مايو 2020
تمهيد
يعرض هذا التقريرُ عددًا من الموضوعات المهمة التي تمَّ طرحها للحوار في ملتقى أسبار خلال شهر مايو 2020م، وناقشها نُخبة متميزة من مفكري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة حول القضايا التالية:
• أزمة جائحة كورونا والعمل عن بُعد.
• جائحة كورونا والصحة النفسية.
• البيروقراطية في زمن الأزمة.
• الاقتصاد الثقافي
القضية الأولى
أزمة جائحة كورونا والعمل عن بُعد
(3/5/2020م)
الورقة الرئيسة: د. زهير رضوان
التعقيبات:
التعقيب الأول: د. عبد العزيز الحرقان
التعقيب الثاني: د. سلطان المورقي
إدارة الحوار: د. رياض نجم
الملخص التنفيذي:
أشار د. زهير رضوان في الورقة الرئيسة إلى أنه مع استمرار انتشار فيروس كورونا في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط والعالم، أصبحت الشركات تتساءل: كيف سيؤثر ذلك على أدائها، وكيف ستتمكَّن من الحفاظ على استمرارية أعمالها، وما هي التغيرات التي ينبغي تطبيقها على موظفيها وعملائها؟ وبات من الضروري أن تبدأ الشركات والمنظمات في كافة القطاعات باستخدام الأدوات والتقنيات عبر الإنترنت، وذلك للتغلُّب على التحديات الاقتصادية والمالية التي في ظل جائحة كورونا؛ فكما تقوم المدن والبلدان بالإغلاق التام للحدِّ من انتشار الفيروس، يجب على الشركات والمنظمات والحكومات أيضًا الاستعانة بالأدوات التي تحدُّ من الاتصال الجسدي لضمان استمرارية الأعمال. ومن وجهة نظر المختصين، فإن فيروس كورونا أجبر البلدان والمؤسسات على التوجُّه للعمل عن بُعد وفَتْح آفاق جديدة في العمل، وتأسيس قاعدة عمل اقتصادية جديدة تسمح بتوفير المال في مقابل ارتفاع المكاسب.
أما د. عبد العزيز الحرقان فتناول في التعقيب الأول تأثير جائحة كورونا على العمل عن بُعد في كلٍّ من: قطاع التعليم، وقطاع الصحة العامة، والقطاع الصناعي والخدمي، والخدمات المالية، ومنهج العمل الإداري. واختتم التعقيب بالتأكيد على أن إدارة المؤسسات مستقبلًا لن تكون مرتبطةً بموقع الشركة أو المؤسسة الإنتاجية كمكان للعمل المثالي؛ وإنما يمكن بفضل الحلول التكنولوجية العمل عن بُعد (العمل المنزلي) وهو ما فرضته طبيعة الأزمة الحالية.
في حين ذكر د. سلطان المورقي في التعقيب الثاني أن جائحة كورونا كانت بمثابة الاختبار الحقيقي لجاهزية دول العالم في مجال التقنية، وفي هذا الجانب نجحت المملكة ولله الحمد، وأثبتت للعالم أنها من الدول الرائدة في مجال تقنية المعلومات والاتصالات، وتملك المقومات والأدوات الأساسية للعمل عن بُعد.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاورَ التالية:
– مفهوم العمل عن بُعد وأبعاده.
– الدليل الاسترشادي المؤقت للعمل عن بُعد في القطاع الخاص.
– تأثيرات أزمة جائحة كورونا والعمل عن بُعد على المجتمع.
– مستقبل العمل عن بُعد ما بعد جائحة كورونا.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:
1- الدعوة لإنشاء لجنة وطنية تضمُّ الجهات ذات العلاقة من القطاعات الحكومية والخاصة وغير الربحية لوضع برنامج وطني وحوكمة للعمل عن بُعد في القطاعات الثلاثة. ويكون من أهداف البرنامج رفع كفاءة الأداء وخفض التكاليف ومصلحة المجتمع والعدالة بين جميع الأطراف.
2- دعوة وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية إلى وضع دليل استرشادي دائم للعمل عن بُعد يضمُّ كافة التفاصيل المتعلقة بساعات العمل، وتقييم الموظف، ونسب إلزامية التطبيق في كل مجال.
الورقة الرئيسة: د. زهير رضوان
مع استمرار انتشار فيروس كورونا في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط والعالم، أصبحت الشركات تتساءل: كيف سيؤثر ذلك على أدائها، وكيف ستتمكَّن من الحفاظ على استمرارية أعمالها، وما هي التغيرات التي ينبغي تطبيقها على موظفيها وعملائها؟
حيث أعلنت بعضُ البلدان (مثل، الكويت ولبنان والأردن وغيرها) الإغلاقَ التام، في حين قامت غيرها (مثل، الإمارات والسعودية وغيرها) بفرض إجراءات صارمة على السفر والتنقل والتجمُّعات؛ بهدف الحدِّ من انتشار فيروس كورونا. وقد دفعت هذه الإجراءات الشركات الصغيرة والكبيرة إلى الأخذ بعين الاعتبار خيار العمل عن بُعد واستخدام التكنولوجيا لأداء مهامها اليومية، بالإضافة إلى البحث عن أي بدائل ممكنة لمتابعة سير العمل على الوجه المعتاد؛ هذا التحوُّل المفاجئ أثار الشعورَ بالقلق وعدم اليقين لبعض القطاعات العامة والخاصة، ولكنه أمرٌ ضروري لمواجهة الظروف الراهنة.
هذا التحوُّل كان أقلَّ تعقيدًا للعديد من الشركات التي تعمل في مجال التكنولوجيا، مثل وسائل الإعلام الرقمية ومزوِّدي البرمجيات والشركات التي تعمل في مجال مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها؛ في حين ظهر أكثر تعقيدًا للشركات التي تعتمد طبيعة عملها على التواجد الشخصي، مثل المطاعم ومتاجر البيع بالتجزئة والقطاعات الحكومية وغيرها.
وعلى الرغم من ذلك بات من الضروري أن تبدأ الشركات والمنظمات في كافة القطاعات باستخدام الأدوات والتقنيات عبر الإنترنت، وذلك للتغلُّب على التحديات الاقتصادية والمالية الناجمة عن جائحة كورونا؛ فكما تقوم المدن والبلدان بالإغلاق التام للحد من انتشار الفيروس، يجب على الشركات والمنظمات والحكومات أيضًا الاستعانة بالأدوات التي تحدُّ من الاتصال الجسدي لضمان استمرارية الأعمال.
ومن وجهة نظر المختصين، فإن فيروس كورونا أجبر البلدان والمؤسسات على التوجُّه للعمل عن بُعد وفَتْح آفاق جديدة في العمل، وتأسيس قاعدة عمل اقتصادية جديدة تسمح بتوفير المال في مقابل ارتفاع المكاسب.
وهذا ما يذهب إليه تقرير نشره في وقت سابق موقع “هارفارد بزنس رفيو”، الذي يقول إنَّ العالم بعد كورونا لن يكون نفسه قبل كورونا، ولم يستبعد التقرير حصول مشاكل نتيجة التغيير السريع من العمل في الموقع إلى العمل عن بُعد، لكنه يقول إنها تحديات طبيعية ستحصل عاجلًا أم آجلًا، فضلًا عن فقدان بعض الأشخاص لوظائفهم، إلا إن هذا سيكون لاحقًا له إيجابيات عديدة؛ حيث إنَّ هذا النموذج الجديد من العمل سيُوفِّر في المصاريف والإنفاقات، وسيُولِّد أعمالًا ووظائف جديدة. كما أن العمل عن بُعد مُريح بالنسبة لبعض المتعاونين الذين اعتادوا على العمل من المنزل من وقت لآخر، لكنه ليس كذلك بالنسبة للجميع.
وهناك عدة نصائح للعمل عن بُعد، قبل الدخول في الجانب التكنولوجي، كتخصيص مكان للعمل في المنزل، بحيث لا يوجد فيه سوى الحاسوب والهاتف الذكي، وضرورة أن تكون سرعة الإنترنت من 50 إلى 100 ميغابايت في الثانية كحد أدنى؛ لأن مؤتمرات الفيديو واستهلاك النطاق الترددي يمكن أن تتضاعف، مع ضرورة أَخْذ حلول جوجل ومايكروسوفت في الاعتبار، خاصة أن هاتين الشركتين – مثل بعض منافسيهما- تُقدِّمان عروضًا ترويجية على خدماتهما، وأيضًا تُقدِّمان أدواتٍ قوية للتواصل في الوقت الفعلي، والعمل مع الآخرين على المستندات عبر الإنترنت ومشاركة الملفات.
ويتزايد حاليًّا عدد الموظفين والمعلمين والطلاب الذين يعملون عن بُعد، وهو إجراء احترازي بسبب انتشار كورونا؛ ولذلك تقول جوجل إنها تريد مساعدتهم على البقاء على اتصال والاستمرار في الإنتاج، حسب بيانها الذي صرحت فيه بقولها: “نحن ملتزمون بمساعدة الطلاب ومعلميهم على مواصلة التعلُّم خارج المدرسة، خاصة بعد أن أُغلقت المدارس في هونغ كونغ وفيتنام، رأينا مئات الآلاف من الطلاب يبدؤون استخدام كلٍّ من هانغ آوتس ميت (Hangouts Meet)، وخدمة اتصال الفيديو لجميع مستخدمي حزمة جي وجوجل كلاس روم (Google Classroom)، للانضمام إلى الفصول الدراسية ومواصلة التعليم عن بُعد من المنزل”. وأعلنت الشركة أنه سيتمكن جميع عملاء حزمة جي من الوصول المجاني إلى خدمة مؤتمرات الفيديو المتقدمة في هانغ آوتس ميت”.
وبهذا نجد العالم لن يكون كما هو بعد كورونا، وأن العمل عن بُعد سيكون هو سمة المستقبل. ويؤكد ذلك تقرير “مستقبل الوظائف” الذي أعدَّه “المُنتدى الاقتصادي العالمي” لعام 2016، وتوقَّع فيه أن تُوظِّف المؤسسات أعدادًا أقل من العاملين بدوامٍ كامل في وظائف ثابتة، وتستعين بعاملين من بلدان أخرى ومستشارين خارجيين ومتعاقدين لإنجاز مشروعات محددة؛ مما يُسهِم في توفير التكاليف وتحسين الإنتاجية والمرونة، ويزيد قدرتها على توظيف المواهب، ويُقلل من نسب مغادرة العاملين. ومن الفوائد المجتمعية للعمل عن بُعد: تخفيف ازدحام المرور، والآثار البيئية الناتجة عن استخدام وسائل المواصلات، فضلًا عن منافع اجتماعية وثقافية نتيجة عمل الأفراد من مواقع متنوعة حول العالم، وتحسين الاستعداد لحالات الكوارث والطوارئ.
التعقيبات:
التعقيب الأول: د. عبد العزيز الحرقان
قطاع التعليم:
قد أحدثت مشكلة كورونا تغييرًا جذريًّا في منظور التعليم بصفة عامة، حيث إنَّه مع تفاقم الأزمة اتجه عددٌ من الدول وخاصة في كلٍّ من الصين وكوريا الجنوبية وإيطاليا وغيرها من دول العالم إلى حظر التجمعات، والذي ترتَّب عليه إغلاق المدارس والجامعات، ليُشكِّل ذلك معضلةً تتعلق باستمرارية النموذج الكلاسيكي للعملية التعليمية داخل المؤسسات التعليمية. فوفقًا لتقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حتى 13 مارس 2020، كان هناك نحو 421 مليون طفل متأثر بشكل سلبي بإغلاق المؤسسات التعليمية في 39 دولة. وأصبح التوجُّه إلى التعليم عن بُعد والتعليم المنزلي الذي يعتمد على الاستعانة بأدوات التكنولوجيا المتاحة، والذي قد يكون له آثارٌ واضحة في تقليل الفجوة النوعية في التعليم؛ نظرًا لأنها وسيلة أيسر- إذا ما توافرت البنية الأساسية – لكل فئات المجتمع. وأصبح هذا التوجه والخاص باستخدام طرق التعلم عن بُعد (التي يعَدُّ العنصر التكنولوجي هو الأساس فيها) ضروريًّا لضمان استمرارية العملية التعليمية، ليس فقط خلال فترة الأزمة، ولكن أيضًا خلال الفترات اللاحقة له.
قطاع الصحة العامة:
يعَدُّ قطاع الصحة من القطاعات المهمة والحيوية لأي منظومة اقتصادية والتي تُعَدُّ إحدى الركائز الضامنة للكفاءة الإنتاجية لأي مجتمع. ويعَدُّ تدهور القطاع الصحي مؤشرًا لضعف الإنتاجية وضعف ثقة المستثمرين في قدرة الدولة على الصمود أمام أزمات الأوبئة العالمية، مثل انتشار وباء إيبولا في عام 2014 ووباء سارس في عام 2003، والتي تنعكس آثارها السلبية على القطاعات الإنتاجية بشكل رئيسي.
وكان لانتشار وباء كورونا أثرٌ كبيرٌ على انكشاف القصور الحاد في أنظمة تقديم الخدمات الصحية في العديد من دول العالم، وعلى طبيعة تقديم الخدمات الصحية وصناعة المنتجات الصحية بصفة عامة. فكان من نتيجة انتشار الوباء تزايد الاهتمام العالمي بطبيعة البحوث العلمية في قطاع الصحة، والعمل على توفير منتجات صحية، وتوجُّه عدد من المصانع لتوفير منتجات صحية لازمة لمواجهة الوباء العالمي. فعلى سبيل المثال، اتجهت شركة فورد موتور العالمية إلى إنتاج أجهزة تنفس صناعي في مصنع في ميشيغان بالتعاون مع وحدة الرعاية الصحية في شركة جنرال إلكتريك لعلاج المرضى المصابين بفيروس كورونا.
القطاع الصناعي والخدمي:
يواجه القطاعُ الصناعي تحدياتٍ جذريةً في ظل أزمة انتشار وباء كورونا؛ وذلك نظرًا لتخفيض الطاقات الإنتاجية للعديد من المصانع الوطنية تطبيقًا لسياسة التباعد الاجتماعي التي فرضتها العديد من الدول. وقد أعادت تلك التحديات التوجه مرة أخرى نحو الجدل النظري الخاص بضرورة تدخل الدولة لإنقاذ صناعات بعينها، وحماية شركات الصناعة الوطنية في المجمل وخاصة في ظل الخلل الذي أصاب سلاسل الإمدادات العالمية.
الخدمات المالية:
مع التداعيات الدولية لأزمة كورونا والتي استلزمت التباعدَ الاجتماعي، ظهرت من جديد الدوافع الخاصة باستخدام التكنولوجيات المالية Fintech، وهو ما بدأ في الاستجابة له عدد من الشركات العاملة في صناعة التكنولوجيا المالية. ووفقًا لتقديرات عدد من الخبراء، فإن الاستثمارات في صناعة التكنولوجيا المالية تتجه إلى النمو على عكس عدد من القطاعات الأخرى المتأثرة سلبًا بانتشار كورونا، وذلك مع تزايد تطبيقات المدفوعات المالية باستخدام أجهزة المحمول وخاصة في ظل تحذيرات منظمة الصحة العالمية بشأن إمكانية نقل الفيروس بواسطة تداول الأوراق المالية التقليدية.
منهج العمل الإداري:
سوف يعتمد منهج العمل الإداري في المستقبل على نهج الإدارة الاستباقي Proactive Approach وخاصة في ظل ارتفاع التكلفة الاقتصادية المرتبطة بظهور الأوبئة أو غيرها من المخاطر غير الإنتاجية. هذا النهج يسمح باتخاذ التدابير اللازمة لمقاومة الصدمات التي قد تنشأ خارج حدود المؤسسة الاقتصادية، ويهدف إلى تصميم إطار شامل يأخذ في اعتباره عددًا من العناصر الرئيسية، والتي تشمل المراقبة المستمرة للبيئة الخارجية؛ بهدف اتخاذ التدابير الاحترازية اللازمة لمواجهة مخاطر صدمات الطلب المختلفة وصدمات سلاسل الإمدادات الرئيسية، بحيث يمكن تشخيص الصدمة بشكل أفضل لاتخاذ الإجراءات اللازمة لدرئها. ويعتمد هذا النهج على مراعاة التكاليف المباشرة وغير المباشرة المتعلقة بالتأثيرات السلبية لتلك الصدمات؛ متمثلةً في تكاليف خدمات الرعاية الطبية للموظفين، وتعويضات الإعاقة والوفيات المبكرة، والخسارة الاقتصادية الناتجة عن انخفاض الإنتاجية بسبب الأوبئة.
ومن الضروري التأكيد على أن إدارة المؤسسات مستقبلًا لن تكونَ مرتبطة بموقع الشركة أو المؤسسة الإنتاجية كمكان للعمل المثالي، وإنما يمكن بفضل الحلول التكنولوجية العمل عن بُعد (العمل المنزلي)، وهو ما فرضته طبيعة الأزمة الحالية.
التعقيب الثاني: د. سلطان المورقي
يُقصد بالعمل عن بُعد كأحد خيارات العمل البديلة التي تضمن استمرار تأدية الأعمال، وتقديم الخدمات بعيدًا عن المكتب بشكل دائم أو جزئي أو حسب الطلب إلكترونيًّا باستخدام الأنظمة الذكية والإلكترونية عوضًا عن التواجد كليًا أو جزئيًا في مكاتب العمل. ولا يعني العمل عن بُعد مَنْح أي نوع من أنواع الإجازات المصرَّح بها.
مفهوم العمل عن بُعد ليس جديدًا، حيث شهد القرن العشرون تطوُّرًا في مجال تقنية المعلومات ومعها بدأ هذا المفهوم، وبدأ التزاوج بين تقنية المعلومات والاتصالات حيث أوجدت سُبُلًا جديدة وحديثة لأداء الأعمال، وخصوصًا ما يُسمَّى العمل عن بُعد e-Work أو Teleworking أو Work at Home ، فهناك مجالات واسعة لإمكانية أداء بعض الأعمال بدون ضرورة التواجد الفعلي بين طرفي العمل في مكان العمل، وهو قد يناسب بعضًا من ظروفنا الاجتماعية فيما يخصُّ عمل المرأة وذوي الاحتياجات الخاصة على سبيل المثال.
ولكن جائحة كورونا التي بدأت في أواخر عام 2019م سرَّعت من عملية تطبيق العمل عن بُعد بشكل أوسع، وكانت هذه الأزمة بمثابة الاختبار الحقيقي لجاهزية دول العالم في مجال التقنية، وفي هذا الجانب نجحت المملكة ولله الحمد، وأثبتت للعالم أنها من الدول الرائدة في مجال تقنية المعلومات والاتصالات، وتملك المقومات والأدوات الأساسية للعمل عن بُعد.
وهنا لا بد أن نشير لدور المملكة البارز؛ حيث بادرت بقيادة الملك سلمان – حفظه الله – لعقد أول اجتماع افتراضي (عن بُعد)، يضمُّ رؤساء دول مجموعة العشرين لمتابعة أعمالهم في ظل هذه الجائحة، وأيضًا استمرار حكومة المملكة لمواصلة العمل عن بُعد، سواءً عقد اجتماعات مجلس الوزراء أو مجلس الشورى أو غيرها من القطاعات العسكرية والأمنية والمدنية؛ لضمان تقديم كافة الخدمات والأعمال المنوطة بهم لاستمرار العمل.
عودًا إلى القضية، حيث تعتبر من أهم القضايا العالمية خلال هذه الفترة الحرجة التي نمرُّ بها، وستكون مستقبلًا محلَّ اهتمام الكثيرين، وكما نقل د. زهير في الورقة الرئيسة رأي بعض المختصين الذين “يرون أن فيروس كورونا أجبر البلدان والمؤسسات على التوجه للعمل عن بُعد، وفَتْح آفاق جديدة في العمل، وتأسيس قاعدة عمل اقتصادية جديدة تسمح بتوفير المال في مقابل ارتفاع المكاسب”؛ أرى أيضًا أن تأثيرها ليس على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يمتد لجوانب أخرى مهمة في حياتنا، ومنها:
– الأمنية.
– الاجتماعية.
– القانونية.
– السياسية.
– العوامل البيئةَ.
– وسائل التقنية.
كذلك فقد أشار د. زهير لبعض التحديات التي تواجه العالم والمملكة، والتي أجبرتهم على أداء الأعمال عن بُعد، ولعلِّي هنا – وبشكل مختصر – أُضيف لما ذكره ما يلي:
1- عدم توفُّر التجهيزات الكاملة والبنية التحتية المناسبة لإنجاز العمل عن بُعد، ومنها بعض الوسائط والتجهيزات التقنية للعمل عن بُعد، أو لعقد الاجتماعات الدورية الافتراضية، أو متابعة الإنجاز إلكترونيًّا لكافة الموظفين والعاملين لدى تلك الجهات.
2- أصبحت بعض الجهات – وبما فيها القطاعات الحساسة في الحكومة – تلجأ إلى استخدام التطبيقات أو البرامج الجاهزة والمتوفرة في السوق العالمي، مثل: Skype for Business , VPN، MS Teams، ZOOM أو أي وسائل أخرى، مع التحفُّظ على استخدام تلك البرامج لكافة الأعمال؛ لعدم توفُّر السرية التامة لما يُتداول خلال تلك التطبيقات.
3- لم يتقيد بعض الموظفين باستخدام الأجهزة المُخصَّصة لهم من جهة العمل، والمُطبَّق عليها ضوابط الأمن السيبراني المعتمدة.
4- هناك نقص في بعض الكوادر البشرية المؤهلة التي تستطيع التقيُّد بمفهوم العمل عن بُعد، ومن الملاحظ أن هناك تفاوتًا في مستوى المعرفة والقدرة لدى بعض الموظفين والعاملين في هذا الجانب.
5- لا توجد آلية واضحة لتطبيق هذا النوع من الأعمال، ومتابعة أداء المهام والمسؤوليات المنوطة بالموظفين ومتابعة أعمالهم.
6- عدم التوازن بين الحياة المهنية والحياة الاجتماعية، حيث تولَّدت بعض المشاكل الاجتماعية لعدم الالتزام بأوقات عمل معينة، وأصبحت بعض الجهات تعمل إلى أوقات متأخرة، وفي بعض الأحيان حتى في إجازة نهاية الأسبوع، ومع الحجر المنزلي أصبح بعض المسؤولين لا يُفرِّق بين أيام الأسبوع أو إجازة نهاية الأسبوع.
7- لا يوجد دليل لإجراءات العمل عن بُعد في مثل هذه الظروف الطارئة الناجمة عن جائحة كورونا.
8- لا توجد اللوائح والأنظمة والتشريعات والحوكمة المناسبة لمفهوم العمل عن بُعد.
التوصيات:
• تقديم دراسة عن مدى صمود الشركات الصغيرة والمتوسطة في ظل أزمة جائحة كورونا والعمل عن بُعد.
• دور التقنية في استشراف المستقبل والتداخل مع العلوم الأخرى في ظل الأزمات، ومنها أزمة جائحة كورونا والعمل عن بُعد.
• استشراف أنماط العمل في المستقبل، سواءً في الإجراءات أو الوسائل المستخدمة للعمل عن بُعد.
• تنفيذ الإستراتيجية الوطنية للتحوُّل الرقمي في المملكة بشكل عاجل، والتي تضمن استمرارَ العمل عن بُعد، والتحول إلى مجتمع رقمي مبنيّ على إنشاء منصات رقمية لإثراء التفاعل والمشاركة المجتمعية الفعَّالة، بما يُسهِم في تحسين تجربة المواطن والمقيم والسائح والمستثمر في المملكة، واقتصاد رقمي لتطوير الصناعة، وتحسين التنافسية والتأثير الإيجابي على الوضع الاقتصادي، وتوليد الوظائف المعرفية، وتقديم خدمات أفضل للمستفيدين، وتحفيز الإبداع من خلال استقطاب الاستثمارات والشراكات المحلية والعالمية في مجالات التقنية والابتكار.
• الواجب على جهة العمل توضيح أسلوب العمل عن بُعد لمنسوبيها من حيث تحديد ساعات العمل، سواء كانت محددة بوقت معين أو مرنة خلال اليوم أو الأسبوع أو الشهر، على أن تُحدِّد آليات متابعة أعمالها وإدارة إنتاجية العامل.
• من رحم الأزمات تُولد الفرص، ولعلها فرصة لتطوير منصة أو برنامج محلي في المملكة لاستخدامه للعمل عن بُعد، مثلًا أزمة سارس عام 2002 عجَّلت من ظهور شركة علي بابا الصينية للتسوُّق الإلكتروني.
• تسليط الضوء على مستقبل الوظائف التي تأثرت بأزمة جائحة كورونا والعمل عن بُعد.
• دراسة ما هو أثر الإجراءات الوقائية التي اتخذتها بعض الجهات وخصوصًا الشركات الصغيرة والمتوسطة.
• يجب على وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ووزارة الاتصالات وتقنية المعلومات أن تُعلِن اللوائحَ والأنظمة والتشريعات والحوكمة المعتمدة لمفهوم العمل عن بُعد.
• دراسة جميع الجوانب الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والبيئية والتقنية التي قد تؤثر على أداء العمل عن بُعد، إيجابًا أو سلبًا.
• الاطلاع على تجربة الصين ما بين «سارس» في 2002 و«كورونا» في 2020، والاستفادة من تلك التجربة.
المداخلات حول القضية:
• مفهوم العمل عن بُعد وأبعاده:
أشار م. إبراهيم ناظر إلى أن القضية الحالية حول جائحة كورونا والعمل عن بُعد تُعيدنا إلى مفهوم المكتب الافتراضي، وهو مفهوم بدأ تقريبًا مع بدايات الإنترنت منذ أكثر من ٢٥ عامًا. ومصطلح “المكتب الافتراضي” يمكن تعريفه بأنه عبارة عن حزمة شاملة من حلول الأعمال التجارية عبر الإنترنت، والتي تُمكِّنك من العمل بسهولة من أي مكان في العالم، وفي أبسط الحالات يُوفِّر نظامًا رقميًّا يمكن من خلاله إجراء العمليات عن بُعد. ويُوفِّر المكتب الافتراضي مجموعةً من الخدمات للمساعدة في القيام بالعمل بكفاءة أينما تكون الشركة. وتوجد اليوم شركات كبيرة تُوفِّر خدمات المكتب الافتراضي بكل المزايا والخدمات التي تحتاجها الشركات وخاصة الصغيرة والمتوسطة، وبتكلفة معقولة وبعنوان فعلي، وبحسب المميزات التي تطلبها الشركات الطالبة للخدمة. وقد أخذ مفهوم المكتب الافتراضي في النمو السريع حتى قبل أزمة كورونا؛ نظرًا للميزات التي يُوفِّرها سواء من ناحية التكلفة أو المرونة وسهولة التواصل، والاعتقاد أنه سوف يكون نمو وتطوُّر المكتب الافتراضي من أهم نتائج أزمة كورونا، وهو ما يسهم بشكل كبير في تحسين بيئة العمل عن بُعد.
• الدليل الاسترشادي المؤقت للعمل عن بُعد في القطاع الخاص:
يعَدُّ العمل عن بُعد من أنماط العمل الجديدة التي لاقت رواجًا في الفترة الماضية، وتهدف إلى إعطاء العامل وأصحاب العمل مرونةً أكبر في أداء أعمالهم لا سيما مع التطور التقني وتوفُّر أدوات وسُبل التواصل المرئي. كما أثبت هذا النمط فاعليته في الظروف الخاصة، وضمان استمرارية الأعمال.
• أولًا: يُقصَد بالعمل عن بُعد: أداء العامل لواجباته الوظيفية في غير مكان العمل المعتاد، وذلك باستخدام أيٍّ من وسائل الاتصال وتقنية المعلومات. ويُقصد بجهة العمل: شركات ومؤسسات القطاع الخاص التي يعمل لديها العامل. أما مصطلح الأوعية التقنية، المُتضمَّن في الدليل فيشير إلى الأنظمة والتطبيقات ووسائل تقنية المعلومات التي تُمكِّن العامل من العمل عن بُعد.
• ثانيًا: يجب أن يكون لدى جهة العمل التي تُطبِّق هذا الدليل الاسترشادي المؤقت للعمل عن بُعد، نظامًا تقنيًّا تتوفر فيه كحدٍ أدنى المواصفات الآتية:
– يُمكِّن جهة العمل من إدارة إنتاجية العامل عن بُعد، والإشراف على المهام المسندة إليه.
– يمنح العامل عن بُعد الصلاحيات التي تُمكِّنه من تأدية مهام عمله.
• ثالثًا: تُحدِّد جهة العمل إدارة أسلوب العمل عن بُعد لمنسوبيها من حيث تحديد ساعات العمل، سواءً كانت محددةً بوقتٍ معين أو مرنة خلال اليوم أو الأسبوع أو الشهر، على أن تُحدِّد آليات متابعة أعمالها وإدارة إنتاجية العامل.
• رابعًا: يلتزم الموظف الذي يعمل عن بُعد بالآتي:
– الحضور إلى جهة العمل إذا دعت الحاجة لذلك.
– أن يستخدم في أداء عمله الأجهزة المُخصَّصة له من قِبل جهة العمل، أو الأجهزة الشخصية المُطبَّق عليها ضوابط الأمن السيبراني الخاصة بالجهة.
– أن يحتفظ بمعلومات العمل ومستنداته في الأوعية التقنية الخاصة بجهة العمل.
– أن يلتزم بالسياسات والإجراءات الخاصة بالأمن السيبراني والاتصال عن بُعد، المنصوص عليها من قِبل جهة العمل.
– حفظ الأدوات والأجهزة التي في عهدته، والاعتناء بها وطَلْب الصيانة اللازمة لها من جهة العمل كلما تطلَّب الأمر ذلك.
– إعادة الأدوات والأجهزة التي تُوفِّرها له جهة العمل للقيام بعمله متى طُلِب منه ذلك.
• خامسًا: يسري على مَن يعمل وفق هذا الدليل نظام العمل واللوائح التنفيذية ذات العلاقة.
ومن جانبه تساءل د. رياض نجم: فيما يتعلق بالدليل الاسترشادي للعمل عن بُعد الذي أصدرته وزارة الموارد البشرية، هل هو كافٍ أم أنه مُختصر أكثر من اللازم؟ ولماذا يكون مؤقتًا وليس دائمًا؟
وفي هذا السياق، يعتقد د. عبد العزيز الحرقان أن الدليل الإرشادي – للأسف – ناقص، ولا يناقش أو يُقدِّم مقترحات بديلة للوائح العمل الداخلية التقليدية؛ فبعض المدراء مثلاً يُصرُّ على تواجد الموظفين بشكل دائم أون لاين في نظام الاجتماعات المرئي، وآخرون اعتبروا تواجد الموظف في غير منزله هو تغيُّب عن العمل. ومن واقع الممارسات الحالية، يتبين أن ساعات العمل تمتد لخارج أوقات الدوام الرسمي.
• تأثيرات أزمة جائحة كورونا والعمل عن بُعد على المجتمع:
تطرَّق د. خالد الرديعان إلى العمل عن بُعد من زاوية تتعلق بسرعة الإنجاز وتوفير الوقت بحكم أن العمل سيتم إلكترونيًّا بعيدًا عن عامل العنصر البشري الذي قد يكون مُعوقًا، كما أن العمل عن بُعد يُوجد المساواة في التعامل؛ ومن ثَمَّ تقلص فرص الفساد والمحسوبية والبيروقراطية المرضية. أيضًا، يمكن النظر إلى العمل عن بُعد من زاوية اقتصادية تتعلق باستهلاك الطاقة (سواء في المواصلات واستخدام وسائل النقل أو الأماكن والمكاتب التي تستهلك كميةً معتبرة من الطاقة والكهرباء والوقود والأثاث والجهد البشري… إلخ). وبالطبع، فهناك أعمال يصعب إنجازها عن بُعد ولا بد من عمل ميداني لكي يمكن حصر هذه الأعمال؛ لمعرفة الجزء الذي يمكن إنجازه منها عن بُعد، وبوسائل التقنية الحديثة. أمر آخر يتعلق بالعمل عن بُعد، وهو أن هذا النمط من العمل غير “مجندر” أي لا يتم تقسيمه على أساس الجنس ذكر وأنثى؛ فمهارات العمل عن بُعد تُناسب الجنسين، بل قد تجد فيه المرأة فرصةً للقيام بوظيفتها التقليدية كربة بيت، وفي الوقت ذاته موظفة مُنتِجة دون أن تبرح مسكنها.
في حين يرى م. سالم المري أنه إذا استمر فرض الإغلاق والتباعد الاجتماعي على الناس، فإن ثمة تغييرات جذرية في طريقة أداء الأعمال لا بد أن تحدث، ومن أبرز التأثيرات المتوقعة للعمل عن بُعد على الدولة والمجتمع ما يلي:
1- سيحدث تغيير في تحمُّل الكلفة وفي التدفق النقدي لعوائد العمل، كما ستزيد نسبة الأموال التي ستصدر لصالح شركات أجنبية في الخارج على شكل عملة صعبة. فالمالك الحقيقي للإنترنت والشركات (مثل: قوقل وميكروسوفت، وشركات الأقمار الصناعية، وشركات الاتصالات المالكة للتقنيات والخدمات، وغيرها) قد يبدؤون تقاضي مقابل على بعض الخدمات المُقدَّمة للمُستخدِم وكذلك بالنسبة لتطبيقات المحادثة والتصوير؛ وهذه جميعها تملكها شركات أجنبية خارج الحدود.
2- سيصبح المجتمع والأعمال والدولة أكثر عُرضةً للاختراق، ولن يكون هناك معلومات سرية؛ فجميع المعلومات ستكون مكشوفةً لمالكي التقنيات، ومعظمها لشركات أمريكية.
3- سيكون هناك فئات من المواطنين غير قادرين على استخدام التطبيقات؛ بعضهم غير قادر تقنيًّا، والبعض الآخر غير قادر ماليًّا، وآخرون غير قادرين لا ماليًّا ولا تقنيًّا.
4- سيكتشف أصحاب الأعمال أن هناك ترهُّلاً في الكثير من الأعمال، وأن كثيرًا من الوظائف لا حاجة لها.
وركَّز د. رياض نجم على الجانب المتعلق بسرية المعلومات، حيث تساءل: أليس الأخطر بالنسبة للعمل عن بُعد هو الاختراق من قِبل مستخدمين آخرين من داخل المملكة وخارجها، وليس من الشركات التي تُؤمِّن هذه البرمجيات؛ لأن معظم البرمجيات تُؤمِّن إمكانية التخاطب المُشفَّر وغير المشفَّر بدرجات متفاوتة، وتعتمد على اشتراك المستخدم؟
وفي هذا الإطار، ذكر م. سالم المري أن هناك خطورةً دائمًا من الاختراق من قِبل الهاكرز الداخليين والخارجيين، ولكن ستتصدى لهم الأجهزة المختصة في المنظمات الخاصة والدولة، وهؤلاء عادةً قادرون على تحقيق مستوى معقول من أمن المعلومات. ولكن المشكلة الحقيقية في الشركات الأجنبية المالكة للتقنيات، فمَن يضمن أنها لن تستخدمَ المعلومات السرية أو تبيعها لجهات أخرى؟ وأضاف د. رياض نجم أن هذا ينطبق على جميع البرمجيات التي تبيعها هذه الشركات، وليس مقصورًا على برامج التواصل المرئي أو الصوتي أثناء العمل عن بُعد.
وأشار د. حميد الشايجي إلى نتائج دراسة أُجريت في إبريل 2020، لقياس تجربة الموظفين والطـــلاب حـــول العمل والدراسة عن بُعد خلال جائحة كورونا 19-COVID، حيث أوضحت أن هناك حالةً من عدم رضا عن تجربة العمل عن بُعد من وجهة نظر الموظفين المشاركين، ويُلاحظ زيادة متوسط رضا موظفي القطاع الحكومي مقابل موظفي القطاع الخاص (*).
ومن وجهة نظر د. عبد الله بن ناصر الحمود، فإن تجربة العمل عن بُعد أثناء جائحة كورونا انطوت على مفارقة مهمة تمَّت ملاحظتها من الجميع، ويمكن وصفها بالعمل عن قُرب ولكن هذه المرة “داخل البيوت”، فبالفعل طغت مظاهر الحياة المرفَّهة التي عاشها العالم الميسور “تحديدًا” على الأنماط الطبيعية للعيش والتعايش.. وصارت الحياة “ماديةً” “مصنّعة” في كثير من مظاهرها، وضعفت مركباتها الإنسانية الطبيعية. حتى جاءت الجائحة وفرضت علينا تغيرات مختلفة في أنماط حياتنا العملية والشخصية، فقد كانت الأعمال القليلة لا تكاد تُنجز إلا بالجهد الكبير والضوضاء والجلَبة؛ الآن عبر “تطبيقات رقمية”، أنهينا “عن قُرب من عوائلنا” كثيرًا من الأشياء وحسمناها: درس الأبناء وتخرَّجُوا، عُقدت المجالس العلمية والاستشارية والإدارية واللجان وأُنجزت أعمالها، جابت خدمات التوصيل الإلكتروني لكافة الاحتياجات أبواب البيوت، عُقدت أكبر قمة اقتصادية عالمية.
في حين ذهب د. عبد العزيز الحرقان إلى أن تجربة العمل عن بُعد كانت الأكبر والأوسع نشاطًا في استخدام شبكة المعلومات والاتصالات السعودية في قطاع الأعمال. وللأسف، شاهدنا ضعفًا في خدمات الاتصالات، وضعفًا في الدعم الفني لتقنية التواصل والاجتماعات عن بُعد. والملاحظ أن التقنية المستخدمة كانت أجنبية وبسيطة، وكان بإمكان شركات التقنية السعودية أن تُنتج أنظمةً أفضل وأكثر أمنًا. كذلك فإنه وبسبب عدم توافق أنظمة العمل التقليدية مع نظام العمل عن بُعد، وغياب اللوائح التنظيمية؛ ظهرت مشاكل أعاقت كثيرًا من أعمال الأجهزة الحكومية المتعلقة بالتعامل مع رجال الأعمال والتجار، مثل اشتراط توقيع المحاضر والخطابات المتعلقة بالصرف والتوريد. بينما الموظف المسؤول لا يُسمح له بدخول مكتبه للحصول على الوثائق المطلوبة.
بينما لاحظ د. سلطان المورقي خلال أزمة جائحة كورونا أن العمل عن بُعد يُفقِد الشخصَ عواملَ التحفيز على أداء العمل؛ لعدم وجود النظُم أو السياسات المناسبة لتسهيل عملية الاتصال بالعمل، وأيضًا قد يضطر العاملون عن بُعد للعمل ساعات زائدة لتنفيذ العمل المطلوب دون الحصول على مقابل لهذه الزيادة في الساعات، فلا يوجد مقياس مُحدَّد.
بينما يرى أ. محمد الدندني أنه فيما يتعلق بتضرر بعض القطاعات من العمل عن بُعد فهذه ضريبة التغيير، والمتوقع أن يتجه رأس المال حسب درجة إبداع المالك له للاستفادة من الوضع الجديد. وكمثال، لننظر كم من المدارس مستأجرة على الرغم من كونها مبانيَ لا تتوافر فيها اشتراطات أن تكون مدرسة. هذا هدرٌ لميزانية التعليم التي يمكن أن تُستغل استغلالًا حسنًا لمصلحة الطالب ونوعية التعليم، ومن ثَمَّ التنمية.
وأكد أ. د. عثمان العثمان على أن أهم مُكتسَب لتجربة العمل عن بُعد في ظل جائحة كورونا، بيان أن هناك وظائف كثيرة غير مكانية، ويمكن أداؤها بذات الجودة أو أفضل، عن بُعد. وهذا سيُعزِّز تقليل اعتماد التقييم على الحضور والانصراف في كثير من الأحيان، إلى التقييم المبني بشكل أساس على الأداء، حيث لم يعُد للحدود الزمانية والمكانية أثرٌ، وهذا من شأنه أن يرفع من العدالة في التقييم، وتقليص دور العناصر غير الضرورية في التقييم.
من جهته يرى أ. جمال ملائكة أن تجربة العمل عن بُعد قد فتحت آفاق الاستعانة بأشخاص ذوي خبرات كبيرة ومميزة في كافة المجالات من خارج المملكة، وذلك بالاستفادة منهم بنظام “الساعة”؛ مما يساعد المنشأة سواء كانت حكومية أو قطاعًا خاصًّا على الاستفادة من خبراتهم وعقولهم، وفي الوقت نفسه تكون تكلفة ذلك معقولةً جدًّا بالمقارنة من توظيفهم بالنظام الحالي أو جلب شركات استشارية مكلفة جدًّا.
وذهب د. مساعد المحيا إلى أن جائحة كورونا قد عزَّزت كثيرًا من قيمة العديد من الأعمال عن بُعد. فنحن اليوم نستطيع أن نعقد الاجتماعات في الأوقات الأكثر ملاءمةً، ونستطيع أن نُقدِّم الكثيرَ من الدورات التدريبية بما فيها الجوانب ذات الطبيعة المهنية، ونستطيع أن نُدير عددًا من أعمالنا عن بُعد وَفق آلية تتسق وطبيعة نمط هذا العمل… إلخ. كان البعض يُبدي تخوُّفًا من صلاحية العمل عن بُعد لا سيما ممَّن لم يدركوا معطياتها، وكان هؤلاء يُثيرون الكثيرَ من الإشكالات نحوها، وكانوا يُشكِّكون في إنتاجيتها؛ إلا أن تجربة العديد من المؤسسات الحكومية والشركات قبل كورونا في عدد من الأعمال التي وظّفت فيها نساء يمارسن العمل من منازلهن، أعطت مؤشراتٍ إيجابيةً واسعةً. المهم عدم المبالغة؛ بحيث لا نُلقي بالثقل كله في ميدان العمل عن بُعد، ولا ينبغي أن نتمسك بممارسات تقليدية تفترض أن العمل في مكتب الشركة هو الأفضل. هذا التوسُّط سيُتيح أولاً إمكانية الاستمرار في تقويم التجارب، وثانيًا معرفة مدى طبيعة الفروق في الإنتاجية وكفاءتها، وهو ما سيمنحنا قدرةً عالية في تطوير هذه التجارب مستقبلاً.
وفي ذات السياق المتعلق بالتأثيرات الناجمة عن اللجوء إلى العمل عن بُعد في ظل جائحة كورونا، سلَّط م. خالد العثمان الضوءَ على بعض النقاط التي تعكس هذه التأثيرات في تصوُّره كما يلي:
• واقع الحال في تطبيق العمل عن بُعد في السعودية وغيرها من الدول وربما على الأخص في الدول العربية، هو كمَن يُعطي مهندسًا مبضع جراحة ليقوم بإجراء عملية جراحية. معظم العاملين في القطاع الحكومي خصوصًا، ومثلهم عدد مؤثر من منسوبي القطاع الخاص تغلب عليهم ثقافة البيروقراطية ومقاومة التغيير. ومن الصعب توقُّع تغيُّر أنماط عملهم لتحقيق تفعيل حقيقي في ممارسة العمل عن بُعد إلا إذا طالت الأزمة بشكل يضغط على هؤلاء للاستجابة للتغيير والخضوع له بالتوازي مع تأهيل البنى التحتية، وحشد المهارات والمعارف لتحقيق هذا التغيير بشكل فاعل.
• يتحدث كثيرًا هنا عن تحقيق إنجاز الأعمال في تجربة العمل عن بُعد. وهنا يكون التساؤل عن “الجودة” مقابل “الإنجاز”. فمن الضروري تحقيق مستوى مقبول من الجودة لتحقيق التتابُع والتكامل المطلوب من إنجاز الأعمال، وليس إغلاق ملفات بشكل متناثر لكل موظف في موقع عمله دون تفعيل الإدارة الشمولية لمنظومة العمل.
• الإنسان كائنٌ اجتماعي بطبعه، وكثير من فعالية الأداء في العمل تأتي نتيجة التحفيز التشاركي في مكان العمل بممارسات العصف الذهني وتأثيرات الحضور والتفاعل ولغة الجسد وإذكاء الحماس، وغير ذلك مما لا يمكن تحقيقه عن بُعد. والواقع أنه لا يمكن الاعتماد بنسبة كبيرة على العمل عن بُعد، وتوقُّع تحقيق ذات المستويات من جودة الأداء بشكل مطلق.
• بشكل عام، فإن تفعيل العمل عن بُعد ولو بنسب وسطية بين الحضور التام والانعزال التام يتطلب تغييراتٍ جذريةً في الإجراءات ومتطلبات العمل، إذ لا يمكن تحقيق فعالية حقيقية في ظل تطبيق ذات المنظومة المشبَّعة بالبيروقراطية بوسائل التواصل عن بُعد، ناهيك عن أولئك الموظفين “وما أكثرهم” ممَّن يبحثون عن أعذار للتغيُّب عن العمل بحُجج واهية بعيدًا عن أي رقابة أو محاسبة حقيقية. ببساطة، يجب أن يتحول قياس الأداء إلى الإنتاجية وليس الحضور قبل أن نتحدث عن تفعيل حقيقي للعمل عن بُعد.
• مستقبل العمل عن بُعد ما بعد جائحة كورونا:
ذهب أ. عبد الله الضويحي إلى أن بعض الأزمات والمواقف تُجبر صانع القرار أو صُنَّاعه كلٌّ في مجاله وموقعه لاتخاذ قرار قد يكون تصحيحيًا أو يُحدِث تغييرًا في منظومة العمل أو المجتمع، ثم ما يلبث أن يعود الوضع لطبيعته في بعض الأحيان بعد زوال الأثر والتأثير. وهنا التساؤل، هل ينطبق هذا الوضع على جائحة كورونا؟ أم أن الأمر يختلف؛ كون القرار هنا ليس فرديًّا ولا يختص بمجتمع دون آخر بقدر ما هو قرار دولي وإنْ اختلفت أبعاده وحدوده؟ وأضاف: لا شك أن جائحة كورونا وضعتنا أمام خيار لا بد منه؛ فالتفكير في العمل عن بُعد أصبح واقعًا لا مناصَ منه، والخُطط المستقبلية لهذا النوع من العمل والبرامج أصبحت نافذةً بين عشية وضحاها. وتبقى التساؤلات: هل سننظر للعمل عن بُعد سواء كمجتمع أو كقطاعين عام وخاص على أنه حالة طارئة تنتهي بانتهاء الأزمة ونعود كما كُنَّا؟ وإلى أي مدى ستكون هذه النظرة؟ وهل يسهم العائد الاقتصادي (توفير المصاريف) في تعزيز النظر للعمل عن بُعد والتوسُّع فيه؟ وما مدى تأثير ذلك على البطالة، وهل سيُسهم في زيادتها؟ وهل هناك حلول مقابلة؟ ومن جانب آخر، هل سيفتح العمل عن بُعد آفاقًا جديدةً للحدِّ من البطالة؟
ومن جانبها ترى د. هناء المسلط أن صدمة الأزمة جعلت الفرد يكتشف قدراتٍ ومهاراتٍ جديدةً في ذاته. فرغم عدم التخطيط والتأسيس للعمل عن بُعد في غالبية القطاعات وعدم وضوح نظام العمل فيه؛ إلا أن الواقع الذي عاشه من خاضَ هذه التجربةَ خلال الأزمة الحالية سيجد أنه ينطوي على إيجابيات، منها: توفير الوقت والتكلفة للتنقل من وإلى العمل. التقليل من تكدُّس أعداد العاملين غير المنتجين، وزيادة إنتاجية العاملين المنتجين فعليًّا. يعطي فرصة لكافة فئات المجتمع المؤهلين للعمل، خاصة من ذوي الاحتياجات الخاصة أو السيدات ممَّن لديهن ظروف خاصة تمنعهن من الخروج من المنزل. كما يتيح المرونة في الوقت، وتحفيز مبدأ الرقابة الذاتية لكل موظف أو موظفة. ما نحتاجه حقيقة شمولية العمل عن بُعد لجميع جوانب الحقوق والواجبات، وإنشاء أقسام إدارية مستقلة للعمل عن بُعد.
