتاج بالنسبة للسعودي على الأقل إلى جمع الكتب والسفر لشرائها، فالمعلومة متوفرة! فالأدوات الجديدة يسَّرت التفكر لمن أراد. وإنْ كان الموضوع كثرة الاطلاع، فالإنسان العادي وإن هيَّأت له هذه الأدوات سهولةَ الاطلاع إلا أنها أيضًا غيَّرت من سلوكه المعتاد في جَمْع المعلومات وتحديدًا ما يتعلق بالصبر والمثابرة خاصة، لم يعُد لدى الكثير هاتان الخاصيتان بسبب قصر البال وانعدام الصبر. بالتالي، فالخلاصة أنَّ لدينا عددًا أكبر من المطلعين السطحيين ولكن عدد المفكرين أيضًا قد يزيد إذا استخدم هذه الوسائل لصالحه، خاصة لو كان (التفكر) سمة ذاتية. وبالتالي، فإن المسألة مسألة تحكُّم شخصي، وما زال هناك فارقٌ كبير بين المفكِّر (المثقف) والمطلع اطلاعًا سطحيًّا؛ وعليه فالمثقف لم يمت، وتظلُّ النُّخبة نُخبةً بمواصفات حديثة.
أما عن القيم، فالرأي أنها موجودة ولكن في قلوب ورؤوس الأكبر سنًّا وقليل من الشباب! وربما تُعرُّض الأجيال الحديثة للاطلاع والتواصل مع قيم كثيرة خارجية وداخلية وسلوكيات ناجمة عن انحدار في القيم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة -قد أحدث اهتزازًا وخلخلةً في منظومة القيم بكل مجالاتها لدى الأجيال الجديدة، أحيانًا يكون تأثير هذا الاهتزاز إيجابيًّا ولصالح المجتمع، ولكنه قد يكون سلبيًّا أيضًا.
ومن جانبه أشار د. فهد العرابي الحارثي إلى أن تعريف المثقف في موضوعنا هنا سيكون تعريفًا إجرائيًّا وفق السياق الذي قاد إلى طرح هذه القضية للمناقشة من الأصل. فالمثقف المقصود هنا هو مُنتِج المعرفة ذات الأثر على محيطه أو ما هو أبعد من محيطه؛ أي أن المثقف هو المبدِع والمفكِّر صاحب الموقف من الكون والحياة والأشياء. وطبقًا لهذا التعريف الإجرائي، نكون هنا قد تبينا عن أي مثقف نتكلم، وعن أي ثقافة نحكي. ووفقًا لذلك سيضيق الخناق على كل المتطفلين والأدعياء الذين استغلوا الفضاء المفتوح فعملوا بكل جدٍّ واجتهاد على تلويثه لغةً، وفكرًا، وادعاءً، وأخلاقًا.
التقنيات الجديدة لها فضائل تسريع تداول المعرفة، وتسهيل إنتاجها وإعادة إنتاجها. ولها فضائل منح مزيد من حرية التعبير لمن حُرِموا منها يومَ كانت النافذة الوحيدة للتعبير بيد المؤسسات الشحيحة في أريحيتها بطبيعتها. وللتقنيات الجديدة فضيلة تدشين الزمن الأجمل لديمقراطية المعرفة وللقضاء على ديكتاتوريات عريقة منها ديكتاتورية النخبة، وتشمل ديكتاتوريات فرعية في دور النشر، ومؤسسات الإنتاج الفني، ووسائل الإعلام التقليدية، التي كانت تُطبِّق أسوأ أنواع “الاحتكار” في حق مُنتِجي الثقافة والمبدعين. أيضًا فإن للتقنيات الجديدة فضيلة أنها جعلت المثقف المزعوم يقف عاريَ الظهر مباشرة في مواجهة جمهوره، إذْ اختفى “الماكيير” الذي كان يعمل على تجميله، وكان يجتهد في إخفاء عيوبه، فوضعنا أيدينا على الوجه العليل لذلك المثقف العاجز عن كتابة 140 حرفًا في تويتر خالية من أخطاء في الأسلوب، وفِي اللغة. المثقف الذي يربط إن الشرطية بفعل المشيئة هكذا ” إنشاء الله “، وقس على ذلك العديدَ من التشوهات التي كانت تقترفها بعض الهامات التي تهاوت أمام أعيننا مثل أعمدة الثلج.
ولم يكتف بعض المثقفين الذين ماتوا بالموت، بل عملوا على أن يحل فيهم المثقف الجديد الذي يستمزج لغة الرعاع والتافهين فيصبح يكتب مثلهم، بل إنه يسابقهم على الانحطاط والتسفُّل أكثر وأكثر فيُسخِّر براعته ومهارته في الشتم والسباب لينالَ قصب السبق على جميع السفراء. أجل، فهذه التقنيات، على جميل ما صنعت أحيانًا، هي نفسها فتحت الأبواب لـ ” الهمج ” والسفهاء والجهلة الذين لوَّثوا الفضاء بعاهاتهم التي تحوَّلت إلى سموم ” أماتت ” الثقافة، و”نحرت” المثقف الحقيقي بخنجرها المكين.
وعقَّبت د. عبير برهمين بأن “المثقف بمعنى المبدِع والمفكِّر صاحب الموقف من الكون والحياة والأشياء”، ما زال موجودًا، لكنه أحيانًا يقدِّم نفسَه برغبته أو رُغمًا عنه بشكل مغاير لما اعتدنا عليه عن الصورة النمطية للمثقف في عالمنا العربي؛ لأن منصات التواصل الاجتماعي تُعطي زخمًا ومُغريات أكبر من الواقع لسرعة انتشار الكلمة وبلوغها أرجاء وفضاءات متسعة للغاية دون جهد، بل وتجعل من الشخص محطَّ أنظار العالم سلبًا أو إيجابًا.
وباعتقاد د. عبد الله المطيري، فإن المثقف يصارع أمواجًا عاتيةً تُهدِّد حياته، فمجاديفه قديمة لم تعُد تُساعده على التجديف مما يُهدِّد حياته، كيف سيُنقذ نفسَه من الموت؟ عليه أن يستعين بالمجاديف الحديثة إن استطاع. أما الثقافة فهي مُكوِّن من مكونات الحضارة تتطور وتنتقل من جيل إلى جيل، فهي لا تموت ولكنها تُصاب بأمراض قد تُسبِّب لها عاهات تشوهها، وتُسجَّل في سجلها الذي يمتد بامتداد الحضارة. واقعنا الثقافي يمرُّ بمرحلة تحوُّل متأثرًا بوسائل الاتصال الحديثة، وهذا أمر طبيعي، وغير الطبيعي أن تُصبح ثقافة أجيالنا ثقافة ممسوخة لا هوية لها، وهذه كارثة تستدعي تضافُر جهود الآباء في إنقاذ جيل الأبناء إن استطاعوا، وإلا موتهم خيرٌ من حياتهم.
وعقب أ. عبد الله الضويحي بمجموعة من التساؤلات: كيف تتضافر جهود الآباء؟ وهل هي من السهولة بمكان؟ وهل من وسيلة؟ وإذا كان الأب من هذه النوعية، أو لا يملك أدوات الإقناع والتربية! وبدوره أوضح د. عبد الله المطيري أن الأمر ليس بالهين، ولكنه ممكن إذا وُجدت الإرادة واستُخدمت وسائل الاتصال الحديثة في نقل ثقافتنا المتمثلة في قيمنا وعقيدتنا وعاداتنا وتقاليدنا.
وفي تصوُّر د. مشاري النعيم، فإن هناك خلطًا بين الثقافة culture والمثقف intellect؛ فالثقافة هي حالة موجودة، وتعكس التاريخ والعادات والتقاليد بكل تراكماتها وتحولاتها؛ في حين أن المثقف لا يُعتبر مُشكِّلاً للثقافة، بل هو “المفكِّر” الذي عادةً ما تكون مواقفه واضحةً، ولديه قدرة استشرافية على قراءة المستقبل. كذلك، فإن للثقافة خاصيةً تفسيرية، ودائمًا يوجد لها معنى ظاهر explicit ومعنى أكثر عمقًا باطنًا implicit، وفك شفرة المعنى الباطن تتطلب عمقًا معرفيًّا لكن غالبًا ما تكون مفهومة على مستوى العقل الباطن لأفراد المجتمع.
وأضافت د. وفاء طيبة أنه يصعب القبول بعزل المعرفة عن الثقافة؛ فالمعرفة كمعلومات أو كـ cognition هي من أوائل مراحل التعلُّم التي ترتبط بفكر الإنسان حتى في الوسط الاجتماعي، والمفكِّر يفكر في محتوى من المعلومات والأفكار التي وصلت إليه أيًّا كان مجالها عن طريق العملية المعرفية cognition بمستوياتها المختلفة.
وبدوره أشار د. راشد العبد الكريم إلى أن هناك خلطًا بين (الثقافة) culture بوصفها منتجًا اجتماعيًّا إنسانيًّا طبيعيًّا، والثقافة بوصفها فكرًا thoughts ينتجها النخبة أو المفكرون أو “المثقفون” intellectuals؛ فالثقافة بمفهومها الأول شعبوية ومتغيرة وذات طبقات وأوجه وصيغ متعددة. والثقافة بالمفهوم الثاني (الفكر) – واقعًا- مُنتَجٌ نخبوي، وعلاقته بالثقافة بالمفهوم الأول علاقة جدلية. فالثقافة بمفهومها الأول لا إشكال فيه؛ لأنه ذاتي الظهور، وذاتي التجدُّد والتكيُّف أيضًا، لكن يكون الإشكال عندما يتعرَّض هذا النوع من الثقافة لتزوير أو عملية إحداث طفرات جينية. المشكل هو الثقافة بمفهومها الثاني (الفكر) الناتج العقلي لهذه الفئة الذين يُسمَّوَن – أو يُسمُّون أنفسَهم -(المثقفين). وهذا ما يتوافق مع (التعريف الإجرائي) الذي طرحه د. فهد.
الثقافة مليئة بالقيم، بل مكتنزة بها، المشكلة أن القيم منها ما هو مُعلَن، ومنها ما هو باطن. فليس كلُّ قيمة مسيِّرة ظاهرة للعيان، بل من القيم ما تكون غير مُدرَكة حتى من المثقف نفسه، وبذلك تتولى التحكم (من وراء حجاب). لعل من مشاكل المثقفين الأساسية أن تلك القيم لم تتعرض للفحص والاختبار، بل تُؤخَذ على أنها مُسلمات، أو أنها يجب أن لا تُختبَر. والرأي أن هذا من العلامات السريرية لـ (موت المثقف). ولا فرق بين موت المثقف وموت الثقافة، فالثقافة تموت بموت المثقف، وتحيا بحياته. الخطير أنه يمكن أن تحيا الثقافة (حياة سريرية)، بمعنى أنها يمكن أن تموت موتًا دماغيًّا، لكن تبقى عليها بعض علامات الحياة (البيولوجية). وهذه من المشكلات الكبيرة في ثقافتنا العربية بشكل عام، والسعودية بشكل خاص.
من المهم تحديد (مَن هو المثقف)؟ وهذا سؤال مُشكِل، وسبب إشكاله الخلطُ بين مفهومي الثقافة اللذين مرَّ ذكرهما. هل المثقف هو الكاتب الصحفي، أو الروائي؟ هل هو المتخصص الأكاديمي، أو المتحدِّث “الفهلوي”؟ أو هو مَن أكرمه الله (وابتلانا) بأن جعل له علاقات ما؟ يصعب علينا الإجابة لتحديد المفهوم؛ لأنه يندر عندنا وجود “ورقة عباد الشمس” التي تختبر “المثقف”، لكن على أي حال معايير المثقف لدينا منخفضة جدًّا. فلا يحتاج- كما في كثير من بلدان العالم المتحضر، وكما كان في “ثقافتنا السابقة” لأن تطرح طرحًا عميقًا وأصيلاً -من خلال الكتب والمحاضرات والحوارات والنقد المنهجي -لتكون مثقفًا، بل يكفي أن تأخذ “شكلَ المثقف” وإنْ لم تمتلك أدواته. وهذا هو حياة الثقافة الأسوأ من موتها. فالثقافة مُنتَج وليست عملية فقط. فنحن وإنْ اتفقنا على أن المثقف هو مَن يُنتِج المعرفة، يبقى السؤال الأزلي: ما هي المعرفة ذات القيمة؟ ومَن يملك الحقَّ في إعطاء الجواب؟ فنعود مرة أخرى إلى “القيم”.
وفي سياق متصل، ذكر د. خالد الرديعان أن المفهوم الذي يحمله د. فهد الحارثي عن الثقافة هو الثقافة العالية أو الأفكار التي ينتجها المثقف intellectual النخبوي بغرض التنوير والرقي بالمجتمع، ونقله من حالة التخلُّف والركود إلى ما هو أفضل. هذا المفهوم للثقافة يختزلها في جانب واحد، في حين أن الثقافة أشمل وأعم؛ فالثقافة هي كلُّ ما أنتجه الإنسان (أي إنسان) من أفكار وممارسات وماديات لتُصبح نمطَ حياة. بهذا المفهوم الأنثروبولوجي، فإن الرجل البدائي primitive مثقف، والبدوي مثقف، والجَدة الأميّة مثقفة. إنَّ الثقافة أوسع من أن نحصرها فيما ينتجه المثقف النخبوي أو المثقف العضوي.
- إشكالية موت الثقافة.. أم موت المثقف!
في تصوُّر د. عبير برهمين، فإنه لم يمت المثقف ولم تمت الثقافة، هما فقط بحاجة لقُبلة الحياة قبل فوات الأوان. ربما تغيَّرت بعض المظاهر والمفاهيم، وهو شيء متوقع؛ لأن رتم الحياة من حولنا متغير في وتيرة متسارعة. كانت الثقافة حكرًا على فئة معينة من الناس كان يُطلق عليهم نُخبة المثقفين والمفكرين، ممَّن سمحت لهم ظروفهم الاجتماعية والمادية بالاطلاع على ثقافات مختلفة عبر الاطلاع على أمهات الكتب أو السفر والاختلاط من كثب بأناس من مشارب فكرية وثقافية مختلفة في مدن عدة. هذه الأفضلية منحتهم النخبوية إن جاز التعبير، وهي وإن تكن في أحد أوجهها تميُّزًا مُكتسبًا إلا أنه لا يخلو من جانب إقصائي لمن هم دون ذلك. التطور التقني أتاح الأفضلية للكل دون استثناء، فبهتت وتلاشت النخبوية التي أُسبغت على المثقفين. فبكبسة زر يستطيع مَن يشاء أن يسافر ويزور أماكن مختلفة، ويطلع على أمهات الكتب بلغاتها. فالثقافة والتفكير هي ممارسات عقلية متاحة للجميع. نأتي لمسألة القيم والأخلاقيات، وهي أيضًا لم تمت، إلا أن هناك بعض التجاوزات بحكم أن الفضاء الإلكتروني رحب وواسع، ولا رقيبَ. فأصبح كلٌّ يُدلِي بدلوه دون اعتبار للمفردات المستخدمة أو مدى ملاءمتها أو خدشها للذوق العام. هل الوضع في انحدار من سيئ لأسوأ؟ أعتقد أن الأمر ليس كذلك، لكنَّ الموضوع بحاجة إلى وقت لتقوم الدولة بدورها في سنِّ قوانين مُنظِّمة تحمي المجتمعَ من تفشي التجاوزات دون أن تخفض من سقف الحرية للتعبير عن الرأي، والذي وفَّرته ساحات مواقع التواصل الاجتماعي. وحتى تُسَنّ هذه القوانين والتشريعات المنظِّمة والحامية لحقوق المجتمع، فإن مبدأ الانتخاب الطبيعي في الحياة كفيلٌ بأن يُصحِّح مسارَ عديد مِن هذه التجاوزات، على أن نُشجِّع الطرحَ الهادفَ والمنطقيَّ واللغة السليمة والمفردات السلسة البعيدة عن الإسفاف والإيذاء.
وأشار د. علي الحارثي إلى أن ما تناولته الورقة الرئيسة وما تلاها من تعقيبات عن موت الثقافة والمثقف أو إماتته، سبق عنه حديث مماثل في تسعينيات القرن الماضي قبل ظهور الإنترنت. فكلٌّ من الجيل الخمسيني والستيني كان يرى أنه منقسم إلى نصفين: نصف مع ثقافة وقيم الآباء، والنصف الآخر مع ثقافة وقيم جديدة للأبناء نتيجة ظهور وسائل ومكونات جديدة مقروءة ومسموعة ومشاهدة، والانفتاح على الآخر نتيجة سهولة السفر ومظاهر حياة الترف الجديدة بكل معطياتها. واليوم، نتحدث عن موت النخبة أو النخبوية الثقافية والإعلامية وشروطها ومكوناتها وما أفرزته في نظرهم من استعلاء وتميُّز عن ثبج المجتمع. في كلتا الحالتين نُغلِّف الحوارَ بإصابة القيم والشيم في مقتل، لنُبعد الشبهة عن الشخصانيات والشخصنة والرغبة في استمرار التسيُّد والتميز. إن القيم والشيم ما انطفأ وهجها ونورها كما ذكر د. عبد الله، ولن ينطفئ لأنها ستستفيد من محاورة وحوار الجميع، فأما ما ينفع الناسَ فيمكث في الأرض، وأما الزبد فيذهب مع السيل جُفاء. والمثقف المبدِع الصادق الأمين سيظلُّ حيًّا فاعلاً مرموقًا بمشاركاته عبر وسائل التواصل رغم منافسة الطروحات من كل حدَبٍ وصوب، والثقافة أيضًا ستظلُّ حيةً قويةً راسخة، وستتوسَّع أفقيًّا نتيجة مشاركة الجمع المجتمعي بدلاً من ارتباطها بالنخبة. وعقَّب أ. عبد الله الضويحي بأنه في ضوء ذلك، فإن نعتنا لما يحصل في وسائل التواصل الاجتماعي هو هروب من الحقيقة، أما القيم فباقية وموجودة، وما يحصل هو نوعٌ من حب الظهور والرغبة في الحضور أكثر من كونه طرحَ ثقافة جديدة!
وعقَّب أ. محمد الدندني على مسألة دكتاتورية المثقف، حيث ذهب إلى أن من المهم أن تُنزع وتنتهي هذه الفوقية لتكون الثقافة شعبيةً وبسيطةً، والأهم تضييق الخلافات بين الثقافات والمثقفين الجُدد. أما عن القيم في رأيه فإنها لا تتغير، فهي ثابتة منذ مئات السنين، ولا يعني أنها القيَّمة على الثقافة والمثقفين. المثقف الآن ليس بالضرورة أن يكون متفرغًا لبثِّ رسالته والذود عنها؛ فالكل يستطيع المساهمة، والميزان هو رصانة وقبول الفرد والمجتمع تحت المتغيرات الجديدة.
وركَّز د. حمزة بيت المال على أن المجتمعات البشرية تعيش حالةً من التحولات المتسارعة بفضل تقنيات الاتصال المعاصرة.. فنحن نعيشُ ونشهدُ ولادةَ عصر جديد في تاريخ البشرية، وكل ما ورد من توصيف للواقع المعاصر ما هو إلا تعبير عن مظاهر هذا التحول. وقد كانت تقنية الاتصال بمعناها الواسع هي المحرِّك الأساس لهذه التحولات، فالكتابة والطباعة والاتصال السلكي واللاسلكي، وحديثًا الرقمنة والإنترنت؛ كانت هي عنوان لكل عصر أو حقبة في تاريخ تطوُّر البشرية. إنَّ وصف موت النخب الثقافية أو تمويتها، أو أي شيء آخر متعلق بعصر ما قبل الإنترنت ما هو إلا محاولات يائسة لتبطئة القطار السريع. يتطلب العصر من المثقفين وغيرهم التخفيفَ من مظاهر المقاومة، ومعرفة أدوات المرحلة وقيادة التغيير، بدلاً من أن تُقاد وتُصبح خارج التاريخ.
في حين تساءل د. سليمان الطفيل: هل انسحب على الثقافة والمثقفين ما انسحب على غيرهم من فطاحلة العلوم الاجتماعية والطبية والهندسية بسبب المؤثرات والمتغيرات الجديدة في عصر المعرفة والرقمنة والذكاء الصناعي؟ وهل يمكن القول إننا نعبر الفضاء الخارجي للثقافة بعيدًا عن الجاذبية، وبسرعة لا تحدها حدود ولا تعترضها قيود أو عثرات.. فضاء يسحبنا لثقافة لا حدود لها، ولا يمكن مواكبة سرعة تغيراتها؛ وذلك عكس ما هو حال الثقافة في العقود الماضية؟ وهل يمكن أن نكتشف في لحظة ما بسبب التقنيات الحديثة أننا وصلنا إلى مجرّة جديدة من عولمة الثقافة يمكن أن نُطلق عليها “الثقافة الافتراضية”، وأننا سنتعامل مع ثقافات افتراضية متنوعة في علوم شتى كما هو الحال مع العملات الافتراضية والبنوك الافتراضية، وما تقدِّمه تقنية البلوك تشين من سلسلة المعاملات الافتراضية؟
وأضاف د. سليمان الطفيل: قد يصدق القول فيما ذكره مُعِدُّ الورقة الرئيسة د. فهد من موت الثقافة أو موت المثقف إذا كانت نظرته تعدَّت المدى لتصل إلى ذلك البُعد القادم غير المنظور بالميكروسكوب العادي، بل في البعد الخيالي المفرط في التأمل إلى درجة اليقين؛ لكنها البصيرة إلى ما هو أبعد من المنظور البصري العادي! الثقافة التي اعتدناها في ديوانيات ومجالس ومخيمات ومقاعد عادية لا تكاد توائم مثقفي الجيل الحالي الذي يتعاطى أغلب حياته مع التقنية حتى في أدق تفاصيله اليومية. لعلنا جميعًا نستشعر قوة الحراك الثقافي المحلي والعالمي المتجدد، فقد أصبح الجيل الشاب سبَّاقًا في كثير من ميادين العلم والمعرفة ذكورا وإناثًا، وقد اختصرت فئة منهم الزمن بأفكار وإبداعات واختراعات قلبت حياة العالم رأسًا على عقب، وهم يقودون العالم من خلال البرمجة والحاسوبية والتقنية، وأصبح البعض منهم قنوات ثقافية وتلفزيونية متنقلةً هنا وهناك، يؤثرون في الفكر والسلوك وحتى في التوجهات. وهو ما يفرض على عقلاء الفكر الحاضر مواجهة تلك التطورات التي زحفت بالثقافة الأصيلة إلى بر الأمان. وتكاد تكون هذه المهمة على رأس المهمات التي يجب أن يلتفت إليها النخب الثقافية في هذا العصر.
