ملتقى أسبار: التقرير الشهري رقم (75) لشهر مايو – يونيو 2021

للاطلاع على التقرير وتحميله إضغط هنا


 مايو – يونيو 2021

 

  • تمهيد:

يعرض هذا التقرير عددًا من الموضوعات المهمة التي تمَّ طرحها للحوار في ملتقى أسبار خلال شهري مايو ويونيو2021 م، وناقشها نُخبة متميزة من مفكري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة حول القضايا التالية:

  • أطفالنا والفضاء الإلكتروني وقوانين الحماية في المملكة.
  • مَنْح الرُّخص المهنية بناءً على الاختبارات: تصوُّرات بحاجة إلى تصحيح.
  • الرياض: مركز الصناعة المالية الإسلامية.
  • إستراتيجية المملكة العربية السعودية في مواجهة التغير المناخي ومساهمتها على مستوى الدول العشرين.
  • المطوِّرون العقاريون وتحديات المرحلة.
  • نظرة على سوق العمل في المملكة العربية السعودية.

 


القضية الأولى 

أطفالنا والفضاء الإلكتروني وقوانين الحماية في المملكة

(23/5/2021م)

 

  • الملخص التنفيذي.
  • أولًا: مدخل تمهيدي.
  • ثانيًا: دوافع اللجوء للفضاء الإلكتروني: الفوائد والمخاطر.
  • ثالثًا: التأثيرات الإيجابية من لجوء الأطفال للفضاء الإلكتروني.
  • رابعًا: التأثيرات السلبية (المخاطر) من لجوء الأطفال للفضاء الإلكتروني.
  • خامسًا: الأنظمة والقوانين المنظِّمة ومبادرات حماية حقوق الأطفال في الفضاء الإلكتروني.
  • سادسًا: آليات حماية الأطفال في الفضاء الإلكتروني.
  • سابعًا: مبادرة سمو ولي العهد لحماية الأطفال في العالم السيبراني.
  • ثامنًا: التوصيات.
  • المشاركون.

  

  • الملخص التنفيذي.

تناولت هذه القضية أطفالنا والفضاء الإلكتروني وقوانين الحماية في المملكة. ويأتي الاهتمام بهذه القضية بالنظر لما يشهده العصر الحالي من التسارع الملحوظ في تطوُّر التكنولوجيا واستخداماتها، ويشمل هذا التسارع عدد وأعمار الذين يستخدمونها؛ فعالميًّا واحدٌ من كل ثلاثة يستخدمون الفضاء الإلكتروني تحت سنِّ الثامنة عشرة. وفي السعودية تشير بعض الدراسات إلى أن 44% من الأطفال يقضون أكثر من 3 ساعات في استخدام الإنترنت قبل الجائحة، ومن المتوقع أن تنمو هذه النسبة بشكل كبير مستقبلًا.

ويمكن لاستخدام محتوى الفضاء الإلكتروني كالألعاب الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي (مثل: فيس بوك، وتويتر، وسناب شات، وإنستغرام، وتيك توك، وغيرها) التأثير بشكل إيجابي أو سلبي على الأطفال، وهذا قد يتوقف مداه على طبيعة المحتوى الذي يشاهده الطفل وعلى المدة التي يقضيها الطفل خلال استخدامه لذلك المحتوى. وتُبيِّن الدراسات زيادة الأثر السلبي في حقِّ الأطفال في جوانب، منها: اختراق الخصوصية وسرقة المعلومات والتنمر الإلكتروني والإيذاء الجنسي عبر الإنترنت، وإدمان الألعاب الإلكترونية، والانعزالية، وتشتت الانتباه، والقلق، والتوتر، وتدمير السمعة، والعدوانية، والتمييز العنصري، والسمنة وتأثر البصر؛ بل وفي بعض الجوانب المادية مثل التغرير بالأطفال لسرقة الأموال والقمار عبر الإنترنت.

وتعمل المملكة العربية السعودية جاهدةً على حماية الأطفال من مخاطر الفضاء الإلكتروني من خلال أنظمتها المختلفة التي تُعزِّز من مقدرات الأطر التنظيمية والمؤسسية لدرء كافة أنواع المخاطر المحتملة، والتي قد يتعرض لها الطفل السعودي جراء استخدام الألعاب الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي وغيرها من التكنولوجيات الإلكترونية.

ومن أبرز التوصيات التي تمَّ الانتهاء إليها ما يلي:

  • تعزيز تنفيذ الأنظمة والسياسات والمبادرات والممارسات العملية المتعلقة بحماية حقوق الطفل.
  • ضرورة متابعة آليات بلاغات العنف والاستغلال، والتحقيق في انتهاكات حقوق الطفل.
  • تحديث أنظمة الحماية للطفل بما يتناسب مع خطورة العالم الإلكتروني.
  • أولًا – مدخل تمهيدي:

يشهد العصر الحالي نوعًا من التسارُع الملحوظ في تطوُّر التكنولوجيا واستخداماتها، ويشمل هذا التسارُع عدد وأعمار الذين يستخدمونها؛ عالميًّا واحدٌ من كل ثلاثة يستخدمون الفضاء الإلكتروني تحت سنِّ الثامنة عشرة. ومن المتوقع أن تنمو هذه النسبة بشكل كبير مستقبلًا (دراسة اليونيسف ومجلس الأسرة، 2019) وخاصةً بعد جائحة كورونا، ولأننا دولة فتية فقد تكون النسبة لدينا أكبر من ذلك خاصةً أن الإنترنت متاحٌ بشكل كبير، وتشير بعض الدراسات إلى أن 44% من الأطفال يقضون أكثر من 3 ساعات في استخدام الإنترنت قبل الجائحة، وقد سجَّلت الدراسات الأولية (2020 – 2021) ارتفاعًا كبيرًا في عدد ساعات استخدام الإنترنت بين الأطفال بعد جائحة كورونا، بل إن دراسة سعودية حديثة – لم تُنشر بعدُ-  للدكتورة هند خليفة سجَّلت أن الأطفال في عمر 6 سنوات يقضون نحو 10 ساعات على الإنترنت، في حين الأطفال في عمر 10 – 14 سنة يقضون 14 ساعة. كما تمَّ تسجيل مزيد من المشكلات النفسية والعاطفية المرتبطة بالإنترنت. وفي ظل جائحة كورونا، تناقصت الرقابة الأسرية على استخدام الإنترنت، بل وتناقصت الرقابة الحكومية عالميًّا بسبب التركيز على الجائحة وما يرتبط بها من مشكلات، فإذا أضفنا إلى ذلك الفجوة التقنية الكبيرة بين جيل الآباء والمعلمين وجيل الأطفال في تناول هذه الإلكترونيات، وأن عمليات الحماية ووضع القوانين تتطور ببطء، والبون الشاسع بين الأنظمة الموجودة بالفعل عالميًّا وتطبيقها؛ فإننا أمام مشكلة حقيقة وحقوقية. والحقيقة التي يجب أن لا نغفل عنها هي أن هذا العالم الجديد – عالم الإلكترونيات- يُشكِّل جزءًا كبيرًا من جوانب حياة الأطفال الحالية والمستقبلية، بدايةً من العلاقات مع الأقران والأسرة وحتى التعلم والترفيه ومستقبل العمل، هو عالم افتراضي يعيش فيه الأطفال، ولا سبيل للعودة إلى الوراء.

وتشير العديد من الدراسات التطبيقية والتقارير الدولية إلى تزايُد استخدام وسائل نقل المحتوى الرقمي من تليفونات محمولة وأجهزة حاسوب لوحية لدى الأطفال في مختلف فئاتهم العمرية والاستعانة بها للدخول على المحتوى المعلوماتي لشبكة المعلومات الدولية، وهو ما كان له بالغ الأثر على صحتهم العقلية ومداركهم المعرفية واتجاهاتهم السلوكية؛ نظرًا لارتباط التطبيقات المعرفية المتاحة بكافة الأنشطة اليومية للطفل، واستخدام تلك التطبيقات مع آخرين من مختلف الجنسيات والأجناس والثقافات في مختلف أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن تنوُّع محتوى الفضاء الإلكتروني قد وفَّر للعديد من الآباء مصادرَ للتعلُّم لكيفية التعامل مع الأطفال بمختلف فئاتهم العمرية، وتقديم العديد من وسائل الترفيه المتاحة للأطفال؛ إلا أن ذلك التنوُّع قد فرض العديدَ من التحديات والمخاطر التي ارتبطت بالكمِّ الهائل من المحتوى المعلوماتي، والذي كان للكثير منه تأثيرٌ سلبي على الأطفال من حيث التسبُّب في إحداث العديد من الاضطرابات النفسية والسلوكية للأطفال، مثل: القلق، واضطرابات النوم، والعنف، والانعزال الاجتماعي. ولم يقتصر الأمر على الاضطرابات النفسية والسلوكية البسيطة، بل امتدت إلى الاضطرابات النفسية الخطيرة، مثل الاكتئاب المزمن والتفكير في الانتحار، فقد ساهمت العديد من الألعاب الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي في دفع بعض الأطفال نحو التفكير الانتحاري.

ونتيجة لزيادة استخدام الأطفال للتكنولوجيات الرقمية؛ فقد اتجه اهتمام العديد من الباحثين للكشف حول تأثيرات الوقت الذي يقضيه الطفل في استخدام التكنولوجيا الرقمية. وقد أوضح ألثا ستيوارت رئيس الجمعية الأمريكية للطب النفسي أنه على الرغم من الفوائد المتعددة لوسائل التواصل الاجتماعي – والمتمثِّلة في الحفاظ على التواصل مع الأصدقاء والعائلة – فإن الأمريكيين يشعرون بالقلق المتزايد إزاء الآثار السلبية المحتملة لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية والرفاهية للبالغين والمراهقين والأطفال على حد سواء. كما تشير دراسات الجمعية الأمريكية للطب النفسي إلى أن ما يقرب من تسعة من كل عشرة (88٪) بالغين (سواء الذين لديهم أطفال أو ليس لديهم أطفال) يرون أنه من المقلق استخدام الأطفال والمراهقين لوسائل التواصل الاجتماعي([1]). وعليه، فإنه من المهم مراعاة التوازن بين المنافع الناجمة عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وأضراره وخاصة في ظل افتقاد التواصل مع الآخرين في الحياة الواقعية.

ويؤكد جيمي زيلازني (2020)([2])، الأستاذ بكلية الطب بجامعة بيتسبرغ بالولايات المتحدة، أن هناك تزايدًا ملحوظًا في معدلات الانتحار بين الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 10-14 عامًا، وقد تزامنت زيادة معدلات الانتحار لتلك الفئة السكانية مع ارتفاع معدلات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. كما أظهر عدد من التقارير الإخبارية حالات انتحار نابعة من ابتزاز الأطفال نتيجة استخدامهم للألعاب الإلكترونية، مثل لعبة الحوت الأزرق؛ وهذا ما ظهر في حالة الطفل السعودي “عبد الرحمن الأحمري” البالغ من العمر 12 عامًا، والذي انتحر استجابة لآخر تحديات لعبة الحوت الأزرق([3]).

  • ثانيًا – دوافع اللجوء للفضاء الإلكتروني: الفوائد والمخاطر:

يمكن لاستخدام محتوى الفضاء الإلكتروني كالألعاب الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي (مثل: فيس بوك، وتويتر، وسناب شات، وإنستغرام، وتيك توك، وغيرها) التأثير بشكل إيجابي أو سلبي على الأطفال، والذي قد يتوقف مداه على طبيعة المحتوى الذي يشاهده الطفل، وعلى المدة التي يقضيها الطفل خلال استخدامه لذلك المحتوى. وقد أوضح (Kardefelt-Winther, Dec. 2017) أن استخدام التكنولوجيا الرقمية لها تأثيرات نابعة من ثلاثة أبعاد على الطفل: اجتماعي، عقلي/نفسي، وجسدي. فمن ناحية، تبدو التكنولوجيا الرقمية مفيدةً لبناء العلاقات الاجتماعية للأطفال. وفيما يتعلق بالتأثير على الصحة العقلية/النفسية للأطفال، فتشير الدراسات إلى أن العلاقة قد تأخذ شكل حرف U؛ بمعنى أن عدم الاستخدام والاستخدام المفرط لهما تأثير سلبي صغير على الصحة العقلية، في حين أن الاستخدام المعتدل يمكن أن يكون له تأثير إيجابي صغير. وفيما يتعلق بالتأثير على النشاط البدني للأطفال، فقد وجدت الدراسات نتائج غير حاسمة ومختلطة؛ ففي حين وجدت عدد من الدراسات أن الوقت المستقطع في استخدام التكنولوجيا الرقمية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بانخفاض النشاط البدني لدى الأطفال، وجدت دراسات أخرى أن هذه العلاقة ليست مباشرة، وأن خفض الوقت المستقطع في استخدام التكنولوجيا الرقمية قد لا يُحفِّز الأطفال بالضرورة على ممارسة مزيد من الأنشطة البدنية.

ولم يعُد السؤال يقتصر فقط حول المدة التي يقضيها الطفل في استخدام التكنولوجيا الرقمية، ولكن أصبح يتعلق “بكيف” و”لماذا” يتم استخدام الطفل لتلك التكنولوجيات. ويمكن القول بإيجاز إن استخدام التكنولوجيا الرقمية يُحقِّق العديد من الفوائد المحتملة للأطفال؛ والمتمثِّلة في تحقيق التواصل مع العائلة والأصدقاء، والوصول إلى المواد التعليمية المتنوعة المرئية منها والصوتية، وتحقيق الترفيه، وقضاء وقت ممتع ومُسَلٍّ لهم (ويظهر ذلك في كتابات:

) Livingstone and Bober, 2006([4]); Valkenburg and Peter, 2009 ([5]); boyd, 2014 ([6](

وفي المقابل، فإن استخدام التكنولوجيا الرقمية لا يخلو من المخاطر؛ والمتمثِّلة في تواصل الأطفال مع غرباء قد يُمثِّلون تهديدًا للفكر المعتدل للطفل، وإمكانية تعرض الأطفال للتنمر عبر الإنترنت، وكذلك وصول الأطفال إلى محتوى رقمي غير مناسب لأعمارهم؛ مما قد يؤثر سلبًا على الجوانب السلوكية للأطفال (ويظهر ذلك في كتابات:

) boyd and Hargittai, 2013([7]); George and Odgers, 2015 ([8]([9]) (

 

  • ثالثًا – التأثيرات الإيجابية من لجوء الأطفال للفضاء الإلكتروني:

يُعَد استخدام الأطفال لمحتوى الفضاء الإلكتروني من أهم مصادر تنويع مصادر معلوماتهم وتحقيق الرفاهية لهم من خلال استخدام الألعاب الترفيهية واكتساب صداقات جديدة مع الآخرين. ويتميَّز محتوى الفضاء الإلكتروني بوسائل الجذب المختلفة من توافر محفِّزات مرئية وبصرية تدفع الأطفال نحو استخدامها. ويعَدُّ الفضاء الإلكتروني من أهم مصادر اكتساب المهارات الفنية اللازمة حيث يمكن استغلالها لتزويد الأطفال بمهارات العصر الرقمي، وهو ما يمكِّن الأطفال من تكوين رؤية للعالم بشكل أوسع وأعمق، وهو ما يتسق مع توجهات المستقبل. ويمكن الاستعانة بمحتوى الفضاء الرقمي في توفير منصات افتراضية للتعبير عن النفس وتبادل الثقافات والأفكار المتنوعة، والتي تُغذِّي عقول أطفالنا بالأفكار الإبداعية والبناءة. كما تستخدم العديد من تطبيقات الفضاء الإلكتروني ومنها منصات التواصل الاجتماعي لتحقيق تواصل الأطفال مع غيرهم ممَّن يتمتعون بنفس الهوايات والاهتمامات والأنشطة الترفيهية. ويعَدُّ الفضاء الإلكتروني من أهمِّ الطرق التي تساعد الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة على التواصل مع الغير بشكل أكثر مواءمةً وكفاءةً من وسائل التواصل التقليدية. فعلى سبيل المثال، يواجه الأطفال المصابون بالتوحد صعوبات في تكوين الروابط الاجتماعية مع الآخرين، وقد أشارت دراسة (Wang, T. , Garfield, M. , Wisniewski, P. , & Page, X. (October 2020 إلى أنه يمكن الاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق فائدة اجتماعية للمصابين بالتوحد وتجنُّب مخاطرها، وذلك إذا تم تصميمها بشكل يوائم احتياجاتهم ([10]).

  • رابعًا – التأثيرات السلبية (المخاطر) من لجوء الأطفال للفضاء الإلكتروني.

يمكن أن تكون منصات الفضاء الإلكتروني مصدرًا للعديد من المخاطر والآثار السلبية التي يتعرض لها الأطفال في سنٍّ مبكرة، وتؤثر على حالتهم الجسدية والنفسية/العقلية والاجتماعية وخاصة إذا لم يتلقَّ الأطفال التدريب الكاف بواسطة الوالدين لمواجهتها. وتتمثَّل أهم تلك المخاطر في وصول الطفل إلى بيئات رقمية غير مرغوب فيها، مثل الصور المسيئة/العنيفة وحتى في ظل رقابة الوالدين فقد لا يكونون على دراية كافية بها. كما يمكن أن يتعرض الطفل للتنمر السيبراني والتحرش السيبراني وانتهاك خصوصيته ومخاطر الاتجار بالأطفال([11]). وتتزايد احتمالات المخاطر السابقة إذا كان الطفل في سنٍّ مبكرة يمتلك هاتفًا ذكيًّا خاصًّا به، حيث تقل رقابة الوالدين على استخدامات الطفل لتطبيقات الهاتف الذكي نتيجة انشغالهم أو غياب الوعي الكاف لهم بتلك التطبيقات. فعلاوة على المضار الجسدية التي قد تسببها إشعاعات الهاتف الذكي، فكما بيَّن (Hardell, 2017)، فإن إدمان استخدام الإنترنت ومشاكل الإدراك وعدم انتظام النوم واضطرابات السلوك تعَدُّ من أشهر المشاكل المرتبطة بسوء استخدام الطفل للهاتف الذكي([12]).

وثمةَ وجهات نظر تُركِّز على أن المشكلة الأساسية لدينا في المملكة تكمن في تعويد الطفل منذ سنِّ مبكرة على الاتصال بالأجهزة. وفي هذا الصدد، فقد حدَّدت أكاديمية طب الأطفال الكندية والأمريكية الوقت الذي يُسمح به للطفل في المكوث أمام الشاشة أو ما يُسمَّى screen time وهو كالتالي:

  • أقل من ١٨ شهرًا، لا يجب على الطفل رؤية أي برامج على الأجهزة الإلكترونية.
  • ٢-٥ سنوات يُسمح للطفل برؤية برنامج تعليمي ترفيهي ذي جودة عالية لمدة ساعة واحدة في اليوم.
  • ٥-١٢ سنة وقت الشاشة لا يتعدى الساعتين يوميًّا، وإذا زاد عن ذلك يكون بشروط معينة.
  • المراهقون: وقت الشاشة يجب ألا يتعدى الساعتين يوميًّا، وفي هذا العمر يجب وضع قوانين في المنزل للالتزام بهذا الوقت، ويمكن زيادته في حدود المعقول وفي أوقات محددة، ويجب على الأهل أن يكونوا القدوة لأطفالهم في الجلوس أمام الشاشة مع إشغال الأطفال بالرياضة والهوايات.

وقد خرجت إلينا كثيرٌ من الأبحاث في تخصصات مختلفة، ومن ضمنها أبحاث من جهات ومؤسسات عالمية، مثل اليونيسف واليونسكو في أثر الفضاء الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي على حياة الأطفال. وتشير الإحصاءات إلى زيادة الأثر السلبي في حقِّ الأطفال في جوانب، منها: اختراق الخصوصية، وسرقة المعلومات، والتنمر الإلكتروني، والإيذاء الجنسي عبر الإنترنت، وإدمان الألعاب الإلكترونية، وتراجع بعض القدرات الإنسانية،مثل الصبر وفهم تلميحات الجسد والوجه، والانعزالية، وتشتت الانتباه، والقلق، والتوتر، وتدمير السمعة، والعدوانية، والتمييز العنصري، والسمنة وتأثر البصر؛ بل وفي بعض الجوانب المادية مثل التغرير بالأطفال لسرقة الأموال والقمار عبر الإنترنت (Maccenaite& Costa 2017; King et al. 2018).

كما توصلت مثل هذه الدراسات إلى وجود علاقة بين الاستخدام المُبالَغ فيه للإنترنت والصحة النفسية للأطفال، فقد ذكر تقرير (The children’s Society – Safety Net- 2018) أن 46% من الأطفال الإناث في الدراسة ذكرن أن لمواقع التواصل الاجتماعي أثرًا سلبيًّا على تقديرهن لذواتهن، وقد خلص (Dennis et al. , 2017) إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي لا تقوم بواجبها في حماية الأطفال من التنمُّر، ويتعرض 10% – 40% من الأطفال للتنمر الإلكتروني. كما تشير الدراسات إلى أن الأطفال الذين يداومون اللعب بالألعاب الإلكترونية (video games) هم أكثر عرضةً للقيام بالأعمال العدوانية والخروج على المجتمع والقيام بالأفعال الإجرامية.

وبناءً على ذلك، أعلنت منظمة الصحة العالمية في مايو 2019 تصنيفها لإدمان الألعاب الإلكترونية (Gaming Disorder) كمرض في التصنيف العالمي للأمراض (النسخة 11) The International Classification of Diseases 11th Revision (ICD- 11). وتبع ذلك إعلان الجمعية الأمريكية لعلم النفس The American Psychological Association (APA) أنها سوف تعتبر إدمان الألعاب الإلكترونية مرضًا في كتيبها التشخيصي الإحصائي للأمراض النفسية في النسخة الخامسةDiagnostic and Statistical Manual of Mental Disorder (DSM -5) .

وفيما يخصُّ التغير السريع في مدى الإساءة للطفل مع الجائحة، كشفت الدراسات الأولية في Web – IQ  ومركزها هولندا، وهي جهة مدنية تابعة لـ Virtual Global Taskforce   الدولية – والتي تعمل على محاربة الاعتداء الجنسي على الأطفال من خلال الإنترنت – عن تضاعف المشاركات في المنتديات الخاصة بالاعتداء الجنسي على الأطفال بأكثر من 200% ما بين فبراير – مارس 2020. كما سجل صندوق حماية الطفل الهندي The Indian Child Protection Fund  ارتفاعًا كبيرًا في البحث عبر الإنترنت عن مواقع الاعتداء الجنسي على الأطفال منذ بداية الحجر في الهند.

ومن المهم الإشارة إلى أن ثمة جانبًا آخر يندرج ضمن التأثيرات السلبية للجوء الأطفال للفضاء الإلكتروني، ألا وهو الجانب الجنائي الذي قد يقع الأطفال تحت طائلته بسبب استخدامهم الخاطئ لوسائل التواصل الاجتماعي، جهلًا بنظام مكافحة الجرائم المعلوماتية. فقد يتطاولون على الآخرين أو يسبونهم أو يتنمرون عليهم أو يسرقون بياناتهم، أو غيرها من الممارسات المجرمة في النظام، والتي تعَدُّ من الجرائم المعلوماتية، حيث يُلاحظ ارتفاع معدلات ارتكاب الأطفال للجرائم المعلوماتية، هذا بالإضافة إلى استدراج الأطفال بعدة طرق، ومنها الألعاب الإلكترونية لتجنيدهم في التنظيمات الإرهابية.

  • خامسًا – الأنظمة والقوانين المنظِّمة ومبادرات حماية حقوق الأطفال في الفضاء الإلكتروني:

إن حماية الطفل في العالم الإلكتروني تستند إلى تكامل السياسات والأنظمة على المستويين الدولي والوطني، ودعم وتعزيز الجهود من أجل الحماية القانونية للأطفال من الجرائم الإلكترونية في ظل ما تشهده المملكة العربية السعودية من تطورات في مجال حماية حقوق الطفل من خلال اتخاذها العديد من التدابير والمبادرات والتشريعات التي اتسمت بانسجامها مع المعايير الدولية، وتُشكِّل في مجملها إطارًا راسخًا يحمي الأطفال ليعيشوا حياةً مستقرةً وآمنة.

وتعمل المملكة العربية السعودية جاهدةً على حماية الأطفال من مخاطر الفضاء الإلكتروني من خلال أنظمتها المختلفة التي تُعزِّز من مقدرات الأطر التنظيمية والمؤسسية لدرء كافة أنواع المخاطر المحتملة، والتي قد يتعرض لها الطفل السعودي جراء استخدام الألعاب الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي وغيرها من التكنولوجيات الإلكترونية. ومن بين أهم تلك الأنظمة: (1) نظام حماية الطفل، والذي يحفظ حقوق الطفل ويحميه من كل أشكال الإيذاء والإهمال([13])؛ (2) نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية، والذي يهدف إلى الحدِّ من وقوع الجرائم المعلوماتية بما يساهم في ضمان تحقيق الأمن المعلوماتي وحماية المصلحة العامة والأخلاق والآداب العامة([14])؛ (3) نظام مكافحة جريمة التحرُّش، والذي ينصُّ في مادته الثانية على “مكافحة جريمة التحرُّش والحيلولة دون وقوعها، وتطبيق العقوبة على مرتكبيها، وحماية المجني عليه؛ وذلك صيانة لخصوصية الفرد وكرامته وحريته الشخصية التي كفلتها أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة”([15])؛ (4) نظام الحماية من الإيذاء، والذي يستهدف “اتخاذ الإجراءات النظامية اللازمة لمساءلة المتسبِّب في الإيذاء ومعاقبته وتقديم المساعدة والمعالجة والعمل على توفير الإيواء والرعاية الاجتماعية والنفسية والصحية اللازمة”([16])؛ (5) نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص، والذي يستهدف ردع جرائم الاتجار بالأشخاص، ويتم تشديد العقوبة إذا ارتُكبت ضد طفل حتى ولو لم يكن الجاني عالمًا بكون المجني عليه طفلًا([17]).

وبالتركيز على دور نظام مكافحة جرائم المعلوماتية في حماية الأطفال من مخاطر شبكة الإنترنت، يُلاحظ ما يلي:

  • يهدف هذا النظام إلى الحدِّ من وقوع جرائم المعلوماتية بما يؤدي إلى حماية المصلحة العامة والأخلاق والآداب العامة، ويحفظ الحقوقَ المترتبة على الاستخدام المشروع للشبكات المعلوماتية.
  • يُقصد بالجريمة المعلوماتية: أي فعل يُرتكب متضمِّنًا استخدام الحاسب الآلي أو الشبكة المعلوماتية بالمخالفة لأحكام هذا النظام.
  • المتأمل في شبكة الإنترنت يرى أنها حملت منافع ومصالح، وفي الوقت نفسه العديد من المفاسد وخاصة على شريحة الأطفال؛ ومن هذا المنطلق نجد أن هذا النظام حدَّد الجرائم والعقوبات المقرَّرة لكلٍّ منها، وتتكون من عقوبة سالبة للحرية هي السجن، ومالية هي الغرامة؛ وذلك على النحو التالي:
  • أولًا: الفقرات (2) و(4) و(5) من المادة الثالثة ونصُّها: يُعاقب بالسجن مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة لا تزيد على خمس مئة ألف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين كلُّ شخص يرتكب أيًّا من الجرائم المعلوماتية الآتية:
  • الدخول غير المشروع لتهديد شخص أو ابتزازه لحَمْله على القيام بفعل أو الامتناع عنه، ولو كان القيام بهذا الفعل أو الامتناع عنه مشروعًا.
  • المساس بالحياة الخاصة عن طريق إساءة استخدام الهواتف النقالة المزوَّدة بالكاميرا أو ما في حكمها.
  • التشهير بالآخرين وإلحاق الضرر بهم عبر وسائل تقنيات المعلومات المختلفة.
  • ثانيًا: المادة السادسة ونصُّها: يُعاقَب بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات وبغرامة لا تزيد على ثلاثة ملايين ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين كلُّ شخص يرتكب أيًّا من الجرائم المعلوماتية الآتية:
  1. إنتاج ما من شأنه المساس بالنظام العام أو القيم الدينية أو الآداب العامة أو حُرمة الحياة الخاصة، أو إعداده أو إرساله أو تخزينه عن طريق الشبكة المعلوماتية أو أحد أجهزة الحاسب الآلي.
  2. إنشاء موقع على الشبكة المعلوماتية أو أحد أجهزة الحاسب الآلي أو نشره للاتجار في الجنس البشري أو تسهيل التعامل به.
  3. إنشاء المواد والبيانات المتعلقة بالشبكات الإباحية أو أنشطة الميسر المُخِلة بالآداب العامة أو نشرها أو ترويجها.
  4. إنشاء موقع على الشبكة المعلوماتية أو أحد أجهزة الحاسب الآلي أو نشره للاتجار بالمخدرات أو المؤثرات العقلية أو ترويجها أو طُرق تعاطيها أو تسهيل التعامل بها.
  • ثالثًا: الفقرة (1) من المادة السابعة، ونصُّها: يُعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنوات وبغرامة لا تزيد على خمسة ملايين ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين كلُّ شخص يرتكب أيًّا من الجرائم المعلوماتية الآتية:
  • إنشاء موقع لمنظمات إرهابية على الشبكة المعلوماتية أو أحد أجهزة الحاسب الآلي أو نشره لتسهيل الاتصال بقيادات تلك المنظمات أو أيٍّ من أعضائها أو ترويج أفكارها أو تمويلها، أو نشر كيفية تصنيع الأجهزة الحارقة أو المتفجرات أو أي أداة تُستخدم في الأعمال الإرهابية.
  • رابعًا: الفقرة (3) من المادة الثامنة، ونصُّها: لا تقلُّ عقوبة السجن أو الغرامة عن نصف حدِّها الأعلى إذا اقترنت الجريمة بحالات، منها: التغرير بالقُصَّر ومَن في حكمهم واستغلالهم.

وعلى نحو محدَّد، يمكن حصر أبرز الجهود والمبادرات والجهات في مجال حماية الطفل في العالم الفضائي على المستوى المحلي، فيما يلي:

(أ) على مستوى الدولة:

  1. ترشيح محتوى الإنترنت منذ بداية دخوله المملكة العربية السعودية وبداية استخدامه عام 1997م، بعدد من السياسات والإجراءات والخدمات.
  2. إصدار نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية عام 2007 م، ويحوي جزءًا خاصًّا بالإساءة للأطفال في الإنترنت.
  3. نظام مكافحة الاتجار بالأشخاص عام 2009م، ويشتمل على بند خاص بشدة العقوبة إذا ارتُكبت ضد الأطفال.
  4. إقرار مجلس الوزراء عددًا من التوصيات تتعلق بتقنين المحتوى الأخلاقي لتقنية المعلومات.
  5. المصادقة على العديد من الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات العالمية بخصوص الطفل، مثل:
  • اتفاقية حقوق الطفل.
  • البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل، المتعلقة ببيع الأطفال واستغلالهم في المواد الإباحية.

(ب) على مستوى المؤسسات والمنظمات غير الحكومية:

  • برنامج الأمان الأسري:
  1. شمول خط مساندة الطفل التابع للبرنامج البلاغات والشكاوى الخاصة باستخدام الأطفال للتقنية الرقمية.
  2. تقديم برامج تدريبية في قضايا الاستغلال الجنسي لدى الأطفال عن طريق الإنترنت بالتعاون مع وزارة الداخلية وجامعة نايف للعلوم الأمنية.
  3. إجراء دراسة علمية موسَّعة عن مدى انتشار الألعاب الإلكترونية لدى اليافعين وارتباطها بصحتهم النفسية وممارستهم للسلوكيات الخطرة.
  4. تنظيم ملتقى (وقاية الأطفال من الاستغلال في مواقع التواصل الاجتماعي).
  • مجلس شؤون الأسرة:
  1. تنظيم ملتقى (الأسرة والتقنية) في نوفمبر 2019م، وتم خلال إحدى جلساته تسليط الضوء على الأطفال واستخدامات التقنية.
  2. تنظيم “ملتقى الطفولة الأول” في نوفمبر 2020م، وكان موضوع (أطفالنا والتقنية) أحد محاوره.
  • جمعية الأمن السيبراني للأطفال:
  1. تنظيم ورش عمل متخصِّصة وبرامج تدريبية وتوعوية في مجال الأمن السيبراني.
  2. عقد شراكات واستشارات اجتماعية.
  3. إطلاق هاكثون سايبر كيدز للأطفال بمشاركة 65 طفلًا.
  4. عقد (6) لقاءات عن بُعد و(10) لقاءات مباشرة، استفاد منها 843 طفلًا في مجال التوعية السيبرانية.
  5. إصدار كُتيِّب قصصي وإطلاق مسابقة رمضانية في مجال الأمن السيبراني.