وذهب د. سلطان المورقي إلى أننا لم نكن نتوقع أن أزمة أو جائحة كورونا ستوصلنا إلى هذا الحد من التوقُّف أو الشلل التام في جميع الأعمال والقطاعات. لذا لم تكُن التشريعات والأنظمة جاهزةً، ومنها الحوكمة التي تضمن إجراءات العمل عن بُعد سواءً من المُشرِّع (الوزارات المعنية، مثل الاتصالات وتقنية المعلومات أو وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية) أو حتى جهات العمل. وأيضًا، لم تكن المنصات المحلية موجودة؛ مما أجبر أغلب المسؤولين على البحث عن وسيلة لإكمال أعمالهم وواجباتهم بأي طريقة مهما تكلَّف الأمر، ولم يكن أمامهم خيارٌ إلا استخدام المنصات الأجنبية الجاهزة للاستخدام، ولم ينظروا للجوانب الأخرى ومنها مستوى الحماية في تلك المنصة. لدينا في المملكة – ولله الحمد – بنية تحتية ممتازة في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات، ولكن الذي ينقصنا في مجال العمل عن بُعد هو وجود الأدوات والوسائل المحلية، ومن أههما منصة محلية بجميع أدواتها التقنية نستطيع أن نثق بها ونتعامل معها بحرية. المطلوب منَّا هو تطوير منصة وطنية تكون رائدةً للعمل عن بُعد، تدعمها الدولة ويقودها القطاع الخاص، فمن رِحم الأزمات تُخلق الفرص.
وبدوره أوضح د. حامد الشراري أن هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات والهيئة الوطنية للأمن السيبراني لهما دورٌ رئيس في إرشاد الجهات الحكومية وحتى الخاصة. أيضًا في اعتقاد د. حامد الشراري، فإن ثمة توجُّهًا لأنْ يكونَ العمل عن بُعد مُلزمًا بنسبة لا تقل عن ٢٠٪ وفق معايير وضوابط محددة. بينما يرى د. عبد العزيز الحرقان أن نجاح أنظمة العمل عن بُعد يعتمد بشكل أساسي على هندسة إجراءات العمل؛ لتأخذ في الاعتبار خصائص أنظمة العمل عن بُعد، وتقيس أداء الموظف بناءً على إنتاجه وليس حضوره.
وتساءل د. رياض نجم: ما مدى ملاءمة التوجه الحكومي بأن يعمل ٢٠٪ من الموظفين الحكوميين عن بُعد في الأحوال العادية. فيما لو أُقِرَّ هذا التوجه، فهل يُقلِّل أو يزيد من نسبة البطالة؟ وهل من المُجدي أيضًا تطبيقه على القطاع الخاص؟ وهل له أثر إيجابي أو سلبي على الاقتصاد الكلي؟ ومن ناحيته يرى د. خالد الرديعان أن هذا قد يخلق للدولة وفرًا ماليًّا في بعض البدلات التي تُصرف للموظف كبدل المواصلات، وربما غيره.
ويرى د. عبد الإله الصالح أن العمل عن بُعد (سواء دراسة أو خدمات أو أداء وظيفة) سيكون ثقافة، وهي بدأت في التكوُّن والتكوين من قبل الجائحة؛ لما لها من مكاسب في ظلِّ التطور الرقمي. وقد أظهرت الجائحة ضرورة للعمل عن بُعد، غير ما كان قبلها، ولكن المكاسب المُدرَكة قبلُ والضرورات المفروضة لما بعد الجائحة تصبُّ في نفس الاتجاه.. ثقافة تعاقدية قانونية اجتماعية تنظيمية أكثر تركيبًا وتعقيدًا في بيئة ومنظومة العمل التي عرفتها الإنسانية لقرون من الزمن، أفضل وأسهل طريقة لمعرفة مقدار التغير والتطوير المطلوب على منظومة العمل هو مراجعة نظام العمل والعمال ولوائحه التقليدية. وفي الإطار ذاته، فإنه قد تكون أفضل طريقة لتطوير ثقافة العمل عن بُعد في المملكة بشكل سريع ومُنظَّم وإبداعي هي إيجاد برنامج حكومي يمول ويساعد بعض المؤسسات المتنوعة (المختارة كنماذج تجريبية) في تطوير أعمالها عن بُعد نظاميًّا وتقنيًّا وإداريًّا، واستخراج القواعد والمتطلبات والأنظمة والتفاصيل المطلوبة على كل المستويات، بما في ذلك النواحي النفسية والاجتماعية والمالية وتوطين الأعمال. ومن الضروري التأكيد على أهمية إيجاد برنامج مرن يمول ويساند فنيًّا ومهنيًّا مجموعة مختارة من المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص لتكونَ محلَّ اختبار وتجريب للتوصل لخلاصات ونتائج تنظيمية ونظامية وتقنية واجتماعية واقتصادية (الاقتصاد الشامل والجزئي) تتناسب مع الثقافة الإسلامية والوطنية والمحلية.
وذكر د. خالد بن دهيش أنه قبل أكثر من عقدين عُملت دراسة حول إمكانية تطبيق أسلوب العمل عن بُعد للمساهمة في إيجاد فرص وظيفية للمرأة السعودية، كان من نتائجها تبني القطاعين العام والخاص إيجاد فرص وظيفية للمرأة السعودية من خلال العمل عن بُعد. وخلال العقدين الماضيين لم يتحقق المأمول في ظلِّ الكثير من التعقيدات التنظيمية والتشريعية وتواضع الإمكانات التقنية. ورُبَّ ضارة نافعة، ففي ظل جائحة كورونا تحقَّق الكثير من التقدُّم وتوفَّرت القناعات لدى القطاعين العام والخاص بأهمية بل ضرورة العمل عن بُعد، فلم يعد خيارًا، وها هي وزارة الموارد البشرية تعمل على دراسة لتعديل وتطوير أنظمتها وتحديث المتطلبات التعليمية والتأهيلية والتدريبية الوظيفية، واحتياجات العمل من التجهيزات التقنية وشبكات الاتصالات المتطورة وانتشارها بالمملكة لتصبح بيئة العمل مُلائمة للعمل عن بُعد بنسبة لا تقل عن ٢٠٪ من مواردها البشرية بالقطاعين كمرحلة أولية، ليس لإيجاد فرص لعمل المرأة؛ بل وللرجل أيضًا.
بينما أشار أ. عبد الرحمن باسلم إلى أن الحكومة الإلكترونية وإدارة القطاع الخاص لأعماله إلكترونيًّا موجودان على أرض الواقع، والآن كمثال، فإن الجوازات أصبحت معظم خدماتها إلكترونية وهي جهة حكومية، وقد أصبح العمل عن بُعد مفهومًا لا بد منه في ظل الاتجاه العالمي نحو ذلك، وتقليل التكاليف ورفع الجودة؛ لكن المؤسف أن التفكير في هذا التوجُّه قد بدأ بعد أن أصابتنا أزمة كورونا، والمفترض إيجاد خُطط واضحة لذلك.
وتساءل د. رياض نجم: هل سيكون من نتائج جائحة كورونا أن تكتشف كثيرٌ من المؤسسات والشركات أن هناك نسبة لا يُستهان بها من الموظفين ليس هناك حاجة لهم، وهذا ينطبق بشكل أكبر على القطاع الحكومي، وهل سيرفع العمل عن بُعد على المديين المتوسط والبعيد من نسبة البطالة؟
وفي اعتقاد أ. نبيل المبارك، فإن الحكومة اعترفت من خلال تصريحات أكثر من مسؤول وواجهت الحقيقة أن استخدام التقنية أكثر فاعليةً، وأن ما يزيد عن الثُلثين المعطل الآن، ليس لهم حاجة فعلاً، فمعظم الجهات تؤدي عملها بدون السواد الأعظم من الموظفين، وبشكل سلس. أما القطاع الخاص فينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم متطوِّر جدًّا ولم يتفاجأ بما حصل، واستمر العمل بشكل إلى حد ما طبيعي. قسم ثانٍ كبير اكتشف مثل كثير من القطاعات الحكومية، أنه كان يعتمد على يدٍ عاملة رخيصة ولم يستثمر في استخدامات التقنية، والآن يُعاني والكثير منهم سوف يخرج من السوق، والباقي يُسابق الزمن للاستثمار في التقنية بدلًا من العمالة الرخيصة للبقاء، ولا نعلم هل يسعفه الزمن أم أن الأمر تأخَّر. أما فيما يخصُّ القسم الثالث المتعلق بالمنشآت الصغيرة والتي غالبيتها تستر، فلعل هذه الأزمة تقضي عليه تمامًا أو على جزء كبير منه؛ وهم سبب رئيسي في عدم وجود مبادرين جادين؛ لأن الحاجة أم الاختراع.
بينما أشار أ. محمد الدندني إلى أن الحكومة ستنظر في تأثير العمل عن بُعد على مستوى البطالة من باب الحرص على تجنُّب مشاكل اجتماعية وغيرها. أيضًا، قبل تعميم هذا النهج وتبنِّيه لا بد من إحصائيات دقيقة لمَن يستطيع العمل عن بُعد في القطاعين الحكومي والخاص، وكم نسبة القابلين للتأهيل؟ وهل يمكن إعادة تأهيل غير القابلين لأعمال أخرى تُناسبهم وطبعًا ذات حاجة؟
أما م. فاضل القرني فيرى أن التخطيط وإعداد إجراءات تطويرية وطوارئ لمواجهتها عند حصولها هي من أسس المؤسسات الواعية إداريًّا. قال آيزن هور (لا توجد خطة تعمل، ولا يمكن أن تذهب للحرب بدون خطة). هذا ما حدث في وباء كورونا الذي تخطَّى سقف الافتراضات لإعداد الخطة. ولو جدلًا تم مناقشة الموضوع (العمل عن بُعد) قبل كورونا، لكان هناك آراء كثيرة في التباين بين المؤيدين والمعارضين بسبب طبيعة العمل واختلاف الأجيال والأعمار والمدارس الفكرية، ولكن كورونا لم يدع هناك خيارًا عن تبني وتطبيق العمل عن بُعد بهذا الزخم وبشكل سريع جدًّا. والاعتقاد أن جميع المجالات في القطاعين العام والخاص تم فيها تطبيق العمل عن بُعد على الأقل بنسبة لا تقل عن النصف، أما في الأعمال الحساسة والأمنية فكان هناك تواجد لا يزيد عن خمسين في المئة، والخمسين الأخرى عن بُعد. لا شك أنها تجربة فريدة، ويبدو أن مؤشرات النجاح أكثر من سلبياتها حسب الظروف الحالية التي يتفهمها الجميع وإنْ كانوا ليسوا بالضرورة موافقين عليها. ويشير ذلك إلى أن العاطفة الآنَ هي سيدة الموقف، وفي نفوس ولا وعي الناس، وأملهم بمشيئة الله أن الأزمة إلى انفراج. وهذا هو بداية التقييم والتمحيص العملي والحقيقي للعمل عن بُعد؛ فلا يمكن أن ندرس المفهوم ومتطلباته (الإجرائية، الفنية، القانونية، التعاقدية، الأمنية) والعوامل التي تساعد على تطبيقه إلا بعد انجلاء الأزمة. ولا يعني بالضرورة إيقافه، ولكن سيكون بعد اختفاء السبب للعمل عن بُعد بهذا الزخم، حصيلة هائلة من التجارب في مختلف التخصصات والخدمات والبضائع والتعاملات المالية والتعليمية والإعلامية والأمنية والبحوث الطبية. تحمل تلك المعلومات (أو ربما البيانات لأنها تعتبر مادةً خامًّا حتى تُحوَّل إلى معلومة مفيدة) بإيجابيات وسلبيات، ومنها ما يمكن تحسينه. كلُّ ذلك سيضعُ الجميعَ من أصحاب القرار والقادة والرؤساء التنفيذيين والفنيين والإداريين والمساندين في فهم ووعي أفضل لتطبيقه خارج ضغوط ظرف طارئ. ويعني هذا أنه لن يكون هناك تخلٍّ عن مفهوم العمل عن بُعد، ولكن سيكون هناك تفهُّم وتطبيق بقناعات وكفاءة وفعالية (Timely effective and efficient). وهناك مُحفِّز أكبر لذلك، وهو أن معظم دول العالم الصناعية والنامية تشارك المملكة في معظم الإجراءات للجائحة والعمل عن بُعد. والخلاصة، من الضروري اعتماد لجنة وطنية عُليا وفِرَق عمل ترصد وتجمع وتُصنِّف وتدرس وتُقيِّم هذه الممارسةَ الناعمةَ اللطيفة، وتُقدِّم توصياتها الشاملة للدولة (السياسية، الأمنية، والفنية، والبشرية، والإجرائية، والأهم على الإطلاق وضع سياسية وقدرات النسخ الاحتياطي بأسلوب مبتكر، ولنا في كورونا أشد العبر) على أساس أن العمل عن بُعد هو بُعدٌ داعمٌ وموازٍ للعمل التقليدي. والأهم من ذلك أن لا تكون على حساب تقليص الإنفاق في القطاعين العام والخاص بتقليص الوظائف؛ بل لرفع الكفاءة وجودة المنتج.
وفي تصوُّر د. عبد الله بن صالح الحمود، فإن العمل عن بُعد يعَدُّ من أسُس النظُم الإدارية، فكلُّ عملٍ على أرض الواقع أي في دائرة العمل الرئيسة، لا بد أن يُصاحِبه عمل عن بُعد مُتمم أو مُكمِّل له، وهذه الخاصية لا تعني أن الإتيان بها هو في أوقات حدوث الأزمات فحسب، بل المفترض أن يكون ذلك قاعدةً أساسيةً لأي قطاع أيًّا كان، سواء خدمي أو صناعي أو تجاري، فالعمل عن بُعد هو منهج يُشكِّل ركنًا أساسيًّا لأي منظومة عمل، وحتى تكتمل وتظهر الأبعاد والنتائج العملية المبتغاة لهذه المنظومة، لا بد من التكامل العملي ما بين العمل في دائرة العمل الرئيسة، واتباع مسلك قويم للعمل عن بُعد؛ هنا نكون قد وصلنا إلى بداية مرحلة التحقيق الكامل للتقيُّد بهذه السياسة لاكتساب نتائج إيجابية لقوة العمل عامة. وللوصول إلى المراحل اللاحقة، يتوجب اتباع خطوات موضوعية، تتمثل في توافر قواعد أساسية لإيجاد بيئة شاملة تدعم مسيرة مُحقِّقة لنتائج مطلوبة عند تطبيق سياسة العمل عن بُعد، ولتحقيق ذلك لا بد من الجاهزية لعناصر أساسية، مثل:
• أن تكون طبيعة الأعمال المطلوب أداؤها عن بُعد قابلةً للتنفيذ.
• توافر التشريعات الداعمة لسياسة العمل عن بُعد.
• توافر الأدوات التقنية الداعمة لسياسة العمل عن بُعد.
• فرض رقابة ذات تقنية عالية لسلامة أداء العمل عن بُعد.
• أن تكون سياسة العمل عن بُعد أحد الأركان الأساسية المكمِّلة لمنظومة العمل الأساسية، وليست جزءًا ثانويًّا.
• أن تشمل أوقات العمل عن بُعد ضمن أوقات العمل الرئيسة للمنظمة، إضافةً إلى توافر العمل عن بُعد خارج الأوقات الرئيسة لعمل المنظمة.
وأكدت أ. فائزة العجروش أنه لا بد أن نعترف بدايةً أنه بعد ما ألقت جائحة كورونا بظلالها على مختلف مناحي الحياة وفعالياتها، من الأكيد سيشهد العالم تحوُّلًا جذريًّا في نمط الحياة الاجتماعية والاقتصادية مُعلِنًا أساليب جديدة في إدارة الأعمال، وسيشهد المستقبل القريب في المملكة حراكًا رقميًّا وإلكترونيًّا بدون الحاجة إلى التواجد والتواصل المادي إنْ أثبتت تجربة العمل عن بُعد لدينا جدواها وكفاءتها خلال هذه الأزمة، والتي بيَّنت أن مستوى الإنتاجية في العمل من المنزل لكثير من الجهات والشركات كان مساويًا أو أعلى حتى من مستوى العمل في مقر الدوام الرسمي في كثير من المواقع، وبعدد موظفين أقل. كما أن جائحة كورونا ستُغيِّر مفاهيم العمل بشكل جذري – إرث المكاتب الفخمة سينتهي مثل ما انتهت مراكز خدمة العملاء – والتحول سيكون كبيرًا جدًّا، وستجعلنا نلجأ لتطوير الأنظمة بشكل مستمر، وطَرْح مبادرات مبتكرة تؤدي إلى زيادة الإنتاجية من زوايا مختلفة. وفيما يتعلق بالتساؤل الذي طرحه أ. عبد الله الضويحي، “هل سننظر للعمل عن بُعد سواء كمجتمع أو كقطاعين عام وخاص على أنه حالة طارئة تنتهي بانتهاء الأزمة ونعود كما كنا؟ ” فالتصور أن نظام العمل عن بُعد أصبح خيارًا حقيقيًّا وواقعيًّا، وسيكون من أولويات الدولة في المستقبل القريب العاجل؛ ولكن لضمان استمرار نجاح هذه التجربة يجب:
1- ألا يقتصر تطبيقها في المناطق الحضرية التي يتوفر فيها الإنترنت وبسرعة عالية.
2- عدم إغفال أهمية محو أمية غير التكنولوجيين على استخدام أنظمة الاتصال عن بُعد.
أيضًا، فإن من أهم المقومات لنجاح واستمرار الإنجاز في العمل عن بُعد، ما يلي:
1- وجود بنية قوية لإدارة الأداء (مؤشرات الأداء).
2- ضمان عدم نسيان مهارات التواصل عن بُعد، واستخدام الأنظمة لتحديثها بشكل مستمر.
وقبل كل هذا؛ يجب توفير بنية تحتية ذكية ورقمية، وإيجاد آلية تضمن التوازنَ بين العمل من المنزل ومن مقر العمل، من حيث وَضْع أهداف سنوية لكل موظف تُدرَج في نظام إلكتروني وليس في أوراق، لتحقيق المخرجات المرجوة من نظرية استمرارية الأعمال بمهنية عالية؛ لخلق نظام متكامل للعمل عن بُعد يجعل ظروف الأزمات والطوارئ أمرًا اعتياديًّا يمكن التعامل معه بمرونة ومهنية عالية.
ويمكن الإشارة إلى أن تطبيق تجربة العمل عن بُعد يمكن أن تكون تجربةً ناجحةً لبعض الفئات ولفترات محددة؛ ومن ثَمَّ فإنها تستحق التطبيقَ، وتفتح آفاقًا جديدةً للحد من البطالة، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
1- العمل عن بُعد فرصة عظيمة للمرأة الحامل والمُرضِع أن تؤدي العمل عن بُعد؛ فتضرب عصفورين بحجر ولو خلال العام الأول على الأقل؛ لنضمن أن الطفل قد نما نموًّا صحيحًا وسليمًا، وفي الوقت نفسه لم تفقد المرأة وظيفتها.
2- العمل عن بُعد مناسب لاستغلال مواهب ذوي الاحتياجات الخاصة في وظائف معينة يسهل فيها تطبيق العمل عن بُعد.
3- يمكن تطبيق العمل عن بُعد على مستوى المدارس والجامعات نظريًّا وربما عمليًّا، وأن نلجأ له أثناء فترات سقوط الأمطار أو حدوث الكوارث الطبيعية بدلًا من تعليق الدراسة كما يُطبَّق سابقًا.
4- العمل عن بُعد مناسب للموظف الذي يعاني من أمراض مزمنة، لمنحه فرصةً ليؤدي العملَ عن بُعد ولو لساعات قليلة بدلاً من إجازة طويلة تحرم الجهة من الاستفادة من قدراته، وتضعف من حماسه وقدرته على العمل مرة أخرى.
5- من المناسب أن نُطبِّق العمل عن بُعد الاختياري للموظف، بأن يحق له اختيار عدد معين من الأيام خلال العام بشرط توزيعها على مدار السنة بدلًا من اضطرار الموظف أن يأخذ من رصيد إجازاته السنوية للبقاء في المنزل لظرف معين، على الرغم من قدرته على استكمال مهامه الوظيفية من المنزل.
6- من المناسب أن يتم تطبيق العمل عن بُعد اختياريًّا خلال شهر رمضان لمَن يرغب من الموظفين؛ كونه شهرًا روحانيًّا، والجلوس في المنزل يساعد على التفرُّغ للعبادة في هذا الشهر. وكلنا نعرف أن الدوام في نهار رمضان يُعاني من قلة الإنتاجية، وهذا مُلاحَظ عند زيارة بعض الوزارات والمؤسسات.
7- من المناسب أن يُعتمَد العمل عن بُعد بشكل دائم للموظفين الذين أكملوا 20 سنة في الخدمة وما فوق، وبخاصة النساء فترة ما قبل التقاعد أو نتركه حسب رغبة الموظف/ة وحالتهما الصحية.
8- العمل عن بُعد مناسب جدًّا للمرافقين خارج الدولة بدل الانقطاع عن الوظيفة، أو تمتُّعهم بالإجازات الطويلة الاستثنائية.
والخلاصة أن آلية العمل عن بُعد سوف تُطبَّق قريبًا ولا محالةَ، وفي مجالات مختلفة؛ إلا أنها بحاجة إلى ثقافة وحسّ بالمسؤولية، وكذلك معايير وشروط إدارية لتحقيق الإنتاجية المطلوبة، ويمكن البدء بها بطريقة نسبية لبعض الوظائف ولبعض الفترات وفي بعض الجهات، ومن ثَمَّ قياس نجاحها من فشلها ليتم اتخاذ القرار المناسب. ونحتاج قبل التطبيق توثيق السياسات والإجراءات اللازمة لإدارة العمل عن بُعد، وتفعيل التقنيات الرقمية الحديثة وتطبيقات العمل الجماعي، ووَضْع تشريعات مناسبة له تضمن الحقوقَ وتُقرِّر الالتزامات، والتي تعتبر من أهم مقومات نجاح واستمرار الإنجاز للتطبيق الفعلي الآمن في غير حالات الأزمات.
واتفق د. رياض نجم مع ما ورد بشأن كون العمل عن بُعد يعتبر مُكمِّلاً للعمل التقليدي وليس بديلاً عنه، ويناسب أنواعًا من الأعمال أكثر من غيرها. لكن التحدي الأساسي لزيادة العمل عن بُعد سيكون في إعادة تأهيل جزء من القوة العاملة للقيام بمهام أخرى غير التي يقومون بها، وفي أسوأ الأحوال الاضطرار للاستغناء عنهم كموظفين.
وذكر د. حامد الشراري أن تقييم موظفي القطاع الحكومي قبل كورونا كان يعتمد أساسًا على حضور الموظف جسديًّا من خلال التوقيع الورقي والبصمة، بمعنى الحضور هو أساس التقييم، والإنتاجية تأتي في المقام الثاني (لعدم وجود أدوات تقييم واضحة)؛ لكن خلال كورونا أصبحت الإنتاجية هي الأساس. أما بالنسبة إلى القطاع الخاص قبل كورونا وخلالها، فإن الإنتاجية هي الأساس في التقييم. والسؤال المُلحّ هنا: ما الآلية أو الأدوات التقنية التي تضمن قياس الإنتاجية عن بُعد بشكل صحيح مع ضبط أوقات العمل لجميع القطاعات؟
التوصيات:
1- الدعوة لإنشاء لجنة وطنية تضمُّ الجهات ذات العلاقة من القطاعات الحكومية والخاصة وغير الربحية لوضع برنامج وطني وحوكمة للعمل عن بُعد في القطاعات الثلاثة. ويكون من أهداف البرنامج رفع كفاءة الأداء، وخفض التكاليف، ومصلحة المجتمع، والعدالة بين جميع الأطراف.
2- دعوة وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية إلى وضع دليل استرشادي دائم للعمل عن بُعد، يضمُّ كافةَ التفاصيل المتعلقة بساعات العمل، وتقييم الموظف، ونسب إلزامية التطبيق في كل مجال.
3- دعوة الشركات الحكومية والخاصة والمختصين بتقنية المعلومات في المملكة إلى تطوير البرمجيات والتطبيقات اللازمة للعمل عن بُعد، وكذلك دعم المحتوى المحلي في هذه التقنية الواعدة، وتطوير حلول الشبكات وأدوات الاتصالات وأماكن التخزين وحفظ البيانات، وتطوير إجراءات تبادل المعلومات والملفات من خلال خوادم سحابية سعودية يكون مقرها المملكة؛ لضمان رفع مستوى الأمان في كافة الجوانب، مع مراعاة سهولة الاستخدام في هذه التطبيقات والبرمجيات.
4- أن يُراعى في خُطط وبرامج العمل عن بُعد كيفية التعامل من الموظفين الذين قد تستغني المنشأة عنهم عند تطبيق العمل عن بُعد بشكل دائم، ووَضْع البرامج لتأهيل الموظفين المتضررين من ذلك.
5- دعوة وحدة التحوُّل الرقمي إلى الإسراع في تنفيذ الإستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي، وأن يكون العمل عن بُعد أحد مكوناتها.
6- دعوة منشآت القطاع الخاص وغير الربحي إلى وَضْع الضوابط والمعايير اللازمة وتقييم أداء الموظفين أثناء العمل عن بُعد، لتكون جزءًا من نظامها الداخلي وحوكمتها.
7- ضرورة إجراء الدراسات للأوضاع والآثار الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والبيئية وغيرها، التي تنتج عن العمل عن بُعد، واقتراح السيناريوهات الأفضل.
8- دعوة وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، بالتعاون مع الهيئة الوطنية للأمن السيبراني، إلى وضع دليل استرشادي يشمل بروتوكول الاتصال الآمن والمحاذير الأمنية لاستخدام التطبيقات العالمية فيما يخص العمل من بعد.
9- تعديل اللوائح التنفيذية لنظام العمل؛ لإعطاء فرص أكبر للعمل عن بُعد لفئات معينة، ولفترات محددة تكون اختيارية للموظف، وبعد موافقة جهة العمل (منها: المرأة الحامل والمُرضع، ومَن يعانون من أمراض مزمنة، ومَن لديهم ظروف خاصة مؤقتة، والمرافقون خارج المملكة، وذوو الاحتياجات الخاصة). ويتم الاستفادة من هذا الخيار أيضًا أثناء هطول الأمطار وحدوث الكوارث الطبيعية وما يمنع الوصول إلى مقر العمل.
القضية الثانية
جائحة كورونا والصحة النفسية
(10/5/2020م)
الورقة الرئيسة: د. فهد اليحيا
التعقيبات:
التعقيب الأول: د. وفاء طيبة
التعقيب الثاني: د. مها المنيف
إدارة الحوار: د. نوال الضبيبان
الملخص التنفيذي:
أشار د. فهد اليحيا في الورقة الرئيسة إلى أن الآثار النفسية الناجمة عن جائحة كورونا تتضمن القلقَ، ويعني الخوف وتوجُّس الخيفة من الحاضر والمستقبل! الخوف من إصابته أو أحد أفراد الأسرة بالوباء، أو أحد الأقارب في المدينة أو خارجها فلا يستطيع زيارته، أو في حال – لا قدَّر الله – الوفاة فلا جنازة ولا صلاة ميت ولا مجلس عزاء! وكذلك الظرف الضاغط يؤدي إلى القلق على المدى القصير، ولكنه على المدى الأطول يؤدي إلى الاكتئاب وفقدان الأمل وضعف الدافعية على الابتهاج بالحياة، والتشاؤم وتوقُّع الأسوأ. كما أن من الآثار النفسية التي أدت إليها جائحة كورونا اضطرابات النوم واضطرابات الأكل، فانعدام الروتين وعدم الذهاب إلى العمل وعدم وجود أنشطة بديلة يؤدي في أحوال كثيرة إلى اضطراب إيقاع الحياة اليومية، وإحداث خلل في الساعة البيولوجية مما يؤثِّر على أنشطة الجسم كلها. كذلك تتغير الشهية وقد يزيد تناول الأطعمة للتغلُّب على المشاعر المزعجة، ولغياب الأنشطة الاجتماعية أو الرياضية، ولاضطراب الساعة البيولوجية أيضًا؛ بجانب تقلبات المزاج والعصبية. فتتراوح بين الحزن والغضب والفرح والخوف، ولوحظ أنه في الغرب والشرق زادت حالات العنف المنزلي جراء الحجر وآثاره النفسية. وعلى الرغم من أهمية الإجراءات التي اتخذتها المملكة في إدارة الأزمة بقيادة وزارة الصحة، والتي تعَدُّ نموذجيةً وأشادت بها كثيرٌ من الهيئات الدولية؛ إلا أنها لم تُولِ الجانبَ النفسيَّ رعايةً إلا متأخرًا وبصورة جزئية!
في حين ذكرت د. وفاء طيبة في التعقيب الأول أن هناك نحو2.6 مليار إنسان في الحجر الصحي، ويتوقع الباحثون أنه إذا كانت جائحة كورونا غطَّت النصفَ الأول من سنة 2020، فإن جائحة نفسية أخرى سوف تبدأ بعد ذلك في النصف الثاني من 2020 على هيئة ضغوط نفسية واحتراق نفسي. وفي فبراير الماضي 2020 وقبل أن يقع العالم تحت الحظر والحجر الصحي، نشرت المجلة العلمية (The Lancet) دراسةً هي خلاصة 24 دراسة سابقة (Review) عن الأثر النفسي للحظر أو الحجر الصحي، (quarantine) والنتائج تُوضِّح بعضًا ممَّا يحدث لمئات الملايين من البشر حول العالم، ووجدت الدراسة أن الأشخاص بعد الحظر الصحي تظهر عليهم مجموعة من الأعراض النفسية: كالضغوط (stress) والتغيرات في المزاج العام، وعدم القدرة على النوم، والقلق والتوتر والغضب والإنهاك العاطفي والاكتئاب واكتئاب ما بعد الصدمة، وكان أبرزها تغيرات المزاج والتوتر. وتذكر الدراسة أن هذه الأعراض بدأت تُسجَّل بالفعل في الصين التي سبقت العالم زمنيًّا في هذه الجائحة. وأضافت الدراسة أنه في حالة عزل الوالدين مع أبنائهم، ظهرت هذه الأعراض بنسبة أكبر. وتعرَّضت د. وفاء في تعقيبها لجانبين؛ أولاً: الآثار النفسية لجائحة كورونا على الممارسين الصحيين، وثانيًا: الضغوط النفسية داخل الأسرة ذاتها.
أما د. مها المنيف فأشارت في التعقيب الثاني إلى بعض الحلول الخاصة بتأثير جائحة كورونا على الصحة النفسية لأعضاء الأسرة ولا سيما الأطفال، ومنها: أن تكون خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي متاحةً لجميع الأطفال، وأن تكون خدمات حماية الطفل بعد جائحة كوفيد-١٩ بحاجة إلى التكيُّف حسب الوضع الراهن، وابتكار حلول تقنية مبتكرة لضمان استمرار توفير الرعاية لأطفال الأسر التي تحتاج إليها. كما يحتاج الآباء أيضًا إلى الدعم في إدارة الضغوطات الخاصة بهم وتشجيعهم على الاعتناء بأنفسهم من خلال ممارسة الرياضة وأسلوب الحياة الصحي حتى يتمكنوا من أن يكونوا نماذج لأطفالهم.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
الانعكاسات النفسية الإيجابية لجائحة كورونا.
الانعكاسات النفسية السلبية لجائحة كورونا.
مقترحات لمواجهة الآثار السلبية لجائحة كورونا على الصحة النفسية.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:
3- الدعم النفسي للكوادر الصحية والطبية بتنظيم عيادة إسعافات نفسية أولية psychological first aid اختيارية للطاقم الصحي؛ لمواجهة الضغوط التي يواجهونها في هذه الجائحة.
4- العمل على إيجاد شراكات فاعلة من القطاع الخاص لتسخير ميزانيتهم المخصَّصة لبرامج المسؤولية الاجتماعية؛ من أجل إعلاء قيمة الصحة النفسية وصيانتها من الأمراض والعلل خلال جائحة كورونا وبعدها لكل شرائح المجتمع.
الورقة الرئيسة: د. فهد اليحيا
في 3 مارس 2020 كان زفاف زميلتي الاستشارية هيفاء! كان العروسان ينويان قضاء أسبوعي عسل في دولة أوروبية، وبسبب الكورونا تغيرت الخطة إلى أسبوع في المالديف، لكنها صارت 6 أسابيع هناك، بالإضافة إلى أسبوعين في الحجر في فندق في الدمام. وفي يوم الأحد 19 إبريل خرجا مع ضرورة إعادة الكشف بالمسحة الطبية خلال أيام، وهكذا تحوَّل من شهر عسل إلى حجر عسل!
عندما بدأت الكورونا في الصين، ظنَّ كثيرون أنها بعيدة جدًّا، لكن سرعان ما تحوَّلت إيطاليا وإيران إلى بؤرتين للوباء! وكان من المعروف أنها مسألة وقت حتى يصلنا الوباء (وأي مكان في العالم)، وكان أول إجراء احترازي هو إيقاف العمرة من الخارج في 27 فبراير! وفي 2 مارس تمَّ الإعلان عن أول حالة في السعودية.
وأخذت المملكة تُشدِّد من إجراءاتها الاحترازية، وكان أقواها قرار حظر التجوُّل الشامل ليلة الإثنين 6 إبريل. قبلها كان قرار الحظر الجزئي من 7 م إلى 6 ص يوم 23 مارس، وتغيَّر في 26 مارس إلى من 3 ع إلى 6 ص! الحظر الجزئي هذا لم يأتِ بخير؛ فالشباب يسهرون في الاستراحات، والناس تُمارس حياتها اليومية بلا اكتراث!
مساء السبت 3 إبريل وصلت 13 حالة من عمارة واحدة فقط إلى أحد المستشفيات، كانوا يتمشون ويتسوقون ويتناولون الغذاء مع بعضهم البعض! وعندما اكتُشفت أول حالة منهم رفضوا الحضور فحاصرت السلطات العمارة وأخذوهم بالقوة! (كنتُ أتمنى لو كانت فترة السماح من 6 ص حتى 11 ص، فلا يخرج إلا مَن هو مضطر للخروج).
ما سبق كان في تتبُّع مسيرة كورونا وخصوصًا في منطقة الرياض.
ما هي تداعيات الإجراءات المضادة لكورونا على الفرد، وبالتالي المجتمع؟
1- تغيير الروتين اليومي والأسبوعي: فالإنسان بطبعه مخلوق روتيني، وحتى إنْ اشتكى من الروتين فهو يسكن إليه، وإذا اضطرب روتينُه اليومي تضطرب حياته ويحتاج وقتًا ليتأقلم، وذات الأمر إذا اضطرب روتينُه الأسبوعي؛ لأن كثيرًا من الأسر وجماعات الأصدقاء لهم مخططات عادة في نهاية الأسبوع.
2- إغلاق المساجد والحرمين: ومما زاد الطين بِلةً حلول شهر رمضان الذي تهوى إليه القلوب، والجائحة ضاربة أطنابها بين ظهرانينا؛ فلا صلاة في الحرمين، ولا تراويح في المساجد، ولا إفطار جماعي للعمال والفقراء وعابري السبيل، ولا اعتكاف وغيره من الشعائر.
3- الحجر وفقدان الحرية في التنقل: الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، والحجر كالسجن يُفقِده حريتَه الاجتماعيةَ، ويُجبِره على الإقامة مع أُناسٍ محدَّدين. ومن المعروف في الدراسات النفسية والاجتماعية أن الحجر يزيد من نزعة العنف، وهناك علاقة طردية بين الاكتظاظ والميل إلى العنف. ومَنْ يُحجَر عليهم في قصر غير مَن يُحجَر عليهم في شقة صغيرة.
4- انقطاع اللقاءات الاجتماعية والعملية: وهذا العامل مرتبط بسابقه وبما يليه! فجزءٌ من العلاقات الاجتماعية علاقات مهنية وعمل. ولأن فترة الدوام ليست واحدة، فهناك كثيرون يعملون في القطاع الحكومي نهارًا وفي القطاع الخاص مساءً كموظفين أو أرباب عمل.
5- توقُّف العمل وانقطاع المرتب أو نقصه (لغير موظفي الحكومة): وهذا من أكثر الأمور مُدعاةً للقلق؛ فهو مرتبط بالحياة اليومية، وتأمين المستقبل وانعكاسه على الفرد قوي جدًّا.
ما سبق ينطبق على العموم، ولكن هناك فئتان معرضتان لضغط إضافي:
• الأولى: العاملون في الصف الأول من ممارسين صحيين بمختلف تخصصاتهم، الذين يعملون في أقسام الطوارئ والعناية المركزة وجناح الأمراض المعدية والأوبئة، والعاملون في المسح الكشفي في الأحياء، حيث إنَّهم في صدارة المشهد وتحت الضغط الدائم (في يوم الثلاثاء 28 إبريل، أقدمت طبيبة الطوارئ في نيويورك لورنا بريين على الانتحار)، فضلاً عن خوفهم من أن ينقلوا العدوى إلى أفراد أسرهم. وبعض المنشآت وفَّرت سكنًا لمَنْ هم دائمو الاختلاط بالحالات يمضون فيه عدة أيام حمايةً لأسرهم.
• الثانية: الأسر التي ظهرت في أحد أفرادها حالة كورونا أو أكثر! حيث خوفها على المصاب ومآل الإصابة، والخوف من أن يكون عدد منهم حاملاً للفيروس في مرحلة الحضانة (من يومين إلى 14 يومًا) أو أنهم مصابون ولم تظهر عليهم الأعراض بعدُ أو لن تظهر أبدًا!
كما أن هناك فئتين تعتبران أكثر عُرضةً للآثار السلبية من باقي المجتمع، وهما: كبار السن، والمرضى النفسيون.
كبار السن: وهم يميلون إلى اتخاذ نمط حياة يومي (روتين) محدَّد، ويصعب عليهم بشدة تغيير هذا النمط، كما أن التأقلم مع الوضع الجديد يحتاج وقتًا أطول وجهدًا أكبر؛ لذا توضيح الأمر لهم وأهميته لصحتهم ضروري، وكذلك محاولة إشغالهم بما يحبون عمله، وإرشادهم إلى استخدام التواصل المرئي والبصري للتواصل مع مَن يحبون. ومن كبار السن المصابون بالخرف/الزهايمر، وهؤلاء أيضًا يتشبثون بروتينهم اليومي بشكل كبير، ويستحيل عليهم أن يفهموا الوباءَ والجائحة، وضرورة الحظر المنزلي واتباع وسائل الاحتراز الوقائية، فتزيد عصبيتهم وتساورهم نوبات الغضب، وفي الحال هذه يكون من الملائم طلب نُصح المختصين عبر الهاتف لتعديل جرعات الدواء المُحدَّدة لهم.
أما المرضى النفسيون فهذا الظرف الضاغط يُعتبر مُثيرًا نفسيًّا/ عصبيًّا فربما يؤدي إلى الانتكاس أو زيادة وضع الاضطراب العصبي! استخدام تقنيات التهدئة والتطمين، والبُعد عن شرب المنبهات بكثرة واستبدالها بالأعشاب، وكذلك إبقاؤهم مشغولين في البيت بما هو مفيد ومُسلٍّ، بما يجعلهم يشعرون بعودة الحياة إلى طبيعتها. وفي بعض الحالات تكون هناك ضرورة لتعديل جرعات الأدوية!
الآثار النفسية والاجتماعية:
1- القلق، ويعني الخوف وتوجُّس الخيفة من الحاضر والمستقبل! الخوف من إصابته أو أحد أفراد الأسرة بالوباء، أو أحد الأقارب في المدينة أو خارجها فلا يستطيع زيارته، أو في حال – لا قدَّر الله – الوفاة فلا جنازة ولا صلاة ميت ولا مجلس عزاء!
2- الظرف الضاغط يؤدي إلى القلق على المدى القصير، ولكنه على المدى الأطول يؤدي إلى الاكتئاب وفقدان الأمل وضعف الدافعية على الابتهاج بالحياة، والتشاؤم وتوقع الأسوأ.
3- اضطرابات النوم واضطرابات الأكل؛ فانعدام الروتين وعدم الذهاب إلى العمل وعدم وجود أنشطة بديلة يؤدي في أحوال كثيرة إلى اضطراب إيقاع الحياة اليومية، وإحداث خلل في الساعة البيولوجية مما يؤثِّر على أنشطة الجسم كلها. كذلك تتغير الشهية وقد يزيد تناول الأطعمة للتغلب على المشاعر المزعجة، ولغياب الأنشطة الاجتماعية أو الرياضية، ولاضطراب الساعة البيولوجية أيضًا.
4- قد تدفع هذه الضغوط إلى تعاطي المخدرات والكحول، وإلى الإفراط في التدخين.
5- تقلبات المزاج والعصبية، وتتراوح بين الحزن والغضب والفرح والخوف.
6- في الغرب والشرق زادت حالات العنف المنزلي جراء الحجر وآثاره النفسية.
التعامل مع الآثار النفسية:
الإجراءات التي اتخذتها المملكة في إدارة الأزمة بقيادة وزارة الصحة تعَدُّ نموذجيةً، وأشادت بها كثيرٌ من الهيئات الدولية؛ إلا أنها لم تُولِ الجانبَ النفسيَّ رعايةً إلا متأخرًا، وبصورة جزئية.
من أهم الأشياء للتعامل مع الآثار النفسية وتقليل شدتها هو صحة المعلومة ودقتها، لكن الملاحظ في ظل جائحة كورونا أن كثيرين من غير أهل الاختصاص يأتون بمعلومات، إنْ كانَ نصفُها صحيحًا، فالنصف الثاني مُضلِّل جدًّا.
مراكز الدعم النفسي عبر وسائل الاتصال المتاحة مهمة جدًّا. وقامت بعض المنشآت الصحية بمبادرات خاصة لتوفير الدعم النفسي لمنسوبيها ومراجعيها. كما قام عددٌ من الأفراد والمراكز الخاصة بعمليات توعية وإنشاء مراكز اتصال للدعم.
على المستويين الشخصي والعائلي: من المهم وضع جدول يومي structure، وانتهاز الفرصة للقيام بأي مشاريع مؤجلة: قراءة، كتابة، تنظيف، ترتيب، التخلُّص من الأوراق المتراكمة، وغيرها.
التعقيبات:
التعقيب الأول: د. وفاء طيبة
أكثر من 2.6 مليار إنسان في الحجر الصحي، ويتوقع الباحثون (خاصة أن 10% من الأفراد حول العالم يعانون من نوع من أنواع اضطرابات الصحة النفسية) أنه إذا كانت جائحة كورونا غطَّت النصفَ الأولَ من سنة 2020؛ فإن جائحةً نفسية أخرى سوف تبدأ بعد ذلك في النصف الثاني من 2020 على هيئة ضغوط نفسية واحتراق نفسي.
في فبراير الماضي 2020 وقبل أن يقع العالم تحت الحظر والحجر الصحي، نشرت المجلة العلمية (The Lancet) دراسة هي خلاصة 24 دراسة سابقة (Review) عن الأثر النفسي للحظر أو الحجر الصحي، (quarantine) والنتائج تُوضِّح بعضًا مما يحدث لمئات الملايين من البشر حول العالم، ووجدت الدراسة أن الأشخاص بعد الحظر الصحي تظهر عليهم مجموعة من الأعراض النفسية: كالضغوط (stress)، وتغيرات في المزاج العام، وعدم القدرة على النوم، والقلق والتوتر والغضب والإنهاك العاطفي والاكتئاب، واكتئاب ما بعد الصدمة. وكان أبرزها تغيرات المزاج والتوتر (وقد ذكرها بالتفصيل د. فهد في ورقته الأساسية). وتذكر الدراسة أن هذه الأعراض بدأت تُسجَّل بالفعل في الصين التي سبقت العالم زمنيًّا في هذه الجائحة. وأضافت الدراسة أنه في حالة عزل الوالدين مع أبنائهم، ظهرت هذه الأعراض بنسبة أكبر.
سأتعرض في تعقيبي لجانبين، هما:
أولاً – الممارسون الصحيون:
بالنسبة للعاملين الصحيين في الدراسة السابقة: سجل 10% منهم (أعراضًا اكتئابيةً حادة) أكثر من 3 سنوات بعد الحظر. وأضافت إحدى الدراسات أن الممارسين الصحيين سجَّلوا نسبة أكبر من احتمالية إدمان للكحول أو إدمان الأدوية، وسلوك التجنُّب طويل المدى؛ مما يعني أنه ولمدة سنوات بعد الحظر كان بعضهم يتجنَّب التواصل مع المرضى بالغياب عن العمل. (Stress- related absenteeism).
وبالطبع يمكن تفسير هذا الأثر على السلوك النفسي للممارسين الصحيين بالخوف والقلق على النفس والمرض، أو على الأسرة بنقل العدوى، وما يشاهدونه أمامهم من صعوبات وألم وموت بشكل أكثر كثافةً من الأوضاع العادية، بل وتحاشي بعض الأشخاص لهم على اعتبار أنهم أكثر احتماليةً لنقل العدوى. وهذه الضغوط في حد ذاتها تؤدي إلى ضعف المناعة لديهم، فقد أثبت العلم العلاقة بين مناعة الإنسان والضغوط النفسية الشديدة التي قد يتعرض لها.