وذهبت أ. فاطمة الشريف إلى أنه عندما نعود لتعريف الثقافة نكتشف أن المثقف كائنٌ اجتماعي، وليس كائنًا معرفيًّا، وهو بهذا الوصف غير قابل للموت، مثلما أن الثقافة غير قابلة لا للموت ولا للزوال، فوجود الثقافة والمثقف يعتبر وجودًا فيزيائيًّا لا ينتهي ولا تتأثر ديمومته نتيجة لطفرة تقنية أو معلوماتية، المثقف بوصفه كائنًا اجتماعيًّا، والثقافة بكونها نتاجًا اجتماعيًّا، تسهم المعرفة في جزء من وجودهما، وليس في كل وجودهما؛ لذا علينا عدم الخلط بين الثقافي “بوصفه التاريخي والمتشكل عبر رحلة طويلة من الأفعال البشرية في حقل الفن والجمال والنتاج الإنساني، وبين المعرفي “بوصفه تشكُّل دائم ومتغير للعلائق الإنسانية التي ترضخ للتطور المادي”. بهذه الزاوية من الرؤية علينا أن نوقن بأنه لا يمكن محو فعل ثقافي كونه أصبح ضمن المدونة الجمعية لشعب من الشعوب؛ لكن وفق اعتبارات التطور التي أوردها د. فهد يمكن رصد ومتابعة التغير الحادث في الفعل المعرفي.
تتحدث الورقة الرئيسة عن هزة كونية أصابت الثقافة في الصميم، الثقافة الكونية بما تنطوي عليه من تنوُّع وتمايُز، وبما تتشاركه من قيم وركائز، دون تحديد لكيف، أو متى، أو فاعل، يقف وراء هذه الهزة، ولا ما إذا كانت مقصودةً أم أنها نتيجة لديالكتيك ثقافي طبيعي، “تستطيع أن تزور مُتحف “اللوفر” دون أن تذهب بالضرورة إلى باريس. كما تستطيع أن تفعل أشياء أو تملك أشياء، دون أن تلمسها أو تقترب منها، في عالم يتم فيه إجراء كل شيء “عن بعد”. لماذا يصبح هذا مؤشرًا على خطر، بدلاً من أن يكون محل توظيف واستثمار؟ لماذا هذه اللغة الأبوية التحذيرية التي ينتهجها معظم المثقفين، والتي واكبت عبر التاريخ جميع التغيرات المادية التي نقلت القدرة البشرية، بدايةً من تحذير الكهنة من تعليم العامة مهارة القراءة والكتابة، وتسجيلها تحت مُسمَّى” هيروغليف”؛ أي مقدَّسة ولا يجب أن يتعامل معها إلا وفق تقديس واختيار مخصوص وحدود، وهكذا على مرِّ العصور يواجه التطور نفس المخاوف من التأثير على الثقافي، والتحذير الدائم من مغبّة التفريط في الثقافي التاريخي لمصلحة المادي والحديث. كذلك تحوي الورقة الرئيسة ثناءً سريعًا ومُقتضَبًا لمآثر الثورة المعلوماتية الحديثة، غير أنها تراوح بين الوصفي والوعظي، وتأخذ طابعًا تخويفيًّا”: من مشروع إلغاء الحدود جغرافيًّا، وتوهين السيادات القومية سياسيًّا، انسحب هذا على البنيات التقليدية الراسخة لفروع المعرفة”. كل هذا قد يكون صحيحًا، لكن الاعتقاد أن الدور المطلوب الآنَ من النخبة الثقافية هو أخْذ خطوة متقدِّمة من خلال تقديم مقترح توظيفي لكل هذه المستجدات التقنية والمعلوماتية.
والخلاصة أن الثقافة منتج اجتماعي؛ لذا فالمثقف كائن اجتماعي، وليس معرفيًّا؛ بمعنى أن الثقافة ليست نتاجَ معرفة، بل نتيجة حياة اجتماعية؛ لذا لا يمكن تقييم أو وضع ترتيب للثقافات، أو الحديث عن موتها أو موت مُنتِجها. هناك ثقافة لشعب الإسكيمو مثلاً، وثقافة لشعب الهنود الحمر، نتيجة حياتهم الاجتماعية التاريخية في كل أشكال حياتهم، ومن غير المنطقي التفضيل بين هاتين الثقافتين، أو الحديث عن موتهما إلا بفناء المجتمع المنتِج لهما.
وفي تصوُّر د. محمد الملحم، فإنه عندما نقول موت المثقف (أو الثقافة) فلسنا نأتي بجديد، فقد كان يتردد في حوارات الأدباء والمفكرين في برامج الندوات التلفازية شيءٌ من هذا القبيل من وقت لآخر منذ أيام الأبيض والأسود. كما أن المقالات الشاكية من توقُّف نبض الفكر والثقافة أو حتى موت الأدب والفن بموت رواده أو جمود التفكير والفلسفة عند عتبة من عتبات الزمن، هي شكوى مستمرة تُعبِّر عن هاجس الكاتب وولعه بالمستويات المتقدِّمة رأسيًّا في نفس النسق والاتجاه الذي ألفه وأحبه، فلا يُتصوَّر بعد ذلك أن يعبِّر الفن أو الأدب أو تظهر محتويات الثقافة في أوعية أخرى وأنساق غير مألوفة سواء أكانت في تطوير الأوعية الحالية أم في أوعية ثورية جديدة.
والجيل الجديد من المثقفين اليوم هم من فئة تحفل بالثقافة ولكن تختار لها ما يُناسِب نكهتها المعرفية التي نشأت عليها، وأبرزها الصورة والصورة المتحركة، ليمتد هذا النوع من الوعاء الثقافي فيتسع ويحوي بداخله بقيةَ الأوعية. وهذه ليست سوى مقدِّمة اللعبة، حيث ستؤدي معاناة الأجيال القادمة من مشكلة الاستظهار والحفظ، والتي هي في السابق ميزة المثقف الحاوي للمعرفة، إلى ابتكار أنماط تقنية تُمكِّنهم من السيطرة التامة على المعلومات لتغدو “الموسوعية” سمةَ كل شخص تقريبًا من خلال شريحة تُركَّب في الدماغ، وبهذه العتبة المفرطة breakthrough ستتغير اللعبة تمامًا، وسيختفي المثقف النمطي تمامًا، ولكن سيظهر مثقفٌ من نوع جديد؛ وهو ذلك القادر على التحليل والتجميع، وحتى هذه العمليات الإدراكية المعقدة يمكن أن نتصور تطويرها بعد ذلك في مرحلة لاحقة جدًّا لتُصبح سرعة التحليل والوصول إلى الصورة النهائية هي ما يُميِّز المثقف حينئذٍ. والسؤال: هل ستتوقف حرب المثقفين ومحاولة سيطرتهم على الفضاء الثقافي ورسم قيمة خاصة لهم؟ الظنُّ أنَّ شيئًا من هذا لن يحدث؛ لأنها نزعة إنسانية بحتة لا يمكن سلخها منهم ألبتة؛ لذلك ستظهر في صور متباينة ومتناسبة مع كل جيل، وإذا كانت في السابق قد تمثلت في الهيمنة الفكرية وسيادة المثقف على الموقف الفكري بطريقة القداسة والتمكُّن غير المتعرض للتساؤل، فإن هذه النزعة ستتشكل من جديد في الفضاءات المستقبلية لتُمارِس نفسَ السلوك التنافسي، ولن تتمكن الأخلاق من ضبط هذا التنافس إلا بالقدر الذي تحفظها به حضارة المجتمع وقيمه التي يعليها بين أفراده. ولذلك، فإن أخلاق الثقافة مرهونة بسياسة عصرها ومستجيبة لها، شاءت أم أبت. وما تمت الإشارة إليه من شعور البعض الإيجابي بموت المثقف في واقعنا الحالي وعدم ربط ذلك بموت الثقافة، يمثِّل نظرة تشخيصية بحتة وسليمة؛ فالثقافة ليست حكرًا على منطقة أو بلد بعينه، ولا على مجال فكري أو علمي أو شكل أدبي معين؛ بل هي نتاج كل الجغرافيا العربية في تاريخنا المعاصر، وهذه لا نعنيها بقدر ما نتحدث عن واقعنا المحلي، فهي في مجموعها لا تعاني ولا يمكن الحكم عليها بالخطورة، بيد أن ما يمكن أن يرد للأذهان حول الواقع المحلي هو فعلي، والظن أن كاتب الورقة الرئيسة يقصده. ويجدر القول إن التراجع ليس نتاجًا مباشرًا لوسائل التواصل الاجتماعي أو الإنترنت كما أشار البعض؛ وإنما لغياب عوامل العطاء الفكري والثقافي، فالأدب هو ابن المعاناة والكدح، والنظريات والأطروحات هي نتاج البحث الجاد والأسئلة الحائرة، وهكذا تجد أن العوامل الحافزة تراجعت وزاحمتها عوامل كثيرة جدًّا؛ بل إنَّ أهم قضية تعاني منها الثقافة هي موت المتلقي (ولذلك يموت المثقف)، فلمَن يكتب المثقف اليومَ، ولا يوجد متلقون، فالكل مثقف! أما جانب التعليم وعلاقته بتراجع الثقافة فلا يمكن تجاوزه، فبدون شك عندما يكون جمهور المثقف (غير مثقف) بل يكاد يكون أميًّا (معرفيًّا) فمعلوماته سطحية، واهتماماته غير معرفية، وقدراته التحليلية والاستقرائية أقل من متواضعة؛ فإن المثقف يصبح أمام أحد خيارين: إما أن ينزل بمعاييره إلى مستوى هذا الجمهور وكذلك يُقدِّم له وجبات ثقافية أسهل بكثير، أو أن يترك المجالَ كله ويذهب ليموت أكرم له، وربما هذا ما نشاهده حاليًّا؛ فريق ينزل بقلمه، وفريق يصعد بروح ثقافته إلى بارئها. كذلك فإن الإعلام ودوره في دعم الثقافة مهم جدًّا سواء أكان الإعلام التقليدي أم وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن مع الأسف لن تخدم وسائل التواصل الاجتماعي في إطارها الطبيعي (المخيف) إلا مستوى ثقافيًّا معينًا؛ ولذلك قد يتسبب ذلك في تأكيد بعض ألوان الثقافة قسرًا لتفرض نفسها على المشهد، وتصبح جزءًا من مجتمع الثقافة رغمًا عن أنفه. فعلاً، لا نستطيع تجنُّب مثل هذه المنعطفات الخطيرة، وتكاد تكون حتميةً من حتميات التاريخ، ومع ذلك لا بد للمثقفين أن يتكاتفوا لتقليل أضرار هذا الخطر (ولن يستطيعوا إلغاءه) والمحافظة على ما يمكن أن يبقى من الإرث الثقافي وتفصيله في الأطُر الإلكترونية الجديدة، ليتواكب مع الموجات الجديدة من الجمهور.
وأوضح د. محمد الملحم أنه عندما يقول إن (الكل مثقف) في سياق انعدام الجمهور، فذلك من حيث استفاضة توفُّر المعرفة، وهو ما يُفقد المثقف الفرصة لعرض بضاعته التي تُمثِّل المعرفة غالبًا نسبةً مهمة منها؛ ولذا ينبغي له أن يُغيِّر عطاءَ الثقافة ليكون في الأسلوب قبل المحتوى، وهذا هو أصعب ما في الأمر. أما القول بأن الجمهور غير مثقف فيعنى افتقاده لأدوات الثقافة، وإنْ رأى نفسه “مثقفًا” بالتعريف المعرفي البحت! وهذا التناقض الظاهري Paradox نتاجٌ طبيعي في السياقات الفلسفية لوصف ما يمكن أن نُسمِّيه أزمة Crisis، ولفتة أخرى وهي أن أبطال وسائل التواصل الاجتماعي “كأبي جركل” مثلاً لا يتقاطعون مع قضيتنا فليسوا مُصنَّفين كـ “مثقفين”، وإنما المشكلة فيمَن يتصدرون وسائل التواصل الاجتماعي، ويصنعون لهم جماهير ليتحدثوا إليهم حديثَ الثقافة والأدب والعلم والمعرفة، في حين أنهم لا يزيدون على أن ينحدروا بالذائقة ويشوهوا المعرفة ويدمروا الفكر، فهم هواة الثقافة وبسطاؤها السذج، ولكنهم سيلمعون يومًا ما، ويكون لهم شأن كما زاحم أبو جركل شخصيات فنية تضحك المشاهد، مثل إسماعيل ياسين وعادل إمام.
وباعتقاد د. فايزة الحربي، فإن الجمهور هو المحرِّك الحقيقي لإنعاش المثقف والثقافة واستمرارية حياته، لكن مع ازدياد جمهورنا الشبابي الفارغ علميًّا والمتسطح عقليًّا؛ فإن أزمة إنعاش الثقافة والمثقفين ستظلُّ مستمرةً، وللأسف، حتى الجمهور الواعي بدأ ينساق مع ثقافة المجتمع التي صنعها الجمهور السطحي ويتابعها، لكن هذه الثقافة السطحية ستتلاشى مثل كل الفقاعات التي انتشرت سابقًا، شأنها شأن فقاعات تضخُّم الأسهم ثم العقار ثم المساهمات العقارية ثم مكائن الخياطة وغيرها، والآن مشاهير شبكات التواصل الاجتماعي. والحقيقة أن الكثير ممن صنعوا هذه الفقاعات حصدوا مِن خلفها ثرواتٍ طائلة، ولا زلنا ننتظر فقاعات جديدة، لكن تظلُّ الثقافة والمثقفون مجدًا تاريخيًّا، مثل الأرض تمرض ولا تموت، وسيظلُّ المثقف مثقفًا يبني العالم ويطوِّره، وستتلاشى حوله الثقافات العقيمة.
ومن ناحيته طرح د. نبيل المبارك مجموعةً من التساؤلات المهمة على النحو التالي:
1) هل هذا الحديث _ موت المثقف والثقافة _ يشمل مثقفي وثقافات العالم أجمع، أم المقصود فيه منطقتنا فقط؟ ما هو وضع الثقافة والمثقفين في باقي شعوب العالم؟ هل يعانون ويشتكون من نفس الأعراض؟ وهذا مدخل مهم إذا كانت الإجابة بنعم. وهل العوامل واحدة في كافة أنحاء العالم، أم أن ثمة عناصر خاصة في ثقافتنا العربية تختلف في تأثيرها على الثقافة والمثقف سلبًا وإيجابًا؟
2) هل اللغة العربية مُهدَّدة بالضرورة؟ وهل نزول القرآن بهذه اللغة حافظ لها، أم أن أمامنا تحديًا أكبر من غيرنا للمحافظة على الثقافة العربية حاملة الدين؟
3) هل أَخْذ جزء من دور المثقف اليوم، من خلال قوقل وويكيبيديا وغيرهما هو من أسباب موته المفترض؟
4) هل تطور ذكاء الآلة أيضًا أحد عناصر مهددات إمكانية موت المثقف؟ التوقُّع أن إنتاج الثقافة سوف يستمر، ولكن قد لا يكون بنفس النسق الذي عرفة جيلنا والأجيال السابقة. فمثلما مات كُتَّاب الكُتب باليد واستُبدلوا بالآلة، وصلنا إلى مرحلة موت المثقف وبداية إنتاج الآلة للمعرفة وتحليل المعرفة. البعض ينتظر الوقت الذي تتحكم الآلة في البشر وتسيطر عليهم تمامًا. العلماء الآن يدعّون إمكانية زرع المعرفة آليًّا في الدماغ دون الحاجة للتعليم.
5) هل يقلُّ التمايز بين الثقافات واللُّغات بسبب التطور التكنولوجي، وبالتالي تُسطَّر ثقافة عالمية بدلاً من ثقافة بمُسمَّى محلي، ويصبح لدينا مثقفٌ عالمي يخاطب جيلاً عالميًّا ينتمي إلى عالم واحد؟ وهل يمكن التعايش بين الواقع والافتراضي؟ هل حاول أحدٌ منَّا أن يتناقش افتراضيًّا وكذلك واقعيًّا مع الأشخاص أنفسهم؟ وهل وجدنا اختلافًا؟ إنَّ الفرق بين الواقع والافتراض مثل الفرق بين أن يكونَ الإنسان أمام نفسه ويُحدِّث نفسه، وأن يكون على خشبة المسرح أمام ملايين المشاهدين؛ اللغة والأسلوب يختلفان تمامًا. والاعتقاد أنه لا أحدَ ادِّعى أن الواقع الافتراضي بكل ما فيه وبالذات وسائل التواصل بديل ثقافي، ولكنه أدوات تواصل بأسلوبها أثرت في وعلى الثقافة، ولكنَّ الثقافة التقليدية لم تستفد منها، على الأقل حتى الآن، وتوارت خلفها.
6) هل عرَّت وسائل التواصل جزءًا كبيرًا من مدعي الثقافة أو مَن حاولوا الاستفادة منها، كون الثقافة سابقًا رسالة في اتجاه واحد، في حين أن وسائل التواصل تتطلب تواصلاً مباشرًا ومستمرًا وفي اتجاهين، وهو ما نتج عنه أنْ فقد بعض مُدعي الثقافة توازنهم عندما تمَّ مواجهتهم في نقاشات افتراضية.
ولخَّص د. فهد الحارثي إجابته عن التساؤلات المشار إليها في الفقرة السابقة في عبارات موجزة ومُحدَّدة؛ حيث أشار فيما يخصُّ التساؤل الأول إلى أننا معنيون بمنطقتنا. وفيما يخصُّ التساؤل الثاني، فإن اللغة العربية مُهدَّدة بالضرورة. وبالنسبة للتساؤل الثالث، فإن قوقل قاموس معرفة فهو يفكر ولا يُبدع، ومن ثَمَّ فهو غير مثقف. أما بشأن التساؤل الرابع فنحن يعنينا هنا المحتوى، فالوسيلة رافعة للمحتوى. وفيما يتصل بالتساؤل الخامس، فإنه في حالة سيطرة ثقافة عالمية بمُسمَّى محلي تكون المخاطر أكبر، والمتمثلة في ضياع الهوية. وأخيرًا، فيما يتعلق بالتساؤل السادس، فإن وسائل التواصل الاجتماعي بالفعل فضحت جزءًا كبيرًا من مُدعي الثقافة.
- موت النموذج الحضاري:
من وجهة نظر أ. سعيد الدحية الزهراني، فإن المسألة تتعدى موت المثقف أو موت الثقافة، لتشمل موت النموذج الحضاري بأكمله الذي تنضوي ضمن طياته أنساق الثقافة وأدوار المثقف. ويمكن التوضيح بطرح سؤال مفاده: حين تختفي امرأة حامل.. هل من المنطقي أن نطرح هذا السؤال: هل اختفت المرأة أم اختفى الجنين؟ الحال في هذا السؤال تصوِّر شكلَ النظام الكلي الذي تعمل في إطاره جُل النظم الإنسانية التفصيلية، مثل النظام الثقافي الذي هو موضع القراءة الناقدة في الورقة الرئيسة. فحين يختفي النظام فلن يكون منطقيًّا السؤال عن غياب النظم العاملة بداخله، (المثال يصدق أيضًا على النظام الإلكتروني والبرامج والتطبيقات القائمة عليه)، وهذا التغيُّر في النظام الكلي تولَّد من رحم النظام الاتصالي الجديد القائم على المنظومة الرقمية، وهي ما تُسمَّى بمرحلة الثورة الحضارية الرابعة (عالم الإنفوسفير) الذي هو أحد تجليات (الحياة دائمة الاتصال) وفق فلوردي – فيلسوف الاتصالية الرقمية بهارفارد -الذي يُصنِّف السيرورة التاريخية ضمن ثلاث حقب، تبدأ بمرحلة ما قبل التاريخ ثم مرحلة التاريخ التي تحياها البشرية الآن، تليها مرحلة التاريخ المفرِط التي تتجه البشرية إليها بعد أن دشنها النظام الاتصالي الرقمي.
فيما يتعلق بتحليل تبدُّل الأدوار وانزياحات مراكز القوى التي أحدثتها الثورة الاتصالية الرقمية.. وبالاستناد إلى نظرية (رأس المال الرمزي)، يكشف تاريخ الوسائط الاتصالية من منظور اجتماعي أنه كلما وُلد وسيط اتصالي جديد؛ فإنه يحدث عملية إزاحة وإحلال في معادلة مراكز القوى؛ إذ تلجأ القوى التي تأثرت بالإزاحة إلى ممانعة الوسائط التي حظيت بالإحلال، مثلما حصل لدى قوى الثقافة الشفاهية والخطابية حين حلت قوى الثقافة الكتابية والتدوينية مكانها بعد نهضة الطباعة والكتابة والتأليف على المستويين الديني والسياسي.
ولهذا يمكن تفهُّم رفض البعض والدفاع عن رأس مالهم الثقافي الذي شعر بالتهديد والمزاحمة والإزاحة نتيجة لصعود أجيال الثقافة الاتصالية الجديدة. في إشارة تُعبِّر عن أنه كلما وُلِدت أداة اتصالية جديدة، أزاحت ثقافة تظلُّ تمانع، وأحلت مكانها ثقافة أخرى تظلُّ تتنامى إلى أن يتولد وسيط اتصالي جديد يزيحها هي الأخرى، ويحل مكانها ثقافة أحدث، وهكذا.
الملمح الملح المتشكل عبر هذا النقاش الخلَّاق يحتم علينا استحضار مسارين ارتكازين مهمين، هما:
w أن النظام الحضاري الجديد مغاير للنظام الحضاري الحالي الآيل إلى التلاشي.. وهذا ما يدعو إلى التفكير فيه والتنظير له عبر آليته، وليس وفق مسلمات الحضارة الحالية.
w أن الفلسفة الاتصالية الرقمية هي الأساس، لكنها تكاد تكون غائبة تمامًا ولم يتم تشييد بنايتها الرئيسة بعدُ، وتحديدًا في البيئة العلمية العربية؛ الأمر الذي يحتم الاتجاه نحو إنتاج مقاربات أو محاولات فلسفية تستهدف فهم هذه العوالم الجديدة.