(ج) جهود الجامعات الحكومية وغير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني:

وذلك فيما يتعلق بتنظيم العديد من الملتقيات والندوات والورش العلمية المتخصِّصة، لتسليط الضوء على قضايا الآثار المتعلقة بعلاقة الأطفال بالعالم الرقمي؛ لتدعيم إيجابيات هذه العلاقة وترشيدها، والتوعية بالمخاطر الناجمة عنها للعمل قدر الإمكان على تلافيها أو التقليل منها.

  • سادسًا – آليات حماية الأطفال في الفضاء الإلكتروني:

تستوجب خطورة العالم الإلكتروني على أطفالنا تضافر كافة الجهود والعمل بشكل مستمر بهدف تطوير المنظومة التشريعية، واتخاذ تدابير قوية لحماية الأطفال من مخاطر العالم الإلكتروني وفق الاتفاقيات الدولية وأفضل الممارسات المعمول بها في هذا الشأن.

ولا بد من تكاتف الجهود على كافة المستويات التنفيذية والمجتمعية من وزارات ومؤسسات أكاديمية ومؤسسات مجتمع مدني، لتفعيل أنظمة حماية الأطفال ضد مخاطر الفضاء الإلكتروني وتطبيقاتها المختلفة؛ من خلال العمل على تنسيق تلك الجهود ومنع تكرارها، وحُسْن كفاءة إدارة اللجان المعنية بحماية الأطفال باعتبارها الركيزة الأساسية ضمن منظومة حماية الطفل ضد مخاطر الفضاء الإلكتروني. مع ملاحظة أن دور اللجان المعنية بحماية الأطفال من مخاطر الفضاء الإلكتروني لا يقتصر على تفعيل النظُم الرسمية، ولكن لا بد أن يتضمن دورها ركيزة بناء القدرات والتوعية المكثَّفة لدرء تلك المخاطر من خلال توافر أدلة إرشادية ضمن تطبيقات إلكترونية يتم تعميمها على الأطفال والآباء بهدف تعريفهم بكافة المخاطر المحتملة من الاستخدام غير المراقب للفضاء الإلكتروني، مثل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية، وتوجيهم نحو كيفية التعامل مع تلك المخاطر، وأدوات الحفاظ على أمان الأطفال عبر الإنترنت وخصوصًا مع زيادة استخدام الأطفال لها لأغراض تعليمية، وهو ما يستدعي زيادة توعية الآباء عند استخدام تلك التطبيقات والتي أصبحت إلزامية عند استخدامها لغرض التعلُّم، ومثال على ذلك تطبيق “Safer Schools” والذي يُستخدم في أيرلندا، ويتضمن كافة المعلومات اللازمة للوالدين ومقدِّمي الرعاية حول إعدادات الأمان وإعدادات الخصوصية ووظائف الإبلاغ / الحظر للوسائط الاجتماعية والتطبيقات والألعاب. وتشمل أهم مجالات التوعية العناصر التالية:

  • حماية بيانات الطفل الشخصية.
  • كيفية بقاء الطفل بأمان أثناء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
  • توعية الأطفال بأهم جرائم الفضاء الإلكتروني، مثل التنمر السيبراني.
  • تشجيع الأطفال على المصارحة والحوار عندما يتعرضون لمحتوى يعتبرونه غير مرغوب فيه/سيئ.
  • توعية الآباء بأهم محركات البحث الملائمة للأطفال (محركات بحث صديقة للأطفال).
  • توعية الآباء بمدى ملاءمة الألعاب الإلكترونية وكيفية تصنيفها وفقًا للفئة العمرية للطفل.
  • توعية الآباء بطرق الخداع المختلفة، والتي قد يتعرَّض لها الطفل عبر الإنترنت.
  • توعية الآباء بطرق إبلاغ السلطات في حالة تعرُّض الطفل لمشاكل ذات صلة بالفضاء المعلوماتي.

كما لا بد من قيام تلك اللجان بتفعيل الدور الرقابي لها من خلال تشكيل لجان نوعية مكوَّنة من المتخصِّصين من علم النفس والاجتماع والتربويين ومهندسي أمن المعلومات؛ لمراقبة محتوى الفضاء الإلكتروني وخصوصًا الألعاب الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي، ووضع ضوابط لاستخدامها؛ على أن تكون المراقبة وفقًا لضوابط مرنة تلائم طبيعة التغيرات المتسارعة في تقنيات المعلومات، وأن تتضمن أدوات قياس لمدى مشاركة الأطفال الرقمية. كما لا بد وبالمشاركة مع المؤسسات الأكاديمية من قيام تلك اللجان بتنفيذ الدراسات التفصيلية والبحوث العلمية الموثوقة على مستوى المملكة للبحث حول طبيعة مشاركة الأطفال واحتياجاتهم الرقمية، وتطوير أدوات الرقابة المحلية اللازمة، وتحسين قنوات الأمن المعلوماتي.

وثمةَ آراء تؤكد أن خط الدفاع الأول يكمن في ترسيخ منظومة أخلاقية وهيكل مفاهيم واضحة وعلم شرعي في ضمير الأبناء والبنات على أسُس من الاعتدال.

كما أن حماية الأطفال والمراهقين من العالم الافتراضي، سواء مواقع تواصل أو برامج أو ألعاب أو مواد إعلانية وغيرها، لا يتم إلا من خلال سلسلة جهود مترابطة الحلقات؛ تبدأ من الأسرة التي بدورها تقوم بترسيخ القيم الأخلاقية لجميع جوانب الحياة وتقوية الرادع الذاتي بحيث تتكون المناعة الذاتية لديهم، وعلى مراحل وجرعات تتناسب مع طبيعة الأبناء وشخصياتهم، وفتح قنوات حوار فيما بينهم، والمتابعة المستمرة دون التضيق عليهم. وهذا يحتاج أيضًا لمساندة المؤسسات الاجتماعية الأخرى في المجتمع كالمدرسة، فلا يقلُّ دور المعلم عن دور الوالد كونه قدوةً لطلابه. ثم بعد ذلك يأتي دور الإعلام الموجَّه في التوعية والإرشاد بأسلوب جاذب للأطفال والمراهقين.

ويبرز في هذا الإطار دور “الوقاية المبكرة”، وذلك بأن نشرح للطفل معنى “مادة إباحية” “ومادة جنسية”، وأن نُوضِّح له المقصود “بالتنمر والتحرش”. ومن المهم تنبيه الطفل إلى أن كثيرًا من هذه المواد تتصادم مع ديننا وأخلاقنا، وأنها غير مناسبة، ونُبين له لماذا هي غير مناسبة؛ فهي منتج عالمي لا يخصُّنا، وأن من وضعوها يختلفون عنا، وذلك بلغة بسيطة يفهمها.

وينبغي هنا التشديد على أهمية التواصل الجيد مع الأبناء وتفهُّم مرحلتهم العمرية وتوقُّع ردود أفعالهم، والمتابعة الدقيقة لكلِّ ما يشاهد أطفالهم، وتقنين البرامج المحمَّلة، وتخصيص عدد ساعات مسموحة يوميًّا، وتوعية المراهقين من الأبناء بنوعية الألعاب المحظورة، والاختيار الصحيح لمَن يلعب معهم. مع تحذيرهم من التحدُّث مع الغرباء على الإنترنت، الذين قد ينتحلون شخصيات مزورة محاولين استمالة الطفل، وبعد وصولهم لبياناته الشخصية وهواياته والأشياء التي يفضلها، يلجؤون إما لتجنيده إلكترونيًّا أو التحرش به، أو ابتزازه ماليًّا.

لكن لا ينبغي أن نغفل عن دور الأسرة في توعية الأبناء بأهمية عدم تفويت فرصة الاستفادة القصوى من الساعات التي يقضيها الأبناء على الإنترنت لتنشيط ذاكرتهم من خلال ألعاب الذكاء والتركيب وغيرها، فضلًا عن الفرص اللا محدودة للتعلُّم واكتساب المهارات المختلفة من المحتوى المتنوع الغني، ومنابر التعبير الحر، وتبادل الخبرات المتاح على المواقع الإلكترونية المختلفة.

كما يمكن للمدرسة أن تسهم بشكل كبير في معاونة الأسرة؛ وذلك من خلال تضمين المناهج الدراسية موادَّ متخصصة عن فوائد ومخاطر الفضاء الإلكتروني، وإقامة دورات تدريبية للطلاب والطالبات داخل المدارس عن مواجهة المخاطر المتضمَّنة في هذا الفضاء، وتنظيم أيام مخصَّصة في المدارس لهذا الغرض في كل فصل دراسي لتبادل الرأي والمشورة مع الأسر حول النجاحات والإخفاقات التي تعتري الأسر في مواجهة هذه الظاهرة، وكيف يمكن للمدرسة تضمينها في برامجها ومناهجها المدرسية.

أيضًا، بإمكان الجامعات القيام بالدراسات التطبيقية حول أنسب السُّبل لمواجهة ظاهرة ومخاطر الفضاء الإلكتروني وأثره على الطفل والمجتمع في مختلف المجالات الاجتماعية والإلكترونية والإعلامية والقانونية وغيرها، كذلك تنفيذ عدد من المؤتمرات والندوات والمحاضرات لمناقشة هذه الظاهرة، وتنفيذ عدد من الشراكات مع مؤسسات المجتمع المدني لدراسة هذه الظاهرة والاستفادة من التجارب الدولية والمحلية وتبادل الرأي حول أفضل الأساليب والمناهج لمواجهتها. كذلك لا يمكن إغفال دور الجامعات في البحث والابتكار في المجال التقني والخروج بتطبيقات مناسبة للمجتمع أو ببرامج حماية لمستخدمي الإنترنت.

وبالنظر إلى أن للإعلام دورًا رئيسًا ومهمًّا في نقل جميع المناشط والفعاليات التي تتم في المجتمع والتركيز عليها ومناقشتها بشكل دائم، ولفت نظر الأسر إلى مكامن الخطورة التي يمكن أن يتعرَّض لها الطفل والمجتمع. ونحتاج هنا إلى التواجد الإعلامي في مختلف المنصات التقليدية (صحافة، وإذاعة، وتلفزيون) والرقمية على الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، ومن خلال التطبيقات الحديثة، ضمن برامج موجَّهة برسائل احترافية مقنعة يقوم عليها خبراء في علم النفس والاجتماع والإعلام حتى تؤثر في المتلقي وتُحقِّق الهدفَ المنشود.

ومن المهم كذلك التطبيق الفعلي لجميع القوانين والأنظمة المتعلقة بحماية الطفل بصرامة وبشكل متواصل في مختلف الوسائل الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي.

وفي المقابل، لا بد من تشجيع وتحفيز المبادرات الوطنية لإنشاء تطبيقات إلكترونية سهلة تساعد الأطفال أنفسهم وأسرهم في حال الرغبة في شراء برامج وألعاب ذات مواصفات مناسبة لهم بحسب تدرُّج وعيهم وأعمارهم، بمعنى تحفيز الكفاءات الوطنية الشابة بالشراكة مع القطاع الخاص على الدخول في صناعة البرامج والألعاب التقنية المتطورة الجاذبة للأطفال وذات المستوى القيمي والفكري والمهاري عالي المستوى.

كما أننا بحاجة إلى مشروع وطني لمواجهة التهديدات السيبرانية الموجَّهة للأطفال، وتتعاون فيه مختلف الجهات التي تُعنى بحقوق الطفل مثل مجلس الشورى، ووزارة الإعلام ممثَّلة في هيئة الإعلام المرئي والمسموع، وهيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، والهيئة الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، وشركات الاتصالات (ومزودي الإنترنت) العاملة في المملكة. ويمكن الاستفادة من تجربة الصين في حظر الكثير من المواقع وعدم السماح بالدخول إلى تلك المواقع المشبوهة، والتي يُخشى منها على الثقافة المحلية، وإيجاد المنصات البديلة المحلية ودعوة المواطنين لاستخدمها.

واستنادًا للمادة 12 من نظام حماية الطفل في المملكة العربية السعودية، واستنادًا إلى مصادقة المملكة على الاتفاقيات الدولية لحماية الأطفال، واتفاقيات المملكة في مجال التعاون الدولي لمكافحة الجريمة؛ من المهم أن يكون هناك عقوبات رادعة للشركات التي تنتج كلَّ ما يضرُّ بالقيم والأخلاقيات المهدِّدة للمجتمع. ولكن ذلك يجب أن تسبقه سياسات متكاملة بين الأجهزة والمؤسسات ذات العلاقة في الدولة. ولن تكون السياسات فاعلةً ما لم يكن هناك تنسيق وتعاون وتكامل في الأنظمة والقوانين والقرارات والإجراءات بين مختلف أجهزة الدولة ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة.

 

ومن المهم كذلك ملاحظة أن الجرائم الإلكترونية المرتكبة في حق الطفل هي جرائم عابرة للقارات؛ ولذا فإن وجود أنظمة وقوانين عالمية ترتبط بها القوانين الداخلية وتحققها يعتبر عاملًا مهمًّا جدًّا في حماية الطفل.

وفي هذا الإطار، فقد تقدَّمت (د. وفاء طيبة، أ. د. هند خليفة، ود. الجازي الشبيكي) بسياسة من خلال مركز الفكر أسبار في T20 ، 2020  بفكرة أن تقوم الأمم المتحدة بمساعدة المنظمات العالمية المعنية ودول العشرين بالعمل على إضافة بروتوكول اختياري ملحق باتفاقية حقوق الطفل، معنيّ بحماية الطفل في العالم الإلكتروني، حيث إنَّ المواد: 4، 13، 17، 19، 24، 31، 32، 34، 36، 39، تتحدث عن حماية الطفل من المشكلات التي تم استعراضها في هذه الورقة، ولكن على أرض الواقع لم يكن العالم الافتراضي واضحًا بهذا الشكل عند نشأة الاتفاقية منذ أكثر من 30 سنة. ويتم بناء هذا البروتوكول بتعاون دولي، ويشارك في وضعه كلُّ التخصصات ذات العلاقة (علم النفس، وأطباء، وعلماء الاجتماع، والقانونيون، والمعلمون، والبرلمانيون، والمنتجون للمحتوى الخاص بالطفل، ومنتجو الألعاب، وأصحاب التخصصات الإلكترونية…)، وقد اشتمل المقترح على تصوُّر نظري لمحتويات البروتوكول.

وداخليًّا لدينا نظام الحماية من الإيذاء (1434هـ)، ونظام مكافحة الجرائم المعلوماتية (2007)، وقد أدت هذه الأنظمة دورًا كبيرًا في حماية الطفل؛ ولكن نحتاج أن نعمل على تطويرها لتغطية جميع جوانب حماية الطفل في العالم الإلكتروني، وربطها بالنظُم العالمية في ذلك. ونتوقع من برنامج الأمان الأسري (2005) أن يكون له دورٌ في هذا المجال أيضًا.

  • سابعًا – مبادرة سمو ولي العهد لحماية الأطفال في العالم السيبراني:

تقدَّم سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بمبادرة تهدف لمواجهة التهديدات السيبرانية المتزايدة التي تستهدف الأطفال، ورفع مستوى التوعية وتقديم التدريب في هذا المجال، وتطوير السياسات ذات الصلة ودعم استخدام أفضل الممارسات لحماية الأطفال على الإنترنت.

ويعَدُّ من أهم ركائز مبادرة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لحماية الطفل في العالم السيبراني:

 

  • ثامنًا – التوصيات:
  • تعزيز تنفيذ الأنظمة والسياسات والمبادرات والممارسات العملية المتعلقة بحماية حقوق الطفل.
  • ضرورة متابعة آليات بلاغات العنف والاستغلال، والتحقيق في انتهاكات حقوق الطفل.
  • تحديث أنظمة الحماية للطفل بما يتناسب مع خطورة العالم الإلكتروني.
  • تدريب العاملين في خطوط البلاغات عن العنف الأسري، ومساندة الطفل وإدراج بلاغات الإساءة الإلكترونية ضمن قائمة اهتمام الجهات المعنية بذلك.
  • توفير خدمات الإرشاد الاجتماعي للأسر بخصوص حماية الأطفال عبر الإنترنت، وتوعية الأسر بكيفية مساعدة أطفالهم لعدم التعرُّض لأيٍّ من مخاطر سوء استعمال وسائل التواصل الاجتماعي.
  • تدريب العاملين في الخدمات التعليمية والاجتماعية على التعامل مع التأثيرات والأخطار عبر شبكة الإنترنت.
  • التحقق من احتواء منصات الإنترنت على تدابير محسِّنة للأمان والحماية، خصوصًا في أدوات التعلُّم الافتراضي، وضمان أن هذه التدابير متاحة بسهولة للتربويين والوالدين والأطفال.
  • تعزيز وتيسير خدمات الإحالة في مجال حماية الطفل، وتطوير سياسات موحَّدة لإدارة المنصات الرقمية بحيث تتماشى مع حقوق الطفل.
  • ضرورة التحقُّق من أن الأجهزة الإلكترونية التي يستخدمها الأطفال مزودة بآخر تحديثات البرامج الحاسوبية وبرامج مكافحة الفيروسات الإلكترونية.
  • وجوب أن يكون للقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني دورٌ ملموسٌ في حماية حقوق الطفل في العالم الافتراضي، وحوكمته، والسياسة المقترحة لدعم الاتفاقية الدولية لحقوق الأطفال، وحمايتهم أثناء استخدامهم للإنترنت.
  • أهمية التنسيق والتبادل المعرفي على الصعيد العالمي للتصدي لتحديات العالم الرقمي، وتعميق التعاون مع منظمات الأطفال، والتواصل بصفة أكثر منهجية مع صانعي السياسات وواضعي القوانين. والاستفادة من التجارب المحلية والدولية في حوكمة العالم الافتراضي.
  • تكثيف جهود الباحثين لدراسة المشكلات الاجتماعية والنفسية والصحية الناجمة عن استخدام الأطفال للأجهزة الإلكترونية، وكذلك نوعية الجرائم الناتجة عنها، والأسباب المؤدية لجلوس الطفل لساعات داخل الفضاء الافتراضي؛ وبالتالي الوصول لنتائج قد تساعد الجهات المعنية في تحديث قوانين حماية الطفولة.
  • أن تتحمَّل الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع مسؤوليتها في تقنين وتنظيم المحتوى عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بما يحمي الأطفال أولًا، والشباب ثانيًا، وكبار السن ثالثًا.
  • ضرورة دراسة ظاهرة ألعاب الفيديو على الإنترنت وفي البيئة السعودية بشكل خاص وتأثيرها على الأطفال.

مراجع للاستزادة

  • نظام مكافحة جرائم المعلوماتية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/17) لعام 1428هـ.
  • د. حسين الغافري: الإطار القانوني لحماية الأطفال من مخاطر شبكة الإنترنت.
  • مبادئ توجيهية لواضعي السياسات بشأن حماية الأطفال على الإنترنت 2020، الاتحاد الدولي للاتصالات، قطاع التنمية.
  • الحماية القانونية للأطفال عبر الفضاء السيبراني، المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية، الاجتماع الثامن عشر.
  • د. هند الخليفة: حماية الطفل في العالم الافتراضي، جريدة اليوم.
  • د. عواد بن صالح العواد: حماية الطفل في العالم السيبراني.
  • المشاركون:
  • الورقة الرئيسة والمعقبون: د. وفاء طيبة، د. فهد الرفاعي، د. عبد العزيز الحرقان.
  • إدارة الحوار: د. حسين الحكمي
  • المشاركون في الحوار والمناقشة:
  • د. عبد الإله الصالح
  • د. الجازي الشبيكي
  • د. صالحة آل شويل
  • د. عبد الرحمن العريني
  • د. محمد الثقفي
  • د. عبد الله ناصر الحمود
  • د. هناء المسلط
  • د. رياض نجم
  • أ. فائزة العجروش
  • د. خالد الرديعان
  • د. عبد الرحمن باسلم
  • د. سعيد العامودي
  • د. سعيد الغامدي
  • د. مها المنيف
  • د. خالد المنصور
  • د. حميد الشايجي
  • د. مساعد المحيا

 


القضية الثانية

مَنْح الرُّخص المهنية بناءً على الاختبارات: تصوُّرات بحاجة إلى تصحيح (30/5/2021م)

 

  • الملخص التنفيذي.
  • أولًا: مدخل تمهيدي.
  • ثانيًا: اختبارات الكفايات والتمييز بين مستويات أداء المعلم.
  • ثالثًا: استخدام الاختبارات للتمييز بين مستويات أداء القيادات المدرسية والإشراف التربوي.
  • رابعًا: مقترحات عملية لتطوير آلية منح الرخص المهنية.
  • خامسًا: التوصيات.
  • المشاركون.

  

  • الملخص التنفيذي:

تناولت هذه القضية مَنْح الرُّخص المهنية بناءً على الاختبارات، بالإشارة إلى ما تضمَّنته لائحة الوظائف التعليمية الصادرة منذ السنتين تقريبًا بخصوص “الرُّخصة المهنية” في عدد من موادها. حيث عرفتها في المادة (1) بأنها “وثيقة تُصدرها الهيئة وفق معايير محددة؛ يكون حاملها مؤهلًا لمزاولة مهنة التعليم بحسب رُتب محدَّدة ومدة زمنية محددة، وبحسب تنظيم الهيئة ولوائحها”. وفي المادة (10) جعلت الحصول على الرُّخصة المهنية من بين الشروط اللازمة للترقية من رتبة معلم ممارس أو معلم متقدم إلى الرتبة التي تليها (متقدِّم أو خبير على التوالي). ونصت الفقرة (2) من المادة 26 على الحرمان من العلاوة السنوية “إذا لم يحصل الموظف على الرخصة المهنية أو لم يجدِّدها خلال الفترة المحددة وفقًا للقواعد والترتيبات المنظِّمة للرخص المهنية لدى الهيئة”. وقد أثارت هذه الإشارات كثيرًا من التفسيرات والاجتهادات حول المفهوم ذاته وحول كيفية التطبيق.

وقد تمَّ التطرُّق إلى أن استخدام اختبارات كفايات المعلمين (العامة والتخصصية) يأتي بهدف تحديد الحدود الدنيا من المعارف والمهارات والكفايات اللازمة للتدريس؛ لكن ثمة وجهات نظر أخرى ترى في اللجوء إلى هذه الاختبارات من أجل التمييز بين مستويات أداء المعلمين يصبح مسألة محفوفةً المخاطر، ولن تؤديَ إلى نتائج يمكن الاعتماد عليها.

كذلك، ومع أن من المقبول استخدام اختبارات خاصة بوظائف القيادات المدرسية والإشراف التربوي التي تقيس المعرفة الأكاديمية، سواء التربوية المشتركة أو التخصصية للاختيار للالتحاق بهذه الوظائف للمرة الأولى؛ إلا أن من غير المقبول في نظر البعض أن يُعتمد عليها للاختيار أو للتمييز بين مستويات الأداء.

ومن أبرز التوصيات التي تم الانتهاء إليها ما يلي:

  • مراعاة منهجية الرخصة المهنية حيث إنَّها مصمَّمة خصيصًا لاستخدام نتائج الاختبار في عمليات المفاضلة ببن المتقدمين لمهنة التدريس، وليست مصمَّمة ابتداءً لغرض التمييز بين مستويات مختلفة من الأداء (المتميز من غير المتميز).
  • استيعاب جميع السمات والخصائص المؤثرة في فاعلية المعلم، وعدم الاقتصار على الجانب المعرفي، من خلال الاختبار التحريري.
  • وثيقة “المعايير المهنية للمعلمين” تحتاج إلى ترجمة تلك المعايير بصورة عملية إجرائية يمكن من خلالها تحديد الجوانب التي يمكن إخضاعها للملاحظة والقياس والتقويم، وبالتالي تحديد المناسب من الأدوات والإجراءات لها.
  • أولًا – مدخل تمهيدي:

تعَدُّ مسألة الرخصة المهنية لمزاولة التدريس من القضايا الجديدة على نظامنا التعليمي، مع أنها كانت متطلبًا رئيسًا للممارسة في بعض الأنظمة التعليمية في بعض الدول، دعت لها الرغبة في (تمهين) professionlization التدريس والارتقاء به إلى مستوى الوظائف المتطورة، علاوة على الرغبة في ضمان تطور مستوى المعلمين خلال مسيرتهم الوظيفية. ويمكن أن يُضاف لذلك فيما يخصُّ نظام التعليم السعودي (الحد من الترقي الوظيفي الآلي) وما ينتج عنه من زيادة في الراتب.

وقد تضمَّنت لائحة الوظائف التعليمية الصادرة منذ السنتين تقريبًا إشارات إلى “الرخصة المهنية” في عدد من موادها. فقد عرفتها في المادة (1) بأنها “وثيقة تُصدرها الهيئة وفق معايير محددة؛ يكون حاملها مؤهلًا لمزاولة مهنة التعليم بحسب رتب محدَّدة ومدة زمنية محدَّدة، وبحسب تنظيم الهيئة ولوائحها”. وفي المادة (10) جعلت الحصول على الرخصة المهنية من بين الشروط اللازمة للترقية من رتبة معلم ممارس أو معلم متقدم إلى الرتبة التي تليها (متقدم أو خبير على التوالي). ونصت الفقرة 2 من المادة 26 على الحرمان من العلاوة السنوية “إذا لم يحصل ]الموظف [على الرخصة المهنية أو لم يُجدِّدها خلال الفترة المحددة وفقًا للقواعد والترتيبات المنظِّمة للرخص المهنية لدى الهيئة”.

وقد أثارت هذه الإشارات كثيرًا من التفسيرات والاجتهادات حول المفهوم ذاته، وحول كيفية التطبيق. ولعل أهم هذه ابتداءً قضية “منح رخص مهنية حسب الرتب الواردة في لائحة الوظائف التعليمية (معلم ممارس، متقدم، خبير)، أي رخصة لكل رتبة؛ أو بمعنى آخر الحاجة إلى “رخصة” بالنسبة للرتب التي تتجاوز الدخول للمرة الأولى إلى المهنة. كما برزت عدة تفسيرات حول مدى حاجة القائمين من المعلمين أو القيادات المدرسية والإشراف التربوي على رأس العمل سنوات قبل صدور اللائحة إلى رخصة، واجتهادات حول الآلية التي يمكن أن يتحقق بها ذلك، وبخاصة عندما يتصل الأمر بتسكينهم على الرتب الجديدة.

ولعل التفسير الذي يقوم على مبدأ وجود رخصة لكل رتبة (أو وظيفة)، حتى وإنْ لم يكن الدخول إليها لأول مرة، أو سهَّل القبول بهذا النوع من التفسير؛ يقود إلى الاعتقاد أن القضية يمكن حلها بكل يُسر وسهولة من خلال إيجاد اختبارات على غرار الاختبارات التي يتقدَّم لها الراغبون في الدخول إلى مهنة التعليم لأول مرة.

وفيما يلي محاولة لتشخيص الخطأ في الاعتقاد بإمكانية اللجوء إلى الاختبارات لمَنْح الرخص بما يتجاوز الدخول الأول إلى المهنة، وصعوبة اشتراط رخصة مهنية لكل رتبة وظيفية (غير الرتبة أو الوظيفة الأولى). وسيتضح من تبيان الخطأ في استخدام الاختبارات مدى التكلفة التعليمية الباهظة التي يمكن أن تترتب على القبول بمبدأ “رخصة لكل رتبة” دون أن تُحقِّق مردودًا مهنيًّا يمكن أن يُسفر عن التحسين في تعلُّم الطالب، الذي هو غاية مقصد كل الجهود التعليمية، بما في ذلك ما بُذل من جهود في تطوير اللائحة، وما سوف يُبذل لضمان حُسن تطبيقها.

  • ثانيًا – اختبارات الكفايات والتمييز بين مستويات أداء المعلم:

يأتي استخدام اختبارات كفايات المعلمين (العامة والتخصصية) بهدف تحديد الحدود الدُّنيا من المعارف والمهارات والكفايات اللازمة للتدريس.

ويؤكِّد موقع هيئة تقويم التعليم والتدريب على أن الغاية من هذه الاختبارات هي ” قياس مدى تحقُّق الحد الأدنى من المعايير التي ينبغي توفُّرها في المتقدمين لمهنة التدريس، بما تشمل من معارف وعلوم ومهارات تغطي الجوانب الأساسية للمهنة، واستخدام نتائج الاختبار في عمليات المفاضلة بين المتقدمين لمهنة التدريس”؛ أي أنها ليست مصمَّمة ابتداءً لغرض التمييز بين مستويات مختلفة من الأداء (المتميز من غير المتميز).

وحتى فيما يخصُّ النجاح في تحقيق الغرض الأساس من هذه الاختبارات، يحسُن التنويه إلى حقيقة أن عمل المعلم يتسم بالتعقيد، ولا يوجد اختبار مهما بلغ من جودة التصميم أن يقيس كل المتطلبات من الكفايات اللازم توافرها فيه. أما عندما تزداد هذه الكفايات تعقدًا نتيجة الممارسة الفعلية لمهنة التدريس والخبرة الميدانية؛ فإن اللجوء إلى هذه الاختبارات من أجل التمييز بين مستويات أداء المعلمين يُصبح مسعى محفوفَ المخاطر، ولن يؤديَ إلى نتائج يمكن الاعتماد عليها لعدد من الأسباب، أبرزها:

  • تتحدد “فاعلية المعلم” والتمييز بالتالي بين مستوياتها من خلال النظر إلى مجموعة متشابكة من السمات والخصائص لا يُمثِّل الجانب المرتبط منها بالمعرفة العلمية بمادة التخصص أو بالجوانب التربوية والذي يمكن قياسه من خلال الاختبارات (اختبارات الورقة والقلم) سوى الجزء اليسير منها. وستظلُّ نسبة كبيرة من هذه السمات والخصائص بعيدةً عن إمكانية القياس المباشر، وعلى الأخص من خلال الاختبارات. ذلك أن عددًا منها يتصل بجوانب ترتبط بالممارسات الفعلية والنشاطات التي يقوم بها المعلم أثناء عمله، والسلوكيات والعلاقات التفاعلية التي يكوِّنها داخل المدرسة، والنزعات والسمات التي يكتسبها أو يُوجدها من قيامه بواجباته ومسؤولياته، وأخيرًا تأثيره في نواتج تعلُّم الطالب وتحصيله الدراسي، وغير ذلك من الجوانب التي يلزم لتقييمها استخدام أكثر من وسيلة وأداة. فإدارته لبيئة التعلم – على سبيل المثال – تتطلب تقييمًا حيًّا (من خلال المشاهدة) لكيفية تفاعله مع الطلاب، وكيفية تفاعل الطلاب أنفسهم مع بعض أثناء الحصة، وكيفية أداء المعلم للأعمال الروتينية داخل الفصل، وإدارة سلوكيات الطلاب، وتنظيم بيئة التعلُّم بما يتناسب مع الدروس التي يقدِّمها. وينطوي تقديم الدرس على عدد كبير من النشاطات والفعاليات التي يؤديها، يتمثَّل بعضها في طريقة عرض الدرس ونوعية الأسئلة التي تُطرح، والنقاشات التي تتمُّ مع الطلاب، ومستوى مشاركاتهم وتفاعلهم ومقدرته على إثارة اهتمامهم، ومدى تمكُّنه من الطرق والإجراءات التي يتبعها لتقييم مستوى تعلُّم الطلاب، ومهاراته في تكييف الموضوع الدراسي حسب مستويات الاستيعاب، وغير ذلك من التفاصيل التي يلزم لتقييمها ملاحظة وتحليل ما يقوم به فعليًّا. وفي الجوانب المتصلة بالتخطيط للدروس والإعداد لها (مثل: المعرفة بمادة التخصص وبكيفية تعليمها، وبالفروق الفردية بين الطلاب، وبتحديد نواتج التعلُّم وبالتصميم الجيد للدرس وأساليب تقييم التعلم) يلزم الاعتماد على أكثر من أداة، قد تشمل الاطلاع على خطة التحضير وبعض الشواهد المناسبة للحكم على كلٍّ من هذه الجوانب. وبالمثل، فإن مجال المسؤوليات المهنية للمعلم يتضمن الكثيرَ من الأبعاد التي يلزم لتقييمها استخدام أكثر من أداة ووسيلة لجمع الأدلة المناسبة؛ قد تشمل المقابلات، والاطلاع على السجلات، وغير ذلك من جوانب لا يمكن تقييمها من خلال اختبارات الورقة والقلم. وتتمثَّل الإشكالية الحالية في أن التوجُّه نحو بناء نظام لرُخص الرتب بناءً على اختبارات تُعَدُّ لذلك لا يأخذ في الاعتبار التعددية والتنوع في المجالات التي تُؤلِّف مفهوم “الفاعلية” ولا الحاجة إلى أكثر من أداة وأسلوب لقياسها وتقويمها.