وبقدر ما نحن مهتمون بالرعاية والعناية الصحية الجسدية والحفاظ على الممارسين الصحيين خاصة من العدوى والصحة الجسدية لهم، أرى أنه لا بد من مباشرة صحتهم النفسية الآنَ وبسرعة، فلا بد أن يكون هناك عيادات نفسية خاصة بالممارسين الصحيين تُقدِّم لهم إسعافات نفسية أولية (Psychological first aid) قبل أي فئة أخرى، ويمكن تعريف الإسعافات الأولية النفسية بأنها: تدخُّل اختياري عاجل لمساعدة الأشخاص بعد أو أثناء الأحداث الصادمة، وهو مُصمَّم لتخفيض التوتر والقلق والحزن بسبب الأحداث، وتبني أساليب للتكيُّف والتأقلم مع هذه الأحداث على المديين القصير والطويل.
وبالطبع يمكن استخدام هذا النوع من التدخل مع أي فئة أو أشخاص يحتاجون إليه، سواء من الممارسين الصحيين أو الأسر أو الأفراد صغارًا وكبارًا، بل يجب التوعية بأهمية ذلك.
ثانيًا – الضغوط النفسية داخل الأسرة:
لنا أن نتخيل أسرةً مكوَّنة من والدين وأطفال في سن الروضة وغيرهم في سن أكبر، ويسكن معهم الجد أو الجدة. إنَّ احتياجات هذه الأسرة متشعبة ومتنوعة في الأوضاع الطبيعية، ولكنها أكثر ظهورًا وإلحاحًا في حالة الجائحة.
• صغار الأطفال حتى في المرحلة الابتدائية يعانون من خوف وقلق وتوتر، من تغيُّر الروتين اليومي لهم كما ذكر د. فهد، فقد انقطعوا فجأةً عن روضاتهم أو مدارسهم، بعضهم لصغر سنِّه لا يفهم ما يحدث ولا لماذا يحدث، يخاف ويقلق وليست لديه القدرة على التعبير عن مشاعره أو عن مدى الخوف أو القلق الذي يشعر به، يسمع عن أن هذا المرض يُصيب كبار السن بأذى أكبر وفي عقله الصغير (سيموت جدي)، تبدأ تظهر على السطح مشكلات سلوكية هي في الحقيقة تعبيرٌ عما تحتها داخل النفس. ومَن هم الأكبر سنًّا يدرسون من البيت، معزولون عن أصحابهم جسديًّا، يعانون من الملل وتغير الروتين أيضًا.
• الوالدان فجأةً مسؤولان ومضطران لتغيير روتينهما اليومي، بدلًا من ذهاب كُلٍّ من الوالدين لأعمالهما والأطفال لمدارسهم، هم الآنَ لا بد أن يعملوا من البيت ويشرفوا على دراسة أولادهم كاملةً، فهي حالة جديدة تحتاج لتنظيم مكاني وزماني ونفسي بصورة مفاجئة! يستمعون للأخبار التي تزيدهم قلقًا وخوفًا على الكبار والصغار، هذا بالإضافة للضغوط الاقتصادية التي أصابت كثيرًا من الأسر السعودية أو غير السعودية بالإنهاك.
• وبسبب ذلك، وإذا لم يفهم الكبار سلوكيات الأطفال، يبدؤون بمعاقبة الصغار على تصرفاتهم غير اللائقة، ويظهر الشد في البيت والعنف أحيانًا، بدلا من الحديث معهم بأسلوب مناسب لأعمارهم، وامتصاص هذا الخوف والغضب وبأساليب مختلفة.
• هذا المشهد يحتاج لوقفة: إعادة التنظيم ضرورية جدًّا؛ تنظيم نفسي داخلي، تنظيم مكاني للدراسة والعمل والحصول على الهدوء المطلوب، تنظيم زماني بحيث يتم تقسيم الوقت لكل مهمة، وقد اشتكى كثيرٌ من الأشخاص في هذا الجانب خاصةً، حيث أصبحت الاجتماعات تُعقد في أي وقت، ولا تُراعي الظروف الأسرية الجديدة. باختصار، لا بد من عمل روتين جديد يُناسب كل أسرة حسب حاجتها لتهيئة جو من الاستقرار الأسري والنفسي، والإكثار من الحديث عن المشاعر في هذه الفترة مع الصغار والمراهقين.
• هنا أيضًا لا بد أن نتذكر أن الدراسة عن بُعد أو التواصل عن بُعد يعني عددَ ساعات أطول للأطفال والمراهقين على وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، وهذا يعني ضرورة انتباه الوالدين إلى أنَّ هذا يُعرِّض أبناءهم لمزيد من مشكلات التواصل عبر الإنترنت من الإيذاء والتنمر الإلكتروني، وقد أوضحت دراسة عن مؤسسة حماية الأطفال في الهند أن هناك زيادة بنسبة 95% من 24 مارس إلى 26 مارس على المحركات البحثية لعناوين ذات محتوى جنسي لها علاقة بالأطفال، من قِبل أشخاص منحرفين (Pedophiles)، وقد نبَّهت المؤسسة أن هذا يُشكِّل مزيدًا من الإيذاء الجنسي للأطفال أنفسهم إلكترونيًّا (cyber abuse) تحت ظروف الحظر.
• كبار السن: فمع أننا جميعًا مقتنعون بأن التباعد الاجتماعي أو الجسدي مهم جدًّا لمحاربة هذا الفيروس إلا أنه في حق كبار السن أهم، وقد يكون ذلك لعدة أسباب جسدية وصحية، ولكن بقدر ما هو مهم بقدر ما أن له أثرًا قويًّا على صحتهم النفسية، فكبير السن قد يعاني من الوحدة قبل كورونا، فكيف سيكون بعدها، والوحدة وَضْع فتَّاك لهم، خاصة أنهم يسمعون في كل يوم وكل ساعة أن كبار السن أكثر عُرضةً من غيرهم، فما مقدار الخوف والقلق والوحدة الذي يعاني منه كبير السن حيث يتراوح بين أمرين أحلاهما مُرٌّ؛ الوحدة والبعد عن الأحباب، أو المرض الذي قد يفضي إلى الموت!
• المرضى النفسيون (الوسواس القهري، الفصام، الزهايمر، الاكتئاب،… وغيرها) والمعاقون وبخاصة المعاقون عقليًّا، هما فئتان قد تجدان صعوبة في التعبير عن المشاعر، وفهمها من بقية الأسرة، وما قد يعانونه هم والذين هم في رعايتهم من ضغوط في التعامل معهم في هذه الجائحة.
• كل هذه المواقف وغيرها كثير تستدعي الوعي بالأثر النفسي لهذه الجائحة، واللجوء للطبيب النفسي أو المرشد الأسري في حالة الحاجة، والاسترشاد برأيه.
التعقيب الثاني: د. مها المنيف
ذكر د. فهد في الورقة الرئيسة الأسبابَ التي قد تؤدي إلى زيادة الضغوط النفسية على الفرد والمجتمع أثناء جائحة كورونا، خاصة أثناء فترة الحجر المنزلي مثل: 1. تغيير الروتين، 2. فقدان الحرية في التنقل، 3. فقدان الاجتماعات مع الأهل والأصدقاء، 4. فقدان التجمعات الدينية خاصة في الشهر الفضيل، 5. تأزُّم الوضع الاقتصادي على بعض الفئات من المجتمع. كما تطرَّق لبعض الفئات التي قد تتعرض لضغوط نفسية أكثر من غيرها، وبالتالي ستكون عُرضةً أكثر للأمراض والضغوطات النفسية، مثل: المرضى النفسيين، وكبار السن، والعاملين في الصفوف الأولية في القطاع الصحي، والأسر التي ظهرت بينهم حالات كورونا، واختتم ورقته بتوضيح الآثار النفسية التي قد تظهر على بعض الأفراد بسبب الضغوط التي تولَّدت جراء الاحترازات التي اتخذتها الدولة للسيطرة على الفيروس، ومن أهمها: الخوف والقلق والاكتئاب، ومحاولة التخفيف منها باللجوء إلى الكحول والمخدرات والإفراط في التدخين. كذلك ظهور اضطرابات الأكل والنوم والعصبية التي قد تؤدي إلى مشاكل أسرية وزيادة في حالات العنف المنزلي.
غطَّى د. فهد اليحيا معظمَ الجوانب الأساسية للتأثيرات النفسية أثناء جائحة كورونا، لكن أودُّ هنا أن أُضيف إلى ما ذكره من وجود فئة من أفراد الأسرة قد لا نُعطي لصحتهم النفسية الاهتمامَ الكبير؛ كون الأعراضُ النفسية التي تظهر عليهم قد تكون مخفيةً أو غير واضحة للغالبية العظمى منَّا، ألا وهم الأطفال.
وبلا شك لقد سبَّبCovid-19) ) وضعًا أسريًّا جديدًا في حياة الأطفال والشباب، يتمثل في التالي:
1- الاضطراب الأسري والتغيير السريع في حياتهم وروتينهم اليومي.
2- قضاء فترات طويلة من الوقت في المنزل، وهذا تحدٍّ كبير لهم ولأسرهم.
3- فقدان التحفيز والتفاعل الاجتماعي مع أقرانهم الذي توفِّره لهم المدرسة، وهو أمرٌ ضروري لصحتهم العقلية.
وعلى الرغم من أن الأطفال بصفة عامة لديهم مرونة عالية، ويتأقلمون بسرعة أكبر من غيرهم عند تعرُّضهم لتغيير مفاجئ أو ضغوط نفسية، إلا أن هناك تفاوتًا بين الأطفال والمراهقين في مدى استجابتهم للضغوط، فهناك بعضهم مَن تظهر عليه أعراض القلق والخوف والعصبية أكثر من غيرهم، لكن تختلف هذه الأعراض حسب العمر. فمثلاً، قد يجد الأطفال الصغار صعوبةً في فَهْم الموقف وهذا التغيير المفاجئ؛ فيُعبِّرون عن غضبهم بالبكاء المُفرط والعودة إلى السلوكيات التي تجاوزوها (مثل، التبول اللاإرادي)، ويمكن للأطفال الأكبر سنًا والمراهقين أن يتجاوبوا مع هذا التغيير بالاستمتاع بعادات غير صحية؛ كالأكل والنوم لفترات طويلة.
أما الأطفال الذين يعانون من حالة صحية نفسية تمَّ تشخيصها سابقًا (مثل فرط الحركة)، فهم مصدر قلق خاص حيث قد تتفاقم الأعراض خلال هذه الفترة الزمنية، وأحد التحديات المُقلِقة هو:
• أن بعض الأطفال قد يتسببون في زيادة الضغوط على الوالدين بسبب سلوكياتهم للتأقلم مع الوضع الجديد؛ وهو ما قد يُعرِّضهم لخطر متزايد من الضرب التأديبي الذي يؤدي إلى العنف.
• قد يشاهدون إساءة معاملة منزلية بين الأشخاص (بين الوالدين) إذا لم يكن منزلهم مكانًا آمنًا.
أضعُ هنا بعضَ الحلول الخاصة بالأطفال وصحتهم النفسية خلال جائحة كورونا:
1- يجب أن تكون خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي متاحة لجميع الأطفال.
2- إن خدمات حماية الطفل بعد جائحة كوفيد ١٩ بحاجة إلى التكيُّف حسب الوضع الراهن، وابتكار حلول تقنية مبتكرة؛ لضمان استمرار توفير الرعاية لأطفال الأسر التي تحتاج إليها.
3- يجب أن يتجاوب الوالدان لأسئلة الأطفال بهدوء وثقة حتى يمكنهم تقديم أفضل دعم لأطفالهم. يجب على الآباء أن يُطمئنوا الأطفال أنهم في أمان، وأن يكونوا صادقين معهم عند معالجة مخاوفهم، وأن تكون موضَّحةً بطريقة يمكنهم فهمها.
4- يحتاج الآباء أيضًا إلى الدعم في إدارة الضغوطات الخاصة بهم، وتشجيعهم على الاعتناء بأنفسهم من خلال ممارسة الرياضة وأسلوب الحياة الصحي حتى يتمكنوا من أن يكونوا نماذج لأطفالهم.
5- إن إنشاء روتين ووقت مُخصَّص للتعلُّم وعمل الأنشطة الإبداعية مع الأطفال سيُوفِّر الروتين اليومي، ويكون مخرجًا للأطفال للتعبير عن أنفسهم.
المداخلات حول القضية:
• الانعكاسات النفسية الإيجابية لجائحة كورونا:
أشار أ. د. عثمان العثمان إلى أن من أهم إيجابيات جائحة كورونا الحالية ما يلي:
1- مهارة التكيُّف مع الظروف، والإنسان بطبعه مُتكيف لكنه قد يقاوم أحيانًا، بما يُؤثِّر على نفسيته بشكل سلبي.
2- البحث عن البدائل المتاحة، والتعرف عليها والاستفادة منها.
3- برز التعلُّم والعمل كأولويات تمَّ العمل قدر الإمكان على تذليل الصعاب للقيام بها.
4- التأمل في النعم الإلهية التي لم نكن نُلقي لها بالاً إلا قليلاً؛ النعم على مستوى الفرد والمجتمع والوطن والعالم.
ويرى د. حامد الشراري أن ثمة إيجابيات كثيرة ناجمة عن جائحة كورونا، منها: توطيد العلاقات الأسرية وزيادة الأُلفة وقرب العائلة من بعض، وأيضًا إدراك الأفراد على نحو واضح بأن الصحة هي الأهمُّ.
وذكرت د. وفاء طيبة أن أهم نتيجة إيجابية عامة أنه وعلى كل المستويات وخاصة في حياة الأطفال الصغار العاديين، سيكون هناك نموٌّ وفهم للحياة بشكل أكبر؛ فالحياة ليست كلها ملاهي وتسالي، بل دائمًا تعتريها مشكلات، ويجب الصمود والتكيُّف معها. كما أن هناك بعض الإيجابيات التي تمت الإشارة إليها سلفًا فيما يتعلق بالتقارُب الأسري، وهذا بالطبع يتوقف على قوة وصلابة العلاقات في الأسرة قبل الجائحة.
بينما ركَّز د. حمد البريثن على ما بعد انقضاء جائحة كورونا، حيث قال: بعد أن يعتاد الشخص على أسلوب الحياة مع جائحة كورونا، ويكتشف بعض الإيجابيات للحظر المنزلي ويحافظ عليها خلال تلك الفترة، فإن التساؤل المطروح هو: هل سيستمر عليها بعد انكشاف الغمة؟ وفي هذا السياق أوضحت د. وفاء طيبة أن هذا يتوقف على السلوك الإيجابي الذي قام به الشخص، ومقدار ما لمس من إيجابياته من جهة، وكذلك على كل الظروف التي يمكن أن تساعده في الاستمرار على السلوك الإيجابي؛ وأخيرًا، والأهم على شخصية الفرد ذاته ومدى قدرته على التحكُّم والمواصلة. فلو فرضنا أن السلوك الإيجابي الإضافي الذي استمر عليه الشخص هو مساعدة زوجته في بعض الأمور المنزلية، ولمس أثره الإيجابي في العلاقة بينهما، هل سيستمر بعد الجائحة؟ هل ستساعده الظروف بعد ذلك؟ هل سيتمكن من التكيُّف ليستمر في مساعدة زوجته؟ هل هو ذا شخصية مرنة وعقلانية للاحتفاظ بهذا المكسب بدلاً من العودة للنظام القديم؟ وإجابات هذه الأسئلة تختلف باختلاف الأشخاص.
في حين ترى د. فوزية البكر أن الحجر ليس شرًّا بكامله؛ لأننا بشرٌ ونُريد أن نعيش، ولأننا – وكما ذكر د. فهد اليحيا – اجتماعيون بطبعنا؛ لذا عمد الناس في مختلف المجتمعات إلى أساليب متباينة لكسر عزلتهم القصرية؛ بالتشارك والعمل التطوعي، وخياطة الكمامات، وتوزيع الطعام، وتبادل المنافع، وسماع الموسيقى من البلكونات، بحيث ظهرت أساليب تواصل جديدة أثبتت من خلالها المجتمعات تضامنها سواء على المستوى المحلي أو العالمي، وهذا شيء إيجابي يجب العمل على تثبيته حتى بعد انقضاء الجانحة. وعلى صعيد أصغر تمكنت ملايين العائلات من تخطي صعوبات الحجر بإشغال نفسها بأعمال منزلية أو تطوعية أو ثقافية، ومن ضمنها أن تمكَّن أفراد الأسرة السعودية أخيرًا من البقاء مع بعضهم مرغمين لا مُخيَّرين. هم يأكلون وجباتهم مع بعض، ويشاهدون برامج تلفزيونية مشتركة، ويسمعون نقد أبنائهم لبعض هذه البرامج، وهم يمارسون أحيانًا ألعابًا مشتركة، أو يُحفِّز بعضُهم بعضًا لممارسة رياضات بسيطة. كل هذه التفاعلات الصعبة في أولها تُنتِج الآنَ خليطًا طيبًا من تفهُّم تدريجي لأفراد الأسرة بعضهم مع بعض، ولأحاديث أطول وبعمق أكبر، والقرب من الأبناء والبنات سيؤتي ثماره لاحقًا رغم تحدياته الواضحة في الوقت الحاضر. كما أجبرت الجائحة الزوجات للالتفات لتفاصيل المنزل الكثيرة، ودفعت الزوج للمشاركة فيها؛ فحياة الأسرة السعودية حيث وجود غرباء داخلها بالضرورة (العاملة المنزلية والسائق)، ووجود الوفرة المادية حيث يحتضن كلُّ فرد أجهزته الإلكترونية داخل غرفته – كانت تعاني من التشتُّت وعدم الوظيفية لكثير من أفرادها ولعدد من وظائفها الرئيسية.
ويرى م. فاضل القرني أن أزمة جائحة كورونا هي بكل المقاييس فرصة لاكتشاف الذات، بل العالم لأول مرة يصطف وبتعاون نسبي غير مسبوق لإلحاق الهزيمة بكورونا؛ لذا فالإنسان توحَّدت جبهته للسيطرة على النفس، والبحث عن الإيجابيات من هذه الأزمة وهذا الحجر. وأغلى بُعد وأكثرها أهميةً في الحياة هو الوقت (بل هو الحياة)، فلم يتوفر الوقت للناس أو معظمهم مثل الذي يحدث الآن. كثير من الأمور صغارها وكبارها أُجِّلت أو لم تُنجز باكتمال احتجاجًا بعدم توفُّر الوقت. فالآنَ هو فُرصة لإدارة الوقت؛ في العمل عن بُعد، القراءة، التعلُّم عن بُعد بالدورات التي تُناسب الفرد، واكتشاف مكنونات وقدرات ذاتية في نشاطات مختلفة، العبادات، التعامل مع أشياء بسيطة في حياتنا نمرُّ بها ربما يوميًّا ولكن لا نشعر بها؛ مثل: النباتات، والعمل في المنزل حتى لو أعمال خفيفة نجارة وإصلاحات وترتيبات في السيارة، وأيضًا ترتيب مكتب ملفات وأوراق، وأيضًا ملفات إلكترونية مبعثرة في أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الذكية المختلفة. كما أنها فرصة للاقتراب من الوالدين والزوجة والأبناء والأقارب بأسلوب التواصل المتاح. والتصور أيضًا أن المقولة (اقترب من الخوف تأمن) هي فعالة في تجهيز النفس في هذه الأزمة، القراءة والاطلاع على قضية (COVID19) من المصادر الصحيحة والرسمية تُثري وتجعل فهمها أنها جائحة ولها نهاية وأسلوب وتفاصيل وإجراءات لانتهائها. (بمعنى آخر، إشباع دائرة المنطق بالجائحة والتغلب عليها)؛ وبذلك تكتسح الإشاعات والتنبؤات التي ترد من حدب وصوب، ومن كل مختص وغير مختص. وإذا تم ذلك فإنه يُكسِب النفس الطمأنينة والهدوء، وهو ما يعود على السلوك والتفاعل بإيجابية.
ومن جانبها ترى د. هند الخليفة أن الجوانب الإيجابية لجائحة كورونا عديدة، من أهمها: إعادة ترتيب الأولويات، ومد جسور التواصل وبناء العلاقات في ظل التفاعل والاحتكاك اليومي المستمر، واكتشاف الوضع الطبيعي للحياة الأسرية، وإمكانية الاعتماد المتبادل بين أفرادها على بعضهم البعض، وإمكانية قضاء أوقات مُسلية ومفيدة داخل البيت ومع أفراد الأسرة، وغير ذلك من إيجابيات عديدة. والتحدي الأكبر هو استمرارية هذه الإيجابيات بعد انتهاء الأزمة، والحفاظ على ديمومتها، لتكون جزءًا من نسيج الكيان الأسري ومبادئه وقيمه.
أما أ. عاصم العيسى فذكر أنه من خلال تتبُّع حركة التشريعات والتنظيمات في المملكة، فالمُلاحظ بالإحصائيات أنها تُركِّز على الاقتصاد والمال، في حين أن عدد التشريعات الخاصة بالمجتمع ونفسياته قليلٌ نسبيًّا، وكأنَّ حركة المجتمع تُركت تتقاذفها الأمواج يُمنى ويسرى بلا قبطان. وجاءت كورونا فحركت المبادرات والتشريعات من جميع النواحي؛ فاقتصاديًّا: راعت العمال ورواتبهم وتأثُّر المُنشآت وتأجيل الدفعات، ومنصات التسوق عن بُعد. واجتماعيًّا: بدأت المبادرات، مثل: تفعيل القراءة الرقمية، والبرامج التعليمية، والهوايات كالرسم ومزاولة الرياضة عن بُعد، وما زال المجال مفتوحًا لتفعيل برامج قضاء الوقت والتفاعل الاجتماعي والنفسي، وتسلية الأطفال، ومن المناسب استثمار الجائحة في التركيز على الصحة النفسية والمجتمعية، ليكون ذلك نواةً لهذا التفعيل على مدار السنة.
• مبادرات مُجتمعية، مثل: منصات الحوار، والمسابقات، وبرامج للتواصل الطفولي لقضاء الوقت عبر المسابقات وما يُعزِّز الحوارَ والوطنيةَ والمسؤولية والجدية…، ولجميع المراحل العمرية؛ وذلك من وزارة الشؤون الاجتماعية، أو من الأندية، ومراكز الأحياء، والجامعات، والمساجد، والتلفاز، والشركات، وغيرها الكثير.
• فرصة للتشريعات ذات العلاقة، مثل: تنظيم سكن العمال، وتنظيم لائحة الذوق العام. وقد أبرزت أزمة كورونا أهمية احترام النظام وإجلال كبير السن ورجل الأمن والحقوق المجتمعية، ومن المؤكد أن علاج الصحة النفسية لا يمكن فصله عن سلوكيات المجتمع والصحة المجتمعية الراقية.
• منصات الحوار: كان لافتًا التفاعل المجتمعي الجاد عبر الاستفادة من منصات التواصل، ومن المهم تفعيل ثقافة الحوار والتفاعل المجتمعي؛ لما له من إيجابية.
• تنظيم العادات وتصويبها: لدى المجتمع الكثير من العادات والأعراف المُستحدثة غير السليمة، مثل: الإفراط في الهدايا في المناسبات الاجتماعية، وتكاليف الزواج، والإفراط في الأكل في المطاعم، وقتل الأوقات في الاستراحات، وغيرها الكثير، وقد وجدنا أنفسنا أننا نعيش بدونها؛ مما يقتضي إبراز ذلك، وإيجاد البدائل المُعتدلة، ولا بأس أن نسمع بزواج معتدل له سمته الخاصة في ظل كورونا، فيكون ما بعد كورونا ليس كما قبله؛ بتأصيل بعض العادات الحسنة، وتصويب السيئ منها.
• الاعتدال في كل شيء: أكرمت المملكة العائدين من السفر، فوضعتهم للحجر في فنادق خمس نجوم، إكرامًا للمواطنين ورعاياها، وفي المقابل فهناك توجيه لشد الحزام لتقليص النفقات، وعلى ذلك فلا ضيرَ أن يكون الحجر في شقق فندقية عادية. إن المباهاة في الصرف والترف والإعلان عن ذلك له إيجابيات وسلبيات، فإن كُنَّا قد أكرمنا المحجور، فقد ينتقد الفقير في الداخل والحاسد في الخارج؛ وعلى ذلك: فالمطلب أن تستند أي معالجة على الاعتدال.
• إيجاد البدائل المجتمعية والنفسية: فإفطار الصائم، ومتابعة الجائع، والذهاب إلى النادي…؛ كل ذلك يجب أن لا يموت، وذلك بتفعيل البدائل.
• إكرام أهل العطاء في الأزمات: أبرزت الأزمة الأولوية في الإكرام للأطباء والممرضين والعلماء، فهم سند البلاد لا أصحاب التفاهات.
• أهمية دراسة أثر التغيرات المالية والفصل عن الوظائف على استقرار العائلات والصحة النفسية.
• استمرار الحياة في جدية: برز لدى الكثير من الموظفين والطلاب التراخي في التحصيل والإنتاج، وهذا – إنْ كان مقبولًا أسابيع – فإنه غير مقبول أشهرًا، مما يقتضي تعزيز ثقافة الجدية؛ يبرز ذلك في تفعيل الدراسة والاختبارات الجادة، ليتخرج الطالب مُتقنًا لا ناجحًا، وليعمل الموظف بإتقان وإنْ كان غير حاضرٍ.
• الاستناد على المفاهيم الشرعية التربوية والنفسية: اطلعنا على هشاشة مجتمعات أخرى؛ في اعتبار الأولوية للمال على حساب الإنسان، وأولوية الصحة للشباب على كبار السن، وحالات الاكتئاب ونحوها؛ لذا من الأهمية إبراز المفاهيم الدينية ذات العلاقة بالصحة النفسية واستقرارها، ومن ذلك: التوكل على الله والإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب، والتماسك الأسري، وحُسن التعامل والأدب؛ فديننا قاعدة استقرار، وسمو روح، وأمان عاطفة، وبناء مجتمع.
• الانعكاسات النفسية السلبية لجائحة كورونا:
في تقدير د. خالد الرديعان، فإن جائحة كورونا مُقلِقة على جميع المستويات، ومنها المستوى النفسي، فقد قلبت الحياة رأسًا على عقب لعدد كبير من الناس، والقلق المصاحب للجائحة يأتي من المصادر التالية:
1- عدم معرفة متى تنتهي الجائحة، ومتى يعود الناس لحياتهم الطبيعية. هذا العامل في حد ذاته يثير القلق؛ أشبه بوضع السجين الذي لا يعلم متى تُنفَّذ فيه عقوبة الإعدام. الأفراد مع كورونا في قلق مستمر، فهم يريدون العودة إلى ممارسة حياتهم الطبيعية لكنهم لا يعلمون متى وكيف.
2- الضخ الإعلامي اليومي، وهو ضخ مستمر لا يخلو من إثارة. يتخلل هذا الضخ تضارب في المعلومات الخاصة بالوباء، ودرجة انتشاره، وعلاجه، وأحيانا تناقض في المعلومات بصورة تُشتِّت المتلقي. ولا ننسى بالطبع نظرية المؤامرة وما إذا كان الوباء حربًا بيولوجية أم أنه قضاء وقدر أو أنه مجرد خطأ غير مقصود في تسرُّب الفيروس من أحد المختبرات. ويزيد الطين بِلةً انتشار بعض الشائعات في وسائل التواصل الاجتماعي، وخروج أشخاص غير مؤهلين وليسوا أطباء يُقدِّمون معلوماتٍ لا تقع ضمن اختصاصهم. هؤلاء تحديدًا يخلقون بلبلةً، لوجود مَن يُصدِّقهم ويُردِّد شائعاتهم.
3- تخوُّف البعض من فقدان أعمالهم ووظائفهم بمرور الوقت خاصة مَن يعملون في القطاع الخاص، وخوف مَن يعملون في القطاع الحكومي من عجز مالي قد تواجهه الدولة يؤثر في قدرتها على صرف مرتبات الموظفين. ومن المخاوف المُبرَّرة كذلك الخوف من نقص بعض المنتجات والسلع التموينية وارتفاع سعرها.
4- الخوف من نشوب حرب في مكان ما؛ بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية. ولأن مناطقنا العربية فيها نزاعات مستمرة؛ فإن قلق الناس قد يكون مُبرَّرًا. يرتبط جزء من هذا القلق مرة أخرى بنظرية المؤامرة التي تغذيه؛ فهناك مَن يعتقد بأن حربًا ستنشب وتكون الصين طرفًا فيها.
أما د. عبد الله بن صالح الحمود فأشار إلى أن لكل فعل ردة فعل؛ بمعنى ما من فعل يحدث لأي مجتمع إلا يقابله لا محالةَ فعلٌ مضاد له، ونشوء الأوبئة الصحية أو الحروب أو المشكلات الاجتماعية والاقتصادية بطبيعة الحال سينتج عنها أضرارٌ نسبية استنادا إلى قوة درجة وقوع ذلك في أي مجتمع؛ لذا فإن الأمر هنا يتطلب أولاً أن يكون في المجتمع أسُسٌ ومقومات تكون موجودة ضمن تنظيم مسبق مع بداية تأسيس أي دولة، فضلاً عن مواكبة المتغيرات عامة التي تحدث في المجتمع سعيًا نحو التطوير والمعالجة؛ هنا يتضح لنا أن تأسيس قواعد تنظيمية ومنتظمة الأداء تعَدُّ القاعدةَ الرئيسة لتوافر الاستعدادات المرنة نحو تفادي حجم ما قد يحدث للمجتمع من مصائبَ. وإذا تحدَّثنا اليوم عن مصيبة حلَّت بالغالبية العظمى من المجتمعات إنْ لم تكن المجتمعات كافة، وهي مصيبة وباء كورونا ١٩ الذي أوجد هلعًا وتسبَّب في أضرار اجتماعية وإنسانية ونفسية واقتصادية على المجتمعات، وإذا ما تحدثنا على وجه الخصوص عن الأضرار النفسية؛ فلا شك أن وقوع الضرر النفسي يعَدُّ أشدَّ إيلامًا من غيره، وبطبيعة الحال أن النفس البشرية بطبيعتها تتأثر ابتداءً بالعامل النفسي قبل أي مؤثرات أخرى في الإنسان؛ ولهذا فإن التأثير غالبًا سيقع وسيعاني منه عددٌ لا بأس به من البشر؛ إما بسبب الخوف من المرض أو فقدان وظيفة أو فقدان حبيب أو حبيبة أو تدنٍ في مستوى الدخل الاقتصادي لمَن يعمل في حقل التجارة. فمع الإيمان بحدوث المصائب ومدى تأثُّر البشر من ذلك، لا شك أن أول ما يتبادر للأذهان كحاجة أساسية هو الإسراع في الحصول على التدابير العلاجية تجاه تلك الأزمة، ولعل من أسباب وقوع الضرر النفسي على الإنسان أنه غالبًا ما يكون لديه قصور في التهيئة الأولية تحسبًا لحدوث أي أزمات تأتي بين وقت وآخر، فالمجتمع الذي لم يكن مُتهيِّئًا ولديه الاستعدادات عند وقوع أو حدوث أزمات صحية أو اجتماعية أو اقتصادية؛ فلن يستطيع مقاومة ما يحدث له جراء ذلك، بل سيتكبد خسائر صحية واجتماعية واقتصادية، فالتهيئة لذلك أمرٌ مهمٌّ للغاية، بل يعَدُّ خطَّ الدفاع الأول على الأقل في التخفيف من حدة المصيبة التي ينجم منها أضرار مجتمعية، كما أنَّ مَن هم حول الفرد أو الأفراد المتضررين في أي مجتمع عليهم أن يكونوا خيرَ معين بعد الله للسعي نحو مساندة ومساعدة أولئك المتضررين.
وأشارت د. فوزية البكر إلى أن منظمة الصحة العالمية (WHO) أكدت أنه ورغم الآثار الكبيرة لهذا المرض على اقتصاديات واستقرار الدول عامة، إلا أن آثاره النفسية واضحةٌ للعيان من انتشار القلق والاكتئاب حول ما حدث أو ما سيحدث لنا كأشخاص؛ سواء من حيث الصحة الجسمية، أو إصابة أحد أفراد العائلة، أو فقد العمل، أو فقط القلق من العدو المجهول الذي لا يبدو أن العالم حتى الآن قادر على السيطرة عليه. وأكثر المخاوف التي قد تؤثر على الصحة النفسية هو الحجر المفروض من الحكومات على شعوبها.
وذهب د. حامد الشراري إلى أن هناك بعضَ الممارسات اليومية في ظل المكوث في المنزل أثناء جائحة كورونا قد يكون لها تأثيرات صحية سلبية خاصة بين الأبناء، وهو استخدام التقنية والأجهزة الذكية بشكل مُفرط. وهذه الممارسات غير المُقنَّنة قد تُكلِّفنا كثيرًا اجتماعيًّا وصحيًّا، فكيف يمكن التعاطي معها خلال المكوث في المنزل؟ وما هي الإجراءات الاحترازية في الحدِّ من تلك السلبيات بعد زوال الجائحة؟
وفي اعتقاد د. صدقة فاضل، فإن التأثير الكاسح لجائحة كورونا يتعدى مجالات الاقتصاد والصحة والسياسة، إلى نفوس الناس، وهناك سبعة بلايين ونصف بليون إنسان يعانون الآن من الأبعاد النفسية السلبية التي في غالبها لهذا الوباء. ومن المهم تقديم النصح اللازم لمواجهة الاضطرابات النفسية الناجمة عن كورونا.
وأوضح د. خالد الرديعان أنه يشيع أثناء وبعد الحروب والأزمات الكبرى ظاهرة اجتماعية – نفسية أطلق عليها عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم حالة الأنومي (اللامعيارية) anomie، يفقد فيها الأفراد الثقة فيمن حولهم، وفي معاني القيم والمُثل العليا ووظيفتها الإيجابية. بهذه الحالة يبدو للأفراد أنه لا معنى للأشياء، وأنه لا أُفق للمستقبل أو ما يُصطلَح عليه الآن (الضوء في نهاية النفق). ترتفع أثناء شيوع هذه الظاهرة وهيمنتها على الحياة الاجتماعية معدلات الانتحار. ويعيد دوركايم ذلك إلى فقدان المعنى meaninglessness كما سبق، وإلى ضعف التماسُك أو التضامن الاجتماعي solidarity عند الأفراد في المجتمع؛ هي حالة يعتقد فيها الفرد أنه وحيد، وأنه لا ينتمي للمجتمع. حدث ما يشبه ذلك في فترة الكساد العظيم (١٩٢٩) في الولايات المتحدة، حيث زاد معدل الانتحار بين أوساط رجال الأعمال ممَّن تبخرت ثرواتهم بسبب طول فترة الكساد الذي استمر ثلاث سنوات. والحالة تكرَّرت عام ١٩٨٧ فيما سُمِّي بأزمة “الإثنين الأسود” عندما فقَد عددٌ كبير من المضاربين مدخراتهم. كما أن أزمة سوق المناخ في الكويت نتج عنها حالات مشابهة، وإنْ كانت حالات محدودة للغاية. قد لا تنطبق ظاهرة الأنومي على مجتمعاتنا بذات المعدل بسبب نزعة التدين التي تُوفِّر للأفراد ملاذًا آمنا من الانزلاق نحو الانتحار، إلا أنه لا يمكن القول إن الجميع على مستوى واحد من التدين. هناك حالات انتحار ومحاولات انتحار في مجتمعنا إلا أن الإحصاءات الرسمية لا تُسعفنا في معرفة حجم الظاهرة بصورة دقيقة.
وأضاف م. إبراهيم ناظر أن هناك عاملاً آخر يرتبط خاصة بالمجتمعات الأقل ماديةً وتطوُّرًا في الحياة المعاصرة حيث العلاقات الأسرية واسعة وممتدة بين الأقرباء من الدرجة العاشرة، وعلى مستوى الحياة القروية حيث جميع أهالي القرية يعرف بعضُهم بعضًا وتربطهم وشائج القربي والتكافل والتواصل فيما بينهم، وحتى كما يُقال على مستوى الجماعة والقبيلة نجد أن هذه العلاقة الاجتماعية والتواصل تحمي الأفرادَ من التعرُّض للإحباط والاكتئاب، ومن ثَمَّ تندر حالات الانتحار.
في حين أوضحت د. وفاء طيبة أن الضغوط النفسية والاضطرابات النفسية – كما في تلك التي يتعرض لها الأفراد بفعل جائحة كورونا – يتعرض لها المتدين وغيره من كل الأطياف، فهي مرتبطة بالظروف الضاغطة من جهة وبالهرمونات وبالبنية الدماغية والعصبية من جهة أخرى؛ لذا فحدوثها وإنْ كان مرتبطًا بالثقافة أحيانًا إلا أنه – كما ذكر د. فهد – قد لا تكون هناك فروق تُذكَر، الفرق يمكن أن يكون في الاستجابة للضغط أو الاضطراب، وهنا يكون الدين (الجانب الروحي) له أحيانًا أثرٌ علاجي وتلطيفي وفي التحفيز على الصبر.
أيضًا وفِي سياق الآثار السلبية لجائحة كورونا، ترى د. هند الخليفة أن الأطفال يُشكِّلون فئةً تتعرض بشكل مستمر للتغيُّرات التي صاحبت الأزمة؛ سواء في الروتين اليومي، أو الانقطاع عن المدرسة، أو العزلة وفقدان الالتقاء بالأصدقاء والأقرباء، والخروج للأماكن العامة ومراكز الترفيه… وغيرها. وبقدر ما يقلق الكبار من آثار الأزمة، فإن الأطفال يعانون من القلق بشكل كبير، يزيد من حدته عدم حصولهم في بعض الأحيان على تفسيرات لما يحدث، أو عدم تقبُّل الكبار لمشاعرهم، أو المبالغة في حمايتهم وبالتالي إخفاء الحقائق عنهم.. وغير ذلك من سلوكيات تعكس قلة مهارة الوالدين والمربين في التعامل مع الأطفال في الأزمات. وهي مسألة مهمة جدًّا، من أجل الاستقرار النفسي للأطفال على المديين القريب والبعيد.
وفي تصوُّر د. محمد الملحم، فإن المدخل المهم في موضوع الصحة النفسية هو حجم العينة المعرَّضة للآثار السلبية، والاعتقاد أنها في المنطقة العربية وفي المملكة تحديدًا هي أقل بكثير منها لدى غيرنا؛ ويعود ذلك إلى عدة عوامل:
• أولاً: مستوى المعرفة والثقافة، فمدى التخوف من “العدوى” هو أمرٌ طارئ يحتاج إلى فهم ووعي واحترام لمصادر المعرفة، وهو ما تفتقر إليه كثير من الفئات الشعبية بسيطة التعليم، وهي منتشرة وكثيرة في البلدان العربية ومنها المملكة، وخاصة في ظل تراجع جودة التعليم وارتفاع نسبة الأمية الثقافية؛ ولذلك تجد الممارسات المستهترة منتشرة في الأحياء والجهات الأقل تعليمًا وحظًّا من الثقافة، بل إنك لن تستغربَ لو شاهدتها في بعض البيوت الراقية متمثِّلة في بعض سكانها؛ إما لأنهم قليلو التعليم أو أنهم قليلو الاحترام للنظام، وهما وجهان لعملة واحدة نشكو منهما في مسألة “التحضر أو التمدن” civilization.
• ثانيًا: مسألة الإيمان بالقضاء والقدر، وهي قوية جدًّا لدى أفراد مجتمعنا؛ مما يجعلهم عُرضةً للمغامرات والتهور، وهو مؤشر يقدِّم معلومة عن نبض الصحة النفسية، وأنها أقل احتمالية للتأثُّر بمسألة العدوى والمرض.
• ثالثًا: الإجراءات المميزة التي اتخذتها الحكومة – حفظها الله – مبكرًا ساهمت كثيرًا في خفض احتمالية التوتر أو القلق كما هو في بعض الدول الأخرى التي لم تقُم بذلك.
وبناءً على ذلك، فإن قضية الصحة النفسية مع أهميتها في هذه الجائحة إلا أنها لا ترتقي إلى أثرها كما في حالة الحروب مثلاً، أو في حالة ازدياد وفيات كوفيد-19 بشكل مذهل، وانتشار المرض مع انهيار المنظومة الصحية؛ فحينها تقترب مشكلة الصحة النفسية من حجمها في الحروب، ويمكن أن تفتك بالبعض.
وتطرَّق أ. سعيد الدحية الزهراني إلى كورونا بوصفها وباءً اتصاليًّا فرض حجورات وعزولات اتصالية قطعت التواصلات وأمرضت الاتصالات؛ بدءًا بالاتصالات البين شخصية التي أصبح يفصلها عن بعضها مسافة المتر ونصف المتر أو أكثر، ناهيك عن انكماش اتصاليات اللمس كالتحية وغيرها.. وكذا الاتصال الجمعي مثل قاعات الدرس وخطب الجمعة التي تمَّ تعليقها… وأيضًا الاتصالات الجماهيرية في المناسبات الرياضية ونحوها حين حُرمت الجماهير من حضورها. أما أحدثها فهو فرض الحجر والعزل الاتصالي فيما بين الشعوب والثقافات والدول حين توقفت رحلات السفر فيما بينها. فهذا الحجر الاتصالي الذي سبَّبه وباء كورونا (COVID-19) يحمل انعكاسات اتصالية غاية في الخطورة تطال منظومة الروح المعنوية الإنسانية شخصيًّا وجمعيًّا وجماهيريًّا وشعوبيًّا… في صورة تهاوت عندها الأشكال الاتصالية الإنسانية السالف ذكرها (البين شخصي والجمعي والجماهيري والشعوبي والثقافاتي)، بل حتى الاتصالية الرقمية التي تجلت عبرها آثار الدمار المعنوي والوجداني والمشاعري… حتى بات هو الآخر (أي فضاء الاتصال الرقمي) اتصالًا مريضًا بانعكاسات الوباء وطاقاته السلبية… ومع هذا يظل السؤال الأخطر في الظرف الراهن: ماذا لو ضرب المنظومة الاتصالية الرقمية فيروس كورونا رقمي مُسبِّبًا انهيارًا شاملًا لسقف السماوات الاتصالية الرقمية واعتلالًا لأجساد الحزم الخوارزمية السيبرانية بالتوازي مع تفشي كورونا (COVID-19)؟ من هنا ليس بالإمكان أن نتخيل حيزًا حيًّا دون اتصال؛ وهذا ما يدفع البشرية نحو صون البنية الاتصالية الإنسانية من مهددات انهيارها على النحو الذي أحدثه وباء كورونا (COVID-19)، فالأمن الاتصالي هو شريان الحياة لجُلّ الأنشطة الإنسانية الأخرى… وحين يُصاب بمكروه، فهذا يعني أن كارثة وجودية تطلُّ برأسها، وأن آثارها لن تكونَ في إطار المتوقع فضلًا عن أن تكون تحت إجراءات السيطرة والاحتواء؛ لأن انكماش آفاق الاتصاليات الإنسانية هو انهزام وخذلان للذات العميقة أمام منجزها الاتصالي المبهر، وارتداد حضاري صارخ… فكيف سيكون شكل الحياة التي عَمَرَها الاتصال بمختلف أشكاله، وهي تواجه تقييدًا بالأغلال والسلاسل والسجون والحجر والعزل؟ الظن أننا أمام لحظة شبحية فارقة مسكونة بأكوام من الدمار النفسي والاجتماعي والحضاري. والحال اليوم يعبر عنها مثال بسيط ومباشر وهو عقوبة السجن التي ما هي في حقيقتها سوى عقاب اتصالي يتم بمقتضاه حرمان السجين من الحق الاتصالي الوجودي مع محيط الحياة من حوله، وهذا هو القائم الآنَ بعد أن ضرب كورونا الكرة الأرضية بأكملها وحوَّلها إلى سجن كبير يحوي بداخله سجونات أصغر فأصغر؛ تبدأ بسجن الشعوب داخل بلدانها الموبوءة، ثم سجن الجماهير عن أنشطتها العامة، ثم سجون الأفراد عن بعضهم البعض. بقي الفضاء الاتصالي الرقمي المريض رغم اعتلاله بالروح المعنوية المنكسرة والطاقات السلبية المنتشرة بين الذوات الرقمية المتواصلة جراء صناعة الخوف والهلع التي يتشاركها المستخدمون في البيئات الاتصالية الرقمية، ومع هذا فالخوف من كورونا رقمي يودع البشرية السجنَ الرقمي الكبير، ويقضي على ما تبقى من العافية الاتصالية الإنسانية والحياة ككل.
وفي اعتقاد د. خالد الرديعان، فإن التغيُّر المفاجئ في وتيرة الحياة وعدم اعتيادنا على وضع كهذا هو الذي خلَق مشكلةً لدى البعض، وخاصة ممَّن اعتادوا على العمل في ظروف طبيعية خارج المنزل. هذا في حد ذاته ولَّد لدى البعض غموضًا بشأن طبيعة العمل مستقبلًا، وأنه يمكن الاستغناء عن عدد من الموظفين في حال استمرار الحجر لعدة أشهر ولا سيما مَن يعملون في القطاع الخاص. وسكان دول الخليج العربية مع البُحبوحة الاقتصادية التي اعتادوها وظروف الاستقرار السياسي لم يعرفوا شيئًا اسمه “حظر التجول” الذي يرتبط عادة بالتوترات السياسية والمظاهرات والانقلابات في بعض الدول العربية التي مرَّت بظروف وتقلبات سياسية صعبة للغاية. بعض هذه الدول لا تزال تُطبِّق قانون الطوارئ الذي يحدُّ من بعض الممارسات اليومية المعتادة كالخروج من المنزل في جميع الأوقات، والتجمع؛ ومن ثَمَّ اعتادوا على مثل هذه الأوضاع رغم صعوبتها. ويُضاف إلى ذلك عدم استقرار الأسعار في تلك الدول، والأوضاع المعيشية المتقلبة، وغياب أو انقطاع بعض الخدمات كالكهرباء والماء وغاز الوقود والنت. مواطن دول الخليج العربية لم يمر بظروف مشابهة عدا أزمة الخليج واحتلال الكويت عام ١٩٩٠، والتي تمَّ تجاوزها بسهولة رغم الأضرار التي خلقتها لاقتصاديات هذه الدول، وهو ما أمكن معالجته بما توفَّر لهذه الدول من وفر مالي مناسب وخاصة المملكة والكويت أكبر المتضررين. لم يحدث مثلاً تأخُّر في استلام الرواتب أو ارتفاعات مفاجئة في الأسعار أو حدوث نزوح سكاني كما حصل في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. ما يحدث الآن مع كورونا هو أن المواطن الخليجي ربما أصبح أكثر قلقًا على المستقبل؛ مما ينعكس على نفسيته ونفسية أفراد أسرته والمحيطين به. انهيار أسعار النفط في الأسابيع الأخيرة واستمرار ذلك عامل آخر ربما ولَّد قلقًا عند المواطن الخليجي بحكم الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل في دول الخليج.