- وماذا عن النخب الثقافية؟
تساءل أ. عبد الله الضويحي عن النُّخب الثقافية: أين مكانهم الآنَ مما يحدث، وأين سيكونون؟ وفي هذا السياق، أشار د. زياد الدريس إلى أنه في كل عصر وحقبة لا بد من إعادة تعريف (النخبة). ففي عصور الازدهار العلمي والمعرفي تكون النخبة هي العلماء والمفكرون، كما هو حاصل في عصور النهضة الإسلامية والأوروبية. وفي العصر الذي هيمنت فيه الرأسمالية التقليدية بنفوذها الطاغي كما لمسناه في العقود القليلة الماضية، تكون النخبة هم رجال الأعمال ورؤساء الشركات الكبرى. والآن، ونحن في عصر وسائط التواصل الاجتماعي، توشك (النخبة) المؤثرة أن تكون مَن لديهم حساب فعَّال في وسائل التواصل الاجتماعي. إذًا فالنخبة ليست دومًا حكرًا على المثقفين، كما نزعم ونأمل! خصوصًا عندما يتبدَّل مفهوم النخبة في المجتمع. أيضًا فإن تعريف (النخبة) يتأثر بعامل آخر غير الأهمية القيمية، هو عامل القوة والنفوذ. ما الذي يجعل المثقف نخبويًّا إذا كان أقل تأثيرًا وتغييرًا للمجتمع من قدرة شاب «سنابشاتي» أو «تويتري» على التغيير؟
توصيف آخر للنخبة لا يأبه بعامل القوة، يرى أن النخبة ليست هي الأقوى تأثيرًا وتغييرًا بل الأقوى رأيًا وتحليلاً وتوصيفًا لمآلات التغيير، مثال: ما يحدث في المنطقة العربية الآن. ورأي آخر وأخير حول ماهية النخبة، لا يرى أنها هذا ولا ذاك ولا ذلك؛ لأن العولمة حين كسرت هيبة السلطات الأبوية (سلطات الأب والحاكم ورجل الدين والمعلم) لم تترك للنخبة أيضًا هيبتها التي كانت لها، ولم يعُد المجتمع قادرًا على تقبُّل وجود نخبة من المجتمع تعلو فوقه وتطغى عليه.
في حين أشار د. فهد الحارثي إلى أن النخبة اليوم تعاني من عدة مشكلات:
- التماهي في المفهوم بين المثقف مكتمل الشروط والأدوات وما يُسمَّى اليوم بالمؤثرين أو عيال وسائل التواصل الاجتماعي. من يتقدم على الآخر؟ مَن هو يُعَدُّ من النخبة؟ هل كلاهما، أم ينبغي الفصل بينهما؟
- النخبة في واقع التماهي المشار إليه أصبحت تحتاج إلى تعريف جديد للابتعاد عن تبادل محاولات الانتقاص، فهذا تقليدي تجاوزه الزمن، وذاك مثقف رخو أو دخيل، لم يستوف شروطَ التأهل لارتياد الموقع الذي يروم.
- الإعلام بصفته إحدى الرافعات المهمة لـ “الثقافي” يغرق هو بدوره في السباق غير المتكافئ بين ” الحرفة” و”الهواية ” أو بين المهنية والغواية، غواية الوسائل الجديدة التي أربكت المشهد الذي لم يخلُ من الضحايا والشهداء.
ليس هناك اليوم نخبة ثقافية، بل هناك منتجات تتكاثر وتتوالد بسرعة، وبارتجال في أحيان كثيرة، النخبة اليوم هي “المنتجات” نفسها وليست الأشخاص، والمقصود المنتجات التي تنجو بنفسها من الغرق في “السفلي” بكل أبعاده، وبكل صوره ووجوهه. اليومَ سنسمع عن “المشاهير “، وقليلاً ما سنسمع عن “المبدعين”. لِنعدْ مرةً أخرى إلى أهمية إعادة النظر في المفهوم، مفهوم “الثقافي” وبالتالي مفهوم “النخبة”، هل الصور القديمة قادرة اليوم على استيعابهما؟ فلِنُشرعْ إذًا في اجتراح المفاهيم الجديدة تواكبًا مع أجيال ما فوق الصناعي، أجيال ما بعد الحداثة.
ولخَّص د. مساعد المحيا وجهة نظره بقوله: حين تتحول الثقافة إلى فنٍّ، ويصبح صانعو المؤسسة الثقافية أكثر ميلاً للفن؛ فإن المنتج الذي سيشهد ضخًّا ماليًّا هائلاً هو بيئة الفنِّ اتساقًا مع رغبات فئة من الجمهور الذي تسطحت اهتماماته بفعل ظهور مجموعة من التأثيرات، أو ما وصفه د. زياد بديمقراطية المعرفة. ما أشار إليه د. عبد الله حول ما أسماهم بالمثقفين الجُدد واستلابهم المشهد هو صحيح؛ إذ إن معيارية النخبوي والمثقف ماضية في التحوُّل والتغيُّر بسبب تحول المجتمع نفسه، بل أصبحنا نجد عددًا من المثقفين تضعف اهتماماتهم وتصغر قضاياهم وينداحون في أطُر الثقافة في مفاهيمية جديدة اتساقًا مع التحولات القيمية التي أَكرَهت هؤلاء أو عددًا منهم على أن يكونوا أدوات تطبيل بقناعة وبغير قناعة لمظاهر ثقافية لم تكن من قبلُ جزءًا من المشهد الثقافي. وعمومًا، فالمثقفون بعضهم غاب وتغيَّب بسبب قوة وسائل التواصل الاجتماعي التي اكتسحت الإعلام التقليدي كله، فانسحبوا من المشهد أو تماهوا معه، ومِن المثقفين مَن تمَّ تغييبه عن ذاكرة الجمهور وتشويه صورته ومحاكمة هويته، وبخاصة حين أصبح عددٌ ممَّن لا يمتلكون قدرًا ولو قليلاً من الثقافة أو هم بلا ثقافة هم مَن يتصدرون المشهد ويوزِّعون الأحكام؛ فتعمدوا أن يشيعوا ثقافة سطحية تضمن لهم تصدُّرَهم للمشهد، أسهم في وصولهم لذلك قوة سطحية اهتمامات الجمهور. وبقت الإشارة إلى أنَّ ثمة صمتًا كبيرًا يمارسه عددٌ من النخب ولو بطريقة نظرية دوامة أو لولبية الصمت؛ إذ واقع البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية يكاد يُجرِّم في أحيان كثيرة ممارسة طرح آراء يمثِّل بعضها القيمَ الراسخة في المجتمع، وبسبب ذلك ينسحب البعض بهدوء دون أن يُعبِّر عن رأيه؛ ولذا تنشط في مجتمعاتنا ما نُسمِّيه بنظرية “لولبية أو دوامة الصمت”، وهي التي تقول إن الفرد في أحيان كثيرة يعبِّر عن آرائه وفقًا للرأي السائد، ويتحفظ على آرائه خشية سلطة المجتمع أو سلطات أخرى أو بحثًا عن التوافق الاجتماعي أو خوفًا من العزلة الاجتماعية.
- سبب “الأزمة/ المأساة” العربية: هل هو سبب ثقافي- سياسي؟
ذهب د. صدقة فاضل إلى أنَّ معظم مفكري العرب يعتقدون أن سبب “الأزمة/ المأساة” العربية الرئيس هو سبب ثقافي-سياسي. وهو سبب مترابط ومتلازم. فلولا المسبِّب السياسي (الأقوى تأثيرًا) ما كان المسبب الثقافي -السياسي بهذا السوء والسلبية. إنَّ أي انسان راشد عاقل لا يمكن أن يُعتبَر مثقفًا إذا كان يقف ضد كل أو بعض ما يُعرف بالمبادئ الخمسة المبجلة إنسانيًّا وعالميًّا. وفي مقدِّمة هذه المبادئ: الحرية، والعدالة، والمساواة للجميع. ونسبة كبيرة ممَّن يُشار إليهم بـ “المثقفين” العرب لا تمانع في سحق هذه المبادئ… مقابل تحقيق مصالح ذاتية ضيقة، وأحيانًا رخيصة.. إنْ سلَّمنا بكون المسبِّب لأزمة أغلب العرب ثقافي –سياسي؛ نجد أن المثقف كثيرًا ما يُجاري ويُحابي السياسي المستبد على حساب القيم السامية والمبادئ النبيلة، وذلك مقابل منافع شخصية ضيقة. تبعية “المثقف” للمستبد تجعل الثقافة تلعب دورًا سلبيًّا بدلاً من الدور الإيجابي المفترَض أن تلعبه في مجتمعها.
- وسائل التواصل الاجتماعي: وسيلة أم رسالة؟
طرح أ. عبد الله الضويحي تساؤلاً مهمًّا مفاده: هل ما كشفت عنه وسائل التواصل الاجتماعي من ثقافة كان مطمورًا، أم أنها خلقت ثقافة جديدة؟ بمعنى، هل هي وسيلة أم رسالة؟ ومن جانبه أوضح د. عبد الله بن ناصر الحمود أن الإشكال والمشكل لدى البعض جاء من أحد سببين أو من كليهما:
- الأول: عدم القدرة على التفريق بين مرحلتين اتصاليتين مهمتين في التاريخ الإنساني المعاصر (مرحلة اتصال المؤسسات بالناس)، و(مرحلة اتصال الناس بالناس).
- الثاني: عدم القدرة على فهم التغيرات الكبرى التي ترتَّبت على وصولنا للمرحلة الثانية (اتصال الناس بالناس) من حيث:
s حرية الوصول للمعلومات، وانتقاؤها، والمشاركة فيها.
s تشكيل الآراء والأذواق والسلوكيات في ضوء ما يتم تلقيه وبثُّه من المعلومات والمعارف والأفكار.
كل ما سبق، ترتب عليه، ليس انهيار الثقافة التقليدية فحسب، بل ظهور ثقافات جديدة بكل مركباتها واشتراطاتها، رضي مَن رضي، وأبى من أبى.
ويرى د. مشاري النعيم أن وسائل التواصل الاجتماعي فرصة للتعبير عن المعاني الباطنة المشتركة وغير المشتركة في مجتمعنا الكبير؛ لكنَّ وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا سوف تضيفُ طبقةً جديدة للمجتمع ستسهم في إحداث التحول المجتمعي الطبيعي ولكن بوتيرة أسرع. فاتساع دائرة تواصل الناس بالناس محك مهم لتمحيص الكود الثقافي للمجتمع الذي يُشكِّل ثقافة الأفراد العميقة، فهناك ثقافة ظاهرة وهناك ثقافة عميقة، وكلاهما ليس له علاقة بالمستوى المعرفي للأفراد. وبالإمكان القول إن الثقافة “سلوك” و”منتج”؛ السلوك يُوجِّه الحراك الاجتماعي العام (حتى في وسائل التواصل الاجتماعي)، والمنتج هو ما ينتج عن هذا الحراك.
أما د. عبير برهمين فترى أن وسائل الإعلام التقليدية وقنواته أسهمت بشكل أو بآخر في تكوين موجة ما يُسمَّى بمشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، وتسطيح أشكال الثقافة لعجزها عن التجدُّد ومواكبة التقدُّم التقني، ولعب دورها المنوط بها كوسيط لنشر الثقافة في المجتمع.
وأكد د. حسين الجحدلي على أننا اليوم نعيش عالمين؛ عالم مادي محسوس، وعالم افتراضي غير محسوس. وخلال السنوات الخمس الماضية تداخل العالمان وامتزجا، فتلاشت الحدود، واختلط الواقع بالخيال في عالم افتراضي. ومن أشكال ذلك تقنيات الواقع المعزز، والواقع الافتراضي! وهذه الحالة قد ينتج عنها فرص جمَّة، لكنها تصحب مخاطر كبيرة.. فمن السهل أن يصنع الفرد لنفسه شخصيةً افتراضيةً (أڤاتار) يكون له جسد رياضي بمزايا عكس واقعه المترهل! بل تزداد المصيبة بأنه يستطيع تحديد مركزه الاجتماعي، واختيار تأهيلًا لم يحصل عليه في الواقع، وعندما يعتقد أنه ينجح في تحقيق المكاسب في هذا العالم الافتراضي، يتنامى لديه شعورٌ بأنه حُرم الفرصة في العالم المادي الواقعي، فينتج لدينا جيلٌ يستطيع أن يناقش في كل شيء، وهو لا يستطيع أن يُنجز شيئًا! هذا الامتزاج بين العالمين تولَّد عنه ثقافة وسلوك جديدان يصعب في كثير من الأحيان رصدهما وضبطهما؛ لأنهما نتيجة عالم قائم على اللاحدود! وفي السياق ذاته، فإنه عندما يتفاعل الإنسان مع محيطه عبر خمس حواس، وتأتي التقنيات لتعزيز هذه الحواس، فالاتصالات تُعزِّز مسافات السمع، والتلفاز يُعزِّز مسافات المشاهدة، وهناك تقنيات تُعزِّز الإحساس كتقنيات رباعية الأبعاد. الآنَ نجد التقنية تحلُّ محل الحواس ولا تُعزِّز قدراتها! فنظارة العالم الافتراضي تخلق لك الصورة والصوت والشعور، وهذا الاستبدال في الأدوار بين التقنية والحواس يسبب الإرباك!
وفي تصوُّر د. راشد العبد الكريم، فإن وسائل التواصل الاجتماعي صارت فاعلةً لضعف “معايير” الثقافة عندنا، ولنقص المثقفين؛ ولذلك – السُّنة الطبيعية – الزبد هو الذي يعلو. والاعتقاد أن وسائل الإعلام “التقليدية” هي التي وسَّعت مساحة الفاعلية لوسائل التواصل الاجتماعي، رغبةً في ستر قصور تلك الوسائل التقليدية. ووسائل التواصل الاجتماعي كما أنها “فضحت” مثقفين، أبرزت أيضًا “أشباه مثقفين”، كلُّ مؤهلاتهم أنهم يمتلكون الوقت، وربما شيئًا من المال. ومن ناحية أخرى، فإن وسائل التواصل والقيم والثقافة حلقات مترابطة، ولعل الوضع لدينا الآن – كالحال في حالات التغير – يمرُّ بمراحل اضطراب، لكنها لا بد أن تعود إلى مرحلة من الاستقرار. هذا الاستقرار لم يكن موجَّهًا توجيهًا صحيحًا من “مثقفين حقيقيين”، قد نتفاجأ أن ما خسرناه أكثر مما كسبنا، أو نتفاجأ بأننا في القطار الخطأ. المشكلة أن المثقف المزيف – لتركيزه على العميل لا على المنتج – لديه القدرة على الاستمرار في التزييف، لإيهامنا أن القطار هو القطار الصحيح. الثقافة مرتبطة بحياة المثقف، وحياة المثقف قَبس من حياة المجتمع، وحياة المجتمع: قيم.
وبدوره تساءل د. فهد الحارثي: هل التقنية تُسوِّغ التفاهة في الفكر، والسفاهة في اللسان؟ وهل تعني تحطيم اللغة، وتكسير الخيال والإبداع؟ هل تعني التبسيط في المعالجات والارتجال في مواجهة التحديات؟
وفي السياق ذاته، أوضح د. عبد الله بن ناصر الحمود أنه يتفق مع ما يذهب إليه د. فهد تمامًا، ولكنه في الوقت ذاته يؤمن بأن هذا القلق في العلاقة بين (الناس) و(مشاهير) وسائل التواصل الاجتماعي، هو قلق مرهون بعوامل الزمان والمكان، وسوف يتلاشى مع الزمن. ستفرض التحولات ذاتَها ومخرجاتها، وستتشكل هوية (الناس) وفق معطيات المرحلة الراهنة والمستقبلية، وستتقادم تدريجيًّا، أو أنها تتقادم الآنَ كل معطيات الثقافة (الرصينة) والمثقف (الرصين). وأضاف قولَه: “غدًا سيتذكر (الناس) أحمد أبو دهمان، وعبد الله الغذامي، وتركي الحمد، وحتى الجابري، والقصيبي، ونجيب محفوظ، كما نتذكر (نحن) ابن الهيثم، وابن النفيس، وحتى طه حسين. غدًا سيتربع المثقفون الجُدد على عروش الثقافة والفكر، وسيصبغونهما بما يرونه من ألوان الطيف، وستكون المنازلة الثقافية ليست في (سِفر ألف ليلة وليلة)، ولكن في (عدد المشاهدات) و(عدد السبسكرايبرز)”. وعقَّب د. فهد الحارثي على هذا الطرح بقوله: “يكفي أننا ما زلنا نذكر هؤلاء ونفخر بهم ونباهى بمنجزاتهم: ابن الهيثم وابن النفيس والقصيبي وسواهم، معنى هذا أنهم ” خالدون “، وأن الذي خلَّدهم هو فكرهم وإبداعهم. زمانهم كان مليئًا بآخرين سواهم لا يذكرهم أحدٌ ألبتة. و”ألف ليلة وليلة” عمل إبداعي خالد ظلَّ مُلهمًا لكثير من الأعمال الكبرى ليس عند العرب فحسب، بل حتى في العوالم الأخرى. لستُ مع الخلط بين عالم السبكرايبرز وعالم الأعمال الفكرية الرائدة، ولا أضعهم في إناء واحد”.
وتساءلت د. وفاء طيبة: إذا كنَّا نتحدث عن المثقفين ودورهم في وسائل التواصل الاجتماعي، لماذا نتحدث عن هؤلاء الصعاليك، صعاليك وسائل التواصل الاجتماعي؟ إنهم متواجدون طوال الآجال وفي كل مكان وزمان، وإنْ ساعدت الميديا على إظهارهم وإعطائهم منبرًا سهلاً، فالمجال مفتوح أمام كل (المثقفين) للقيام بدورهم. المسألة فقط نسبية، كنَّا لا نسمع السخافات والألفاظ غير المناسبة بنفس النسبة، فجاء تويتر على سبيل المثال، فأخرج أفضل ما فينا وأسوأ ما فينا، ولكن يظل للأخلاق والقيم والثقافة مكانتها مهما كان، ويعرف الجيل المثقف الجديد ذلك بكل وضوح، ومنهم بالمناسبة مَن ما زال يعتمد على خامة قديمة في الوصول للمعلومات يسمِّونها الورق ويتمسكون به كمصدر أساس في المعرفة، وحولنا الكثير من هؤلاء الشباب.
وأكد د. حميد الشايجي أنَّ مسألة التطفُّل على التخصص موجودة في كل المجالات وليس الثقافة فقط، فكثيرون هم مَن يتحدثون ويخوضون في غير فنِّهم، بل حتى الطب وهو مهنة حصرية على المتخصصين تمَّ التدخل فيها من قِبَل الدجالين والمشعوذين، وحتى علم الذرة هناك مَن يُفتي فيه، فمن باب أولى أن تقتحم تخصصات أخرى ومنها الثقافة والفكر. إن الاجتهاد والمحاولة والابتكار أمور مطلوبة إذا امتلك الانسان الأدوات اللازمة والمعينة على ذلك، فلا تصلّح الباب المكسور بشفاط عصير. فالفكر والثقافة لها أدواتهما التي يجب أن يحوز عليها مَن يحاول دخولَ غمار التجربة. ودَعِ الناس تحاول، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح. والملاحظة الواضحة أن هناك تخوُّفًا وصراعًا بين جيلين؛ المحافظ والحديث، وسيستمر هذا الصراع والتخوُّف عبر الأجيال، وإنْ كان الصراع الحالي أخذ بُعدًا جديدًا مع وجود التقنية الرقمية، وهو ما أثارَ الرعب في نفوس التقليديين المحافظين. فاليومَ نشاهد بزوغ شمس ثقافة جديدة تتطلبها المرحلة، تخطَّت الثقافة التقليدية، وهو ما أشار إليه د. زياد الدريس من أن الثقافة لا تموت بل تتناسخ.
ومن ناحيته قال د. زياد الدريس: أستعيدُ كثيرًا، والآن بالضرورة، الاستنتاجات التي توصل إليها الأنثروبولوجي الكبير “ليفي شتراوس” في دراساته الميدانية عن قبائل الأمازون الفطريين، ثم تشبيهه البدائية والتمدن بالنيء والمطبوخ (عنوان كتابه الشهير). وأتساءل الآن: هل ستبقى وسائل التواصل الاجتماعي،(الحديثة) التي نمارسها الآن، و(ما بعد الحديثة) التي ستأتي مع الـG5، شيئًا “نيئًا” من ثقافة الإنسان، أم ستتعرض كل الثقافات، المتمدنة والبدائية للطبخ على نار غير هادئة من صور ومقاطع يتم تداولها بين كل البشر من كل مكان وفي كل زمان؟ هل سيبقى في هذا الكون شيءٌ يمكن أن نُسمِّيه الثقافة العذرية أو البكر أو البدائية، ولا مشاحة في المسمى، تكتشفه الأجيال القادمة كما فعلنا في كشوفاتنا عن الأقوام الآخرين السابقين أو في زوايا نائية من هذا العالم؟ هل تتبدل ثقافة الإنسان من البدائية إلى التمدن إلى التفاهة الآن؟
وأضاف د. خالد الرديعان قولَه: عودًا لما كتبه د. فهد، فإنني أوافقه تمامًا في القول إن الثقافة -وبسبب الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي -أصبحت “ثقافة أفقية” ومتاحة للجميع؛ صناعةً وممارسةً ونشرًا. فأنا وبفعل الإنترنت أصبحت أعرفُ الكثيرَ عن معظم الأشياء، بل وأصبحت هذه الأشياء تعني لي الكثير؛ فموت طفل في الإكوادور بسبب مرض غامض يقلقني. أصبحتُ أكثر رقةً وإنسانيةً؛ لأنني أتعولم من حيث أدري أو لا أدري. صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي “كناقل جماعي للثقافة” تحمل في مضامينها الغثَّ والسمين والقبيح والجميل، لكنها في الوقت ذاته جعلتني “كائنًا كونيًّا”، أتفاعل وانفعل مع ما يجري حولي، وما يجري خارج حدودي كذلك. ونزولاً إلى مجتمعي السعودي، فقد أصبحتُ أكثر إدراكًا لإيجابيات مجتمعي وتنوُّعه بعد أن كنتُ محصورًا في مناطقيتي ودوائري الضيقة. الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وسرعة نقل المعلومات وتداولها على نطاق واسع ساعدني كثيرًا في اكتشاف أشياء كثيرة في مجتمعي ما كان يجدر بي الجهل بها. ويمكن القول الآن، وبكل اطمئنان: إنَّ هناك “ثقافة سعودية” تستوعب كلَّ هذا التنوُّع المناطقي والقبلي والمذهبي والجغرافي. ووسائل التواصل ساهمت في بلورة الهوية الثقافية لوطني، وأصبحتُ أكثر تشبُّثًا وحبًّا لها. والخلاصة أنه تتباين وتتعدد وسائل نقل الثقافة كما أن المثقف هو الآخر لا يموت، فانتشار الثقافة صقل كذلك “ذائقة الفرز” عند الجمهور بسبب تعدُّد الخيارات أمامه.