ويُلاحظ أن الجهود التي تقوم بها الهيئة في مجال الرُّخص المهنية يتمحور في بناء اختبارات تعتقد أنها ستعكس ما هو متضمَّن في وثيقة “المعايير المهنية للمعلمين”. لكن هذه الجهود لا تأخذ في الاعتبار الأسُس التي ترتكز عليها الوثيقة من كونها بُنيت على رؤية شاملة لمهنة المعلم، بما تتضمنه من جوانب متعددة ومتنوعة. وكأية وثيقة عامة معنية بتأطير المهنة من خلال مجموعة من المعايير الأساسية، تظلُّ الحاجة قائمةً إلى ترجمة تلك المعايير بصورة إجرائية يمكن من خلالها تحديد الجوانب التي يمكن إخضاعها للملاحظة والقياس والتقويم، وبالتالي تحديد المناسب من الأدوات والإجراءات لها([18]).

ويُمثِّل ما ذهبت إليه الوثيقة من تقسيم الأداء على كل من المعايير التي اشتملت عليها إلى مستويات (ممارس، متقدم، وخبير) تحديًا آخر، وبخاصة أن الوثيقة لا تُوفِّر تعريفات محدَّدة تساعد على التمييز الواضح فيما بينها، أو تبيان الكيفية التي من خلالها يتم تقييم كل منها. وقد جاء إيراد هذه المستويات في لائحة الوظائف التعليمية ليُعطي الانطباع بأننا نتعامل مع مستويات جرى تعريفها ومعرفة متطلبات التمييز بينها وقياسها بشكل مُيسر لن يكتنفه غموض. وربما قد ولَّد هذا انطباعًا آخر تمثَّل في تصوُّر أن من الممكن ومن خلال اختبارات تُعطى على غرار اختبارات كفايات المعلمين الخاصة بالدخول إلى المهنة، التمييز بين هذه المستويات؛ وبالتالي تقييمها ومنح الرخص اللازمة لها. أي وكأنَّ المهمة الأساسية أصبحت محصورةً في ضرورة الإسراع في بناء هذه الاختبارات للوفاء بمتطلبات اللائحة. لكن الأمر في الواقع يتجاوز مسألة بناء اختبارات أو مَنْح رُخص بموجبها إلى ما هو أعمق وأكثر تعقدًا من ذلك.

  • في مصطلحات القياس والاختبارات، تخصُّ الفقرة أعلاه قضايا تتصل بموضوعي الصدق السماتي (أو التكويني) وصدق المحتوى، واللذين يعَدُّ توافرهما في أداة القياس ضروريين لضمان التفسير والاستخدام الصحيحين لها. ويُعبِّر الأول عن التعريف، أو بالأحرى التحديد للمجال الذي يمثِّل السمة موضوع القياس، والثاني عن مدى إمكانية تمثيل محتوى هذا المجال في محتوى أداة القياس.

وكما يتضح، فإن هذا المجال متعدد الأبعاد، ويتطلب تحليله وتحديد أبعاده وتقسيمها إلى مستويات متمايزة وتخصصات الكثيرَ من الجهود التي يصعب القيام بها؛ بسبب التنوع والتعدد فيها، والحاجة إلى وجود أكثر من مقاربة للتحليل لجعلها قابلةً للقياس والتقويم. والمتمعن في أدبيات “فاعلية المعلم” يدرك كم هو شاق تحديد ما يتضمنه هذا المجال، ناهيك عن تقديم تعريفات مناسبة للأبعاد والمتغيرات التي يشملها؛ ومن ثَمَّ تمثيلها بمستوياتها في محتوى أداة (أدوات) القياس. كما يُدرك أن الجانب المتصل بالتحصيل التخصصي أو التربوي للمعلم – كما أسلفنا- لا يمثل إلا بُعدًا واحدًا من تلك الأبعاد، يختلف الباحثون في مدى أهميته والوزن الذي يجب أن يُعطى مقارنةً مع الأبعاد الأخرى، وأننا سنظل بحاجة إلى أكثر من أداة قياس حتى يمكن الإحاطة بمختلف الأبعاد المتضمَّنة في السمة (السمات) المقاسة ودرجات التمايز فيما بينها.

أما ما يعنيه هذا من الناحية العملية، أو بالأحرى الجهود والمصادر والمتطلبات التي يتعين توفيرها لضمان هذا النوع من الصدق؛ فإنها مسألة شائكة، ولا نجد أن السعي الحالي لتوفيرها لغرض منح الرخص سيكون مجديًا أو مقبولًا من ناحية التكلفة أو الوقت أو المصادر اللازم توفيرها في ضوء المردود الضئيل بالنسبة للغرض منها (منح الرخص المهنية حسب الرتب الوظيفية). فالتحليل الذي يلزم القيام به لتحديد المجال والأبعاد المتضمَّنة في الرتب ومستوياتها حسب التخصصات والمراحل سيستغرق الكثيرَ من الوقت والجهد للوصول إلى إطار واضح المعالم يمكن فيما بعدُ تمثيله إجرائيًّا في محتوى أداة (أدوات) القياس. ومن غير الممكن الاكتفاء بجهود في التحليل والتوثيق على غرار ما يتم حاليًّا في مجال اختبارات كفايات المعلمين، ليس فقط بسبب القصور في هذه الجهود من الناحية الفنية؛ بل لأن الجهد المطلوب سيشمل كافة المجالات والأبعاد المتضمَّنة في المهنة. وسيتقرر في ضوء التحليل الاختيار من بين عدد من الأساليب والأدوات التي يمكن استخدامها لجمع المعلومات اللازمة للتقييم (اختبارات الورقة والقلم أو المحوسبة)، الملاحظة المسجلة مباشرة أو عن طريق الفيديو، البورتفوليو، الآثار أو الشواهد artefacts، (مثل: التحضير، الواجبات المنزلية، التقييمات الصفية، النشاطات الصفية الموثقة، التقييم الذاتي، التقييم الطلابي للمعلم، ونتائج التحصيل الدراسي للطلاب)؛ ومن ثم اتباع الخطوات التي تُتبع عادةً لبناء هذه الأدوات. هذه الخطوات ستتضمَّن التجريب والتطبيق للأدوات التي يتقرر استخدامها والتدريب على تحليلها وتصحيحها، والتأكد من مستوى دقتها وثباتها. وبالطبع سيلزم تنفيذ دراسات الصدق المناسبة على هذه الأدوات قبل جَعْلها متاحة للاستخدام.

ويتضح من هذا أن القيام بالجهود المطلوبة وتوفير المتطلبات اللازمة لذلك لن يكون بالأمر اليسير، ومن المشكوك فيها جدًّا أنه سيؤدي إلى تطوير نظام جيد للرخص في كل رتبة. كما يتضح في الوقت نفسه أن السعي إلى إيجاد اختبار (ورقة وقلم) جهد قاصر لن يؤدي إلا إلى نتائج عكسية، ليس فقط بالنسبة للقرارات التي ستُتخذ لمنح الرخص؛ بل وللرسالة التي يتركها تعريف الاختبارات الضيق للأداء “الفاعل” من تهميش لجوانب أخرى أكثر أهميةً بما في ذلك ما يلزم من جهود في مجال التطوير المهني للمعلم. ونرى هنا أنه لا مفر من القول إنه لن يكون مناسبًا أو مجديًا المُضي في طريق مَنْح رُخص حسب الرتب المهنية. لكن هذا لا يعني بالطبع الرأي بأن تتوقف الجهود في حشد الإمكانات والأدوات اللازمة لتقدير مستويات أداء المعلم المتميز، بما يتجاوز رخصة “الدخول إلى المهنة”.  كذلك لا يعني التوقف عن القيام بجهود مكثَّفة للبحث عن أساليب من خلالها يمكن التمييز بين مستويات الرتب على النحو الذي يمكِّن من تقويمها، أو عن العمل على تطوير الأدوات والأساليب التي تُستخدَم ميدانيًّا من قِبل المشرفين التربويين وقياديي المدارس لتقييم المعلم بوجه عام.

وهنا، ينبغي التنويه إلى أن الفقرة (ج) من المادة (10) اشترطت لترقية المعلم، إلى جانب ما هناك من شروط أخرى “أن يتحقق في أدائه الحد الأدنى من النقاط المخصَّصة للتطوير المهني ونقاط تقويم الممارسات الإبداعية ذات الصلة الوثيقة بطبيعة عمله، ونقاط أثر التدريس على تعلُّم الطلاب وتحسين مستواهم التحصيلي”. ويفتح هذا الشرط البابَ واسعًا أمام إمكانية قيام جهود منظمة، سواء على مستوى الوزارة أو الهيئة، لتطوير الأدوات والإجراءات التي يمكن استخدامها لغاية الوصول إلى تقييم موضوعي منصف لأداء المعلم، يسفر عنه التحسين الواضح في مستويات تعلُّم طلابه.

  • ثالثًا – استخدام الاختبارات للتمييز بين مستويات أداء القيادات المدرسية والإشراف التربوي:

ليس من الصعب تعميم ما ذُكِر بشأن الخطأ في مبدأ استخدام الاختبارات للتمييز بين مستويات أداء المعلم على استخدامها في مجال الاختيار أو التمييز بين مستويات الأداء في وظائف القيادة المدرسية أو التعليمية أو الإشراف التربوي، وبخاصة ما يتصل بموضوع الصدق، validity. ومع أن من المقبول استخدام اختبارات خاصة بهذه الوظائف ليس على غرار الاختبارات التي تقيس المعرفة الأكاديمية، سواء التربوية المشتركة أو التخصصية للاختيار للالتحاق بهذه الوظائف للمرة الأولى([19])؛ إلا أن من غير المقبول أن يُعتمد عليها للاختيار أو للتمييز بين مستويات الأداء.

والتقدير أن الاختيار لكل من هذه الوظائف يجب أن يستند بدايةً على تحليل دقيق للمهام المطلوبة في كل منها، وتحديد للكفايات والقدرات والمعارف (أو بالأحرى الجدارات) المطلوبة للقيام بها. وفي ضوء هذا يتم تحديد وتطوير الأدوات والوسائل لتقييم مدى توافر هذه الجدارات في الأشخاص المتقدمين إلى هذه الوظائف، أو مَن يتم ترشيحهم لها، بالإضافة إلى ما يمكن اعتباره جدارات عامة في مستوى هذا النوع من الوظائف([20]).

وهناك عددٌ من الأدوات والأساليب التي عادةً ما تُتبع في الأنظمة الحديثة للاختيار والتقييم لمثل هذه الوظائف؛ تشمل اختبارات الشخصية، والقدرة المعرفية العامة، والاستبانات المتخصِّصة مثل 360 درجة. كما تشمل بدرجة رئيسة مجموعةً متنوعةً من التمارين والنشاطات المتضمَّنة في مراكز التقييم assessment centers مثل: سلال المهام in-basket exercises، رسائل الوارد in-box exercises، لعب الأدوار role play، تمارين تقييم الواقع situational judgment tasks، العروض presentations، المناقشات الجماعية group discussion، والمقابلات المبنية structured interviews، وغيرها. وكما يتضح، فإن الأمر يتجاوز مجرد الاكتفاء باختبار – أيًّا كان مستوى الجودة في تصميم هذا الاختبار أو اختيار محتواه ليتطابق مع المهام المطلوب القيام بها – إلى تطوير العديد من الأدوات والوسائل اللازمة للوصول إلى أحكام موضوعية تساعد قدر الإمكان في حُسن الاختيار([21]). ويتطلب تطبيق اللائحة التعليمية للاختيار في هذه الوظائف جهودًا مضنيةً وشاقة، ليس بالمقدور القيام بها دون تصوُّر واضح لمفهوم الرُّخصة أولًا، والأساسيات المتعارف عليها في الاختيار والتقييم([22]).

  • رابعًا – مقترحات عملية لتطوير آلية منح الرخص المهنية:

يعَدُّ تمهين التعليم العام مطلبًا أساسيًّا لتطوير ممارسات مهنة التدريس وتعظيم أثرها على مستوى مخرجات التعليم، وتأتي الرخص المهنية للمعلمين على رأس متطلبات تمهين التعليم. ويهدف اشتراط حصول المعلم على رخصة مهنية تتيح له الالتحاق بمهنة التدريس إلى التأكد من أن المعلم يمتلك المتطلبات الأساسية في المكون المعرفي والذهني على الأقل، على افتراض أن المكون القيمي قد تم التأكد منه من قِبل مؤسسات إعداد المعلمين.

ولاتخاذ قرار مَنْح الرخصة المهنية للمعلمين المبتدئين الذين سيلتحقون بالمهنة للمرة الأولى، يمكن إخضاعهم لاختبارات تحريرية (اختبارات الورقة والقلم) شريطةَ أن تكون هذه الاختبارات من نوع الاختبارات محكية المرجع التي تتطلب إعدادًا مختلفًا، وتكون نتيجتها بالاجتياز أو عدم الاجتياز وفق درجة قطعية يتم تحديدها بعناية وفقًا لمحددات علم القياس. ولأن القرار المُتخَذ في ضوء نتيجة هذه الاختبارات قرارٌ حاسمٌ ومصيريٌّ (high stake)، يجب أن تتوافر لها بصفة خاصة سمة “الصدق”، وأن يكون مُعِدُّو بنودها حاذقين في كتابة البنود وخبراء في مجال التدريس.

وتعتبر هذه الاختبارات بهذه الاعتبارات خيارًا منطقيًّا للسماح بالالتحاق بالمهنة؛ كون المختَبَرين حديثي عهد بالجوانب المعرفية والدراسات الأكاديمية.

لكن هذه الاختبارات تصبح غير منطقية وغير مناسبة لمَنْح رُخص مهنية للمعلمين الموجودين على رأس العمل؛ وذلك لأن هؤلاء قد لا يستطيعون الإحاطة بالجوانب المعرفية بنفس مستوى أولئك حديثي التخرج؛ مع أنهم قد يكونون متميزين في مكون الممارسات وفي مكون المهارات القيمية. وسيؤدي تطبيق اختبارات الدخول للمهنة على المعلمين القدامى إلى نشوء حالات يصعب التعامل معها، ومن تلك الحالات: وجود احتمال كبير باجتياز معلم لمَّا يبدأ العمل بعدُ، وعدم اجتياز معلم متميز مؤثر في جودة مخرجات التعلم على رأس العمل. إن هذه الحالة الفرضية لوحدها تجعل الاختبارات المشار إليها غير صالحة للمعلمين الموجودين على رأس العمل، ناهيك عن الاحتمال الكبير لوجود حالات أخرى لا يسمح المجال هنا بالاستطراد فيها، تتنافى مع مبادئ تمهين التعليم.

وإضافةً إلى ذلك، فإن متطلب “الرخص المهنية” بصفة عامة في التعليم وما يشابهه من مجالات، إنما هو متطلب لغرض الالتحاق بالمهنة؛ فالمعلم أو المهندس أو الطبيب أو المحامي أو الممرض يحصل على الرخصة ليقدمها إضافة إلى مؤهلاته الأخرى إلى الجهة الموظِّفة، لتكون حظوظُه في الحصول على الوظيفة أقوى؛ لكنها ليست ضامنةً للتوظيف، فهناك اعتبارات أخرى تراعيها الجهة الموظِّفة قد تمنع توظيف مثل هؤلاء على الرغم من حصولهم على الرُّخص المهنية. وهذا هو المتعارف عليه عالميًّا. وهنا سيأتي مَن يقول إنه من المُمارَس في مهنة الطب مثلًا إصدار رخصة لمَن هم على رأس العمل للترقي إلى مستويات مهنية أعلى، والجواب: إن هذا النوع من الرخص لا يصدر إلا بعد إكمال متطلبات أكاديمية جديدة ومتطلبات أدائية أعلى تحت إشراف مؤسسات تعليمية، وليس بناءً على اختبار ورقة وقلم يُعطى للعموم.

في ضوء ما سبقت الإشارة إليه، ثمةَ وجهات نظر بأن منح الرخصة المهنية للمعلم في المملكة اتخذ منحى مختلفًا، بل ومخالفًا للمبادئ العلمية والسياق المنطقي؛ مما يجعل الرخصة المهنية وإجراءات الحصول عليها مسألةً غير مقنعة للمعلمين، بل وغير عادلة إلا في ظلِّ قاعدة “المساواة في الظلم عدل”. والأهم أنها لا تُحقِّق الهدف منها في سياق تمهين التعليم وتطويره.

وفي سياق متصل، تتمثَّل التشريعات المنظِّمة للرخص المهنية في المملكة  في “لائحة الوظائف التعليمية”، و”تنظيمات هيئة تقويم التعليم والتدريب”، حيث أعطت هاتان الأداتان مهمة إصدار الرخص المهنية للمعلمين للهيئة وأطَّرتها برتب للمعلمين، هي “ممارس، متقدم، خبير”؛ أي أن الرخصة المهنية أصبحت متطلبًا ليس لدخول المهنة، فهذا لم تنص عليه لائحة الوظائف التعليمية صراحةً في المادة (5) الخاصة بالتعيين، مع أنه المستوى الأنسب منطقيًّا وعلميًّا لاشتراط الحصول على الرخصة له؛ إلا أن الهيئة -على أي حال- اعتبرت مادة “التعريفات” في اللائحة كافية لاعتناقها مهمة إصدار رخصة للمعلم الممارس سواء كان على رأس العمل أو أنه سيتقدم للالتحاق بمهنة التدريس، إضافةً إلى إصدار رخصة المعلم المتقدم والخبير!

ولكي تفي الهيئة بهذا المتطلب التشريعي؛ قررت منح الرخص المهنية في كافة المراتب وفق نتائج الأداء في اختبار واحد، حدَّدت فيه ثلاث درجات قطعية (أمر غير مألوف ونادر في الاختبارات المحكية)، حيث تمنح رخصة ممارس لمن يتجاوز أداؤه الدرجة القطعية الأولى، ورخصة متقدم لمَن يتجاوز أداؤه الثانية، ورخصة خبير لمَن يتجاوز الثالثة!

أي أن الهيئة تفترض أن الفرق بين المعلم الممارس والمعلم المتقدم – على سبيل المثال – هو الفرق بين الدرجة القطعية الأولى والدرجة القطعية الثانية؛ أي أنه فرق معرفي لمحتوى اختبار الهيئة. ولا شك أن افتراض الهيئة غير صحيح، ولا تدعمه شواهد بحثية علمية؛ وإنما هو افتراض تمَّ اعتناقه لمناسبته لإمكانات الهيئة ليس إلا.

إن المنطق اللُّغوي للمفردات (ممارس، متقدم، خبير) يدل قطعيًّا على أن الفَرق بينها يرتبط من جانب بـ “المدة” التي مارس فيها المعلم المهنة، ويرتبط من جانب آخر  بمستوى “جودة ” ممارسة المعلم للمهنة، وهذان الارتباطان هما اللذان يُفترض أن تعتمد عليهما وزارة التعليم في ترقية المعلم من ممارس إلى متقدم إلى خبير، فما قيمة رخصة الهيئة إذًا؟

إن قرار وزارة التعليم بترقية معلم ما من ممارس إلى خبير هو الرخصة المهنية الحقيقية ذات القيمة، أما رخصة الهيئة فلا تعدو عن كونها إشعارًا للوزارة بدرجات ذلك المعلم في اختبارها، والذي قد لا تعتد به الوزارة في حال كان هذا المعلم متميزًا في أدائه ممتلكًا للمعايير المهنية في المكون القيمي ومكون الممارسة اللذين هما في التحليل النهائي أهم من مكون معرفي يُقاس باختبار تقليدي لم تتبين درجة صدقه وثباته وفقًا للإجراءات العلمية الرصينة.

إن تعديل التشريعات في لائحة الوظائف التعليمية وفي تنظيم هيئة تقويم التعليم والتدريب أقل كُلفةً في حساب مصلحة الوطن من المُضي قُدمًا في أداء واستمراء ممارسات خاطئة في منح الرخص المهنية للمعلمين.

وتبرز في هذا الإطار الحاجة إلى مراجعة لائحة الوظائف التعليمية؛ حيث إنَّ من المهم مراجعة الصياغة الواردة في لائحة تقويم الوظائف التعليمية من حيث موضوع الرخص الخاصة بالرتب التعليمية، إذ إنَّ تطبيقها – كما وردت- غير ممكن من الناحيتين الفنية والعملية.

كما يؤكد البعض على ضرورة التأني في اتخاذ القرارات التربوية طويلة الأجل وعميقة الأثر، وعدم قصر مناقشاتها على لجان صغيرة وغير متخصِّصة، أو أفراد، وأهمية إعطاء الوقت الكافي لدراستها وتداول الرأي فيها من أهل الاختصاص وذوي العلاقة.

ومن المهم كذلك لفت الانتباه إلى أهمية اتباع كليات التربية انتقاء المتقدمين لها بمعايير مناسبة؛ تراعي المعدل في الثانوية العامة كمعيار موضوعي وأساسي يصعب تجاوزه، وسمات المتقدم الشخصية، وطريقة نُطقه، ونبرة صوته لأهمية الصوت في وظيفة المعلم، وحتى بنيته الجسدية؛ تمامًا كما يفعلون في الكليات العسكرية. ما حدث في السنوات الماضية هو قبول طلاب في كليات التربية قد لا يتوفرون على الحد الأدنى من ذلك؛ مما قد يؤثر على أدائهم كمعلمين بعد تخرُّجهم، بل إن بعضهم قد لا يكون مناسبًا للمهنة، وإنما أخذها كوظيفة يعتاش منها دون أن يدرك أهمية هذه المهنة لينطبق عليه مقولة “فاقد الشيء لا يعطيه”.

ويتعين أيضًا دراسة المشاكل التي يتعرض لها المعلمون في المدارس، والتي ما زالت قائمةً، ومن أهمها: عدم احترام حقوق المعلم وضياع هيبته ومكانته لدى الطلاب، وزيادة الأعباء الإدارية ونصاب الحصص، وعدم وجود بيئة جاذبة في المدارس، وتأثيرها على سلوك الطالب السلبي تجاه مدرسته ومعلمه. وطول فترة الدوام المدرسي، خاصةً لمَن تمَّ تعيينهم أو نقل بعضهم إلى مدارس بعيدة عن النطاق الجغرافي، وغيرها من الأسباب التي تتسبب في فقدان الشغف لدى المعلمين؛ ويجب إعادة النظر في هذه المشكلات وإيجاد حلول أكثر مرونةً للتعامل مع المعلمين القدامى قبل تطبيق ذلك عليهم. وهذا لا يعني رفض هذه الوسيلة، فكل وظيفة لها من المعايير والمقاييس التي تفرق هذا عن ذاك، ومن الضروري تطبيقها حتى يكون التقييم عادلًا للكل.

في حين ثمةَ وجهات نظر أخرى تذهب إلى أنه لا يمكن إغفال أهمية اختبارات الكفايات لقياس مسؤوليات المعلم المهنية داخل الصف الدراسي وخارجه، وحثه على تطوير المعارف التي يحتاج إليها، وإرشاده إلى الممارسات الفاعلة والخيارات التي ينبغي له إتاحتها لتيسير تعلُّم الطلبة. لذا، فهي فرصة لتنقية الميدان التعليمي. ومما لا شك فيه أن تحفيز المعلم وتمييزه عن غيره يجب أن يكون مبنيًّا على أدائه ونتائج طلبته، وهذا النظام قد يساعد المعلم على تطوير أدائه وتحسين نتائج طلبته، وهو بلا شك أفضل من تمييز المعلمين وفقًا لعدد سنوات الخدمة كمعيار لزيادة الراتب. ونظام الرخصة المهنية يجعل المعلم منشغلًا بالتعليم كمهنة يسعى من خلالها إلى التميز أو على الأقل المحافظة على الحد الأدنى بما يضمن له استمرار علاوته السنوية.

ومن الضروري تمهين التعليم وضبط مساره بحيث يقوم بمهنة التعليم أشخاصٌ يتمتعون بكفاءة عالية لأهمية التعليم في المرحلة القادمة، ونحن في خِضمِّ مرحلة تحوُّل تاريخية ولا سيما أننا نتحدث عن رؤية ٢٠٣٠، وهي رؤية شاملة ستكون عربتها التعليم بالدرجة الأولى. ومن المؤكد أن الوزارة لاحظت قصورًا لدى بعض المعلمين، وأن غرضها في النهاية هو الرفع من مستوى المعلم والعملية التعليمية برمتها، بحيث تكتمل عملية الانطلاق نحو المستقبل.

إن تجويد أدوات تأهيل المعلمين بما فيها الاختبارات والرُّخص المهنية يمكن أن تكون ذات جدارة إنْ هي نالت حقَّها من التمحيص والتصميم والاختبار والتدرُّج وقياس الأثر، وغير ذلك من أدوات تصميم وتطوير الأنظمة والتشريعات. لكن في المقابل، لا يجب أبدًا أن يخضع المشروع برمته للمقاومة والتنفير التي يمكن أن يكون جزءٌ كبيرٌ منها نابعًا من مقاومة التغيير والاستكانة لوضع قائم، والخوف من الانكشاف على معايير تأهيل ربما يسقط أمامها كثير من المعلمين فاقدي الأهلية والكفاءة.

لكن من المهم الوضع في الاعتبار أن تركيز مسألة الرخصة المهنية على التقييم المعرفي – غير المقنن – وإهمال المهارات، وهي: قدرة المعلم على شرح الفرضيات وتطبيقاتها، وإيصال المعلومة للمتلقي بكفاءة عالية – هذه بحاجة لتقييم الطلاب وقياس مخرجاتها في مادة المعلم للمادة العلمية – إضافةً إلى قياس الأخلاقيات والسلوكيات، وهذه تعتمد على مدى احتواء المعلم لطلبته وفهم الفروق الفردية ومحاولة استيعابها، إضافةً إلى درجة حُسن تعامُل المعلم مع نظرائه الأعلى رتبةً والأقل، ومدى عكسه لأخلاقيات المهنة. الرخصة في صورتها الحالية تُعين الخريجين الجُدد على الالتحاق ربما بمهنة معلم، لكن حتمًا الانتقال إلى رتب أعلى تستوجب الحصول على نقاط يجب أن تشتمل على السلوكيات والمهارات بدرجات متفاوتة لكل ركيزة؛ لتحقيق معيار أقرب للعدالة من مفهوم الاختبارات النظرية الحالية. هذا لو سلَّمنا جدلًا أن أي معلم أو معلمة لا بد لهم من التأهيل لممارسة المهنة أو ما يُسمَّى بالإعداد التربوي، والذي يحوي طرق وأساليب التدريس والتقييم وكذلك مبادئ في علم النفس التربوي وعلم الاجتماع إضافةً إلى ساعات تطبيق على أرض الواقع؛ وهذا يرتكز على تقييم الطلاب (الفئة المستهدفة)، وتقييم النظراء (معلمين متخصصين في نفس التخصص)، وتقييم الخبراء (أساتذة في التربية والتخصص من الوزارة أو الجامعات). ويجب أن يكون الإعداد التربوي إجباريًّا لأصحاب الدرجات العليا عند التخرُّج إنْ رغبوا في العمل كمعلمين، ويُحتسب كمتطلب تخرُّج على غرار سنة الامتياز المعتمدة لتأهيل الأطباء والممارسين الصحيين.

  • خامسًا – التوصيات:
  • مراعاة منهجية الرخصة المهنية حيث إنَّها مصمَّمة خصيصًا لاستخدام نتائج الاختبار في عمليات المفاضلة ببن المتقدمين لمهنة التدريس، وليست مصمَّمة ابتداءً لغرض التمييز بين مستويات مختلفة من الأداء (المتميز من غير المتميز).
  • استيعاب جميع السمات والخصائص المؤثرة في فاعلية المعلم، وعدم الاقتصار على الجانب المعرفي، من خلال الاختبار التحريري.
  • وثيقة “المعايير المهنية للمعلمين” تحتاج إلى ترجمة تلك المعايير بصورة عملية إجرائية يمكن من خلالها تحديد الجوانب التي يمكن إخضاعها للملاحظة والقياس والتقويم؛ وبالتالي تحديد المناسب من الأدوات والإجراءات لها. ويُمثِّل ما ذهبت إليه الوثيقة من تقسيم الأداء على كل من المعايير التي اشتملت عليها إلى مستويات (ممارس، متقدم، وخبير) تحديًا آخر؛ وبخاصة أن الوثيقة لا توفِّر تعريفات محددة تساعد على التمييز الواضح فيما بينها.
  • الفقرة (ج) من المادة (10) اشترطت لترقية المعلم، إلى جانب ما هناك من شروط أخرى “أن يتحقق في أدائه الحد الأدنى من النقاط المخصَّصة للتطوير المهني، ونقاط تقويم الممارسات الإبداعية ذات الصلة الوثيقة بطبيعة عمله، ونقاط أثر التدريس على تعلُّم الطلاب وتحسين مستواهم التحصيلي”. ويفتح هذا الشرط الباب واسعًا أمام إمكانية قيام جهود منظمة، سواء على مستوى الوزارة أو الهيئة، لتطوير الأدوات والإجراءات التي يمكن استخدامها لغاية الوصول إلى تقييم موضوعي منصف لأداء المعلم، يُسفر عنه التحسين الواضح في مستويات تعلُّم طلابه.
  • لاتخاذ قرار مَنْح الرخصة المهنية للالتحاق بمهنة التدريس؛ ينبغي أن تكون الاختبارات من نوع الاختبارات محكية المرجع، التي تتطلب إعدادًا مختلفًا، وتكون نتيجتها بالاجتياز أو عدم الاجتياز وفق درجة قطعية يتم تحديدها بعناية وفقًا لمحددات علم القياس. ولأن القرار المُتخَذ في ضوء نتيجة هذه الاختبارات قرارٌ حاسمٌ ومصيريٌّ (high stake)، يجب أن تتوافر لها بصفة خاصة سمة “الصدق”، وأن يكون مُعِدُّو بنودها حاذقين في كتابة البنود وخبراء في مجال التدريس. أما بالنسبة لمَن هم على رأس العمل فينبغي ألا يكون إصدار الرخصة لهم مبنيًّا على نتيجة اختبار معرفي، وهذا لا يمثِّل سوى معيارٍ واحدٍ من جملة من المعايير التي ينبغي الوفاء بها قبل إصدار الرخصة.
  • العمل على أساس الإطار التنظيمي والقانوني العام المعتبر على ترسيخ وتطوير استقلالية الهيئة من حيث خدمة المهنة التعليمية وحمايتها، وتطوير قدرات قياسها، وتطوير قدراتها واختصاصها في إصدار رخص التعليم والتدريب ومصادقة مؤسسات وبرامج التعليم؛ ومراعاة الاختصاصات الإدارية والفنية للجهات التنفيذية والتوظيفية.
  • مراجعة هيئة التقويم للاختبارات بحيث تكون ملائمة لمستوى ما يُقدَّم في الجامعات في موضوعات التربية؛ لا أن تكون شيئًا مثل اختبار القدرات: أسئلة تحدٍ لم يمر على الطالب مثلها أثناء دراسته.
  • اعتماد اختبارات الرخصة المهنية من بيوت خبرة أو جامعات عريقة لها خبرتها في إعداد أسئلة اختبارات المعلمين.
  • أن لا يكون للاختبار نصيبُ الأسد في النسبة الموزونة للترقية بين معايير الترقية الأخرى (سنوات الخدمة – التطوير المهني – تقدير الأداء الوظيفي).
  • على الوزارة أن توضِّح تفاصيل معيارها (ج) من المادة 32-1 وهو المتعلق بنقاط التطوير المهني والممارسات الإبداعية، فلا يزال هذا الجانب غامضًا يصعب قياسه.
  • شمولية تقييم الأداء الوظيفي بحيث تعكس أداء المعلم التعليمي، لا أن تقف عند الجوانب الشكلية من حضور مبكر وتقديم أعمال ورقية من إعداد دروس وواجبات فقط.
  • وَضْع أنظمة صارمة لمنع حدوث أي واسطة أو تجاوز في عملية التوظيف.
  • المشاركون:
  • الورقة الرئيسة والمعقبون: د. إبراهيم الدوسري (ضيف الملتقى)([23])، د. علي القرني (ضيف الملتقى)([24])، أ. د راشد العبد الكريم.
  • إدارة الحوار: د. صالحة آل شويل.
  • المشاركون في الحوار والمناقشة:
  • د. زياد الدريس
  • د. عبد الإله الصالح
  • أ. فائزة العجروش
  • م. محمد الدندني
  • أ. لاحم الناصر
  • د. عائشة الأحمدي
  • د. محمد الملحم
  • د. خالد المنصور
  • د. محمد الثقفي
  • د. خالد الرديعان
  • د. فوزية البكر
  • م. خالد العثمان
  • د. عبير برهيمن
  • د. عبد الله صالح الحمود
  • د. مساعد المحيا
  • د. عبد الرحمن العريني

 


القضية الثالثة 

الرياض: مركز الصناعة المالية الإسلامية

(6/6/2021م)

  • الملخص التنفيذي.
  • أولًا: التعريف بالصناعة المالية الإسلامية ومؤسساتها.
  • ثانيًا: مبررات الاهتمام بتحويل الرياض مركزًا مقترحًا لصناعة المال الإسلامي: نقاط القوة والتميز.
  • ثالثًا: آليات الوصول بالرياض لتصبح مركزًا فعليًّا لصناعة المال الإسلامي.
  • رابعًا: التوصيات.
  • المشاركون.