وتساءلت د. نوال الضبيبان: هل القلق الذي تولَّد لدى المواطن الخليجي بصفة عامة والمواطن السعودي بصفة خاصة (قلق محمود أم مذموم)؟ هل هو (قلق طبيعي مؤقت أم قلق مرضي) ناتج عن التهويل والخوف من المجهول؟ وبدوره أوضح د. خالد الرديعان أن انغماس أفراد المجتمع في تجارب صعبة ليس من الضرورة أن يكون عملًا سيئًا؛ فهو يصقل إنسانيتهم، ويُعزِّز نزعة البقاء لديهم، بل ويُعمِّق أهميةَ العمل المشترك بين الأفراد وتعاونهم مع الجهات الرسمية، وكذلك مهارات الانضباط واحترام القانون لتجاوز الأزمة دون خسائر فادحة. المذموم في الموضوع برمته هو التهويل الإعلامي، وانتشار الشائعات في وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم انصياع البعض – وهم قلة – لما تطلبه الجهات الرسمية. والمؤكد أن الأطفال هم أكثر فئة تعاني هذه الأيام بسبب عدم خروجهم من منازلهم، وعدم اعتيادهم على هذا الوضع الاستثنائي والطارئ.
ولاحظ م. زيد الشبانات أن هذا الوباء غيَّر نمط الحياة التي اعتادها الناس؛ وكأنَّ هذا الوباء أعادَ صياغة حياتَنا بطريقته؛ فالناس أصبحوا أقسامًا: منهم مَن استطاع التكيُّف دون أثر نفسي، وآخرون حاولوا وأصبح لديهم نوعًا ما تكيُّف غلافه (مُكرَهٌ أخوك لا بطل)، وقسم لم يستطع وأصبح يتنازعه خوفان: أحدهما جزع وقلق من الوباء، والآخر من نفاد الغذاء، وهؤلاء هم الذين يعانون من فوبيا تتلاعب به مرة إلى الوباء، وأخرى إلى نقص الغذاء. كذلك فقد عانت الجهات المسؤولة عن الأمن الغذائي – وقد بذلت الدولة جهودًا كبيرة لتوفيره – من الكيفية والوسيلة التي يمكن من خلالهما إقناع الناس بتوفر الغذاء وكفايته؛ فبالرغم من الظهور الإعلامي المستمر لطمأنتهم بالصور والأرقام، لكن للأسف لوحظ الهوس الشرائي لدى فئات من المجتمع، وهذه مسألة نفسية بحتة قد تكون مرتبطةً بكل أزمة تحدث أو بسبب البيئة المحيطة به، وهي خوف نفاد الغذاء.
أما أ. علياء البازعي فترى أننا مع هذا الكمِّ من الشفافية في ظل جائحة كورونا، إلا أننا نعيش ما يمكن تسميته “اضطراب كثافة المعلومات”، وهذا الاضطراب سيخلق بداخلنا اضطرابات أخرى جديدة من نوعها. كذلك فإن هناك نماذج كثيرة قد تكون الضغوط عليها أكبر في ظل الجائحة، مثل: الأشخاص الذين يسكنون بمفردهم، أو الأشخاص المضطرين للسكن في بيت واحد سواء كانوا إخوةً أو أزواجًا أو أقارب علاقتهم مضطربة.. هؤلاء قد تزداد مشاكلهم. أيضًا هناك الأطفال من ذوي الإعاقة وأسرهم “ويعتبرون فئة شبه منسية”، فهذه الأسر معاناتهم مضاعفة، حيث توقَّف الدعم المباشر والروتين الذي اعتاد عليه أطفالهم، ومعظمهم فئات لا تقبل تغيُّر الروتين بسهولة، فضلاً عن عدم قدرة الأهل على تطبيق نفس التقنيات التي تُطبَّق في المراكز التي كان الأطفال يذهبون لها؛ مما يُسبِّب تراجعًا كبيرًا في مهاراتهم وقدراتهم.
وذكرت أ. فائزة العجروش أن هناك بعض الفئات التي تضررت من جائحة كورونا بجانب المشار إليها، ويجب أن لا نغفل عن مواساتهم ودعمهم لتخطي هذه المرحلة الحرجة، ومن أهمها:
1- مَن حدثت لديه حالة وفاة من المقربين، ولم يستطع حضور دفنها والصلاة عليها، والحرمان من تواجد الداعمين له.
2- مَن يعانون من عدم رؤية أحد الوالدين، رغم تواجدهم في نفس المدينة؛ خوفًا من نَقْل العدوى لهم.
3- مَن استقبلت مولودها البكر خلال هذه الأزمة بشروط صحية بالغة الدقة، ومع احتياطات احترازية بالغة الشدة مع مولودها.
4- مَن تأجَّلت حفلات أعراسهم، وقُتلت فرحتهم وتأجَّلت كافة خططهم المستقبلية للزواج لأجل غير مسمَّى.
5- المرضى المنوَّمون في المستشفيات وغير المصابين بكورونا، حيث يعانون من الألم والوحدة.
6- مَنْ لم يفرح كغيره من أقرانه بحفل تخرُّجه من المرحلة الثانوية أو الجامعية، وتم الاكتفاء بشهادة إلكترونية.
7- مَن كان ينتظر دوره لسنوات طويلة لعملية جراحية تأجَّلت بسبب ظروف هذه الجائحة.
وأضافت د. وفاء طيبة إلى ما تقدَّم من حالات أو فئات عانت من جائحة كورونا فئة العمالة، فوضعهم مؤلم مرتين؛ مرة لأنهم ظُلموا من كفلائهم، ومرة أخرى لأنهم الأعلى إصابةً، ومرة ثالثة لشعورهم بالتمييز، ليس من الدولة – ولله الحمد – فقد فعلت معهم كلَّ خير ما لم تفعله دولة أخرى، ولكن من بعض المواطنين الذين يعتبرونهم هم أساس المرض لعدم نظافتهم، وحتى لو كان ذلك جزئيًّا صحيحًا في بعض الأحيان، ولكن المسؤول الأول هو الكفيل الذي أسكنهم في مثل هذه المساكن التي قد لا تليق بآدمي.
من ناحيته ركَّز أ. عبد الله الضويحي على النقاط التالية:
1- أن التأثيرات أو الانعكاسات النفسية بسبب الأزمات تختلف من مجتمع لآخر، ومن أزمة لأخرى، فالعملية هنا نسبية؛ ومن ثَمَّ فتقبُّلها والتعامل معها يختلفان من مجتمع لآخر، وكذلك معالجتها.
2- أننا في المملكة العربية السعودية لدينا قيمٌ ومعتقدات وإيمان يُخفِّف من تأثيرات الأزمة علينا، وهو ما أشار له د. محمد الملحم بالتفصيل، لكن التصور أن هذه عملية نسبية ولا يمكن تعميمها، فالمجتمع لدينا يتغير، وهناك مَن يتأثر بهذه الأزمات والظروف.
3- أننا كمجتمع ما زلنا نفتقد لثقافة (الفضفضة) ومراجعة الطبيب أو الاختصاصي النفسي أو حتى مجرد الاعتراف بتأثير الأزمة علينا من الداخل، وهذه المشكلة هي أكبر ما نواجهه، وتؤدي إلى بعض الانتكاسات.
4- نفتقد أيضًا لروح المبادرة والإبداع التي يمكن توظيفها في إعادة اكتشاف الفرد لنفسه وبيته وبعض كوامن الإبداع لديه، والتي لم يكن يدركها، وكذلك كتابة بعض المذكرات الشخصية أو قراءة بعض الكتب التي اقتناها ووضعها على الرف أو العودة لبعضها. وممارسة الرياضة داخل المنزل سواء من خلال الأدوات الرياضية أو مجرد المشي في الفناء الخارجي.
5- أزمة جائحة كورونا هي فرصة لنا على كل المستويات الفردية والجماعية والرسمية، لدراسة انعكاسها وتأثيراتها على المجتمع، والاستفادة منها.
• مقترحات لمواجهة الآثار السلبية لجائحة كورونا على الصحة النفسية.
يرى أ. فهد القاسم أهميةَ القيام بدراسات علمية حول تأثير الجائحة والحجر على أفراد المجتمع، والتوقع أنه سيكون لدينا تأثير مختلف بين الكبار والصغار، وبين سكان الفلل والشقق، وبين الأحياء المفتوحة والمكتظة، وبين المدن والأرياف. ومن الجدير بالاهتمام دراسة تأثير ذلك على الحالات المرضية وحالات الطلاق. وقد يكون من المهم وَضْع مقترحات لتجنُّب الآثار النفسية الناتجة عن الحجر والجائحة، ونصائح وتوجيهات تُعلن على المستوى الوطني لتلافي انعكاسات غير مرغوبة قبل حدوثها خاصة في حال استمرار الأوضاع لمدة أطول.
وأكدت د. وفاء طيبة على أهمية التركيز على القوانين في الجانب النفسي حيث إنَّ هناك افتقارًا إلى كثير منها، فالجانب النفسي لا يبدو واضحًا أنه من الأولويات لدينا. وبجانب التشريعات نحتاج للتنفيذ، فينقصنا أطباء وممرضون ومستشفيات وعيادات نفسية، بل ينقصنا الوعي بأهمية مراجعة طبيب أو معالج نفسي، وينقصنا تشريعات خاصة بكل ذلك، فنظام الصحة النفسية يتعامل مع مَن هو مريض وظروفه في المستشفى مع الطبيب وغيره فقط، وما زالت مراجعة متخصص وصمة في كثير من الحالات، ولم نلحظ في الإعلام اهتمامًا ملائمًا بهذا الجانب في ظل هذه الجائحة. ولأننا لا نتحدث عن المشاعر وعمَّا يُقلقنا ولا نتحدث بها لأخصائي يساعدنا؛ شعر كثير منَّا بالقلق الشديد، وكل ظروف النقص التشريعي والتنفيذي زادت الطينة بِلةً على مَن هم مرضى من الأساس وأهلهم في هذه الجائحة.
ويرى أ. د. عثمان العثمان أن التعامل مع الأزمات كما في أزمة كورونا يجب أن ينطلق من فكرة ضرورة توقُّع حدوث الأسوأ دائمًا، وهي ليست نظرة سوداوية، لكنها من جانب الاحتياط للأيام الصعبة حتى وإنْ كانت نسبة حدوثها قليلة.
وركزت أ. فائزة العجروش على بعض النصائح اللازمة لمواجهة الاضطرابات النفسية الناجمة عن كورونا، حيث أكدت في هذا الصدد على أهمية الجلسات الحوارية بين الآباء والأبناء، واعتبارها من أهم النتائج الإيجابية للحظر المنزلي لتقليل الخلافات والمشاكل التي قد تنشأ من كثرة الاحتكاك اليومي. كما أن من المناسب أن نُمرِّر هذه الجلسات على شكل ألعاب، ومن ثَمَّ وضع نتائجها كبنود أساسية في خُططنا المستقبلية عند التعامل مع الأبناء والمقربين.
وحدَّد د. عبد الإله الصالح بعضَ المنطلقات للتعامل مع الآثار النفسية والمجتمعية لجائحة كورونا على النحو التالي:
1- بالتأكيد هناك شبه إجماع على الآثار النفسية والمجتمعية وأسلوب التعامل معها (على الأقل في الأمور العامة). وتقع الآثار على الفرد والأسرة والمجتمع في طيف واسع من العادي الطبيعي الإيجابي إلى السلبي ثم المتأزم (المرضي). وبناءً على ذلك، يكون التعامل (العلاج) موازيًا لهذا الطيف.
2- ما دام هناك إجماع على المكاسب والإيجابيات والسلبيات بشكل عام، فإنه يمكن بناءً على ذلك تقسيم وسائل التعامل معها بحيث تكون مُوازيةً للطيف المشار إليه أعلاه؛ بمعنى ضرورة أن يكون هناك تركيز في المعلومات من الجهات الرسمية وشبه الرسمية بدلًا من سياسة الإغراق (في بعض المعايير والمقاييس الإعلامية والإعلانية لبعض الجهات الخدمية الحكومية والخاصة، الكثرة تغلب الحكمة والرشد). وكذلك أن تحتوي المعلومات خلاصة المرئيات حيال الأمور النفسية والاجتماعية على مستوى الفرد (المرأة والرجل، والصغير والشاب والمراهق، والوالد والوالدة، والمريض والمعاق، والأسرة والحي، وهكذا).
3- البدء عاجلاً في تضمين الفِرَق الصحية رقابة وملاحظة اجتماعية ونفسية (علاجية وإحصائية)، ومثل ذلك في اللجان الرسمية العاملة على المستويين التنظيمي والتنفيذي (الأمني والصحي).
4- التوجُّه لتوظيف وسائل الأدب (القصة القصيرة والمقالة والرواية) والدراما (القصيرة والمسلسلة) والتقارير الصحفية (بالتحفيز المادي والمعنوي) في هذا الاتجاه بدلاً من بعض الاتجاهات التي تخدم الممثلين والقنوات في مجال الشهرة (والإثارة)، ولا تخدم الوعي العام أو الإبداع الفني.
واتفقت د. وفاء طيبة مع ما ذكره د. عبد الإله حول ضرورة توجيه الإعلام للصحة النفسية في هذه الجائحة، وأضافت أن كثيرًا مما قِيل هنا كان يمكن أن تُبنَى حوله تحقيقات صحفية مبدعة، وكذلك أساليب للوقاية والعلاج للكبار وللصغار بطريقة مرحة ومريحة، وقد شاهدنا ذلك كثيرًا في الإعلام الغربي، بل إنهم قدَّموا برنامجًا للأطفال لمدة ساعة ونصف الساعة في CNN، تضمَّن إرشاداتٍ نفسيةً لهم ولوالديهم وأساليب لقضاء الوقت ومعالجة بعض المشكلات التي قد تحدث في الأسرة، وشاهدنا مَن عمره (٥) سنوات يُقدِّم سؤالا للطبيب ويحصل على الإجابة الواقعية له، كلُّ ذلك قدَّمه أشهر طبيب في أمريكا اليوم (سانجاي جوبتا) مع شخصيات افتح يا سمسم، ولم يكن البرنامج لافتًا للأطفال فقط، وإنما كان أيضًا لافتا للكبار وجميل جدَّا. والواقع أن مثل هذه الظروف لها أثرٌ كبيرٌ، بل إنها مفصلية في نمو الجميع صغارًا وكبارًا، وكلمة نمو هنا يُقصد بها تطوُّر وتقوية it makes you stronger and more understanding للحياة حتى لو كان طفلًاً.
كذلك فقد اهتم م. فاضل القرني بالدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام بجميع وسائله فيما يتعلق ببثِّ الطمأنينة بحيادية ونزاهة المعلومات والتوصيات بدون مبالغة تُسبِّب الهلع. وبكل تأكيد، يجب أن يتصدر الأطباء والمختصون النفسيون الساحة بالأسلوب العصري التفاعلي والتواصل، والبعد عن الأسلوب التلقيني القديم. كمثال؛ برامج أسبوعية أو كل ثلاثة أيام حيث يتم عَقْد مجموعة من المختصين (Panel) لمناقشة حية مع استفسارات واقتراحات وقصص تأثرت بسبب الجائحة، ويُعرض من خلالها فيديوهات مساعدة ومداخلات مواطنين مرُّوا بتجربة مختلفة (الناس تميل أحيانًا للتعلُّم من بعضها. المهم هناك تخصص مُشرف يكون له الكلمة الفصل).
ويرى د. محمد الملحم أن الاهتمام بمسألة الصحة النفسية في الوضع الراهن ينبغي أن يتركز على الفئة الأكثر تضرُّرًا، وهم: الممارسون الصحيون ورجال الأمن وكل مَن يعمل في فرق العمل لمواجهة الجائحة سواء كانوا في الصف الأول كالممارسين الصحيين أو غيرهم، وسواء كانوا موظفين أو متطوعين. كذلك ينبغي التركيز على الفئات الأخرى؛ وهم كبار السن، والفئات الحساسة كالمرضى في المستشفيات والمرضى النفسانيين والمساجين والجنود في الخط الأمامي، وكذلك الأطفال وذوو المصابين وذوو المتوفين. وفي ضوء ذلك يمكن التأكيد على الجوانب التالية:
1- ضرورة حَصْر الفئات الضحية للمرض في الجانب الصحي النفسي؛ للبدء في عمل إجراءات متدرجة لمساعدتها.
2- تشمل هذه الإجراءات أولاً توعية المحيطين والمتعاملين مع هذه الفئات؛ لأن المساندة النفسية للمريض الصحي النفسي أهم من توعيته هو نفسه.
3- توعية هؤلاء الفئات برسائل ذكية ومتميزة تساعدهم في الاطمئنان إلى الخدمات المُقدَّمة لهم سواء في الجانب الصحي العلاجي أو جانب الرعاية النفسية.
4- توعية الجميع أين يجدون مراكز الرعاية النفسية لمشكلات الصحة النفسية المصاحبة لذعر الجائحة، وتوصيف أعراض هذه المشكلات، وعدم الخشية أو التحفُّظ من الحديث عن هذه الأمور.
5- تجهيز المراكز والعيادات المتخصِّصة بالرعاية النفسية أو العلاج النفسي من خلال عقد دورات يُقدِّمها خبراء متقدِّمون لرفع مستوى الخدمة العلاجية أو الرعاية النفسية، مع التركيز على المشكلات التي يمكن أن تنشأ من ذعر الجائحة.
6- توعية الآباء والأمهات حول أطفالهم الصغار، وتزويدهم بالإجابات المناسبة عند الحديث عن الجائحة، مع توجيههم حول مَنْع أخبار الشائعات والصور المشوهة للنفسية عن هؤلاء اليافعين، وضبط تجوُّلهم في النت ووسائل السوشيال ميديا.
7- توجيه الآباء والأمهات والإخوة الكبار حول كيفية معاملة الأطفال في ظل الجائحة، خاصة الذين يعيشون في الشقق الصغيرة والأماكن المغلقة حيث يصعب حركة الطفل كثيرًا وانطلاقه.
8- توجيه مَن يرعون كبار السن حول أصول الحديث معهم حول الجائحة، وضرورة طمأنتهم مع بثِّ رسائل رسمية من وزارة الصحة تُناشد كبار السن بعدم الضغط على غير المخالطين من أبنائهم (أحفادهم وغيرهم من أحبائهم) لزيارتهم والاكتفاء بمن معهم؛ لأن في ذلك مساندة لأبنائهم الذين لا يرغبون في زيارتهم حفاظًا على حياة والديهم.
وذهبت د. وفاء طيبة إلى أن المرضى النفسيين هم فئة موجودة قبل وبعد الجائحة، قد يكون تأثُّرها بالجائحة مختلفًا ومُحزنًا، لكن خارج المرض النفسي لكل منَّا ظروفه، وقوة تحمُّله، وقدرته على التكيُّف، ووعيه العام، ووعيه بالمشكلة. وحتمًا – كما ذكر د. الملحم – أننا قد يكون تأثُّرنا النفسي (وبسبب الجانب الديني) مختلفًا، لكن حتمًا وُضعت الأُسر بكل أعضائها أمام تحدٍ مُفاجئ، وكان لا بد لها أن تتكيف؛ لكن الأهم الآن في ظل جائحة كورونا هم مَن في الخط الأمامي وصحتهم النفسية؛ لأنهم بالفعل يواجهون ضغوطًا كبيرة، ويجب دعمهم.
وأكد د. حميد الشايجي أنه من المهم مواجهة الخوف الذي تبثُّه جائحة كورونا وانعكاساته النفسية السلبية ببثِّ الرسائل الإيجابية، لكن الإشكالية تكمن في صعوبة ضبط الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتكونَ رسائل إيجابية. فللأسف، هناك مُثبِّطون ومحبِّطون ومثيرو الخوف والهلع في المجتمع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيُغردون كيفما شاءوا ما دام في إطار نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية. فهم يبثُّون رسائل الإحباط والخوف مما ينعكس سلبًا على المتلقين، وإنْ كان أصلًا بعضهم يعاني من بعض الاضطرابات النفسية، فتأتي هذه الرسائل فتزيد الطين بِلَّةً، فيحصل ما لا تُحمد عُقباه من ردود أفعال ضارة؛ كالعنف الأسري، والانتحار، وزيادة تعاطي المخدرات، وغيرها من المشاكل النفسية؛ لذا لا بد من تكثيف الرسائل الإيجابية لنشر الطمأنينة في المجتمع، ويتحمل كل فرد من أفراد المجتمع مسؤوليته في ذلك. كذلك فإن المشكلة ليست في المعلومات التوعوية الصحيحة بقدر ما هي في الإشاعات غير الصحيحة سواء المعلومات المغلوطة عن الفيروس أو إشاعات الأمل الكاذبة، مثل: (ستُفتح المساجد بعد أسبوع)، (سيُرفع الحظر بعد خمسة أيام)، (سيُقضى على الفيروس خلال ٣ أسابيع) وهكذا… وتبدأ الناس تتأمل وتستعد وتُهيِّئ أنفسَها وتأتي الأيام الخمسة والأسبوع ولم يتغير شيء، ولم تتحقق تلك “البشارات” فيُصاب الناس بإحباط تلو الإحباط إلى أن يؤثر ذلك سلبًا على نفسياتهم وسلوكهم. وهناك فرضية في علم اجتماع الجريمة، وهي فرضية الإحباط والعدوان Frustration- Aggression Hypothesis، ومفادها أن الإحباط يُولِّد العدوانَ بأنواعه المختلفة؛ لذلك يجب الحذر والتحذير من مثل تلك الشائعات.
في حين أكد أ. عبد الرحمن باسلم على بعض الممارسات التي يمكن أن تُسهم في معالجة الانعكاسات النفسية السلبية لجائحة كورونا، ومنها:
• أولاً: نحن مسلمون، والصبر على قضاء الله عبادة نُؤجر عليها، ولا بد من تقوية النواحي الإيمانية والصبر والمصابرة في الظروف الحالية.
• ثانيًا: جاءت الجائحة في أفضل الشهور، وهو شهر عبادة من أوله حتى آخر ليلة؛ وبالتالي فالصيام والصلاة والذكر كلها عبادات تُساعد على انقضاء الوقت وبروحانية وسعادة.
• ثالثًا: القرآن في ظل توفُّر الوقت يجعلنا نُكرِّس وقتًا لزيادة القراءة أكثر، وكذلك الحفظ والدراسة مع الأبناء.
• رابعًا: مساعدة الآخرين من خلال إخراج الزكاة تزيد من السرور في النفس، وتقضى على أسباب الخوف؛ لقيامنا بركن عظيم تجاه المجتمع، وتزكية أنفسنا.
• خامسًا: إيماننا بالأعمال التطوعية، كلٌّ في مجال عمله.
• سادسًا: السمع والطاعة لولاة الأمر، والامتثال للتعليمات التي تصدر منهم لنكون فريقًا واحدًا نحو مجتمع صحي وسعيد.
واتفقت د. نوال الضبيبان مع أهمية الجوانب الإيجابية اللازمة وطرق المعالجة من خلال المنظور الديني والتي تطرق إليها أ. عبد الرحمن باسلم، فهي هي أحد الأساليب العلاجية المعتمدة عالميًّا، والتي تفوقت من وجهة نظر العديدين وبمراحل على الأساليب الأخرى.
في حين أكد م. إبراهيم ناظر على أهمية الرياضة في مواجهة الآثار السلبية لجائحة كورونا، ولعل من المناسب أن يتم عمل مركز اجتماعي في الأحياء بالمدن يشتمل على أخصائيين اجتماعيين، كما يكون مجهزًا لممارسة بعض الألعاب الرياضية التي تجذب الأطفال والكبار.
وذهبت د. مجيدة الناجم إلى أن ما مرَّ به العالم خلال الأشهر القليلة الماضية هو وضع استثنائي نادر الحدوث، وبالطبع له تبعات وآثار كثيرة، منها ما هو سلبي، وهناك إيجابيات كثيرة. ولعل الجانب النفسي من الجوانب المهمة التي لا يتم التعامل معها بشكل مباشر، ولكن تبعاتها تتطلب العمل لإعادة التوازن النفسي والتخلص من آثارها على كافة الأصعدة وفي جميع جوانب الحياة، نظرًا لكلفتها الاقتصادية لاحقًا؛ لذا لا بد من الانطلاق من حقائق حول ما هي الآثار النفسية الفعلية، ومَن أكثر المتأثرين بها من فئات المجتمع؛ ومن ثَمَّ العمل على تصنيف هذه الأعراض وتشخيص ماهية الاضطرابات الحاصلة، وهذا يتطلب عملًا جادًّا من متخصصين، وذلك بعمل دراسة مسحية على مستوى المملكة لتحديد الآثار النفسية وتنظيمها وتصنيفها؛ لأن وجود مثل هذه الدراسة سيُحدِّد ما نحتاجه فعليًّا من تدخلات للحد من آثارها والتعامل معها.
وأكد د. عبد الله بن صالح الحمود أنه لا شك أن التدابير الحكومية التي تمَّ اتخاذها لمواجهة جائحة كورونا تعَدُّ أمرًا مهمًّا نحو طمأنة المجتمع وتقديم ما بوسعها تجاه مواطنيها، وهذا – ولله الحمد – ما تجلَّى في سعي حكومة المملكة بجَعْل الشأن الصحي من أولويات اهتمامها بالصحة العامة منذ نشوء جائحة كورونا. ومن المهم القول إن أفراد المجتمع عليهم أن يكونوا يدًا واحدة في المعالجة والتخفيف من الأثر النفسي للجائحة؛ من خلال عدم التهويل أو إثارة الرعب المجتمعي بقصد أو بغير قصد، فذاك مردُّه مضاعفة الداء لا علاجه.
في حين ذهبت د. عبير برهمين إلى أنه لا شك أن الصحة النفسية عمومًا هي كالصحة العامة، إنْ اختل أحد أنظمتها اختل توازن الشخص وتأثَّر أداؤه، وانطلاقًا من ذلك يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:
1- إذا كان ثمة اتفاق على ضرورة تقديم الدعم النفسي للعاملين في خط المواجهة مع الجائحة، وتوفير خط ساخن؛ فالسؤال هو: مَن سيقوم بذلك؟ هل عدد الأطباء النفسيين بالمملكة كافٍ؟ أم هل المختصون بعلم النفس بإمكانهم تقديم هذا الدعم؟ وهل مناهجنا في مجال علم النفس تحوي تخصصات دقيقة للتعامل مع الصدمات إثر الكوارث والمُلمَّات؟ علمًا أن ثقافة العلاج النفسي والاستشارات النفسية في مجتمعنا لا تزال متدنيةً لأسباب كثيرة.
2- من المهم جدًّا في علم إدارة الأزمات أن نكون على قدر كبير من العقلانية والشفافية والتعامل مع الواقع، وأهم شيء معرفة مواطن الخلل وأوجه الضعف لتكون الإدارة فاعلةً. أما المُزايدة وإضفاء روح المثالية المبالغ فيها في مجتمعنا فقد يعوقنا عن إدارة أي أزمة بنجاح، بما فيها أزمة كورونا.
3- وسائل التواصل الاجتماعي ما زالت خارج السيطرة، وكل مَن هبَّ ودبَّ يُدلِي بدلوه في إبداء النصائح، بل وحتى اقتراح خلطات وعلاجات والتي قد تكون مغلوطة، ولا يقوم بها أصلاً مَن يتشدق بها.
4- لو لم يكن هناك إيجابيات لفترة الحظر الصحي سوى التأمل والتفكر وإعادة ترتيب الأولويات في الحياة، لكفتنا كإيجابية كبيرة جدًّا من هذه الجائحة.
5- من المهم جدًّا بثُّ روح الإيجابية على أساس علمي صحيح. فمثلاً، على الرغم من أن جائحة كورونا أثَّرت على العالم أجمع إلا أن نسبة الوفيات الناجمة عنها هي أقلُّ جدًّا من معدل الوفيات السنوي بالأنفلونزا العادية. وإنما مبعث الهلع هو سرعة انتشار فيروس كورونا وشبهة التعديل الوراثي (كخطر سلاح بيولوجي محتمل)، والذي يُعزِّزه تبادل الاتهامات بين أمريكا والصين، وهو ما قد يكون المسؤول عن زيادة هذا الهلع أو الرعب.
في حين أكدت أ. مها عقيل على أهمية ما يلي:
1- تفعيل الخط الساخن للاستشارات النفسية، وكذلك النظر في إمكانية إرسال رسائل عبر الجوال تنطوي على نصائح وإرشادات لكيفية التعامل مع الضغوط، وبعض تمارين التنفس والأكل المفيد وغيرها، وكيفية التواصل مع الاستشاريين المتخصصين، مثلاً في توجيه النساء أو الأطفال أو كبار السن.
2- عقد حلقات دعم نفسي في مراكز الأحياء وعبر مواقع التواصل ومنصات الفيديو.
3- الإفراط في استخدام الأجهزة الذكية مشكلة، ولكن يمكن أيضًا إتاحة تطبيقات دعم نفسي وصحي وروحاني من خلالها.
4- الاهتمام بطمأنة أفراد المجتمع بشأن الوضع المالي والاقتصادي باعتباره أكثر ما يُقلقهم حاليًّا في ظل جائحة كورونا.
5- الاهتمام بنفسية الأطفال عبر أنشطة مُخصَّصة لهم، ليعبروا عن أنفسهم من خلال الرسم أو الموسيقى حسب سنهم، فضلاً عن الأنشطة البدنية والذهنية التي يقومون بها في المنزل.
بينما اهتمت د. الجازي الشبيكي بتفعيل دور الأسرة في تعزيز الجانب النفسي لأفرادها وخاصة كبار السن والأطفال، من حيث الحرص على إيصال المعلومات بأسلوب هادئ ومتوازن ومُطمئن، ومن حيث التأكيد على الثبات الانفعالي للأحداث، فالوالدان هما القدوة، والآلية التي يديرون بها الجو العام للأسرة. كما أن على الأبوين تنظيم جدول يومي حيوي متنوع مُتجدِّد بحسب اهتمامات أفراد الأسرة؛ لتخفيف الضغوط النفسية الناتجة عن البقاء الإلزامي الطويل في المنزل، ومن الممكن أن يشتمل ذلك على بعض الألعاب والمسابقات الثقافية والرياضية وغيرها، وتحفيز الجميع على المشاركة بالجوائز البسيطة جدًّا.
كما اهتم الملتقى بمناقشة بعض الأفكار، مثل:
1- تزويد عامة أفراد المجتمع بكل معلومة مستجدة عن الوباء؛ لتحجيم الشائعات التي يلزم منعها في وسائل التواصل الاجتماعي ومعاقبة مُروِّجيها.
2- استمرار دور المُتحدِّث الرسمي لوزارة الصحة، على أن يكون لقاؤه مع صحفيين للإجابة عن أسئلتهم، وليس لقراءة بيانه اليومي.
3- تكثيف التوعية الغذائية السليمة، والتنويه على أهمية تناول الوجبات الصحية المتوازنة لمواجهة الاعتلالات النفسية ومظاهر الهلع والاكتئاب الذي قد يحصل نتيجة الحجر المنزلي وللوقاية منه، مع عرض برامج مُخصَّصة تساعد ربة المنزل على تنفيذها من خلال أدلة استرشادية وفيديوهات تعليمية.
4- رفع الوعي الغذائي لدى الأفراد من خلال توجيههم لتناول الأطعمة الغنية بفيتامينات (ب) المركبة وفيتامين (ج) والزنك والحديد والكالسيوم، لدورها في مَنْح الطاقة اللازمة لمحاربة الاكتئاب والقلق.
5- مساعدة كبار السن باستبدال المشروبات المنبهة والمليئة بالكافيين كالشاي والقهوة بالمشروبات المفيدة للمخ والأعصاب، ومنها البابونج والنعناع والمليسة وما شابهها، والتي تعمل على تهدئة الأعصاب.
6- توفير مراجع باللغة العربية خاصة بالطب النفسي؛ لأهمية التواصل باللغة الأم في متابعة المستجدات والتفاهم مع الفريق العلاجي وصولًا لأفضل النتائج المرجوة.
7- إدراج “إدارة الأزمات” في مناهج التعليم ومن خلال التدريب اللاصفي؛ لتمكين الأفراد من مهارات التعامل مع الأزمات، كلٌّ في مجال عمله وموقعه، وفِي مراحل التعليم المختلفة، وكذلك لتمكين الوالدين والمعلمين والمشرفين الاجتماعيين والتربويين من هذه المهارات.
التوصيات:
1- الدعم النفسي للكوادر الصحية والطبية، بتنظيم عيادة إسعافات نفسية أولية psychological first aid اختيارية للطاقم الصحي لمواجهة الضغوط التي يواجهونها في هذه الجائحة.
2- العمل على إيجاد شراكات فاعلة من القطاع الخاص لتسخير ميزانيتهم المخصَّصة لبرامج المسؤولية الاجتماعية؛ من أجل إعلاء قيمة الصحة النفسية وصيانتها من الأمراض والعلل خلال جائحة كورونا وبعدها لكل شرائح المجتمع.
3- إنشاء جمعية متخصِّصة في الصحة النفسية بفروع لها في كافة أنحاء المملكة، يعمل فيها متخصصون في المجال؛ بهدف إشاعة ثقافة الصحية النفسية، وكسر الوصمة المجتمعية، وتعمل على التصدي لمقاومة اعتلالات الصحة النفسية والتوعية بها، عبر إعداد برامج متنوعة من خلال التطبيقات والمطبوعات ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي؛ ويمكن أن يُقدِّم المتخصصون فيها جلسات إرشادية وعلاجية مجانية أو شبه مجانية لمختلف الأعمار، وتقديم أدوية بأسعار رمزية بعد أن يصفها طبيب متخصص، وذلك على غرار جمعيتي عناية وزمزم، ولكن في المجال النفسي فقط.
4- مطالبة الجامعات والكليات السعودية من خلال الأقسام المختصة لديها بالقيام بأدوار واضحة من خلال برامج المسؤولية المجتمعية ومبادرات التطوع؛ لتقديم خدمات في مجال الصحة النفسية خلال فترة جائحة كورونا، وترتكز على ثلاثة جوانب أساسية: التوجيه والتدريب، العلاج النفسي المعرفي والسلوكي، برامج الدعم والتأهيل.
5- سن التشريعات والقوانين الضرورية للعمل في الصحة النفسية بشكل عام، ولتقديم الخدمة افتراضيًّا بشكل خاص، حتى لا تكون مجالًا لإساءة الاستعمال.
6- توفير خط هاتفي ساخن للاستشارات النفسية يعمل فيه متخصصون، يكون في متناول الجميع. وإرسال رسائل عبر الجوال فيها نصائح وإرشادات لكيفية التعامل مع الضغوط لجميع الأعمار.
7- السعي إلى مضاعفة أعداد المتخصِّصين السعوديين في الطب النفسي والاختصاص النفسي والعلاج الإكلينيكي في الجامعات؛ نظرًا لقلة أعدادهم مقارنةً بحجم السكان وذلك على مستوى المملكة، وكذا في عيادات الصحة النفسية خصوصًا في المحافظات.
8- تكثيف التوعية الإعلامية (مرئية- افتراضية) بأهمية بعض الأمور، مثل:
– الآثار السلبية للإفراط في استخدام الأجهزة الذكية والإدمان عليها خاصة خلال فترة الحجر المنزلي.
– المحافظة على الغذاء المثالي والوزن المثالي.
– التشجيع على ممارسة الرياضة حتى لو كانت منزلية؛ من أجل تفادي المشكلات النفسية والصحية.
– تقديم برامج مرئية وفي وسائل التواصل الاجتماعي مُوجَّهة للأطفال وهادفة في الجانب النفسي؛ لفهم الأزمة والتعامل معها وتخطِّيها بالشكل الأمثل.
– تنظيم جدول يومي حيوي متنوع متجدِّد بحسب اهتمامات أفراد الأسرة؛ لتخفيف الضغوط النفسية الناتجة عن البقاء الإلزامي الطويل في المنزل.
– إيصال المعلومات للمواطن بأسلوب هادئ ومتوازن ومُطمِئن، ومن حيث التأكيد على الثبات الانفعالي للأحداث.
– الخدمات التي تقدمها وزارة الصحة في مجال الصحة النفسية، مثل المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية.
9- مطالبة مراكز الحي بتوفير مراكز رياضية لما بعد الجائحة.
10- تعديل نظام حماية الطفل، ليشتمل على الإيذاء عن طريق الإنترنت cyber abuse.
11- حث الأئمة والدعاة على أن يكون لهم دور في بثِّ الطمأنينة ومساعدة من يحتاج من خلال خطوط ساخنة؛ لتقوية الجانب الإيماني.
القضية الثالثة
البيروقراطية في زمن الأزمة
(17/5/2020م)
الورقة الرئيسة: م. خالد العثمان
التعقيبات:
التعقيب الأول: د. وفاء الرشيد
التعقيب الثاني: د. خالد الفهيد
إدارة الحوار: م. إبراهيم ناظر
الملخص التنفيذي:
أوضح م. خالد العثمان في الورقة الرئيسة أن مفهوم البيروقراطية (الدواوينية) قد يتصل بالسياسة أو الاجتماع أو علم النفس، وفي هذه القضية تحديدًا المقصود به ما يتصل بالإدارة العامة (الدواوينية الإدارية)، وهي مجموعة الإجراءات التي يجب اتباعها في مباشرة العمل الحكومي بصورة عامة، والعمل الإداري بصورة خاصة داخل الأجهزة والوزارات الحكومية وما يتبع لها من منظومات، وتحديدًا في هذه الأزمة، وعدم التحرُّر من قيود البيروقراطية في هذه الظروف الصعبة التي يمرُّ بها القطاع الخاص للاستفادة السريعة والمثلى من مبادرات الخدمات الحكومية وحِزم الدعم التي أطلقتها حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان – رعاه الله – بكل كفاءة وفعالية للقضاء على آثار جائحة كورنا على القطاع الخاص، وسرعة وتعافي الاقتصاد الوطني مما ألمَّ به مُنذ بداية هذه الأزمة.
أما د. وفاء الرشيد فذكرت في التعقيب الأول أن المعنى الحرفي لكلمة البيروقراطية يُوضِّح الصورة إلى حد كبير، فـ”البيرو” معناها المكتب (بالفرنسية)، و”قراطية” معناها السيادة (باليونانية)، أي سيادة المكتب، وعليها قِس مدى حزم هذه السيادة اليوم! إنَّ تقليص البيروقراطية وتهميشها يُعتبر مفهومًا رئيسًا في نظرية الإدارة الحديثة، فالبيروقراطيات عندما تكبر تفقد المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية فعاليتها في سرعة الأداء وكفاءتها في الإنتاج، وبالتالي يظهر عليها الاختلال الإداري؛ فهي اليومَ غير قادرة على الاستمرار ومواكبة وتيرة التغيُّر السريعة والتطوُّر والتقدُّم في عصرنا الحاضر؛ لأن التغيرات المعاصرة تحدث على هيئة طفرات حضارية ومدنية سريعة جدًّا خلال فترات زمنية قصيرة.
وأشار د. خالد الفهيد في التعقيب الثاني إلى أن السؤال المُلحِّ دائمًا: هل الأهم أن نتبع النظام بالتدرُّج به بحذافيره بدون الالتفات للمصلحة العامة؟ أو نتبع الأساس الذي وُضِع من أجله النظام، وهو حماية المصلحة العامة؟ فإذا كان علينا الاختيار ما بين المصلحة العامة واتباع النظام بحذافيره، فبالتأكيد أن هدف الإدارة هو حماية المصلحة العامة، وذلك يكون عن طريق اتباع نظرية “الظروف الاستثنائية” التي تُخالف بعضًا من القوانين الموضوعة ضمن الظروف العادية. وأشار إلى أن تأخير التنفيذ في ظل هذه الأزمة له مبرراته التي تتمثل في سرعة إطلاق المبادرات في المجالات المختلفة، وأن الأزمة حدث استثنائي بمدة قصيرة وأمر غير اعتيادي بالنسبة لأي دولة، وأن اهتمام القطاع الحكومي حاليًّا يتركز حول أساس الأزمة وهو القطاع الصحي؛ بتقديم الخدمات اللوجستية له.
وتضمَّنت المداخلات حول القضية المحاورَ التالية:
البيروقراطية: محاولة لتفسير دلالة المفهوم.
البيروقراطية وجوانب القصور في أداء الإدارة الحكومية (العامة) في الأزمات: جائحة كورونا كنموذج.
آليات تجاوز جمود البيروقراطية في الأزمات.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:
1- تسريع الجهود الرامية إلى تطوير الممارسات والسياسات الإدارية في الأجهزة الحكومية من خلال مكاتب تحقيق الرؤية؛ لمكافحة البيروقراطية الجامدة والسلبية من خلال إدارات التغيير، وبما يتفق مع أهداف الرؤية نحو “حكومة إلكترونية فعالة” (الجامعات، معهد الإدارة العامة، جميع الوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية، مكاتب تحقيق الرؤية، إدارات التغيير…).
2- العمل على تغيير وتطوير البنية الثقافية لدى العاملين في الأجهزة الحكومية لرفع قيم الإحساس بالمسؤولية وتعليتها، وترسيخ روح المبادرة والتطوير والتعاون ووحدة الهدف (جميع الوزارات والإدارات العامة).
الورقة الرئيسة: م. خالد العثمان
عند بداية الكتابة عن هذه القضية المعنونة بـ “البيروقراطية في زمن الأزمة”، قفز إلى ذهني من مخزون الذاكرة ذلك المشهد التمثيلي الذي شاهدته مُنذ زمن بعيد بعنوان “ديوان الزير”. المشهد كان يصف بسياق تمثيلي جميل كيف أن توجيه الوالي البسيط بوضع زير ماء في طريق المارة استحالَ مهمة معقدة تأسَّس لها ديوان بأكمله (أي وزارة بمصطلح العصر) بكل لجانه وإداراته وأقسامه ومسؤوليه وأنظمته وبروتوكولاته… إلخ. وفي الحقيقة كنتُ حين عُرض ذلك المشهد يافعًا صغيرَ السن لم أسمع بعدُ مصطلح “البيروقراطية”، وحين سمعته وفهمته ارتبطَ تلقائيًّا بذلك المشهد الذي أراه ونراه بتفاصيله وملامحه في مجمل تعاملاتنا اليومية ليس فقط في القطاع الحكومي، بل وحتى في كثير إنْ لم يكن معظم أو حتى كل القطاع الخاص.
ترجع النظرية البيروقراطية إلى الألماني “ماكس فايبر” الذي عرَّف البيروقراطية أو الدواوينية بأنها: “مجموعة من الأسس الإدارية التي تخرج السياسة العامة للمؤسسة إلى حيز الواقع، وتضعها موضع التنفيذ الصحيح لتحقيق الأهداف”. وهي بهذا النص من التعريف تحمل مدلولاً إيجابيًّا يروم تنظيم العمل وتراتبيته وحوكمته، لكن واقع الحال أشاع عن البيروقراطية فهمًا مختلفًا يحمل معاني النمطية والتعقيد والتحجُّر وغياب المرونة التي تتطلبها تغيرات الظروف الطارئة بمختلف أشكالها، حتى أصبح كثيرٌ من المفكرين والكُتَّاب يعدُّونها إحدى عقبات التنمية، ويستخدمونها وصفًا للمؤسسة التي تعتبر النظام هدفًا لا وسيلة، ومقياسًا للنجاح لا سبيلاً إلى نيله. والغريب أن هذا المشهد ساد مجمل منظومة العمل في العالم العربي بشكل عام، ولم تنجُ المملكة العربية السعودية من هذا الواقع خصوصًا؛ نتيجة تأسيس معظم الأنظمة والتشريعات وسياسات العمل على أيدي خبراء الإدارة والتنمية في عدد من الدول العربية الشقيقة في مراحل مبكرة من عمر التنمية في المملكة. وأصبحت ثقافة البيروقراطية والالتزام بالتطبيق الحرفي للإجراءات والأنظمة منجاةً من المساءلة والتدقيق بغض النظر عن الأثر الفعلي لذلك الالتزام، ودون وسائل لقياس الأداء والأثر في نواتج العمل.
يُمثِّل إطلاق رؤية السعودية 2030 نقطة تحوُّل مهمة في مسيرة التنمية السعودية بشكل عام، وفي موضوع هذه القضية بشكل خاص، إذ وجَّهت أنظارها وأدواتها لمراجعة وتطوير وتحسين هياكل العمل في القطاع الحكومي، وكان أول برامج الرؤية التي بدأت التطبيق في وقت مبكر هو برنامج “التحوُّل الوطني”، الذي يهدف إلى تطوير منظومة العمل في القطاع الحكومي ورفع كفاءته وفعاليته بكل ما يحمله هذا الهدف الإستراتيجي المهم من تفاصيل. ولكن على أرض الواقع وبعد مرور 4 سنوات منذ إطلاق الرؤية، فإن أحد ملامح هذه المرحلة وعقبات التنفيذ هو تلك الفجوة العميقة بين مستوى صياغة وقيادة الرؤية وأهدافها وإستراتيجياتها ومستويات التنفيذ الفعلي لبرامجها ومبادراتها ومشاريعها. هذا الواقع أدَّى إلى تعطيل وتأخير تحقيق مكتسبات وتطلعات الرؤية وتطوير مداها، علاوة على ما ترتَّب على ذلك من هدر في المال والجهد، وأحيانًا المصداقية. كما أن أثقال البيروقراطية طالت برامج الرؤية ومبادراتها ومشاريعها، وساد المشهد تعدُّد الأجهزة والفرق وتداخل اختصاصاتها وصلاحياتها، وكثرة الاعتماد على الفِرَق الاستشارية التي تعمد إلى تطبيق نماذج نمطية جامدة وفرضها على مختلف الأجهزة الحكومية برغم تفاوت مجالات عملها وظروفها ومتطلباتها، وغير ذلك.
ومنذ حلول أزمة فيروس كورونا رفعت القيادة راية التصدي لها، وشمَّرت عن سواعدها، وفتحت خزائنها لمحاربة الأزمة وتمكين القطاعات التي تحمل مسؤولية مواجهتها، إضافةً إلى إطلاق العديد من المبادرات والحِزم الموجَّهة تحديدًا لتخفيف أعباء الأزمة الاقتصادية على المواطنين بشكل عام، وعلى القطاع الخاص بشكل خاص بهدف حمايته من الانهيار وتمكينه من التماسك، بل والسعي للمساهمة في معالجة تحديات الأزمة واستثمار الفرص التي تحملها على المدى البعيد. لقد كانت جهود ومواقف الحكومة السعودية نموذجًا يُحتذَى بالمقارنة مع واقع دول العالم التي واجهت هذه الجائحة العالمية، ومحل تقدير وامتنان الجميع مواطنين ووافدين، وأفرادًا ومؤسسات، بما عبَّرت عنه من تضامن ووحدة بين القيادة والشعب، وإحساس بما تحمله الأزمة من مخاطر وتبعات على الناس والاقتصاد والمجتمع. إلا أن ذيول البيروقراطية وأثقالها لم تغب عن المشهد حتى في ظروف الأزمة الراهنة بكل أسف، ووقفت من جديد تلك الفجوة العميقة بين القرار والتنفيذ حائلاً دون تحقيق تلك المبادرات آثارها المأمولة. وإذا كان هذا الواقع محل استهجان في مجمل الأحوال، إلا أنه يكون كارثيًّا في حال الأزمة، إذ يُفرغ مبادرات القيادة من محتواها، ويمنع وقوع الضرر، ويزيد من فداحة التبعات السلبية على مجمل مكونات الدولة واقتصادها ومواطنيها.