وأشار أ. محمد الدندني إلى أنه إذا أخذنا بالثقافة في جزئية المتغيرات التي تمر بها المملكة والمنطقة، فهناك الكثير مما يجب عمله ليتسق مع الرؤية والمتغيرات. فمع إعلان الرؤية اتضح لنا دور سياسي غير مسبوق، وربما أن هذا الدور أخذ يتشكل بسنتين أو ثلاث قبل إعلان الرؤية. أصبحت المملكة هي القاطرة المعلَنة التي تقود المنطقة العربية في صراع إقليمي نعيش أعلى درجاته هذه الأيام، بغض النظر عن آلية الثقافة ونوع المثقف. وفي تصوره، فإن المثقف لن يموت كما أن الثقافة لن تضعف؛ كلاهما مرآة للحياة في كل مظاهرها، وستستمر بآليات مختلفة، ولكن بنفس الموازين منها الغث ومنها السمين… إلخ. هنا ربما نُجبَر على القول إننا نحتاج ثقافةً مركَّزة لدعم هويتنا ودعم وجودنا، وبالذات أننا في صراع التغيير والتنمية، وهو صراع ذو إرث ثقيل، وصراع الوجود بمركز يليق بمكانة المملكة بكل مقوماتها المادية والمعنوية. والاعتقاد أنه يجب على المثقفين ومَن يجتهدون في رفع مستوى الوعي والثقافة لدى الشعب، العملُ على زرع الثقافة التي تتماشى مع ما نريدُ لوطننا. ليس هناك تغيُّر في نسب عناصر الهوية، ولكن علينا وَضْع الأولويات للعناصر، والتركيز على ما يحمي الوطن وطموحاته. قرأنا تحليلات كثيرة، منها المتفائل ومنها المتشائم عن مستقبلنا ومستقبل المنطقة، وكل هذا لا يهمُّ، المهم هو إشراك الكل والوصول لعقل جمعي بأكثر قدر ممكن، كي نصل للثقافة التي نستطيع بها ومنها أن نعكسَ ما يدور داخل بلدنا للخارج، وهنا نرسم المظلة الكبرى للهوية وسياسة الدولة الخارجية التي تُمثِّل عناصر الثقافة للمملكة؛ قيادةً وشعبًا وأرضًا.
بينما أشار د. سليمان الطفيل إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تربط المتحدِّث بآلاف المتابعين وربما الملايين في مجلس واحد متنوع الثقافات والأجناس والجنسيات واللغات، ولا ريب أن المجالس الثقافية التقليدية كالندوات الثقافية والصالونات الأدبية (الثلوثية والإثنينية.. إلخ)، ستنحسر في أجزاء معينة من حياتنا كالآثار القديمة، وهي مجالس لها طعمها الخاص، ولها محبوها وروادها، ويجب أن تبقى ولكن بأدوار أكثر تنظيمًا وعطاءً وشموليةً.
وأضاف د. عبد الله بن ناصر الحمود أنه في وقت من الأوقات، فكَّر في مسألة مأسسة محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، ثم سرعان ما تراجع، فقد كان يعتقد أنَّ من واجب المؤسسات حماية الذوق العام، وسُلَّم القيم التقليدي، ومكارم الأخلاق، ومن بوابة وسائل التواصل الاجتماعي؛ ولكن تبيَّن له أن مصدر الإشكال (المتحقق بالضرورة) في بعض محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، إنما هي مؤسسات المجتمع التعليمية والثقافية والاجتماعية والإعلامية؛ فعليها تقع مسؤولية فراغ بعض أذهان نشطاء منصات وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي من محتوى عميق، فلا يسوغ طلب العون من خالي الوفاض. والحل هو في قبول (مرحلة العبور) التي نعبرها الآن بغثها وسمينها، حيث سيكون (الناس) أقدر على الغربلة، والوزن بميزان مصلحي عجزت عنه المؤسسات، ولكن يحتاج الأمر وقتَه واشتراطاته.
وفي اعتقاد د. إحسان بوحليقة، فإن الطبيعة التفاعلية والومضية (online realtime) وضعت ضغطًا إضافيًا غير معهود على مثقفين اعتادوا أن يحتسوا عشرين فنجان قهوة قبل أن ينجزوا فقرة! الأمر الآخر أن الدقة والتحسين تراجعت لحساب السرعة في إنتاج محتوى “عملي”، ليس فارغًا بل عمليًا، أي يحمل رسالة ويمكن الاستفادة منه. أما قضيتنا مع المحتوى فأزلية، سبقت ثورة الاتصالات باعتبار أن القراءة والكتابة والتثاقف أمور كانت ولا تزال أمورًا هامشية إجمالاً إلا إذا ارتبطت بالمدرسة أو الجامعة. وهكذا، يمكن الانتهاء إلى أن القضية ليست موتًا أو حياة؛ بل مجاراة ومواكبة، وعدم التعلق بالماضي وأدواته، وعدم تعظيم محتوى لأنه قديم وتسفيه محتوى لأنه جديد. الحياة هي أن ننتج محتوى على صلة بالحياة، وجودة الحياة أن نمتلك ناصية الأدوات توظيفًا واستخدامًا وابتداعًا.
في حين ركَّز د. رياض نجم على أثر التعليم في تشكيل ثقافة الفرد، وتساءل: أليس من الضروري أن تشمل مناهج التعليم موادَّ لـ:
w الاستخدام الأمثل لوسائل التواصل الاجتماعي.
w المحتوى المناسب لاستخدام هذه الوسائل من أجله، فهناك فرق بين ما يُقال في حوار ثنائي وما نعرضه للعموم.
w الآليات المثُلى لتشكيل ثقافة الفرد بدءًا من المرحلة الابتدائية فصاعدًا.
ويمكن تفهُّم وجهة نظر القائلة بأن يُترَك للجمهور اختيار الغث من السمين من محتوى وسائل التواصل، بمعنى التنظيم الذاتي للقطاع self-regulation. لكن نجاح هذا الأسلوب مرتبط بأن يكون أساس التعليم في المجتمع (المدرسة والمنزل) مرتكزًا على ترسيخ القيم والمبادئ التي نُجمع على أهميتها ورصانتها. ويظلُّ تعليم أبنائنا كيف يستخدمون هذه الوسائل ضروريًّا لترسيخ هذه القيم والأخلاق.
- اللغة العربية وتويتر:
تساءل أ. عبد الله الضويحي حول ما ورد في تعقيب د. زياد الدريس: كيف أن اللغة العربية مدينة لتويتر بتيسير استخدام الشباب لها والكتابة بها؟ وفي هذا الصدد، أوضح د. زياد الدريس أن سبب ذلك -في رأيه -هو أن تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي بدأت بلغة منبعها الإنجليزية، ثم تعزَّزت لاحقًا بالبرمجية العربية، فأصبحت الحروف العربية مبنية في داخلها (بيلت إن)، وهو ما قلَّص الحاجة إلى استخدام حروف لاتينية برسم العربي. وعقَّب أ. عبد الله الضويحي بأنه كان يتوقع أن تويتر أسهم في قدرتهم على الكتابة وتحسينها أسلوبًا.
أما بخصوص مسألة انكشاف عيوب المثقف “العاجز عن كتابة 140 حرفًا في تويتر خالية من أخطاء في الأسلوب وفي اللغة…….” فتلك مسألة تعكس -من وجهة نظر د. عبير برهمين-ضعف تمكن المثقف من أدواته، وهي مهارة التعبير اللفظي والتواصل كتابةً بأسلوب صحيح ولغة عربية سليمة دون أخطاء إملائية أو نحوية تفضح مدعي الثقافة ومن أطلق على نفسه مُفكِّرًا، وتميزه عن المثقف والمفكر الحقيقي. ولعل هذه إحدى حسنات التقنية التي فضحت المدعين ممَّن كانوا يختارون الغريب من الكلمات تقعرًا دون فهم حقيقي لمعناها أو حتى معرفة طريقة تهجئتها، فقط ليظن السذج من المتلقين أن تلك سمة المثقفين أو المفكرين، وهم أبعد ما يكون عن ذلك.
- وزارة الثقافة ومسؤولية نشر الوعي الثقافي:
طرح أ. عبد الله الضويحي تساؤلاً مهمًّا مفاده: أين وزارة الثقافة مما يحدث؟ هل يمكن أن تُنعِش المثقف وترفع عنه الأجهزة ليعيش؟ ومن جانبه يرى د. خالد بن دهيش أن وزارة الثقافة بحلتها الجديدة وفي ظل رؤية المملكة 2030 ستكون راعية للثقافة والمثقفين حتى لا تموت الثقافة أو إماتة المثقف، لا سمح الله. فوزارة الثقافة ووفقًا لرسالتها معنية بنشر الوعي بأهمية الثقافة وزيادة نشاطها، والإدراك بأن الثقافة أحد أهم تجليات الهوية الوطنيّة من خلال إستراتيجية ترعى الثقافة والمثقفين، وتدير دفة التغيرات السريعة، وتُعدِّل المسار قدر الإمكان، فتبعد الغث وتدعم السمين من خلال حماية قيم الثقافة حتى لا تتعرض للانتهاكات الكبرى (وفقًا لوصف د. فهد)، وتُنظِّم الواقع الافتراضي وديمقراطية العولمة التي نعيشها ويعيشها العالم بأسره، ونستفيد من التجارب الناجحة. فالوزارة بذلك تُحقِّق رؤية المملكة 2030، فالثقافة من مقومات جودة الحياة، والمملكة تقف على أرض صلبة وغنية بالحقول الثقافية المتنوعة والطاقات البشرية الإبداعية من مثقفين وفنانين ومبدعين في وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها. إننا في حاجة ماسة لتطوير النظام الثقافي وتمكين المثقف وتطوير إمكاناته وإزالة العقبات من أمامه، ليمارس إبداعاته من خلال تهيئة بيئة تدعم إبداعه، وهذا بالطبع لن يتحقق بين عشية وضحاها، فهو يحتاج لإستراتيجية وهمم عالية.
في حين اختلف د. مساعد المحيا مع ما طرحه د. خالد بن دهيش، حيث ذهب إلى أنه لا يجد ما نتحدث عنه من اهتمامات الوزارة وفقًا لما يصدر عنها. فالثقافة لدى الوزارة أنها أضحت مهتمة بالتراث والفن، فهي تبتعد عن مأسسة الجهد الثقافي؛ إذ لم نر أيَّ عمل حول شراكة واضحة بين خططها والمستفيدين من خدماتها من المثقفين المفكرين أو عقد ورش عمل بهذا الخصوص، لا سيما وهي المعنية بتبني هوية هذه البلاد وخصوصيتها ومكانتها.
أيضًا فقد ذكرت د. الجازي الشبيكي أن الإستراتيجية الجديدة لوزارة الثقافة فضفاضة وعباراتها عمومية، ولا تذكر على الإطلاق التغيرات التي لحقت بثقافتنا ولا بخطتها حيال ذلك، أو أي توجهات لها لاستثمار قنوات التواصل الاجتماعي الجديدة لتفعيل تلك الخُطط وتطوير الأدوار الجديدة للمثقف.
وفي تصوُّر د. فهد الحارثي، فإن أول واجب على وزارة الثقافة أن لا تنجرف مع بريق “المشاهير” وفكاهات أبي جردل فيكونون حصانها في السباق نحو المستقبل، نحن أصحاب الرسالة، ونحن منبع تاريخ العرب، وعليها أن تدرك أن ليس كل ورم شحمًا، وليس كل أصفر ذهبًا. وعلى وزارة الثقافة أن ترصد الجوائز، وتقيِّم البرامج، لإرشاد الجيل إلى النابه من الثقافة، وإلى السامق من الفكر، وإلى مكارم الأخلاق، وإلى التعفف عن الهزيل والرذيل والذليل من القول أو الفعل أو حتى من البشر. أيضًا فإن على وزارة الثقافة أن تُعيدَ جائزة الدولة التقديرية، وأن تُفكِّر في جوائز أخرى للشباب. كذلك فإن على وزارة الثقافة أن تُعلِي من شأن الصناعة الثقيلة للثقافة لتكون مطمحًا للشباب وهدفًا لهم، كما أنه يتعين على وزارة الثقافة أن تجد الطرق الممكنة للرفع من مستوى “المحتوى” في وسائل التواصل الاجتماعي عن طريق رصد الجوائز والمسابقات، أو حتى عن طريق “التغذية” المباشرة بمحتوى بديل. في الوقت ذاته يتعين على الجامعات أن تُشجِّع على اعتناق القيم المهمة في البحث والتنقيب والاكتشاف.. ثم الإنتاج، وَفق معايير راقية هدفًا ووسائل، كما أنَّ على وزارة الإعلام أن تضع الأنظمة التي تُحرِّم بل وتُجرِّم “التلوث” الفكري والثقافي. فهي إنْ كانت تحشد قواها للمساهمة في رفع الوعي بالتلوث البيئي، فإن التلوث الفكري أكثر أهميةً. وإذا كان من تجليات وأهداف الرؤية 2030 تعزيز ” جودة الحياة “، فإن من جودة الحياة أن ينشأ الجيل على احترام القيم العليا للمجتمع، فيكون جيلاً سويًّا يحترم تاريخه وتراثه الديني والأخلاقي والثقافي.
ʘ التوصيات:
1- أن تمارس وزارة الثقافة دورها في تطوير المنظومة الثقافية، وتمكين المثقف وإزالة العقبات من أمامه ليمارس إبداعه بما يخدم المجتمع ويدعم وحدة الوطن.
2- أن تتبنى وزارة الثقافة إعادة جائزة الدولة التقديرية للأدب، وأن تُفكِّر في جوائز أخرى للشباب؛ للإعلاء من شأن الصناعة الثقيلة للثقافة لتكون مطمحًا للشباب وهدفًا لهم.
3- تنظيم ورشة عمل ولقاءات وعقد شراكات تتبناها وزارة الثقافة أو جهة اعتبارية بين المثقفين ومشاهير “وسائل التواصل الاجتماعي”؛ للوصول إلى صيغ تقارب وتكامل بين الطرفين باعتبار وحدة الهدف.
4- عقد حلقات نقاش ودورات للمثقفين والمفكرين؛ للتعريف بخصائص وسمات شبكات التواصل وتطبيقات ومنصات شبكة الإنترنت وتأثيرات استخدامها في مجالات الإعلام والتسويق والإعلان، وعلاقتها بالتغير الثقافي والاجتماعي.
5- إعداد دراسة يقوم بها مركز متخصص حول وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها على المجتمع ومستقبله في ظل رؤية 2030.
6- إنشاء جمعية تحتضن شباب وسائل التواصل الاجتماعي وتطوِّر مهاراتهم الثقافية بمشاركة النخبة الحالية، والاستفادة من مخزونهم الثقافي، ومن أهدافها نقل ثقافتنا من المحلية إلى العالمية.
7- توظيف وسائل الاتصال الحديثة في نقل ثقافتنا المتمثلة في قيمنا الدينية والاجتماعية والثقافية، والرفع من مستوى ثقافة مشاهيرها بما يحقِّق هذا الهدف الذي يتماشى مع هويتنا الوطنية.
8- اعتبار مشاهير “قنوات التواصل الاجتماعي” جزءًا من المنظومة الإعلامية، بتطبيق الأنظمة عليهم (التراخيص، الرقابة، الضريبة… إلخ)
9- الاهتمام بالرموز الثقافية (ما قبل وسائط التواصل) وعدم تهميشهم، للعمل على رفع مستوى الوعي والثقافة التي تتماشى مع هويتنا الوطنية.
10- تعزيز دور المراكز الثقافية وإضافة روح العصر عليها بعيدًا عن التقليدية، مع تشجيع أدوارها ونشرها عبر مراكز الأحياء وداخل التجمعات.
11- أن تسعى وزارة الثقافة إلى إيجاد الطرق الممكنة للرفع من مستوى “المحتوى” في قنوات التواصل الاجتماعي عن طريق رصد الجوائز والمسابقات، أو حتى عن طريق ” التغذية ” المباشرة بمحتوى بديل.
القضية الرابعة
متى نُحقِّق ميزة تنافسية؟
(30/6/2019م)
- الورقة الرئيسة: د. إحسان بو حليقة
- التعقيبات:
ʘ التعقيب الأول: د. ريم الفريان
ʘ التعقيب الثاني: أ. محمد بن فهد العمران (ضيف الملتقى)
- إدارة الحوار: د. نوف الغامدي
ʘ الملخص التنفيذي
استهل د. إحسان بو حليقة الورقة الرئيسة بتساؤل محوري مفاده: ما التنافسية؟ ولِمَ الحديث مكثف عنها؟ وهل هي كلمة براقة اكتشفناها متأخرين، سنقضي عقودًا ليحققها اقتصادنا؟ وأشار إلى أنه لا بد من بيان أن المنافسة شيء والتنافسية شيء آخر، ورغم الصلة بينهما إلا أن المنافسة تكون بين منتجين للسلع والخدمات، في حين أن التنافسية هي أمر نسبي يرمي لقياس قدرة المنتج على المنافسة مقارنة بالمنافسين، فعادة ما يكون التناول هو لعبارة “القدرة التنافسية”، وهو تناول لا يتصل بالمنشآت الاقتصادية الساعية للربح فحسب، بل كذلك للكيانات غير الربحية ومؤسسات الحكومة والقطاع العام. فضلاً عن أن سياق التناول لا يُخرج البلدان. ومن ناحية أخرى، فإن الاهتمام بالتنافسية لا يخرج عن اهتمام دفين بالكفاءة، فالشركات والاقتصادات التي تمتلك ميزةً تنافسية تفوق غيرها في أن كفاءتها أعلى، إلا أن القدرة التنافسية كمفهوم أوسع من مفهوم الكفاءة الداخلية؛ إذ إن القدرة التنافسية هي المحصلة الكلية التي تجعل للشركة حصة متنامية من السوق. لكن ليس من الإنصاف الظن أن التنافسية هي مجرد حروب لا طائل من ورائها؛ فهي نوع من التدافع من جانب الدول للحصول على الفرص لأبنائها؛ وللمنتجين للبيع في أسواقهم المحلية وللتصدير. حاليًّا، يمكننا التخلي عن عبارة “التنويع الاقتصادي” إلى عبارة “الميزة التنافسية الوطنية”، ولا يعني هذا تراجعًا عن حُلم راودنا قُرابة نصف قرن، بل هو تصعيد للهدف وجعله أكثر طموحًا وتحديدًا، فمجرد التنوع لا يعني التنافسية. أما التنافسية فتعني امتلاكك القدرةَ لبيع ما تُنتج! وليس كل مُنتِج قادر على بيع ما ينتجه.
وأشارت د. ريم الفريان في التعقيب الأول إلى بعض المقترحات التي قد تُسهم في تحقيق التنافسية التي نطمح لها؛ كتقييم الميزة النسبية ومعرفة وتحليل القدرة التنافسية التي نملكها حاليًّا بالمقارنة مع الدول ذات التنافسية العالية. بينما أكد أ. محمد بن فهد العمران في التعقيب الثاني على أن موضوع تنافسية الاقتصاد السعودي يعتبر في واقع الحال جوهر رؤية المملكة 2030م دون مبالغة؛ فلقد عاش الاقتصاد السعودي لعقود من الزمن يعتمد في تنافسيته على “الريع” حتى وصلنا الآن إلى مرحلة إعادة الهيكلة الاقتصادية الشاملة، والتي نعيشها اليوم.
واتفقت المداخلات حول القضية على أهمية العنصر البشري ودوره في خلق التنافسية، في حين تباينت الآراء حول العناصر الأساسية الواجب توافرها لخلق الميزة التنافسية.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
- مفهوم التنافسية وعواملها الأساسية.
- الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية ومتطلبات تحقيق التنافسية.
- التنافسية والإنتاجية في ضوء رؤية 2030.
- التعليم والتدريب والتنافسية.
- أهمية ومجالات تدخل الدولة لرفع الميزة التنافسية.
- دور القطاع الخاص والقطاع الثالث في تحقيق الميزة التنافسية.
- الخلاصة.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول قضية: متى نُحقِّق ميزة تنافسية؟ ما يلي:
1- استبدال عبارة “التنويع الاقتصادي” بعبارة “الميزة التنافسية الوطنية”؛ تصعيدًا للهدف وجعله أكثر طموحًا وتحديدًا، وتعزيزًا لمفهوم التنافسية وتوطينها في بيئة الأعمال ونشر ثقافتها في المجتمع بتطبيق معاييرها وشروط تحقيقها.
2- الاعتماد بصورة أكبر على الموارد البشرية المؤهلة وعالية المهارة، وهو أمر يستوجب تعليمًا وتدريبًا وتأهيلاً، وتوجيهًا واضحًا نحو الإنتاج بهدف الأداء أفضل من الآخرين.
3- معرفة وتحليل القدرة التنافسية التي نملكها حاليًّا بالمقارنة مع الدول ذات التنافسية العالية وتقييمها كخطوة أولى لبناء منظومة شاملة تُحقِّق القدرة التنافسية للمملكة، والعمل على صقلها ورفع مستوى جودتها.
ʘ الورقة الرئيسة: د. إحسان بو حليقة:
ما التنافسية؟ ولِمَ الحديث مكثف عنها؟ وهل هي كلمة براقة اكتشفناها متأخرين، سنقضي عقودًا ليحققها اقتصادنا؟
بدايةً، لا بد من بيان أن المنافسة شيء والتنافسية شيء آخر، ورغم الصلة بينهما إلا أن المنافسة تكون بين منتجين للسلع والخدمات، في حين أن التنافسية هي أمر نسبي يرمي لقياس قدرة المنتج على المنافسة مقارنة بالمنافسين، فعادةً ما يكون التناول هو لعبارة “القدرة التنافسية”، وهو تناول لا يتصل بالمنشآت الاقتصادية الساعية للربح فحسب، بل كذلك للكيانات غير الربحية ومؤسسات الحكومة والقطاع العام. فضلاً عن أن سياق التناول لا يُخرج البلدان، فقد ألَّفَ البرفسور مايكل بورتر من جامعة هارفارد منذ نحو أربعة عقود كتابًا حول القدرة التنافسية للبلدان (competitive advantage of Nations).
ومن ناحية أخرى، فإنَّ الاهتمام بالتنافسية لا يخرج عن اهتمام دفين بالكفاءة، فالشركات والاقتصادات التي تمتلك ميزة تنافسية تفوق غيرها في أن كفاءتها أعلى؛ إلا أن القدرة التنافسية كمفهوم أوسع من مفهوم الكفاءة الداخلية، إذ إن القدرة التنافسية هي المحصلة الكلية التي تجعل للشركة حصة متنامية من السوق.