  

  • الملخص التنفيذي:

تناولت هذه القضية الرياض كمركز للصناعة المالية الإسلامية، وقد تطرَّق المحور الأول إلى التعريف بالصناعة المالية الإسلامية ومؤسساتها. حيث يشير مصطلح الصناعة المالية في هذا السياق إلى المؤسسات والمنظمات العاملة في إنتاج وتقديم الخدمات والمنتجات المالية بكل أشكالها؛ الاستثمارية والفردية والمؤسسية. وتنقسم المؤسسات المالية الإسلامية إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي: المصارف الإسلامية، والشركات المالية والاستثمارية، وشركات التأمين التعاوني/ التكافلي الإسلامي.

وركَّز المحور الثاني على مبررات الاهتمام بتحويل الرياض مركزًا مقترحًا لصناعة المال الإسلامي، بالإشارة إلى أن المملكة العربية السعودية تملك الكثير من نقاط القوة التي لا تملكها المراكز الأخرى سواء كانت أوروبية أو آسيوية أو إقليمية؛ مما يجعلها في مركز القوة والقدرة على احتلال المركز الأول لهذه الصناعة. وتتمثَّل نقاط قوتنا في كوننا قلبَ العالم الإسلامي النابض، وأن الاقتصاد السعودي اقتصاد ملتزم بأحكام الشريعة الإسلامية. ومن نقاط القوة كذلك الموقع الجغرافي للمملكة الذي يربط آسيا بإفريقيا، كما تتمتع المملكة بنظام سياسي مستقر وثروة بشرية مؤهلة تأهيلًا عاليًا، كما أنها تملك سوقًا مالية تعتبر من أكبر 10 أسواق مالية في العالم، إضافةً إلى أن المملكة دولة عضو في مجموعة العشرين، كما أن المملكة تحتل المركز الثاني عالميًّا من حيث الأصول المدارة وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وتعتبر أول مصدر للاستثمارات المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية.

واهتم المحور الثالث بآليات الوصول بالرياض لتصبح مركزًا فعليًّا لصناعة المال الإسلامي. ومن أبرز التوصيات التي تم الانتهاء إليها ما يلي:

  • أن تتضمن مستهدفات الرؤية ٢٠٣٠ أن تكون الرياض مركزًا عالميًّا للصناعة المالية الإسلامية، بحيث يتم وضعه هدفًا إستراتيجيًّا من أهداف برنامج تطوير القطاع المالي.
  • تطوير البيئة التشريعية لصناعة المالية الإسلامية؛ وذلك بسنِّ الأنظمة والتشريعات الخاصة بها، وتعزيز الحوكمة والشفافية.
  • إنشاء مراكز أبحاث تهتم بتطوير وخلق أدوات الصناعة المالية الإسلامية في بيئة تجريبية تنتج أدوات قابلة للتطبيق.
  • أولًا – التعريف بالصناعة المالية الإسلامية ومؤسساتها:

يشير مصطلح الصناعة المالية هنا تحديدًا إلى المؤسسات والمنظمات العاملة في إنتاج وتقديم الخدمات والمنتجات المالية بكل أشكالها؛ الاستثمارية والفردية والمؤسسية. وقد بدأ العمل المالي والمصرفي الإسلامي مع بدايات القرن الهجري الخامس عشر، وبدأ كأسلوب جديد يحقِّق أهداف الوساطة المالية ويتميز بالعمل على غير أساس الفوائد المصرفية. وأُنشئت العديد من البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية في أوساط اجتماعية واقتصادية مختلفة، كما أخذت بعض البنوك الدولية العاملة على أساس الفوائد المصرفية في منافسة هذا الأسلوب الجديد، خاصة في تقديم التمويل باستخدام أساليب العمل المصرفي الإسلامي. وأصبح هذا العمل المصرفي الجديد حقيقةً فرضت نفسها على ساحة العمل المصرفي المحلي والعالمي.

وتنقسم المؤسسات المالية الإسلامية إلى ثلاثة أقسام رئيسة، هي:

  • المصارف الإسلامية: وهي التي تمارس المهنة المصرفية وفق فنونها وأساليبها المصرفية ونظمها الشرعية، وتتقبل الودائع من الناس، ونعرفها بأنها: مؤسسة مالية مصرفية تتقبل الأموال وفقًا لقاعدتي “الخراج بالضمان” و”الغرم بالغنم”، وتوظيفها في وجوه التجارة والاستثمار طبقًا لمقاصد الشريعة الإسلامية وأحكامها التفصيلية.
  • الشركات المالية والاستثمارية: وهي التي تمارس الأعمال الاستثمارية وفق نظُم الشركات الشرعية، وتعرف الشركة: بأنها اتفاق بين اثنين أو أكثر على خلط ماليهما وعملهما أو التزاميهما في الذمة بقصد الاسترباح. ومن أمثلتها شركات الاستثمار الإسلامية.
  • شركات التأمين التعاوني/ التكافلي الإسلامي: ظهرت شركات التأمين الإسلامية بعد صدور الفتاوى المجمعية التي قدَّمت صيغة التأمين التعاوني بديلًا عن التأمين التجاري.

ومن المهم الإشارة إلى أن اختلاف الرأي في فهم الشريعة الإسلامية أدَّى إلى تطبيقات متنوعة، وليس تطبيقًا واحدًا للمبادئ الإسلامية في المعاملات المالية والمصرفية، وهذا التنوُّع يُثري تجربة البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، ويفتح أمامها العديدَ من الصيغ والأساليب، ولا يعتبر كما قد يظن البعض نقطةً سلبيةً وإنْ كان بطبيعة الحال مما يزيد صعوبة الفهم لغير المطلعين على نظُم وأساليب هذه المؤسسات.

ومن أهم التغيرات التي حدثت: الاعتراف بالمصرفية الإسلامية كصناعة مالية لها خصوصيتها، ودعمها بالتشريعات كإطار الحوكمة الشرعية وعقود التمويل الإسلامية الموحَّدة، وكإصدار الصكوك الحكومية والشركات شبه الحكومية وإدراجها في السوق المالية، ووجود قسم خاص بها في البنك المركزي وبرامج تدريبية في المعهد المالي التابع للبنك المركزي وعقد المؤتمرات الخاصة بها.

وبينما يرى البعض أن ما يُميِّز المالية الإسلامية عن المالية التقليدية هو خضوعها للشريعة الإسلامية بالعمل وفقًا لأحكام وقواعد فقه المعاملات، ومن أهم الأسُس التي يقوم عليها تحريم الربا والغرر؛ فإنه في المقابل ثمةَ وجهة نظر أخرى ترى أن أغلب المصارف الإسلامية تُقدِّم نفسَ الخدمات التي تقدِّمها المصارف التقليدية وبنفس الرسوم، وقد تكون بتكلفة أعلى عدا الخدمات التي تحتوي على الفائدة المباشرة. وفي ضوء ذلك، يمكن تقسيم الخدمات التي تقدمها المصارف الإسلامية إلى قسمين رئيسين: خدمات مصرفية لعمليات ائتمانية، مثل: المرابحة، والإجارة المنتهية بالتمليك، والإجارة الموصوفة بالذمة، وبيع السَّلم (بيع عاجل بآجل)، والمضاربة، والمشاركة، وغيرها. وخدمات مصرفية لا تشمل عمليات ائتمانية، مثل: الحوالات وهي عملية تحويل أموال من منطقة إلى منطقة أخرى، ويتم تأديتها كخدمة تتقاضى عليها أجرًا، ويدخل فيها إشكالية الصرف والتحويل. إلا أن ما هو معمول به لدى المصارف الإسلامية لا يختلف كثيرًا عن المصارف التقليدية. مع اختلاف المسميات وأنها إسلامية.

وثمةَ فريقٌ آخر يرى أن الانحرافات التي قد تشوب أية ممارسة أو توظيف لمناهج عمل تتبع نظرية ما – لا يجب أن تكون سببًا في تجريم كامل النظرية. وفي السياق ذاته، فإن الانحرافات التي تطال تطبيقات المصرفية الإسلامية – محليًّا أو عالميًّا – لا يجب أن تُسقط مبادئ ومفاهيم وأسس الاقتصاد الإسلامي التي نؤمن جازمين بأنها النموذج الأمثل في تحقيقها للعدالة والنزاهة والتنمية والأخلاق، وغير ذلك من الأسس التي يجب أن يُحقِّقها أيُّ نموذج اقتصادي. وبالتالي، فإن الدعوة إلى تمكين المملكة للعب هذا الدور المحوري واقتناص الفرصة في نمو صناعة الصيرفة الإسلامية يجب أن تأخذ في اعتبارها تجويد ممارسة هذه الصناعة وتنزيهها وتنظيفها من تلك الانحرافات والممارسات التي قد تشوبها؛ إما لسوء نية تروم تحقيق مصالح غير مشروعة أحيانًا، أو بحسن نية نتيجة فقدان الكفاءة أحيانًا وغياب الابتكار وسطوة التقليد والنمطية. وإذا كنَّا نريد للمملكة أن تقود العالم في هذه الصناعة؛ فإن عليها بالتحديد مسؤولية مضاعفة في عكس صورة الدين الحنيف ومبادئه السمحة في تطبيقات هذه الصناعة، وإلا فإننا سننال وزرًا مضاعفًا من سوء التطبيق ووصم الدين بما ليس فيه، مما التصق به من بعض أدعياء المصرفية الإسلامية.

وبرغم الخلافات المثارة حول المصرفية الإسلامية، إلا أن ثمة نقاطًا جوهرية من المهم التأكيد عليها:

  • المصرفية الإسلامية هي نتاج الطلب من قِبل الأفراد؛ مما خلق فرصًا استثمارية، والمحاولات السابقة التي رفضت السماح للبنوك الإسلامية وخدماتها في الاقتصاد السعودي أدَّت لازدهار هذه الخدمات في دول أخرى مثل البحرين، وغالبها أموال سعودية. وقد دخل في هذه الصناعة في بداياتها البنوك الغربية لما تُحقِّقه من أرباح ونمو.
  • المصرفية الإسلامية بواقعها الحالي أصبح لها سوقٌ ضخمٌ معترفٌ به، ويتم التعامل به عالميًّا متبنين الفتوى في تحريم الربا، وبالتالي أي نقاش في الحلال والحرام وفتاوى تحلل الربا عفاها الزمن وتجاوزتها المرحلة الحالية من خلال الدور الريادي للمنظمات الدولية، وإنشاء مجالس وهيئات مرتبطة بهذه التنظيمات الدولية.
  • صندوق النقد الدولي أدخل موضوع التمويل الإسلامي جزءًا من نقاشات المادة الرابعة، وهذا تطوُّر يخدم المصرفية في التنظيم والتوجيه وتقديم السياسات الاقتصادية المناسبة، وتمَّ تكوين لجنة خاصة داخل صندوق النقد الدولي، كما أنه يُقدِّم خدمات للدول في هذا المجال بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية. كما أن الصندوق يَعتبر البنوك المزدوجة غير مناسبة، ويُوصي الحكومات بالفصل بين البنوك التي تقدِّم خدمات تتوافق مع الشريعة والبنوك التقليدية.
  • الاقتصاد علم سلوك، وإذا استخدم واضع السياسات النقدية والمالية (وزارة المالية والبنك المركزي) أدوات تتعارض مع معتقدات المجتمع الدينية، فإن المتوقع أن تنخفض كفاءتها ويضعف تأثيرها على الاقتصاد. ولذا، الأدوات الاقتصادية يجب أن تتوافق مع معتقدات المجتمع لتعظيم الأثر الاقتصادي والعائد على المجتمع.
  • الأزمة العالمية في 2008 أكدت التأثير السلبي للديون على الاقتصاد والطروحات الاقتصادية الحديثة من قِبل كبار الاقتصاديين الغربيين، من بعد الأزمة أصبحت تتقارب مع طرح الاقتصاد الإسلامي في أهمية تقليل الديون والاعتماد أكثر على المشاركة، وهذا من أهم مقاصد الاقتصاد الإسلامي.
  • تبنَّت حكومة دبي في 2013 إستراتيجية الاقتصاد الإسلامي بشموليته بما فيه التمويل والأوقاف والزكاة… إلخ، لتصبح مركزًا عالميًّا في هذه الصناعة (Dubai Islamic Economy Development Centre (iedcdubai.ae))
  • إشكالية التمويل الإسلامي أنه انطلق من القطاع البنكي الذي يتم الإشراف عليه من قِبل البنك المركزي، والذي يُطبِّق أنظمة بازل، حيث تتعامل مع البنوك كوسيط بين المدخرين والمستثمرين؛ مما يُحجِّم دورَها في الإقراض، ويُقلِّص دورها في المشاركة. ولتحقيق أعلى عائد في عمل البنوك الإسلامية، فإنها تعتمد على استخدام الأدوات المشابهة للدين (المرابحة، الإجارة،… إلخ) والمجازة شرعًا حتى وإنْ لم تُحقِّق مقاصد الشريعة. وهذا جائز شرعًا كما صدرت بها فتاوى، ولكن يقلل فائدتها للاقتصاد المحلي لتشابهها مع الديون. ونحتاج في هذه الحالة لدور ريادي من البنك المركزي في تشريعات خاصة للبنوك الإسلامية، تأخذ في الاعتبار حماية أموال المودعين، وتُشجِّع البنوك في الدخول في المشاركة. حيث نلاحظ أن البنوك الاستثمارية (شركات الاستثمار) لما انفصلت عن البنوك التجارية، وأصبحت تحت إشراف هيئة سوق المال؛ استطاعت أن تدخل في مشاركات – كما نراها بكثرة – في الصناديق العقارية بالذات.
  • ثانيًا – مبررات الاهتمام بتحويل الرياض مركزًا مقترحًا لصناعة المال الإسلامي: نقاط القوة والتميز:

مع إطلاق رؤية المملكة 2030، تتابعت الجهود لإعادة هيكلة الاقتصاد السعودي وتنويع مصادر دخله، ولا شك أن من أهم مصادر تنويع الدخل هو القطاع المالي؛ حيث نجد أن كثيرًا من الدول اليوم يقوم الكثير من اقتصادها على هذا القطاع، مثل: سنغافورة وهونج كونج وسويسرا ولوكسمبورغ، وبعضها يُمثِّل القطاع المالي جزءًا وازنًا في اقتصادها مثل بريطانيا وأمريكا، ولا شك أن لهذه المراكز نقاطَ قوة جعلت منها مركزَ جذب لرؤوس الأموال وللمستثمرين، وفي عالم تتصارع فيه القوى لاجتذاب الأموال لدعم اقتصادها وتنميته؛ من المهم جدًّا أن نعرف نقاط قوتنا لتوظيفها بالشكل السليم واستغلالها للحصول على جزء من هذه الكعكة التي يتصارع العالم عليها، بعيدًا عن الأيديولوجيات والقناعات التي قد توجد لدى البعض مما قد يعيق التحرك في هذا الاتجاه.

وتعتبر المالية الإسلامية هذا اليوم جزءًا مهمًّا من هذه الكعكة التي تتصارع عليها أهم المراكز المالية العالمية لاجتذابها والاستحواذ عليها من لندن إلى سويسرا، مرورًا بسنغافورة وماليزيا وهونج كونج ودبي، حيث تعتبر هذه الصناعة من أسرع الصناعات المالية نموًّا في العالم حيث تراوح نموها في العشرين سنة الماضية ما بين 15% إلى 20%؛ مما فتح شهية المراكز المالية العالمية عليها، حيث يبلغ حجم الأصول المدارة لهذه الصناعة حوالي 2,88 تريليون دولار بعد أن كانت لا تتجاوز 190 مليار دولار في عام 1990م.

ولكي نُدرك سرعة نمو هذه الصناعة، يمكن استعراض الأرقام التي تُوضِّح أن هذه الصناعة بدأت في عام 1975م بالبنك الإسلامي للتنمية الذي أسسته المملكة بتوجيه من الملك فيصل – رحمه الله، ليكون مموِّلًا للدول الإسلامية، تبعه في العام نفسه تأسيس بنك دبي الإسلامي، واليوم يبلغ عدد المصارف الإسلامية حوالي 369  مصرفًا، فيما يُقدِّم حوالي 320 مصرفًا تقليديًّا حول العالم منتجات مالية إسلامية. وكما انطلقت المصرفية الإسلامية من الجزيرة العربية، إلا أنها اليوم تعمل في 75 دولة حول العالم، أما بالنسبة للصكوك فقد أُصدرت أول صكوك في ماليزيا عام 2000م، ولم يتجاوز حجم الإصدار حينها 336 مليون دولار. في حين بلغت إصدارات الصكوك في 2019م 145,600 مليار دولار، وكذلك نمت صناعة الاستثمار المتمثِّلة في صناديق الاستثمار بجميع أنواعها وقطاع التأمين التكافلي بشكل متسارع، هذا فيما يخصُّ الصناعة عالميًّا. ولو اتجهت أنظارنا لما تحققه هذه الصناعة من نمو داخل المملكة العربية السعودية، لوجدناها تنمو بشكل مذهل، حيث يبلغ حجم الأصول المُدارة وفق أحكام الشريعة الإسلامية 299 مليار دولار، وهو ما يُشكِّل 10% من حجم أصول الصناعة عالميًّا، فيما بلغت حصة التمويل الإسلامي في القطاع المصرفي السعودي في عام 2019م حوالي 79%.

اللافت للنظر أن مملكة البحرين حاليًّا تُمثِّل علامةً فارقةً في الصناعة المالية الإسلامية، ففيها أكبر عدد من المؤسسات المالية الإسلامية، وفيها العديد من المنظمات الرقابية والتشريعية لهذه الصناعة، من أبرزها “أيوفي”، وهي هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، وفي هذا مفارقة طريفة في قدرة المملكة الصغيرة على التميُّز في هذه الصناعة، وتحوُّلها إلى مركز عالمي مرجعي في الصناعات المالية الإسلامية.

وفي ضوء ما تقدَّمت الإشارة إليه عن المالية الإسلامية وحجم نموها، يتضح لماذا تتصارع المراكز المالية العالمية على نيل حصة منها مع خصوصية هذه الصناعة لارتباطها بالشرعية الإسلامية، حيث نجد أن هذه المراكز تضع القوانين وتسنُّ التشريعات لتتوافق مع المبادئ التي تحكم هذه الصناعة في سبيل جذب استثماراتها.

ولا شك أننا في المملكة العربية السعودية نملك الكثيرَ من نقاط القوة التي لا تملكها هذه المراكز، سواء كانت أوروبية أو آسيوية أو إقليمية؛ مما يجعلنا في مركز القوة والقدرة على احتلال المركز الأول لهذه الصناعة. وتتمثَّل نقاط قوتنا في كوننا قلب العالم الإسلامي النابض، وأن الاقتصاد السعودي اقتصاد ملتزم بأحكام الشريعة الإسلامية.

ومن نقاط القوة كذلك الموقع الجغرافي للمملكة، الذي يربط آسيا بإفريقيا، كما تتمتع المملكة بنظام سياسي مستقر وثروة بشرية مؤهَّلة تأهيلًا عاليًا، كما أنها تملك سوقًا مالية تعتبر من أكبر 10 أسواق مالية في العالم، إضافةً إلى أن المملكة دولة عضو في مجموعة العشرين، كما أن المملكة تحتل المركز الثاني عالميًّا من حيث الأصول المدارة وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وتعتبر أول مصدر للاستثمارات المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية. لذا، نجد أن جُلَّ التقارير الصادرة عن مراكز الأبحاث المهمة تُرشِّح المملكةَ لتكون من أهمِّ مراكز صناعة المال الإسلامي، حيث ذكر تقرير صادر عن مركز أكسفورد للأعمال أن المملكة مرشَّحة لتكون مركزًا للصناعة المالية الإسلامية في الأعوام المقبلة.

ولعل ما نُشِر في تقرير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب عضو مجموعة البنك الإسلامي للتنمية على هامش استضافة المملكة لاجتماعات مجموعة العشرين ٢٠٢٠، والذي كان عنوانه “التمويل الإسلامي في المملكة العربية السعودية: الريادة نحو رؤية ٢٠٣٠م “، أظهر حجم التمويل الإسلامي في السعودية، والذي بلغ ٣٢٩٧ مليار ريال سعودي بنهاية ٢٠١٨ م. وهذا ما يجعل من سوق المملكة أكبر سوق تمويل إسلامي على مستوى العالم. وهذا رسم توضيحي منشور في تقرير المعهد بتوزيع أصول النظام المالي الإسلامي حسب القطاعات في المملكة لعام ٢٠١٨م، ومع أنه من ثلاث سنوات؛ ولكن يعطي تصوُّرًا بالسوق وحجمها.

 

ولعل ما توضِّحه التقارير عن أداء القطاع المصرفي السعودي، وبفضل التشريعات والإصلاحات التي تمَّت؛ جعلته متفوقًا من ناحية الأداء على دول مجموعة العشرين ممَّن تتعامل وبشكل كبير مع المصرفية الإسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا وتركيا، وهو ما يجعلنا أكثر تنافسية في القادم من أيام. وعليه، وخاصة مع التصنيفات الحديثة لسوق المملكة الذي ارتفع إلى مرتبة الأسواق الناشئة وتطوُّره الملحوظ في سوق الصكوك المالية، واعتباره ثاني أكبر سوق صكوك في العالم بعد ماليزيا، وباعتبار سوق رأس المال السعودي الأكبر بين دول مجلس التعاون الخليجي، والذي ساعد للوصول إلى هذا الوضع هو العمل الحكومي المستمر في تطوير البنى التحتية التي أسهمت في تطوير المنتجات والخدمات بشكل ملحوظ ومميَّز.

وعليه، فإن السوق السعودي الآن يكاد يكون جاهزًا لأن يكون مركزا للمالية الإسلامية بشكله الحالي لمنطقة الشرق الأوسط على أقل تقدير في الفترة الأولى من المشروع؛ كونها ومع ريادتها في المالية الإسلامية، هناك تركيز على تطوير البنى التحتية التقنية مما يجعلها تمتلك كافة المقومات لتكون مركزًا عالميًّا للتقنية المالية “الفينتك” في التمويل الإسلامي، وهذا ما أوضحه أيضًا تقرير المعهد الإسلامي، والذي تمثَّل في إطلاق المملكة مبادرة فينتك السعودية للتعاملات المالية الرقمية.

وبهذا الحجم وهذا التطوُّر تكون مهمة القائمين على السوق المالي في السعودية أسهل في تسويق المملكة لتكون وجهةً ومركزًا للمالية الإسلامية المتقدِّمة في المنطقة في البداية وللعالم في مراحل لاحقة؛ ما سيكون له بالغ الأثر على اقتصاد المملكة وسوقها المالي بشكل إيجابي.

وتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد في المملكة ما يمنع نظامًا من تحوُّل المصارف السعودية إلى المصرفية الإسلامية، لكن لا يوجد نظام يجبر على التحوُّل، فالتحوُّل هو قرار المؤسسة وفقًا لتوجُّه الملَّاك، كما حدث في بنك الجزيرة، وكالقرار الذي اتخذه البنك الأهلي قبل الطرح، فهو تحوُّل طوعي تفرضه قوى السوق الراغبة في المالية الإسلامية، والحقيقة أن جُلَّ البنوك لدينا اليوم تقدِّم المصرفية الإسلامية، وقد بلغت حصتها في القطاع المصرفي حوالي ٦٠٪؜ من أصولها، وهذه النسب تتفاوت؛ فمثلًا: جميع البنوك السعودية اليوم لا تقدِّم في قطاع المصرفية الشخصية المنتج الإسلامي إلا فيما يخص بطاقات الائتمان وبعض الودائع، حيث بلغت نسبة المصرفية الإسلامية في قطاع التجزئة حوالي ٩٥٪؜، أما الشركات فبلغت حوالي٦٠٪؜، فهناك تحوُّل وإنْ لم يُعلَن.

  • ثالثًا – آليات الوصول بالرياض لتصبح مركزًا فعليًّا لصناعة المال الإسلامي:

إن جميع مكامن القوة التي تملكها الرياض لتكون مركزًا لصناعة المال الإسلامي بل أهم مراكز هذه الصناعة، لا يمكن أن تجعلها كذلك ما لم يكن ذلك هدفًا لدى صانع القرار. لذا، إذا أُريد للرياض أن تكون عاصمةً لصناعة المال الإسلامي ومركزًا من أهم مراكزه؛ فيجب أن يضع صانع القرار هذا الأمر هدفًا مهمًّا له وأولوية يسعى لتحقيقها، يضمنها في إطار برنامج تطوير القطاع المالي (أحد برامج رؤية 2030)، ومن ثَمَّ وضع إستراتيجية لتحقيق هذا الهدف، على أن تشمل هذه الإستراتيجية ما يلي:

  1. تطوير البيئة التشريعية لهذه الصناعة وتعزيزها بسنِّ الأنظمة والتشريعات، وتعزيز الحوكمة والشفافية.
  2. إنشاء مراكز أبحاث تهتمُّ بتطوير وخلق أدوات هذه الصناعة في بيئة تجريبية تنتج أدوات قابلة للتطبيق.
  3. فتح السوق للمؤسسات الاستثمارية الدولية، ووضع برامج لاستقطابها.
  4. إنشاء محاكم مختصة بالنزاعات المالية تحت المنظومة العدلية بعيدًا عن اللجان التي تشكو من ضعف التكوين والاستقلالية وتنازع الاختصاص.
  5. تطوير سوق الصكوك وأدوات الدين المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية.
  6. إنشاء بورصة لتداول السلع بحيث يمكن إجراء عمليات المرابحة والتورق من خلالها بعيدًا عن العمليات الصورية، وسيؤدي ذلك لارتفاع نسبة سيولة سوق السلع وسرعة تدويرها وعدالة التسعير وشفافيته.
  7. تطوير مؤشرات مالية إسلامية.
  8. تطوير أدوات لإدارة السيولة المصرفية قصيرة الأجل.

إن السعي لتكون الرياض عاصمةً ومركزًا للصناعة المالية ليس ترفًا فكريًّا؛ وإنما هو حاجة مُلِحَّة لاستثمار مكامن القوة فيها بما يخدم الاقتصاد الوطني، ويُعزِّز من قوته ومكانته. فلا شك أن تحوُّل الرياض مركزًا لهذه الصناعة سيمنحها الكثيرَ من المنافع؛ لعل أهمها قدرتها على اجتذاب أموال هذه الصناعة التي تبلغ 3 تريليونات دولار، والتي هي في تصاعُد مستمر نتيجة النمو السريع الذي تعيشه هذه الصناعة، ومع تحوُّلها مركزًا لهذه الصناعة فيمكنها اجتذاب الاستثمارات الأخلاقية حوال العالم، والتي تقترب في كثير من معاييرها من الصناعة المالية الإسلامية، ولا شك أن تدفق هذه السيولة على الرياض سينعكس إيجابًا على جميع مناحي الاقتصاد، والذي سيكون من أهم آثاره الإيجابية ارتفاع نسبة نمو الناتج المحلي وخفض نسبة البطالة وزيادة دخل الفرد، بالإضافة إلى سرعة تطور المنظومة المالية واستقطاب الكفاءات وتوطين التكنولوجيا.

وثمةَ آراءٌ بأننا نحتاج إلى منظومة تشريعية تتيح وجود مؤسسات الصيرفة الإسلامية، وتسمح لها بالعمل على نحو واسع رغبةً في استقطاب الكثير من رؤوس الأموال المهاجرة في البحرين ودبي وقطر والكويت ودول عربية وغير عربية. فهذه الصناعة اليوم يتم استقطابها في كثير من الدول، وبالتالي نحن نحتاج في المملكة – بوصفها المركز المالي الأهم للمصرفية الإسلامية – أن نُوجد مثل هذه الأنظمة لمزيد من المؤسسات المالية الأكثر ثقةً وربحيةً.

فلا زال السوق السعودي وبالذات في المجال المصرفي والتأميني شبه مغلق، حيث توجد بعض التشريعات المنظِّمة لكنها غير مفعلة؛ لذا فالاستثمار الأجنبي محدود جدًّا؛ نظرًا للصعوبات التي يواجهها في سبيل الحصول على رخصة ممارسة العمل، والتي لم تُحدَّث مع إطلاق الرؤية؛ حيث إنَّ السوق السعودي من أكبر أسواق المنطقة من حيث حجم الأموال المدارة فيه، ومن حيث حجم العملاء والاستهلاك؛ لكننا نجد عددًا محدودًا جدًّا من المؤسسات المالية العالمية والتي يمكن لها لو دخلت السوق أن تُحدِث تغييرًا جذريًّا من حيث آليات العمل والممارسات والكفاءات والتقنية، وحتى أسعار التمويل ستنخفض؛ لذا فإننا نحتاج إلى تحديث التشريعات والأنظمة المنظِّمة لمثل هذه الاستثمارات.

كما أننا نحتاج إلى استحداث محاكم مالية في صلب المنظومة العدلية، وتحت إشراف وزارة العدل، تضمُّ قضاةً مؤهلين في هذا الجانب؛ إذ إنَّ وجود اللجان غير المستقلة والتابعة للجهات الإشرافية تطيل أمد التقاضي، وتخلُّ باستقلالية القضاء، وتؤدي إلى ضعف الأحكام الناتجة عنها لعدم أهلية أعضائها وتخصصهم في القضاء.

بالنسبة للصكوك، نحتاج إلى أنظمة وتشريعات ولوائح تنظِّمها وتحدُّ من الخلاف الشرعي في هياكلها، وتُنظِّم المسائل المتعلقة بأصولها سواء كانت صكوكًا حكوميةً أو شبه حكومية أو خاصة، كما أننا نحتاج إلى تحديث أنظمة الطرح والإدراج بحيث تسمح للشركات والحكومات الأجنبية بطرح صكوكها وإدراجها في السوق السعودي، كما أنه ينطبق عليها كذلك ما ينطبق على المصارف من حيث أهمية وجود محاكم مالية متخصِّصة تحت المنظومة العدلية.