منذ بدء إطلاق مبادرات الدولة اعتبارًا من منتصف شهر مارس 2020م، فإن معظم تلك المبادرات لم تجد بعدُ سبيلاً للتفعيل والتنفيذ والوصول إلى المستفيدين المستهدفين بالرغم من مرور أكثر من ستة أسابيع حتى كتابة هذه الورقة. أستعرضُ هنا بعضًا من تلك المبادرات وبعضَ الأمثلة للعقبات التي واجهتها، في محاولة لفهم طبيعة العوائق البيروقراطية التي واجهتها:
• شملت مبادرات مؤسسة النقد العربي السعودي تخصيص محفظة لإقراض مؤسسات القطاع الخاص وخاصة الصغيرة والمتوسطة عبر البنوك التجارية، إلا أنها ما زالت حتى الآن تواجه تعقيدات إجراءات البنوك الائتمانية والاستقصائية المثقلة بالمستندات والوثائق والضمانات حتى إنه لم يستفد من هذه المبادرة سوى 200 مؤسسة فقط حتى الأسبوع السابق لكتابة هذه الورقة، كما أفاد سعادة وكيل محافظ مؤسسة النقد.
• شملت مبادرات مؤسسة التأمينات الاجتماعية إعفاء مؤسسات القطاع الخاص من غرامات عدم سداد رسوم التأمينات الاجتماعية خلال فترة الأزمة، لكنها في الوقت ذاته لم تسمح بإصدار شهادات التأمينات الاجتماعية التي تحتاجها المؤسسات لتقديم طلبات صرف مستحقاتها التعاقدية.
• شملت مبادرات مؤسسة التأمينات الاجتماعية كذلك سداد نسبة من رواتب عدد من العاملين السعوديين في مؤسسات القطاع الخاص ضمن برنامج “ساند”، لكنها ربطت ذلك بالتزام المؤسسات ببرنامج حماية الأجور دون دعم تمويل المؤسسات لسداد مستحقات بقية الموظفين في تلك المؤسسات.
• خصَّص خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله ورعاه – مبلغ 50 مليار ريال للسداد العاجل لمستحقات القطاع الخاص المتأخرة عن سنوات سابقة، ومع ذلك لم تُتح لمؤسسات القطاع الخاص سوى مهلة قصيرة لا تتجاوز 10 أيام تحت حظر التجول لجمع مستندات تلك المستحقات من مقرات العمل وتقديمها إلى الغرف التجارية بآلية غير واضحة المعالم، ودون وسيلة للمتابعة أو الإبلاغ عن قبول تلك المطالبات وموعد صرفها.
هذه بعض الأمثلة، والواقع يحمل غيرَها الكثير، وتشهد موجات الأثير العديد والعديد من الاجتماعات واللقاءات الافتراضية بين الوزراء والمسؤولين في الأجهزة الحكومية والغرف التجارية واللجان والمؤسسات في محاولات لا يمكن وصفها سوى بالجادة والمخلصة لسد الثغرات وإزالة العقبات لتفعيل تلك الحِزم والمبادرات بشكل عاجل. إلا أن ثقافة البيروقراطية تطلُّ بوجهها القبيح في زوايا تلك اللقاءات والمناقشات، وكأنَّ أولئك المسؤولين يعملون في جُزر مستقلة، وكأنهم لا يفهمون طبيعة المشكلات التي يواجهها الآخرون. مَن يصدق أن الهيئة العامة للإحصاء أطلقت استبيانًا لقياس أثر تلك المبادرات، وطلبت الإجابة عليه خلال 14 يومًا؟! كم 14 يومًا بقيت في عمر مؤسسات القطاع الخاص الصغيرة والمتوسطة التي تواجه خطر الانهيار في مواجهة هذه الأزمة الطاحنة؟ هذا الشعور بالارتخاء هو أحد ملامح البيروقراطية التي أثقلت منظومة العمل في القطاع الحكومي، وليس القطاع الخاص من ذلك ببعيد. فالمشهد في شركات الاتصالات والخدمات والبنوك التجارية لا يخلو من تعقيد وبُطء وارتخاء. ولعلَّ المطلوبَ الآنَ حراكٌ سريع وفاعل وحاسم من القيادة للتصدي عاجلاً لهذه الظاهرة عبر اعتماد إجراءات ذات طبيعة خاصة خلال فترة الأزمة، كأنْ تُشكَّل خلية أزمة تنفيذية تشرف على تنفيذ حِزم المبادرات وتذليل العقبات التي تواجهها، وتقليل الإجراءات والمتطلبات التقليدية لتحقيق الأثر المأمول وإنقاذ هيكل الاقتصاد الوطني من خطر انهيار يحدق به.
التعقيبات:
التعقيب الأول: د. وفاء الرشيد
أتفقُ كثيرًا مع الشواهد الحالية التي سردها م. خالد العثمان في ورقته والمتعلقة بتباطؤ القطاعات في دعم القطاع الخاص؛ فالواقع الإداري الذي نعيشه اليوم يجب أن نُواجهه بشجاعة قبل بَذْل الجهود الجريئة لعلاج البيروقراطية في المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية، ونعترف بوجود انحياز إداري شديد للبيروقراطية داخل المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية اليوم. كما يجب الاعتراف بأن أي هيكلة إدارية نقوم بها لن تُحقِّق أيَّ تغيير في النظام الإداري ما لم تقضِ على الصرامة والصلابة والجمود الذي يتلبس بعض القائمين على الإدارات الحكومية بسبب ما هو مكتوب أمامهم. لذلك، يجب تصميمُ مسارات إدارية مرنة تسمح بتنفيذ الإجراءات بسرعة وتُطبِّق روح القانون التي تسمح بسير العمل بسلاسة من خلال توزيع السلطات على الإدارات الفرعية ومَنْح الصلاحيات للمديرين التنفيذيين لتهميش التسلسل الهرمي والتخلص من تعقيداته.
المعنى الحرفي لكلمة البيروقراطية يُوضِّح الصورةَ إلى حد كبير، فـ”البيرو” معناها المكتب (بالفرنسية)، و”قراطية” معناها السيادة (باليونانية)، أي سيادة المكتب، وعليها قِس مدى حزم هذه السيادة اليوم! فبعد أن كانت البيروقراطية في بداية الثورة الصناعية أحد الحلول التي اعتُمدت في إدارة الإنتاج، وربما كانت الحلَّ الوحيد لتسيير أمورهم الإدارية، تحوَّلت في زمن ثورة الاتصالات والمعلومات إلى عبء ثقيل يجب التخلص منه وسبب في تعطيل الإنتاج، بعد أن وفَّرت الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) والأنظمة الذكية كلَّ عناصر وآليات تطوير الإدارة وتفعيل الإنتاج.
إنَّ تعديل الهياكل الهرمية للتنظيمات الإدارية إلى هياكل مرنة تسمح بسير العمل بسلاسة سيحارب المحسوبيات والفساد المالي؛ فتقليص البيروقراطية وتهميشها يُعتبر مفهومًا رئيسًا في نظرية الإدارة الحديثة، فالبيروقراطيات عندما تكبر تفقد المؤسسات الإدارية والهيئات الحكومية فعاليتها في سرعة الأداء وكفاءتها في الإنتاج، وبالتالي يظهر عليها الاختلال الإداري، فهي اليوم غير قادرة على الاستمرار ومواكبة وتيرة التغيُّر السريعة والتطوُّر والتقدُّم في عصرنا الحاضر؛ لأن التغيرات المعاصرة تحدث على هيئة طفرات حضارية ومدنية سريعة جدًّا خلال فترات زمنية قصيرة.
إن التنظيمات الإدارية الهرمية تُعطي أهميةً كبيرةً للأقدمية الوظيفية، وبالتالي تقضي على الابتكار وتُؤصِّل الطرقَ التقليدية في العمل، التي تعتمد على صبِّ الأوامر والتعليمات من أعلى الهرم إلى قاعدته متجاهلةً الأفكار الخلَّاقة.
أريدُ أن أؤكد أن جُزئية المكننة والربط الآلي هو بداية الطريق للقضاء على البيروقراطية في الإدارات العامة وصولاً إلى إنشاء ما يُعرف بـ”الحكومات الإلكترونية” التي تؤمِّن الربط بين المؤسسات العامة وتُنظِّم الإدارة فيها، وترفع جودة إنتاجيتها بشكل عام، وتضمن إنهاء معاملات المراجعين بأقل جهد وأسرع وقت؛ الأمر الذي سيؤدي دون شك إلى القضاء على الترهُّل والفساد الإداري، ويُسهم في تخفيف الضغط على المرافق والطرقات، ويُخفِّف زحمة السير التي تنتج عن التردد المستمر على الدوائر والوزارات. كما أن مشاكل البيروقراطية لم تقتصر على القطاع العام، فقد تسبَّبت في مركزية القرارات الإدارية والمكتبية، وتعارُض القوانين الداخلية، وغياب التنسيق بين المؤسسات المالية والبنوك.
أخيرًا، السمة الجديدة السائدة اليوم التي أستشفُّها هي التخوُّف من التحرُّك، التخوُّف من أَخْذ القرار، التخوُّف من تسيير العمل، والضحية في كل هذه المنظومة هو المواطن.
التعقيب الثاني: د. خالد الفهيد
على الرغم من تعقيدات البيروقراطية وآثارها السلبية في انخفاض الإنتاجية وكفاءة الأداء، وقتل الطموح ووَأْد المبادرات التي تُسهم في رفع إنتاجية المنشآت الاقتصادية، وتقديم خدمات أفضل لأفراد المجتمع؛ إلا أنها في الشأن السياسي أو العسكري قد يكون وجودها خيارًا إستراتيجيًّا في بعض الحالات وتحت ظروف خاصة؛ وذلك لضمان تطبيق محدَّد يهمُّ سلامة الأوطان.
إن مفهوم البيروقراطية هو أن النظام الحكومي يتسم بالالتزام بالقواعد، ويكون ذلك عبر تسلسل هرمي للسلطة، وهذا النظام يتسم بالرسمية والروتين، إلا أن الأنظمة حول العالم أضافت طابعَ المرونة والتسهيل لجميع الإجراءات التي يمرُّ بها المجتمع في فترة الظروف الاستثنائية حال حدوث أزمات لها تأثير سلبي على البلاد، وهو ما تمرُّ به المملكة حاليًّا ضمن دول العالم في قاراته المختلفة مع أزمة كورونا، خاصة فيما يتعلق بالجانب الإداري سواء الحكومي أو القطاع الخاص فيما يتعلق بالقرارات أثناء حدوث ظرف استثنائي، فقد اتبع النظام في المملكة نظرية تُدعَى بنظرية الظروف الاستثنائية التي كفَلها النظام الأساسي للحكم بالمادة 62، التي نصَّت على أنه :”للملك إذا نشأ خطر يُهدِّد سلامة المملكة، أو وحدة أراضيها، أو أمن شعبها ومصالحه، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء مهامها؛ أن يتخذ من الإجراءات السريعة ما يكفل مواجهة هذا الخطر. وإذا رأى الملك أن يكون لهذه الإجراءات صفة الاستمرار، فيتخذ بشأنها ما يلزم نظامًا”. وهو ما يُطبَّق الآن على واقعة أزمة كورونا، حيث الإدارة تصدر قرارات على وجه السرعة وفي مدة وجيزة حتى ولو كانت بعض القرارات من غير اختصاصها؛ وذلك لحماية المصلحة العامة أثناء هذه الظروف الاستثنائية وتصبغها بصبغة المشروعية، ليتضح لدينا أن هذا فعلاً يدعم ويؤيد ما طرحه م. خالد العثمان في الورقة الرئيسة بأن هناك سرعة لإصدار القرارات التي تدعم كلَّ مَن تضرَّر/سيتضرر جراء الأحداث الأخيرة، وهذا ما اتخذته القيادة منذ بدء الأزمة حيث أصدرت عدة قرارات لتحمي المصلحة العامة بها؛ لأن السؤال الملح دائمًا: هل الأهم أن نتبع النظام بالتدرُّج به بحذافيره بدون الالتفات للمصلحة العامة؟ أو نتبع الأساس الذي وُضِع من أجله النظام، وهو حماية المصلحة العامة؟ فإذا كان علينا الاختيار ما بين المصلحة العامة واتباع النظام بحذافيره، فبالتأكيد أن هدف الإدارة هو حماية المصلحة العامة، وذلك يكون عن طريق اتباع نظرية “الظروف الاستثنائية” التي تخالف بعضًا من القوانين الموضوعة ضمن الظروف العادية لكي تناسب الظروف غير العادية، وتذوب معها البيروقراطية في مثل هذه الظروف، والتصوُّر أنه لا بيروقراطية في الأزمات؛ إلا أنه مع كل هذا الحرص من خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده – حفظهما الله – يبقى التباطؤ وتزايد الفترة الزمنية ما بين اتخاذ القرار والتنفيذ، وهو ما يعكس شكلاً من أشكال البيروقراطية رغم استمرار اللقاءات والاجتماعات بين المسؤولين في الجهات المختلفة (حكوميةً أو قطاعًا خاصًّا) لتنفيذ المبادرات أو الحِزم التي أطلقتها القيادة، وهي جهود مُقدَّرة. وليسمح لي م. خالد العثمان أن أختلفَ معه في أن التأخير في التنفيذ له ما يُبرِّره، ويُعزَى ذلك إلى:
1- سرعة إطلاق المبادرات في مجالاتها المختلفة من الملك “يحفظه الله” هو إعطاء طمأنة للمواطن والمقيم، وتخفيف الآثار السلبية على الاقتصاد السعودي، وبيان متانته لذوي الاهتمام في الداخل والخارج.
2- لكون حدوث أحداث استثنائية في مدة قصيرة أمرًا غير اعتيادي بالنسبة لأي دولة، فمن الطبيعي أن تواجهه صعوبات في التنفيذ والتطبيق، مثل حَصْر المتضررين ودرجة الضرر.
3- اهتمام القطاع الحكومي حاليًّا يتركز حول أساس الأزمة، وهو يكمن في القطاع الصحي؛ وذلك بتقديم الخدمات اللوجستية له.
4- إن المبادرات والحِزم التي تمَّ الإعلان عنها هي لمعالجة آثار الأزمة.
وأتفقُ مع م. خالد العثمان في تأييد فكرة تشكيل خلية أزمة تنفيذية تشرف على تنفيذ حِزم المبادرات وتذليل العقبات التي تواجهها لكي لا يكون ثمة تخاذل أو تقصير، وللتقليل من آثار الأزمة وخاصةً حماية مَن قد يفقد عمله نتيجة لذلك.
• نتيجة:
رُبَّ ضارةٍ نافعة؛ ففي ظل جائحة كورونا تحقَّقت بعض الآثار الإيجابية التي من الممكن أن تُسهِم في فك قيود البيروقراطية لا سيما فيما يتعلق بتولُّد القناعات لدى أصحاب القرار بأهمية استخدام بعض التقنيات والمرونة في اتخاذ القرارات. ومن المؤمل أن تُسهم مثل هذه الإجراءات في اضمحلال الآثار السلبية للبيروقراطية.
• توصيات مقترحة:
1- أهمية أن تتولى وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وانطلاقًا من مبدأ الشفافية، إيجاد دليل استرشادي لهندسة الإجراءات الإدارية أثناء الأزمات لكل جهة من الجهات الحكومية والقطاع الخاص، بالتنسيق مع تلك الجهات.
2- قد يكون من المُناسب أن تتولى وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية إقامة برامج أو ورش تدريبية عن بُعد لأصحاب القرار في الجهات الحكومية، تُسهم في تطوير الأنظمة وتحديثها، والعمل على إذابة آثار البيروقراطية.
3- أهمية رصد آلية مواجهة الأزمة التي قامت بها كافة الأجهزة الحكومية؛ للتعرُّف على الإيجابيات وتعزيزها، والسلبيات لتلافيها.
المداخلات حول القضية:
• البيروقراطية: محاولة لتفسير دلالة المفهوم:
أشار د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن البيروقراطية هي نهج محمود أحيانًا، ومذموم في أحايين أخرى؛ محمود إنْ أتى لخدمة الصالح العام، ومذموم إنْ تسبَّب في ضائقة للمجتمع، السؤال الأهم هنا، متى وكيف يتم توظيف البيروقراطية عند الحاجة لها، ومتى نتخلص منها إذا أتت دون حاجة؟ بمعنى لا بد أن نُؤمن أن البيروقراطية ليست في المجمل نافعة، كما أنها أيضًا ليست في المجمل ضارة، وهذا القياس يأتي تشريعًا حسب ما تفرضه طبيعة الأعمال التي يُطبَّق إداريًّا عليها ببيروقراطية صِرفة أو بنسبة أدنى أو مرنة. ولأننا نتحدث عن مهام وواجبات الإدارة الحكومية، فعلينا أن نُدرك أنه مهما اتفقنا أو اختلفنا تجاه النظرة الإدارية للقطاعات الحكومية كافة، فهي سائرة لا محالة بنهج البيروقراطية بأعلى درجاته الخانقة أو أدنى درجات التسهيلات أو المرونة منها.
وأوضح م. خالد العثمان أنه ليس ضد البيروقراطية كمبدأ؛ فالتنظيم الإداري مطلبٌ مهمٌّ لتحقيق كفاءة تشغيلية ومرجعية لقياس الانحراف عن تلك المرجعية. المشكلة أن البيروقراطية أصبحت عرجاء بتطبيق الجانب المتحجر منها في اتباع الخطوات الإجرائية بشكل جامد دون فَهم وتحليل وتمحيص ومرونة منطقية، في حين انعدم جانب قياس الأداء والأثر وحتمية التطوير والتجويد لتحقيق الهدف الأسمى في رفع جودة التنمية وكفاءة الأداء. لعلَّ المشكلة هي مدى ما يمكن وصفه بالإحباط من تعثُّر وبُطء وقصور تفعيل المبادرات الرائعة التي أعلنتها القيادة، وتبارت الجهات الحكومية في الترويج لها ونَشْر تفاصيلها بشتى التصاميم والنماذج الخلابة. ومراعاةً لمبدأ الموضوعية، فقد تمَّ تناول موضوع البيروقراطية في الورقة الرئيسة من منطلق رسوخه في الثقافة العامة للعمل في القطاع الحكومي بشكل عام، واعتباره مُدخلاً لفهم أسباب استمرار سيادة هذه الثقافة حتى في ظروف الأزمة. والحقيقة أنه لا شك أن الدولة حريصة على دعم القطاع الخاص وإطلاق مبادرات بهذا الهدف، لكن المشكلة تكمن في أن صياغة المبادرات تتم عادةً في ظل غياب مشاركة المستفيدين منها لتحديد المشاكل التي يعانون منها، وأفضل الآليات المطلوبة لتحقيق النتائج المرجوة منها، كما أن قدرة الجهات الحكومية على التنفيذ في الدول النامية بشكل عام لا تزال ضعيفة، وغالبًا ما نجد أن أثر مثل هذه المبادرات يكون محدودًا ويأتي متأخرًا. ومن ثَمَّ، فإن المطلوب هو إشراك القطاع الخاص في تحديد الأولويات والمبادرات، وفي تصميم الإجراءات وآليات التنفيذ، وتوفير خط ساخن لمعالجة المعوقات، ووضع معايير لقياس فعالية المبادرة. ولنتذكر أنه في الغالب ما يعتقد الناس أن الإنجاز هو في إطلاق المبادرة، وليس في تنفيذها على الوجه الأمثل.
وأكد م. فاضل القرني أن القيادة والإدارة في مبادئها لا تختلف حتى في عصر البيانات والمعلومات وتطوُّر تقنياتها، ولا يوجد لها إيقاع أو نوع واحد (مركزي أو لا مركزي، مسيطر أو ديمقراطي، يهتم بالمهمة أو بالموظفين) هو الذي يصلح دائمًا وأبدًا. فهي تجعلها في فعالية وإنجازات متسارعةً ومتتالية من خلال القدرة التقنية في الأنظمة الحاسوبية في ربط جوانبها. وهناك أسباب غير ملموسة ولها تأثير قوي، ومنها: خصائص الشخصية، والجوانب النفسية، مسؤول أو موظفون، غريزة السيطرة المفرطة، ونسبة الشفافية وتقبُّل النقد والتغذيات المرتجعة، والمحافظة على المنصب. وكل ذلك هي خصائص سلبية تؤدي إلى تباطؤ الإنجاز، وجمود الإدارة بصرف النظر عن متى وأين ولماذا. ويصبح السؤال المنصف: هل البيروقراطية شيء مقيت سلبي؟
وأوضح م. إبراهيم ناظر أن البيروقراطية هي مفهوم وتنظيم يشمل موظفين وموارد ومجموعة إجراءات يجب اتباعها لمباشرة العمل الحكومي، ولكن مع وأثناء الممارسة والتطبيق – وبالذات في بعض الدول النامية – تضخمت وأصبحت مجموعة مساوئ من الروتين والفساد المالي والإداري والمركزية الشديدة والبطالة المقنعة والتسيب، وعجزت عن تقديم الخدمات بفعالية وكفاءة. والفرق بين البيروقراطية الحكومية في الدول المتقدمة والنامية أنها في الدول المتقدمة أفضل ولا تخلو من قصور. ويجب التفريق بين البيروقراطيات حسب نوع الخدمة أو النشاط المطلوب منها، فالبيروقراطية في الأصل أمرٌ جيدٌ، ولكن بعد تشوُّها ولا سيما في الدولة النامية أصبحت نعتًا مقيتًا. أيضًا، فإنه لكل بيروقراطية (التنظيم الإداري الحكومي الضخم بكل ما يحويه من موظفين ووظائف وأنظمة ولوائح وتقنيات واتصالات وبنية تحتية متقدمة) تظل الثقافة المؤسسية أو الثقافة التنظيمية، وهي مجموعة القيم والمعتقدات والأعراف السائدة في المجتمع، ونمط السلوك الإنساني وطريقة التفكير، والقدرة على التعلُّم ونقل المعرفة والخبرات من الأجيال السابقة إلى الأجيال التالية، والتي تعمل بمثابة الـ software للبيروقراطيات؛ فإذا كان البرنامج جيدًا كانت النتائج جيدة، وإذا كان البرنامج سيئًا كانت المخرجات سيئة، وهذا طبعًا تشبيه مجازي للتأكيد على أن ما يحمله الإنسان (الموظف) من فكر وثقافة وقيم ينعكس على سلوكه بطريقة تنعكس بدورها على نجاح أو فشل الإدارة العامة أو الإدارة الخاصة في القيام بتأدية وظيفتها.
• البيروقراطية وجوانب القصور في أداء الإدارة الحكومية (العامة) في الأزمات: جائحة كورونا كنموذج:
أشارت أ. فائزة العجروش إلى أنه كما نجح وطننا الغالي في إدارة أزمة جائحة كورونا، فإن البيروقراطية أكدت لنا كذلك أن لدينا أزمة في الإدارة. ومن المؤكد أن أحد أهم الدروس المستفادة من جائحة كورونا، هو: ضرورة توفير خُطط بديلة، وتوفير مرونة في الإجراءات والأنظمة في حالة الأوضاع غير الطبيعة والأزمات؛ فأحيانًا تكون تكلفة القرار الخاطئ والتراجع عنه أقل بكثير من عدم اتخاذ أي قرار حتى يتم التأكد من صحته. وقد ذكرت مجلة “Foreign Affairs” أن سبب تفشي فيروس كورونا بشكل سريع في المدن الإيرانية كان بسبب البيروقراطية غير القادرة على الاستجابة بطريقة منسقة ومتماسكة لحالات الطوارئ الصحية العامة. وعندما نجد أن ما تمَّ اتخاذه على أرض الواقع في الوطن ضمن الإجراءات الأخيرة الهادفة من قِبل الدولة نحو تيسير إجراءات عودة القطاع الخاص وتهيئة المناخ له ودعمه، والتي لا شك كانت خطوات سديدة تدعم التوجهات الراهنة والخطوات الهادفة نحو وضع اقتصادي أفضل، لكن متى ما تواجد أي ضلع من أضلاع مثلث الشر الثلاثة (وهي: الفساد، والبيروقراطية، وانعدام الكفاءة) في أي مؤسسة أو شركة أو منظمة أو دولة أو أي كيان، يكون كافيًا لتدميرها أو إفلاسها أو على أقل تقدير عرقلة تنفيذ القرارات الصادرة، ومن ثَمَّ عرقلة إنتاجيتها. وكذلك ما أثبتته المشاهدات والدراسات الأولية بعد تجربة العمل عن بُعد من المنزل، أن هنالك كثيرًا من البيروقراطية الزائدة في العمل الروتيني السابق: كالاجتماعات المطولة، وكثرة التعليمات والإجراءات التي لا داعيَ لها؛ مما يتطلب التغيير الحتمي. ومن التغييرات التي ستُحدثها جائحة كورونا في العمل المؤسسي على كل المستويات ما يأتي:
1- القياس الفعلي لفاعلية المؤسسات العامة والخاصة في العمل بالحد الأدنى في أوقات الكوارث والأزمات.
2- كسر البيروقراطية وأهمية تسهيل الخدمات المقدَّمة.
3- تغيير أنماط العمل والاستهلاك والحركة، واستعمال المواصلات الذاتية الحركة، بل وقد يشمل تخطيط الأحياء والمنازل.
ومن المهم التأكيد على أن من أهم أساسيات إدارة الأزمات في الشركات والمؤسسات: التخلي عن البيروقراطية، وفتح مساحات للمبتكرين والمبدعين بعيدًا عن حلقات الشللية التي تمنعهم من الظهور أو تُقلِّل من شأنهم، وتوسيع الصلاحيات في كل المستويات.
أيضًا، وفيما يتعلق بالبيروقراطية وأزمة كورونا، تساءل د. خالد الرديعان: هل بيروقراطيتنا سُلحفاة؟ وأجاب بأنه من التجني الإجابة “بنعم كاملة”؛ فالجهاز الحكومي رغم بُطء حركته عادةً، فإنه لم يكن بطيئًا هذه المرة. لقد تحرَّك بسرعة قصوى لمواجهة الأزمة والتعامل معها بأسلوب لم نألفه من قبلُ. القضية هي حياة أو موت كما يُقال، ولا تحتمل التباطؤ والروتين، بسبب سرعة انتشار الوباء وكارثيته. تم بهذا الخصوص اعتماد مبالغ كبيرة وكافية لوزارة الصحة، وإطلاق يدها في اتخاذ ما تراه من قرارات لحماية المجتمع من تفشي الوباء الذي كان يفتك بمجتمعات مجاورة، والدليل أننا بدأنا بإجراءات المواجهة في وقت مبكر قبل تسجيل حالات إصابة، في الوقت الذي بلغت فيه الإصابات عدة آلاف في دول مجاورة كإيران مثلاً. تحرُّكنا كان سريعًا، لكن لا بد من الإشارة إلى أن العامل الشخصي أو مبادرة بعض المسؤولين والتفافهم على روتين الجهاز الحكومي واتخاذهم مواقف وقرارات سريعة كان واحدًا من أهم الإنجازات التي رأيناها لمعالجة الوضع، والمسألة عمومًا تتفاوت من مسؤول إلى آخر؛ ما يعني أن القفز على البيروقراطية بمعناها السلبي يتطلب سمات وقدرات قد لا تتوفر لجميع متخذي القرار، وهنا تكمن المشكلة. بمعنى آخر، فإن الإفلات من البيروقراطية السلبية في الجهاز الحكومي ليس “ممأسس ومُتجذِّر”، ولكنه يعتمد على الأشخاص؛ إذ من المعمول به أن المسؤول عندنا وفي الغالب يتصرف “حسب النظام” حمايةً لنفسه بالدرجة الأولى، وحتى لا يُتهم بالوقوع في دائرة الفساد؛ فالقرار الذي لا يسنده نص قانوني وإداري واضح قد يكون وبالًا على متخذه؛ خاصة عندما يكون لمتخذ القرار خصوم يبحثون عن هفوات لإسقاطه. وزير الصحة – على سبيل المثال – كان أكثر تحرُّكًا مقارنةً بغيره؛ لعلمه ببيروقراطية الجهاز الحكومي وبُطء اتخاذ القرار وفترة تنفيذه. من حُسن الحظ أن الوزير ليس له منتقدون كُثُر يُشهِّرون به في وسائل التواصل الاجتماعي، بل إنه كثيرًا ما أسبغت عليه ألقاب وصفات جميلة؛ الأمر الذي ساعد كثيرًا في تقبُّل قراراته، وسرعة تنفيذها.
وتناول م. إبراهيم ناظر بعض العقبات أو التحديات التي تؤدي بالإدارة الحكومية أو الإدارة العامة (المؤسسات والهيئات الحكومية) إلى القصور في أداء ما هو مطلوب ومتوقع منها في تحقيق الأهداف وتقديم الخدمات المتوقعة ولا سيما في الظروف الاستثنائية مثل جائحة كورونا، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر:
• التمسُّك بحرفية النظام واللوائح: ففي واقع الإدارة الحكومية (البيروقراطية) أنها تلجأ إلى التطبيق الحرفي للنظام واللوائح والقرارات والأوامر وغير ذلك مما يصدر من القيادة؛ مما يؤدي إلى تعقيد الخدمة، وعرقلة تنفيذ المبادرات والخدمات الحكومية، والتمسك بحرفية النظام وتفسيره تفسيرًا يتفق وبواعث الموظف البيروقراطي من حيث أداء الخدمة أو حتى الامتناع عنها.
• المركزية الشديدة: وهي إحدى الخصائص في البيروقراطيات في الدول النامية، وحتى لو ادِّعت أنها تأخذ بأسلوب اللامركزية وكتبت في أنظمتها، لكن الممارسة العملية تكشف عن تركيز السلطة الإدارية؛ وهذا يؤدي إلى ضعف الأداء، وإضعاف الكفاءات الإدارية.
• من أسباب قصور البيروقراطية الحكومية عدم اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب، وعدم وجود نظام تقييم للاختيار للمناصب القيادية، فهي تتم بطريقة عشوائية.
وتساءل م. خالد العثمان: ما مدى تجذُّر ثقافة البيروقراطية لدى العاملين في الجهاز الحكومي؟ وما إذا كانت ثقافة أو طباعًا مكتسبة أو مواصفات خاصة يتسم بها الشخص حتى ينخرط في العمل الحكومي بالذات ويتدرج فيه؟ وهل تتغير قناعات الشخص عند انتقاله من فترة طويلة في وظائف العمل الحكومي إلى العمل الحر والخاص؟ هل ينكفئ على ممارساته السابقة حين كان يعمل في وظيفته الحكومية وينتقدها ويشكو منها، أم أنه يتفهمها ويتعايش معها بل ويبررها للآخرين؟
ومن جانبه يرى د. خالد الفهيد أن البيروقراطية داءٌ قاتل يُثبِّط العزيمةَ ويقضي على المبادرات، ولها وجه قبيح، وللأسف أن صورها عديدة؛ ومنها أن الإدارات العليا في بعض الجهات إذا تغيَّرت تمَّ هدم ما تمَّ بناؤه رغم وجود الكوادر التي بدأته وتشكيل اللجان ونظام المنافسات. والبيروقراطية تجذرت – وللأسف – في القطاع الحكومي وكذلك في القطاع الخاص لارتباطه الوثيق بإجراءات الأجهزة الحكومية، مع قناعة المسؤولين في الأجهزة الحكومية بتعقيد البيروقراطية، وأنها عائق لأي مُنجز.
وأكد م. إبراهيم ناظر أن السبب الرئيس في فشل محاولات التطوير والعصرنة للبيروقراطيات الحكومية هي الثقافة التنظيمية organizational culture بشكل عميق ومتجذر في البيروقراطيات الحكومية، وتعريفها بشكل بسيط: هي مجموعة القيم والأفكار والعادات والتقاليد والمعتقدات التي تُحدِّد السمات الخاصة بالتنظيمات وسلوكيات أفرادها سواء الرسمية أو حتى غير الرسمية (الشللية)، وهذه ترتبط نوعًا بما بثقافة المجتمع العامة كذلك. والمشكلة هي صعوبة اجتثاث جذورها الضاربة في أعماق البيروقراطيات الحكومية، كما أنها تقاوم خلق نظام إداري يتلاءم مع التحديث والرؤية والتحوُّل الذي يحاول بناء الإدارة والحكومة قليلة العدد وذات الفعالية سواء عن قصد أو بدون قصد، وهذا أصعب ما تواجهه الدول النامية، ولا تزال حتى يومنا هذا. أما الأتمتة والحكومة الإلكترونية وغيرها فهي وسائل وأدوات لتك البيروقراطيات لا تُغيِّر في بنية وثقافة البيروقراطيات. وهناك وزراء أصحاب فكر وإبداع ولكنهم فشلوا في إحداث أي تغيير يُذكر؛ لأن الثقافة التنظيمية لتلك البيروقراطيات الضخمة والقديمة استوعبتهم. وكما نعلم أن ثقافة المجموع هي ما يؤثر في الفرد، وليس العكس. وفي المجمل، يمكن القول إن الثقافة البيروقراطية مُتجذِّرة لدى الموظفين، وهي مُكتسَبة من ثقافة التنظيم وسماته، وتتحول إلى سلوكيات في تصرفات وأداء الموظف، والتغيير أمرٌ يحتاج إلى قادة يملكون القدرةَ على اتخاذ قرار التغيير وتحمُّل تبعات ذلك.
وذهب د. صدقة فاضل إلى أن اجتياح كورونا للعالم تسبَّب في الدخول إلى الموجة الثالثة من العمل “على الشبكة” (online)؛ فقد أدَّى الحجر المنزلي إلى لجوء كثير من الناس للإنترنت للعمل، أو لقضاء حاجاتهم. والاعتقاد أن هذا من شأنه التخفيف من البيروقراطية الإدارية، أو كسر حدتها على المستوى العالمي.
في المقابل، يرى م. خالد العثمان أن الواقع يشير إلى خلاف ذلك؛ فمنذ أن بدأ تطبيق العمل عن بُعد نتيجة إجراءات إدارة أزمة الجائحة بدأ توسيع تطبيقات الخدمات الإلكترونية ورقمنة العمليات؛ إلا أن الواقع لم يشهد فعالية حقيقية نتيجة لذلك في ظل تطبيق ذات الإجراءات الإدارية البيروقراطية للعمليات الحكومية خاصةً في ظل شيوع فَهْم خاطئ أو ربما متعمد أحيانًا من كثير من الموظفين في مستويات مختلفة من هيكل العمل الحكومي يفترض أنهم في حالة “إجازة”، وهو المصطلح الذي بات يسمعه مراجعو تلك الجهات كثيرًا. الدورة المستندية لكثير من العمليات لم تتغير، وهي تصطدم بالحاجة إلى توقيع مسؤول على محضر ما، واعتماد مسؤول آخر لإجراء ما، وانتظار انعقاد لجنة معينة لإقرار أمر ما! رقمنة العمليات وتحويلها إلكترونيًّا لن تجديَ إنْ لم يصاحبها تغيير حقيقي ومراجعة فاعلة في المنظومة الإدارية برمتها، وتفكيك الدورات المستندية المعقدة التي عفاها الزمن.
ومن وجهة نظر د. حمد البريثن، فإن البيروقراطية داءٌ عالمي وجميع المسؤولين في العالم يعونه، وجلُّ الدراسات الإدارية تحوم حوله. المشكلة أن القوى التنفيذية المباشرة للأنظمة لا يوجد لديها وعي بالأمر أو لا تُعطَى صلاحيات يستطيعون من خلالها الخروجَ من النص إلى روح النظام. أيضًا، فإن ثمةَ مشكلة أساسية في عملية التقييم ذاتها؛ فالتقييم في كثير من الأحيان يتبع طريقة محدودة ولا يشمل الأعمال الخلَّاقة، والتقييم نفسه عملٌ بيروقراطي يعتمد غالبًا على توقيع الحضور والانصراف وعدد المعاملات المنجزة، ومع أهمية ذلك إلا إنه ينحرف بعملية التقييم عن مسارها الطبيعي إلى اتجاه روتيني يقتل الإبداع والكفاءة.
لكن في رأي م. إبراهيم ناظر، فإن الوضع قد تغيَّر الآن، حيث أصبح هناك مؤشرات أداء وظيفي kPIs لكل موظف ولكل وحدة إدارية، وهذه إلزامية تُرفَع كل فترة.
وأشار أ. محمد الدندني إلى أنَّ مَن عَمِل النظام هو الإنسان، والاعتقاد أن بعض الموظفين على تنوُّع مراكزهم اتخذوا من مصطلح البيروقراطية غطاءً لتقصيرهم، أو للأسف أحيانًا لفسادهم. والأساس هو وعي الموظف وإيمانه بأنه يعمل لتحقيق أمر شامل وهو التنمية، والعمل على أن يكون جزءًا من العملية. نلاحظ أحيانًا أنَّ هناك شبه عداوة بين موظف القطاع العام ومندوب القطاع الخاص، وكأنَّ القطاع الخاص مجموعة منتفعين ويجب الحذر منهم. طبعًا هذا غطاء لأمر لم يُطرق بجرأة، وهو تفاوت الدخل بين موظف القطاع العام والقطاع الخاص.
وأضاف م. خالد العثمان أن الموظف الحكومي أو شبه الحكومي لا يشعر بأثر ضغوط التعقيدات البيروقراطية على المتعاملين معه، والبعض يرى أنه يعمل باسترخاء وهو يحصل على راتبه الشهري دون محاسبة على قياس الأداء ومدى تأثيره في تعطيل مصالح الناس وشؤونهم. فكرة الأمن الوظيفي أسهمت في حالة الاسترخاء، والأمان من العقوبة. أيضًا، من الأمور التي يجب التنبه إليها بلا مواربة أنه منذ تأسيس هيئة مكافحة الفساد وبالتزامن مع تفعيل آليات الرقابة فيها والتي كان آخرها ضمها إلى هيئة الرقابة والتحقيق، أصبح مفهوم “الحرص الأعمى على عدم الوقوع في الخطأ الإداري” هاجسًا لدى معظم منسوبي القطاع الحكومي، وهو ما أسهم في تكريس ممارسات البيروقراطية المتحجرة إلى مستويات غير مسبوقة، وغابت عن المشهد تمامًا أية مبادرات أو ممارسات كنَّا نراها سابقًا لمحاولة الالتفاف “الإيجابي” على النظام بهدف تجاوز العقبات وتسريع تحقيق المكاسب العامة، حيث اختلطت المكاسب العامة المشروعة بالمكاسب الشخصية المشبوهة، وأصبح تطبيق النظام هدفًا لا وسيلة لاتقاء شر احتمالات المحاسبة من الجهات الرقابية.
في حين ذهب م. إبراهيم ناظر إلى أن نزاهة لم تكن في يوم من الأيام مراقبة على الأداء الوظيفي للموظف، وإنما الفساد المالي والإداري، وهذه تخرج عن أداء الموظف الذي يرتبط بإدارته ورؤسائه في مراقبة أدائه الوظيفي. وكانت هيئة الرقابة والتحقيق قبل ذلك ينحسر دورها في التحقيق مع الموظف في حالة ارتكابه مخالفة جسيمة تخرج عن صلاحية رئيسه، والتصوُّر أن هيئة مكافحة الفساد ليست سيفًا مسلطًا على الموظف؛ بل هي سيفٌ على اللصوص والمفسدين في القطاعين العام والخاص وكل ما يضرُّ بالدولة، بصفة عامة هي مباحث إدارية فيما يخصُّ الجرائم الإدارية والمالية على مستوى الدولة، وليست فقط على الإدارات الحكومية.
ومن جديد أوضح م. خالد العثمان أنه بالنسبة لنزاهة، فالحديث ليس عن دور نزاهة ولا اختصاصها، بل على سبيل التحليل ومحاولة فهم دوافع مثل هذا التحجُّر البيروقراطي، وهذا الرأي شائع حتى في أوساط العمل الحكومي ومن بعض المسؤولين الذين يتذمرون أحيانًا من حالة التحجر التي يرونها سائدةً في أجهزتهم الحكومية. وربما كان هذا الأمر بحاجة إلى دراسة لا تخلو من تحليل اجتماعي أو سلوكي لفهم جوانب الظاهرة.
وفي سياق متصل، أضافت أ. فائزة العجروش أنه بالنسبة للبيروقراطية في القطاع الخاص، حيث تعَدُّ أحد عناصر الميزة التنافسية للقطاع الخاص هي سرعة استجابة الشركات للمتغيرات المحيطة بها؛ سواء كانت هذه المتغيرات داخلية أو خارجية في نفس الجهة أو المؤسسة، أو على مستوى السياسات الحكومية، أو التغييرات الاقتصادية العالمية. وظهرت أهمية هذه الميزة بوضوح في وقتنا الحالي من خلال جائحة كورونا، فرأينا شركات كبيرة ومتوسطة تُسجِّل استجابة سريعة من خلال فتح قنوات بيع جديدة، وتغيير إجراءات داخلية تختصر الوقت والجهد وتوقيع عقود للتوصيل، وتوفير بيئة عمل بديلة لموقع العمل السابق بدون التأثير على الإنتاجية. ولكن بالمقابل، رأينا أيضًا شركات كبيرة وصغيرة تتعثر في الاستجابة لهذه المتغيرات بسبب الأنظمة والإجراءات الداخلية، والتي لم يتم تغييرها أو القفز عليها؛ إما لقلة خبرة العاملين أو بسبب البيروقراطية.
وفيما يتعلق بالمرأة القيادية والبيروقراطية، فثمة بعض الحالات التي نراها، من أهمها: السيدة التي تتقلد منصبًا قياديًّا، ولكنها تتردد في اتخاذ القرار، وتتأخر في إنجاز المعاملات لأيام على الرغم من أنها لا تحتاج إلا دقائق. وهذا الأمر يعود لمعاناتها من تبعات الماضي والنظرة الدونية للمرأة، حيث يُنظر إليها على أنها أقل كفاءة، وتفتقر إلى القدرة على القيادة مقارنةً بالرجل. كما يكثر أن تواجه تحديات وتشكيكًا في أفكارها وقدراتها؛ لذا نجدها تضع كثيرًا من التعقيدات، وتحسب كلَّ شاردة وواردة قبل اتخاذ أيِّ قرار؛ وهو ما يُعطِّل كثيرًا من الأمور الإدارية. وهذا الأمر لن يُحلَّ إلا بتدريب المرأة على اتخاذ القرار في الوقت المناسب وبشجاعة، وكذلك إعطاؤها المزيدَ من الثقة بقدراتها وإمكانياتها الوظيفية. أيضًا كنموذج لحالة أخرى، هناك السيدة التي تتقلد منصبًا قياديًّا، ولكنها تُفضِّل تعيين موظفين رجال في إدارتها عن الموظفات النساء؛ لعدم ثقتها بالقدرات الوظيفية للنساء من جهة، ومن جهة أخرى تُفضِّل الاستعانة بالموظفين الرجال؛ وهذا التصرف لم يأتِ من فراغ، وإنما لوجود قوى دينية واجتماعية تعمل باتجاه عدم نيل المرأة حقوقها التي تتأرجح بين الممنوح والممنوع، حيث لا يزال عددٌ كبيرٌ من أبناء المجتمع لا يتقبلون صعودَ المرأة ومشاركتها في أيٍّ من المناصب القيادية. هذا بالإضافة إلى أنَّ ثمة شعورًا ينتاب المرأة بأنها مُقيَّدة ولا تستطيع أَخْذ القرارات دون الرجوع لرئيسها في العمل، وغالبًا ما يكون رجلًا. وهذه المشكلة لن تُحلَّ وتنتهيَ إلا بتمكين المرأة من القادة الرجال وإعطائها القيادة مع كامل الصلاحيات وليس قيادة صورية وإعلامية فقط، كما يحدث حاليًّا في كثير من الجهات للأسف؛ لرفع نسبة تمكين المرأة في المناصب القيادية في إحصائيات سوق العمل. وطبعًا هذا لا يتنافى أبدًا مع وجود سيدات يتقلدن مناصب قيادية وعلى قدر كبير من الخبرة والمهارة الإدارية، ويسعين جاداتٍ لترسيخ ثقافة التغيير في المجتمع، حتى يُقتنع بوصولها إلى المناصب القيادية وتحمُّلها مهام القيادة بكل جدارة ومهارة، كنماذج حية لنساء تخطين حاجزَ المجتمع الذكوري في المناصب القيادية بكل جدارة ومهنية عالية.
ومن جانبها ترى أ. مها عقيل أن البيروقراطية قد لا تكون هي المشكلة في حد ذاتها، وإنما طريقة تطبيقها والعمل بها. فثمة أنظمة وقوانين وإجراءات متهالكة، وما زالت تُطبَّق. مجرد التفكير أو اقتراح تغيير شيء في النظام والآلية يُواجَه بالامتعاض والرفض ومزيد من التعقيد. وهناك مَن يستفيد من هذه الطبقات من البيروقراطية (عدد الموظفين ومهامهم، وبعض الفاسدين منهم). أما فيما يتعلق بمكافأة الموظف على أداء عمله، فالسؤال المهم: ما هي معايير التقييم؟ هل هي الالتزام بالنظام والإجراءات بحذافيرها، أو تحقيق المصلحة العامة وتقديم الخدمة والإنجاز؟ هناك موظف قد يعتبر كفاءة بالنسبة لمديره، لكن “مُعقَّد” بالنسبة للمراجع؟ وهناك أيضًا موضوع تحمُّل المسؤولية، فسواء الموظف أو المدير لا يريد تحمُّل مسؤولية تجاوز أو مخالفة النظام والإجراءات حتى لو كانت خطأً أو غير منطقية أو ليست ضرورية؛ كي لا يُعاقب أو يُحاسب. وهنا يدخل موضوع الفساد والواسطة والمحسوبية. لا بد من مراجعة الأنظمة والقوانين والإجراءات للتخلص من طبقات البيروقراطية، وليس المقصود بالطبع التساهل في تطبيق ما هو ضروري ومهم من إجراءات ونظام يحمي الموظف والمراجع. وهناك مِن المسؤولين مَن يُكرِّسون البيروقراطية عبرَ وضع لجان ولجان فرعية وغيرها بدون أي داعٍ أو هدف. أما المركزية فهذه مشكلة كبيرة عندما لا توجد ثقة في الموظفين، أو نتيجة الاعتقاد بعدم وجود كفاءات، أو عدم توافر الرغبة في إعطاء الصلاحيات.