أعود للأسئلة التي طرحتُها في البداية، فهي أسئلة تتوارد، ولا بد لها من إجابة. التنافسية ليست كلمة براقة، فأول ما تتعلمه في الاقتصاد أن الموارد نادرة، والأمر الثاني أن البشر يتنافسون عليها، ومن أجلها تنطلق النزاعات، وقد تصل لحروب، وحروب السوق هي أعتى الحروب؛ حروب لتأمين المواد الخام، وطرق الوصول لها، ثم حروب من أجل التقنيات والمهارة والخبرة للحصول عليها، ثم حروب على الزبائن!
هذه هي التنافسية. لكن ليس من الإنصاف الظن أن التنافسية هي مجرد حروب لا طائل من ورائها؛ فهي نوع من التدافع من جانب الدول للحصول على الفرص لأبنائها؛ وللمنتجين للبيع في أسواقهم المحلية وللتصدير.
حاليًّا، يمكننا التخلي عن عبارة “التنويع الاقتصادي” إلى عبارة “الميزة التنافسية الوطنية”، ولا يعني هذا تراجعًا عن حُلم راودنا قرابة نصف قرن، بل هو تصعيد للهدف وجعله أكثر طموحًا وتحديدًا، فمجرد التنوُّع لا يعني التنافسية. أما التنافسية فتعني امتلاكك القدرةَ لبيع ما تنتج! وليس كل مُنتِج قادرٌ على بيع ما ينتجه. وفرة النفط لدينا، وهو هبة من الله سبحانه، منحنا ميزةً نسبية، لا يتمتع بها إلا النزر اليسير من بلدان العالم؛ بمعنى أن القليل جدًّا من دول العالم تستطيع أن تنتج النفطَ بتكلفة أقل مما تنتجه المملكة. النفط مورد طبيعي، أما التنافسية فأمرها مختلف تمامًا، والفارق بين الميزة التنافسية والميزة النسبية، كالفارق بين الكادح والوارث، أو إلى حد بعيد هي كذلك. العصامي الكادح لن ينجح إلا إذا استطاع أن يُحدِث فارقًا عبر إنتاجيته وجهوده، وسيعتمد نجاحه للحد البعيد على بزِّ الآخرين، ليس بطريقة سلبية، بل بطريقة إيجابية بأن ينتج ما ينتجه بكفاءة أعلى وجودة أفضل.
رؤية المملكة 2030 طموحة، توازي طموحنا في العام 1970عندما أُطلقت الخطة الخمسية الأولى “التنوع الاقتصادي” كهدفٍ محوري لها. هدفنا المحوري الآن أن نتحول لاقتصاد مُنتِج وليس فقط لاقتصاد يعتمد على استخراج ثرواته الطبيعية. طموحنا في التحول يحمل في ثناياه الكثيرَ من الخير، لكنه خيرٌ مرتبط بالكدّ والعمل والإبداع والاعتماد على الذات والاعتداد بها، ليس هذا فحسب بل أداء كل ذلك أفضل من الآخرين، وإلا ما الضمانات أننا سنستطيع بيع منتجاتنا، حتى محليًّا، في اقتصاد عالمي منفتح، البقاء فيه للأفضل، أي للأكثر تنافسيةً؟
ليس لدينا 50 عامًا حتى نتحول، فالوقت المتبقي لتحقيق الرؤية عشر سنوات أو يزيد قليلاً. فكيف سنتمكن من زيادة إنتاجيتنا، وما نضيفه من قيمة، بما يُمكِّن اقتصادنا من النمو لتوليد المزيد من فرص العمل لشبابنا، وفرص الاستثمار للرياديين وللمستثمرين الجدد والمخضرمين؟ من السهل طرح الأسئلة، والأهم هو تحقيق طموحاتنا المشروعة في اقتصاد قادر على النمو المستدام. الأمر ليس سهلاً، بل يقوم على التحدي، والتحدي هو طبيعتنا في تعاملنا عبر الأجيال مع الندرة الاقتصادية وصلابة الطقس، فقد اعتاد أجدادنا الارتحال من أجل لقمة العيش، تمامًا كما يفعل كثيرون عندما يأتون بحثًا عن عمل في بلدنا. أما مرحلة التحول فتتطلب من كل فرد منَّا أن يعمل بجهدٍ وذكاء، وهو أمر يستوجب تعليمًا وتدريبًا وتأهيلاً، وتوجيهًا واضحًا نحو الإنتاج بهدف الأداء أفضل من الآخرين.
ما نملكه في وطننا الغالي، كما ندرك جميعًا، أغلى وأبقى من النفط، وهو الجيل الشاب الواعد. أما ما هو على صلة بتحقيق رؤية المملكة 2030 فهو حذقنا في تحويل طاقات وقدرات وطموحات وولاء الشباب لوطنهم لطاقة “تحويلية” هائلة للإنتاج، بل للتنافسية، لنُثبت من خلال الإنجازات – إنجازاتهم -أننا نستطيع صنع الأشياء (السلع والخدمات) وبيعها محليًّا وفي العالم. وكلمة “الإنتاج” هي مربط الفرس، فهي لُبُّ التحدي ومرتكزه. لماذا؟ لأن إنتاجيتنا متدنية، فهي متراجعة من جهة ودون نظيراتها في مجموعة العشرين بما يُمثِّل فجوة، وكذلك عند مقارنتها بمجموعة دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وهكذا، نستطيع القول إن الإنتاجية هي العقبة الكأداء أمام تحقيقنا ميزة تنافسية نبزُّ بها الآخرين.
وعلى الرغم من تحدي الإنتاجية، ستجد من يعتقد أننا نستطيع تحقيق ميزة تنافسية ببساطة! وفي الوقت نفسه يطالب بفتح سوق العمل – بكل أريحيةٍ – للوافدين بغض النظر عن التميز في مؤهلاتهم وخبراتهم وما سيجلبون للاقتصاد السعودي من قيمة.
أختمُ بالقول، إن تحقيقنا ميزة تنافسية تفوق الإقليم من حولنا وما وراءه أمرٌ صعب التحقيق، فتوليد فرصة عمل جديدة أمر مكلف جدًّا للاقتصاد، ولا يستقيم أن تذهب تلك الفرص القيمة لأي أحد إلا لمواطن جدير بها. ولذا، فمهم أن نتحول لنعتمد بصورة أكبر على الموارد البشرية المؤهلة وعالية المهارة. ولعله ليس من المبالغة القول إن التحول الأهم هو تحول مواطنينا إلى آلة ضخمة للإنتاج ولتوليد القيمة ولتعزيز الميزة التنافسية لمنشآتنا ولأنشطتنا وقطاعاتنا ولاقتصادنا الوطني ككل. ندرك أن إزالة التشوهات العميقة في سوق العمل، هي التحدي الأول أمام رؤية المملكة 2030، إذ كيف يمكن أن تتحول من الريع للإنتاج دون الاعتماد على موارد بشرية محلية مؤهلة وتمتلك المهارة؟ فلا أحد سيُصدِّر لنا النابغين والرياديين والماهرين، وهذا ما تثبته الإحصاءات على مدى العقود الخمسة الماضية، وهذا ما تثبته الإنتاجية المتدنية للعامل. إذًا، في كلمةٍ: حتى نُحقِّق مستهدفات الرؤية 2030، نحتاج تطوير قدرتنا التنافسية، ولتطوير ميزتنا التنافسية نحتاج لمواردنا البشرية أن تكون هي ميزتنا التنافسية المستدامة.
التعقيبات:
ʘ التعقيب الأول: د. ريم الفريان:
افتتح د. احسان بو حليقة الورقة الرئيسة بتوضيح بعض المفاهيم المهمة لمن ليسوا من أصحاب التخصص، على سبيل المثال: الفرق بين الميزة التنافسية والميزة النسبية. وكذلك تسليط الضوء على اهتمام المملكة تاريخيًّا بالتنمية الاقتصادية من خلال الربط بين طموح رؤية 2030 وطموح الخطة الخمسية الأولى في 1970م. واختتمها بمقترح أكاد أن أُجزم أنه لن يختلف أحدٌ على أهميته، وهو “تطوير قدراتنا التنافسية” من خلال تطوير وتنمية مواردنا البشرية لكي نكون “آلة ضخمة للإنتاج” تُحقِّق التنافسية المستدامة”.
فالكثير من علماء الاقتصاد ربط بين التنافسية والإنتاجية، كما عرَّف البعض التنافسية بأنها قدرة الدولة على استقطاب الاستثمارات الأجنبية من خلال ميزتين رئيسيتين، هما: رأس المال المادي، ورأس المال البشري الوطني للدولة. وتوفُّر كليهما في الدولة لا يجعلها ذات ميزة تنافسية حيث إنَّ القدرة على تسويق المنتجات هو الأساس كما جاء في ورقة د. إحسان. وتوفُّر أحدهما قد يكون أساسًا في استقطاب الآخر من خلال الاستثمارات الأجنبية في الدولة. لذا أرى أن من أهم ما علينا اليوم عمله للاستثمار في مواردنا هو تحديد وتحليل كليهما بالمقارنة مع باقي الدول ذات التنافسية العالية، وفهم مدى قدرتنا في تطويرها وتسويقها للعالم.
وبالفعل ليس لدينا 50 عامًا حتى نتحول، ولكن لدينا جيل شاب واعد كما ذكر د. إحسان. السؤال المهم هو: كيف وليس متى يمكننا تحقيق الميزة التنافسية؟ بمعنى، كيف يمكننا استثمار وتطوير مواردنا المادية والبشرية الوطنية المتاحة لتحقيق الميزة التنافسية التي سلطت الورقة الرئيسة الضوء عليها؟
وفيما يلي بعض المقترحات التي قد تسهم في تحقيق التنافسية التي نطمح لها:
- تقييم الميزة النسبية التي نملكها حاليًّا بالمقارنة مع الدول ذات التنافسية العالية.
- يجب أن يتم معرفة وتحليل القدرة التنافسية التي نملكها حاليًّا بالمقارنة مع الدول ذات التنافسية العالية.
- وضع الخطط التي تُركِّز على الاستفادة من وفرة المورد المادي لتنمية المورد البشري الوطني؛ وذلك لتحقيق الاستثمار في المورد البشري الوطني الذي يعتبر علميًّا ميزة تنافسية للدول.
- الاهتمام بتطوير البيئة التنظيمية التي تضمن استدامة الاستثمار في المورد البشري الوطني.
- التركيز على جودة التعليم ومواكبته لمتطلبات سوق العمل المحلي والدولي، حيث إن العمل في المستقبل لن يكون مربوطًا بحدود جغرافية؛ لذا يجب علينا العمل على تأهيل موردنا البشري لهذه المرحلة.
- دعم الابتكار في تطوير المنتجات والسلع المحلية ذات الميزة النسبية وتسويقها محليًّا وعالميًّا.
ʘ التعقيب الثاني: أ. محمد بن فهد العمران (ضيف الملتقى)(*):
تضمنت ورقة د. إحسان بو حليقة تعريفاتٍ وافيةً وتحليلات مبسطة عن موضوع الميزة التنافسية، والذي يُمثِّل أحد أهم التحديات الاقتصادية التي تواجه اقتصاد المملكة حاليًّا ومستقبلاً، إنْ لم يكن أهمها على الإطلاق، خصوصًا وأن موضوع تنافسية الاقتصاد السعودي يعتبر في واقع الحال جوهر رؤية المملكة 2030 دون مبالغة.
لقد عاش الاقتصاد السعودي لعقود من الزمن يعتمد في تنافسيته من منظور القطاع العام على إنتاج النفط، ومن ثَمَّ تصدير الفائض من الإنتاج للدول المستهلكة حول العالم مستفيدًا من تكاليف الإنتاج والشحن المنخفضة وهوامش الربح المرتفعة، ومن منظور القطاع الخاص كان يعتمد على الصناعات المحلية المدعومة من الدولة (حفظها الله) سواء كان على شكل قروض شبه مجانية تقدِّمها صناديق التنمية أو مواد أولية مدعومة من الدولة أو التزام الدولة بشراء المنتجات النهائية بأسعار محددة مسبقًا، لكن هذه التنافسية المعتمدة على “الريع” حتمًا لن تستمر بهذا الشكل إلى الأبد، حتى وصلنا الآنَ إلى مرحلة إعادة الهيكلة الاقتصادية الشاملة، والتي نعيشها اليوم.
أوضح د. إحسان في ورقته أهمية الميزة التنافسية الوطنية، ووجود علاقة طردية تربط بين القدرة التنافسية والكفاءة، وهو ما يدل على أهمية الكفاءة الإنتاجية لتحقيق الميزة التنافسية؛ لهذا السبب نجده ركَّز كثيرًا على ضرورة رفع “الإنتاجية” المتدنية، والتي تمثل عقبة للتحول من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج ومتنوع، وهذه مقومات لا يختلف عليها أحد. وحتى ندرك أهمية رفع الإنتاجية، لكم أن تتخيلوا شكل الناتج المحلي الإجمالي للمملكة كمتوسط للفرد الواحد من دون احتساب الإنتاج النفطي، وعندها سنجد أن متوسط إنتاجية الفرد الواحد في المملكة في حقيقة الأمر عند مستويات متدنية ومخجلة إذا ما تمت المقارنة مثلاً مع إنتاجية الفرد في دولة من دول العالم الثالث.
وللتوضيح، فإن الناتج المحلي الإجمالي للمملكة في 2018م بلغ نحو 782 مليار دولار، في حين بلغ متوسط الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد نحو 24 ألف دولار في السنة، وهذا يضعنا في المرتبة 58 عالميًّا بحسب تصنيف صندوق النقد الدولي، بينما عندما لا نحتسب الناتج المحلي النفطي، ونقوم بإعادة احتساب متوسط الفرد الواحد للناتج المحلي الإجمالي غير النفطي (وما يمثِّل أكثر من 99% من عدد السكان في المملكة)؛ فسنجد أن المتوسط سيصبح 13,4 ألف دولار فقط وسنصبح في المرتبة 90 عالميًا، خلف دول مثل كوستاريكا وبوتسوانا وسورينام، تفوقنا في متوسط إنتاجية الفرد الواحد مع الأسف الشديد.
النقطة المهمة الأخرى أيضًا هي العلاقة بين رفع الإنتاجية وإزالة التشوهات الحالية في سوق العمل في ظل وجود جيل من الشباب السعودي الواعد تحت سن 30 عامًا، وأهمية إزالة هذه التشوهات من خلال إيجاد فرص عمل تُمنح للموارد البشرية السعودية المؤهلة والماهرة؛ ولهذا نجد أن الرؤية السعودية 2030 ارتكزت في كل برامجها ومبادراتها بشكل أساسي على الشباب السعودي كخيار إستراتيجي لا مفر منه، في حين نترقب جميعًا ما ستفعله وزارة العمل بالتعاون مع القطاع الحكومي والقطاع الخاص في القضية الجوهرية المرتبطة بالميزة التنافسية، ألا وهي خلق “فرص عمل” للشباب السعودي المؤهل والماهر.
ʘ المداخلات حول القضية:
- مفهوم التنافسية وعواملها الأساسية:
في تصوُّر د. سليمان الطفيل، فإن الورقة الرئيسة قد ضيَّقت مفهوم التنافسية وحصرتها في تحقيق الإنتاجية. ومع أهمية الإنتاجية لكن يجب ألا يغيب عنا ما سبق وأكدت عليه الورقة نفسها من ضرورة التفريق بين مفهومي التنافسية والمنافسة؛ فالأول يُعبِّر عن مجموعة كبيرة من القيم والمبادئ والممارسات والبرامج والسياسات، في حين يعبِّر الثاني عن الماديات والخدمات وجودتها وإمكانية توليدها وإنتاجها. ولهذا لا يقتصر مفهوم التنافسية على إنتاجية المصنع بالسلع أو إنتاجية التعليم بالأفكار أو إنتاجية الصحة بالعافية؛ بل بالتقدُّم الملموس نحو الأفضل والأفضلية في الاختيار بين عدة بدائل متاحة. فإذا تم اختيار المملكة العربية السعودية كوجهة استثمارية أو تعليمية أو تدريبية من بين مجموعة كبيرة من الدول؛ فذلك يعني أننا حقَّقنا التنافسية في جزء من الأفضلية وليس مطلق الأفضلية، وقد حددت مؤشرات التنافسية مجموعة مقاييس لذلك.. ورؤية المملكة 2030م تستهدف التقدم في مؤشر التنافسية إلى أن تكون من بين ال 10 دول الأولى في التنافسية العالمية بدلاً من الرقم 25 الحالي. أيضًا فإن تصوير د. إحسان الإنسان كالآلة حتى نُحقق التنافسية بقوله: “إن التحول الأهم هو تحول مواطنينا إلى آلة ضخمة للإنتاج ولتوليد القيمة ولتعزيز الميزة التنافسية لمنشآتنا ولأنشطتنا وقطاعاتنا ولاقتصادنا ككل”، فمع تأكيد كاتب الورقة الرئيسة على أهمية العنصر البشري الماهر في دفع عجلة الاقتصاد وتحقيق التنافسية إلا أنه ظلم الإنسان بجعله آلة لذلك. فكيف يمكن أن نُحقِّق جودة الحياة والحياة الكريمة للإنسان ونحن ننظر له كآلة صماء تعمل في ترس كبير يقودها ويطحنها ليحصل على تنافسية هشّة وفارغة من الإنسانية والأفضلية التي منحه الله إياها على باقي المخلوقات؟ يُضاف إلى هذا أن التنافسية الهوجاء جعلت من البشر أدواتٍ لتحقيق مآرب دول مادية استغلتهم واستعبدتهم منذ الأزل وإلى اليوم، ولكن بأشكال أخرى كما هو الحاصل في فتح أبواب الهجرة الشرعية وغير الشرعية بعد أن افتعلت المجاعة والحروب في بلدان فقيرة ونامية عديدة من الأرض. وقد أوصلت هذه التنافسية الهوجاء أكبر دولتين في الاقتصاد على وجه الأرض هما أمريكا والصين لحرب تجارية، وليس إلى تدافع الدول بتعليم أبنائها ودعم صادراتها كما جاء بالورقة الرئيسة. وأخيرًا، فقد طالب د. إحسان بالتخلي عن عبارة التنوع الاقتصادي واستخدام عبارة (الميزة التنافسية الوطنية) دون توضيح مبرر الاستعاضة بمفهوم أساسي في الفكر الاقتصادي وهو (التنوع الاقتصادي) -الذي يُحقِّق العديدَ من المميزات الاقتصادية، أهمها: الأمان الاقتصادي، والتوظيف والاستغلال الأمثل للموارد -واستبداله بمفهوم ضيق لا يمكن جعله بديلاً للتنوع، وهي عبارة (الميزة التنافسية الوطنية)، والتي كان الأولى أن تكون الميزة التنافسية العالمية كما تطالب به رؤية المملكة 2030.
ومن جانبه أوضح د. إحسان بو حليقة أن استخدامه لكلمة آلة ليس من باب الاستعباد والتخلي عن الإنسانية وجودة الحياة، بل بقصد الإتقان وتجويد العمل للارتقاء بإنتاجيته، وهو من باب التركيز على تكامل عناصر الإنتاج جميعًا؛ إذ يبدو أن العنصر البشري لدينا هو ما يجذب الإنتاجية للخلف. أما دعوته لتجاوز التنوع والذهاب للتنافسية، فهي تتصل بالمطلب والهدف، فالتنوع ليس هدفًا نهائيًّا، بمعنى أن التنوع في حد ذاته قد لا يُحقِّق لنا النمو الاقتصادي وبالتالي الازدهار؛ ولذا فإن ما نريده لأنشطتنا الاقتصادية أن تمتلك ميزة تنافسية حتى تجلب مكاسب للاقتصاد؛ فمثلاً، إنْ قلنا إننا نريد التنويع الاقتصادي والتوسع في السياحة، فإن ذلك لن يتم ما لم يمتلك قطاعنا السياحي تنافسية أعلى من الدول المجاورة.
أما د. مساعد المحيا فلاحظ أن د. إحسان في مفهومه للتنافسية يقول إنها تعني امتلاكك القدرةَ لبيع ما تُنتج! وليس كل مُنتِج قادر على بيع ما ينتجه. ثم يُفرِّق بين الميزة النسبية والتنافسية، ويربط ذلك بالنفط حيث هو ميزة نسبية، أما التنافسية فأمرها مختلف، والفارق بين الميزة التنافسية والميزة النسبية كالفارق بين الكادح والوارث. ود. احسان هنا يركِّز على أن ما نتوهمه قدرة تنافسية من خلال ما أفاء الله به علينا من النفط هو لا يمكن وصفه بأنه بيئة تنافسية؛ ولذا فإن معظم التساؤلات في هذا الشأن تدور حول مَن هم الذين يستطيعون إحداث فارق عبر إنتاجيتهم وجهودهم، وبماذا سنتنافس مع الآخرين وواقعنا في غالبه الاستهلاكي كالإسفنجة التي تمتص كلَّ ما حولها، ونحن لم نواكب في تعليمنا طموحاتنا؟
وتساءل د. نبيل المبارك: بماذا نريد أن نُحقِّق التنافسية أو ننجح فيها؟ ما هي المنتجات أو الخدمات التي يمكن من خلالها أن نتفوق على الآخرين أو نتميز بها؟ وبالذات أننا نشتكي من تدني مستوى إنتاجية العنصر البشري المحلي حتى الآن على الأقل. كما أن لدينا تجاربَ ناجحة في خلق بيئات إنتاجية بجودة عالية، من شباب الوطن في السبعينيات والثمانينيات الميلادية، وإن كانت محدودة. كيف لنا أن نبني على تلك التجارب من خلال برامج التحول لتكون أعم وأشمل؟ أيضًا، فإن المملكة بلد مترامي الأطراف، ولدينا تنوُّع كبير جغرافيًّا وحضاريًّا، وثروات بشرية مهملة ما لم تتجه للمركز، ما هو مشروع “تنمية الأطراف” المناسب للمساعدة في زيادة التنافسية عالميًّا للمملكة ككل؟ كذلك فإنه حتى الآنَ لم يتضح كيف هو وضع القطاع الخاص، فحاليًّا يمرُّ بعملية إعادة هيكلة، ولكن لم تتضح معالمها، رغم أنه يُفترَض أن يكون قطار المرحلة حسب رؤية 2030، فهل يتم ذلك من خلال الهدم ثم البناء، أو من خلال التطوير والهندره؟ بعض المسؤولين الحكوميين لا يرون أملاً في القطاع الخاص كما هو الآن، ولا بد من إحلال. والبعض لديه رأي متفائل، وأنه سوف يتغير؛ لذا نجد أن بعض السياسات تتجه للهدم والبناء من جديد، والبعض الآخر يعمل على التطوير.