وثمةَ وجهات نظر بأنه وإذا كان الأصل في الصناعة المالية الإسلامية ارتكازها على مبادئ وقواعد وفقه الشريعة الغرَّاء، والتي منها تحريم الربا والاستغلال والغبن، وإيجاد بدائل لإقراض المال بالمال (منها: المُتاجرة والمشاركة والمرابحة والاستصناع)، وهي وسائل تُعزِّز الاقتصاد الحقيقي، في سبيل تفعيل التبادل التجاري وبيوع السلع، وتأسيس المصانع، والمشاركة بالمخاطر، فبدلًا من أن يكون إقراض المال بربح مضمون للبنك، تكون المشاركة في تحمُّل مخاطر الصناعة والتجارة، وبدلًا من أن تكون سلعة التمويل هي المال، بمعنى إقراض المال بالمال، تكون بيوع التقسيط، مما يعزز حركة المبيعات الفعلية دعمًا للتجار والصنَّاع. إلَّا أن المُلاحظ أن الصناعة المالية الإسلامية ركَّزت على الشكل والصيغة، ولم تسعَ لتحقيق الأغراض التنموية الشرعية الأخرى؛ الأمر الذي رتَّب أحيانًا إشكاليات حقيقية تأباها الشريعة العادلة، ومن ذلك ما يترتب أحيانًا على عقود التأجير التمويلي، أو ما يُسمَّى أحيانًا (التأجير المُنتهي بالتمليك)، وحقيقة ما تقوم به البنوك في مثل هذه العقود، هو التمويل بربح، وهو عمل البنوك والجهات التمويلية، ولكن صيغة العقد المُستخدمة للتمويل هي (عقد تأجير مركبة أو عقار، بوعد بتمليكه عند اكتمال سداد أقساط التمويل)، وهو يُحقِّق ضمانًا للجهة التمويلية، كون السلعة محل العقد والتمويل تبقى مملوكةً باسم الجهة التمويلية، والإشكالية أنه عندما يتعثر العميل عن السداد، ولو كان قد سدَّد (90%) من قيمة التمويل، فإن الجهة التمويلية تفسخ العقد، وتستحوذ على المركبة أو العقار محل التمويل، ويسمح لها العقد باعتبار جميع ما سدده العميل أجرة، وإنْ تقدَّم العميل للجهة القضائية، فإنه سبق أن صدرت أحكام قضائية باعتماد أن العقد الذي يربط بين الطرفين هو تأجير، وأن جميع ما سدَّده العميل هو أجرة، وفي هذا لا شك إجحاف بل ظلم كبير للعميل المُتعامل بهذه الصيغة المالية الشرعية، ومكمن الخلل هنا هو أن حقيقة العقد كانت تمويلًا وهو عمل مصرفي مالي، تُريد منه الجهة التمويلية الإقراض والتمويل والحصول على ربحه مع ضمان حقوقه، في حين أن صورة العقد إيجار بوعدٍ بتمليك، مما رتَّب أثرًا مُجانبًا للعدالة ولمقاصد الشريعة، بل لمقاصد التجار أن يحصلوا على تمويل مناسب بلا غبن ولا إجحاف؛ الأمر الذي يُرتِّب أهمية الآتي:

  • مُعالجة العقود المالية الإسلامية وصيغها وضماناتها، لتتناسب مع أغراض التمويل وحاجة التجار والتجارة.
  • أهمية تفعيل القضاء المتخصِّص في المنازعات المالية الإسلامية، لكي لا تصدر أحكام قضائية مُشوَّهة، لا تقبلها الشريعة ولا العدالة ولا المُتعاملون في السوق.
  • أهمية مراجعة العقود من البنك المركزي، بوصفه الجهة الإشرافية على أعمال جميع الجهات التمويلية والبنوك، لتكون عقودًا متوازنةً في حماية ومراعاة طرفي التعامل؛ الجهات التمويلية من جهة والعملاء المُتمولين من جهة أخرى، وعلى هذا المعنى أكدت المادة (العاشرة) من اللائحة التنفيذية لنظام الإيجار التمويلي، والتي تنصُّ على أن “للمؤسسة (للبنك المركزي) إقرار صيغ نموذجية لعقود الإيجار التمويلي تُراعي حقوق الأطراف ذات العلاقة”، ويُلاحظ في السوق أنه كثيرًا ما تكون أرباح البنوك على حساب خسائر التجار، والمطلوب حماية ركني الاقتصاد بتوازن، فالبنوك والتجار أبناء الوطن وركيزة تنميته واقتصاده.
  • يجدر التنويه، إلى أن أدوات ووسائل الصناعة البنكية والمالية في المملكة تُعَدُّ متطورة تقنيًّا وإلكترونيًّا، ويجدر أن يُواكب ذلك:
  • عقودًا متوازنة، فعلى سبيل المثال: خلل ائتماني في بعض العقود، وأحادية حماية العقود لطرف الجهات التمويلية، وإنْ كان على حساب المواطنين المُتمولين، وهو ما قد يولِّد إشكاليات اقتصادية ومُجتمعية، يجدر بالمعنيين مراجعتها قبل وقوعها.
  • قضاءً سريعًا مُتخصِّصًا، إذ الزمن عامل أساس في قضايا المال؛ مما يستوجب التخصص وسرعة البتِّ.

وجميع ما سبق في سبيل بيئة مالية عادلة مُحفِّزة، تمنح المملكة الريادة عالميًّا، وهي المؤهَّلة لذلك.

إنَّ طريق النجاح والنمو والرسوخ هو خلق بيئة تنافسية منضبطة بواسطة التشريع والحماية والرقابة ومراعاة الشفافية، ومن خلال إيجاد بنية تحتية وهياكل تنظيمية؛ أما التنافسية فتكون بالسماح بالخيارات الأخرى.

ولعل المرحلة الحالية في الاقتصاد السعودي تحتاج إلى دور أكبر من البنوك في المشاركة لتشجيع الاستثمار الخاص، ولا تستطيع البنوك القيام بذلك من دون تشريعات خاصة من البنك المركزي، والذي قد يحتاج لطرح المقترح في لجنة بازل بما أن المملكة عضو فيه.

 

  • رابعًا – التوصيات.
  • أن تتضمن مستهدفات الرؤية ٢٠٣٠ أن تكون الرياض مركزًا عالميًّا للصناعة المالية الإسلامية، بحيث يتم وَضْعه هدفًا إستراتيجيًّا من أهداف برنامج تطوير القطاع المالي.
  • تطوير البيئة التشريعية لصناعة المالية الإسلامية؛ وذلك بسنِّ الأنظمة والتشريعات الخاصة بها، وتعزيز الحوكمة والشفافية.
  • إنشاء مراكز أبحاث تهتم بتطوير وخلق أدوات الصناعة المالية الإسلامية في بيئة تجريبية تنتج أدواتٍ قابلةً للتطبيق.
  • وضع برامج وإجراءات لزيادة استقطاب استثمارات المؤسسات المالية الإسلامية الدولية في السوق السعودي.
  • إنشاء محاكم مختصة بالنزاعات المالية تحت المنظومة العدلية، بعيدًا عن اللجان التي تشكو من ضعف التكوين والاستقلالية وتنازُع الاختصاص.
  • تطوير سوق الصكوك وأدوات الدين المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية.
  • إنشاء بورصة لتداول السلع بحيث يمكن إجراء عمليات المرابحة والتورق من خلالها، بعيدًا عن العمليات الصورية، وسيؤدي ذلك لارتفاع نسبة سيولة سوق السلع وسرعة تدويرها وعدالة التسعير وشفافيته.
  • تطوير مؤشرات مالية إسلامية.
  • تطوير أدوات لإدارة السيولة المصرفية قصيرة الأجل.
  • تأسيس معهد على مستوى عالمي يتخصَّص في التأهيل والتدريب وتقديم شهادات مهنية عالمية المستوى في المالية الإسلامية وتفرعاتها.
  • تأسيس مركز دولي للتحكيم متخصِّص في قضايا الصناعة المالية الإسلامية ونزاعاتها.
  • تأسيس هيئة شرعية مركزية موحَّدة للعمليات المصرفية والمالية والاستثمارية، وتدعيمها بمتخصصين في التخصصات الشرعية والمالية والمصرفية.

 

  • المشاركون:
  • الورقة الرئيسة والمعقبون: أ. لاحم الناصر، د. يوسف الرشيدي، أ. فهد القاسم.
  • إدارة الحوار: أ. عبد الرحمن باسلم
  • المشاركون في الحوار والمناقشة:
  • أ. عاصم العيسى
  • أ. فهد القاسم
  • أ. محمد الدندني
  • د. حميد الشايجي
  • د. خالد الرديعان
  • د. خالد المنصور
  • د. خالد بن دهيش
  • د. رجا المرزوقي
  • د. رياض نجم
  • د. عبد الإله الصالح
  • د. عبد الرحمن العريني
  • د. عبد العزيز الحرقان
  • د. محمد الثقفي
  • د. مساعد المحيا
  • د. يوسف الرشيدي
  • م. إبراهيم ناظر
  • م. خالد العثمان

 


القضية الرابعة 

إستراتيجية المملكة العربية السعودية في مواجهة التغيُّر المناخي ومساهمتها على مستوى الدول العشرين (13/6/2021م)

  • الملخص التنفيذي.
  • أولًا: مدخل تمهيدي.
  • ثانيًا: التعريف بالتغيُّر المناخي وأسبابه.
  • ثالثًا: مدى خطورة التغير المناخي وسبب الاهتمام به.
  • رابعًا: جهود الحكومات لمواجهة تحدي التغير المناخي، وأبرز الخُطط المستقبلية في هذا الصدد.
  • خامسًا: البُعد السياسي في قضية البيئة: الحرب على النفط.
  • سادسًا: ما الذي يميز إستراتيجية المملكة ورؤيتها في مجابهة تحدي التغير المناخي؟
  • سابعًا: الخطوات المقترحة لتمكين إستراتيجية المملكة للتغير المناخي.
  • ثامنًا: التوصيات.
  • المراجع.
  • المشاركون.

 

  • الملخص التنفيذي:

تناولت هذه القضية إستراتيجية المملكة العربية السعودية في مواجهة التغيُّر المناخي ومساهمتها على مستوى الدول العشرين. وقد تمَّ بدايةً الإشارة إلى أن التغيُّر المناخي الناتج عن الأنشطة البشرية يعتبر أحد التحديات الرئيسية التي تواجهنا في القرن الحالي. حيث إن أزمة التغيُّر المناخي ليست ذات أبعاد بيئية فقط؛ وإنما لها أبعادٌ سياسية واجتماعية واقتصادية وتقنية وتشريعية. وعليه، فقد تصاعَد اهتمام حكومات العالم لمكافحة تغيُّر المناخ من خلال زيادة اكتشافات ذوبان الأنهار الجليدية، ومتوسط ​​درجة حرارة الأرض، والظواهر المتطرفة. كما تمَّ تعزيز هذا الاهتمام من خلال الضغط من الجماعات البيئية ودعاة الطاقة المتجددة خاصة في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وكانت اتفاقية باريس 2015 علامةً تاريخيةً في الجهود العالمية لمكافحة تغيُّر المناخ.

وقد وظَّفت السعودية رئاستها لقمة العشرين (نوفمبر2020) لطرح مبادرة بيئية مهمة تهدف لإعادة تأهيل النفط كمصدر للطاقة. واعتمدت القمة المبادرة السعودية المتمثِّلة في (الاقتصاد الدائري للكربون)، وهي مبادرة تهدف لتقليص هائل في انبعاثات الكربون من النفط باستخدام أربع طرق لإعادة معالجة وتدوير الانبعاثات الكربونية النفطية. علاوة على ذلك، فقد أخذت المملكة زمام القيادة في التعهُّد بخفض انبعاثات الكربون بأكثر من 4٪ من المساهمة العالمية على الرغم من أنها حقَّقت 1.86٪ فقط من الانبعاثات العالمية في عام 2019 من خلال مبادرة الشرق الأوسط الخضراء. وهذا يعني أن مساهمة المملكة العربية السعودية في الحدِّ من انبعاثات الكربون ستزيد عن ضعف حصتها الحالية من الانبعاثات العالمية. كما ستعطي المبادرة الأولوية للاستثمار في الطاقة المتجددة بهدف زيادة حصتها في محفظة الطاقة من 0.3٪ إلى 50٪. وهذا يؤكد إدراك صانعي القرار في المملكة لحجم التحدي المتمثِّل في إزالة الكربون الذي سيتطلب التآزر بين مصادر الطاقة المتجددة ومصادر الطاقة التقليدية لزيادة الموثوقية والقدرة على تحمُّل التكاليف. تستند الإستراتيجية السعودية بشكل عام في التخفيف من آثار تغير المناخ إلى تنويع محفظة الطاقة من خلال اعتماد مصادر الطاقة المتجددة، وكذلك إلى تقنيات احتجاز الكربون.

ومن أبرز التوصيات التي تمَّ الانتهاء إليها ما يلي:

  • إنشاء مركز سعودي لأبحاث تغيُّر المناخ وما يُهدِّد البيئة تحت مظلة الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA) والمراكز النظيرة في العالم. يقوم باستمرار متابعة المناخ في المنطقة والعالم، لتقديم الحلول المقترحة (آخذًا في الاعتبار تأثير ذلك على أسواق الطاقة وتداعيتها الاقتصادية) لصنَّاع القرار من جهود محلية وتعاون عالمي.
  • الحصول على الحقائق والأرقام والمعلومات الإحصائية عن تاريخ المناخ وتحوُّلاته في مناطق الاهتمام وبالأخص الجزيرة العربية؛ مما يساعد على التنبؤ الفعَّال للمتغيرات المستقبلية، لتكون من مكونات إعداد الخطة الإستراتيجية لمواجهة العديد في المتغيرات المناخية.
  • أولًا – مدخل تمهيدي:

يعتبر التغيُّر المناخي الناتج عن الأنشطة البشرية أحد التحديات الرئيسية التي تواجهنا في القرن الحادي والعشرين. بسبب تراكم الغازات الدفيئة المنبعثة في الغلاف الجوي (Greenhouse Gases)*، من المتوقع أن تزداد وتيرة وكثافة التغيرات المناخية في أشكال متعددة؛ كالزيادة في متوسط درجة الحرارة، وغزارة الأمطار، وارتفاع مستوى سطح البحر، والجفاف [1]. تُشكِّل هذه الظواهر مخاطرَ وجودية على صحة الإنسان، وجودة الحياة، وسبل العيش، والأمن الغذائي، وإمدادات المياه، والأمن والنمو الاقتصادي [1]. ولهذا السبب، أصبحت الحكومات وقادة الدول أكثر قلقًا بشأن هذه القضية، وقدَّموا تعهدات وخُططًا مختلفة لمكافحة تغير المناخ. ومن المشجِّع ملاحظة الالتزام والاهتمام المتزايد للحدِّ من تغير المناخ إلا أن حجم التحدي والحاجة الملحة للعمل تعني أن القرارات التاريخية والاستثمارات والتنسيق بين قادة العالم بات أمرًا حتميًّا. عندما يتعلق الأمر بالقرارات التاريخية والجريئة، فقد حددت المملكة العربية السعودية في ظلِّ رؤية قيادتها الحكيمة المعيارَ من خلال مبادرة السعودية الخضراء، والتي تساهم في دعم العمل لمكافحة تغير المناخ [2]. كما عرضت سابقًا مبادرة اقتصاد الكربون الدائري خلال قمة مجموعة العشرين الأخيرة التي استضافتها المملكة العام الماضي، لتُعزِّز رؤية صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالتزام السعودية بالحلول المجدية التي لا تخفض انبعاثات الكربون فحسب، بل تضمن أيضًا استقرار أسواق الطاقة العالمية.

  • ثانيًا – التعريف بالتغير المناخي وأسبابه:

يُعرَّف المناخ بأنه متوسط حالات الطقس على المدى الطويل لعدة مؤشرات؛ مثل: درجة الحرارة، وهطول الأمطار، والرطوبة [3]. لذلك، يتعلق تغير المناخ بالتغيرات طويلة المدى التي تحدث على مثل هذه العوامل. ويشير تغيُّر المناخ الناتج عن الأنشطة البشرية تحديدًا إلى التغيرات التي لوحظت في مناخ الأرض منذ أوائل القرن العشرين [3]. هذه التغييرات الأخيرة مدفوعة بزيادة في متوسط درجة حرارة سطح الأرض، والذي يُعرف بالاحتباس الحراري. يُعزى هذا الاحتباس الحراري بشكل أساسي إلى إطلاق الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي عن طريق الأنشطة البشرية، ولا سيما حرق الوقود الأحفوري [3]. وهناك أدلة علمية واضحة على التوافق بين التزايد الملحوظ في تركيز ثاني أكسيد الكربون (وهو أهم الغازات الدفيئة) في الغلاف الجوي والزيادة المقاسة في متوسط درجة الحرارة على سطح الأرض [4].

تؤكد تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) على الحاجة إلى الحد من ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض إلى 1.5 درجة مئوية، أعلى من مستويات ما قبل عصر الصناعة، بحلول عام 2100 من خلال التخفيض السريع لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون حتى تصل إلى الصفر الصافي بحلول منتصف القرن؛ وذلك لتجنُّب أسوأ تبعات تغير المناخ [1]. هذا يعني أنه حتى القليل من الارتفاع في متوسط درجة الحرارة خلال العقود القادمة قد يتسبَّب في عدم تحقيق هذا الهدف؛ نظرًا لأن متوسط درجة حرارة سطح الكوكب قد زاد بمقدار 1.18 درجة مئوية منذ أواخر القرن التاسع عشر اعتبارًا من عام 2020 [3].

يناقش القسم التالي المخاطر المرتبطة بارتفاع درجة حرارة سطح الأرض والمؤدي إلى تغير المناخ، وأسباب تصاعد المخاوف، والجهود المبذولة للتخفيف من ذلك.

وثمةَ عوامل أخرى مؤثرة على زيادة الانبعاثات الكربونية، مثل الأنشطة الزراعية وإنتاج اللحوم. تعَدُّ هذه العوامل الإضافية عنصرًا مهمًّا يجب أن يُؤخذ في الحسبان في عملية تقليل الانبعاثات الكربونية، لا سيما أن غالبية هذه الانبعاثات تصدر من الدول المتطورة.

  • ثالثًا – مدى خطورة التغير المناخي وسبب الاهتمام به:

تعَدُّ أزمة التغير المناخي من الأزمات الأكثر تعقيدًا في تاريخ البشرية، حيث إنَّ الأزمة ليست ذات أبعاد بيئية فقط؛ وإنما لها أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وتقنية وتشريعية. الكثير يعتقد أن التغير المناخي ظاهرة بيئية طبيعية يمر بها كوكب الأرض، حيث إنَّ الكوكب مرَّ بعصور جليدية سابقة، تبعها زيادة طبيعية في حرارة الكوكب. الثورات الصناعية في القرنين الماضيين زادت من الأنشطة الصناعية، مما أدى إلى زيادة التلوث المناخي بشكل ملحوظ. أدى التلوث الصناعي إلى تسارُع ملحوظ في زيادة درجة حرارة كوكب الأرض، بالإضافة إلى احتمالية حدوث الكوارث البيئية، خاصة بالقرب من السواحل. بالرغم من أن مخاطر التغيُّر المناخي قد لا تظهر بشكلها الكامل في السنوات القادمة، ستضطر الأجيال القادمة بالتعايش مع آثار ما بعد الكارثة، خصوصًا في الدول النامية.

ويمثِّل تغير المناخ تهديدًا كبيرًا لتطور الحضارة البشرية وازدهارها، ويعتبر الفشل في الحد من الاحتباس الحراري مؤديًا إلى تغييرات طويلة المدى في النظام المناخي، مثل: ارتفاع مستوى سطح البحر، والحرارة العالية، والجفاف في بعض المناطق، وهطول الأمطار الغزيرة مع الأعاصير والعواصف في مناطق أخرى [1]. ومن أكثر الآثار المرتقبة هو ارتفاع متوسط مستوى سطح البحر العالمي نتيجة ذوبان الجليد الأرضي، والتمدد الحراري للمحيطات نتيجة لارتفاع درجة حرارتها [3]. يعتمد مقدار ومعدل هذا الارتفاع على مسارات الانبعاثات المستقبلية [1]. وهنا تبرز أهمية العمل على تخفيف وتيرة ارتفاع معدل الاحتباس الحراري لإتاحة مزيد من الوقت للتكيُّف مع ارتفاع مستوى سطح البحر في المناطق الساحلية. بالنسبة للمناطق ذات المناخ الحار، مثل منطقة الخليج العربي، فمن المتوقع أن تزداد حدة موجات الجفاف والحرارة مع تفاقم تغيُّر المناخ [3]. ستستمر حرارة فصول الصيف في الارتفاع بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وفقدان رطوبة التربة، وزيادة الرطوبة. وفقًا لوكالة ناسا، فإن الظواهر المتطرفة والنادرة ستصبح أكثر تواترًا وشدة. يشمل هذا الأعاصير القوية المتكررة، وموجات المد والجزر العالية، والفيضانات. من المتوقع أيضًا أن يؤدي تغير المناخ إلى زيادة درجة حرارة المحيطات وحموضتها بسبب امتصاص المحيطات لثاني أكسيد الكربون، وانخفاض مستويات الأكسجين فيها [3،4]. وبالتالي، يُنذر تغير المناخ بخسائر في التنوُّع البيولوجي البحري، ومصايد الأسماك، والنظُم البيئية، ووظائفها وخدماتها للبشر [1].

لجميع الأسباب السابق ذكرها، تتزايد الجدية في معالجة تغير المناخ، إضافةً إلى أن الدراسات الحديثة تُظهر مدى عدم كفاية الإجراءات والسياسات العالمية الحالية في معالجة هذه القضية المعقدة على الرغم من التقدُّم المحرز خاصة بعد اتفاقية باريس 2015، حيث إنَّ نافذة الحد من تغير المناخ إلى 1.5 درجة مئوية تتضاءل بسرعة [5]. يتطلب مثل هذا التحدي غير المسبوق إستراتيجيات غير تقليدية لتحقيق الهدف المزدوج، المتمثِّل في مكافحة تغير المناخ بقوة مع الحفاظ على النمو الاقتصادي بشكل فعال.

ومع هذا، فثمة وجهات نظر تشير إلى أن الدراسات البيئية أثبتت أن تأثير بعض الغازات الدفيئة الأخرى قد يكون أعلى من غاز ثاني أكسيد الكربون. على سبيل المثال، تأثير غاز الميثان وأكسيد النيتروجين على الاحتباس الحراري هو 34 و298 ضعف – على التوالي- مقارنةً بتأثير غاز ثاني أكسيد الكربون [12]. لذلك من المهم كذلك دراسة الآثار غير المتعمدة من سياسات خفض ثاني أكسيد الكربون على تحفيز تقنيات معتمدة على مصادر طاقة قد تبعث غازات دفيئة ذات أضرار أكبر من تلك المقرونة بغاز ثاني أكسيد الكربون. مثلًا، قد تحفِّز بعض هذه السياسات على استهلاك الوقود الحيوي – النباتي- والذي قد يساهم في زيادة انبعاثات أكسيد النيتروجين [13، 14].

ومع الوضع في الاعتبار وجهة النظر بأن الارتفاع الطفيف في متوسط درجة حرارة الأرض خلال العقود القادمة قد يمنع الوصول إلى هدف اتفاق باريس للمناخ، والذي يقضي بتقييد ارتفاع درجة حرارة الكوكب إلى أقل من 2 درجة مئوية مقارنةً بما هو الحال عليه قبل الثورة الصناعية. ومع أنها وجهة نظر قد تكون صحيحةً في ضوء الكثير من الأبحاث البيئية، لكنها قد لا تأخذ في عين الاعتبار دور تقنيات الكربون السلبية في تخفيض الاحتباس الحراري. الكثير من الأبحاث البيئية الحديثة أوضحت دور تقنيات الكربون السلبية في الوصول إلى درجة حرارة متوافقة مع اتفاق باريس للمناخ في نهاية هذا القرن على الرغم من الزيادة الملحوظة في انبعاثات الكربون إلى منتصف هذا القرن [15]. إحدى هذه التقنيات هي “التقاط الكربون الأحفوري المباشر”، والتي تساهم في نزع غاز ثاني أكسيد الكربون الأحفوري من الغلاف الجوي مباشرةً. تمتاز هذه التقنية بأنها لا تعتمد على مكان انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون بالتحديد؛ على سبيل المثال قد يتم انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون الأحفوري من محطة كهرباء في الصين، ويتم التقاطه مباشرةً من الغلاف الجوي في المملكة العربية السعودية. لكن من سلبيات هذه التقنية هي الكلفة الاقتصادية المرتفعة، وأنها في طور البحث والتطوير. تقنية الكربون السلبية الأخرى هي الوقود النباتي المعتمد على تقنية احتجاز الكربون. في هذه التقنية يعمل الوقود النباتي على التقاط الكربون الحيوي من الغلاف الجوي عن طريق عملية التركيب الضوئي، ومن ثَمَّ يتم حرقه لإنتاج الكهرباء وحجز الانبعاثات الكربونية الحيوية المترتبة؛ مما ينتج عن هذه العملية محصلة كربونية سالبة تساهم في خفض درجة حرارة كوكب الأرض [16]. على الرغم من تقنيات الكربون السلبية المُبشِّرة، إلا أن الكثير من الأبحاث البيئية حذَّرَت من الاعتماد بشكل مفرط على هذه التقنيات لتجنُّب العواقب البيئية الوخيمة المترتبة في حال أن فشلت هذه التقنيات في الوصول إلى الأسواق التجارية بتكلفة اقتصادية جاذبة [17].

ومن ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى أن التغير المناخي ليس فقط من الانبعاث الحراري، فهناك أمر تتجاهله الدول والمنظمات التي تحمل سبب التغير المناخي على الوقود الأحفوري، وهو التطور المستمر للأرض وحركتها. لا تزال نظرية الـ plate tectonics تحرِّك صفائح القشرة الأرضية وتمدد بعض البحار وانكماش بعض حواف القارات، والذي بسببه نجد ظاهرة الزلازل والبراكين لها دور في تغير المناخ بسبب تغير مركزية الأرض وقطبيها… إلخ.

  • رابعًا – جهود الحكومات لمواجهة تحدي التغير المناخي، وأبرز الخُطط المستقبلية في هذا الصدد:

اعتمد تطور البشرية خلال مرحلة ما بعد الثورة الصناعية على الوقود الأحفوري (الفحم، والزيت، والغاز الطبيعي). حيث إنَّ عملية حرق الوقود الأحفوري ساهمت في توصيل الكهرباء إلى المنازل والمصانع، بالإضافة إلى تذليل الكلفة الاقتصادية للمواصلات مِمَّا مَكَّنَ المصانع من إنتاج بضائع قليلة الكلفة. الفوائد الاقتصادية الجليَّة للوقود الأحفوري ساهمت في تسريع عجلة الاقتصاد العالمي، والذي بدوره ساهم في عمل بنية تحتية معتمدة اعتمادًا كبيرًا على الوقود الأحفوري. لكن في العقود الأخيرة بدأت الدراسات بتوضيح الأضرار البيئية غير المتعمدة نتيجة حرق الوقود الأحفوري، مُتمثِّلة في تأثير انبعاثات الغازات الدفيئة على تغير المناخ. قضية تغير المناخ تُعَدُّ من أهم القضايا البيئية المعاصرة، والتي سوف تواجه البشرية على مدى القرن الحالي؛ لذلك تكاتفت جُهود صَانعي القرار بدعم تقليل الانبعاثات الكربونية.

تصاعد اهتمام حكومات العالم لمكافحة تغير المناخ من خلال زيادة اكتشافات ذوبان الأنهار الجليدية، ومتوسط ​​درجة حرارة الأرض، والظواهر المتطرفة. كما تم تعزيز هذا الاهتمام من خلال الضغط من الجماعات البيئية ودعاة الطاقة المتجددة خاصة في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). بدأت الجهود المبذولة للتوصل إلى إجماع عالمي من أجل “الاعتراف بأن التغير في مناخ الأرض وآثاره الضارة هي مصدر قلق مشترك للبشرية” باتفاقية ريو دي جانيرو الإطارية للأمم المتحدة بشأن تغير المناخ (UNFCC) [6]. مع انضمام 197 طرفًا إليها، بما في ذلك المملكة في عام 1994، كانت هذه المعاهدة الدولية خطوةً رئيسية أولى نحو بناء الوعي الجماعي بأزمة المناخ الوشيكة. تبع اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ في عام 1997 بروتوكول كيوتو، والذي نصَّ صراحةً على حدوث تغيُّر مناخي من صُنع الإنسان من خلال الغازات الدفيئة. كما قدَّمت المعاهدة لأول مرة التزامات من خلال توقيع الدول على أهداف خفض انبعاثات الغازات الدفيئة مع مساهمات محددة من الدول المتقدمة. وتبعتها عدة اتفاقيات ومؤتمرات للأطراف بشأن تغير المناخ، ومع ذلك، فإن ما تفتقر إليه كل هذه الاتفاقيات هو آلية للتوزيع العادل لأهداف خفض الانبعاثات وتدابير فعَّالة للمساءلة تؤدي إلى مساهمات ملزمة للدول.

كانت اتفاقية باريس 2015 والتي نتجت عن معاهدة مؤتمر الأطراف (21COP) علامةً تاريخيةً في الجهود العالمية لمكافحة تغيُّر المناخ. كانت الاتفاقية عبارة عن معاهدة دولية فريدة ملزمة بهدف واضح يتمثَّل في الحد من الاحتباس الحراري إلى أقل من 2 درجة مئوية، ومتابعة الجهود من أجل 1.5 درجة مئوية، مقارنةً بمستويات ما قبل الحقبة الصناعية [6]. تتطلب الاتفاقية من كل دولة موقّعة تقديم مساهمة وطنية محدَّدة (NDC) توضح الجدول الزمني لخفض الانبعاثات المخطَّط لها بما يتفق مع هدف المعاهدة المتمثِّل في الحد من الاحتباس الحراري إلى أقل من 2 درجة مئوية. اعتبارًا من مارس 2021، أصبح الـ 191 عضوًا في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ أطرافًا في اتفاقية باريس التي تعمل على دورة مدتها 5 سنوات من العمل المناخي الطموح الذي تقوم به الدول الموقعة [6]. على الرغم من التقدُّم الهائل الذي أحرزته اتفاقية باريس في تمهيد الطريق للعمل العالمي، إلا أن غالبية الدول المشاركة لم تتمكَّن من الوفاء بتعهداتها، والتي تبيَّن أيضًا أنها غير كافية لإبقاء متوسط ​​زيادة درجة الحرارة العالمية أقل بكثير من 2 درجة مئوية مقارنةً بمستويات ما قبل الصناعة [5]. مع مرور الوقت، ولتجنُّب أسوأ نتائج التغيرات المناخية، وبينما تتدافع البلدان لتحسين اقتصاداتها مع تحقيق أهدافها البيئية؛ فإن الحاجة ملحة إلى خارطة طريق ذات رؤية للتنمية المستدامة في عالم مُقيَّد بخفض الكربون. لا تأتي الحلول الملهمة إلا من موقع القيادة الطموحة المستعدة لكسر الوضع الراهن. تتمثل رؤية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في أن تُوسِّع المملكة العربية السعودية وجودها وحضورها العالمي إلى ما وراء المجالات الجيوسياسية وعالم الطاقة، ليشمل المشهد المتطور للتخفيف من تغير المناخ والتكيُّف معه.

  • خامسًا – البعد السياسي في قضية البيئة: الحرب على النفط:

كان النفط (العربي) في أولى أولويات القوى الغربية بعد الحظر البترولي الذي قررته المملكة وعدة دول عربية أثناء حرب أكتوبر 1973 بين إسرائيل وكلٍّ من مصر وسوريا.

بعد هذا القرار الذي وضع منابع النفط تحت يد السلطات السياسية لدول المنطقة العربية، تبلورت في الغرب رؤية استهدافية تجاه النفط العربي تحوَّلت فيما بعدُ إلى إستراتيجية سياسية. وقد تمثَّلت في التمظهرات التالية:

  • إنشاء وكالة الطاقة الدولية في باريس لحماية مصالح الدول المستهلِكة لمواجهة أوبك التي تمثِّل مصالح الدول المنتِجة. وقد شجَّعت الوكالة مبادرات بدائل النفط مثل الطاقة النووية رغم أنها ملوثة للبيئة وليست طاقة متجددة.
  • فرض الحكومات الغربية ضرائب على الواردات النفطية (ظاهرها حماية البيئة من مصدر ملوث وتشجيع النزوع للبدائل) وباطنها الضغط السياسي والاقتصادي على مُصدِّري النفط، وتقاسم عوائد هذه السلعة الإستراتيجية مع الدول المنتِجة.
  • نشأت إستراتيجيات أمنية جديدة تجاه الخليج بعد قرار قطع إمدادات النفط، فقد هدَّد الرئيس جيمي كارتر بإنزال قوة تدخل سريع في الخليج لحماية المنابع والإمدادات. وظهر مبدأ كارتر بديلًا لمبدأ نيكسون القائم على نظرية (العمودان المتقابلان): وهما السعودية وإيران كضامنين لأمن الخليج.