واتفق م. إبراهيم ناظر مع هذا الطرح السابق باعتبار أن المشكلة ليست في البيروقراطية ذاتها، فهي مجرد مفهوم وتنظيم؛ ولكن لمشكلة في الممارسة ومساوئ تشوب التطبيق.
وتطرَّق د. علي الطخيس إلى أن المركزية أحيانًا ما تكون مطلوبةً خاصةً في القطاع العام؛ لأنَّ موظفي فروع الجهات الحكومية في المناطق والمحافظات معظمهم يحتاج إلى شهادات علمية في التخصص وإلى دورات تدريبية من أجل اكتساب الخبرة، وأي خطأ قد يترتب عليه مخالفة نظامية أو يتعارض مع أوامر سامية. المركزية قد تُؤخِّر إنهاءَ أي موضوع لبعض الوقت على عكس القطاع الخاص الذي يعمل بكفاءة عالية بعيدًا عن المركزية. ويعَدُّ ضعف التأهيل والتدريب وعدم وجود برامج ثابتة لها من أكبر العوائق.
أما د. مساعد المحيا فيرى أن قدر الأجهزة الحكومية أنها تعيش البيروقراطية في الأداء والإنجاز؛ لذا تظلُّ البيروقراطية نعمةً أفاءَ الله بها على كثير من الناس، فبها يُدركون مكانة كبيرة ويبقون في مراكزهم، ويتحقق لهم الكثير من الإشباع الذاتي. والمشكلة أنه حين نرغب في معالجة البيروقراطية كثيرًا ما يتم اتخاذ قرارات ذات بُعد بيروقراطي من زاوية أخرى. ولعل أفضل حلٍّ للبيروقراطية هو العمل الإلكتروني؛ فعن طريقه يتم تسريع الأداء وضمان الجودة وتحقيق العدالة لكل مستفيد. وكلما توسَّعنا في ذلك، قلَّت حظوظ البعض ممَّن يستميتون في حُبِّ تعميق العمل البيروقراطي. ولذا، فكثير من المستفيدين من البيروقراطية يعملون على إعاقة المُضي في برامج الخدمات الإلكترونية، ويضعون أمامها الكثيرَ من العراقيل ليُبِقوا حظوظًا لأنفسهم.
وعقَّب د. حمد البريثن بأن لجان هيئة التفتيش تتساءل: لماذا فعلت كذا وكذا بدون مُسوِّغ إداري؟ وإذا تمَّ الرد عليهم بأن مصلحة العمل تتطلب هذا العمل (وهذا صحيح)، يردون عليك بأنهم لا يهتمون بمصلحة العمل، ولكن أين المُسوِّغ الإداري؛ لهذا ينحو الكثيرون إلى عدم المسؤولية واتباع الأنظمة بدون تفكير في المعنى. والكثير من الأعمال الجيدة والبنى التحتية والكوادر قُتلت في المهد بسبب عدم وجود المُسوِّغ.
وترى د. وفاء الرشيد أنَّ من أهم المُعضلات التي نواجهها اليومَ أن مَن يُعِدُّ القيودَ والأنظمةَ لم يمارس العملَ التجاريَّ، وليس لديه معرفة بالاقتصاد. وأكد د. حمد البريثن أنه لا بد أن يكون لديه كذلك إلمام بالإدارة وفنونها. وأضاف م. خالد العثمان أن كثيرًا من التشريعات والأنظمة الحكومية يُعِدُّها مستشارون قانونيون من موظفي الإدارات القانونية في الأجهزة الحكومية دون فَهْم الخلفيات الفنية والتشغيلية لمجالات التشريع، ودون إشراك مختصين في تلك المجالات. وللتدليل على ذلك، يمكن التساؤل: ماذا فعلت الوزارات كتطبيقات عملية لعبارة: “تنويع مصادر الدخل” غير الرسوم والضرائب؟ لأن موضوع تنويع مصادر الدخل يحتاج لذهنية اعتادت التفكير بحلول غير تقليدية، والابتكار، مُتخفِّفةً من ذهنية التقيُّد واتباع الأنظمة والسياسات والإجراءات كما هي وإنْ لم تُحقِّق الغاية، لصالح ذهنية تنظر للغاية أولاً، ثم تُكيِّف أنظمتَها الداخلية وإجراءاتها لمواكبة الغايات وتسهيل الوصول إليها. فالرسوم البلدية الجديدة لا يمكن أن نجد مبررًا لمُعِدِّ نظامها إلا أنه لم يمارس العمل التجاري، وليس لديه معرفة بالاقتصاد؛ لأن مُعِدَّها سيقتل قطاع التجزئة لصالح كبار المستثمرين، وسيجعل السوق السعودي مُحتكَرًا من قِبل مجموعة قليلة من التجار، كذلك سيزيد من البطالة، ويخرج أصحاب المشاريع الصغيرة من السوق ويُحيلهم إلى عاطلين، وهذا ما يحدث أمامنا اليوم. وفي هذا الصدد ثمة تساؤلات مطروحة، منها على سبيل المثال لا الحصر: كيف تُفرض الرسوم على حسب مساحة المحل مع تجاهل لنوع النشاط؟ وكيف تتساوي الرسوم البلدية لمحل مجوهرات أو ماركات فاخرة في شارع تجاري مهم في الرياض أو جدة مع بقالة أو سوبر ماركت صغير في محافظة صغيرة؟ أيضًا، فالأمثلة المشابهة كثيرة في قطاعات التدريب، والتعليم، والتصنيع، وغيرها.
وفي اعتقاد د. عبد الله بن صالح الحمود، فإنه يبدو أن ربط البيروقراطية بالأزمات – كما أشار م. خالد العثمان في الورقة الرئيسة – ناتج عن ملاحظة تدني سرعة تجاوب بعض من الأجهزة الحكومية لتنفيذ القرارات والتوجيهات العليا التي أتت لمعالجة ما أحدثته كارثة وباء كورونا على الاقتصاد السعودي؛ الأمر الذي تسبَّب في تباطؤ حركة الأعمال التجارية وأضعفَ الإنتاجية، والسؤال الأهم الآخر: ما الأسباب التي أدَّت إلى نهج البيروقراطية في زمن الأزمة؟ بمعنى أن هناك قطاعات لوحظ تباطؤها في تنفيذ الأوامر والتوجيهات، ولكن هل من أسباب أو مشكلات تواجه أصحاب القرار في سرعة تنفيذ ما طُلِب منهم، أم أن هناك تهاونًا لدى بعض القطاعات بسبب تدني مستوى الأداء الإداري لديهم كأمر طبيعي اعتادوا عليه؟ وهنا يمكن القول إنه مهما تكن الأسباب، يظل تقاعس الأداء أو التسبُّب في عدم تنفيذ أي توجيه أمرًا مخالفًا للنظام عامة، يقابله وجوب فرض عقاب تجاه المُتسبِّب بما تمليه أنظمة البلاد المرعية.
وأشارت د. وفاء الرشيد إلى أن الهيئات تمَّ تأسيسها من الحكومة للهروب من بيروقراطية الوزارات ولتعجيل البتِّ في الأمور، إلى أن وصلنا إلى هيئات عددها ثلاثة أضعاف الوزارات، بسُلَّم رواتب مستقل، وكوادر بعضها يتفوق على الموظف الحكومي، ولكن السؤال الآن: ما النتيجة؟ النتيجة أننا خلقنا تحدياتٍ جديدةً؛ وهي الزيادة في المصروفات الحكومية، والتضارب في المهام بين الهيئات والوزارات، ناهيك عن منافسة هذه الهيئات للقطاع الخاص في استقطاب الكفاءات والتي ساهمت في إفساد تنافسية الموارد البشرية في البلاد.
وأشار د. عبد الإله الصالح إلى ملاحظات أساسية لتشخيص الوضع الحالي، والتي يمكن أن تستند إليها معالجة الإشكالات البيروقراطية، وهي كما يلي:
1- الجهاز الحكومي التنفيذي يدير ويُنظِّم ما تملكه الدولة وتسيطر عليه الحكومة من ثروات وطنية بجميع أنواعها، وامتيازات سيادية، وغيرها من مسؤوليات تنظيمية (في إطار الأنظمة والقوانين)، والتي تنفرد في ترتيبها لصالح الدولة. ويتم ذلك تحت رقابة (آليات التفتيش الإداري)، والنظام والقضاء الإداري، وكل ذلك تحت نظر ولي الأمر.
2- وهو يؤدي ذلك في سياق موازنة بين المصالح والمقاصد المختلفة (التي تحدِّدها أو توحي بها الأنظمة بدءًا من نظام الحكم إلى كلِّ الأنظمة ذات العلاقة) على أساس من التنظيمات واللوائح والتعليمات الإجرائية (بكل أنواعها) المكتوبة والمعلنة.
3- تكوَّن حول ذلك كمٌّ كبير من الأنظمة الموضوعية والإجرائية والتنفيذية والأعراف التي تُحدِّد الصلاحيات والمسؤوليات والإجراءات ومقاييسها ومعاييرها للإدارة (الوحدة المعتبرة من حيث المسؤولية في الجهاز التنفيذي الوطني)، تُسمَّى في مجموعها القانون الإداري.
4- تفرض السياسات العليا والأعراف والأنظمة (التي تُرشِّحها حكومة المملكة دائمًا) على الشفافية. وأهم مجالات الشفافية هي: الشفافية في إعلان الأنظمة والتعليمات بكل أنواعها، والشفافية في الإجراءات تحت التنفيذ وبعده.
5- معرفة وفهم هذا كله والمهارة في استيعابه جزءٌ رئيس من كفاءة الإدارة؛ وذلك يتطلب تأهيلَ للموظف والجهاز، ووضوح وعلانية التعليمات، إضافةً لآليات تضمن ذلك، وتضمن حُسنَ القرار.
6- القضاء الإداري مسؤول عن رقابة الجهاز التنفيذي، ولكن هناك مرحلة قبل الاضطرار للجوء للقضاء الإداري، وهي إعطاء فرصة للإدارة لتعديل قرارها أو عدمه أو إجرائه؛ حيث تحترم السلطة التقديرية للإدارة.
7- تكون في الإدارات آلية لمراجعة القرار وعدمه بسرعة، وعلى أُسُس شبه قضائية ذات طابع حيادي تحكم القرار موضوعيًّا، إضافةً للاعتبارات المهنية (تكون مستقلةً عن رئيس الإدارة إلى حد كبير)، وتعمل بشكل شفَّاف وحسب إجراءات واضحة.
8- مما سبق يمكن وضع ثلاث نقاط مهمة في كفاءة الجهاز التنفيذي:
أ. وضوح مسؤوليات الإدارة وإجراءاتها والتعليمات واللوائح الحاكمة لعملها، وعلانية ذلك كله مع وضوح إجراءات تعديلاتها. ويُقصَد بالعلانية مكان مُوحَّد خارج سيطرة الإدارة تُديره وتُشرف عليه الإدارة ذات العلاقة، وقد تكون وزارة الموارد البشرية أو إحدى هيئات الرؤية الرقابية.
ب. كفاءة قيادة الإدارة والموظف في مجال العمل الإداري من حيث فهم المسؤوليات العامة (للإدارة) والخاصة (للموظف في المنظومة)، وهذا مجال التأهيل والاختبارات والمنافسة على الترقيات أو العكس (الاتهام بالتقصير الإداري).
ج. الأجهزة والآليات شبه القضائية داخل الجهاز التنفيذي التي تتعامل مع شكوى الموظف ضد إدارته أو المستفيد ضد الإدارة التي تحمي الإدارة من التقصير واضطرار البعض إلى اللجوء للقضاء الإداري الذي يعتبر الآلية النهائية لنقض القرارات الإدارية وخلافه من أنواع الفصل القضائي؛ وذلك لطول الإجراءات وتكاليفها.
وذكر م. خالد العثمان تعقيبًا على ما تمَّ الإشارة إليه في المداخلة السابقة بخصوص تأهيل الموظفين والمسؤولين في القطاع الحكومي، أن الواقع يؤكد أن هناك غيابًا تامًّا لأي برامج أو جرعات تُؤهِّل الموظف للعمل في وظيفته منذ اليوم الأول وتُسلِّحه بأخلاقيات ومبادئ عامة ومهارات نوعية، ناهيك عن ضعف التأهيل الفني في مجال اختصاص عمل الموظف من الأساس. الموظف بشكل عام هو كمَن يُلقَى في البحر دون أن يتعلم السباحة، فينتهي به الأمر إلى تطبيق تعليمات وأنظمة متناثرة دون فَهْم عميق لها ولمدلولاتها وأوزانها ومجالات المرونة فيها. وبالطبع، فإن هذا الواقع يُذكِّرنا بغياب أي محتوى للتأهيل الوظيفي والمهني في مناهج التعليم بكل مستوياتها، بل إن ثقافة العمل ينبغي أن تكون أحدَ المبادئ الأساسية التي يتلقاها النشء منذ مراحل التعليم المبكرة.
وتطرَّقت د. عفاف الأنسي – من واقع تجربتها الشخصية – إلى دور مهم تقوم به مكاتب تحقيق الرؤية في الوزارات في مكافحة البيروقراطية؛ فبالإضافة إلى مشاريع التطوير التي تديرها، والتي تبدأ من تشخيص الوضع الراهن وتحليله ودراسة العائد على الاستثمار والمخاطر والاستفادة من التجارب (BENCHMARKING)، فهنالك حرص شديد على إشراك إدارة التغيير في كل مشروع يتم تنفيذه، وأيضًا في كل حدث جديد تمرُّ به الوزارة أو قد يتأثر به المستفيدون سواء الداخليون أو الخارجيون. فكثيرٌ من السياسات والإجراءات الجديدة قد تلقى مقاومةً كما هو حال التغيير دائمًا، سواء من داخل المنظمة أو من خارجها، وتتعامل الإدارة باحترافية ليتم تقبُّل تلك السياسات والاندماج فيها. وهناك قرارات تمَّ التعجيل بها للتماشي مع ظروف جائحة كورونا، هذه القرارات جاءت ثمرةً لمشاريع وجهود لإدارة مكتب تحقيق الرؤية، والتي لم تكن لترى النور بهذه السرعة لولا الجهود المتضافرة في العمل والتنفيذ بعيدًا عن البيروقراطية. على الرغم أن مدراء محافظ مكتب تحقيق الرؤية من القطاع الخاص إلا أن هنالك تمازج في الإدارات التي تُدار من قِبل موظفي القطاعين الخاص والحكومي على حد سواء، إضافةً إلى موظفي القطاع الحكومي الذين يعملون تحت إدارة القطاع الخاص.
وأكد م. خالد العثمان أن التعويل على منظومة إدارة التغيير التي نشهد انتشارها في الأجهزة الحكومية ضمن مكاتب تحقيق الرؤية تستحق الإشادة والتقدير، لكنها هي أيضًا تصطدم بالكثير من المقاومة الناجمة عن ممارسة بيروقراطية راسخة داخل الأجهزة الحكومية بشكل عام. وقد ورد في الورقة الرئيسة الإشارة إلى أن ثمةَ فجوةً عميقةً بين مستوى صياغة وقيادة الرؤية وأهدافها وإستراتيجياتها ومستويات التنفيذ الفعلي لبرامجها ومبادراتها ومشاريعها، بما في ذلك تفعيل الأدوات التنفيذية ومنها إدارات التغيير ومكاتب تحقيق الرؤية، كما تمَّ الإشارة كذلك إلى أن أثقال البيروقراطية طالت برامج الرؤية ومبادراتها ومشاريعها، وسادَ المشهد تعدُّد الأجهزة وتداخل اختصاصاتها وصلاحياتها، وكثرة الاعتماد على الفِرق الاستشارية التي تعمد إلى تطبيق نماذج نمطية جامدة وفرضها على مختلف الأجهزة الحكومية برغم تفاوت مجالات عملها وظروفها ومتطلباتها وغير ذلك؛ حيث أصبحت الوسائل أهدافًا في حد ذاتها في ظل طغيان مفاهيم إدارة المشاريع بمستويات متعددة ومتراكبة، إذ إنها تحتاج إلى الكثير من التفكيك وإكسابها رشاقةً عمليةً بدلاً من الترهُّل الحاصل الذي انعكس كذلك ترهُّلاً في حجم الجهاز الحكومي وإعداد الموظفين فيه، ناهيك عن تكاليفه المتضخمة.
بينما أشار د. منصور المطيري إلى أن الانطباع العام عن سلوك الحكومة خلال أزمة جائحة كورونا اتسم بالتحرُّك السريع واتخاذ الإجراءات المتوالية المواكبة للحدث. ومن جهة أخرى، فإن بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، خصوصًا في موضوع التقشف قد يكون لها تأثيرٌ سلبي على التفاعل مع قرارات الحكومة مستقبلًا؛ فمثلًا، اللجنة التي ستُعيد النظر في مزايا موظفي الهيئات الجديدة التي شُكِّلت بعد انطلاقة برنامج التحول؛ جزء لا بأس به من هؤلاء الموظفين قَدِموا من وظائف مرموقة تحت إغراء الميزات التي أُعطيت لهذه الهيئات، وما أن استقر في عمله الجديد حتى تلاشت هذه الميزات، ويُشير ذلك إلى أن بعض القرارات قد تضرب مصداقية الحكومة، وهذا من أخطر الأمور.
• آليات تجاوز جمود البيروقراطية في الأزمات:
يرى د. خالد الفهيد أن من المؤمَّل أن تُسهم الإجراءات التي تمت لمواجهة أزمة كورونا في فك قيود البيروقراطية. بينما في تصوُّر م. خالد العثمان، فإن المشكلة أن معالجة داء البيروقراطية يتطلب أولاً الاعتراف به، وهو ما لم يحصل حتى الآن على الأقل.. في كل مرة نصطدم بعقد الإجراءات وتفاصيلها، يأتي الجواب دومًا: “هذا هو النظام”، والمشكلة أن النظام في غالبه هو قابع في عقول الموظفين وذاكرتهم المختلطة، ويستند إلى أنظمة وتعاميم وتوجيهات متقادمة ومتراكمة؛ بل ومتعارضة في بعض الأحيان، وربما منسوخة في أحيان أخرى.
وذكر أ. محمد الدندني أن هناك برامج لم تعُد مُكلِّفةً كنظام ساب؛ فالنظام يفضح أين وقفت المعاملة من أجل الموافقة أو الرفض حيث إنَّ سلسلة الـ approvals سلسلة من الخطوات، هذا من ناحية تنظيمية. الأمر الآخر هو الشفافية في التعامل، ووجود نظام المكافأة والعقاب لمَن يُعطِّل مصالح الناس، وبالذات إنْ كانت شرعيةً وقانونية، فكيف بتأخير الحقوق؟! اللامركزية أيضًا ربما تحدُّ من البيروقراطية، وتزيد الشفافية. ومن المهم العمل على ما يلي:
1- التغلب على مسألة ضعف الكفاءات وفق ثقافة أريد وظيفة ولا أريد عملًا، وكذلك ضعف المقدرة على اتخاذ القرار.
2- إيجاد نظام شامل يعالج مختلف الحالات وليس التعامل معها case by case، وأيضًا وَضْع النظام كتنظيم وليس كتعقيد، وإيجاد الحلول الإيجابية.
3- تدوين القرارات التي خرجت من روح النظام وليس نصه لتكون مرجعية، وتُدرَّس في الدورات الإدارية. وكمثال، فإن القضاء بأكمله في بريطانيا مبنيٌّ على هذا الاتجاه. ليس لديهم نصٌّ مكتوب، وإنما تراكمات الأحداث صنعته.
وفي اعتقاد م. خالد العثمان، فإن من المهم إيجاد نظام يُثيب ويُكافئ الموظف الذي يقترح أو يتبنى ممارسات مرنة تتجاوز عُقد البيروقراطية لتيسير أمور الناس وخدمة مصالحهم؛ فبالتأكيد أنَّ مثل هذا النظام سيخلق من التحفيز ما يعود بكثير من الإيجابيات على كفاءة الأداء التنموي أكثر بكثير من أساليب الرقابة اللصيقة والتخويف بالمحاسبة عن الخطأ الشكلي. ومن الضروري كذلك تصحيح الإجراءات، ومراجعة آليات العمل الإداري وتفكيكها من النمطية والتعقيد والبيروقراطية، وتأسيس نظام إجرائي عملي قابل للأتمتة الفعَّالة، وليس أتمتة الإجراءات الحالية بكل ما فيها من تعقيد.
واهتمت أ. مها عقيل بإيجاد بيئة عمل وثقافة تُحفِّز على الابتكار وإيجاد الحلول بدون أن تُعرِّض الموظف أو المسؤول للتنمُّر والعداوة من قِبل زملائه والموظفين الأعلى منه. وكذلك خلق بيئة من المنافسة الشريفة، والتعاون بروح الفريق، والإحساس بالمسؤولية، والحرص على الارتقاء بأداء العمل.
بينما أكد م. إبراهيم ناظر أنه يوجد نظام ولوائح؛ فنظام الخدمة المدنية والعسكرية ينص على مكافأة الموظفين المتميزين بشروط واضحة ومحدَّدة، وليس صحيحًا الادِّعاء بأن الخوف من مكافحة الفساد أشاع حالةً من تكريس الإجراءات الروتينية والنمطية وعدم المبادرة؛ ومن جهة أخرى، فإن الموظف بشر ومن الممكن أن يجتهد ويُخطِئ؛ لكنَّ الخطأ المقصود الذي تتوافر فيه أركان الجريمة هذا مسؤولية المكافحة.
وعقَّب م. خالد العثمان بأنه يوجد نظام، لكن من المهم أن يجري تسويقه وإشهاره كما يجب، جنبًا إلى جنب مع إبراز قصص التميُّز والمكافآت “على قلتها” لتحقيق التحفيز المأمول. ومن جهة أخرى، فإن من المهم تطوير البنية التحتية الهيكلية لمنظومة الوزارات، والأجهزة الحكومية هي الأولى والأجدر بالاهتمام ويجب أن تكون على رأس سُلَّم الأولويات. وبعدها يمكن لنا أن نعمل على تطوير البنية التحتية ومشروعات التنمية بالكفاءة التي نرومها ونتطلع إليها. والمؤكد أن البيروقراطية وكفاءة العمل الحكومي هي أحد أهم أسباب ظاهرة تعثُّر المشاريع التنموية.
واتفق م. إبراهيم ناظر مع ذلك، وأضاف أنه قد تمَّ في الآونة الأخيرة تحديث الأنظمة وإعادة بناء البنية التحتية وأتمتتها؛ الأمر الذي يعكسه تحسُّن تصنيف المملكة العربية السعودية في مؤشر الأمم المتحدة لجاهزية الحكومة الإلكترونية؛ إذ حلَّت في المرتبة الـ41 عالميًّا بين 193 دولة. لكن ظل الإنسان الموظف الذي هو أساس التنمية الإدارية في الأجهزة الحكومية على حاله، وهو مَن سيُحدِّد التنظيم الثقافي للبيروقراطيات الحكومية وتطويرها وكفاءتها وفعاليتها.
وذكرت أ. مها عقيل أن أزمة كورونا الحالية ستفرض على الدولة تغيير الهيكلة لمنظومة الوزارات والأجهزة الحكومية؛ ولكن هل ستتجه لتقليص ودمج وزارات وهيئات وما يترتب على ذلك من إلغاء بعض الوظائف وبالتالي إيجاد عاطلين عن العمل، أم إلى إنشاء هيئات وجهات حكومية جديدة لخلق وظائف؛ ما يؤدي إلى تكدُّس وظيفي، وعدم تطوير لقدرات الموظفين لمواكبة التطورات في طريقة العمل من أتمتة وغيرها؟
وعقَّب أ. لاحم الناصر على ذلك بأنه يوجد في العالم كله تكدُّس وظيفي في القطاع العام وعدم فعالية وليست لدينا فقط، فهذه طبيعة عمل القطاع العام؛ لكن حدة الفائض الوظيفي وعدم الفعالية تتفاوت من دولة إلى دولة.
في حين سلَّط أ. نبيل المبارك الضوءَ على النقاط التالية:
1- بغض النظر عن وجهة النظر حول “البيروقراطية” كونها سلبية أو إيجابية، فإنه يصعب إنْ لم يكن يستحيل الحكم عليها بعيدًا عن وضعها في إطارها الصحيح؛ كونها جزءًا من منظومة إدارية لها مواصفات وقيم ومفاهيم يجب تحريرها أولًا، وهي لم تُحرَّر وتُناقش وتُدرس بإيجابياتها وسلبياتها حتى الآن!
2- دون وجود تأطير للممارسة الإدارية لدينا ودراستها دراسةً علمية، تأخذ في الاعتبار شخصية الإنسان على هذه الأرض، والتنوُّع البيئي والحضاري لكل مناطق المملكة، والتطوُّر وتحديدًا من سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم، وتأثيرات المدارس الغربية والعربية؛ يصعب توجيه النقد للممارسة على أرض الواقع. فالنقد يأتي من مدى الاستفادة أو الخسارة من تلك الممارسة، وبالتالي هو ليس نقدًا منهجيًّا يؤدي للإصلاح المنشود والتطوير المطلوب. فدول العالم تتسابق لنشر تجاربها، وتحاول دائمًا الافتخار بأن لديها مدارس، مثل: المدرسة الألمانية والأمريكية والبريطانية، والمدرسة اليابانية. لماذا لا يكون لدينا المدرسة السعودية؟ بحيث تكون مكتوبةً وذات منهج واضح، وتُدرَّس وتُناقش ويُكتَب فيها دراسات بحثية مُعمَّقة.
3- البعض يُعوِّل على التقنية للحدِّ من “البيروقراطية” بمفهومها السلبي. أجل هذا صحيح، ولكن التقنية لا تَفهم أو تستطيع أن تتفهم الجانبَ الإنساني، ونحن في نهاية المطاف بشر، والأمور لا تسير بخط مستقيم دائمًا، وأحداث التاريخ تكشف أن الدول تنهار عندما تتجمد وتتحجر، وتزدهر الدول وتقوى شوكتها عندما تُبدِع وتُجرِّب.
وفي اعتقاد أ. فائزة العجروش، أنه لا يختلف اثنان على أن النظام البيروقراطي بصورته الحالية هو مرض إداري يجب مكافحته والتخلص منه؛ فهو يُعقِّد الإجراءات، ويُؤخِّر المعاملات وخاصة التي تحتاج إلى أكثر من إجراء في أكثر من مؤسسة ودائرة. في الوقت الذي كان من المفترض أن تحلَّ التقنية فيه كثيرًا من مشكلاتنا بكبسة زر، وتُوفِّر كثيرًا من الوقت والجهد بعد أن وفَّرت الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) والأنظمة الذكية كلَّ عناصر وآليات تطوير الإدارة وتفعيل الإنتاج. والاتجاه القادم لا بد أن يكون في أيٍّ من الجهات الحكومية وغيرها خطوات صادقة نحو التركيز على تبسيط الإجراءات وتطبيق اللامركزية؛ كونه محورًا حيويًّا لطبيعة المرحلة الحالية، والتي تتطلب تعميمه في مختلف الجهات والهيئات الاقتصادية كمحور رئيسي للقضاء على البيروقراطية وتذليل كافة العقبات، خاصة بعد أن جرَّبت الشركات والمؤسسات الحكومية والناس عامة كافة الخدمات والتقنية الإلكترونية في أزمة كورونا، فلن يكون من السهل أبدًا العودة للعصر الورقي والبيروقراطي. والجميع سيخرج من عُنق الزجاجة، وسيتبنى معطيات وخيارات التقنية بالإجبار لا بالخيار كإدارة أزمات قادمة، وسيرى الجميع أن عصر الاستفادة من التقنية أمرٌ حتمي في الوقت الحالي، ولا بد منه مستقبلًا.
واقترح د. عبد الإله الصالح من أجل تجاوز العقبات البيروقراطية ما يلي:
1- أن يكون هناك سجلٌ حكومي موحَّد تُدوَّن فيه الأنظمة واللوائح والتعليمات أولًا بأول في نظام فهرسي مترابط، تقوم عليه إدارة مختصة، وما يُنشَر فيه يُطبَّق، وما لم يُنشَر لا يُعتد به، وأن تكون هذه الإدارة علنية ومستقلة عن الإدارات، مع تحديد أوقات ومُدد لجميع القرارات الإدارية المخوَّلة بها الإدارة، وعند تجاوزها تُعتبر موافقة.
2- أن يكون هناك منهج متماسك للنظام والمهارات الإدارية العامة التي تترجم القانون الإداري (خلاف المهارات الخاصة بعمل الإدارة)، وتكون أساسًا للاختبارات والترقيات (مع المهارات الفنية ذات العلاقة).
3- أن يُعمَّم في القانون الإداري والتنظيم الحكومي وجود لجان شبه قضائية مستقلة في الإدارة، تتعامل بإجراءات محدَّدة (شبه قضائية) مع جميع أنواع الشكاوى (من الموظفين والمستفيدين)، وتكون هذه اللجان هي العتبة النهائية قبل اللجوء للقضاء الإداري للشاكي (والإدارة تدفع تكاليف الشكوى إذا نجح الشاكي هنا وهناك).
من جهته يرى د. خالد بن دهيش أن مملكتنا وفي ظل رؤيتها ٢٠٣٠، قد اهتمت بتذليل جميع معوقات التنمية ضمن برامج التحوُّل الوطني والبرامج الأخرى، ومن ضمن ذلك أنها كلَّفت هيئة الخبراء في مجلس الوزراء بمراجعة الأنظمة والتشريعات والتنظيمات بما يتناسب مع تحقيق إستراتيجيتها وأهدافها وخططها. ومثل هذه المراجعات نتج عنها مراجعة الهياكل التنظيمية للقطاعات الحكومية وتطويرها وإنشاء الهيئات والاندماجات. ولتحقيق ذلك استعانت بكبار الشركات الاستشارية الدولية والمحلية، لنقل التجارب الدولية والاستفادة منها. ويجب أن لا نستعجل في الحكم على نتائج مسيرتنا التنمية، فليس من السهل أن يتم التحوُّل الإستراتيجي في سنوات قليلة، ومن معوقات التنمية التي تعمل عليها برامج التحوُّل القضاء على الجانب السيئ للبيروقراطية. وفي خِضمِّ مسيرتنا التنموية حلَّت علينا أزمة كورونا غير المتوقعة قبل اكتمال برامج التحول الوطني، وهي أزمة مُفاجِئة وعرضية، ومع ذلك استطاعت حكومتنا الرشيدة معايشتها والتخفيف من تأثيراتها على مواردنا المالية واقتصادنا. ومن غير المستبعد أن تبرز البيروقراطية بجانبها السيئ؛ كون المبادرات لدعم الاقتصاد والأعمال في مجملها مالية.
وأضاف م. خالد العثمان أن معالجة البيروقراطية بجذورها الممتدة في عمق الممارسة الإدارية الحكومية تتطلب بعضَ الصبر وكثيرًا من الجد لمعالجتها بالتوازي مع جهود التحول الوطني؛ لضمان تحقيق مكتسبات ومستهدفات رؤية 2030 وتطلعات التنمية الوطنية، لكننا أيضًا بحاجة ماسَّة لتبني مسارات عاجلة لتفعيل مبادرات الدولة التي عكست إيمانًا بأهمية القطاع الخاص ودوره في التنمية. ولعل هذه المسارات تكون أولاً نموذجًا لمسارات الحلول العاجلة للتعامل مع الأزمات على المدى القصير، وثانيًا وسيلة لخلق نماذج لنجاحات مُسجَّلة على سبيل التغيير لإثبات إمكانية ونجاعة وفرص التغيير على المدى البعيد.
التوصيات:
1- تسريع الجهود الرامية إلى تطوير الممارسات والسياسات الإدارية في الأجهزة الحكومية من خلال مكاتب تحقيق الرؤية، لمكافحة البيروقراطية الجامدة والسلبية من خلال إدارات التغيير، وبما يتفق مع أهداف الرؤية نحو “حكومة إلكترونية فعالة” (الجامعات، معهد الإدارة العامة، جميع الوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية، مكاتب تحقيق الرؤية، إدارات التغيير…).
2- العمل على تطوير البنية الثقافية لدى العاملين في الأجهزة الحكومية؛ لرفع قيم الإحساس بالمسؤولية وتعليتها، وترسيخ روح المبادرة والتطوير والتعاون ووحدة الهدف (جميع الوزارات والإدارات العامة).
3- تسريع الجهود الرامية إلى تطوير البنية التحتية والتشريعية التي تسمح باستخدام وتوظيف أحدث التقنيات في الأتمتة والرقمنة والعمل عن بُعد (وزارة الاتصالات والتقنية، هيئة البيانات والذكاء الاصطناعي وجميع الوزارات والإدارات العامة، برنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية يسّر…).
4- تشكيل خلية أزمة تنفيذية ذات صلاحيات خاصة تُشرف على تنفيذ حِزم المبادرات وتذليل العقبات التي تواجهها، وتقليل الإجراءات والمتطلبات التقليدية وتحقيق الترابط والتكامل بينها، وتوثيق التغذية الراجعة السريعة للتفاعل معها كما يجب (مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية).
5- تفعيل مفهوم وروح المشاركة بين القطاع العام وأصحاب الاختصاص بالقطاع الخاص في جهود صياغة وتطوير وتعديل الأنظمة واللوائح في جميع الأجهزة الحكومية، وبمختلف مستوياتها واختصاصاتها (جميع الوزارات والإدارات العامة).
6- إعادة النظر في جميع الأنظمة واللوائح التنفيذية والتفسيرية وتعديلها بناءً على التجارب المستفادة من الظروف الاستثنائية لأزمة جائحة كورونا، بحيث تصبح مرنةً وفاعلةً وقابلةً للتطبيق خلال الأزمات وحالات الطوارئ (جميع الوزارات والإدارات العامة).
7- تفعيل سياسة الثواب والعقاب (الجزرة والعصا) ضمن سياسات تحفيز الموظفين والتوجيه والرقابة (جميع الوزارات والإدارات العامة).
8- تبني سياسات وإجراءات عاجلة للتصدي للتبعات والآثار السلبية لأزمة جائحة كورونا على الاقتصاد الوطني، عبر اعتماد إجراءات ذات طبيعة خاصة خلال فترة الأزمة؛ لتسريع وتفعيل المبادرات الحكومية الصادرة، وتبني ما يلزم من مبادرات جديدة متنوعة (مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية وخلية الأزمة).
9- دعوة وزارة التعليم بالعمل عاجلاً على تضمين مناهج التعليم بكل مستوياته، ومنذ مراحل التعليم المبكرة، جرعات مكثفة وعملية حول ثقافة العمل الجماعي والمبادرة وأخلاقيات العمل وما إلى ذلك؛ وهو ما يسهم في تعزيز ثقافة العمل لدى النشء، واقتراح برنامج كرسي علمي للإدارة العامة بالجامعة (وزارة التعليم).
القضية الرابعة
الاقتصاد الثقافي
(31/5/2020م)
الورقة الرئيسة: د. نوف الغامدي
التعقيبات:
التعقيب الأول: د. زياد الدريس
التعقيب الثاني: د. منصور المطيري
إدارة الحوار: أ. عبد الله الضويحي
الملخص التنفيذي
أشارت د. نوف الغامدي في الورقة الرئيسة إلى أن “الاقتصاد الثقافي” أو “الاقتصاد البنفسجي” هو: حقل جديد من حقول علم الاقتصاد، يُعنى بإضفاء الطابع الإنساني على العولمة والاقتصاد من خلال استخدام الثقافة كمساعد في ترسيخ أبعاد التنمية المستدامة؛ أي إنه تحالفٌ بين الاقتصاد والثقافة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والاستدامة، وقد ظهر لأول مرة في فرنسا عام 2011. وتوقَّعت د. نوف أن تتعدى أدوار الهيئات التي أنشأتها وزارة الثقافة الشأنَ الثقافي إلى البعد الاقتصادي أيضًا، كداعم للأنشطة والأفراد ولقطاع الخدمات الاقتصادية. ويمكن الجمع بين الثقافة والاقتصاد في اتجاه واحد إذا كان الهدف من الفعاليات الثقافية والفنية اقتصاديًّا، مع أهمية تفعيل الجانب الاقتصادي لجمعيات الثقافة والفنون، والالتفات في الوقت ذاته إلى مدن الأطراف. وقد وضعت د. نوف بعض التصورات التي يمكن العمل عليها في هذا الجانب، ومن أهمها: التصوُّر التجاري وتفعيل اقتصاديات الثقافة والفنون، والتصور الفني الخالص الذي لا يخضع للرؤية التجارية ولكن بدعم محدود. ومن هنا يصبح لدينا فنٌّ خالص وفنٌّ تجاري يُرضي كافة أفراد المجتمع بحيث لا يطغى الجانب الاقتصادي على الفن والثقافة، فيتحول إلى اللافن وإلى اللاثقافة، ومن الملائم دعم القطاع الخاص للفن الخالص من خلال التعاقد مع مؤسسات تجارية في كلِّ منطقة تحت إشراف جمعيات الثقافة والفنون بوصفها مؤسسات رسمية لتفعيل الجانب الثقافي والفني في المنطقة؛ لتخفيف العبء الاقتصادي عن الجمعيات. وختمت د. نوف الغامدي ورقتها بالقول: إن الوسط الثقافي السعودي اليوم بحاجة إلى مشروع صناعي ينقل المحتوى الثقافي الوطني للعالمية، ويدرُّ أرباحًا تُشجِّع رؤوس الأموال على الاستثمار فيه.
ولم يُخفِ د. زياد الدريس في التعقيب الأول تخوُّفه وقلقه من (صناعة الثقافة)، فهو لا يطمئن – كما يقول- إلى براءة الثقافة المقرونة بـ «الصناعة» أو «التجارة»، مُبدِيًا شكوكه من قدرته على الحياد في نقاش يريد عقد مواءمة (عادلة) بين الثقافة والاقتصاد. وأشار د. زياد إلى أن كتلة من شعوب العالم عاشت فترةً من الزمن تحت هيمنة نظام يسعى إلى تثقيف السلعة، أي حشوها بمضامين فائضة تخدم (نظامًا) لا يترك شيئًا إلا أدلجته. وسقط ذاك، وهيمن آخر بمفاهيم تخدم (نظامًا) لا يترك شيئًا إلا استربح منه ففُرِّغت الثقافة من مضامينها المعرفية من أجل خدمة مضامينها الاقتصادية؛ أي إننا انتقلنا من زمن تثقيف السلعة إلى زمن تسليع الثقافة، و«الثقافة» في كلتا الحالتين هي الضحية. ولم ينفِ د. زياد الدريس كون عناصر التراث الثقافي باتت الآن مصدر دخل سياحي للدول، وأن جزءًا ثابتًا من هذه العوائد يذهب لعمليات الحفاظ على الموروث وترميمه أو صيانته من الانقراض. وهذا أمر مقبول في نظره، لكنه يرفض تحويل المثقف إلى سلعة مفرَّغة من عفويتها؛ ما يعني ارتكاب جريمة أشد بحق الثقافة، وهي صناعة التفاهة والتافهين.
أما د. منصور المطيري فحدَّد في التعقيب الثاني خمسة أسُس كبرى لا مناص لأي سياسة استثمارية في مجال اقتصاديات الثقافة من الارتكاز عليها، وتضمنت:
– الأساس الخاص بالهوية، وهو أساس حقيقي لا يمكن تجاهله؛ لأن موضوع الاستثمار هو الهوية نفسه.
– الأساس الحقوقي، لا بد من بيئة تشريعية وبيئة ملتزمة بالعدالة ليأخذ أي مبدع أو مستثمر حقَّه دون خوف من ضياعه.
– الأساس الخاص بالبيئة الاجتماعية المتماسكة، الأعمال الثقافية والتكسُّب من ورائها يجب أن تُعطى أولية لبث مفاهيم تربوية تجمع ولا تُفرِّق، وتبرز التعاضد أكثر مما تُبرِز التنافر والأحقاد.
– الأساس الجامع بين الوطن وأجزائه. هناك ثقافة محلية تُمثِّل أجزاء الوطن، وهناك ثقافة تُمثِّل الوطن كله. فيجب هنا الابتعاد عن إلغاء الجزء، بل يجب أن تُقدَّم ثقافة الجزء كعنصر في ثقافة الكل.
– الأساس التقني والرقمي الحديث، لا يمكن أن ينجح اقتصاد الثقافة دون الإبداع في التقنية. وقد رأينا كيف استثمرت كوريا في هذا الجانب، وغزت العالم بثقافتها عن طريق التقنية.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاورَ التالية:
ثنائية الاقتصاد الثقافي.
إيجابيات وسلبيات تسليع الثقافة “الاقتصاد الثقافي”.
الاقتصاد الثقافي على الصعيدين المحلي والعالمي: رؤية استشرافية.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:
1. التنسيق بين وزارتي الثقافة والسياحة وهيئة الترفيه لخلق مصادر دخل ترفد بعضها البعض، وترفد الأنشطة الثقافية غير الربحية كنَشْر الكتب والندوات الثقافية.
2. إعادة “ضبط المعيار القيمي الجمعي” في ضوء ثقافة الانفتاح الرشيد الجديدة، وبناء “ثقافة ادخار” واعية لدى المجتمع تضع البعدَ الثقافي ضمن اهتماماتها، في سياقات متوازنة تخدم استدامة الفعل الاقتصادي الثقافي كأحد أفعاله الحياتية المستدامة.
3. إقامة ورشة عمل وطنية كبرى بقيادة “وزارة الثقافة”، تضمُّ أطيافَ الثقافة المختلفة والقطاع الخاص؛ لوضع إستراتيجية واضحة لاقتصاد ثقافي، بحيث تنقل المحتوى الثقافي الوطني للعالمية، وتُحقِّق رؤية 2030.
الورقة الرئيسة: د. نوف الغامدي
عندما يسألونك: مَن أنت؟ تستطيع أن تُبرِز وثيقة أو جواز سفر يحتوي على معلوماتك، أما إذا سألوا شعبًا: مَن أنت؟ فإنه سيُقدِّم علماءَه وكُتَّابه وفنَّانيه وموسيقييه وسياسييه وقادته العسكريين كوثائق – الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف.
منذ أن صدر الأمر الملكي منتصف عام 2018 بفصل الثقافة عن الإعلام، وإنشاء وزارة للثقافة مستقلة يرأسها صاحب السمو الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وسمو الوزير ومنسوبو الوزارة يعملون على قدم وساق لإعادة هيكلة منظومة القطاع الثقافي وتشكيل أدواته الجديدة التي تضمن تنفيذ رؤية المملكة 2030؛ بهدف تنشيط صناعة الثقافة وجَعْلها رافدًا من روافد الاقتصاد الوطني، وأن تصبح نمطَ حياة وتُعزِّز مكانة المملكة دوليًّا. ولقد درست وزارة الثقافة الواقعَ الثقافي السعودي بكل أبعاده التشريعية والتنفيذية والمالية، وقد خلصت إلى تصوُّر جديد من خلال 11 هيئة.
الاقتصاد الثقافي:
الاقتصاد البنفسجي Purple Economy حقل جديد من حقول علم الاقتصاد، يُعنَى بإضفاء الطابع الإنساني على العولمة والاقتصاد من خلال استخدام الثقافة كمساعد في ترسيخ أبعاد التنمية المستدامة؛ أي إنه تحالف بين الاقتصاد والثقافة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والاستدامة. ومصطلح الاقتصاد البنفسجي ظهر أول مرة في فرنسا عام 2011 في الوثيقة التي تمَّ نشرها في صحيفة “لوموند”Le Monde من قِبل جمعية “ديفيرسوم” في تنظيمها لأول منتدى دولي للاقتصاد البنفسجي، برعاية كلٍّ من اليونسكو والبرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية. ولأن الاقتصاد البنفسجي يعني أن تكون الثقافة هي القوة الناعمة ذات الأثر البالغ والمتغلغل في تنمية الاقتصاد؛ فالمتوقع أن تتعدى أدوار هذه الهيئات الشأنَ الثقافي إلى البعد الاقتصادي أيضًا. والواضح أن إنشاء هذه الهيئات داعم للأنشطة وللأشخاص، كما أنها داعمٌ مباشر لقطاع الخدمات الاقتصادية أيضًا. والحقيقة يمكننا القيام بعمل يجمع بين الثقافة والفنِّ والاقتصاد في اتجاه واحد إذا كان المقصود بالفعل هو العمل الاقتصادي من وراء تفعيل الفعاليات الثقافية والفنية. فإذا قلنا إنه من المهم دفع العجلة الثقافية الفنية وتنميتها اقتصاديًّا، فإن من المهم التفكير في تفعيل الجانب الاقتصادي لجمعيات الثقافة والفنون لتعمل عملها؛ أما إن كان الهدف فعلاً ثقافيًّا وفنيًّا خارج إطار التفكير الاقتصادي، فلِمَ اقتصر الأمر على المدن الكبرى دون الأطراف؟ الأمر لا يعدو كونه دعمًا من جهة، واقتصادًا من جهة أخرى، وفي الحالتين من المهم الالتفات إلى مدن الأطراف. ومن التصورات التي يمكن العمل عليها: التصوُّر التجاري وتفعيل اقتصاديات الثقافة والفنون إذا صحَّ التعبير، والتصور الفني الخالص الذي لا يخضع للرؤية التجارية بحيث يبقى الدعم قائمًا، وهو الأقل بالطبع، وقد لا يكون مُكلِّفًا كالسياق الفني أو الثقافي التجاري؛ ولذلك يصبح من السهل التعامل معه بحيث يرفد الشيء بعضه الآخر، بحيث يكون لدينا فنٌّ خالص وفن تجاري يُرضي كافةَ أفراد المجتمع بحيث لا يتغول الجانب الاقتصادي على الفن والثقافة، فيتحول إلى اللافن وإلى اللاثقافة. والشركات والمؤسسات التجارية يمكن أن تكون رافدًا للثقافة والفن في السعودية حتى ولو عاد عليها اقتصاديًّا إلا إنه من المهم تخصيص جانب ونسبة محدَّدة للفن الخالص؛ أي الفن الذي لا يخضع للمجال التجاري البحت، ولعل البنوك السعودية تكون رافدًا من روافد الثقافة، بحيث تُخصِّص ما نسبته واحد في المئة مثلاً من مدخولها لدعم جمعيات الثقافة والفنون حتى تستطيع لاحقًا القيام بنفسها، وتعمل لذاتها فنيًّا وثقافيًّا، وكذلك من الناحية الاقتصادية. أيضًا، يمكن العمل على التعاقد مع مؤسسات تجارية في كل منطقة سعودية تتولى العمل على تفعيل الجانب الثقافي والفني في هذه المنطقة أو تلك، ويكون العائد إليها اقتصاديًّا مع الاشتراط عليها تفعيل حتى الفن غير الربحي، وتكون تحت إشراف جمعيات الثقافة والفنون بوصفها مؤسسات رسمية تحتاج المؤسسات التجارية إلى العمل تحت مظلتها؛ وعلى ذلك يذهب عبء الجانب الاقتصادي عن جمعيات الثقافة والفنون، لتقديم أعمال فنية وثقافية معتبرة على مدى العام كاملاً، وتحويل الفنون والثقافة إلى جانب ترفيهي واقتصادي كبير.