وردًّا على هذه التساؤلات المطروحة، أشار د. إحسان بو حليقة إلى أنه يتفق بأن من المهم بالفعل الإجابة عن أسئلة أساسية نتعرف من خلالها على خياراتنا، لكن في الوقت ذاته لا ينبغي أن يغيب عن اهتمامنا أن الاقتصاد السعودي يمرُّ حاليًّا بمرحلة تحوُّل، وأن المبادرات الاقتصادية الكبرى هي في يد مؤسسات حكومية، وفي مقدمتها صندوق الاستثمارات العامة. فضلاً عن برنامج التخصيص وما سيجلبه من تغيير ليس فيما سينتقل من خدمات للقطاع الخاص فحسب، بل كذلك الانفتاح الاقتصادي لتلقي استثمارات أجنبية.
في حين أشار د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن التنافسية بدأت في القطاع الخاص ولها معاييرها الخاصة، ثم انتقل المفهوم إلى تنافسية الدول وحددت لها معايير مختلفة، ولقياس تنافسية الدول هناك محوران رئيسيان هما: معايير التنمية البشرية، ومعايير البنى التحتية. وفي أغلب التقارير تُعرف التنافسية بأنها سعي الدول إلى الاستغلال الأمثل لكافة مواردها من أجل تحقيق الرفاهية لشعوبها (التنمية المستدامة)؛ وذلك باتباع أفضل الأساليب والممارسات. كما حدَّد دليل التنافسية العالمي (Global Competitiveness Index GCI) معدّلاً مدروسًا لعوامل مختلفة والتي يقيس كل منها مظهرًا مختلفًا من التنافسية، وهذه العوامل مجموعة في أعمدة التنافسية الاثني عشر، وهي:
s المؤسسات.
s البنية التحتية.
s البيئة الماكرو اقتصادية.
s الصحة والتعليم الأساس.
s التعليم العالي والتدريب.
s فاعلية سوق السلع.
s جدوى سوق اليد العاملة.
s تطور سوق المال.
s الجاهزية التكنولوجية.
s حجم السوق.
s تطور الأعمال.
s التجديد.
وهذه العوامل هي الركيزة الأساسية التي من خلال الاهتمام والعناية بها تتحقق ميزة تنافسية، إذ لا يمكن أن يعول عامل واحد أو اثنان أو حتى ثلاثة عوامل دون أن يحدث ترابط وتناغم بين هذه العوامل الاثني عشر التي تشمل المجالات التنموية وصولاً إلى تنمية مستدامة يتحقق منها الرفاه الاجتماعي والاقتصادي. والمؤكَّد أننا في المملكة العربية السعودية نحتاج – بل من الضروري -أن تتوافر لدينا حاضنات عالية ومتقدِّمة في عطائها التعليمي والفني والمهني، هذه الحاضنات إذا ما توافرت بالشكل والآلية المطلوبتين والمرجو منها تحقيق تنمية فعلية، من هنا سنلحظ أننا بدأنا في مسيرة تنافسية دولية تجعل من المملكة محورًا مهمًّا بين دول وصلت إلى الصدارة.
بينما أكد د. خالد الرديعان على أن هناك ما يشبه الإجماع على أهمية العنصر البشري (رأس المال البشري) ودوره في خلق التنافسية. كذلك فإن هناك مجموعة عناصر أساسية لا بد من توافرها لخلق الميزة التنافسية، وتتمثل فيما يلي:
1- النهوض بالشركات والمؤسسات الصغيرة، وقد يكون أحد أهم العناصر في هذا الجانب.
2- تغيير مسار التعليم؛ فالتعليم عنصر أساسي لتحقيق التنافسية ومن الضروري تغييره جذريًّا؛ فبدلا من إكساب الطالب معارف فإنه يلزم إكسابه مهارات تساعده على شق طريقه في الحياة. والاعتقاد أن نظمنا التعليمية بحاجة إلى تغيير مسارها. ربما يكون هناك معوقات تقف في وجه التغيير، ومنها رسوخ بعض القيم الاجتماعية والخوف من التغيير، والاعتماد على الدولة؛ وهي الأمور التي تُعَدُّ الآن خارج السياق التحديثي.
3- إسراع وتيرة الخصخصة؛ فالخصخصة ليست عملية اقتصادية فحسب، ولكنها كذلك وسيلة لغرس قيم جديدة تسهم في تغيير الاتجاهات والأفكار ولا سيما أننا نمارس اقتصادًا حرًّا.
4- إيجاد إدارة فاعلة ومرنة مواكبة للرؤية ومتطلباتها؛ فالمملكة -ولله الحمد -زاخرة بالإمكانات والموارد والكفاءات البشرية، والمستقبل مطمئن وواعد رغم كل شيء، وكل ما نحن بحاجة إليه هو توجيه هذه الموارد والإفادة منها، وهنا تأتي الإدارة كعنصر رابع في عملية خلق التنافسية.
وأكد د. إحسان بو حليقة على أن أهمية العنصر البشري ليست محل نقاش، فالمهم هو كيف نُوظِّّفه لدعم تنافسية الاقتصاد. فمادام لدينا رؤية ومستهدفات للرؤية وخط نهاية للرؤية، فأحد الأسس هو استغلال المورد البشري الاستغلال المتناغم والمتكامل مع تحقيق المستهدفات. والعنصر البشري مرتكز لا غنى عنه، وتحقيق التنافسية لن يتأتى عبر الاعتماد على استجلاب رأس المال البشري، بل عبر استنباته.
ومن ناحيته، اهتم د. صدقة فاضل بضرورة توفر الإدارة الشفافة الخاضعة للمساءلة الحازمة والجادة؛ فكل تجارب التنمية في البلاد النامية بخاصة تطلبت إدارةً نزيهةً مسؤولة يمكن مساءلتها ومحاسبتها.
- الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية ومتطلبات تحقيق التنافسية:
تساءلت د. نوف الغامدي: ما طبيعة التحوُّل الذي تعيشه المملكة من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد تنافسي؟ وماذا ينقصنا لنُحقِّق هذه الغاية؟ وفي هذا الشأن، ذهب أ. محمد العمران إلى أننا بدأنا نرى الإرهاصات الأولى لنتائج الإصلاحات الهيكلية الشاملة لاقتصاد المملكة، وبشكل إيجابي فاق التوقعات، وهذا رائع، ويتمثل ذلك بشكل واضح في نمو الإيرادات غير النفطية. وقد ذكرت بعثة صندوق النقد الدولي أن الإيرادات نمت بنحو 100٪ تقريبًا خلال عامين فقط من مستويات 160 مليار ريال إلى نحو 300 مليار ريال حاليًّا، وفي نسبة تمثيل الناتج المحلي غير النفطي بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي من مستويات كانت أقل من 30٪ إلى نحو 60٪ حاليًّا، وأكد ذلك وكالة فيتش العالمية وميزانية المملكة. لكن المهم دائمًا هو ما تطرق له د. احسان في ورقته عن ضرورة رفع الإنتاجية وتحديدًا من جانب المواطنين، وعندها نستطيع أن نخلق اقتصادًا تنافسيًّا حقيقيًّا ومستدامًا.
واتساقًا مع ذلك، استشهد د. زياد الدريس بما جاء في مذكرات مهاتير محمد، والتي أوضحت ملمحًا من ملامح انطلاق ماليزيا نحو 2020، حيث قال: “بعد قرن ونصف القرن من التدخل البريطاني ثم الحماية البريطانية لم يعُد لدينا سوى القصدير والمطاط لنصدره غداة استقلالنا في العام ١٩٥٧م. كانت سوقنا المحلية صغيرةً ودخل الفرد لدينا لا يكفي لدعم جهود التصنيع، وبدا في الظاهر أنه محكوم علينا أن نظلَّ دولة نامية فقيرة ما لم تخترق منتجاتنا الصناعية الأسواق العالمية. وكيف نفعل ذلك؟ نحن في حاجة إلى ماليزيين مغامرين، إلى رجال أعمال مجازفين بحق، متعهدين أذكياء يلمحون الفرص ويحسبون المخاطر ويزدهرون بتحقيق نتائج مربحة، ويتعين على الحكومة توفير التشجيع وتعبيد الطريق”. أضاف د. إحسان بو حليقة: إننا أيضًا بحاجة لبنية تحتية دافعة وأجهزة حكومية رافعة، وبحاجة إلى تحفيز الرياديين، ودفعهم لمقدمة الصفوف، ليصبح الصف الأول للمنتجين والمبدعين والمخترعين وما يجلب قيمة ويولِّد وظائف. عندما تختلط الاهتمامات يخرج لك خلطة ليست بالضرورة خلطة التنافسية. وبإيجاز، فإن التنافسية نُحقِّقها بقدر هائل من الانضباط والتركيز على توليد القيمة”(*).
وفي تصوُّر د. نوف الغامدي، فإن الدول تصل إلى مراتب التنافسية العالمية عندما يصبح على منتجاتها المحلية إقبال من باقي دول العالم الأخرى. فتحقيق الميزة التنافسية العالمية المستدامة يتطلب:
– تشجيع الأيدي العاملة الماهرة، وتوظيف الكفاءات المؤهلة.
– دعم الابتكارات والاستثمار في مجالات الاختراعات لتحويلها إلى منتجات عملية على أرض الواقع قابلة للاستخدام والاستفادة منها.
– التحليل المستمر للواقع المعاصر، وتطوير حاجات المجتمعات الحديثة لتحسين المستويات المعيشية لها، وتلبية متطلبات الأسواق العالمية لتحقيق التقدم والازدهار وزيادة الدخل الوطني.
وبدوره أكد أ. محمد العمران على أنه عندما نرتقي بمستوى إنتاجية الفرد إلى مستويات مقبولة دوليًّا، وعندما يتحقق ذلك من مواطنين سعوديين، عندها نستطيع تحقيق الميزة التنافسية إنْ كانت على شكل تكلفة أو تسعير منخفض أو منتجات مميزة أو ذات نوعية عالية… إلخ.
ومن جانبها تساءلت د. وفاء طيبة: هل الخطوات التي تمت إلى الآن لحل مشكلة البطالة في 2030 تسهم في رفع التنافسية للمملكة، أم أننا في الواقع نحوِّلها من بطالة إلى بطالة مقنَّعة ويظل مستوى التنافسية كما هو؟ فالبطالة المقنعة تبقى عاملاً من أهم عوامل انخفاض الإنتاجية. وذهبت د. نوف الغامدي إلى أن ما يحدث في الأغلب إحلال للوظائف وليس توليدًا؛ وهو ما يعني حلولاً مؤقتة لا تعالج الخلل في سوق العمل، قد نحتاج لتوليد وظائف تتواءم مع إستراتيجيات ومخرجات الرؤية، وبالتالي نظام تعليمي مبتكر يتواكب مع معطياته ووظائف المستقبل. وأضافت د. وفاء طيبة أنَّ هناك حلولاً فعالة وناجحة لحل البطالة في كثير من الأحيان، ولكن هناك أيضًا حالات كثيرة يكون التوظيف إما خاطئًا ويقبله المتقدِّم للحاجة، أو يكون بهدف خفض نسبة البطالة فقط. وهنا تكون هذه البطالة المقنَّعة ليست في صالح رأس المال البشري وما نتمناه في توجهاتنا الجديدة؛ ولذا يُفترَض أن نعرف أهدافنا في الرؤية الجديدة، وما هي الوظائف التي نحتاج لتوليدها، وتهيئة الأفراد وإعدادهم لها وتوظيف الشخص المناسب في المكان المناسب.
– أما د. إحسان بو حليقة فذهب إلى أن الإجابة عن التساؤل حول أسباب انخفاض الإنتاجية محفوفة بالآلام، وليس من الإنصاف أبدًا إلقاء المسؤولية على الشاب، أو حتى على نظام التعليم بمفرده. هي جملة أمور، منها أن سلوكنا الاجتماعي-الاقتصادي لا يُعير الإنتاجيةَ أيَّ اهتمام.. قضية الاقتصاد الاستهلاكي لا تعنينا، وإنْ تحدَّثنا عنها فمجرد حديث شفهي لا يتبعه -غالبًا- فعل! وبصورة أكثر وضوحًا، تعامل القطاع الخاص مع الموارد، الكفاءة الداخلية ليست ضمن الحسبة. المحصلة أن القيمة المضافة منخفضة مقارنة بالاقتصادات المنتجة، والفجوة بيننا وبينها تتسع. التصور مثلاً لو أن القطاع الخاص اتجه للأتمتة، ولاستخدام القليل من العمالة، وأن يكون جَلْبُنا للعمالة إجمالاً لتعزيز الإنتاج وليس لتعزيز الكسل؛ لكان وضع الإنتاجية -وبالتالي التنافسية-أفضل بكثير مما هو عليه الآن. أما الخبر المفرِح هو أنه لن يصح إلا الصحيح؛ فحتى نرتقي في سُلَّم التنافسية، لا بد من أن نُحسِّن إنتاجيتنا، ونحن بالخيار. وفي ضوء ذلك، تساءلت د. وفاء طيبة: لكي نصل إلى الحل، وكيف نتغلب على انخفاض الإنتاجية؟ يجب أن نسأل ما هي الأسباب النفسية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية التي أدت إلى انخفاض الإنتاجية؟ وبدوره أشار د. إحسان بو حليقة إلى أن تنمية الإنتاجية تحدٍ ضخم، وهو يتطلب تمحور العملية الإنتاجية برمتها حول مسألة رفع الكفاءة باستمرار؛ أي استخدام أقل ما يمكن من المدخلات والسعي للحصول على أعلى قدر من المخرجات وبأفضل جودة. وهذا الأمر – كما هو واضح- يشمل كلَّ عناصر الإنتاج بما في ذلك البشر والآلة وأساليب الإنتاج. وعلينا تذكُّر أن إنتاجيتنا منخفضة لاعتبارات عدة، منها: اللجوء بكثافة للعمالة الوافدة منخفضة المهارة والأجر، وعدم اللجوء إلى إحلال رأس المال من خلال اقتناء التقنية والأتمتة للحد من العمالة منخفضة المهارة. إنْ أردنا تحسين الإنتاجية فعلينا وضع مبادرة وطنية كبرى للنهوض بالإنتاجية، فالفجوة بيننا وبين مجموعة العشرين هائلة.
وفي تصوُّر د. نوف الغامدي، فإن الاقتصاد يمتلك ميزةً تنافسية مطلقة، متى كانت الدولة أكثر إنتاجيةً، بينما عندما يكون الاقتصاد يرتبط بإنتاج سلعة أو خدمة معينة، فإنه يكون للاقتصاد ميزة تنافسية في إنتاج السلعة أو الخدمة إذا كان بإمكانه إنتاج المزيد منها باستخدام كمية أقل من المدخلات (عمالة – وقت – مواد خام – رأس مال – عوامل إنتاجية أخرى) مقارنة مع البلدان الأخرى. وعليه، فإن الميزة المطلقة لا تأخذ في اعتبارها سوى الإنتاجية، وتتجاهل تمامًا أيَّ مقياس للتكاليف، وبالتالي من الخطأ الاعتقاد بأن امتلاك الاقتصاد لميزة مطلقة في إنتاج سلعة معينة، يعني بالضرورة أنه يمكن إنتاجها بتكلفة أقل، فوفق مفهوم الميزة المطلقة، نفقات إنتاج السلع تتأثر فقط بكمية العمل المبذولة في إنتاجها.
- التنافسية والإنتاجية في ضوء رؤية 2030:
تساءلت د. نوف الغامدي: كيف يمكن الوصول برأس المال البشري إلى التنافسية والعمل على تطوير رأس المال المعرفي ليتواكب مع هذا التحول ويتماهى مع رؤية 2030 بفاعلية؟ وفي هذا الإطار، أوضح د. إحسان بو حليقة أن التنافسية والإنتاجية مرتبطان، فلن تجد على المستوى الكلي اقتصادًا منافسًا إنْ لم يكن يمتلك إنتاجيةً أعلى من منافسيه، وكذلك الأمر بالنسبة للشركات. وهناك إنتاجية على مستوى عوامل الإنتاج، ومنها إنتاجية العامل. وعند الحديث عن تنافسية الدول، فإنه لا يمكن الحديث عن عنصر واحد فقط، فالعناصر المحددة للارتقاء بالقدرة التنافسية للدول متعددة، ولا بد أن تتكاتف معًا ليحقِّق البلد تقدُّمًا. ولذا، نجد أن مؤشرات التنافسية العالمية هي عبارة عن محصلة مجمَّعة لعدد كبير من العناصر. إذًا، اهتمامنا لتحسين التنافسية ينبغي أن يكون شاملاً حتى تتضافر الجهود وتتكامل، لا أن تتعارض وتتناقض.
أما د. خالد الفهيد فيرى أنه بالإضافة إلى أهمية رفع كفاءة الموارد البشرية، يجب رفع الكفاءة الإنتاجية للوحدة المنتجة والحاجة إلى الاستغلال الأمثل للمقومات الطبيعية.
وتساءل د. حسين الجحدلي: كيف احتوت رؤية المملكة على عناصر التنافسية وسعت لتحقيقها؟ وبدوره ذكر د. إحسان بو حليقة أن للرؤية 96 هدفًا، محصلتها جميعًا سيكون مؤثِّرًا على القدرة التنافسية للمملكة العربية السعودية.
وأضاف د. إحسان بو حليقة أنه يتحقق رفع الإنتاجية بأن يُصبِح ثقافةً أو “اعتقادًا عامًّا”؛ بمعنى أن كل فرد منا عليه مسؤولية دعم الإنتاجية، على أقل تقدير من باب الحفاظ على الموارد، فهي نادرة مهما كثرت. وكذلك أن يصبح العمل له القيمة العليا في المجتمع، بمعنى أن يحرص الشاب على أن يعمل، لا أن يضع اشتراطات، باعتبار أن العمل هو الطريق لتحقيق تطلعاته وأمنياته. وسيأخذنا هذا إلى أهمية وضع تنظيمات، ودور للجهات الحكومية في تنفيذ تلك التنظيمات، وسيأخذنا كذلك لمسؤولية منشآت القطاع الخاص للارتقاء بالكفاءة وبالتالي الإنتاجية، وسيأخذنا إلى بيوتنا ودور الأسرة في زرع قيم الحفاظ على النعمة والاعتماد على النفس، بدلاً من تعبئة ذهن الشاب اليافع بأنه الأهم ومن حقه ما ليس من حق الآخرين، فيدخل الحياة مهايطًا فتطحنهُ، وتعيد تأهيله بثمن غالٍ هو سنواتٍ من عمره.
وذكر د. سليمان الطفيل أنه في ظل النمو والتغيرات الاقتصادية الدولية المتلاحقة، هناك سباق محموم نحو تحقيق أعلى درجات التميُّز والأفضلية وكسب أعلى درجات التقدم، وبخاصة ما نشاهده بين الدولتين العُظميين أمريكا والصين، وكذلك بين الدول الصناعية وعلى رأسها اليابان وألمانيا وفرنسا، كما أن هناك تنافسًا بين الدول النامية والدول العربية والخليجية، والتي صمَّمت لنفسها رؤى اقتصادية معظمها في 2030، واضعةً مستهدفات وبرامج طموحة. لكن ما يميز تلك الرؤى هو ما يتوافر لديها من مقومات أساسية ومقومات مكتسبة تجعلها في وضع تنافسي أفضل. لقد عبر سمو ولي العهد محمد بن سلمان عن “التنافسية” التي تطمح لها المملكة أمام قمة العشرين بقوله: “نحاول أن نعمل الأفضل لبلدنا”. والأفضلية تعني تحقيق التنافسية؛ إذ كيف تكون مُفضَّلاً عن غيرك إلا بتحقيق شروط ومعايير التنافسية. ولهذا صُمِّمت معظم أهداف رؤية المملكة 2030 -إنْ لم تكن جميع الأهداف -للوصول إلى التنافسية، وهي أن نكون الأفضل في مجالات عديدة، بدءًا بالإنسان وانتهاءً بالإجراءات والسياسات والحوافز… إلخ. إن تحقيق التنافسية غاية أسمى في مبادئنا وقيمنا، وطبَّقها الرعيل الأول في عصر النبوة حتى استطاعوا أن يفتحوا الأوطان وينشروا مبادئ العدل والسلام والإسلام. لكننا –للأسف -تخلَّفنا عن تطبيق معايير التنافسية لقرون عديدة.. ففي شرعنا الحكيم قبل أربعة عشر قرنًا نزلت آية “التنافسية” بقوله تعالى: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾(*) وإنْ كانت تعني فيما تعنيه السباق إلى الغاية العظمى وهي “الجنّة”، لكنها تُعطي مدلولات أعمق نحو تنافسية أعمالنا كأفراد أو منظمات أو حكومات أو دول. وقد جعَل لذلك قيمًا أساسيةً، أهمها: “الإتقان”، وكثير من الأحاديث النبوية تؤكِّد على إتقان العلم، فالتقانة مرتبطة بالجودة، والجودة مرتبطة بالتنافسية. فكلما أُتقِن العمل زادت الجودة، وكلما تحسَّنت الجودة زادت التنافسية، وبالتالي تحقَّقت “الأفضلية”.
وذكر د. مساعد المحيا أن د. إحسان أشار في الورقة الرئيسة لرؤية المملكة 2030 وأنها طموحة، بيد أنه أكَّد أن “إنتاجيتنا متدنية، فهي متراجعة من جهة ودون نظيراتها في مجموعة العشرين بما يُمثِّل فجوة، وكذلك عند مقارنتها بمجموعة دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وهكذا، نستطيع القول إن الإنتاجية هي العقبة الكأداء أمام تحقيقنا ميزة تنافسية نبزُّ بها الآخرين”. هذه الإنتاجية المتدنية تحتاج فعلاً أن نتحول من بيئة تستهلك ما لا تَصنع إلى أن نصنعَ ما نستهلك بخطوات تدريجية. والظن أن التعليم وسُبل التوظيف هي المسار الذي لا بد وأن نهتم به وبتطويره لمصلحة الوطن ومواطنيه. كما ركَّز د. إحسان على أننا حتى نُحقِّق مستهدفات الرؤية 2030، نحتاج إلى تطوير قدرتنا التنافسية، ولتطوير ميزتنا التنافسية نحتاج لمواردنا البشرية أن تكون هي ميزتنا التنافسية المستدامة، وفي الحقيقة، إنَّ الاستثمار في الموارد البشرية هو السبيل الذي يمنحنا قدرةً تنافسية؛ فالمباني والمصانع التي نقوم بتركيبها لا قيمة تنافسية لها إنْ لم يقم بإدارتها وتشغيلها المواطن بكل فئاته. نحتاج فعلاً إلى بناء الفرد في أي تنافسية وطنية، ومنح هذا الفرد كلَّ ما يحتاجه من تعليم ومهارات وحقوق في مختلف المجالات، وهذا ما سيُحوِّله من فرد مستهلك إلى فرد قادر على العطاء والإيجابية الفاعلة. وفي تصوُّر د. مساعد المحيا فإنه -وللأسف – فإن غالب تنافسيتنا التي نتفوق اليومَ فيها تقوم على:
– حجم الاستهلاك مجتمعيًّا.