وبعد الغزو السوفيتي لأفغانستان والثورة الإيرانية (عام 1979)، طبَّقت واشنطن مبدأ كارتر، وتواجدت القوات الأمريكية في الخليج بشكل مباشر لحماية منابع النفط من التهديد السوفيتي، وحماية الإمدادات من التهديد الإيراني. وأصبح الخليج جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي، وتعزَّز هذا المفهوم بعد غزو الكويت؛ وتراجعت الأسعار تراجعًا هائلًا خلال الثمانينيات والتسعينيات.

وبدا جليًّا أن القضية البيئية تتعرَّض للاستغلال السياسي الواضح، فالاهتمام الغربي منصبٌّ على النفط دون غيره من أنواع الوقود الأحفوري الأخرى، مثل الفحم الأشد فتكًا من النفط والغاز والطاقة النووية.

ففي الولايات المتحدة بنت الشركات خلال العشر سنوات الماضية مرافق 28 محطة كهرباء تعمل بالفحم، وهناك 66 محطة أخرى تحت التخطيط أو التنفيذ، وأعطت الزيادات في أسعار الغاز حافزًا جديدًا لهذه المشروعات.

وفي أوروبا بنت ألمانيا في العقد المنصرم 16 محطة فحم جديدة رغم خطة الاتحاد الأوروبي لتبادل حصص الانبعاثات، والتي تفرض عقوبات لدى انبعاث الغازات المسبِّبة لارتفاع درجات الحرارة. وفي إيطاليا تتحول شركة إيني من تشغيل محطات الكهرباء بالنفط إلى تشغيلها بالفحم كما تبنت بريطانيا التشغيل بالفحم أيضًا!

إذًا المشكلة نفطية وليست بيئية! وإذا راقبنا اهتمام الحزب الديمقراطي ومفكريه ومنظريه بالمسألة المناخية، نجد أنه أصبح جزءًا من العقيدة السياسية. وهذا لا ينتج عنه تقويضٌ لنفط الخليج فحسب؛ بل لمستقبل شركات النفط الصخري الأمريكية التي تملكها دوائر اقتصادية داعمة للحزب الجمهوري! ومن آخر تجليات هذه المعركة (داخل أمريكا) توقيع حاكم كاليفورنيا (الديمقراطي) غافين نيوسم العام الماضي أمرًا تنفيذيًّا يفرض على جميع السيارات الجديدة للركاب والشاحنات التي تُباع في الولاية بأن تكون خاليةً من الانبعاثات بحلول عام 2035.

وأعلنت شركة جنرال موتورز عن خططها للتخلي التدريجي عن السيارات والشاحنات التي تعمل بالبترول والديزل بالكامل، وعدم بيعها سوى المركبات الخالية من الانبعاثات بحلول عام 2035. وليس من المعروف إنْ كان هذا الهوس بالبيئة والذي أصبح جزءًا من عقيدة الحزب الديمقراطي نابعًا من قلق حقيقي على المناخ أو محاولة سياسية خفية لتقويض قوة الحزب الجمهوري أو كليهما! غير أن محاولات أوروبا والولايات المتحدة اعتماد السيارات الكهربائية لن تكون سهلة؛ لأن محطات تعبئة الطاقة الكهربائية قليلة جدًّا. كما أن الصين والهند وهما اقتصادان كبيران لا تساندان الرؤية الغربية.

ومنذ بداية الثمانينيات أولت الحكومة السعودية أهميةً قصوى للمسألة المناخية، وتنبَّهت لها بقوة، فتعاونت في بداية الثمانينيات مع ألمانيا لتكوين مزرعة خلايا كهروشمسية في العُيينة والجبيلة (شمال غرب الرياض)؛ مما أتاح للمملكة فرصة متابعة التطورات الغربية في البدائل، وحقيقة الأمر أن الخلايا الشمسية لا تزال مكلفة.

وفي قمة المناخ بفرنسا عام 2015 قادت المملكة المعركة ضد تجريم النفط، ووقفت بصلابة ضد المحاولات الغربية لإصدار اتفاق مناخ مركز ضد النفط، ونجحت المملكة في تحويل كثير من نصوص الاتفاق لتكون عامةً ضد ملوثات البيئة ونزع الصياغات الموجَّهة ضد النفط. وقد نجحت المملكة بمعظم مساعيها رغم الضغوط الفرنسية الهائلة، مثلما نشرت وكالة الصحافة الفرنسية (فرانس برس) في تقرير بعنوان: السعودية تُعطِّل اتفاق المناخ.

ووظَّفت المملكة رئاستها لقمة العشرين نوفمبر الماضي لطرح مبادرة بيئية مهمة تهدف لإعادة تأهيل النفط كمصدر للطاقة. واعتمدت القمة المبادرة السعودية المتمثِّلة في (الاقتصاد الدائري للكربون)، وهي مبادرة تهدف لتقليص هائل في انبعاثات الكربون من النفط باستخدام أربع طرق لإعادة معالجة وتدوير الانبعاثات الكربونية النفطية. ومع الأسف الشديد، تجاهلت وسائل الإعلام الدولية – بما فيها بلومبيرج – هذا القرار الذي يعَدُّ نصرًا للدول النفطية.

والمؤكَّد أن مشروعات الرؤية السعودية 2030 في مجال تحسين المناخ وتأهيل البيئة تعَدُّ أكبر رد على ذرائع استخدام قضية البيئة لمحاربة النفط.

  • سادسًا – ما الذي يميِّز إستراتيجية المملكة ورؤيتها في مجابهة تحدي التغير المناخي؟

لكي تنجح إستراتيجية تغير المناخ، يجب أن تتكون من مهمتين: الأولى هي التخفيف من آثار تغير المناخ (Mitigation) عن طريق خفض انبعاثات الغازات الدفيئة، وإزالة الكربون من الغلاف الجوي، واحتجاز الكربون وتخزينه. تقدِّم إستراتيجية المملكة العربية السعودية لاقتصاد الكربون الدائري التي أقرَّها قادة مجموعة العشرين نظامًا واقعيًّا وفعَّالًا للتخفيف. تقدِّم المبادرة حلًّا وسطًا مهمًّا أمام الأهداف المتنافسة للتخفيف من تغير المناخ وجدواها من خلال الاستفادة من البنية التحتية الحالية للطاقة وتعديلها لتشمل التقاط الكربون وإعادة استخدامه وتدويره. يعتبر اقتصاد الكربون الدائري مفهومًا براجماتيًّا بإمكانه أن يُوفِّر اتجاهًا لمستقبل مستدام يتجنب الحلول التقنية باهظة التكلفة التي تدعو إليها الأطراف الأخرى، مثل تقرير “Net Zero بحلول عام 2050″، الصادر عن وكالة الطاقة الدولية (IEA)، والذي يُروِّج لـ “تحوُّل سريع بعيدًا عن الوقود الأحفوري” [10]. يستند الانتقاد الأخير لتقرير وكالة الطاقة الدولية من قبل صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن سلمان (وزير الطاقة السعودي) إلى العواقب الوخيمة المحتملة على أسواق الطاقة العالمية في حالة تحقق سيناريوهات وكالة الطاقة الدولية، والتي تدعي الحقوق الحصرية لهدف صافي الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050. يعَدُّ مزيج الطاقة المتنوع الذي يعيد تدوير الكربون أكثر اتساقًا مع التطور الطبيعي للبنية التحتية للطاقة التي تمت ملاحظتها عبر القرون. سيكون التخلص المبكر والسابق لأوانه من الوقود الأحفوري وسيطرة مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح الموصى به من قبل وكالة الطاقة الدولية أكثر تكلفةً، كما أنه سيعيق تنمية الاقتصادات الناشئة.

تظهر الأبحاث الحديثة أيضًا أن مصادر الوقود الأحفوري تتباين في أثرها البيئي وشدة انبعاثاتها من الكربون. تعَدُّ انبعاثات الغازات الدفيئة من إنتاج ومعالجة ونقل وتكرير النفط الخام السعودي من بين أدنى المعدلات في جميع أنحاء العالم [8،9]. وهذا يعني أنه في مستقبل اقتصاد تدوير الكربون، ستشمل محفظة الطاقة المتنوعة ما تبقى من براميل البترول الأقل تكلفةً وشدة غازات الدفيئة. وتسمح التكلفة المنخفضة والهوامش العالية لهذه الأنواع من النفط الخام بالاستثمار في التقاط الكربون وتخزينه في عمليات المنبع والمصب، وبالتالي إنتاج منتجات بترولية قريبة من الصفر الكربوني لقطاعات البتروكيماويات والنقل. إن رؤية اقتصاد تدوير الكربون تعني تعزيز الريادة السعودية العالمية في مجال الطاقة، وهو أمر ترى مجموعات المصالح الخاصة أنه مبرر كافٍ لرفض الحلول الأكثر واقعيةً وفعاليةً من حيث التكلفة من أجل ترسيخ الهيمنة التكنولوجية في العالم الجديد الخالي من الكربون. إن الهدف هو تقليل الكربون لإبطاء الاحتباس الحراري، وتغيير السردية إلى شيطنة الوقود الأحفوري لن يؤدي إلا إلى زيادة الخلافات وتأخير العمل. تم الاعتراف بهذه الحقيقة من قِبل قادة العالم خلال قمة مجموعة العشرين من خلال تأييد الإستراتيجية التي تتبناها المملكة العربية السعودية، وهو الأمر الذي من الواضح أنه أزعج العديد من الجهات الفاعلة ومراكز الفكر الغربية.

علاوة على ذلك، أخذت المملكة العربية السعودية زمام القيادة في التعهُّد بخفض انبعاثات الكربون بأكثر من 4٪ من المساهمة العالمية على الرغم من أنها حقَّقت 1.86٪ فقط من الانبعاثات العالمية في عام 2019 من خلال مبادرة الشرق الأوسط الخضراء [2،10]. وهذا يعني أن مساهمة المملكة العربية السعودية في الحد من انبعاثات الكربون ستزيد عن ضعف حصتها الحالية من الانبعاثات العالمية. كما ستعطي المبادرة الأولوية للاستثمار في الطاقة المتجددة بهدف زيادة حصتها في محفظة الطاقة من 0.3٪ إلى 50٪. وهذا يؤكد إدراك صانعي القرار في المملكة لحجم التحدي المتمثل في إزالة الكربون الذي سيتطلب التآزر بين مصادر الطاقة المتجددة ومصادر الطاقة التقليدية لزيادة الموثوقية (Reliability) والقدرة على تحمُّل التكاليف. هذا شيء – للأسف – غالبًا ما تتجاهله سياسات وتقارير المناخ العالمية الأخرى، مثل وكالة الطاقة الدولية التي تحثُّ على الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة بنسبة 100 ٪. تستند الإستراتيجية السعودية بشكل عام في التخفيف من آثار تغير المناخ إلى تنويع محفظة الطاقة من خلال اعتماد مصادر الطاقة المتجددة، وكذلك إلى تقنيات احتجاز الكربون.

تستهدف المبادرة الخضراء أيضًا التقاط الكربون من خلال العمليات الطبيعية عن طريق زراعة الأشجار. مع وجود 10 مليارات شجرة ستُزرع في جميع أنحاء المملكة في العقود القادمة، لن يكون هذا المشروع بمثابة مكمن ضخم لاحتجاز الكربون فحسب، بل سيكون أيضًا استثمارًا كبيرًا للتكيف مع تغير المناخ (Adaptation)، وهو الجزء الثاني من أي إستراتيجية مناخية فعالة. ستساعد النباتات المزروعة في تبريد البيئة من خلال توفير الظل وكذلك من خلال التبخير (Evapotranspiration)[11]. ولهذا، فإن الاستثمار في مثل هذه المزروعات الواسعة الانتشار أمرٌ بالغ الأهمية لتخفيف آثار تغير المناخ والتكيف مع ظروف الاحتباس الحراري. تولي الرؤية المناخية السعودية اهتمامًا خاصًّا للحفاظ على البيئة حيث يعَدُّ فقدان التنوع البيولوجي في البر والبحر أحد الآثار المتسارعة لتغير المناخ كما تم ذكره أعلاه، فإنه يشكل مخاطر كبيرة على قابلية المناطق للعيش الإنساني. ستأخذ المبادرة الخضراء العمل الحالي بشأن المناطق المحمية إلى مستوى آخر من خلال رفع النسبة المئوية للمناطق المحمية إلى أكثر من 30٪ من إجمالي مساحة البلاد [2]. إن إستراتيجية المناخ السعودية ستضعها كرائدة في مجالي التخفيف (Mitigation) والتكيف (Adaptation) والمحافظة (Conservation) مع خطط قابلة للتنفيذ وأهداف مدروسة تُعزِّز التحول نحو اقتصاد مستدام وفقًا لرؤية المملكة 2030.

  • سابعًا – الخطوات المقترحة لتمكين إستراتيجية المملكة للتغير المناخي:

يتطلب تحقيق تعهُّد مبادرة المملكة الخضراء بخفض كبير لانبعاثات الكربون (يشكل أكثر من 4٪ من المساهمة العالمية) اهتمامًا خاصًّا ليس فقط لجانب إنتاج الطاقة وإمداداتها (supply) كمصادر الطاقة المتجددة واحتجاز الكربون وما إلى ذلك، ولكن أيضًا إلى جانب الطلب على الطاقة (Demand). تشمل بعض عوامل التمكين لخفض البصمة الكربونية* لاستهلاك الطاقة السعودي ما يلي:

  • إجراءات أكثر صرامةً لتحسين كفاءة استهلاك الطاقة في القطاعين السكني والتجاري. على وجه الخصوص، تقديم حلول لتحسين كفاءة أنظمة التهوية وتكييف الهواء والعزل الحراري حيث ستصبح موجات الحرارة والعواصف الرملية أكثر شدة وتكرارًا في منطقتنا.
  • الاستثمارات في البنية التحتية للنقل العام منخفض الكربون، مثل الحافلات الكهربائية والقطارات عالية السرعة. هذه الاستثمارات ستكون مجديةً فقط إذا صاحبها تخطيط المدن الذي يزيد الكثافة ويحدُّ من الامتداد الأفقي (Urban sprawl)، ويقصر مسافات الرحلات. يجب أن يكون ذلك مصحوبًا أيضًا بتمكين النقل النشط مثل المشي وركوب الدراجات في المهام اليومية، بالإضافة إلى الأغراض الترفيهية. يحتضن مشروع LINE الذي أعلنه الأمير محمد بن سلمان في نيوم هذه الرؤية لمدينة ذات قدرة تنقل محسّنة خالية من الكربون. ولتحقيق إستراتيجية المناخ السعودي، يجب على جميع المدن السعودية الكبرى أن تحذو حذوها.
  • تخطيط المدن هو جوهر خفض الانبعاثات الكربونية من قطاع النقل، والذي يشكل أحد أكبر مصادر الانبعاثات في المملكة (٢٣٪؜ عام ٢٠١٧)، والتوقع أن تزداد النسبة لأن قطاعات الصناعة وتوليد الكهرباء في طريقها لتخفيض انبعاثاتها بشكل أسرع، وهذا ما حدث في أمريكا حيث أصبح النقل الآن عندهم القطاع رقم (١) في الانبعاثات. حل مشكلة انبعاثات الكربون من النقل للأفراد خصوصًا عن طريق السيارات الكهربائية وحدها لن يحل مشكلة الازدحام، ولن يكون كافيًا لخفض الانبعاثات بسبب الوقت الذي يتطلبه تبديل أسطول السيارات؛ لأن السيارة تعيش في المتوسط ١٥ سنة. ولهذا، فإن مزيجًا من السياسات التي تحفز دخول بعض السيارات الكهربائية ولكن في الوقت نفسه تقلل الحاجة لاستخدام السيارة لمسافات طويلة في المدن، هي الحل الأمثل. تخطيط المدن لتكون بيئة مرحبة للمشي عن طريق التشجير وتخطيط الشوارع وتقريب الخدمات للأحياء السكنية، وكذلك سهولة الوصول لنقل عام عالي الجودة والكفاءة يستخدم تقنيات قليلة الانبعاثات مثل القطار والباص الكهربائي – ستكون أكثر جدوى، ولعل هذه كانت المحفِّزات لمشروع سمو ولي العهد في نيوم the LINE.
  • مع تزايد عدم الوضوح بشأن الظروف المناخية المستقبلية، والعرض والطلب على الطاقة، والتغيرات الاجتماعية؛ فإن الحاجة مُلِحة إلى نماذج وبيانات تنبؤية (Predictive models) أفضل لإبلاغ عملية صنع القرار. لهذا السبب، يجب إنشاء مركز سعودي لأبحاث تغيُّر المناخ والذكاء الاصطناعي تحت مظلة الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA). سيقدم المركز مدخلات مهمة للعديد من أصحاب القرار في القطاعين الحكومي والخاص، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
  • التنبؤ بالعرض والطلب على الطاقة: مع زيادة الضبابية في حالة الطقس بسبب تغير المناخ، يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في تقديم تنبؤات أكثر دقة مكانية في وقت وجيز.
  • تقليل الانبعاثات من البنية التحتية للطاقة: عن طريق استخدام تعليم الآلة لكشف تسربات الميثان (أحد الغازات الدفيئة القوية) ومنع تسرُّبه.
  • نمذجة الطلب على وسائل النقل: يمكن أن تساعد خوارزميات تعليم الآلة وجمع البيانات الضخمة في اتخاذ قرارات البنية التحتية من خلال نمذجة استخدام النقل الحالي والتنبؤ بالطلب المستقبلي.
  • إزالة ثاني أكسيد الكربون وعزله: يعَدُّ احتجاز ثاني أكسيد الكربون إحدى ركائز إطار اقتصاد تدوير الكربون. يمكن أن يساعد المركز في تطوير أبحاث بغرض تحديد المواقع الواعدة لحبس الكربون، وكذلك مراقبة هذه المواقع لمنع التسربات.

أيضًا وعلى الرغم من أهمية تقليل البصمة الكربونية، إلا أن الأبحاث البيئية الحديثة شَدَّدَت كذلك على أهمية وَضْع سياسات بيئية شاملة تأخذ بعين الاعتبار معايير بيئية أخرى – الحدود الكوكبية – لا تقل في أهميتها عن أهمية قضية تغير المناخ [18]. تُعرف هذه الحدود الكوكبية بتسع ميزانيات بيئية إنْ تم تعديها قد تسبب كوارث بيئية لا يمكن تجاوزها. تشمل هذه الميزانيات البيئية: تغير المناخ، والتنوع البيولوجي، والنيتروجين والفسفور الكيميائي، وتحمض المحيطات، وتحوُّل الغطاء النباتي، والأمن المائي، ونضوب الأوزون، والهباء الجوي، والتلوث الكيميائي. استنتجت الأبحاث البيئية الحديثة أن السياسات المُقيِّدة للكربون قد تُعزِّز مصادر للطاقة ضارة لبعض هذه الحدود الكوكبية، على سبيل المثال الوقود الحيوي قد يساهم في تقليل الاحتباس الحراري؛ ولكن قد ينتهك الميزانيات البيئية للنيتروجين الكيميائي، والغطاء النباتي، والأمن المائي [19]. بالإضافة إلى ذلك، استنبطت بعض الدراسات أن اتفاق باريس للمناخ قد لا يتوافق مع الحدود الكوكبية المفروضة، وأنه يجب تحديث اتفاق باريس للمناخ ليشمل جميع الحدود الكوكبية [20، 21]؛ كي لا يتم إيجاد حلول لمشكلة بيئية – تغير المناخ- على حساب معايير بيئية أخرى ذات أهمية قصوى كالتنوع البيولوجي [22]. كما رأى بعض الباحثين أن السياسات البيئية المختزلة بتخفيض الكربون قد تكون أضرارها على صحة الإنسان، والتنوع البيولوجي، ووفرة الموارد الطبيعية للأجيال القادمة أكبر من تلك المرتبطة بالسياسات البيئية الشاملة لعدة معايير بيئية متنوعة [23].

هذه بعض المبادرات التمكينية اللازمة لكي تحقق إستراتيجية المناخ في المملكة أهدافها، ولتكتسب ميزة تنافسية في العصر الجديد للاقتصاد العالمي الخالي من الكربون. التغييرات التي ستحدث في العقود المقبلة بسبب أزمة المناخ قد تكون مدمرةً ولها عواقب جيوسياسية ومالية كبيرة. ستكون الدول ذات المستويات العالية من الاستعداد التكنولوجي والسياسي والاقتصادي أكثر جاهزيةً لاتخاذ قرارات قوية لحماية مصالحها. إذا استمرت إستراتيجية المناخ في المملكة في التحول إلى سياسات قابلة للتنفيذ ومشاريع نوعية مثل تلك المشار إليها، فالمتوقع أن تكون المملكة العربية السعودية هي الرائدة عالميًّا في مكافحة تغير المناخ في العقود المقبلة بإذن الله.

ومن المهم لفت الانتباه أيضًا لاحتياج المملكة المهم لتقديم قراءات سنوية لمؤشرات البُعد البيئي في السعودية، إلى جانب مناقشة الآليات المعزِّزة لحماية البيئة. كما يتعين وضع أُطر نظرية يُمكن الاسترشاد بها في دعم جهود تعزيز استدامة قطاع الطاقة، تُرفع من قِبل الجهات المختصَّة لصياغة خيارات إستراتيجية جديدة تَضْمَن مكاسب اقتصادية عالية في ظل إدارة متوازنة للموارد. مع عدم إغفال نشر الوعي وتقديم الحوافز لتشجيع تكنولوجيا الطاقة المستدامة. ودعم الابتكار في تصنيع البرامج والأجهزة ونشرها على نطاق واسع، وتوفير بيئة عمل مناسبة لمناقشة قضية التصحُّر، وكيفية إعادة تأهيل الأراضي الرعوية لدينا.

أيضًا، فثمة اعتبارات أخرى لا يجب تجاهلها، ومنها:

  • أن أمور البيئة تُوظَّف في الابتزاز السياسي في مجالات عدة، وتُوظَّف لتعطيل التنمية. ولذلك، علينا الانضمام لأكبر قدر ممكن من المؤسسات الدولية والمعاهد والمراكز المؤثرة والاتفاقيات الدولية والإقليمية.. واختيار الجانب المتحفظ من العالم حلفاء في موضوع البيئة.
  • ثمة مصالح وطنية واضحة من الارتقاء بالثقافة والمعطيات (الأنظمة والتشريعات والتنظيمات وشفافية كاملة للمواطن والمؤسسات) البيئية. وعمل أكبر قدر ممكن من مقاومات الأضرار (التخضير والتشجير والاستمطار…).
  • اعتماد التدوير بكل أنواعه وحماية السواحل والصحاري من التلوث بمعايير وأنظمة حازمة.
  • إيجاد صناعة بيئية (يُفضَّل أن تكون تجارية ولا ربحية؛ كلٌّ بحسبه) تتطور فيها جميع طبقات القطاع: (أكاديمية، استشارية، المقاولات، المستفيدون، العمال، والخبرات)، وإيجاد وسائل السوق والتسليع لتنظيم الانبعاثات وليس منعها.

ومن المهم التأكيد إجمالًا على ضرورة سرعة اتخاذ وتنفيذ القرار، كما حدث في السنوات القليلة الماضية، لمواجهة كارثة التغير المناخي الحتمية. يجب على جميع الجهات التشريعية والتنفيذية العمل معًا على تنفيذ الخطط المدروسة على أكمل وجه، بالإضافة إلى تفعيل الدور الإعلامي، خاصةً في الأوساط العلمية، لتسليط الضوء على إنجازات المملكة البيئية. وأخيرًا، يجب على الجميع أن يتيقن بأن أي قرار نتخذه اليوم سيحدِّد مصير الأجيال القادمة؛ مما يحتم ضرورة البحث والتطوير في التقنيات ذات الصلة.

ومن الضروري كذلك أن يساهم صُنَّاع القرار والباحثون السعوديون في تبنِّي السياسات البيئية الشاملة وطرح هذا النقد في طاولة المفاوضات العالمية التي تركز على مَنْع استهلاك وتصدير الوقود الأحفوري.

  • ثامنًا – التوصيات.
  • إنشاء مركز سعودي لأبحاث تغيُّر المناخ وما يهدد البيئة تحت مظلة الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA) والمراكز النظيرة في العالم. يقوم باستمرار متابعة المناخ في المنطقة والعالم لتقديم الحلول المقترحة (آخذًا في الاعتبار تأثير ذلك على أسواق الطاقة وتداعيتها الاقتصادية) لصنَّاع القرار من جهود محلية وتعاون عالمي.
  • الحصول على الحقائق والأرقام والمعلومات الإحصائية عن تاريخ المناخ وتحولاته في مناطق الاهتمام وبالأخص الجزيرة العربية، مما يساعد على التنبؤ الفعال للمتغيرات المستقبلية. لتكون من مكونات إعداد الخطة الإستراتيجية لمواجهة العديد في المتغيرات المناخية.
  • رفع الوعي الشعبي بالتثقيف الإعلامي بجميع وسائله، ليكون الشعب مشاركًا في تلك التحديات، وغرس أهمية البيئة والمناخ ليسهل على الجميع التعاون في تطبيق الإجراءات وتعديل السلوك الحضاري، في جميع جوانب الحياة (المجتمع، العائلات، الأفراد) والقطاع العام والخاص، ونشر ثقافة (صديق للبيئة تطبيقًا ومفهومًا)
  • تنظيم زيارات ميدانية عملية في أماكن عدة ومنوعة في البيئات المشابهة والمختلفة للمملكة؛ لغرض الاطلاع على كيفية التعامل مع متغيرات المناخ من منظورهم الأهلي، والذي في الغالب يكون أكثر شفافيةً وأقل تأثيرًا من التدخل السياسي والجشع الاقتصادي.
  • الاستمرار في الاستعداد التكنولوجي لرفع قدرة الإنذار المبكر عن الكوارث البيئية والمناخ؛ مما يعطي مساحةً للتصرف والتعديل، وبذلك تقل التكاليف والجهود المبذولة والتي غالبًا يصاحبها أطماع اقتصادية وسياسية.
  • مساهمة الجامعات والمراكز البحثية المختلفة في المملكة ودول مجلس التعاون وغيرهم في الدراسات المعنية للوقوف النظيف، تسير الكربون، الهيدروجين الأخضر وغيره. ويشرف على ذلك مركز البحث المشار إليه في التوصية رقم (1).
  • إتاحة المجال لطرح رؤى استشرافية للمستقبل البيئي للمملكة، تتفق والمستجدات، وتتماشى مع مُقتضيات التنمية المستدامة.
  • توفير مجال تفاعلي بين الخبراء والأكاديميين في المركز المشار إليه في التوصية (١) مع الجهات المعنية بالاستدامة البيئية؛ لمُعالجة القضايا المتعلقة بالجانب البيئي في المملكة.
  • مناقشة الآليات المعزِّزة لحماية البيئة، وصياغة سياسات وبرامج بيئية مُتطورة ضمن الخطة الإستراتيجية المقترحة.
  • استعراض إشكالية الاستدامة والتحديات البيئية في المملكة، وسُبل إدارة الموارد بصورة أفضل خاصة فيما يخصُّ المياه.
  • صَوْن الموارد الطبيعية، ودراسة الإمكانيات المتاحة للحفاظ على المحميات الطبيعية ودورها في التنمية الحضرية.
  • استقراء أبعاد المبادرات الوطنية في مجال العمل البيئي الملازم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ بما يُحقِّق تجاوبًا سريعًا يُواكب الصَّحوة البيئية محليًّا.
  • العمل على إفراد مساحة واسعة لمناقشة المرتكزات التشريعية المتعلقة بالعمل البيئي والشؤون المناخية وصون وحماية الموارد الطبيعية.
  • إظهار الجهود الحكومية – بالشكل الملائم – لضمان حق الأجيال في الاستفادة من الموارد الطبيعية بصورة مُتوازنة وعادلة.
  • إيجاد حلول خارج نطاق التقليد تعزِّز مفهوم السياحة البيئية وإسهاماتها في خطط وإستراتيجيات التنويع الاقتصادي.
  • إلقاء الضوء على مبادرات المسؤولية الاجتماعية المميَّزة للشركات والمصانع العاملة في مجالي النفط والغاز للحد من الانبعاثات الكربونية الضارة، كنوع من التحفيز للشركات الأخرى من أجل سعودية نظيفة بلا تلوث.
  • التنسيق مع جهات الاختصاص في وزارة الطاقة ووزارة البيئة والمياه والزراعة والرئاسة العامة للأرصاد لتحديث إستراتيجيات المملكة ذات العلاقة بالتغير المناخي ومكافحة التصحر وتخفيف آثار الجفاف.
  • التركيز على بدائل استخدامات البترول الأخرى غير استخدامه كوقود، والتوسُّع في ذلك وتحقيق السبق عالميًّا في هذا المجال لرفع دخل الدولة، عن طريق التوسُّع في الصناعات القائمة على مكررات البترول من حيث تنوُّع المنتجات وانتشارها وكونها الأفضل جودةً والأقل سعرًا عالميًّا.
  • الإسراع بتنفيذ مبادرة سمو ولي العهد حول التشجير باستخدام مياه الصرف الصحي والزراعي المعالجة والمياه السطحيّة والمالحة، وجَعْلها ممارسة مجتمعيَّة مستمرة تلتزم بها جميع القطاعات الحكومية وغير الحكومية.
  • تطوير مصادر الطاقة النظيفة ورفع نسبتها في مجمل الطاقة المستخدَمة في المملكة.
  • رفع كفاءة استخدام الطاقة وخفض التلوث عن طريق التركيز على المواصلات العامة الكهربائية (باصات وقطارات).
  • تطوير تقنية تقليل الانبعاثات الغازيَّة الناتجة من الصناعات البتروليَّة والمصنَّفة كمضرّة بالبيئة، والتي تعتبر من أسباب التغيُّر المناخي، وتصريفها بطرق مقبولة عالميًّا.
  • المراجع:
  • The Intergovernmental Panel on Climate Change (IPCC). Special Report: Global Warming of 1.5 ºC https://www.ipcc.ch/sr15/chapter/spm/
  • Saudi Green Initiative. https://saudigreeninitiative.org/
  • NASA Global Climate Change. https://climate.nasa.gov
  • S. Department of Commerce. National Oceanic and Atmospheric Administration. https://www.noaa.gov/
  • Peters, G., Andrew, R., Canadell, J. et al. Key indicators to track current progress and future ambition of the Paris Agreement. Nature Clim Change 7, 118–122 (2017). https://doi.org/10.1038/nclimate3202
  • United Nations. Climate Change https://unfccc.int/
  • International Energy Agency, Net Zero by 2050 A Roadmap for the Global Energy Sector. Flagship report — May 2021. https://www.iea.org/reports/net-zero-by-2050
  • Masnadi, Mohammad S., Hassan M. El-Houjeiri, Dominik Schunack, Yunpo Li, Jacob G. Englander, Alhassan Badahdah, Jean-Christophe Monfort et al. “Global carbon intensity of crude oil production.” Science 361, no. 6405 (2018): 851-853. https://science.sciencemag.org/content/361/6405/851
  • Jing, Liang, Hassan M. El-Houjeiri, Jean-Christophe Monfort, Adam R. Brandt, Mohammad S. Masnadi, Deborah Gordon, and Joule A. Bergerson. “Carbon intensity of global crude oil refining and mitigation potential.” Nature Climate Change 10, no. 6 (2020): 526-532. https://www.nature.com/articles/s41558-020-0775-3
  • International Energy Agency, Global CO2 emissions in 2019. https://www.iea.org/articles/global-co2-emissions-in-2019
  • S. Environmental Protection Agency, Using Trees and Vegetation to Reduce Heat Islands. https://www.epa.gov/
  • Huijbregts, M., et al., ReCiPe 2016 v1. 1 A harmonized life cycle impact assessment method at midpoint and endpoint level Report I: Characterization. National Institute for Public Health and the Environment: Bilthoven, The Netherlands, 2017.
  • Zhu, E., et al., Identify the optimization strategy of nitrogen fertilization level based on trade-off analysis between rice production and greenhouse gas emission. Journal of Cleaner Production, 2019. 239: p. 118060.
  • Gates, B., How to avoid a climate disaster: the solutions we have and the breakthroughs we need. 2021: Knopf.
  • Van Vuuren, D.P., et al., Alternative pathways to the 1.5 C target reduce the need for negative emission technologies. Nature climate change, 2018. 8(5): p. 391-397.
  • Bui, M., et al., Carbon capture and storage (CCS): the way forward. Energy & Environmental Science, 2018. 11(5): p. 1062-1176.
  • Anderson, K. and G. Peters, The trouble with negative emissions. Science, 2016. 354(6309): p. 182-183.
  • Steffen, W., et al., Planetary boundaries: Guiding human development on a changing planet. Science, 2015. 347(6223).
  • Heck, V., et al., Biomass-based negative emissions difficult to reconcile with planetary boundaries. Nature climate change, 2018. 8(2): p. 151-155.
  • Algunaibet, I.M., et al., Powering sustainable development within planetary boundaries. Energy & environmental science, 2019. 12(6): p. 1890-1900.
  • Algunaibet, I.M., et al., Correction: Powering sustainable development within planetary boundaries. Energy & Environmental Science, 2019. 12(12): p. 3612-3616.
  • Algunaibet, I.M. and G. Guillén-Gosálbez, Life cycle burden-shifting in energy systems designed to minimize greenhouse gas emissions: Novel analytical method and application to the United States. Journal of Cleaner Production, 2019. 229: p. 886-901.
  • Algunaibet, I.M., et al., Quantifying the cost of leaving the Paris Agreement via the integration of life cycle assessment, energy systems modeling and monetization. Applied Energy, 2019. 242: p. 588-601.