إنَّ الثقافة والفكر والتنوير تُقدَّم كلها تحت شعار “النفع العام”، أو بالعامية (سبيل). أغلبنا لم يعتد أن أمسية شاعر أو مناقشة رواية بإمكانها أن تتحول لعمل استثماري أو أن تدرُّ أموالًا على صاحبها، ولو كنَّا كذلك لكانَ اقتصاد الثقافة ينافس اقتصاد البترول والغاز، ولما رأينا مثقفًا عربيًّا يعيش على هامش الحياة ويقتات الفُتات، فمن المعروف أن العمل الثقافي “ما يُؤكِّل عيشًا”؛ لذلك نحن لا نريد وظائف ثقافية مؤقتة تتكدس بها وزارة الثقافة، فالوزارة يمكنها دعم منح ثقافية وفق ضوابط شفافة تصل للأجدر، وتقيس المنتج بطريقة موضوعية ومن خلال العائد على الاستثمار والمجتمع والثقافة، فنحن لا نريد بطالةً ثقافيةً ولا تستُّرًا ثقافيًّا؛ نحن نبحث عن عمل ثقافي تنموي مستدام.
الثقافة اليومَ تصنع مجالًا كبيرًا للاستثمار، وبيئة العمل الثقافية سواء الاستثمار البشري بالتأهيل والتطوير، أو الاستثمار الاقتصادي الذي يأتي تبعًا لذلك، فكون برنامج الابتعاث الثقافي سيكون مُوجَّهًا بالدرجة الأولى إلى تخصص الموسيقى والمسرح وصناعة الأفلام والفنون البصرية وفنون الطهي؛ فمعنى ذلك هو تأهيل وتطوير الشباب في تخصصات مهنية ذات عائد مادي كبير عليهم وعلى البلاد. فمثلًا، صناعة الأفلام نجد أنها ستفتح مجالات كبيرة لكُتَّاب السيناريو، والمخرجين، وفنيي التصوير والصوتيات، والمنتجين، والديكور، والخدع السنيمائية… وهذه مجالات ذات بُعد عميق مع المستقبل، وآثارها ستمتد إلى جودة المنتج. الابتعاث الثقافي هو مشروع من نوع فاخر جدًّا، فبقدر ما هو نَقْل خبرة الآخرين إلينا، فهو أيضًا سيُعيد رسمَ الخريطة الثقافية للمملكة التي تعتني بالتنوُّع الثقافي في مختلف مجالات الثقافة والفكر والفنون؛ وذلك حتى نستطيع تقديم جملة متناغمة من المنتج الثقافي الجميل والمفيد والمثمر، الذي يُمثِّل كلَّ الأطياف والمجالات، ويجعل المهتم بالشأن الثقافي السعودي أمام خيارات متنوعة ومُبهرة. التنمية الثقافية جزءٌ من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال الإسهام المباشر وغير المباشر للقطاعات والأنشطة الثقافية في الحركة الاقتصادية، وفي الناتج المحلي والوطني والذي أصبح يُعرف بـ “الصناعات الإبداعية”، والحقيقة لدينا وفرة في المحتوى الثقافي الخام وعجز في الصناعة التجارية، وهذه مسألة تحتاج إلى ورشة عمل وطنية كبرى بقيادة “وزارة الثقافة”، فالأندية الأدبية اليومَ لا فائدةَ تجارية منها؛ لأنها تُدار بعقول أدباء لا تجار، وينسحب ذلك على جمعيات الثقافة والفنون ودور الترجمة والنشر، أما الصناعة السينمائية الوطنية فهي في حالة سُبات. ختامًا؛ بلا شك أن الوسط الثقافي السعودي اليوم بحاجة إلى مشروع صناعي ينقل المحتوى الثقافي الوطني للعالمية، ويدرُّ أرباحًا تُشجِّع رؤوس الأموال على الاستثمار فيه، والأفكار في هذا الباب كثيرة لكنها لدى التجار لا الأدباء والمثقفين، وكما أرددُ دائمًا “الممارس لمهنته لا يُنظم”.
التعقيبات:
التعقيب الأول: د. زياد الدريس
بتُّ دومًا، وبعد تجارب عديدة، غير قادر على إخفاء توجسي من لافتة: (صناعة الثقافة) أو اقتصاد الثقافة، إذ لا يطمئن قلبي إلى براءة الثقافة المقرونة بـ «الصناعة» أو «التجارة». أُدرك بأن ما أطلبه أقرب ما يكون إلى الجنوح الطوباوي العسير في هذا (العصر) المادي.
لقد عاشت كتلة من شعوب العالم فترةً من الزمن مضت تحت هيمنة نظام يسعى إلى تثقيف السلعة، أي حشوها مهما كانت بريئة وبسيطة وتلقائية بمفاهيم وشعارات تخدم (نظامًا) لا يترك شيئًا إلا أدلجَهُ.
وسقط ذاك النظام، وهيمن آخر (أو بالأصح: استفرد) بمفاهيم وشعارات تخدم (نظامًا) لا يترك شيئًا إلا استربح منه. فهو لا يُريد فقط أن يُحرِّر السلعة من الأدلجة ويجعلها سلعة فقط، بل زاد في نزعته السلعوية إلى درجة أنه يريد أن يجعل الثقافة أيضًا سلعة.
أي إننا انتقلنا من زمن تثقيف السلعة إلى زمن تسليع الثقافة، و«الثقافة» في كلتا الحالتين هي الضحية. ففي الحقبة الأولى كانت محشوة بمضامين فائضة، وفي الأُخرى فُرِّغت الثقافة من مضامينها المعرفية من أجل خدمة مضامينها الاقتصادية والربحية.
يكمن الصراع الذي يقلقني في الخيار الافتراضي بين ثنائية: الثقافة المنتجة للإبداع، أو الثقافة المدرِّة للأرباح.
تقول الدكتورة نوف في ورقتها: “بحيث يكون لدينا فنٌّ خالص وفن تجاري يرضي كافة أفراد المجتمع، بحيث لا يتغول الجانب الاقتصادي على الفن والثقافة، فيتحول إلى اللافن وإلى اللاثقافة. والشركات والمؤسسات التجارية يمكن أن تكون رافدًا للثقافة والفن في السعودية حتى ولو عاد عليها اقتصاديًّا، إلا إنه من المهم تخصيص جانب ونسبة محدَّدة للفن الخالص، أي الفن الذي لا يخضع للمجال التجاري البحت”.
لا شك أن هذه المحاصصة بين الفن الخالص والفن التجاري فيها الكثير من العدل المُطمئِن، لكن هل هي بالفعل صيغة قابلة للتطبيق؟ ولو تمَّ تطبيقها فعلًا، فمَن سيكون المستفيد الأكبر من الثقافة: مصانع الثقافة أم (صنايعيتها)؟!
أُدرك أن عناصر التراث الثقافي قد باتت الآن مصدرَ دخل سياحي للدول، وأن جزءًا ثابتًا من هذه العوائد يذهب لعمليات الحفاظ على الموروث وترميمه (للتراث المادي) أو صيانته من الانقراض (للتراث الشفوي). هذا أمر مقبول، بل واجب في سبيل الحفاظ على التنوع الثقافي للبشرية. الأمر غير المقبول هو العمليات التي تجري لتحويل المثقف إلى سلعة مُفرَّغة من عفويتها. لن يؤثر هذا التسليع على جودة الإبداع وتلقائيته عند المثقف فقط، ولكنه سيرتكب جريمة أشد بحق الثقافة، وهي صناعة التفاهة والتافهين. فالحسُّ التجاري للثقافة سيجلب إليها من هبَّ ودبَّ من المتسوقين. أعرفُ أن الثقافة “العفوية” لا تؤكِّل عيشًا، لكني أيضًا لا أريدُ ثقافة تُؤكِّل عيشًا متعفنًا.
التعقيب الثاني: د. منصور المطيري
إن عنوان (اقتصاد الثقافة) يحشر الناظر فيه بين موضوعين؛ الاقتصاد والثقافة، ليحتار هل هو يعالج موضوعًا اقتصاديًّا أو موضوعًا ثقافيًّا، وفي الوقت نفسه فإن الإضافة المتمثِّلة في المضاف (اقتصاد) والمضاف إليه (الثقافة) تكشف المقصود، وهو تحويل الثقافة إلى مورد اقتصادي مباشر، وأُكرر هنا مباشر؛ لأن الدارسين لحقلي الثقافة والاقتصاد يدركون عُمق العلاقة بينهما، بل إن أحدهما وهو الاقتصاد فرع عن الثقافة. ويُلاحظ أن ورقة د. نوف بدأت بتأكيد الطابع الهوياتي للثقافة، وهو أمر متفق عليه بين كلِّ المهتمين.
ومن هنا، فإني أُحبُّ أن تكونَ مشاركتي في هذا الموضوع حول الأطر التي يمكن أن تتحول بها الثقافة أو الهوية إلى مورد اقتصادي، وذلك بالتركيز على النقاط التالية:
أولًا: يظهر بشكل جلي جدًّا من هذا العنوان (اقتصاد الثقافة) الطبيعة المزدوجة له: الاقتصادية (خلق الثروة وفرص العمل)، والثقافية (إنتاج القيم والمعنى)، والواقع أن الثقافة التي هي سلوك وأفعال المجتمع اليومية مكوَّنة من جزأين أو عنصرين:
• الجزء المضمر أو المستتر أي العنصر الجوهري في الثقافة، وهو المعتقدات والقيم وما يتبعها من المعايير التي تساعد هذه المعتقدات والقيم في التشكُّل في شكل فعل وسلوك.
• والجزء الظاهر المتمثِّل في الإشارات والرموز والسلوكيات الظاهرة.
وتكتسب العلاقة بين الفعل الاجتماعي أو السلوك (ومنه السلوك الاقتصادي) وجوهر الثقافة الذي هو المعتقدات والقيم أهميةً ضخمة وفائقة الأثر، فالفعل أو السلوك دالٌّ على قيمة معينة؛ ولذلك فالإنسان – كما يقولون – مُعلَّق في شبكة من الدلالات بين المعتقد والسلوك. ومن هنا، فإن أيَّ سلوك اقتصادي يخصُّ الثقافة لا بد أن يكون مُعبِّرًا عن قيمة ومعنى، ودالًا عليها، كتعبير طبيعي وآلي عن الهوية، وهذا ما تفعله كلُّ الثقافات.
ثانيًا: يعتقد كثيرٌ من الاقتصاديين – إنْ لم يكن كلهم – أن الثقافة يمكن أن تتحول إلى مورد اقتصادي ضخم، إذا أُحسنت إدارتها، وهذا ما تعتقده وتعمل لترسيخه منظمة اليونسكو وغيرها. ومع ذلك، يُحذر البعض منهم من تسليع الثقافة وتحويلها إلى سلعة تلهث خلف ذوق الجمهور المتغير وغير المنضبط بمعنى أو قيمة، ويعتقدون أن مقاربة هذا الموضوع بلا حذر – كما يفعل الأمريكان – مُذيب للشخصية والهوية، وهذا ما فعلته بعض الدول الأوروبية كفرنسا فيما يخصُّ حفظ لغتها أمام طوفان الثقافة الأمريكية المجتاح للعالم. الفرق بين الاتجاهين هو في تغليب نسبة أحدهما على الآخر، أي هل نُعطي المعنى والقيم قيمة أكثر في المنتج الثقافي أم نُعطي الربحَ قيمةً أكثر فيه؟! ولعل هذا هو ما ألمحت إليه د. نوف في ورقتها، حينما تحدثت عن الفن الخالص والفن التجاري. الإشكالية إذًا هي في: كيف نجعل المنتج الثقافي دالًّا قيميًّا ومُربحًا اقتصاديًّا في نفس الوقت. هذه الإشكالية لا تعني أبدًا في أن نشكَّ لحظة واحدة في ضرورة الاقتصاد الثقافي، ولكنها تعني أن ننتبَّه إلى قضايا ذات طبيعة شائكة تحتاج منَّا إلى حلحلة وتفكيك قبل الانطلاق. المجتمع الذي لا يدخل الاقتصاد في ثقافته كعامل مُحرِّك لها مجتمع ميت وسلبي وغير مؤثر.
ثالثًا: إشكالية المعنى والربح السابقة تحتاج في حلِّها إلى مُخططِين إستراتيجيين كبار جدًّا ملتزمين بهويتهم، يدركون الحاجة إلى الفاعلية والنشاط والإبداع، كما يدركون أن الثقافة بمعناها الواقعي مُحرِّكةٌ ومُنظِّمةُ للبنى الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التعليمية وغيرها، بل هي الدافع الحقيقي للتنمية المستدامة. ولذلك لا بد أن تتمتع بصفتين أساسيتين: الثبات من جهة، والتجدد من جهة أخرى. ومن هنا، فإني أرى أن الدخول في عالم اقتصاد الثقافة لا يمكن أن يتم بلا رأي عام واعٍ، وبلا فعل سياسي واعٍ ومقتنع وملتزم؛ ومن هنا تأتي ضرورة بيئة العدالة والحرية المسؤولة والسلم الأهلي وغيرها من القيم الكبرى. ربط الاقتصاد بالثقافة جزء أساسي من التنمية الطويلة والمستدامة، وحتى نتفادى الإعياء التنموي – إذا صحت التسمية – فإن الانطلاق من خصيصتي الثبات والتجدد الثقافي حتمية لا بد منها؛ والسبب أن الدوافع والحوافز الذاتية لكل فرد تنطلق من هاتين الخصيصتين. فالانطلاق بلا ثوابت يُفضي إلى الإنهاك والتشتت والفشل وضياع الرؤية، كما أن عدم التجدُّد معناه الجمود والتخلف والاندثار.
رابعًا: إذا ركَّزنا على اقتصاديات الثقافة وجدناها تهتم بالجوانب الاقتصادية للأعمال الثقافية والفنية من أربعة جوانب: الإبداع، والإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك. كما تهتم في الوقت نفسه بطُرق وآليات استثمار التراث المادي وغير المادي. ولا شك أن شرط التقنية وأدوات التواصل الحديثة أصبح شرطًا ضروريًا للنجاح. هذا المفهوم لاقتصاديات الثقافة يجعل الإبداع والتجديد هو الأساس في الاقتصاد الثقافي بالشرط المذكور في الفقرة السابقة، ويكون التراث المادي وغير المادي رافدًا له. ومن هنا، فإن هناك خمسة أسُس كبرى لا مناص لأي سياسة استثمارية في مجال اقتصاديات الثقافة من الارتكاز عليها:
• الأساس الخاص بالهوية، وهو أساس حقيقي لا يمكن تجاهله؛ لأن موضوع الاستثمار هو الهوية نفسه. وفي هذا الجانب الاعتقاد أن المملكة تستطيع أن تكسب الكثيرَ جدًّا. فمثلًا، الاستثمار في تعليم اللغة العربية يمكن تسويقه بين مليارين من المسلمين. ومن ناحية أخرى، ففي هذا الجانب أيضًا يجب أن تتفادى السياسة بالذات الوقوع في فخ الاستقطاب الأيديولوجي بين التيارات. الهوية واضحة، والنظام الأساسي للحكم واضح.
• الأساس الحقوقي، لا بد من بيئة تشريعية وبيئة ملتزمة بالعدالة، ليأخذ أي مبدع أو مستثمر حقَّه دون خوف من ضياعه.
• الأساس الخاص بالبيئة الاجتماعية المتماسكة، الأعمال الثقافية والتكسُّب من ورائها يجب أن تُعطى أولية لبث مفاهيم تربوية تُجمِّع ولا تُفرِّق، وتُبرِز التعاضد أكثر مما تُبرز التنافر والأحقاد.
• الأساس الجامع بين الوطن وأجزائه. هناك ثقافة محلية تُمثِّل أجزاء الوطن، وهناك ثقافة تُمثِّل الوطنَ كله، فيجب هنا الابتعاد عن إلغاء الجزء؛ بل يجب أن تُقدَّم ثقافة الجزء كعنصر في ثقافة الكل.
• الأساس التقني والرقمي الحديث، لا يمكن أن ينجح اقتصاد الثقافة دون الإبداع في التقنية. وقد رأينا كيف استثمرت كوريا في هذا الجانب، وغزت العالم بثقافتها عن طريق التقنية.
خامسًا: اختارت وزارة الثقافة ستة عشر موضوعًا وأدرجتها تحت إحدى عشرة هيئة تحت إشرافها. وقد حددت أهدافها في ثلاثة أهداف: الارتقاء بالثقافة لتُصبح نمطَ حياة، والمساهمة في النمو الاقتصادي، وتعزيز مكانة المملكة دوليًّا.
وترتكز رؤيتها في نشاطها على أربعة مبادئ: التطوير، والرعاية، والدعم، والقيادة. هذه المواضيع تشير إلى اختصاص الوزارة بأشكال الثقافة ومنتجاتها التراثية ورموزها، وهو أمر طيب وجيد، وإنْ كنتُ أتمنى أن تُضَمَّ إليها هيئة الترفيه؛ لأنها أحد تجليات الثقافة. والحقيقة أن ما ركزنا عليه في هذا التعقيب هو جوهر الثقافة، فالمجتمع الذي يستطيع أن يستثمر في جوهر ثقافته وفي رموزها معًا هو مجتمع حيوي ومؤثر، ولا يمكن أن يتم الاستثمار فيه اعتمادًا على جهة واحدة، كما لا يمكن الاستثمار فيه بلا إبداع مُتناهٍ، وهذا ما نريده ونتمناه لبلدنا.
المداخلات حول القضية:
• ثنائية الاقتصاد الثقافي:
أشار د. عبد الله بن ناصر الحمود إلى أن كُلًا من “الاقتصاد” و”الثقافة” لم يعبرا منذ الحرب العالمية الثانية مرحلةً أسوأ مما هما عليه الآن. أما ثنائية “الاقتصاد الثقافي” فثنائية بائسة لم تكد تتبلور منتصف الثمانينيات الميلادية الماضية في نفعية رأسمالية صارخة، حتى عصفت بها كلُّ أحداث العالم من حولنا؛ بدءًا بتداعيات الثورة الإيرانية على عقد الثمانينيات، وانتهاءً بكوفيد 19. أربعون عامًا تقريبًا، بكل محطاتها الكبرى: الحرب العراقية الإيرانية، حرب الخليج، 11 سبتمبر، الحرب على الإرهاب، بكل توابعها في الخليج والشرق الأوسط والعالم على مستوى الصراعات الدولية والمنظمات المتطرفة وتذبذب الولاءات والبراءات، الخريف العربي، سقوط أنظمة عربية وشيوع الفوضى، حرب اليمن، ومقاطعة قطر، وشواهد أخرى تطول. والمفارقة المهمة في كل ذلك، أن التداعيات الكبرى للأحداث طالت مباشرة (بعد النسق الجيوسياسي) الاقتصادَ والثقافة، منفردين وفي ثنائيتهما، فماذا يمكن أن يكون قد بقي اليوم للحديث عنهما؟ إن العالم المعاصر يعبر مرحلة تشكُّل جديدة، وفقًا للمقولة الشهيرة (ما بعدُ كرونا ليس كما قبلها). وعليه، يُلاحظ في كثير من أطروحات الناس حول المجال الثقافي- الاقتصادي عندنا، أنها لا تزال تُعبِّر عن وهج مرحلة ما (قُبَيل) كورونا. فنحن (حديثو عهد) بتشكُّل ثقافي واقتصادي لمَّا تكتمل فصوله بعدُ. لقد فسخنا العقدَ مع “النفط”، أو أننا كدنا، كمصدر وحيد للدخل، واستبدلنا ثقافة “الصحويين” بثقافة مضادة في كل مكوناتها، فصرنا في حالين: أطلقنا عنانَ اقتصادنا المتاح للترويج للثقافة الجديدة، ومنحنا الثقافة الجديدة إمداد اقتصادنا بموارد دخل عظيم؛ لكن الزمن – كما يبدو – لم يُمهلنا. فما كدنا نبدأ في ثنائيتنا للاقتصاد الثقافي، حتى حلَّ كوفيد 19 سيئ الذكر، ليُعيدنا والعالمَ معنا لأجواء العقد الثاني من القرن العشرين، يوم اجتاحت العالم الإنفلونزا الإسبانية. وليس سهلاً أبدا أن تتحفز للقفز، فتجد نفسك فجأةً مجذوبًا للوراء قرنًا من الزمن، هكذا دون سابق استعداد. والأمر لا يزال رهنَ المفاجآت، وتحديدًا فيما يهمنا هنا، في مجالي الاقتصاد والثقافة. فالنفط مشدوهٌ.. في سابقة كونية وصل سعره فيها إلى (-40)، وبعد تعافيه يتشبث بال (40) دون أن يصلها. والثقافة تسحب جُلَّ ميزانياتها لتعزيز الكيانات الصحية والأمنية في مواجهة كورونا. ويتنادى الناس بأهمية الادخار، بعد أن تنادوا للبذل في حصالات الثقافة، وبالتباعد والبقاء في البيوت بعد تناديهم للمنتديات والتجمهرات. وبالتالي، يبدو الحديث عن “الاقتصاد الثقافي” في ظل هذه الظروف العالمية والمحلية، من فضل الكلام. فكل قواعد الفعل الاقتصادي والثقافي التي عهدناها وعايشناها في الأربعين سنة الماضية، إلى زوال. وسنشهد عالمًا مختلفًا تمامًا، له قواعده وأسُس العيش فيه، وله معاييره الاقتصادية والثقافية التي لم نشهدها من قبلُ قط.
ومن ناحيته يرى د. خالد الرديعان أن هناك مع ذلك جوانب ثقافية يمكن أن تكون مُدِرَّة للدخل ولها جانب اقتصادي، يأتي على رأسها ما يمكن أن “يكون ثقافة وفي الوقت ذاته ترفيه” كالنشاط المسرحي على وجه الخصوص؛ ما يعني ضرورة العناية بهذا المجال والنهوض به. وجود مسارح في كل مدينة لعرض أعمال لفرق محلية وفرق أجنبية يتم استضافتها سيكون بلا شك جالبًا للدخل؛ بحيث لا تكلِّف الدولة مبالغ؛ فالجمهور سيدفع كجزء من نشاطه الترفيهي. كما أن المزادات العلنية للوحات الفنانين والفنانات التشكيليين السعوديين قد تكون مجالًا آخر للدخل بحكم أن لدينا عددًا كبيرًا من الفنانين والفنانات، وبعضهم مغمور بسبب غياب المنصات الإعلامية والجهات الرسمية التي تدعمهم وتُبرِز أعمالهم. والاعتقاد أنه لو عملنا مسحًا بسيطًا لشريحة من الجمهور وسؤالهم عن أهم رسام سعودي أو رسامة سعودية، فإننا قد نُصدم بعدم معرفتهم بأهم الأسماء في هذا الميدان. وعمومًا، فمزادات اللوحات الفنية ستكون وسيلةً مناسبةً بهذا الخصوص؛ لوجود عدد كبير من الأسر والأفراد لديهم رغبة في اقتناء أعمال محلية وذلك بشرائها والاحتفاظ بها كما تفعل الدول الأخرى. بهذا الأسلوب سنُوفِّر للفنانين مصدرَ دخل مناسب، فضلاً عن الترويج للفن التشكيلي السعودي كنوع من الدبلوماسية الناعمة. أيضًا، فإن من المصادر الأخرى التي يمكن أن تكون مُدِرّة للدخل شركات الإنتاج الفني، لتمكين المطربين والمطربات من تسجيل أعمالهم مع هذه الشركات دون أن يخضعوا للاحتكار الذي يمتد لعدة سنوات كما تفعل الشركات الخاصة. والمقترح هو إنشاء شركة إنتاج فني غنائي تقوم عليها وزارة الثقافة بحيث تبيع منتجاتها للقنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية ووكلاء بيع الأسطوانات الفنية (CD). ومن الأنشطة الثقافية التي يمكن أن تكون مُدِرّة للمال المهرجانات السينمائية السنوية؛ بحيث يكون هناك مهرجانٌ سنوي للأعمال المحلية والعالمية على غرار مهرجان “كان السينمائي”، ولعلنا بدايةً نتوجه للأعمال المحلية بغرض تشجيعها والنهوض بها. هذا النوع من المهرجانات سيُنعش سوقَ الكتَّاب والمخرجين والسيناريست وفنيي الديكور والتصوير، وبالطبع الممثلين والممثلات. ويتم رَصْد جوائز قيمة للأعمال المميَّزة، تأتي من الإعلانات ومن الرعاة. وجميع ما ذُكِر أعلاه يدخل ضمن “ثقافة الترفيه” التي يمكن أن تكون صناعةً ذات مردود اقتصادي مفيد.
ويرى أ. محمد الدندني أن ما سُمِّي بالاقتصاد البنفسجي هو عامل مساعد وليس مستقلاً بذاته، إلا أن المقصود مدى إمكانية رسملة التراث أو الاستثمار في التراث، فهنا نعتبره نشاطًا اقتصاديًّا. إنَّ الثقافة الرصينة ربما تُعطي دعمًا للاقتصاد كنوع من الهوية المميزة والمحبوبة لدى العالم، وإنْ لم يكن هذا المقصود، فما هي عناصر الثقافة التي يمكن أن تُشكِّل اقتصادًا؟
وذكرت د. نوف الغامدي أن مصطلح الاقتصاد البنفسجي ظهر حديثًا، وهو لم يكن موجودًا كمصطلح؛ ولكن الدور الكبير الذي لعبته الثقافة في جلب المستثمرين دفَع العديدَ من المدن إلى مضاعفة الاهتمام بدور الثقافة في سياسات التنمية، والتركيز على هذا النوع من الاقتصاد. والحقيقة ورغم تأخُّرنا إلا أن ما نملكه من إرث ثقافي يدعونا بقوة إلى تفعيل هذا الاقتصاد، وهو ما تنبَّهت له المملكة مؤخرًا على يد أميرها الطموح محمد بن سلمان؛ من خلال أدوار وزارة الثقافة وهيئاتها والهيئات الملكية للمدن، والتي لها أنشطة ثقافية تنموية مهمة. الثقافة ذات قيمة اقتصادية عالية، تتجلى في إحياء مهن ترتبط بالثقافة المادية وغير المادية، وفي توفير فرص العمل، كما هو ظاهر في التوجُّه العالمي نحو توظيف الثقافة المحلية وتطويرها من قِبل الجهات الرسمية وغير الرسمية، خاصة في المملكة التي تحفل بتراث عريق، يمكن استثماره في استقطاب المزيد من الراغبين في التعرف إليه. كذلك فإن المفهوم الأشمل لعملية التنمية الشاملة، يكون فيها دورُ العامل الثقافي ليس أقلَّ أهميةً من العامل الاقتصادي، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف لا بد من دمج البعد الاجتماعي للتنمية مع البعد الاقتصادي، في عملية التنمية الشاملة. وهو ما يتطلب ضرورة إحياء التراث الوطني، وتشجيع الابتكار، وتعزيز التفاعل بين المجتمعين الحضري والقروي، والعمل على إدخال تدريس مادة التنمية الثقافية في مناهج التعليم العالي؛ ليكون خريجو الجامعات على معرفة بمعنى وأهمية هذه التنمية. ومن المهم التوضيح بأن الأسس الإستراتيجية للاستثمار الثقافي في التنمية السياحية تقوم على تنمية التراث الثقافي والاستفادة من قيمته الاقتصادية؛ سواء من حيث توفير فرص العمل، أو إحياء المهن والحرف التقليدية، أو جذب الاستثمارات ورؤوس الأموال. لذلك، لا بد أن نُركِّز على مفهوم “اقتصاديات التراث”، فهي مفهوم شامل يختصُّ بحياة المورد التراثي وإدارته.
من ناحيته، ذكر د. عبد الله بن صالح الحمود أنه في العام 1989، كتب الأسترالي ديفيد ينكين مقالًا بعنوان (المدن الإبداعية)، وأشار إلى أهمية أن تكون المدن حاضنةً للإبداع، وتقوم الفكرة على ثلاثة محاور، وهي:
• إعطاء مساحة أكبر للإبداع في كل مكان.
• تحفيز الناس على التفكير.
• إيجاد طرق إبداعية لحل أي معوقات عمرانية.
من هنا يتبادر للأذهان تساؤل، وهو: هل بالإمكان فَصْل الثقافة والإبداع عن الاقتصاد؟ الإجابة هنا غير المباشرة تُؤكِّد أن هناك مُدنًا قامت ونهضت شهرتها الأساسية على الاقتصاد، واحتلت مراكز تصنيفية كمدن ثقافية؛ وهو ما يدل على أن الثقافة هي القاعدة الأساس وأداة مؤثرة لمنطلقات عدة في الحياة ومن ذلك الاقتصاد؛ مما ينتج من ذلك دعائم اقتصادية، أهمها توافر فرص عمل ومداخيل مالية لمنتجات ثقافية كالمسارح والسينما والمزادات الفنية. وفي الوقت نفسه، فالثقافة عامل مؤثر في العامل النفسي على سكان المدن، من خلال تكوين أعمال فنية، كالمجسمات والأعمال الإبداعية التي تُعطي السكانَ الإلهامَ والسعادة. فالثقافة هي مجموع العقائد والقيم التي يمتثل لها أفراد المجتمع، بل هي روح الأمة وعنوان هويتها، وتعَدُّ من الركائز الأساسية في بناء الأمم وفي نهوضها، ولكل أمة ثقافةٌ تستمد منها عناصرها ومقوماتها وخصائصها، وتتمثل أيضًا بصبغتها، فهي من ذلك تُنسب إليها، داعمة في ذلك قوة روحية تحافظ على الوحدة والانسجام الاجتماعي. كما أن الثقافة تُعبِّر عن القدرات الحسية الخفية، فضلاً عن المفاهيم غير الملموسة التي تؤثر تأثيرًا عميقًا في الوجود المادي والواقع الملموس، إنتاجًا وحياةً للإنسان، مُحقِّقة تشجيعَ الإنسان لأحلامه وطموحه. هنا، حقَّ القول إن الثقافة وهي أصل العولمة، قد لعبت دورًا كبيرًا في جَعْل العديد من مناحي الحياة بين عقول وأيدي البشرية، فمن ذلك تسخير الدور الاقتصادي الذي هو عصب الحياة، مما أضحى أن تكون الثقافة تتربع وتقود السياسيات التنموية تحقيقًا لتنمية مستدامة؛ ولهذا من الأهمية بمكان العناية برأس المال الثقافي، وفي مقدمته التراث المادي واللامادي، يُضاف إلى ذلك وجوب دمج البعد الاجتماعي للتنمية مع البعد الاقتصادي؛ لتكوين تنمية شاملة.
وذهب د. راشد العبد الكريم إلى أن اقتصاد الثقافة فرعٌ عن اقتصاد المعرفة الذي نشأ من عقود، وأُطلق عليه (الموجة الرابعة). وقد بدأ الاهتمام به في المملكة تمشيًا مع الرؤية التي ركَّزت ضمن محاورها على الجوانب الثقافية باعتبارها بُعدًا من أبعاد القوة الناعمة. وفي هذا السياق، يمكن التأكيد على عدد من النقاط التي وردت في الورقة الرئيسة والتعقيبات:
1- لا جدال في أهمية الثقافة، وأنها في حد ذاتها وبطبيعتها ذات بعد اقتصادي، وإنْ كان ليس بالمفهوم المادي الاستهلاكي.
2- المبالغة والاستعجال في (قصدنة) الثقافة قبل إنضاجها وإعادة إنعاش جذورها قد تجعل حياتَها حياةً (بلاستيكية)، مظهرها برَّاق لكنها هامدة؛ لأنها تستمد قيمتها من مظهرها لا من رموزها ومعانيها وطبيعتها، لأن جذورها بالية. وأهمية الإشارة لذلك أن الفعل الثقافي يستمد قوته ووهجه، وبالتالي قيمته وأثره لدى الآخرين، من البيئة التي يرتبط بها وتضرب جذوره فيها، ومن الهوية التي يستمد حياته منها.
3- إن الثقافة قيمتها الأساسية في رمزيتها ومعانيها، والقيم التي تُمثِّلها أو تقف عليها.
4- ثمة اتفاق مع القول بأن إشكالية الموازنة بين المعنى والربح/ الثقافة المبدعة والثقافة المربحة، أو ما يُمكن أن نطلق عليه (ثقافة القيمة) و(ثقافة الثمن).
5- اللغة العربية أدبًا وفنًّا وتعليمًا (ونَشْرًا) تُمثِّل بُعدًا ثقافيًّا لم تستثمره المملكة. والتصور أنه أكثر الحقول الثقافية عندنا نُضجًا، وأوفرها فرصةً وأكثرها عائدًا اقتصاديًّا.
6- للتمهيد لاقتصاد الثقافة، فإننا بحاجة إلى مشروع لـ (صيانة الثقافة). مشروع يقوم على معايير وأسُس واضحة ورؤية إستراتيجية لتكوين ثقافة مربحة وليس اقتصادًا يتخفى بلباس الثقافة.
وتساءل م. إبراهيم ناظر: هل من أرقام وبيانات وإحصاءات ومقارنات مع بقية أفرع الاقتصادات الأخرى، للركون إليها كمؤشرات لنمو واستدامة اقتصاد الثقافة؛ مما يُحفِّز المستثمرين ويُشجِّعهم؟ بحيث لا يُنظر إلى الموضوع على أنه نوعٌ من المسؤولية الاجتماعية تجاه الثقافة والتراث الوطني؛ فأي مستثمر مهما بلغت وطنيته ينظر إلى العائد عليه من الاستثمار في أي نشاط أو اقتصاد كان.
وفي هذا الصدد أشارت د. نوف الغامدي إلى أن المؤشر المُبيَّن بالشكل التالي والذي بدأ عام 2015، يناقش القوةَ الناعمة اعتمادًا على 6 مؤشرات، من ضمنها الثقافة:
أيضًا، فقد ذكرت د. نوف الغامدي أنه لا توجد حتى الآن دراسات إقليمية حديثة حول هذا الموضوع ولا أرقام دقيقة، فهو من الألوان الاقتصادية المستحدثة، ولكن يمكن الرجوع إلى بعض البيانات حول الاقتصاد الأمريكي (كمثال) وأثر الثقافة والفنون عليه، كما يتبين من الأشكال التالية:
وذكر أ. لاحم الناصر أن الثقافة تعتبر مصدرًا قويًّا للقضاء علـى الفقـر، آخـذين في الاعتبـار أن الصـناعات الثقافيـة والإبداعية هي من بين أسرع القطاعات الاقتصادية توسُّـعًا في البلـدان الصـناعية والبلـدان الناميـة على حد سواء. ووفقًا للبنك الدولي، سوف تساعد الثقافة على الحدِّ من النسـبة المئويـة للسـكان الذين يعيشون على أقل من 25.1 دولار في اليوم إلى 3 في المئة بحلـول عـام 2030. ووفقـًا لمـا جاء في الطبعة الخاصة لعام 2013 لتقرير الاقتصاد الخـلَّاق، فـإن مـا يقـرب مـن ٥ في المئـة مـن الناتج المحلي الإجمالي للإكوادور، و7.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمـالي للبوسـنة والهرسـك، و4.3 في المئـة مـن النـاتج المحلـي الإجمـالي لكولومبيـا، و5.1 في المئـة مـن النـاتج المحلـي الإجمـالي لكمبوديـا وغانــا – يــأتي مــن الأنشطة الثقافيـة في القطــاعين الخــاص والرسمــي. وتحتــل الصــناعات الثقافيـــة والإبداعيـــة (القطـــاع الســـمعي- البصـــري، ووســـائط الإعـــلام الجديـــدة، والفنـــون الاستعراضية، والنشر، والفنون البصرية) مركـزًا حيويًّا ضـمن الاقتصاد الإبـداعي، إذ تُوِّلـد نطاقًا واســعًا مــن فــرص العمــل. ففــي الأرجنــتين، يعمــل نحــو 300000 شــخص في فــرص العمــل الإبداعي، وهذا يُمثِّل 5.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي المغـرب، يُمثِّـل العمـلُ في قطـاع النشـر والطباعـة نسـبة 8.1 في المئـة مـن إجمـالي القـوة العاملـة، ويعـود بـدخل يزيـد علـى 370 مليون دولار. (تقرير منظمة الأمم المتحدة، الثقافة والتنمية المستدامة).
• إيجابيات وسلبيات تسليع الثقافة “الاقتصاد الثقافي”:
يرى أ. د. عثمان العثمان أن تسليع الأشياء يُعطيها قيمةً لدى المتلقي، أكثر من المجانية في العموم. وهذا جانب إيجابي في تسليع الثقافة. كما أن ثمة جانبًا إيجابيًّا آخر للاقتصاد الثقافي باعتبار أن التوظيف المتزن للاقتصاد في الثقافة سيساعد حتمًا على حفظها من الاندثار من خلال التوثيق والانتشار. تعاني ثقافتنا من ضعف التوثيق في جوانب كثيرة، وقد يكون الاقتصاد هو المنقذ! إلا أنه في المقابل، ثمة سلبيات تنطوي عليها عملية تسليع الثقافة لا سيما من جانبين:
• الاحتكار المُبالَغ فيه، المنتهي إلى الجشع. إنَّ فكر المثقف وإبداع الفنان أولى بالحماية، فالحقوق الفكرية للمثقف والناشر ضرورية، مع ملاحظة عدم التأثير السلبي على انتشار الثقافة بسبب مبالغة الأسعار. وهنا نبحث عن الخيط الرفيع بين حقوق المؤلف والناشر، والوصول للمتلقي المستهدَف.
• تسليع التفاهة، بدعوى رغبة المتلقي. وهنا نقع في حرج اتهام المتلقي بتدني ذائقته وضياع هويته، أو نخبوية المثقف.
واتفق د. خالد الرديعان مع ما أشار إليه د. زياد الدريس من هواجس حول مسألة تسليع الثقافة وأدلجتها والتعامل معها كمنتج قابل للعرض والتسويق والتصدير وجذب الزبائن؛ بحكم أن الثقافة عمل إبداعي قد لا تحكمه شروط السوق كسائر السلع الاستهلاكية.
وأكد د. مشاري النعيم على أن الثقافة أصبحت بالفعل أحدَ أهم مصادر الاقتصاد، وإذا ما اعتبرنا السينما والموسيقى والفنون التشكيلية أعمدة تُمثِّل بعض الجوانب الثقافية الاقتصادية، كذلك يمكن اعتبار العمارة والتراث في جانبيه المادي وغير المادي مجالات اقتصادية مهمة. وفي هذا الصدد، فقد أجرت هيئة السياحة سابقًا دراسة بالتعاون مع البنك الدولي على المردود الاقتصادي للتراث الثقافي، وأكدت الدراسة أن كلَّ دولار نصرفه على تطوير البنية التحتية للتراث سيكون هناك ٣ دولارات مقابله كعائدات. كما أن العمارة بحضورها الثقافي العميق عادةً ما تُمثِّل مرتكزًا أساسًا يُعيد تعريف المدن مثل مبنى متحف بلباو في إسبانيا، الذي يقوم اقتصاد المدينة على زوَّاره، ليس كمتحف بل كمبنى. والمفروض أن الثقافة تكون مصدرًا للدخل وليس للإنفاق؛ لذلك عندما تُوجَّه الثقافة إلى تغيير البنية الاقتصادية من خلال التركيز على النوع وليس الكم، سوف تتحول إلى مجال مُنتِج. وبالطبع، هناك مجالات ثقافية هي بطبعها مجال إنفاق، ولكن يجب أن تساندها مجالات أخرى للدخل؛ فمثلاً، المتاحف في جميع أنحاء العالم هي مجالات إنفاق، لكن يمكن أن تعمل المتاحف على تطوير مجالات دخل غير مباشرة من خلال تطوير منتجات مرتبطة بمقتنياتها وبيعها للجمهور، بل وتصديرها. إن المتاحف مرتبطة بالحرف بشدة، إضافة إلى كونها مجالًا للتواصل الاجتماعي/الثقافي الذي يمكن أن تتطور حوله نشاطات اقتصادية. كذلك هناك مصطلح يُسمَّى “السياحة الثقافية”، وهذا المصطلح عقدت حوله منظمة السياحة العالمية واليونسكو أول مؤتمر في كمبوديا عام ٢٠١٦، وكان يهدف إلى الموازنة بين الثقافة والاقتصاد في مجالات السياحة حتى لا يطغى الاقتصاد على الثقافة. أما بالنسبة للعمارة، فلنا أن نتخيل الدخلَ السنوي لقصر الحمراء وتاج محل.
بينما يرى د. عبد الله بن صالح الحمود حول مسألة التحفُّظ أو التخوُّف من تسليع الثقافة، أن ثمة مبررًا لذلك التحفُّظ أو الخوف، فهما شأنان لا يمكن لهما أن يتصارعا لينالا الإشادة بمَن هو الأقوى، أو للوصول لتبيان صورة ممَّن هو أعلى في الميزان؛ والعكس صحيح، حيث إنهما مسلكان لا يمكن لأي منهما أن يدعم الإنسانيةَ لوحده، فهما شأنان مؤديان إلى تكامل، فلا يمكن حدوث تكامل بأحدهما دون الآخر؛ فلا الثقافة ستعطي وتثري دون اقتصاد يسندها، ولا الاقتصاد هو الآخر يمكن له بناء مقومات دون ثقافة تجلب له فكرًا وتنمية بشرية.
وطرح أ. عبد الرحمن باسلم تساؤلًا مؤدَّاه: هل من الممكن حَصْر السلع الثقافية من حيث ماهيتها وعمرها الزمني؟ هل هي تخصُّنا فقط أم نشترك مع دول أخرى فيها؟ وماذا نُريد أن نُظهر للعالم؟ وكيف تصبح موردًا ماليًّا؟ وهل نحن نقصد بالثقافة ثقافة الأرض ومَن عاش عليها ومرَّ بها عبر العصور؟
وفي هذا الصدد أوضح أ. لاحم الناصر أن المنتجات الثقافية لا يمكن حصرها، لكن من أهمها المتاحف والآثار والمسرح والسينما والموسيقى؛ وكمثال في فرنسا: ومع تراجع العوائد المالية الثقافية خلال العقدين الأخيرين، إلا أن الثقافة لا تزال تسهم بما يناهز 2.2% من الناتج المحلي الفرنسي، لتنافس بذلك صناعات فرنسية واعدة كصناعة السيارات وغيرها، وهي تساهم أقل من قطاعات أساسية في فرنسا كالمطاعم والمقاهي والفنادق، ويزيد الناتج الإجمالي الثقافي في فرنسا عن ٤٤ مليار يورو سنويًّا، في حين لا تنفق الدولة سوى ١٣ مليار يورو لدعم العمل الثقافي (تقرير إذاعة مونت كارلو).
وذكرت د. نوف الغامدي أن المنتجات الثقافية متعددة، وهي كل ما يُمثِّل الثقافة المحلية من فنون شعبية وموسيقى وصناعات محلية وممتلكات جغرافية والأكلات الشعبية والفنون الفلكلورية وغيرها، وهي ترتبط بكل تأكيد بثقافة الأرض، ولا يوجد عمر زمني لها؛ بل هي ممتدة مع تطوُّر الأجيال.
ومن ناحيتها ترى د. زينب الخضيري أن أيَّ محتوى له طابع ثقافي أو يُحيل لمضامين ترتبط بالثقافة بمفهوم الثقافة الواسع، ولا بد أولاً من تحديد تعريف الثقافي. كما لا بد من رسم هوية ثقافية وعلامات دالة عليها، ووضع خطط اقتصادية واجتماعية لتحويلها إلى صناعة؛ فإذا لم تتحول الثقافة إلى صناعة اقتصادية، فلن ينجح تسويقها أو حتى الحديث عن جدوى ذلك. الثقافة الأمريكية (كمثال) أتت على شكل منتجات اقتصادية متنوعة (منتجات استهلاكية وأطعمة… إلخ)، وميديا (سينما أنيميشن وروايات وكتب موسيقى… إلخ) لها مردود اقتصادي مربح.
وأشار د. حميد الشايجي إلى منتج يمكن إنشاؤه وتسويقه، وهو القرى التراثية الثابتة الدائمة التي من الممكن أن تكون مزارًا ووجهةً سياحية دائمة (على غرار قرية الآميش وغيرها)، بحيث يتم إنشاء ١٤ قرية تراثية على عدد مناطق المملكة بمواصفات عالمية راقية من ناحية الخدمات (المعاقين/ كبار السن/ الأطفال) بحلة تراثية ثقافية محلية، يتولى تصميمها وتنفيذها جهة إشرافية واحدة تتبع لوزارة الثقافة؛ للتأكد من تطبيقها لمواصفات ومعايير الجودة المعتمدة، تعرض ثقافة المنطقة في مُتحف ومسرح ومعارض متخصصة تعكس ثقافة المنطقة، ويكون هناك رسوم دخول، ويُدير هذه القرى التراثية القطاع الخاص وَفْق معايير تضعها وزارة الثقافة، ويشرف على تنفيذها وتشغيلها فرع الوزارة في كل منطقة. والمنتج الثاني هو القرية التراثية في الجنادرية بحيث يتولى تطويرها وتشغيلها القطاع الخاص، وتكون مدة تشغيلها ما بين ٦ إلى ٩ أشهر في العام. بحيث أيضًا تكون مزارًا ووجهةً سياحية للاطلاع على تاريخ وثقافة المملكة. هذا بالإضافة إلى تسويق المهرجانات الثقافية.
وذهب د. عبد الإله الصالح إلى أنه وعلى نحو أكثر تحديدًا، يمكن تناول المنتج الثقافي في ضوء العناصر التالية:
1- المحتوى: وهو محل المواهب والابتكار والخَلْق، فيه الكتابة والإخراج والإنتاج والتصميم وغير ذلك من فنون خلق المحتوى. وتتميز الثقافة رقيًّا وثراءً بالمحتوى ونوعه وكمه؛ منها ما يمكن أن يكون مصدرَ دخل وتكسُّب تجاري يجذب الرعاة ويكون قابلًا للتسليع التجاري، ومنها ما لا يمكن أو يليق أن يكون كذلك لحمايته من الشعبوية.