– الادعاءات غير المرتبطة بالواقع (الجامعات وتصنيفاتها أنموذجًا).
– السلبية الإنتاجية (حجم إنتاجية الفرد أنموذجًا).
لكن الواقع أن التنافسية تتطلب جهودًا تنسيقيةً وتكاملية يمكن لبرامج الرؤية أن تصنعَها وَفق أهداف مرحلية وعملية بعيدًا عن الحالات الانطباعية أو الشعور بالرضا وفقًا لمواد إعلامية مُضللة.
وفي تصوُّر أ. فائزة العجروش، فإنه متى ما تمَّ التركيز بشكل أكبر على الإنتاجية المتدنية (من أسبابها الإحباطات والتهميش في مجال العمل، وعدم العمل في نفس التخصص، بيئة العمل غير الملائمة.. وتتعدد المسببات ولا مجالَ هنا لذكرها كلها) لدى موظفينا وشبابنا والسُّبل الأنجح لعلاجها، وأهم الطرق الكفيلة بالقضاء على البطالة المقنّعة في أماكن العمل والاستغلال الأمثل لكل شخص؛ فهناك مَن هو جيد في كتابة التقارير، وهناك مَن هو جيد في تحليل البيانات، وهناك مَن هو متحدِّث بارع أمام الجمهور… إلخ؛ لذلك توظيف الشخص المناسب في المكان المناسب هو من أهم الاعتبارات عند التوظيف.. ومتى ما حقَّقنا ذلك بلا شك ستتبوأ المملكة مركزًا أعلى في التنافسية.
- التعليم والتدريب والتنافسية:
من وجهة نظر أ. فهد القاسم، فإن أيَّ حديث عن التنافسية في المملكة يجب أن يبدأ من المربع الأكثر صعوبةً واضطرابًا وتعقيدًا وهو التعليم، والذي بدون تحسينه ورفع تنافسيته تبقى جميع المبادرات الأخرى هامشيةً ولا تقدِّم حلولاً طويلة الأجل. والتعليم ليس “المعرفة” فحسب، وإنما التربية والمهارات وبناء الشخصية إضافةً إلى التعلُّم. وللأسف، فإن ملف التعليم لا يزال في “المعمل” ويخضع لتجارب الوزراء الذين تناوبوا على هذه الوزارة. ومن الضروري أن يخرج هذا الملف من مسؤولية الوزير إلى مجلس للتعليم، بحيث يكون دور الوزير فيه مقتصرًا على التنفيذ. وكلما كان المجلس متفرغًا، كان أدعى للنجاح.
وبدورها أكدت د. نوف الغامدي على أن التعليم له دور كبير في صناعة التنافسية، وليكتسب هذا التأثير ويتقلد هذا الدور المحوري؛ يجب أن يكون تعليمًا ذا جودة، يُحقِّق الأهدافَ ويلبي الطموحات، وتكون مخرجاته ذات جودة عالية تستطيع أن تُنافِسَ في سوق العمل العالمي، ويتمتع خريجوه بالحد الأدنى من الكفايات والمهارات والمعارف، وليس تعليمًا يؤدي دوره التقليدي.
وأشارت أ. بسمة التويجري إلى أن التحوُّل الكبير الذي تشهده بلادنا يستلزم منَّا جميعًا التركيز على الإيجابيات المصاحبة لهذا التحوُّل والتي تصبُّ في خلق “ميزات” تنافسية لبلادنا، حيث إن تنويع مصادر الدخل والتوجُّه لخلق صناعات إستراتيجية كالصناعات العسكرية مثلاً، وخلق صناعات جديدة لم نُولِها اهتمامًا من قبلُ مثل صناعة السياحة والترفيه والحج والعمرة؛ كلها ستُسهم في خلق ميزة بل ميزات تنافسية لبلادنا، كما أن الدولة تبذل جهودًا كبيرة في مجال صناعة الإنسان من خلال إتاحة فرص الابتعاث والتدريب وتحسين مستويات التعليم. وهذا ما يجب أن نُركِّز عليه بعيدًا عن مقولة ضعف الإنتاجية التي أثبت شبابنا في كل مكان أنها مقولة تفتقر إلى الكثير من الواقعية والموضوعية.
أما د. وفاء طيبة فأكدت على عبارة د. إحسان: “إن توليد فرصة عمل جديدة أمرٌ مكلِّف للدولة، وإنه لا يستقيم توليد فرص عمل جديدة إلا لمواطن جديرٌ بها”، كما ذهبت بخصوص ما ذكره د. عبد الله الحمود في مداخلته حول أعمدة التنافسية ال12 أن كثيرًا منها مرتبط ارتباطًا قويًّا بالإنسان وتنميته، وباقي الأعمدة يُنفذها الإنسان ويُعتمَد عليه أيضًا، فمهما حاولنا الالتفاف، فإن التعليم والتدريب ثم إعطاء الفرص المناسبة للخبرة، هو مربط الفرس، وعقل الإنسان ومهارته هما اللذان يديران التنافسية كلها؛ ولذا علينا بناء هذه العقول والمهارات. ولقد ساهمت جامعاتنا وكذلك برنامج الملك عبد الله للابتعاث في تطوير كفاءة جزء مهم من مواردنا البشرية، ولكن ما زالت هناك شكوى من أن هذه الموارد لا تجدُ المواقع المناسبة لها لكي تعمل وتُسهم في الإنتاجية بالقدر الصحيح، وأن كثيرًا منهم عاطلٌ أو على وظيفة ليست له أصلاً، لماذا لم ننجح في وضع الفرد المناسب في المكان المناسب؟ ولذا، فإنه قبل أن نسأل متى، يجب أن نسأل: ما هي الأسباب النفسية والاجتماعية والتربوية والإدارية والاقتصادية التي أفرزت هذه الإنتاجية المنخفضة؟ والاعتقاد أن النظر في كيفية بناء الشخصية السعودية هو الأهم في بناء الموارد البشرية. كذلك فإن التدريب المهني والتقني ضلَّ الطريق! وهو مهم جدًّا في موضوع الميزة التنافسية؛ فلو أننا استطعنا استغلال شبابنا كلٌّ حسب قدراته التي وهبها الله له؛ فإن ذلك سيكون الطريقَ الصحيح في التعليم والتدريب، ومن شبابنا مَن خلق الله فيه مهارة رائعة غير أكاديمية ولكنها تندثر لعدم تدريبها، ولأننا أجبرناه على دخول الجامعة أحيانًا كمسار وحيد مُعتبر اجتماعيًّا ومحترَم، وهذه نقطة مهمة؛ حيث إنَّ تحويل مسار التدريب المهني والتقني يعتمد كثيرًا على ما نُخططه ونرسمه لقبوله اجتماعيًّا، والذي قد يكون السببَ الرئيس في تأخُّر هذا المجال.
وتأسيسًا على ذلك، تساءلت د. نوف الغامدي: هل يعني هذا الحاجةَ إلى أن نعمل على مسارين: الأول أكاديمي، والآخر مهني، وبالتالي توازن مخرجات التعليم وسوق العمل؟ ومن جانبها أوضحت د. وفاء طيبة أن التعليم التقني والمهني يحظى باهتمام كبير في أوروبا، وأنه في ألمانيا وفنلندا مثلاً، يتوجه 60٪ من الطلبة له، وبالطبع يُشكِّل قوةً كبيرةً في رأس المال البشري لديهم. المسألة لدينا معقدة قليلاً؛ لارتباطها بموروث اجتماعي لا يُقدِّر مثل هذه التخصصات على أهميتها. ولذا، فالأمنية أن يكون لدينا – ونحن قادرون على ذلك- برنامج أو خطة متكاملة لدعم التعليم والتدريب التقني من جميع الجوانب، إضافةً إلى التوعية والإعلام بأهميته خصوصًا في المرحلة الحالية التي نريد فيها تنويعَ مصادر الدخل الاقتصادي للمملكة، وأن ذلك يمكن أن يكون مردودُه المادي على الشخص أيضًا مردودًا مرتفعًا، فضلاً عن تطوير مؤسسات التدريب نفسها، وربطها بالوظائف التي نعتزم توليدها، وتوليد هذه الوظائف بالفعل؛ فمن يتدرب يتخرَّج ليجد الوظيفة. من التجارب الناجحة أن بعض دول العالم الثالث انتهجت نهجَ فنلندا، وفي سبيل تغيير النظرة نحو التخصصات المهنية التقنية ربطتها بالجامعات، وأصبح الطالب في المرحلة الثانوية يختار إما مسارًا أكاديميًّا وإما تقنيًّا مهنيًّا، ثم يتوجه الطالبان لنفس الجامعة، وعند التخرُّج يكون جامعيًّا. يجب أن نخرج من نظام المصانع في تخريج المتعلمين إلى التعليم الفردي والاهتمام بالقدرات والمواهب مبكرًا، مؤسسة موهبة لا تؤدي هذا الدور بالشكل الفاعل.
وذهب د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن النظرة الاجتماعية تجاه التعليم المهني تغيَّرت إلى حدٍ ما، وأصبح مرغوبًا بعد أن كان مرفوضًا؛ لكن المشكلة في تدني كفاءة كليات التقنية لدينا وكثرة أعدادها دون أن نلحظ على خريجيها كفاءةً يمكن أن تتربع على وظائف سوق العمل المتعطش لمثل هؤلاء.
ومن جديد تساءلت د. نوف الغامدي: هل المطلوبُ الآنَ أن نتحول إلى التعليم الريادي والابتعاد عن ما يُسمَّى بالتعليم البنكي كما أسماه المفكِّر البرازيلي “باولو فريري” الذي أوضح في كتابه “تعليم المقهورين” أن التعليم القائم على تلقين المعلومات من المعلم، وحفظها من المتعلم واسترجاعها عند الامتحان، ما هو إلا تعليم بنكي نسبةً إلى عملية إيداع المال في حساب بنكي يُسترجَع عند اللزوم، هل يعني ذلك تشجيعَ التّعلم التنافسي الرقمي؟ فعلى سبيل المثال، فنلندا اليوم تحتل مركزًا قويًّا في التعليم، وهذا ما أظهره مؤشر التنافسية العالمي؟
وعقَّب د. خالد الرديعان بأن التعليم البنكي انتهى؛ فالمعلومة متوفرة الآنَ، وبكل يُسر، وقضية حشو الرؤوس بمعلومات لن يفيدَ. وثمة معوق آخر بجانب التعليم يتمثل في بعض المتوارثات الاجتماعية التي تُعيق الانطلاق، وهي ما يُفترَض أن يقوم التعليم الريادي بغرسها، إضافةً إلى تعلم المهارات الرئيسية. النظام الريعي وبنية المجتمع وثقافته كرَّست بعض هذه المعوقات، وبالتالي نحن أمام جيل جديد يحتاج إلى مَن يغرس فيه قيم الإنتاج والعمل والنظرة للأمور بطرق مختلفة.
في حين أشارت د. عبير برهمين إلى أنه عند الحديث عن الميزة التنافسية يجب أن نعرف واقعنا الفعلي دون رتوش وتشخيص الخلل، وأين نودُّ الذهاب. ما هي القيمة التنافسية التي نريدُ زيادتها على وجه التحديد؟ برامج ومحاور رؤية 2030 تُحدِّد لنا أين نودُّ الذهاب، ونريدُ أن نعرف الآلية المثُلى لتحقيق الأهداف. إذا اتفقنا أن الميزة التنافسية التي نريد أن نحقِّقها هي إنسان المملكة، وتحديدًا شبابه الذي يعتبره سمو ولي العهد ثروة الوطن، فلا مناص من أن يتم تمحيص كلِّ ما يتعلق بضعف إنتاجية الفرد، وكيف يمكن أن نرفعها بجودة وتميز، بدءًا بالتعليم الأكاديمي والمهني والتقني. وإذا أردنا أن نُطبِّق نفس الفلسفة التي تُطبِّقها فنلندا في أساس نظامها للتعليم الإلزامي حيث إنَّ لديها اتجاهين لخريجي الثانوية؛ أحدهما أكاديمي والآخر تقني، وكلاهما يمنح درجة بكالوريوس المؤهِّلة لنيل درجات عليا لمن أراد. لو أردنا تطبيق ذلك ستتغير حتمًا نظرة المجتمع تجاه الأعمال التقنية والمهنية. كما أنَّ مَن لا تسمح له ظروفه بإكمال دراسته الجامعية يمكنه الانخراط في سوق العمل مباشرة بعد الثانوية. علمًا أن التعليم الإلزامي والجامعي وما فوق الجامعي هو تعليم مجاني للمواطنين والمقيمين في فنلندا باعتبار أنه تمت الإشارة إليها، هذا جانب. وفيما يخص الابتعاث والمبتعثين يجب تقنين التخصصات التي يدرسونها لمهن المستقبل، واحتياجات الدولة واتجاهها خاصة أنها مرحلة تعليم عالٍ. المرونة مطلوبة في فتح تخصصات جديدة ومدمجة. ومن وحي اجتماع قمة العشرين كان من المفيد لو أُبرِمت بعض الصفقات التجارية والإستراتيجية التي تهتم بتوطين المعرفة وتنمية معارف الإنسان. فمثلاً، حبذا لو كان هناك اتفاق على تدريب عدد من الكوادر السعودية في مصانع سامسونج للجوالات على صيانة هذه الجوالات، خاصة أن المملكة من أكبر الأسواق المستهلكة للجوالات، وعندما صدر قرار توطين أعمال البيع والصيانة وقصرها على السعوديين فشلت التجربة؛ لأن الفرد السعودي ليس مؤهلاً تأهيلاً كافيًا. ابتعاث الكوادر السعودية للتدرب في بلد المنشأ يحفِّز الشباب ويُوسِّع آفاقهم، وقد نجد يومًا جوالاً صُنِع بأيدٍ سعودية. والحديث ينطبق على معظم السلع التي نستوردها. البنية التحتية لاستيعاب التخصصات والمهن الجديدة، يجب أن تواكب بعضها في رتم التغيير والتطور، فمن غير المعقول أن نبتعث شابًّا أو فتاة تدرس بالخارج في مجال الطاقة المتجددة مثلاً ويعود ذلك الشاب أو تلك الفتاة ولا يجدان مكانًا يعملان به، فيتجهان للجامعات ليقوما بالتدريس في تخصصات لا تمَّت لدراستهما بصلة، هذا لو وجدا مكانًا شاغرًا. إنَّ كل عنصر من عناصر تحقيق التنافسية ال 12 التي أوردها د. عبد الله تحتاج لوقفة ومعرفة واقعنا الفعلي فيها، ومن ثَمَّ العمل على منظومة متكاملة في نفس الوقت لتطويرها وسدِّ أوجه الخلل، ومن ثَمَّ رفع مستوى الجودة بها. هناك أمور تحتاج إلى نظرة شاملة ولا تنجح الحلول الجزئية لكل عنصر منها على حدة بمنأى عن العناصر الباقية.
واستطردت د. عبير برهمين بقولها: كلنا نعلم أن التعليم والتعلم يجب أن يتغير نهجُه. المعلم اليومَ ليس هو مصدر المعلومة بقدر ما هو مُحفِّز على التحليل المنطقي للأمور، وتوظيف المعلومة واستخدامها. عودًا على بدء، بما أننا أوردنا اسمَ فنلندا كمثال. حتى يحصل الفرد على وظيفة معلم، يحتاج أن يكون حاصلاً على درجة ماجستير وتدريب خاص بكفايات المعلمين، من ضمنها معرفته التامة بالتقنية وكيفية توظيفها في التعليم، ومن ثَمَّ يخضع لاختبار وتقييم من نظرائه المعلمين، وكذا من تلامذته قبل أن يكون على وظيفة معلم، وليس معلمًا في متوسطة أو ثانوية بل في المرحلة الابتدائية. هذه الصرامة والمعايير العالية لاختيار المعلم هي جزء من منظومة تعليم الفرد. ويمكن القياس على ذلك بالنسبة للعناصر الأخرى. فهناك البنية التحتية، وتصميم المدارس والفصول الدراسية الجامعية، وطرق التدريس. وحقيقة ما نلمسه في نظامهم التعليمي كان مرسومًا بدقة لإنتاج كوادر مميزة تعليميًّا ومهنيًّا وسلوكيًّا بحيث إنَّ جودة المنتج هي ناتج حتمي لهذه المنظومة المتكاملة.
وتعقيبًا على ما تطرقت إليه د. عبير حول نظام التعليم، وتحديدًا فيما يتعلق بتحقيق رؤية 2030، ذكر د. إحسان بو حليقة أن أحد أهم برامج الرؤية “تنمية القدرات البشرية” (وهو البرنامج الوحيد الذي يرأسه سمو ولي العهد)، صُمِّم ليتعامل مع جُلِّ الإحباطات المبينة في المداخلة، بما في ذلك التعليم المبكر ما قبل الابتدائي، وصلة التعليم بسوق العمل، ونقاط كثيرة سواها. أما فيما يتعلق بتجارب الدول الأخرى، فقد درست مرارًا وتكرارًا، وحان الوقت أن نُصلح تجربتنا.
وأوضحت د. وفاء طيبة أن التركيز على التعليم يرتكز على كونه بُعدًا مهمًّا من أبعاد التنافسية، وإذا اتفقنا أن الإنسان هو أساس مهم في التنافسية، فمن الضروري ألا نُركِّز على تعليمه وتدريبه فحسب، لكنَّ بناء الشخصية المنتجة مهمٌّ أيضًا، الشخصية المنضبطة والمثابرة والتي تتحمل المسؤولية، الوطنية، المخلصة، ذات الأفق الواسع، الملتزمة بالقوانين، المبدعة، القادرة على حل المشكلات. للأسف، التعليم منفصل عن التربية في مدارسنا، وهذه نقطة مهمة جدًّا للمراجعة، كيف نربي الشخصية السعودية المنتجة؟ فكلنا يعرف أن التربية لصيقة بالتعليم في الغرب لإنتاج الشخصية الوطنية. أيضًا، فقد اهتم د. حميد الشايجي بما تمت الإشارة إليه حول ضرورة بناء الشخصية المتكاملة؛ باعتبار أن القوة العلمية والمهنية وحدها لا تكفي، ويجب أن يقترن بها تعلُّم الأخلاق والقيم؛ كالإخلاص، والصدق، والأمانة، والإتقان. فالقوة وحدها لا تكفي. لذا، كان لزامًا ألا نُركِّز على جانب وننسى جوانب أخرى.
وأكدت أ. فائزة العجروش على أهمية دور الوالدين في تربية أبنائهم لإنتاج مثل هذه الشخصية جنبًا إلى جنب مع دور التعليم، وذلك بتنمية الأبناء على حبِّ الطموح وتنمية قدراتهم، وتحقيق ذاتهم للسعي للوصول إلى أعلى المراتب، وبصورة غير انتهازية، وتوصيتهم بعدم الركون إلى ما هُم عليه، والخروج من منطقة الراحة لمناطق الاستكشاف والتجارب العملية والعمل الجدي الذي يحمل في طياته حُبَّ ورفعة وخدمة الوطن المتزامن مع المنفعة الشخصية، كما أنَّ من المهم تبني الوالدين في تربيتهم لأبنائهم الاعتقاد العام الذي يجب أن يسود في المجتمع (رفع الإنتاجية يتحقق بأن يصبح “اعتقادًا عامًّا”)، وأن يصبح العمل له القيمة العليا في المجتمع.
وأخيرًا، وحول علاقة التعليم بتحقيق التنافسية، طالب أ. محمد الدندني بما يلي:
1- إعادة النظر في نظام التعليم، والنظر في احتياجاتنا وخُطط التنمية مع النظر لتجارب الآخرين ليس لنسخها ولكن للاستئناس بها وإيجاد الحلول، وفِي الوقت نفسه إيجاد آلية تجعل القائمين على سياسة التعليم قريبين من خُطط الدولة، وبالذات لرؤية 2030. والاقتراح هنا أن يكون لكل مشروع (المشاريع الإستراتيجية إنْ كانت تصنيعًا أو خدماتٍ) معهدٌ خاص به يُؤهِّل الأيدي العاملة المختصة، كما هي التجربة في أرامكو وسابك.
2- إعادة النظر في عدد الجامعات، وبالذات جامعات المناطق الجديدة. ليس بتقليلها، ولكن بربط دور الجامعات في المناطق الجديدة بما يُميِّز كل منطقة من موارد.
- أهمية ومجالات تدخل الدولة لرفع الميزة التنافسية:
أشار م. سالم المري إلى أنه غالبًا ما تُربط القدرة التنافسية بالكدِّ والجهد والإبداع في الأداء، وكأنما هي معتمدة على أداء الفرد، إلا أن ذلك غير دقيق، فإبداع الفرد جزءٌ بسيط من المسألة، ومن غير الممكن الاعتماد على إبداع الفرد كميزة تنافسية في واقع المملكة. ومما لا شك فيه أن لدى المملكة قدرة تنافسية كبيرة ولكنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقدرة الدولة على تنشيطها واستغلالها، ونستطيع القول إن نجاحها وفشلها يعتمدان على الدولة. ومن أجل النهوض بالبلاد والقفز بها إلى الأمام يمكن الاعتماد في البداية على الميزة النسبية المهمة للمملكة الناتجة عن وفرة بعض الخامات الضرورية لطيف واسع من الصناعات، مثل الطاقة (النفط والغاز والشمس) والبوكسايت والفوسفات واليورانيوم والسليكون، وانخفاض كلفة إنتاجها. وهذه الخامات محورية في صناعات رئيسة تتفرع منها صناعات ثانوية ومنتجات نهائية لا حصر لها، فالاعتماد على الميزة النسبية وتصنيع المواد الخام محليًّا بدلاً من تصديرها خامًا هو الطريق الأمثل لخلق فرص العمل وزيادة الإنتاج المحلي. وإذا أضفنا إلى ذلك توفُّر العمالة الشابة المتعلمة والممكن شحذ مهاراتها بسهولة، وعدد السكان المناسب، والمساحة الجغرافية الشاسعة، وموقع المملكة القريب من الأسواق، ومكانتها في العالمين العربي والإسلامي، وقرب الموارد البشرية قليلة الكلفة عند الحاجة؛ كل ذلك يزيد ويعزِّز القدرة التنافسية للمملكة، وهو ما سيجعلها قادرةً على تسويق منتجاتها. وعليه، فان الاستفادة من القدرة التنافسية للبلاد تتطلب تدخل الدولة لرفع الميزة التنافسية في مجالات عديدة، منها:
1- التوجيه والتخطيط والتنظيم للقطاعين العام والخاص.