 

  • المشاركون:
  • الورقة الرئيسة والمعقِّبون: د. عبد الله العرفج (ضيف الملتقى)([25])، د. إبراهيم القنبيط (ضيف الملتقى)([26])؛ د. محمد العامر (ضيف الملتقى)([27]).
  • إدارة الحوار: م. فاضل القرني
  • المشاركون في الحوار والمناقشة:
  • د. وفاء طيبة
  • د. زياد الدريس
  • أ. فائزة العجروش
  • أ. محمد الدندني
  • أ. سالم المري
  • د. رجا المرزوقي.
  • أ. عبد العزيز الحرقان.
  • د. صالحة آل شويل.
  • د. عبد الإله الصالح
  • أ. عبد الرحمن باسلم
  • د. عبد الرحمن العريني
  • أ. سليمان العقيلي
  • د. علي الطخيس
  • د. خالد المنصور

 


القضية الخامسة

المطوِّرون العقاريون وتحديات المرحلة

(20/6/2021م)

  • الملخص التنفيذي.
  • مقدمة.
  • أولًا: أنواع الاستثمار في القطاع العقاري.
  • ثانيًا: أدوات الاستثمار العقاري.
  • ثالثًا: تصنيف التطوير العقاري في السياق المحلي.
  • رابعًا: دور المُطوِّر العقاري في منظومة السوق العقاري.
  • خامسًا: التطوير العقاري وطفرة النفط عام 2009.
  • سادسًا: التطوير العقاري وصورة المدينة.
  • سابعًا: التشريعات والتنظيمات والأدوات في رؤية المملكة 2030.
  • ثامنًا: مدى إمكانية تحفيز المُطوِّرين العقاريين المحليين لجعلهم مناسبين للمرحلة القادمة.
  • تاسعًا: التوصيات.
  • المشاركون.

 

  • الملخص التنفيذي:

تناولت هذه القضية المُطوِّرين العقاريين وتحديات المرحلة؛ فبعد حديث صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن إستراتيجية التطوير العقاري، وعن عدم كفاءة المُطوِّرين العقاريين المحليين وأن قدراتهم أقل من تحديات المرحلة القادمة؛ يصبح من المهم تناول الأبعاد والأسباب التي جعلتهم على قدمهم في السوق العقاري إلا أنهم ليسوا بالمستوى والطموح منهم.

ومن الضروري لفهم أسباب ضعف المشاريع العقارية في السوق العقاري السعودي، واتجاه غالبية السيولة للمضاربة وليس للتطوير العقاري؛ فهم سلوك المستثمرين العقاريين، وفهم المحرِّك الأكبر في تحفيز التطوير العقاري واتجاه الاستثمارات نحو التطوير العقاري أو لغيرها من قنوات الاستثمار، ومعرفة أسباب عزوف أغلبهم عن الاستثمار في التطوير العقاري، وكيف يمكن تحفيزهم للاستثمار فيه.

أيضًا، تبرز أهمية فهم مدى توفُّر الأدوات الاستثمارية وجودة التشريعات والتنظيمات التي تخص القطاع العقاري، ومن شأنها تحفيز قناة الاستثمار في التطوير العقاري، وجَعْل المشاريع التي تحتاجها التنمية مشاريع جاذبة لمستثمري القطاع الخاص؛ بالنظر إلى أن أي استثمار عقاري يحتاج إلى توفُّر أدوات رئيسية تسهم في شكل نموه وجودته، وهي نوعان: التنظيمات والتشريعات، والتمويل وأدوات الاستثمار.

كذلك فمن المهم التركيز على جودة المنتج العقاري التي تحوم حولها العديد من الشكوك، ويبدو أن العلاقة الباردة بين المخطِّطين والمعماريين وبين المُطوِّرين العقاريين ساهمت بشكل واضح في أن يكون المنتج العقاري غير ناضج معماريًّا، وأن يساهم بشكل كبير في إنتاج بيئات عمرانية متواضعة ساهمت بشكل واضح في تشويه المدينة السعودية المعاصرة.

إن الفرص المتاحة حاليًّا في قطاع التطوير العقاري متعددة ومتنوعة؛ فهناك الفرص المتاحة في القطاع السكني بجميع شرائحه ابتداءً من السكن الفاخر وانتهاءً بالسكن الميسر، وكذلك لقطاع التطوير العقاري المكتبي فإنه يفتقر لمنتجات مكتبية فاخرة تلبي احتياج الشركات الاستثمارية الحالية أو الشركات والقطاعات التجارية القادمة إلى السعودية للاستثمار في رؤية 2030.

ومن أبرز التوصيات التي تم الانتهاء إليها ما يلي:

  • التوسُّع في تقديم المناهج والبرامج الأكاديمية التأهيلية، وتأسيس مراكز الأبحاث والتطوير الخاصة بالتطوير العقاري.
  • ربط التطوير العقاري بالخطط العمرانية التي تسعى للارتقاء بجودة البيئة العمرانية، والعمل على وضع الضوابط والتشريعات التي تحكم جودة المنتج، والتأكد من إسهاماته في الارتقاء بالبنية العمرانية اجتماعيًّا وثقافيًّا وبيئيًّا وجماليًّا.
  • مراجعة الأنظمة والتشريعات المتعلقة بالتخطيط العمراني؛ لتنويع الكثافات السكنية والتقليل من التوسُّع الأفقي للمدن.
  • مقدمة:

بعد حديث صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن إستراتيجية التطوير العقاري، وعن عدم كفاءة المُطوِّرين العقاريين المحليين وأن قدراتهم أقل من تحديات المرحلة القادمة؛ يصبح من المهم تناول الأبعاد والأسباب التي جعلتهم على قدمهم في السوق العقاري إلا أنهم ليسوا بالمستوى والطموح منهم.

يعتبر السوق العقاري في المملكة العربية السعودية الاستثمار الأقدم مقارنةً بدول الخليج العربي إنْ لم يكن أحد أهم وأقدم الأسواق؛ لوجود مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة اللتين ازدهرت فيهما استثمارات إنشاء الأوقاف على مرِّ العقود منذ ظهور الإسلام، والمكانة الهامة للمنطقة. كما يعَدُّ القطاع العقاري أحد أهم وأكبر قنوات الاستثمار العقاري في السعودية، ويعَدُّ ثاني أكبر مصدر للناتج القومي مع الطفرات الاقتصادية التي مرَّ بها الاقتصادي السعودي خلال العقود الماضية، والسيولة الضخمة التي مرت على الاقتصاد والتي لم يكن فيها قنوات استثمارية كبيرة تستوعب هذه الطفرات سوى الاستثمار في القطاع العقاري. كما أن العقار كان ولا يزال هو الحاضنة الأهم لحفظ الثروات وحمايتها من التقلبات والتحديات الاقتصادية والسياسية، والناقل الأمين للثروات على مر التاريخ، إضافةً إلى الطفرات السعرية التي حققها المستثمرون من خلال المضاربة والاستثمار في العقارات خلال العقود الماضية؛ مما أكسب الاستثمار العقاري أهميةً كبيرةً لدى شريحة كبيرة للمستثمرين.

وتجدر الإشارة إلى أن الانطلاقة الفعلية والمحرِّك الرئيسي لنشاط التطوير العقاري هو إنشاء الدولة لصندوق التنمية العقاري في منتصف السبعينيات الميلادية، والذي كان الهدف الرئيسي له هو رفع نسبة تملُّك المساكن عن طريق ضخ السيولة الكبيرة التي أدت إلى انتعاش قطاع السوق العقاري والتطوير العقاري خصوصًا، وأدى إلى تغير النمط السكني وإدخال تقنيات بناء جديدة إلى سوق التطوير العقاري وتغيير نمط وسلوك حياتنا وتصاميم المنزل السعودي. ولكن الإشكالية الرئيسية كانت في توجُّه معظم المُطوِّرين إلى الاستثمار في نوع واحد من أنواع التطوير العقاري، وهو تطوير الأراضي الخام في أبسط صورها، وهي شراء أرض خام ومن ثَمَّ تجزئتها إلى قطع صغيرة. هذا النوع من التطوير أدى إلى نشوء سوق الاستثمار والمضاربة في الأراضي تماشيًا مع احتياجات الشريحة المستهدفة في ذلك الوقت، وتحقيق الهدف المرجو من إنشاء الصندوق العقاري، وهو المساعدة على زيادة نسبة التملُّك وتغيير وتحسين نمط المعيشة في المملكة العربية السعودية. ولكن يُلاحظ أن هذا النوع من التطوير العقاري ليس هو النوع الوحيد والمناسب الذي يُحقِّق الأهداف والنتائج والفوائد الاقتصادية من التطوير العقاري؛ فمفهوم التطوير العقاري أشمل بكثير من تطوير الأراضي الخام، بل إن نشاط التطوير العقاري يركز على إيجاد منتجات عقارية متنوعة تلبي احتياجات جميع شرائح المجتمع سواء أفراد أو قطاعات حكومية أو خاصة.

  • أولًا – أنواع الاستثمار في القطاع العقاري:

من الضروري لفهم أسباب ضعف المشاريع العقارية في السوق العقاري السعودي واتجاه غالبية السيولة للمضاربة وليس للتطوير العقاري؛ فهم سلوك المستثمرين العقاريين واتجاه الاستثمارات نحو التطوير العقاري أو لغيرها من قنوات الاستثمار، ومعرفة أسباب عزوف أغلبهم عن الاستثمار في التطوير العقاري وكيف يمكن تحفيزهم للاستثمار فيه.

يُخطِئ مَن يعتقد أن الاستثمار العقاري عبارة عن قناة واحدة أو بمستوى واحد من المخاطر، فالقطاع العقاري ينقسم إلى ثلاثة أنواع، وكل نوع له مخاطره، وهي:

  • الاستثمار في شراء العقارات المدرة للدخل: وهي تعَدُّ استثمارًا آمنًا ذا مخاطر منخفضة Low Risk Low Income ، وتنحصر المخاطر فيه بأمرين، وهما: الإهلاك (انخفاض القيمة السوقية) وانخفاض الدخل، ولكنه ذو عائد منخفض ينحصر بين 5% إلى 10 % سنويًّا.
  • الاستثمار في التطوير العقاري بمختلف أنواعه؛ مخططات كبرى أو تطوير تجاري وسكني: وهو يعَدُّ ذا مخاطر متوسطة وعوائد متوسطةMed Risk Med Income ، وتنحصر المخاطر فيه بطول فترة التخارج عما هو متوقع منه؛ وبالتالي انخفاض العائد الداخلي للاستثمار، وتنحصر العوائد السنوية من الاستثمار فيه بين 12% إلى 20% سنويًّا.
  • الاستثمار في المضاربة العقارية: وهو باقتناص الفرص بشراء عقارات وإبقائها لمدة معينة، وإعادة بيعها بسعر أعلى. ويعَدُّ هذا النوع من الاستثمار ذا مخاطرة عالية ولكن ذو عائد عالٍ High Risk High Income، وتكون المخاطرة منه في صعوبة التخارج وطول فترة التخارج منها، وتكون العوائد السنوية فيه من 25% إلى نسب عالية جدًّا قد تصل إلى 100% وأكثر.

ويتوزَّع الطلب على قنوات الاستثمار العقاري بين المستثمرين في حالات مختلفة للسوق هي التي تجعل الطلب على أي قناة أكبر من غيرها بين المستثمرين؛ ففي حالة الأزمات الاقتصادية ووجود ضبابية في الأسواق وخاصة لدى القطاعات الوقفية والخيرية، ينتعش الطلب على الاستثمار في العقارات المدرة للدخل رغبةً من المستثمرين في حفظ استثماراتهم بعقارات عوائدها مضمونة.

وفي حال وجود طلب على الوحدات السكنية أو التجارية وتوفُّر أدوات التمويل، يتجه غالبية المُطوِّرين لقناة التطوير العقاري لتلبية طلب المستثمرين الذين يرغبون في استثمار ذي عائد أفضل من العقارات المدرة للدخل. وأما في حال انتعاش الأسواق ووجود سيولة ضخمة في القطاع العقاري وتوفُّر المستثمرين فينتعش سوق المضاربة.

بالنظر لما سبق، نجد أن القطاع العقاري السعودي مرَّ بجميع تلك الفترات خلال العقود الماضية؛ مما جعله سوقًا يضمُّ كافة أنواع المستثمرين، ومرَّت جميع القنوات الاستثمارية بمراحل انتعاش ومن ثَمَّ ركود.

ويُلاحظ أن مفهوم التطوير العقاري مفهوم أشمل من التطوير العقاري السكني؛ فهناك عدة أنواع من التطوير العقاري، من أهمها: التطوير العقاري المكتبي، وتطوير العقارات التعليمية والطبية، والعقارات الترفيهية. ويتبين من الملاحظة أنه لا يوجد لدينا مُطوِّرون في هذه المجالات؛ بل إن غالب العقاريين ربما يوجِّهون بعض استثماراتهم إلى قطاع العقارات المكتبية أو عقارات التجزئة مثل المولات والمعارض التجارية، ولكن هناك قطاعات واعدة مثل القطاع التعليمي والذي تحتاج فيه المنشآت التعليمية إلى مبانٍ مخصَّصة تعليمية.

  • ثانيًا – أدوات الاستثمار العقاري:

من المهم جدًّا فهم مدى توفُّر الأدوات الاستثمارية، وجودة التشريعات والتنظيمات التي تخص القطاع العقاري التي من شأنها تحفيز قناة الاستثمار في التطوير العقاري وجَعْل المشاريع التي تحتاجها التنمية مشاريع جاذبة لمستثمري القطاع الخاص؛ فأي استثمار عقاري يحتاج إلى توفُّر أدوات رئيسية تسهم في شكل نموه وجودته، وهي نوعان:

  • التنظيمات والتشريعات.
  • التمويل وأدوات الاستثمار.

فجودة التنظيمات والتشريعات وكفاءتها تضمن نموًّا معتدلًا، ويخدم التنمية واحتياجات الوطن والمواطن؛ فالمستثمرون إنْ وجدوا صعوبات في التشريعات والتنظيمات في أحد قطاعات الاستثمار العقاري؛ فإنهم يتجهون للاستثمار العقاري الأقل تشدُّدًا، فعلى سبيل المثال: عندما تكون هناك تعقيدات في تطوير المخططات للأراضي البيضاء بسبب الأنظمة والتشريعات التي تطيل أمد الاستثمار وتجعله غير واضح لمدة الاستثمار فيه، تجد أن المستثمرين يتجنبونه ويتجهون إلى استثمار عقاري أقل من ناحية التشريعات والتنظيمات؛ مما ينتج عنه شُحٌّ في المعروض؛ وبالتالي زيادة في قيمة المعروض. كما أن توفُّر أدوات التمويل وأدوات الاستثمار يكون له أيضًا دورٌ مهمٌّ في زيادة حجم المشاريع، وبالتالي زيادة في حجم المعروض، وينتج عنه ثبات أو انخفاض في قيمة العقارات؛ والعكس صحيح.

وتعَدُّ جودة التشريعات والتنظيمات واحترافية أدوات التمويل عاملًا أساسيًّا في صنع سوق عقاري احترافي، وبالتالي خلق مستثمرين عقاريين محترفين في جميع دول العالم وفي أزمنة مختلفة. فلو أخذنا أي دولة من دول العالم المتقدمة، والتي تملك سوقًا عقاريًّا محترفًا، وتضمُّ مطوِّرين عقاريين محترفين؛ سنجد أن التنظيمات والتشريعات في تلك الأسواق ذات جودة عالية هي من صُنع ذلك القطاع، كما سنجد تنوُّعًا واحترافيةً في أدوات التمويل والاستثمار في تلك الأسواق؛ وفي المقابل، سنجد العكس في الدول النامية والتي تعَدُّ فيها التشريعات والتنظيمات بدائية، وسنجد محدودية في الأدوات الاستثمارية وضعفًا في منتجات التمويل العقاري وصناديق الاستثمار العقاري، وسنجد أيضًا انتشار المشاريع العقارية العشوائية والمتعطلة وذات الكفاءة الأقل.

  • ثالثًا – تصنيف التطوير العقاري في السياق المحلي:

عند محاولة تصنيف أنواع التطوير العقاري خاصة الموجودة في بيئتنا المحلية، يمكن أن تُصنَّف كالتالي:

  • تطوير البنية التحتية: وهذه بدأت من عقود طويلة، وأغلب العقاريين التقليديين والعوائل العقارية المعروفة بدأت مشوارها العقاري من خلال هذا النوع من التطوير، حيث كانت المتطلبات فقط وجود أرض، ثم استخراج مخططات معتمدة لها من البلدية لتحويل الأرض الخام (غير المطوَّرة) إلى أراضٍ صغيرة مقسَّمة محدَّدة المساحة والأطوال، ويتم تحديدها بما يُعرف بالـ”بتر” – كما يظهر في الصورة أدناه- والتي تحدد قطع الأراضي في المخطط، ويقع على عاتق الأمانة أو البلدية إيصال البنية التحتية. واستمرت هذه الحال حتى باتت الكثير من الأراضي تُباع دون توفُّر البنية التحتية مثل الكهرباء والماء، وحديثًا الاتصالات والصرف الصحي في المدن الرئيسية بالذات، وفي عام 1435هـ ظهرت اللائحة التنفيذية المحدَّثة لقواعد النطاق العمراني حتى 1450هـ، ومنذ صدورها بدأ تطبيق الأسلوب الجديد في التطوير للبنية التحتية، والذي يلزم صاحب الأراضي الخام أن يعمل على تطوير البنية التحتية وفقًا للاشتراطات الفنية الرسمية؛ وبهذا بات عبء تطوير البنية التحتية على صاحب الأرض حتى يستطيع أن يبيعها كقطع أراضٍ صغيرة. وتجدر الإشارة إلى أن البعض يرى أن هذا الإجراء أحد مسببات الارتفاعات الحاصلة في أسعار الأراضي المطورة.

 

صورة توضح شكل البترة لتقسيم الأراضي

  • تطوير الوحدات السكنية والتجارية: وهذه المرحلة تأتي بعد تخطيط الأرض الخام وتحوُّلها إلى قطع أراضٍ صغيرة يمكن لبُناة المساكن أو المُطوِّرين للوحدات السكنية والتجارية أن يشتروا هذه الأراضي ويطوِّروا عليها منتجاتهم العقارية. وتجدر الإشارة أن أحد التقارير السابقة للهيئة الملكية لمدينة الرياض ذكرت أن 90% من المساكن تم بناؤها من خلال منشآت صغيرة ومتوسطة وبجهود فردية. وهذا يبرر سبب تباين الجودة في المنتجات السكنية، مع التأكيد بأن الأنظمة كانت متساهلةً في تقنين ومتابعة جودة الإنشاءات للوحدات السكنية بالذات.
  • التطوير الشامل: وهذا يعني إنجاز البنية التحتية والفوقية للمشروع العقاري، بحيث يكون المُطوِّر مسؤولًا عن إدارة المشروع ووضع الأسس العمرانية والتخطيطية التي تضمن استدامة المشروع وتكامل جوانبه الخدمية للساكنين، ويعمل المُطوِّر على إنشاء البنية الفوقية من وحدات سكنية أو تجارية بشكل كامل أو جزئي، ويمكن أن يُعطيَ مطوِّرين فرعيين بعضًا من الأراضي لتطويرها لكن وفقًا للأسس العمرانية والتخطيطية التي وضعها وأقرها لضبط جودة المشروع وتكامله واستدامته، ولعل هذا النوع من التطوير – النادر جدًّا حاليًّا في المملكة – هو الذي كان يقصده سمو ولي العهد عندما ذكر ملاحظته على المُطوِّرين العقاريين.
  • رابعًا – دور المُطوِّر العقاري في منظومة السوق العقاري:

المُطوِّر والمستثمر والمستخدم، هؤلاء هم عناصر سوق العقار الذي ينعش القطاع ليكون منتجًا مضيفًا لاقتصاد أي بلد، حيث إنَّ التفاعل التام والتمازج بين هذه العناصر ضمن تشريعات وأنظمة وقرارات متجددة تراعي ظروف السوق بدلًا من أن تكون عائقًا أمامه، هو الضامن للإنتاج والتطوير العقاري؛ لذا فإن الأنظمة والتشريعات هي أساس بناء هذا المثلث وقاعدته التي ينطلق منها ويستمد ثقته بالسوق على أساسها، وفيما يلي لمحة عن دور كل عنصر:

  • المُطوِّر: هو مهندس الفكرة ومُبدعها، فيأتي دوره من خلال قراءته للسوق ومعرفته لتوجُّهاته ومحاولة معرفة حاجة المستخدِم النهائي سواء كمشتر لوحدة سكنية أو مستأجر لوحدة تجارية، وبعد حصر المنتجات والمناطق الجغرافية المناسبة للتطوير، يعمل المُطوِّر على تحديد مسار رحلة التطوير وإستراتيجيتها بدءًا من اختيار الموقع المناسب للمشروع ثم دراسة جدوى التطوير، ورسم خريطة الطريق بدءًا من الاستحواذ ومرورًا بالتمويل سواء عن طريق المصارف أو المستثمرين المهتمين وانتهاءً بتحديد إستراتيجية التخارج إما بالبيع على المستخدم النهائي وإما على المستثمر في حال كان العقار مُدرًا للدخل؛ لذا فالمُطوِّر الحقيقي يشتري الأرض وهو يعرف تمام المعرفة المدة الزمنية اللازمة لبقاء هذه الأرض تحت ملكيته لتنتهي بالتطوير الذي يتم بيعه أو تأجيره.
  • المستثمر: هو مَن يضخُّ رؤوس الأموال للسوق، وقد يمثِّل صفةً شخصيةً كرجل أعمال أو عملًا مؤسسيًّا كالمصارف الاستثمارية وصناديق الاستثمار العقاري التي تتم هيكلتها بأساليب مختلفة وفقًا لأهدافها، وغالبًا ما تتركز إستراتيجية المستثمر في تملُّك العقارات التي تحقِّق العوائد من جهتين، الدخل السنوي ونمو قيمة العقار مستقبلًا؛ وبهذا يمثِّل المستثمر المحفظةَ التي تؤول إليها العقارات بعد تطويرها من المُطوِّر وتأجيرها على المستخدم، ومن خلال خبرة واطلاع المستثمر على السوق قد يقوم بمشاركة بعض المُطوِّرين في قطاعات يرغب في الدخول فيها لمعرفته المسبقة بالحاجة إليها، ثم يستحوذ على التطوير بعد انتهائه، لإدارته والانتفاع بدخله وزيادة قيمته.
  • المستخدِم: وهو العميل المستهدَف من المنتجات العقارية، سواء كمشتر للوحدات السكنية أو كمستأجر لمبنى مكتبي مثلًا؛ ولذلك فإن المستخدم هو مَن يحرص المُطوِّر والمستثمر على تلبية احتياجاته المختلفة، ومحاولة معرفة توجهاته ورغباته وإمكاناته كي يتم إنتاج ما يناسبه ويُحقِّق طموحاته.
  • الخدمات العقارية: وهي المنظومة المساندة والتي تعين كل عنصر على أداء مهامه، مثل: الوساطة العقارية، وإدارة الأملاك والمرافق، ووساطة التمويل، وغيرها من التخصصات الخدمية في القطاع العقاري.
  • التشريعات والأنظمة: هي الدائرة التي تحيط بهذه العلاقة الثلاثية؛ حيث تحفِّز المستثمر، وتُشجِّع المُطوِّر، وتضمن حقوق المستخدِم.

 

  • خامسًا – التطوير العقاري وطفرة النفط عام 2009:

لم يعقب تلك الفترة التي انتعش فيها الاقتصاد السعودي في عام 2009 بسبب الارتفاع الكبير في إيرادات النفط أيُّ تعديل أو تحسين في التشريعات العقارية التي من دورها جَعْل سوق الاستثمار العقاري محترفًا وجاذبًا للمطوِّرين العقاريين الأجانب. فمع الإعلان الكبير عن خُطط المملكة التوسعية والنمو الاقتصادي الكبير في تلك المرحلة، وتشجيع السعودية للمطوِّرين والمستثمرين الأجانب للدخول إلى السوق السعودي بغرض رفع مستوى المشاريع العقارية الذي كان يفتقر لتلك الكفاءات؛ جعلت العديد من المُطوِّرين الأجانب يدخلون إلى السوق العقاري السعودي، ولكن لم تكن النتائج كما هي مرجوة منهم؛ بل بالعكس فشلت غالبية تلك الشركات في تحقيق أي إنجاز مرجو منها، ولم تقدِّم أي مشروع عقاري محترف للسوق العقاري.

وربما كان السبب الرئيسي هو عدم وجود التشريعات والتنظيمات والأدوات المحترفة لهم، وبالتالي صعب عليهم تحقيق أي إنجاز. ومع هذا، يعد نجاح وزارة الإسكان في تنفيذ مستهدفاتها من أهم التطورات الحالية في قطاع التطوير العقاري، وبالأخص نجاحها في تنفيذ المبادرات وتفعيل التنظيمات التي ساعدت قطاع التطوير العقاري على تسريع إنجاز هذه المستهدفات، ولعل من أهمها تنظيم البيع على الخارطة ومركز إتمام، وبالطبع لا ننسى برنامج إيجار والذي ساعد على رفع ثقة المستثمرين العقاريين في الاستثمار في القطاع السكني التأجيري، بالإضافة إلى برنامج اتحاد الملاك وبرنامج البناء المستدام وغيرها.

لعل من أهم البرامج التي عملت عليها وزارة الإسكان سابقًا وهيئة العقار حاليًّا هو إنشاء المعهد العقاري السعودي، والذي قام بجهود كبيرة لتأهيل الآلاف من أبناء وبنات هذا الوطن، ومتابعة سعودة هذا القطاع المهم ودعم رفع نسبة التوطين فيه ابتداءً من البرامج التدريبية المخصَّصة للوساطة العقارية والتسويق العقاري ومدراء اتحاد الملاك وتأهيل المُطوِّرين العقاريين المتخصصين في البيع على الخارطة. كل هذه البرامج تحتاج إلى الآلاف من الشباب، وانتعاش هذا القطاع سيؤدي إلى تحريك أكثر من 100 نشاط اقتصادي وتجاري متعامل معه.

  • سادسًا – التطوير العقاري وصورة المدينة:

إذا ما عرفنا أن أغلب النشاط العقاري يصبُّ في البيئة السكنية، أي خلق المجاورات السكنية التي نراها في مدننا اليوم؛ فهذا يجعلنا نتوقف ونسأل سؤالًا جوهريًّا هو: هل التطوير العقاري ساهم في تطوير عمران المدينة السعودية أو العكس من ذلك؟ التصوُّر أن ملاحظة سمو ولي العهد على الشركات المُطوِّرة في المملكة موجَّهة لجودة المنتج العقاري وقدرته على الإسهام في تطوير البنية العمرانية في المدينة السعودية أكثر من أي شيء آخر. ويبدو أن هذا السؤال الجوهري غير المطروق للأسف يستحق أن يكون محورًا للدراسات العقارية المستقبلية، فالنشاط العقاري هو نشاط عمراني بالدرجة الأولى وليس فقط نشاطًا عقاريًّا، ويجب أن تُحدَّد الأولويات في هذا النشاط على هذا الأساس، أي جودة المنتج العمراني ثم الجدوى الاقتصادية.  فإذا ما قُدِّمت المكاسب الاقتصادية للمستثمر على الجودة العمرانية، فهذا يعني السماح لهذا النشاط بتشويه مدننا وتحويلها إلى مجموعة متصلة من الخرائب كما هو حاصل اليوم.

وفي هذا السياق، من المهم التركيز على جودة المنتج العقاري التي تحوم حولها العديد من الشكوك، ويبدو أن العلاقة الباردة بين المخططين والمعماريين وبين المُطوِّرين العقاريين ساهمت بشكل واضح في أن يكون المنتج العقاري غير ناضج معماريًّا، وأن يساهم بشكل كبير في إنتاج بيئات عمرانية متواضعة ساهمت بشكل واضح في تشويه المدينة السعودية المعاصرة. وفقط في العام 2006م، بدأ مفهوم التطوير الشامل في المخططات العقارية بدءًا من مدينة الرياض، وقد كانت مبادرة من سمو أمين الرياض آنذاك الأمير الدكتور عبد العزيز بن عياف. ومع ذلك، فإن هذه الفكرة لم تنضج حتى اليوم، ولعل غياب التشريعات العمرانية أو عدم وضوحها ساهم بشكل كبير في عدم النضوج هذا. ولا بد هنا من الإشارة إلى تجربة دبي، الجارة القريبة، في تلك الفترة، فهي تجربة مثَّلت نوعًا من المرآة التي جعلت المسؤولين عن إدارة المدن في المملكة يعيدون التفكير في مسألة التطوير العقاري الذي كان وما زال متقدمًا في هذه المدينة. ولعل التحولات الأخيرة التي ساهمت في ظهور مشاريع عقارية عملاقة مثل مركز الملك عبد الله المالي والمشاريع الأخرى الأصغر، هي نتيجة لهذا التقييم الذاتي.

  • سابعًا – التشريعات والتنظيمات والأدوات في رؤية المملكة 2030:

لعقود طويلة كان مصدر تمويل الاستثمار العقاري الوحيد هو المساهمات العقارية التي كانت تُوفِّر أي سيولة لأي شخص أو كيان عقاري بكل سهولة ودون أي حوكمة، ومع بدائية التشريعات والتنظيمات وقتها حدثت طفرة في الاستثمارات العقارية غير المدروسة وطلب ضخم على الاستثمار العقاري؛ مما أدَّى إلى تضخُّم في أسعارها حسب قاعدة العرض والطلب، حيث كان الطلب هنا من مستثمرين غير محترفين لديهم سيولة ضخمة، وهذا الأمر استمر حتى عام 2001 مع صدور أمر بمنع تجميع الأموال لأي غرض؛ مما أدى إلى ركود عقاري حيث فقَد القطاع العقاري مصدر التمويل الوحيد، كما نتج عن تلك المرحلة تعثُّر وتعطُّل مساهمات بمبالغ ضخمة ترتَّب عليها إنشاء لجنة لتصفية المساهمات العقارية.

ومن وجهة نظر البعض، فإن إشكالية سوق التطوير العقاري تكمن في غفلة الدولة عنه فترة طويلة دون أي تنظيم أو رقابة، ومن ثَمَّ فقد كان سوقًا فوضويًّا يُدار وفقًا لمصالح المُطوِّرين القائمة على تحقيق أعلى ربح بأقل تكلفة ممكنة؛ لذا وُجِدت المخطَّطات سيئة التنفيذ حيث الشوارع ١٠ أمتار و١٥ مترًا وبدون خدمات أو مرافق، كما وُجدت فلل الكراتين كما اصطلح عليها في السوق، كما أن السوق كان مغلقًا أمام شركات التطوير العالمية التي يمكن لها صُنْع فارق في مجال التطوير من حيث الجودة والكلفة حيث إنَّ السوق السعودي يعاني من قلة الشركات المؤهَّلة في هذا الجانب، حيث تُعَدُّ شركات التطوير الكبرى المحلية على الأصابع، وهي مشغولة بالمشاريع الضخمة للحكومة؛ مما جعلها عازفةً عن مجال الإسكان، وإنْ دخلته فكلفتها مرتفعة مع قلة الجودة نتيجة انعدام المنافسة؛ لذا من المهم فتح سوق التطوير العقاري أمام الشركات العالمية المشهورة في هذه الصناعة مع مَنْحها مساحة أوسع في الابتكار والتطوير في هذا المجال بحيث تنخفض التكاليف مع حصر مسألة التجارة في العقار في مجال التطوير قدر الإمكان، إذ إنَّ تجارة العقار الآن لدينا جل أصولها الأراضي البيضاء بين تدوير مضاربي واكتناز احتكاري.