2- التوزيع والنشر: وهنا تكمن آليات السوق من مؤسسات إعلامية وإنتاج وصحافة ووسائل ترفيه ومسارح، وهذا مجال يحتاج لنوع من التشجيع والرعاية والتنظيم، وهو عنصر أساسي في الثقافة والتأثير والانتشار.
3- الرعاية والاحتضان: تقوم بهذا العمل الحساس أنواع من المؤسسات؛ إما على أساس المسؤولية التعليمية مثل دور التعليم والبحوث والتطوير، أو على أساس مصالح تجارية ومسؤولية اجتماعية.
4- الاستهلاك: هنا محل التأثير الحقيقي للثقافة ومنتجاتها، لتقود لبيئة حية ومجتمع حيوي، وفضاء نشط يقود للمزيد من الإبداع والابتكار والتعايش.
5- البيئة التنظيمية والنظامية: وهي بشكل أو آخر القنوات الذي تُنظِّم الثقافة وشبكات إنتاجها وتوزيعها، ورقابة قيم المجتمع عليها.
هذه العناصر والمكونات تختلف عن بعضها البعض في الطبيعة والمصالح والدوافع. ومشروع الثقافة لكي ينجح لا بد له من خدمة هذه المكونات بتوازن، للوصول لبنية تحتية للثقافة تُتيح فضاءً حُرًّا للعمل بأقل قدر من العرقلة والتدخل والسطوة أو التوجيه.
وأشارت د. الجازي الشبيكي إلى أنه جاء في التوجُّهات الرئيسة للرؤية في هذا الخصوص فيما يتعلق بمحوري الاقتصاد والثقافة: الارتقاء بالثقافة لتُصبح نمطَ حياة، والإسهام في النمو الاقتصادي، وتعزيز مكانة المملكة دوليًّا. ومن المبادرات الأولى التي أنشأتها الوزارة إقامة 11 هيئة، كلٌّ منها مسؤول عن تطوير قطاع محدَّد من القطاعات الثقافية المختلفة؛ تنظيمًا وتطويرًا وتنسيقًا وتشجيعًا وتحفيزًا. ولا شك أن هذا التوجُّه يُعدُّ توجُّهًا إيجابيًّا لصالح ترسيخ وتدعيم المجال الثقافي الثري جدًّا في بلادنا، وفي الوقت نفسه يمكن إلى حد كبير استثماره اقتصاديًّا لمصلحة العاملين والمتخصصين والمهتمين في هذا القطاع، وصالح اقتصاد البلاد بشكل عام. إنَّ التنوع الثقافي الغني بمكوناته المتعددة وبمختلف مناطق المملكة، يعَدُّ عاملًا مهمًّا يدعم أيَّ توجهات استثمارية اقتصادية إذا تمَّت وفق رؤية شمولية مدروسة ومتكاملة، وبخطط طويلة المدى، وبمشاركة المؤسسات التربوية والتعليمية بمراحلها المختلفة وكذلك المراكز العلمية والثقافية، إلى جانب الاستفادة من التجارب الخارجية الناجحة في البلدان التي سبقتنا في هذا التوجُّه. إنَّ علاقة الاستثمار الثقافي بجوانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية تكاملية، تتيح الفرصة للثقافة لتسهم بشكل فاعل في تعزيز الاقتصاد الوطني. ولو أخذنا القطاع التراثي على سبيل المثال، وكيف كان من الممكن أن يُستفاد من مهرجانات الجنادرية طوالَ السنين الماضية بشكل أكثر تنظيمًا واحترافيةً واستدامة؛ لحقَّق هذا الأمر عائدًا اقتصاديًّا كبيرًا، وأسهم في الوقت نفسه في عدم اندثار هذا التراث الغني بمختلف مكوناته. ومثال آخر، سوق عكاظ الذي تتطور فعالياته كل سنة عن السنة التي تليها، يمكن أن يكون مجالًا استثماريًّا للثقافة والاقتصاد في آن واحد، ليحاكي أهمَّ المهرجانات المتميزة على المستويين العربي والعالمي. إنَّ الدور الذي يمكن أيضًا أن تؤديه الثقافة لجلب المستثمرين لقطاع الأزياء التراثية في بلادنا، دورٌ مطلوبٌ ومهم وذو عائد اقتصادي غير قليل في ظل التنوُّع الكبير للأزياء التراثية في مختلف مناطق المملكة. كما أن الاستثمار الثقافي في المجمل له مردوده الثنائي / ثقافةً وربحًا من خلال تسويق العطاءات والإبداعات الفكرية والمهارية للناس في المجال الثقافي المتنوع، واستثمارها الاستثمار الأمثل لتحقيق الصالح العام وفق القيم الجمالية الإنسانية والهوية الوطنية المنشود ترسيخها.
وذهب أ. فهد الأحمري إلى أن التنافس على الموارد هو سلوك بشري أزلي على ما فوق الأرض وما تحتها، ومنها الثقافة. ولكون رؤية 2030 تهدف إلى تنويع الموارد؛ فالثقافة الاقتصادية ستخلق رافدًا مهمًّا في هذا الشأن. لو نظرنا إلى جانب واحد يسير، وقد يكون أصغرها وهو المطبخ السعودي، والذي يمتاز بتنوُّع كبير بين مناطق المملكة الثلاث عشرة، وقد تتنوع الأكلات الشعبية في نفس المنطقة الواحدة في تشكيلات مختلفة على نحو قد لا نجده في بلد آخر. إن تجربة كوريا الجنوبية التي أضحت ثقافتها عابرةً للقارات بعد أن كانت غارقةً في المحلية، جديرةٌ بالاهتمام. نستطيع ملاحظة نشاط كوري ملموس في صناعة المظهر الشخصي والفني والأزياء وخلافها. اقتصاد الثقافة في كوريا توجَّه لإعادة تدوير المظهر الشخصي كمنتج ثقافي، فـ “سيول” اليوم غدت إحدى عواصم الفن والموضة. نستطيع نحن كذلك تدوير الثقافة العالمية المشتركة من خلال وضع بصمتنا الخاصة بما يتوافق مع قيمنا ومبادئنا العريقة.
وفي تصوُّر د. رياض نجم، فإن الثقافة لا يمكن أن تكون سلعةً تجاريةً نستهدف من ورائها الربح. يمكن تفهُّم أن تكون الخدمات الثقافية بمقابل، لكن ليس بغرض الربح والتكسُّب؛ وإنما لصيانتها وتطويرها، وخدمة قطاعات ربحية أخرى وتحديدًا قطاعي السياحة والترفيه، اللذين يمكن أن يكونا ربحيين دون خلاف على ذلك. نلاحظ في الدول التي لديها كمٌّ هائل من المتاحف والمعارض، يكون الدخول لها إمَّا مجانًا (مثل بريطانيا) أو رمزيًّا مثل كثير من الدول الأوروبية (يُستثنى من ذلك المعارض الخاصة). مَن يزور هذه المتاحف يخدم اقتصاد تلك الدولة بطريق غير مباشر في قطاع الفنادق والنقل والأطعمة، وما إلى ذلك. هذه القطاعات التي استفادت ليست الثقافة بذاتها، لكنها السياحة والترفيه بشكل أساسي. وفيما يتعلق بالسينما والإنتاج المرئي والمسموع كصناعة، فلا يمكن أن نعتبرهما منتجًا ثقافيًّا فقط، وإنما هما منتج تمتزج فيه الثقافة مع الترفيه والسياسة وغير ذلك؛ ومن ثَمَّ يمكن أن يكون منتجًا هادفًا للربح. والخلاصة أن المنتجات الثقافية من الممكن أن تكون داعمًا قويًّا للاقتصاد من خلال دعمها غير المباشر لقطاعات الاقتصاد الأخرى، لكن ينبغي أن لا نُحوِّل هذه المنتجات إلى سلع نهدف من ورائها للربح المادي المباشر.
• الاقتصاد الثقافي على الصعيدين المحلي والعالمي: رؤية استشرافية:
يرى د. عبد الله بن ناصر الحمود أن المشكل الأهم في أدبيات “الاقتصاد الثقافي” اليوم، هو أن العالم لم يعرف كيف يواجه كورونا ذاته، حتى يمكنه التنظير لاقتصاد وثقافة ما بعد كورونا. وبالتالي، قد تساعد بعض الإستراتيجيات في تلمُّس المسار، ومن ذلك:
1- العمل على إعادة المكانة “للمثقف المستقل” في مقابل “المثقف النفعي”، فشأن المثقف المستقل أن يُعيد توازن مجريات الحراك المجتمعي، دون احتكار النفعيين من المؤسسات والأفراد لها.
2- نسيان “ثقافة الربح السريع” من المنتج الثقافي، وتعزيز الموازنة بين الفعل الثقافي والربحي، وتعظيم العوائد الإيجابية من الفعاليات الثقافية على الناس، باعتبار فرضية تجاوزهم لمرحلة الانبهار التي سبقت، وارتفاع الحس النوعي لدى الناس.
3- تطبيق “مبدأ التدرُج” في تعزيز مفاهيم وتطبيقات الاقتصاد الثقافي، على أساس من مراقبة ودراسة وفَهم التحولات السريعة التي يشهدها وسيشهدها العالم لعدة سنوات قادمة، حتى لا تضطر المؤسسات الاقتصادية والثقافية لتراجعات غير محمودة.
4- العمل على فك الارتباط النفعي بين “دعم الاقتصاد للثقافة” و”دعم الثقافة للاقتصاد”، وإتاحة مجالين رحبين متوازيين لعملهما.
5- تحرير وتحديد وبيان وتوضيح مفهوم “المؤسسات والأنشطة الاقتصادية ذات العوائد الثقافية”، و”المؤسسات والأنشطة الثقافية ذات العوائد الاقتصادية”، وتجريد مَن ليس لهم علاقة بالمجال من التداخل النفعي فيه.
6- إعادة “ضبط المعيار القيمي الجمعي” في ضوء ثقافة الانفتاح الرشيد الجديدة، وتحريره كسياسة ثقافية مرجعية وطنية، وصيانته، عوضًا عن ترك المرجعية المعيارية الثقافية دون ملامح واضحة.
7- بناء “ثقافة ادخار” واعية لدى الناس، وإشاعة جدولة استهلاكية رشيدة، تضع البعدَ الثقافي ضمن اهتماماتها في سياقات متوازنة تخدم استدامة الفعل الاقتصادي الثقافي للناس كأحد أفعالها الحياتية المستدامة.
8- تعزيز التشريعات الضابطة للفعل الاقتصادي الثقافي، والثقافي الاقتصادي، في ضوء مستجدات المرحلة الزمنية وتداعياتها المنظورة على الكون والحياة.
وفي سياق متصل، أشارت د. وفاء طيبة إلى أن تعريف الثقافة في اليونسكو الذي ذكره د. زياد الدريس، يتضمن: (أشكال التعبير الإنساني في الفكر والأدب والفن الموروث ماديًّا وغير مادي “الشفوي”. ومن هذا المنطلق، لا بد أن تتمايز ثقافة بلد عن آخر، بل إن أجمل ما في الثقافة بمحتوياتها وعناصرها هو التمايز عن غيرها. نحن هنا في السعودية تتوفر لدينا بالطبع كل العناصر المذكورة سابقًا، وكانت تظهر بعض ملامحها التراثية في الجنادرية؛ والتي كانت تُظهر ثقافة السعودية عمومًا، وثقافة كل منطقة على حدة. وبعض النوادي الأدبية كانت تُظهر بعضًا من الجوانب الإنسانية الأخرى للثقافة، وقليلاً جدًّا من الفنون والمعارض الفنية أو معارض التصوير وما شابه. والاعتقاد أنه لا بد من المحافظة على ثقافتنا نحن، وأن يقوم اقتصاد الثقافة لدينا على ثقافتنا نحن، وإنْ كنَّا ندعو إلى بعض المشاركة من الخارج أحيانًا؛ ولكن يجب أن نعتمد على ما لدينا من كل جميل وثقافة سواء آثار أو فنون أو أدب يُترجم إلى مسرحيات ولوحات فنية. ولكي نبدأ بتعزيز هذا المفهوم؛ يجب أن يُعرض في المدارس، بحيث يتفهم الطالب أو الطالبة أهميته وأهمية المحافظة على ثقافته هو، ويتعلم كيف يتذوق الفن ويفهم (وليس يحفظ) التاريخ وعلاقته بالفنون والأدب، قد يقول البعض إنه يصعب أن نُعلِّم كلَّ شيء في المدارس! أجل.. ولكن لا بد من وضع أهداف على الأقل في هذا الجانب، تُنفَّذ من خلال أنشطة صفية ولا صفية حتى يخرج لنا (الإنسان) المتفهم للثقافة ودورها في الحفاظ على المجتمع من أن يذوب في العولمة، ودورها الاقتصادي. والواقع أن اقتصاد الدول الثقافي قائم على ثقافتها هي، ويُميِّزها ويجعلها أجمل. وأضافت د. وفاء طيبة قولها: “لذا، فلم أكن من مناصري المواسم التي كانت قائمةً كليًّا على ثقافة مستوردة؛ بل كان أجمل ما في موسم جدة – على سبيل المثال – هو ما تمَّ من أنشطة في جدة التاريخية، وبالطبع ليس المقصود أن يكون نشاطنا الثقافي الاقتصادي قائمًا على التاريخ والأماكن التاريخية فقط، ولكن كل ما يشمله تعريف اليونسكو يمكن أن يكون له ما يقابله ويقوم عليه نشاط اقتصادي سواء داخلي وللسعوديين أو المقيمين والسياح، أو خارجي بتقديم ثقافتنا خارج المملكة كنوع من القوى الناعمة، وكم يحب الغرب ذلك ويُفضِّله ويتجمهرون من أجله!
من جانبه، يرى أ. لاحم الناصر أنه ليس لمواسم الترفيه أيُّ علاقة بالثقافة، فهي مواسم استوردت ثقافة أمم أخرى دخيلة على المجتمع، وسوَّقت لها بكل قوة، ولو استمرَّ الوضع على هذا المنوال، سيتولد لدينا جيلٌ جاهل بموروثة وثقافته، تهيمن عليه الثقافة المستوردة ويُعظِّمها ومنتجيها؛ في مقابل التقليل من ثقافة مجتمعه وموروثة ليراه نوعًا من أنواع التخلُّف يخجل منه والانتساب له؛ لذا من المهم إذا أردنا بناءَ هوية لنا متفرِّدة تُميِّزنا عن البقية، بأن نُركِّز على إحياء موروثنا وثقافتنا والارتقاء بها، وتقديمها في قالب يستهوي ويجذب جيل السوشيال ميديا، ومحاولة تسويقها خارجيًّا وجعلها مواسم تعتمد على المحتوى المحلي المتنوع لدينا، بحيث تتحول هذه الكرنفالات المحلية الموسمية لتصبح عاملَ جذب للسياح في الخارج، الذين يريدون التعرف على البلد من كثب، وهنا ستكون الثقافة بما تنطوي عليه من فلكلور وموروث موردًا ماليًّا مهمًّا؛ فمثلاً، في العُلا بدلاً من استيراد المغنين من بقاع الأرض، لو تمَّ التركيز على فلكلور أهل المنطقة وموروثهم ونمط المعيشة وتسويقه لربما كان أجدى وأنفع للتنمية المستدامة في المنطقة، ولتطوَّر إلى مورد مالي للدولة ونَشْر للثقافة وتنوُّع المجتمع السعودي.
واتفقت د. فوزية البكر مع ضرورة التركيز على الموروث الثقافي المحلي خاصة وأن المملكة تتمتع بثراء مناطقي واسع، ولكن التفكير الواقعي يشير إلى أن هذا – في الغالب – لن يجذب الشبابَ الذين تستميلهم إيقاعات العصر أكثر من ميلهم لتأمُّل تراث منطقة ما؛ ومن ثَمَّ فالموازنة بين الأمرين مطلوبة.
وأضافت د. وفاء طيبة بأن من المهم أن يتم تقديم الموروث الثقافي المحلي بطريقة جاذبة، فبقدر ما ينجذب شبابنا للإيقاعات العصرية بقدر ما ينجذب للمغنيين المحليين والرقصات الشعبية، وما زلنا نحتفظ (على الأقل في الحجاز) ببعض الموروثات الثقافية الفنية في مناسبات معينة، ويحبها الشباب وينجذب لها؛ أي إنها إذا قُدِّمت بطريقة مناسبة (الإيقاع وغيره طبعًا من عناصر الثقافة)، وبطريقة تؤكِّد على ارتباطها بالهوية؛ فقد تجد قبولاً من الشباب، جنبًا إلى جنب مع اهتمامهم بما يصلهم من الغرب. أما ربطهم مباشرة بثقافات خارجية، وكثير منها غير مناسب لنا ولا لهويتنا إسلاميًّا وعربيًّا؛ فهذا مما أراه غير مناسب. كما أن المتاحف التي بُنيت هنا في مملكتنا تُوضِّح سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليتها تكون متنقلة من بلد إلى آخر؛ فهي ثقافة، وهي دعوة، ومن أجمل ما نتمتع به كسعوديين انتماؤنا لهذا البلد مهبط الوحي وحاضن الحرمين، وهذا جانب كبير نُؤجر على استغلاله. المتاحف المتنقلة قد تكون لها أهداف غير اقتصادية، وهي أيضًا قوة ناعمة.
وأضاف أ. عبد الله الضويحي أن البنوك السعودية قد تكون رافدًا من روافد الثقافة، بحيث تُخصِّص ما نسبته واحد في المئة مثلاً من مدخولها لدعم جمعيات الثقافة والفنون. في حين يرى أ. لاحم الناصر أنه من الواجب تفهُّم أن البنوك هي مؤسسات ربحية، ولأسهمها مُلَّاك يهدفون لتحقيق الربح، ومحاولة إقحامها في كل شاردة وواردة من المناشط الاجتماعية والثقافية ومطالبتها بدعمها وتقديم التبرعات لها والاقتطاع من أرباحها لأجل هذا النشاط أو ذاك – أمرٌ غير صحي وغير عادل وغير واقعي، كما أنه يتناقض مع الدعوة لجعل الثقافة رافدًا من الروافد الاقتصادية بحيث تتحول إلى عامل إنتاج ومورد مالي.
ويرى د. خالد الرديعان أنه يمكن أن يكون الترفيه بمنتج محلي من الفولكلور أو المسرح أو الحفلات الغنائية وليس بالضرورة استيراد فرق أجنبية، ويمكن أن يتم توزيع ذلك في عدة مدن لتنشيط السياحة الداخلية، وكل ذلك يدخل ضمن الترفيه. كما أننا بحاجة كذلك إلى تنسيق عالٍ بين وزارة الثقافة والهيئة العامة للسياحة وهيئة الترفيه؛ فهذه الجهات تتقاطع أعمالها مع بعض، وجميعها تمسُّ الثقافة بشكل أو بآخر. التنسيق بينها أو ربما دمجها قد يكون مفيدًا؛ وذلك لخلق مصادر دخل ترفد بعضها البعض، وترفد الأنشطة الثقافية التي لا تستطيع عمل أرباح كنشر الكتب والندوات الثقافية.
وترى د. نورة الصويان أن بعض المجالات فقط في الثقافة ممكن الجمع فيها بين الثقافة والاقتصاد؛ كالمسرح، والموسيقى، والفن التشكيلي. في الماضي على سبيل المثال، كانت نسبة المبيعات لكتاب معين أو كاتب محدَّد مؤشرًا أو معيارًا لجودته وتميزه، بينما الآن ممكن لكاتب مبتدئ أو كتاب بمحتوى ضعيف أن يُباع وينتشر على أوسع نطاق! أليس ذلك بسبب تسليع الثقافة، واختلال المعايير التقييمية؟! وهنا يبرز التساؤل: هل من الممكن أن يكون الهدف من الفعاليات الثقافية اقتصاديًّا؟ وكيف؟ هل من الممكن مناقشة كيف يتم تفعيل الجانب الاقتصادي لجمعيات الثقافة والفنون؟
في حين يرى أ. فهد القاسم أن ربط مصطلح “الثقافة” بالاقتصاد يستدعي تحرير المصطلح؛ لأن “الثقافة” مصطلح فضفاض، فهي كلمة قد تشمل أشياءَ كثيرةً متعددة؛ قد يكون بينها علاقة، وقد تكون أشياء لا رابط بينها. وقد تُفرَّغ “الثقافة” من كلِّ شيء، فلا تعني شيئًا. فهل الثقافة هي الفن أم التراث أم المعلومة أم التاريخ أم غير ذلك؟ لذلك، لربط “الثقافة” بالاقتصاد؛ نحتاج أن نتحدث عن التفاصيل، وأهمها المنتجات مثل: المتاحف، أو المسارح، أو مواقع التراث،… إلخ.
ومن وجهة نظر م. فاضل القرني، فإن الثقافة هي وسيلة اقتصادية ناعمة ولكن لم تكن سلعةً، والرجاء ألا تكون كذلك. مع العلم يصعب فك الاشتباك بينهما، بسبب تداخلهما البيني. والمملكة بلدٌ ثري بالثقافات المتنوعة (أعراق، لهجات، أكلات، بيئة، عرضات، منلوجات فنية بمختلف أدوات الموسيقى، وأيضًا لدينا تنوُّع ديموغرافي عمري وجندري شبه مميز ومؤثر وفعَّال).
وذهبت د. هناء المسلط إلى أن الثقافة سلاح اقتصادي جديد سيغزو الأسواق مستقبلًا. رغم الصعوبات والإشكاليات التي تواجه إرساء اقتصاديات للثقافة بصلابة وباستدامة؛ إلا أنه يمكن التغلب عليها من خلال دور الدولة في تحفيز المبدعين من جانب، وتحفيز المستثمرين من خلال بناء بنية تحتية اقتصادية ثقافية تقوم عليها مجالات الثقافة بجانبيها الكلاسيكي والتراثي، تُركِّز على الدخل وتعود بالربح للمستثمرين. فاستغلال الأماكن التراثية – مثلًا – في كافة أنحاء مناطق المملكة سيعوض النقص في الأنشطة الاقتصادية وفرص العمل، خاصة أن الكثير من سكان العالم لديه الرغبة في التعرف على تراثنا وثقافتنا، ويمكن استثمار ذلك من خلال السياحة الثقافية التي ستُحقِّق ازدهارًا ثقافيًّا مع مراعاة إنتاج أنماط إبداعية قابلة للتسويق داخل الوطن وخارجه.
من جهتها، ترى د. فوزية البكر أننا نتحدث عن مجتمع عانى من إهمال الكثير من موارده الثقافية، مثل المناطق التراثية وتراثه الموسيقي والفني وتنوعاته الاجتماعية والقبلية والمناطقية التي كانت تحفل بعناصر ثراء تدعم تراث الأمة ولا تضرها إنْ تمَّ تطويعها لخدمة الأمة ككل، وليس لمفاهيم خاصة بقبيلة أو منطقة؛ ومن ثَمَ كان يجب أن نسعى لتحقيق فكرة بقاء الموروث في أذهان الأجيال، إضافةً إلى قضية مهمة جدًّا، وهي إعادة الاعتبار إلى موضوع الحق في الترفيه والاستمتاع بمختلف أنواع الفنون السمعية والبصرية والتمثيلية، والذي طاله تشويه مدمر خلَق تشوهات كبيرة في جسد مجتمعنا الفتي. وهذا ربما كان أحد المنطلقات التي تحاول المؤسسات الثقافية الحالية من خلالها إعادة الاعتبار لصناعة الثقافة، ومنه انطلقت الكثير من الخطط والبرامج الطموحة التي بدأت فعلاً على أرض الواقع. ويُلاحظ أن صناعة الثقافة والترفيه لا تزال في خطواتها الأولى، وهي الآن تواجه الكثيرَ من التحديات بفعل واقع كورونا الاقتصادي، فمَن سيدعمها؟ ستضطر الدولة كارهةً إلى اتخاذ الكثير من الخطوات لتدبير أمور البيت الداخلية، ومن ثَمَّ لا بد للمؤسسات المختلفة وخاصة البنكية التي تمتعت ببلايين الأرباح على مدى عقود أن تمدَّ يدَها لدفع فاتورة مؤجَّلة منذ عقود. وفي السياق ذاته، لماذا تسعى الأمم لرعاية مصادرها الثقافية والتراثية؟ الجواب: لأنها أحد أهم الوسائل لحماية تراث الأمة وإثراء المواطن أينما كان طالبًا وموظفًا وسائحًا بمختلف القيم الوطنية والدينية والعلمية واللغوية والفنية بمختلف أشكالها؛ لما لها من دور في تربية الذائقة العامة والخاصة، وخلق مواطن متحضر يُدرك أساسيات عصره لكنه مرتبط بأمته والرقي بها، كما يستطيع أن يتماهى مع متطلبات عصره الثقافية. الآن، هل يمكن صُنْع منتجات ثقافية قابلة لدرِّ أرباح تساعد على بقائها، وتكون مصدرَ دخل لبلادها؟ على المدى القريب بالتأكيد “لا”، فما زلنا في البداية، لكن مُتحف اللوفر – على سبيل المثال – يزوره سنويًّا 7.5 ملايين زائر، بعوائد مالية تصل إلى 122 مليون دولار، كما يُحقِّق برج إيفل سنويًّا تقريبًا 82 مليون يورو، ونفقات صيانته لا تتجاوز 15 مليون يورو، وهكذا. نحن بحاجة للمنتجات الثقافية حتى لو لم تُحقِّق الأرباحَ الآن؛ لأنها مهمة لنا كبشر. نحتاج أن نتمشى في ردهات مُتحف معماري جميل، ونجلس على كرسي خارجه نُقلِّب كتابه الدعائي، وهذا سيخلق على المدى الطويل التأثير الإنساني المطلوب في كل الثقافات ثم يلي ذلك تسليع الثقافة؛ لكننا لا نزال مبكرين جدًّا على ذلك. لدينا تراث ثقافي منوَّع وكبير، ونحتاج إلى أن نبقى في صفِّ مَن يحاولون إظهاره للعلن حتى لو لم نتوافق تمامًا مع طرقهم في إظهاره أحيانًا.
ويرى أ. نبيل المبارك أنه يبدو أننا تأخَّرنا كثيرًا في موضوع قولبة الموروث الثقافي، واستخراج منتجات يمكن تسويقها اقتصاديًّا. ورغم أننا بدأنا، إلا أن ما يحدث اليومَ من إرهاصات لولادة نظام دولي جديد بعد كورونا وليس بسبب كورونا، فمقدمات هذا التغيير بدأت منذ عقود، ولكن كورونا سوف تكون الخطَّ الفاصل بين النظامين.
وذهب د. خالد بن دهيش إلى أن القيادة الرشيدة أعطت الثقافةَ في بلادنا الاهتمامَ الذي تستحقه، بتضمينها في رؤية المملكة ٢٠٣٠. وفيما يتعلق بجانب الاقتصاد الثقافي فنحن في بداية الطريق، ومن المؤكد كذلك أننا في مرحلة إعادة هيكلة الثقافة تحت مظلة وزارة الثقافة وهيئاتها الحديثة الإنشاء، والتي في مرحلة وضع الخطط الإستراتيجية وبناء المبادرات في كافة فروع الثقافة تحت مظلة واحدة تضمَن تناغمَ العمل الثقافي بكافة فروعه، بما يُوفِّر التحالفَ بين الاقتصاد والثقافة، وهو ما يُطلق عليه الثقافة البنفسجية.
وذهب أ. محمد الدندني إلى أنه يجب أن يكون الحاضر عاكسًا لما ندعي من تراث وسلوك. وأشارت د. وفاء طيبة إلى أنه يجب أن تكون الثقافة والفن هدفًا ينعكس في بعض الأنشطة خاصة الأنشطة اللاصفية، دون الحاجة بالضرورة إلى أن يكون مسارًا تعليميًّا أو منهجًا أو مادةً تُدرَّس، إننا في الواقع لا ندرس الفن بمعناه الإبداعي، ويعتبره معظم الطلاب مادة لا أهميةَ لها؛ بينما لو تعلَّم الطالب تذوق الفن وتاريخه ومقارنته عبر الثقافات المختلفة وأنواع الفنون وغير ذلك، لاستطاع أن يكون مُبدعًا في استخدام مفردات ثقافتنا وتفهُّم المحافظة على الهوية والثقافة، واستطاع الإبداع بأدوات حديثة أو قديمة داخليًّا وخارجيًّا، والاستفادة من أبسط خامة أو معنى ثقافي في منطقة ما من مناطق المملكة لتحريك هذا الاقتصاد والاستثمار فيه، أما إنْ كان لا يُقدَّم له أيُّ شيء من ذلك في أي محتوى، فكيف سيعرف الأهميةَ والقيمةَ والارتباطَ التاريخي، ويربطها بالاقتصاد؟ ولا ننسى اعتياد العين على الجمال إذا تذوقته، وهو ما سيؤدي إلى كراهة الفوضى والتشوُّه البصري.
وذكر د. عبد العزيز الحرقان أنه توجد أمثلة سيئة لمشاريع استثمار الثقافة، مثل ما حدث لجزر هاواي التي تحوَّلت إلى مسرح سياحي قضَى على بنية المجتمع الطبيعية، وأصبح السكان أقلَّ من السياح. وكذلك يمكن توظيفها كقوى ناعمة، ولتحقيق معايير القوى الناعمة للمملكة؛ يجب أن تتكامل عناصر الثقافة مع القوى الاقتصادية للدولة، وحتى الاقتصاد نفسه هو منتج ثقافي!
وأكدت د. زينب الخضيري على أهمية الانفتاح على عصور ما قبل الإسلام، وتعميق الهوية السعودية إلى عصور ما قبل التاريخ، جنبًا إلى جنب مع تسويق تراثنا وثقافتنا والاستفادة منها اقتصاديًّا، وكمثال: التمور ومنتجاتها يجب أن تدخل في صناعات غذائية كثيرة ونسوقها للداخل والخارج، والإبل بلحومها وحليبها ووبرها… إلخ، والمضير (الأقط) جبن الصحراء الفريد وهو أجود من أجبان فرنسا وإيطاليا. كما يمكن تسويق فنوننا الشعبية هي الأخرى.
ويرى د. مساعد المحيا أن وزارة الثقافة من حيث اهتمامها ومجلس إدارتها اتسع ليشمل فئات كثيرة، بيد أن المثقف والثقافة هما مَن نُعوِّل عليهما في نهاية المطاف لصناعة ثقافية وفكرية.
ومن وجهة نظر د. عبد الإله الصالح، فإن تنظيمات وزارة الثقافة الطموحة تُركِّز على الآداب والفنون أكثر من غيرها من العناصر الأخرى في عالم الثقافة الواسع، ولا يعيبها ذلك؛ فالفنون والآداب مؤثرة في التكوين والتشكيل والتطوير. وثمةَ إمكانيةٌ لإنشاء صندوق وطني (أو إقليمي) للثقافة والفنون والآداب، مصدر تمويله هو جميع الرسوم (القيمة المضافة) التي تُفرض على الأعمال الثقافية (حسب التوصيف القانوني الذي يُحدِّده النظام) التي لها جاذبية اقتصادية وشعبية وتجارية، ويرعاها الأفراد أو الهيئات أو المؤسسات التجارية والصناعية والتعليمية الأهلية. فضلاً عن هبات الدولة والمواطنين والمؤسسات والشركات والأوقاف وغيرها. ويكون الصندوق شبه أهلي برعاية الدولة وعضوية مجلسه من شرائح مختلفة من العلماء والمفكرين والاقتصاديين وكبار رجال المال والأعمال، مع رجالات الدولة في مجال المجتمع والثقافة. ويقوم الصندوق بتنمية الأموال وتوزيع عوائدها على جميع الجهات والهيئات والمؤسسات والأفراد الذين يتقدمون بمشاريع مهمة من حيث التكوين الثقافي ولكن ليس لها مَن يرعاها، وتكون آلية التقييم محايدةً وموضوعيةً وعلى أسس شفَّافة.
من جانبها ترى أ. فائزة العجروش أنه في زمن اشتدت فيه الحاجة إلى تكريم الإنسان المثقف، وتقدير عطاءاته ومنجزاته، لا حرجَ أبدًا في تسليع الثقافة بالاعتناء بالمثقفين وأبحاثهم ودراساتهم وإبداعاتهم الإنسانية؛ فمِن المهم جدًّا تثمينها ووضع مزيد من الاعتبار لها أكثر من أي وقت مضى (في هذا الوقت بالذات الذي نعاني فيه من شهرة المفلسين فكريًّا على حسابهم)؛ كونها تُشكِّل حافزًا للكتَّاب والقراء على حد سواء، من خلال الآتي:
• أولًا: مَنْح المزيد من الجوائز الثقافية التي تعتبر ظاهرةً ثقافية وحضارية راقية. وأن نُساعد هذه الجوائز لتأخذ موقعًا لها ضمن منظومة الصناعات الثقافية في دولتنا؛ لما تمتلكه الجوائز الثقافية من قيمة كبرى، لا يستفيد منها الفائز بالجائزة وحده، بل يستفيد منها القارئ، ليزدهر بها المشهد الثقافي والفني، وتنتعش بفضلها الصناعات الثقافية والفنية. وفي هذا الإطار الثقافي، ثمة جوائز كثيرة في مختلف الحقول الثقافية والفنية ينبغي الإشادة بها، وفي مقدمتها: جائزة الملك فيصل، وجائزة نجيب محفوظ، المتوج بنوبل للآداب، وجائزة الطيب صالح، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة سلطان العويس، وجائزة أبو القاسم الشابي في تونس، وغيرها الكثير.
• ثانيًا: الاستثمار الثقافي للمبدعين في المجال الثقافي، بإقامة مقاهي المثقفين، كأنْ نُسمِّي بعضَ المقاهي بأسمائهم، وتُصبح ملتقى للمفكرين والمثقفين، وتُصبح مزارًا سياحيًّا كذلك، كالمقاهي المشهورة عربيًّا وعالميًّا وكانت مقصدًا للأدباء والمثقفين في دول عدة، وشهدت نقاشات وميلاد العديد من الأعمال الفنية المميزة. مع إمكانية تخصيص نسبة من الدخل أو الإعلانات فيها لهؤلاء المثقفين.
ويرى م. خالد العثمان أن المستوى الأهم والأكثر حاجةً ونجاعةً للتدخل الاقتصادي في منظومة الثقافة هو عبر الاستثمار في خدمة الثقافة والمثقفين؛ لتمكين إنتاج منتجات ثقافية ضمن المجالات التي حددتها وزارة الثقافة، والارتقاء بمستوى تلك المنتجات، والعمل على ضمان أن تكون مُمثِّلة للإطار الثقافي الشامل للمجتمع، والذي يمكن ربما تسميته “الهوية الوطنية”. كما أن الاستثمار في خدمة الثقافة يشمل بناء منظومة خدمية شاملة كاملة، تبدأ من البنية التحتية إلى المرافق، إلى الموارد البشرية، إلى التمويل، وغير ذلك من الركائز التي يحتاج إلى توظيفها المثقفون والعاملون في قطاع الثقافة ليتمكنوا من إنتاج منتجات ثقافية قد تكون ذات أهداف ربحية متباينة، حالها في ذلك حال كافة المنتجات البشرية، فليس كل منتج هو في الحقيقة هادف للربح، ولكن هذا لا يعني أن يكون بلا ثمن وبلا تكلفة. القيمة هنا تأتي من جودة المنتج الثقافي وتعبيره عن هوية المجتمع، وإمكانية مساهمته في بناء الصورة الذهنية عن المجتمع وثرائه وتنوُّعه، علاوةً على ما يمكن أن تعود به تلك المنتجات من عوائد مادية ربحية إذا تحقَّق لها التميُّز الذي يجعلها هدفًا للاقتناء أو قبلةً للمشاهدة والزيارة، وغير ذلك من صور بناء العائد المادي من مثل هذه المنتجات. وفي ضوء ذلك، فلا يوجد تداخل بين الثقافة من جهة، والترفيه والسياحة من جهة أخرى؛ حيث إن وظيفة قطاع الثقافة هي تطوير وتنمية وتمكين إنتاج المنتجات الثقافية، في حين يُقدِّم قطاعا السياحة والترفيه بيئاتٍ ممكنة لتسويق وترويج وتقديم منتجات مختلفة، تشمل من بينها تلك المنتجات الثقافية. والتصوُّر أننا بهذا الفهم البسيط نحسم الجدل الدائر حول فكرة التداخل، بما يمكن أن يُسهم في فكِّ الاشتباك الحاصل حاليًّا حتى بين المؤسسات الحكومية القائمة على هذه القطاعات الثلاثة.
بينما أوضح د. خالد الرديعان أن السياحة والترفيه يستفيدان من المنجزات الثقافية، بل ويتم توظيف الثقافة في النشاط السياحي والترفيه.
ويرى أ. عاصم العيسى أن الثقافة هوية وسلوك ومواطنة وجدّ واجتهاد في إعمار البلاد وحياة الإنسان ورفاهيته؛ وعليه فلنُنفق الميزانيات بلا وجلَ في بناء ذلك الإنسان وتلك الثقافة، وسنحصد ثمرتها، أمنًا وحضارةً. كما أن من المهم الترحيب بجميع المُبادرات الاستثمارية والاقتصادية لمجالات الثقافة الحقيقية، دون إفراط في المجالات الأخرى من صناعة وتجارة وغيرها.
في حين ركزت د. هند الخليفة على أهمية أن تتبنى وزارة الثقافة مسؤولية بناء منظومة ثقافية للطفل، بعيدًا عن الترفيه الاستهلاكي والمستورد، وكذلك استثمار أدب وأدباء الطفل المحليين في تقديم برامج ثقافية للطفل؛ كالمسرح والسينما، والإصدارات الأدبية، والعروض والمهرجانات.
وأكدت د. عبير برهمين على الجوانب التالية:
1- الاقتصاد الثقافي أو المعرفي أو أي نوع آخر هو أمر احترافي متخصص، يتطلب وجودَ أصحاب الخبرات والتجارب الحياتية والمعرفية على حد سواء.
2- التعاون الإقليمي والدولي مهمٌّ جدًّا لتعلُّم أبجديات الاقتصاد البنفسجي، وتوسيع دائرة المعارف واكتساب الخبرة اللازمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ومن ثَمَّ الإبداع.
3- الاقتصاد مُحرِّك أساسي لكثير من جوانب حياتنا بما فيها الدينية، وهو ما يستوجب إعادة النظر في ماهية الحدود الشرعية باعتبارها مصدرَ القيم الإنسانية؛ لضمان عدم تجاوزها.
4- تشجيع الأفراد المستقلين غير التابعين للجمعيات أو الجهات الرسمية بالإبداع، كالفنانين التشكيليين ومسرح الهواة ومتاحف الأفراد وغيرها؛ مما يرفع مستوى التنافسية، ويُجوِّد المنتج.
5- حث البنوك على دعم الاقتصاد البنفسجي بتقديم تسهيلات مالية خاصة للأفراد، من باب المساهمات المجتمعية.
وقد ناقش الملتقى بعض الأفكار الأخرى، مثل:
1- إعادة المكانة “للمثقف المستقل” الذي يُعيد توازُن مجريات الحراك المجتمعي، والعمل على فكِّ الارتباط النفعي بين “دعم الاقتصاد للثقافة” و”دعم الثقافة للاقتصاد”، وإتاحة مجالين رحبين متوازيين لعملهما.
2- تحرير مفهوم “المؤسسات والأنشطة الاقتصادية ذات العوائد الثقافية” و”المؤسسات والأنشطة الثقافية ذات العوائد الاقتصادية”، وتجريد مَن ليس لهم علاقة بالمجال من التداخل النفعي فيه.
التوصيات:
1. التنسيق بين وزارتي الثقافة والسياحة وهيئة الترفيه؛ لخلق مصادر دخل ترفد بعضها البعض، وترفد الأنشطة الثقافية غير الربحية كنشر الكتب والندوات الثقافية.
2. إعادة “ضبط المعيار القيمي الجمعي” في ضوء ثقافة الانفتاح الرشيد الجديدة، وبناء “ثقافة ادخار” واعية لدى المجتمع تضع البعد الثقافي ضمن اهتماماتها في سياقات متوازنة تخدم استدامة الفعل الاقتصادي الثقافي كأحد أفعاله الحياتية المستدامة.
3. إقامة ورشة عمل وطنية كبرى بقيادة “وزارة الثقافة”، تضمُّ أطيافَ الثقافة المختلفة والقطاع الخاص؛ لوضع إستراتيجية واضحة لاقتصاد ثقافي، تنقل المحتوى الثقافي الوطني للعالمية، وتُحقِّق رؤية 2030.
4. إسناد تفعيل الجانب الثقافي في مناطق المملكة المختلفة (الربحي وغير الربحي) إلى مؤسسات متخصصة؛ لإيجاد مصادر دخل تُغطي النفقات تحت إشراف مباشر من جمعيات الثقافة والفنون.
5. تضمين برنامج تعزيز الشخصية الوطنية لرؤية 2030 أهدافًا لتعزيز هوية السعودي واعتزازه بثقافته بكل أنواعها من عمر مبكر وعبر مختلف المؤسسات ذات العلاقة؛ حتى يدرك الفرد معنى وأهمية الثقافة والتراث، ويعمل على الإبداع في مجالها والمحافظة عليها وعلى هويته. فمن دون ربط هذه الجوانب بوجدان السعودي ومشاعره، ومن مرحلة الطفولة المبكرة؛ لن تكون هناك النتيجة التي نأملها، وسيكون العاملون في المجال عددًا محدودًا جدًّا.
6. أن تتبنى وزارة الثقافة مسؤوليةَ بناء منظومة ثقافية للطفل بعيدًا عن الترفيه، واستثمار أدب الطفل المحلي في تقديم برامج ثقافية له؛ كالمسرح والسينما، والإصدارات الأدبية والعروض.
7. الابتعاد عن “ثقافة الربح السريع” من المنتج الثقافي، وتعزيز الموازنة بين الفعل الثقافي والربحي، وتطبيق “مبدأ التدرُّج” في تعزيز مفاهيم وتطبيقات الاقتصاد الثقافي، حتى لا تضطر المؤسسات الاقتصادية والثقافية لتراجعات غير محمودة.
8. تشجيع الاستثمار في صُلب ثقافتنا وجوهرها، والابتكار والصناعات الإبداعية وخَلْق الكوادر المتعلمة والمتدربة، والعمل على سُبل تنميتها لتعزيز الاستثمار الثقافي وأهميته في التنمية المُستدامة.
9. ربط “بوابة التراث الثقافي السعودي” مع مقتنيات المكتبة الوطنية ووكالة الأنباء السعودية والإذاعة والتلفزيون السعودي وأي مراكز أو هيئات مرتبطة بالإعلام العلمي والتقني؛ لتتكامل الصورة أمام الباحثين بكل سهولة عند البحث.
10. إنشاء صندوق وطني شبه أهلي ترعاه الدولة، ويضمُّ في عضويته علماءَ ومفكرين واقتصاديين ورجالات المجتمع والثقافة، يُموَّل من الرسوم (القيمة المضافة) التي تُفرض على الأعمال الثقافية التي لها جاذبية اقتصادية وشعبية وتجارية ويرعاها الأفراد أو القطاع الخاص، فضلاً عن الهبات والأوقاف وغيرها. بحيث يقوم الصندوق بتنمية الأموال وتوزيع عوائدها على الذين يتقدمون (أفراد وهيئات) بمشاريع ثقافية مهمة ليس لها مَن يرعاها، وفق آلية محايدة موضوعية وشفَّافة.
المشاركون في مناقشات هذا التقرير
• قضية “أزمة جائحة كورونا والعمل عن بُعد”:
– م. سالم المري
– د. حامد الشراري
– د. حميد الشايجي
– م. إبراهيم ناظر
– د. عبد الله بن ناصر الحمود
– د. عبد الإله الصالح
– د. خالد الرديعان
– أ. محمد الدندني
– د. عثمان العثمان
– م. خالد العثمان
– أ. عبد الله الضويحي
– أ. نبيل المبارك
– د. هناء المسلط
– م. فاضل القرني
– د. عبد الله صالح الحمود
– أ. فائزة بنت أحمد العجروش
– أ. عبد الرحمن باسلم
– د. خالد بن دهيش
– أ. جمال ملائكة
– د. مساعد المحيا
• قضية “جائحة كورونا والصحة النفسية”:
– أ. فهد القاسم
– د. حمد البريثن
– أ. فائزة العجروش
– أ. د. عثمان العثمان
– د. فوزية البكر
– د. خالد الرديعان
– د. حامد الشراري
– أ. عاصم العيسى
– د. صدقة فاضل
– د. هند الخليفة
– د. عبد الإله الصالح
– د. محمد الملحم
– م. فاضل القرني
– أ. سعيد الزهراني
– أ. زيد الشبانات
– د. حميد الشايجي
– أ. عبد الرحمن باسلم
– م. إبراهيم ناظر
– أ. عبد الله الضويحي
– أ. د. مجيدة الناجم
– د. عبد الله صالح الحمود
– د. عبير برهمين
– أ. مها عقيل
– أ. علياء البازعي
– د. الجازي الشبيكي
• قضية “البيروقراطية في زمن الأزمة”:
– د. صدقة فاضل
– د. حمد البريثن
– أ. محمد الدندني
– أ. مها عقيل
– د. عبد الله صالح الحمود
– م. فاضل القرني
– أ. لاحم الناصر
– د. علي الطخيس
– د. عبد الإله الصالح
– أ. نبيل المبارك
– أ. فائزة العجروش
– د. خالد الرديعان
– د. عفاف الأنسي
– د. خالد بن دهيش
– د. منصور المطيري
– د. مساعد المحيا
• قضية “الاقتصاد الثقافي”:
– م. إبراهيم محمد ناظر
– د. الجازي الشبيكي
– د. حميد الشايجي
– د. خالد الرديعان
– م. خالد العثمان
– د. خالد بن دهيش
– د. راشد العبد الكريم
– د. رياض نجم
– د. زينب الخضيري
– د. سعيد الغامدي
– أ. عاصم العيسى
– د. عبد الإله الصالح
– أ. عبد الرحمن باسلم
– د. عبد العزيز الحرقان
– د. عبد الله صالح الحمود
– د. عبد الله ناصر الحمود
– د. عبيـر برهمين
– د. عثمان العثمان
– د. وفاء طيبة
– أ. فائزة العجروش
– م. فاضل القرني
– د. فوزية البكر
– أ. فهد الأحمري
– أ. فهد القاسم
– أ. لاحم الناصر
– أ. محمد الدندني
– د. مساعد المحيا
– د. مشاري النعيم
– أ. نبيل المبارك
– د. نورة الصويان
– د. هناء المسلط
– د. هند الخليفة
تحميل المرفقات: التقرير الشهري 63