2- إعادة تنظيم وهيكلة قطاع العمل سواء بالنسبة لربِّ العمل أو لليد العاملة الوطنية أو المستقدَمة، فكيف يمكن أن يكون هناك سوق عمل متوازن بدون وجود نقابات حرة مثلاً؟!
3- عدم الاعتماد الكلي على القطاع الخاص في قيام الصناعات المحورية، بل يجب أن تُنشِئها الدولة كشركات قطاع عام بين الدولة والاكتتاب العام، ثم تطرح أسهمها في الأسواق كما فعلت الدولة مع سابك.
4- كما أنه من الضروري تطوير نُظم إدارية أكثر شفافيةً، وإخضاع الإدارات العليا (مجالس الإدارة) في الحكومة والقطاعين العام والخاص للمساءلة.
5- تسهيل إجراءات الاستثمار المحلية، وتذليل العقبات البيروقراطية أمام المستثمرين وأصحاب الأعمال.
6- مواصلة الحرب على الفساد وإعادة هيكلة الوزارات الخدمية كالبلديات والطرق والكهرباء والماء والزراعة، وتحديثها والتركيز على الكفاءات المتميزة في المناصب الرئيسة.
7- الاستفادة من الميزة النسبية لزيادة الإنتاج الصناعي المحلي، ورفع القيمة المضافة في الصناعات المعتمدة على البترول والغاز والبوكسايت والفوسفات واليورانيوم وغيرها من الموارد المتوفرة.
8- تتولى الدولة تسهيل وصول المنتج المحلي (الصناعي والزراعي) إلى المستهلك عن طريق:
أ. تسويق المنتجات الزراعية والصناعية المحلية وإيصالها للسوق المحلي والخارجي (مؤقتًا لعدة سنوات حتى يتم تحقيق الأهداف المرسومة).
ب. بناء شبكة مواصلات عامة مترابطة لنقل الأفراد ونقل البضائع (قطارات وشاحنات وحافلات) ذات كلفة معقولة على الفرد، تربط التجمعات السكانية بالمناطق الصناعية وبالموانئ.
ج. بناء أسطول تجاري بحري وجوي قوي محلي، وبالمشاركة مع شركات أجنبية كبرى.
9- تبني سياسات الخدمة العامة مثل (خدمة العلم) للاستفادة من الأيدي العاملة الشابة وتدريبها وتهذيبها كعمالة قليلة الكلفة، لتلبية المتطلبات الدفاعية والإنشاءات العامة الكبرى، مثل السكك الحديدية وبناء الطرق.
10- بناء قوة دفاعية رادعة تعتمد على الذات، قادرة على حماية القدرات التنافسية للبلاد ومصالحها، وتكون متفوقةً على القوة الإقليمية أو مكافِئةً لها، بما في ذلك قوة الردع الإستراتيجية.
وركَّز أ. محمد الدندني على عامل الوقت، حيث أشار إلى أننا لسنا مترفين، فبناء الإنسان مهنيًّا وأكاديميًّا ليس بالأمر السهل، وخاصة أننا عشنا فترةً لعدة أجيال في نظام رعوي ولَّد ثقافةً معاديةً للإنتاج، والأسوأ إحضار هذه الجيوش من العمالة التي تفتقد لأخلاق العمل أولاً، ومن ثَمَّ عدم الكفاءة. والمقصود بالعمالة هنا كل الفئات من الطبيب والمستشار إلى الخفير وما بينهما. كيف لنا أن نُعِدَّ العمالة الوطنية في مدة عشر سنوات أو خمس عشرة سنة مع تسارُع المشاريع والبناء؟ كيف سنلحق؟ علينا إعادة النظر فيما لدينا الآن. وفي الإطار ذاته، من المهم الأخذ في الحسبان النقاط التالية:
1- التخلص من العمالة الرديئة في كل التخصصات، ووضع نظام حازم يُطبَّق لاستقدام الأيدي العاملة الماهرة والمؤهلة مهما كان التخصص، كما يجب على القادم الخضوع لاختبار الكفاءة من طرف ثالث وليس من وطنه أو دولته. وهنا يمكن التعاقد مع شركة عالمية مُتخصِّصة لهذا الغرض.
2- بخصوص الوزارات الخدمية وقدرتها على مجاراة التحول، من المهم أن تكون الوزارات مُقنِنَة ومراقِبة، ويكون التنفيذ مُوكَّلاً للمناطق؛ بمعنى أن تكون المركزية في السياسات وليست المركزية في التنفيذ.
3- تفعيل نظام المحاسبة والتدقيق في كل المناطق والإدارات؛ بتبني سياسة المدقق الداخلي من خارج الوزارة المعنية، وأيضًا تفعيل دور المدقق الخارجي. والتدقيق هنا ليس ماليًّا فحسب، بل هو مالي وإداري أيضًا.
4- فيما يخص البزنس مودِل وما جُنح إليه من إنشاء شركات كبرى شبيهة بسابكو وأرامكو، لا بأس بهذا ولكن قد يكون مناسبًا أيضًا تفعيلُ الشراكات الأجنبية مع الدول المتقدِّمة تقنيًّا وعلميًّا ولا سيما إذا كان لها دور سياسي مهم كأمريكا والصين وروسيا، لأسباب إستراتيجية تتعلق بالأمنين الوطني والإقليمي. وأيضًا ضمان الأسواق لدى هذه الدول وغيرها؛ فالتسويق لأي منتج مهما بلغت جودته ربما يتعثر في الدخول للأسواق العالمية، والتي تسيطر عليها شركات ضخمة وقوية لسنين طويلة. أما فيما يخصُّ القطاع الخاص، فقد حان وقت إلغاء دكاكين الوكالات التجارية، فهي عقبة في وجه المبدع كفرد أو جماعة. الحل هو الاتجاه إلى الاندماج وتكوين شركات كبرى تستطيع المنافسة وتطوير التنافسية كي تدخل مع الشريك الأجنبي، وتستطيع تحمُّل الأعباء المالية والإدارية.
- دور القطاع الخاص والقطاع الثالث في تحقيق الميزة التنافسية:
تساءلت د. عبير برهمين: ما دور القطاع الخاص والقطاع الثالث في تحقيق الميزة التنافسية؟ وكيف نُحفِّزهما؟ وفي هذا الصدد، ذكر د. سليمان الطفيل أن دور القطاعين الخاص والثالث في تحقيق الميزة التنافسية مرتبط بعدة شروط، أهمها:
– الامتثال للنُّظم والتشريعات الرامية لتحقيق ذلك.
– وجود مستهدفات واضحة أمام القطاعين الخاص والثالث منسجمة مع تطلعات الاقتصاد العام للدولة.
– الانضباط والمسؤولية في تقديم الأعمال وَفْق معايير الجودة وأنظمة الحوكمة.
– رفع مستوى أداء العاملين والكفاءة والإنتاجية.
– تطبيق شروط المنافسة العادلة والسبق والريادة.
أما عن التحفيز فذلك متوقف على برامج وآليات الدعم الحكومي، والشراكة مع القطاع العام لتوفير أفضل الممارسات في مجال الأعمال.
وأشارت د. الجازي الشبيكي في إطار توضيح دور القطاع الخاص والقطاع الثالث في تحقيق الميزة التنافسية، إلى أن مؤسسة الملك خالد الخيرية قدَّمت بالشراكة مع الهيئة العامة للاستثمار عام 2008، جائزةَ التنافسية المسؤولة لأفضل الشركات في تحقيق مؤشر التنافسية المسؤولة لبرامج المسؤولية الاجتماعية. وتمَّت خُطة عمل بناء المؤشر على ثلاث مراحل بالتعاون مع عدد من الجامعات العالمية بدءًا بورش العمل المتخصصة لمناقشة معايير مؤشر التنافسية المسؤولة بين الشركات السعودية للتعريف بأهمية المؤشر وانتهاءً ببناء المؤشر. وبعد أكثر من عشر سنوات منذ بدء المشروع الذي يهدف إلى مساعدة المنشآت على تقوية قدرتها التنافسية في المجالين البيئي والاجتماعي والأداء الخاص بالحوكمة، أشارت التقارير الأخيرة لجائزة الملك خالد للتنافسية المسؤولة، أنها نجحت وتميَّزت في التركيز من خلال مؤشر التنافسية على مواءمة ممارسات الاستدامة مع أولويات العمل، مثل: تعزيز النمو الإيجابي، وتحسين السمعة، وتمكين المشاركة. وعقَّب د. إحسان بو حليقة بأن تجربة مؤسسة الملك خالد في هذا المجال فريدة، والسعي لقطاع ثالث مساهم في المجتمع يتطلب أن نجعلَه الأفضل، وعلى مستوى عالمي. ومن ناحية أخرى، فإن التركيز في القضية الحالية هو على تنافسية الاقتصاد ككل، وهذا يعني الارتقاء نوعيًّا بمساهمة الأنشطة كافة، وفي كل القطاعات. إذ يمكن القول إن ارتقائنا لسُلَّم تحسين القدرة التنافسية للمملكة العربية السعودية يتطلب الارتقاء بالكفاءة الداخلية للمنشآت كافة، في القطاعات جميعها دونما استثناء.
ومن وجهة نظر د. فايزة الحربي، فقد أسهم القطاع الخاص بشكل كبير في خلق فرص تنافسية لدى الشباب، وهي حلقة كنا نفتقدها كثيرًا؛ لذلك فمن الضروري التركيز على جانبين مهمين لتحقيق طموحنا نحو التنافس مع الدول المتقدمة:
s أولاً: التركيز على تأسيس البنى التحتية لكل المخططات والمشاريع الجغرافية الجديدة سواء في المدن أو القرى.
s ثانيًا: تعزيز دور الشراكة المجتمعية للقطاع الخاص في خلق الفرص التنافسية، وتدريب الشباب لمواجهة هذه التحولات نحو مجتمع تنافسي عالمي.
الخلاصة:
خلصت د. نوف الغامدي إلى أن ربط قوة ونجاح التنافسية لبلد ما أو تنافسية قطاع معين يعود إلى مستوى الإنتاجية لديها، ومستوى الإنتاجية يعود إلى عاملي الموارد البشرية ورأس المال “الاستثمار”، ولكي نحصل على موارد بشرية قادرة على صناعة التنافس يجب أن نُعِدّهم بشكل سليم من الأساس، ومن خلال التعليم والتدريب، وربط ذلك بالتطور التقني للبلد، ولكي نُوفِّر رأس المال أو الاستثمار يجب أن نجذب المستثمرين، وهذا لا يتم بدون تهيئة البيئة المناسبة والجاذبة لهم من جميع النواحي:”تشريعات، أنظمة، قوانين واضحة ومطبَّقة بحزم، نظام عدلي فعَّال، مُحفِّزات من الدولة وغيرها”؛ لذلك فثمة دوائر مترابطة تُكوِّن ما يُعرف بالنظام البيئي المناسب Ecosystem لتطوُّر الاقتصاد وصناعة التنافسية للدولة، ونحن الآنَ مع “رؤية المملكة 2030” نسعى إلى إيجاد هذا النظام “الاهتمام بتطوير الموارد البشرية، وجذب الاستثمارات” وبالتالي رفع الإنتاجية للفرد ولرأس المال المستثمر، ومن ثَمَّ رفع تنافسية المملكة في نهاية الأمر.
ʘ التوصيات:
1- استبدال عبارة “التنويع الاقتصادي” بعبارة “الميزة التنافسية الوطنية”؛ تصعيدًا للهدف وجعله أكثر طموحًا وتحديدًا، وتعزيزًا لمفهوم التنافسية وتوطينها في بيئة الأعمال ونشر ثقافتها في المجتمع بتطبيق معاييرها وشروط تحقيقها.
2- جَعْل رَفْع مستوى الإنتاجية “اعتقادًا عامًّا”، أو “ثقافة مجتمعية” من باب الحفاظ على الموارد، وأن يصبح للعمل القيمة العليا في المجتمع، وتنشئة الجيل على أسُس ومبادئ التنافسية المتزنة مع طبيعة الإنسان ومسؤولياته في الحياة.
3- التخلص من العمالة منخفضة المهارة في كل التخصصات، ووضع نظام حازم لاستقدام الأيدي العاملة الماهرة والمؤهلة مهما كان التخصص، بالخضوع لاختبار الكفاءة من طرف ثالث وليس من وطنه أو دولته.
4- الاعتماد بصورة أكبر على الموارد البشرية المؤهلة وعالية المهارة؛ وهو أمر يستوجب تعليمًا وتدريبًا وتأهيلاً، وتوجيهًا واضحًا نحو الإنتاج بهدف الأداء أفضل من الآخرين.
5- تحويل طاقات وقدرات وطموحات وولاء الشباب لوطنهم لطاقة “تحويلية” هائلة للإنتاج، بل للتنافسية، فالتحول الأهم هو تحول مواطنينا إلى آلة ضخمة للإنتاج ولتوليد القيمة.
6- إزالة التشوهات العميقة في سوق العمل، بالاعتماد على موارد بشرية محلية مؤهلة وتمتلك المهارة.
7- معرفة وتحليل القدرة التنافسية التي نملكها حاليًا بالمقارنة مع الدول ذات التنافسية العالية، وتقييمها كخطوة أولى لبناء منظومة شاملة تُحقِّق القدرة التنافسية للمملكة، والعمل على صقلها ورفع مستوى جودتها.
8- الاستفادة من وفرة المورد المادي لتنمية المورد البشري الوطني، والاهتمام بتطوير البيئة التنظيمية بما يضمن تحقيق واستدامة الاستثمار فيه.
9- التركيز على جودة التعليم ومواكبته لمتطلبات سوق العمل المحلي والدولي، ودعم الابتكار في تطوير المنتجات والسلع المحلية ذات الميزة النسبية وتسويقها محليًّا وعالميًّا.
10- الاستثمار الأمثل للمقومات الطبيعية، ومن أهمها: المواقع الجغرافية لكل منطقة، وتخصيص الأنشطة الاقتصادية التي تناسبها، وتغيير دور جامعاتها بما تتميز من موارد وبما يتماشى مع رؤية السعودية 2030 لإيجاد وضع تنافسي أفضل، وتحقيق تنمية مستدامة بتلك المناطق.
11- الاهتمام بتوفير حاضنات عالية ومتقدمة في عطائها التعليمي للارتقاء بمستوى إنتاجية المواطن، بما يُحقِّق الميزة التنافسية سواءً في التكلفة أو تميُّز المنتج.
12- الإسراع في وتيرة الخصخصة والنهوض بالشركات والمؤسسات الصغيرة، وإيجاد إدارة فاعلة ومرنة مواكبة للرؤية ومتطلباتها.
13- توليد وظائف تتواءم مع إستراتيجيات ومخرجات الرؤية، وبالتالي نظام تعليمي مبتكر يتواكب مع معطياته ووظائف المستقبل، مع الاهتمام بالتعليم التقني وتشجيعه ورفع كفاءة كليات التقنية لتواكب سوق العمل.
14- إعادة هيكلة الوزارات الخدمية والتركيز على الكفاءات المتميزة في المناصب الرئيسة، وتنظيم القطاعين العام والخاص وهيكلة قطاع العمل، وتطوير نظم إدارية أكثر شفافيةً، وإخضاع الإدارات العليا (مجالس الإدارة) في القطاعين للمساءلة.
15- عدم الاعتماد الكلي على القطاع الخاص في قيام الصناعات المحورية، وإنما تتولى الدولة إنشاءها كشركات قطاع عام بينها والاكتتاب العام (سابك أنموذجًا)، وتسهيل إجراءات الاستثمار المحلية، وتذليل العقبات أمام المستثمرين وأصحاب الأعمال.
16- تتولى الدولة تسهيل وصول المنتج المحلي (الصناعي والزراعي) إلى المستهلك لعدة سنوات حتى تتحقق الأهداف المرسومة من خلال تسويقه، وبناء شبكة مواصلات عامة مترابطة لنقل الأفراد والبضائع، وبناء أسطول تجاري بحري وجوي محلي بالمشاركة مع شركات أجنبية كبرى.
17- تبني سياسات الخدمة العامة مثل (خدمة العلم) للاستفادة من الأيدي العاملة الشابة وتدريبها وتهذيبها كعمالة قليلة الكلفة؛ لتلبية المتطلبات الدفاعية والإنشاءات العامة الكبرى، مثل السكك الحديدية وبناء الطرق.
18- بناء قوة دفاعية رادعة تعتمد على الذات، قادرة على حماية القدرات التنافسية للبلاد ومصالحها، تكون متفوقة على القوة الإقليمية أو مكافِئة لها، بما في ذلك قوة الردع الإستراتيجية.
19- تلافي وضعية الجزر المتناثرة في العمل، والسعي لتكامل الجهود والتنسيق بين الجهات المعنية في كل أمر على نحو أكثر تواصلاً وشموليةً، إنْ جاز التعبير.
20- بناء إستراتيجية جادة للتعليم والتدريب التقني والمهني لتخريج أيدٍ عاملة سعودية ماهرة تسدُّ احتياجات المملكة في التنويع الاقتصادي المستقبلي.
21- عقد شراكات في مجال تدريب الأيدي العاملة السعودية في بلد المنشأ على أعمال الصيانة الضرورية، وتصنيع بعض قطع الغيار للسلع الاستهلاكية المستوردة بكثرة، مثل: الإلكترونيات والهواتف الجوالة، وأجهزة الكمبيوتر، والسيارات، وغيرها.
22- زيادة الإنتاج الصناعي المحلي عن طريق الاستفادة من الميزة النسبية ورفع القيمة المضافة، والتركيز على الصناعات التي تتوفر خاماتها في المملكة، مثل الطاقة الشمسية والبترول والغاز والبوكسايت والفوسفات واليورانيوم وغيرها من الخامات الأخرى.
23- العمل على تحقيق العوامل التي حدَّدها دليل التنافسية العالمي من خلال مجموعة أعمدة تنافسية معتمدة، وبذل جهود تنسيقية وتكاملية يمكن لبرامج الرؤية تصنيعها وفق أهداف مرحلية وعملية، بعيدًا عن الحالات الانطباعية أو الشعور بالرضا وفقًا لمواد إعلامية مضللة.
24- تأسيس مجلس متخصص في تحقيق معايير وشروط التنافسية، يكون دوره مراجعة كافة الأهداف وتقدُّمها مع متطلبات مؤشر التنافسية العالمي ومدى التزامنا به.
المشاركون في مناقشات هذا التقرير
(حسب الحروف الأبجدية)
- د. رياض نجم (رئيس الهيئة الإشرافية)
- د. إبراهيم إسماعيل عبده (مُعِدّ التقرير)
- د. إبراهيم البعيز
- م. ابراهيم ناظر
- د. إحسان بو حليقة
- م. أسامة الكردي
- أ. بسمة التويجري
- د. الجازي الشبيكي
- أ. جمال ملائكة
- أ. حسام بحيري
- د. حسين الجحدلي
- د. حمد البريثن
- د. حمزة بيت المال
- د. حميد الشايجي
- د. خالد بن دهيش
- د. خالد الرديعان
- د. خالد الفهيد
- د. راشد العبد الكريم
- د. ريم الفريان
- د. زهير رضوان
- د. زياد الدريس
- م. سالم المري
- أ. سعيد الدحية الزهراني
- د. سعيد العمودي
- د. سليمان الطفيل
- د. صدقة فاضل
- د. عبدالرحمن الهدلق
- د. عبدالعزيز الحرقان
- أ. عبدالله الضويحي
- د. عبدالله العساف
- د. عبدالله المطيري
- د. عبدالله بن صالح الحمود
- د. عبدالله بن ناصر الحمود
- د. عبير برهمين
- د. عثمان العثمان
- د. علي الحارثي
- د. علي الطخيس
- أ.علياء البازعي
- أ. فاطمة الشريف
- د. فايزة الحربي
- أ. فائزة العجروش
- د. فهد العرابي الحارثي (رئيس الملتقي)
- أ. فهد القاسم
- د. فهد اليحيا
- د. فوزية البكر
- أ. محمد بن فهد العمران
- أ. محمد الدندني
- د. مساعد المحيا
- د. مشاري النعيم
- أ. مطلق البقمي
- د. منصور المطيري
- أ. نبيل المبارك
- أ. نورة الفايز
- د. نوف الغامدي
- د. هند الخليفة
- د. وفاء الرشيد
- د. وفاء طيبة (رئيسة لجنة التقارير)
- أ. وليد الحارثي
- أ. يحيى الأمير
- د. يوسف الحزيم
د. يوسف الرشيدي
(*) – نائب الرئيس التنفيذي لقطاع الأدوية في الهيئة العامة للغذاء والدواء.
(*) – الأدوية الجنيسة (Generic medicines) مستحضرات دوائية مماثلة في فعاليتها وجودتها للمستحضرات المبتكرة وهي تشكل المجال التصنيعي للشركات المحلية. كمثال مستحضر بنادول من شركة GSK له مستحضرات جنيسة مماثلة في الفعالية مثل فيفادول وديفادول وغيرها.
(*) – أستاذ مشارك قسم الهندسة الكهربائية وهندسة الحاسبات (هندسة طبية) – جامعة الملك عبدالعزيز.
(*) – الرئيس التنفيذي لـ “شركة سدير فارما”، المملكة العربية السعودية.
(*)https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B5%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%82_%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A – cite_note-7
(**)https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B5%D9%86%D8%AF%D9%88%D9%82_%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A – cite_note-15
(*) – الموقع الإلكتروني لصندوق النقد الدولي: www.imf.org
(*) ضيف الملتقى- ماجستير إدارة مالية من جامعة شيفيلد المملكة المتحدة، ورئيس المركز الخليجي للاستشارات المالية، وكاتب اقتصادي ومحلل مالي واقتصادي.
(*) – مذكرات مهاتير محمد.
(*) – سورة المطففين – الآية 26.
تحميل المرفقات: التقرير الشهري 52