وثمةَ آراء بأن شركات التطوير العقاري قد اعتادت على الربح السريع والضخم حتى ترسَّخ الاعتقاد لديها أن هذا هو دورها؛ لذا أصبح هناك صعوبة في التأقلم مع تطوُّر الأنظمة والتشريعات والأدوات وحتى متطلبات المرحلة، وأكبر دليل على ذلك التطبيق الخجول لرسوم الأراضي البيضاء والمشاريع المتعثرة، وإفلاس العديد من شركات المقاولات. فهناك طلب كبير على الأراضي بدليل ارتفاع أسعارها وفقًا لقانون العرض والطلب؛ وهذا يعني أن المعروض من وزارة الإسكان دون المأمول.

لم تشهد السوق العقارية السعودية تطوُّرًا في التشريعات والتنظيمات العقارية وتوافر أدوات التمويل والاستثمار العقاري إلا خلال 7 سنوات الماضية مع الإعلان عن رؤية المملكة 2030، والتي جعلت القطاع العقاري أحد أهم مرتكزاتها بهدف زيادة المشاريع التنموية، وزيادة نسبة تملُّك المواطن؛ فشهدنا إقرار نظام رسوم الأراضي البيضاء، وإقرار ضريبة التصرفات العقارية التي من شأنها الحد من المضاربات، وتأسيس الهيئة العامة للعقارات والتي تهدف لتنظيم السوق العقاري لجَعْله أكثر جاذبيةً، كما تم تصحيح نظام البيع على الخارطة الذي كان أداةً تمويلية مهمة معطلًا لسنوات طويلة بسبب تعقيداته، كما تمَّ إطلاق أكثر من 13 منتج تمويل عقاري بالشراكة بين صندوق التنمية العقاري والبنوك المحلية، والتي وسَّعت شريحة المتمولين لتشمل عددًا أكبر من المواطنين وتشجيع الطلب على الوحدات العقارية. وبالتالي، التصوُّر أننا سنشهد مشاريع وشركات عقارية محترفة، كما سيرتفع مستوى المستثمرين العقاريين خلال الفترة القادمة.

إنَّ الفرص المتاحة حاليًّا في قطاع التطوير العقاري متعددة ومتنوعة، فهناك الفرص المتاحة في القطاع السكني بجميع شرائحه ابتداءً من السكن الفاخر وانتهاءً بالسكن الميسر، وكذلك لقطاع التطوير العقاري المكتبي والذي يفتقر لمنتجات مكتبية فاخرة تلبي احتياج الشركات الاستثمارية الحالية أو الشركات والقطاعات التجارية القادمة إلى السعودية للاستثمار.

  • ثامنًا – مدى إمكانية تحفيز المُطوِّرين العقاريين المحليين لجَعْلهم مناسبين للمرحلة القادمة:

لا شك أن أي سوق عقاري يعتمد بنسبة كبيرة على المُطوِّرين العقاريين المحلين أكثر من غيرهم من المُطوِّرين الأجانب؛ وذلك لفهمهم لخصوصية الطلب العقاري من المستفيدين المحليين، وكذلك لخبرتهم في احتياجات السوق المحلي ولكونهم اللاعبين الأساسيين فيه أكثر من غيرهم؛ ولكن يُشار إليهم اليوم بأنهم غير مؤهَّلين لمستوى وطموح المرحلة القادمة التي تتطلب تطويرَ مشاريع نوعية وذات كفاءة عالية كما هو الحال في مشاريع عقارية في أسواق عقارية في دول إقليمية محيطة، وهنا يتبادر السؤال: هل هم على قدر ذلك الطموح أم أننا بحاجة لاستقطاب شركات أجنبية؟ وهل يمكن لشركات التطوير العقاري أن تُصحِّح من وضعها لتواكب الطموح؟

للإجابة عن هذا السؤال؛ يجب أن نفهم أن شركات التطوير العقاري المحلية تهدف إلى التربُّح واقتناص الفرص المتاحة، وتستطيع التكييف مع التشريعات والتنظيمات في السوق إنْ احتاجت لذلك أكثر من المُطوِّرين الأجانب الذين يصعب عليهم تقديم نفس الإنجاز الذي حققته في أسواق دولها، وهو أمر طبيعي؛ ولكن قد يكون الأمر يحتاج لتحسين جودة التنظيمات والتشريعات للنهوض بمستوى المُطوِّرين العقاريين المحليين، بالإضافة إلى دورهم في تطوير أدائهم ليكونوا شركاء في المشاريع الحكومية النوعية.

نخلص إلى وجود فرص كبيرة خلال المرحلة القادمة في مجال التطوير العقاري في السعودية للشركات المحلية، ولكن التحدي الكبير الذي ستواجهه تلك الشركات هو التأقلم السريع مع الأنظمة والتشريعات الجديدة التي تتطلب تغييرًا كبيرًا على مستوى الإستراتيجيات والشركات وحتى الأدوات لكي تستطيع تلك الشركات الحصول على فُرص في هذا السوق النامي، وحتى أدوات التمويل التي تتطلب فريق عمل محترفًا حيث إنَّه حتى الشركات العقارية الكبيرة التي كانت تعمل سابقًا في السوق وكانت لها حصة كبيرة فيه لن تستطيع أن تحصل على ذات الحصة السوقية إنْ لم تواكب وتتكيف مع تطورات السوق وتشريعاته الجديدة .

لكن من المهم التنبُّه إلى دور مراكز الأبحاث والدراسات المعنية بالتطوير العقاري، وأهمية هذه المراكز لتوجيه هذا النشاط بشكل صحيح. فأسواق التطوير العقاري المتطورة تعتمد بشكل كبير على وجود مركز أبحاث وتطوير Research and Development (R&D)، وهذه المراكز تقوم بدور “المرصد العقاري”. ويُلاحظ – على سبيل المثال – أن وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان لم تؤسِّس حتى الآن أو حتى تفرض على شركات التطوير العقاري تأسيس مركز أبحاث وتطوير؛ لرصد التحولات التي تحدث في الأسرة السعودية وعلاقة ذلك بالمتطلبات السكنية. إحدى الأدوات الأساسية التي تساهم في تطوير النشاط العقاري منهجية بحثية معتمدة تُسمَّى “دراسات ما بعد الإشغال” Post Occupancy Evaluation ، وهي منهجية علمية تهدف بالدرجة الأولى للتعلُّم من الخبرات العقارية السابقة وتلافي أخطائها.  والأسواق العقارية في الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على هذه المنهجية، وتوجد هناك مراكز متخصصة للقيام بهذه الدراسات. مع أنه ثمة أهمية لأن يكون لدينا مراكز دراسات عقارية تقوم بما يُسمَّى “دراسات ما قبل الإشغال” Pre-Occupancy Evaluation؛ كون هذا النوع من الدراسات سوف يمكِّننا من وضع البنية الثقافية والاقتصادية للنشاط العقاري بشكل صحيح وربطه بجودة الحياة والمنتج العمراني في مدننا قبل البدء فعلًا في التخطيط لأي مشروع عقاري مستقبلي، وفهم تأثيره على المدينة على مستوى الشكل والأنشطة.

وفي تصوُّر البعض، فإن أغلب صعوبات التخطيط والتطوير مردها إلى الجهات الحكومية التي قد تُعقِّد الإجراءات وتُطيل المُدد وتُوقف الصكوك. وأطراف عملية التطوير تتجاذبها مصالح وتوجُّهات متناقضة، فالرؤية تتحدث عن جودة الحياة، والوزارة والبلديات تريد فرض الأنظمة وتخفيف التكاليف عليها في الصيانة اللاحقة، والمُطوِّر يريد أن يُنهي مخطَّطه وبناءَه بأسرع وقت وجني أكبر ربح ممكن، والمواطن يريد الحصول على مسكن متميز ورخيص.

الفكرة التي تقوم على خيار واحد، وهو كبار المُطوِّرين غير صحيحة، فلدينا الشركة العقارية التي توقفت بعد مشروعين لها، ولدينا شركات تطوير كبرى تعاني الأمرَّين بسبب زيادة التكاليف وضغط السوق وطول مدة التطوير، الذي نتج عنه ضعف العوائد وانخفاض الربحية (مثل رافال وكنان). لذلك، يجب عدم التقليل من أهمية صغار المُطوِّرين الذين كبروا، وظهرت لهم منتجات فرضت نفسَها لاستجابتها لمتطلبات السوق من حيث الموقع والتصميم ونوعية البناء والتكلفة؛ مثل الماجدية ومجموعة كبيرة من الصغار (الذين كبروا حاليًّا).

والمنظومة التطويرية يجب أن تعمل على إيجاد حلول لجميع فئات المجتمع، وليس الطبقة المرفَّهة فقط؛ لذلك فإن تشجيع جميع المُطوِّرين عن طريق الحوافز التنظيمية والدعم وتحسين البيئة التشريعية والمنظومة التنفيذية مطلبٌ لاستمرار التطوير وتوفير المساكن للمواطنين بتكاليف معقولة وبوتيرة متناسبة مع احتياجات السوق.

  • تاسعًا – التوصيات:
  • التوسُّع في تقديم المناهج والبرامج الأكاديمية التأهيلية، وتأسيس مراكز الأبحاث والتطوير الخاصة بالتطوير العقاري.
  • ربط التطوير العقاري بالخطط العمرانية التي تسعى للارتقاء بجودة البيئة العمرانية، والعمل على وضع الضوابط والتشريعات التي تحكم جودة المنتج، والتأكد من إسهاماته في الارتقاء بالبنية العمرانية؛ اجتماعيًّا وثقافيًّا وبيئيًّا وجماليًّا.
  • مراجعة الأنظمة والتشريعات المتعلقة بالتخطيط العمراني؛ لتنويع الكثافات السكنية والتقليل من التوسُّع الأفقي للمدن.
  • تفعيل دور الشركات العقارية المساهمة في مجال التطوير العقاري من خلال برنامج شريك.
  • التوسع في تطوير الضواحي السكنية، وتكريس الشراكة بين القطاعين العام والخاص في هذا المجال.
  • تفعيل الشراكة المجتمعية في تخطيط وتطوير وإدارة الأحياء.
  • تفعيل مفهوم الحي السكني في التخطيط العمراني عبر تقديم نماذج تخطيطية مؤنسنة وفق تصميم عمراني متكامل العناصر، بما فيها الحدائق والساحات وممرات المشاة وغير ذلك.
  • تحفيز استقطاب شركات التطوير العالمية والإقليمية التي تملك خبرات وتجارب متقدمة؛ للمساهمة في تطوير المشاريع في المملكة ونقل التجارب إلى الشركات المحلية.
  • تحفيز شركات التطوير العقاري المملوكة للدولة وصندوق الاستثمارات العامة للعب دور صانع السوق والاستثمار المشترك مع شركات التطوير العقاري الصغيرة والمتوسطة.
  • تحفيز المُطوِّرين العقاريين على تبنِّي تقنيات بناء متطورة وعملية تتبنى نمذجة عناصر البناء لتمكين التنفيذ الصناعي؛ بهدف توفير الوقت والتكلفة ورفع الجودة.
  • إطلاق منتجات تمويلية مخصَّصة لصغار المُطوِّرين العقاريين بالشراكة بين البنوك وشركات التمويل وصندوق التنمية العقاري خاصة في المدن الصغيرة والقرى.
  • قيام وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان بإصدار دليل تفصيلي ومرجعية يستعين بها المُطوِّرون العقاريون كبارًا وصغارًا؛ لإيضاح معايير ومهام ومراحل عمل التطوير العقاري، مع تحفيز الابتكار والمنافسة بين المُطوِّرين.
  • تشجيع المُطوِّرين العقاريين على المساهمة في إعادة استغلال بعض الأحياء القديمة التي تعاني من مرحلة شيخوخة الأحياء؛ لتقليل معدل الهجرة إلى الأحياء الجديدة، ورفع كفاءة استخدام الأحياء القائمة ذات البنية التحتية والعلوية المكتملة.
  • توفير البنية المعلوماتية والبيانات العقارية من قِبل الجهات الحكومية؛ لدعم جودة اتخاذ القرارات الاستثمارية والتشغيلية في قطاع التطوير العقاري.
  • المشاركون:
  • الورقة الرئيسة والمعقبون: أ. خالد المبيض (ضيف الملتقى)([28])، م. إبراهيم الصحن (ضيف الملتقى)([29])، م. بندر المعارك (ضيف الملتقى)([30])، د. مشاري النعيم.
  • إدارة الحوار: م. خالد العثمان
  • المشاركون في الحوار والمناقشة:
  • د. خالد الرديعان
  • د. فوزية البكر
  • أ. عاصم العيسى
  • د. محمد الثقفي
  • د. صالحة آل شويل
  • أ. لاحم الناصر
  • د. وفاء طيبة
  • أ. فهد القاسم
  • د. زياد الدريس
  • د. الفريق عبد الاله الصالح
  • م. فاضل القرني
  • د. عبد الرحمن باسلم
  • د. ريم الفريان
  • أ. فائزة العجروش
  • د. فايزة الحربي

 

القضية السادسة 

نظرة على سوق العمل في المملكة العربية السعودية (27/6/2021م)

  • الملخص التنفيذي.
  • أولًا: واقع البطالة في المملكة وآليات التعامل معها.
  • ثانيًا: تطوير سوق العمل وتحقيق مستهدفات رؤية المملكة.
  • ثالثًا: قياس نجاح الإصلاحات في سوق العمل “متانة سوق العمل.
  • رابعًا: العلاقة بين المشتغلين السعوديين والمشتغلين غير السعوديين في سوق العمل.
  • خامسًا: تعامل وزارة الموارد البشرية مع أطراف سوق العمل.
  • سادسًا: برنامج نطاقات: مستهدفاته ومراحل تطويره.
  • سابعًا: التوصيات.
  • المشاركون.

 

 الملخص التنفيذي:

تناولت هذه القضية سوق العمل في المملكة العربية السعودية، وقد تمَّ في هذا السياق الإشارة إلى أن البطالة في سوق العمل بالمملكة في الوقت الحالي يغلب عليها وصف البطالة الهيكلية، وهو عدم التوافق بين فرص التوظيف المتاحة ومؤهلات وخبرات العمال المتعطلين الراغبين في العمل والباحثين عنه. ومن الصعب رسم سياسة شمولية لإصلاح سوق العمل بسبب المتغيرات العديدة التي تطرأ وبشكل غير مسبوق، ولكن كلما كانت الإستراتيجية تعتمد على توليد للوظائف بدلًا من التدوير، كانت المهمة أسهل. وكلما كانت الإستراتيجيات مُجزَّأة قطاعيًّا ومناطقيًّا كانت النتائج مُذهلة. وما نحتاجه فعليًّا في الوقت الحالي وحتى نتمكن من التعامل مع قضية البطالة في المملكة بالشكل الأنسب هو ولادة منشآت جديدة بمختلف أحجامها وَدعم استمرار المنشآت الحالية.

لكن ومع أن البطالة السائدة في سوق العمل بالمملكة في أغلبها هي البطالة الهيكلية؛ إلا أن هناك أنواعًا أخرى من البطالة لها تأثير على سوق العمل يجب عدم إهمالها، وأهمها البطالة الاحتكاكية والبطالة المؤسسية. وعليه، فإن التعامل مع قضية البطالة لا يمكن تلخيصها في حماية المنشآت الحالية وتشجيع دخول منشآت جديدة يعني القدرة على التوسُّع اقتصاديًّا؛ مما يعني خلق فرص عمل أكبر. كما يعتبر قطاع التصنيع عاملًا مهمًّا لنمو الإنتاجية، انطلاقًا من قدرته على استيعاب التكنولوجيا القادمة من الخارج وتوليد أعمال عالية الإنتاج، أكثر من أي قطاع آخر. ولدى المملكة ودول الخليج فرصة ذهبيَّة للتحوُّل الهيكلي والتكنولوجي السريع بسبب وجود العمالة الشابة ورأس المال والطاقة.

وفيما يتعلق بتطوير سوق العمل وتحقيق مستهدفات رؤية المملكة، فإن الحاجة أكبر خصوصًا في الفترة القادمة؛ لوجود تصنيف لمنشآت القطاع الخاص وفقًا لتطوير ممارسات الموارد البشرية فيها. وحتى نتمكن من التعرف على سوق العمل بشكل أكبر في المملكة؛ فهذا يعني أننا بحاجة للإفصاح عن مؤشرات عديدة ومتابعتها بشكل دقيق؛ حيث يمكن قياس متانة سوق العمل اعتمادًا على مؤشرات، منها المؤشرات المتعلقة بـ (الإنتاجية، الديموغرافية: الهيكل التنظيمي، التوظيف، التدريب والتطوير).

وبالرغم من الإصلاحات العديدة الجارية في سوق العمل السعودي، فلا تزال هناك حاجة للمزيد من الإصلاحات الجذرية بالإضافة لمراجعة البعض من الإصلاحات التي لم نلمس أثرها كما هو متوقع أو كانت نتائجها عكسية.

ومن أبرز التوصيات التي تمَّ الانتهاء إليها ما يلي:

  • رفع الكفاءة المهارية لدى القوى العاملة السعودية، وإخضاع كُلٍّ من طالبي العمل والموظفين على رأس العمل لدورات تدريبية في مجالهم الوظيفي؛ لتمكينهم من أداء أعمالهم بكفاءة وجودة عالية.
  • دلت الدراسات على جهل العاملين بحقوقهم المهنية؛ ولذلك وجب حماية العاملين من الجنسين من الاستغلال المالي والتحرش في بيئة العمل؛ وذلك بتثقيفهم بحقوقهم وواجباتهم القانونية في بيئة العمل، وبأنظمة الحماية من الاستغلال والتحرش.
  • أولًا – واقع البطالة في المملكة وآليات التعامل معها:

في أي اقتصاد نجد أن اختلاف فئات العمالة وعملية الطلب على نوعية العمالة تعتمد بشكل أساسي على التركيبة الهيكلية للاقتصاد، ومن هذا المنطلق نجد حرص الدول بشكل كبير على تنويع الاقتصاد الداخلي حتى يكون هناك توليد للوظائف بشكل مستمر ومتنوع.

البطالة أشكال وأنواع متعددة من حيث أهميتها وخطورتها، وهناك اختلافات في تعريفاتها وأنواعها وأحيانًا حتى في تسمياتها؛ فمن حيث الوضوح مثلًا هناك: بطالة صريحة، وبطالة مقنعة، وبطالة جزئية. ومن حيث الاختيار، هناك: بطالة اختيارية، وبطالة إجبارية، وبطالة موسمية. ومن حيث المعيار الاقتصادي، هناك: بطالة هيكلية، وبطالة دوريَّة. وهذه الأشكال أو الأنواع تتعلق في الغالب بالجوانب التحليلية أكثر منها بالنواحي العلمية. وهناك أسباب عديدة لاهتمام الدول بالبطالة ومحاولة القضاء عليها أو خفضها؛ منها الاقتصاديَّة، ومنها الآثار السلبيّة والخطيرة على الفرد والأسرة والمجتمع كانتشار الفقر والاضطرابات النفسية وانتشار الجرائم والمخدرات، وضعف الانتماء للوطن، وما يتسبب به كلُّ ذلك من اختلالات أمنية تؤثِّر على استقرار الدولة والمجتمع.

إن موضوع البطالة في المملكة موضوع قديم جديد، وهو نتيجة تراكمات عقود عديدة من الإهمال وعدم المحاسبة والشفافية، وعدم المعالجة في حينها، وعدم وجود البنية التنظيمية اللازمة، وإهمال جهات التشريع والتنفيذ القيام بالدور المنوط بها، كما كان للظروف والعوامل الاقتصادية السانحة خلال فترة الطفرة النفطية في الثمانينيات ميلادية من القرن الماضي المساهمة بطريقة أو أخرى بما هو حاصل اليوم؛ فاستشرى الفساد والفوضى في سوق العمل، والمتاجرة بتأشيرات الاستقدام والتوظيف، وانتشار الشركات والوكالات الوهمية والتستر واقتصاد الظل بصفة عامة، وسوء استغلال السلطة وجشع وانتهازية البعض. ولا يمكن الإلقاء باللائمة على جهة معينة، فالجميع ساهم في هذا الوضع المُزري، والذي كان من نتيجته تلك البطالة المتغولة. والبحث في الظواهر والأعراض ومعالجتها بحلول مؤقتة لن يحل المشكلة؛ حيث إنَّه لا بد من التحليل والتشخيص الدقيق للمشكلة ومعرفة جميع الأسباب والنتائج والربط بينها، ووضع الحلول ضمن إستراتيجية بعيدة المدى على مستوى الدولة، للعودة بالبطالة إلى النسبة الطبيعية في الاقتصاد، وقد رأينا إلى اليوم جميع المعالجات المجتزأة لمشكلة البطالة لم تفلح في المعالجة الجذرية للبطالة.

البطالة في سوق العمل بالمملكة العربية السعودية في الوقت الحالي الأقرب لوصفها وتشخيصها هو البطالة الهيكلية “Structural Unemployment”، وتشير إلى عدم التوافق بين فرص التوظيف المتاحة ومؤهلات وخبرات العمال المتعطلين الراغبين في العمل والباحثين عنه. وبتحليل وتشخيص لسوق العمل، سنجد أن هناك مؤشرات عديدة تدعم ذلك؛ منها الأقلية لعدد المشتغلين السعوديين، بالإضافة لاستمرار استقدام العمالة الوافدة لأن طبيعة “أغلب الوظائف” في سوق العمل هي وظائف متدنية الأجر وبدائية غير جاذبة لتوظيف السعوديين “يستحيل توطينها”، ولا يعني ذلك أنه لا يوجد فرص متواضعة للإحلال، ولكن إذا اعتمدنا على الإحلال فقط وبتركيز عالٍ؛ فهذا يعني أننا نعمل على “تدوير للوظائف وليس توليد للوظائف”، مما يحدُّ من قدرتنا على التعامل مع الأعداد المتزايدة من الداخلين المحتملين لسوق العمل؛ ولذلك يرى البعض أن وزارة الاقتصاد والتخطيط هي المسؤولة بشكل كامل عن إدارة وقيادة هذا الملف، فمسألة إعادة هيكلة سوق العمل ونوعية الوظائف فيه تعتبر مسألة لا تقلُّ أهميةً عن أي ملف آخر نعمل عليه في الوقت الحالي.

من الصعب جدًّا رسم سياسة شمولية لإصلاح سوق العمل بسبب المتغيرات العديدة التي تطرأ وبشكل غير مسبوق، ولكن كلما كانت الإستراتيجية تعتمد على توليد للوظائف بدلًا من التدوير كانت المهمة أسهل، وكلما كانت الإستراتيجيات مُجزَّأة قطاعيًّا ومناطقيًّا كانت النتائج مُذهلةً.

وفيما يتعلق بالتعامل مع قضية البطالة، يُلاحظ أن معادلة خلق الوظائف بسيطة، ويمكن تلخيصها في التالي: “حماية المنشآت الحالية، وتشجيع دخول منشآت جديدة يعني القدرة على التوسُّع اقتصاديًّا، مما يعني خلق فرص عمل أكبر”، وهذا الطريق بدأت ملامحه تظهر من خلال الإعلانات المتتالية للمشاريع الحديثة التي تندرج تحت رؤية المملكة، وهذا الأمر لا يكفي لأننا ما زلنا في حاجة لحماية المنشآت الحالية حتى نُعزِّز من قدرتها على التوسُّع وخلق وظائف تساهم في إعادة هيكلة نوعية الوظائف في سوق العمل حتى نخرج من دوامة البطالة الهيكلية.

ما نحتاجه فعليًّا في الوقت الحالي، وحتى نتمكَّن من التعامل مع قضية البطالة في المملكة بالشكل الأنسب؛ هو ولادة منشآت جديدة بمختلف أحجامها وَدعم استمرار المنشآت الحالية، فالسوق بشكل عام وعلى الصعيد العالمي يشهد خروجًا لمنشآت بعدد غير مسبوق بسبب تداعيات أزمة فيروس كورونا مقارنةً بدخول خجول لمنشآت جديدة. إنَّ التحدي الأكبر في الوقت الحالي هو رفع أعداد منشآت القطاع الخاص بمعدلات أعلى من السابق، وحماية المنشآت الحالية لتقليص معدلات خروجها من السوق وذلك لفترة محددة حتى تتعافى من أثر صدمة أزمة فيروس كورونا. وبمقارنة عدد الداخلين المحتملين لسوق العمل بشكل سنوي، نجد أن هناك ما يقارب 200 – 300 ألف مستجد محتمل لدخول سوق العمل، وهذا العدد يحتاج لولادة منشآت إضافية حتى يتم استيعاب توظيفهم.

قد يتساءل البعض عن الرابط بين البطالة الهيكلية وأهمية حماية المنشآت الحالية والتعزيز من قدرتها على التوسُّع، والإجابة هنا ممكن تلخيصها بأن توسُّع المنشآت الحالية يعني قدرتها على توليد فرص وظيفية بمستوى أعلى من الفرص الحالية حتى ولو كانت بعدد أقل، والأثر الأهم هنا هو إعادة هيكلة الوظائف في الاقتصاد من خلال توليد الوظائف التي تتناسب مع مؤهلات وخبرات وقدرات ورغبة المتعطلين والباحثين عن العمل السعوديين حتى نُقلِّل مما يُعرف بالبطالة الهيكلية.

لكن يُلاحظ أن هناك أنواعًا أخرى من البطالة لها تأثير على سوق العمل السعودي يجب عدم إهمالها، وأهمها البطالة الاحتكاكية(frictional unemployment) ، وهي تحدث بسبب التحوُّلات المؤقتة في حياة الشخص، تدفعه للبحث عن عمل، مثل: تخرُّجه حديثًا من الجامعة، أو انتقاله من منطقة إلى أخرى ورغبته في الحصول على وظيفة في مكان إقامته الجديد، أو البحث عن وظيفة أفضل؛ وهي ما يُطلق عليها بطالة البحث، وتُعالج بتوفير المعلومات عن سوق العمل. كما أن سوق العمل في المملكة لا يخلو من البطالة المؤسسية (institutional unemployment) بسبب عدد من العوامل المؤسسية طويلة الأجل في الاقتصاد، تتأثر بالسياسات التي تفرضها الحكومة، مثل: رفع الحد الأدنى للأجور، وإصدار بعض الأنظمة مثل المقابل المالي، ورفع ضريبة القيمة المضافة إلى 15%، واشتراطات التراخيص التي تُقيِّد الشركات والمستثمرين مثل تطبيق دليل تصنيف الأنشطة الاقتصادية (ISIC4)، الذي طُبِّق مع بداية عام 2018.

كما يذهب البعض إلى أن التعامل مع قضية البطالة لا يمكن تلخيصها في “حماية المنشآت الحالية وتشجيع دخول منشآت جديدة يعني القدرة على التوسُّع اقتصاديًّا؛ مما يعني خلق فرص عمل أكبر”. إن قضية البطالة من القضايا الصعبة التي يجب وضع السياسات والخُطط للاهتمام بها، وتمكين ريادة الأعمال والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وتجربة كوريا الجنوبية واليابان وماليزيا خير نموذج لاتخاذها نماذج لأفضل الممارسات العالمية في معالجة البطالة، والنظر لتجاربهم كمعيار(benchmark)  للقياس عليه. وتنبع أهمية دعم المنشآت المتوسطة والصغيرة من خلال مجموعة أساسية من المعطيات الاقتصادية التي يترتب على إهمالها تفويت قدر كبير من الفرص الثمينة على الحكومات لحل كثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ومن أبرزها: إيجاد فرص عمل للمواطنين، حيث إنَّ المنشآت الكبيرة رغم أهميتها لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن توفِّر فرص عمل كافية لطالبي العمل، كما تساهم المنشآت المتوسطة والصغيرة التي تصل أعدادها بمئات الألوف في دعم الاقتصاد الوطني أيضًا من خلال تنويع مصادر الدخل وتوسيع القاعدة الإنتاجية، كما تعمل على تحقيق التكامل بين الأنشطة الاقتصادية والتوازن في عملية التنمية الاقتصادية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتسهم كذلك في تطوير المهارات والتكنولوجيا المحلية، إضافةً إلى أنها تعتبر نواة لمشاريع كبيرة والمساهمة في الناتج المحلي الإجمالي (GDP) بنسبة كبيرة. وتتميز الشركات الصغيرة والمتوسطة بالمرونة في سرعة التعافي من الأزمات والاستفادة من المبادرات الحكومية، وبشكل عام فإن المنشآت المتوسطة والصغيرة تعتبر الأداة الأكثر قدرةً على القضاء على ظاهرة البطالة والفقر في المجتمع ليس هذا فقط، بل كذلك استيعابها 50 إلى70 في المئة من المهن، ووظائف السوق، وبالتالي هي علاج وسلاح؛ فهي علاج للبطالة، وسلاح لبناء الاقتصاد. وقد بدأت الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة (منشآت) والجهات الحكومية والأهلية مؤخرًا في تبنِّي سياسة التشجيع وتقديم حِزم من الدعم للمنشآت (الشركات) المتوسطة والصغيرة بالمملكة.

في حين ثمة آراء لا تتفق مع القول بأن “أغلب الوظائف” في سوق العمل هي وظائف متدنية الأجر وبدائية غير جاذبة لتوظيف السعوديين، فالحقيقة أن تدنِّي الأجور في الكثير من الفرص الوظيفيَّة مفتعل، بسبب استقدام اليد العاملة الأجنبية قليلة الكلفة، ولولا ذلك لأمكن شغل تلك الوظائف بالمواطنين، وقد كان ذلك حاصلًا بالفعل قبل السماح بالاستقدام، حيث كانت العمالة الوطنيَّة تعمل في تنظيف الشوارع مع البلديات، وقيادة المركبات وتعمل في الحفر والأعمال الشاقَّة الأخرى، ولكن بعد فتح سوق العمل على مصراعيه للاستقدام؛ تم تشغيل تلك الوظائف بالعمالة الأجنبية بأجور متدنية جدًّا لا تستطيع العمالة الوطنية العيش بها، وذهب المال إلى العمالة الأجنبية ودولها وجيوب بعض أصحاب القطاع الخاص، بدلاً من دفعه أجورًا للعمالة الوطنية. والعامل الذي يقوم بالخدمات والأعمال البسيطة في الدول المتقدمة لا يقوم بذلك لأنه يحب وطنه أكثر من السعودي، ولكن بسبب الأجر المجزي، والقانون المُنصف، ولو سُمح للبنغالي والهندي والفلبيني (مثلًا) بالقيام بتلك الأعمال لتعطَّل المواطن في تلك الدول، ولكن ذلك غير مسموح به.

ومن ناحية أخرى، يعتبر قطاع التصنيع عاملًا مهمًّا لنمو الإنتاجية، انطلاقًا من قدرته على استيعاب التكنولوجيا القادمة من الخارج وتوليد أعمال عالية الإنتاج، أكثر من أي قطاع آخر. ولدى المملكة ودول الخليج فرصة ذهبيَّة للتحوُّل الهيكلي والتكنولوجي السريع بسبب وجود العمالة الشابة ورأس المال والطاقة، وهذه العوامل تضمن القدرة على الدخول في التصنيع والخدمات مباشرة، والعمل على تنويع الدخل، مما يؤدِّي إلى نمو الدخل القومي واستمرار فتح فرص عمل جديدة. وقد أثبت التصنيع أنه عنصر رئيسي في عملية التنمية، من خلال التجارب الناجحة في الدول الغربية ودول شرق آسيا والصين، والتي لعب فيها التصنيع دورًا رئيسًا في تحقيق معدلات نمو مرتفعة والانتقال إلى مراحل تنموية أرقى. وقد كان للتصنيع في بداياته في المملكة دورٌ رئيسٌ في تشغيل العمالة المحليَّة بنجاح في صناعة البترول والكهرباء والبتروكيماويات، وتحلية المياه، قبل فتح الباب على مصراعيه للقطاع الخاص لاستقدام العمالة الأجنبية.

ولكن يُلاحظ أن العديد من الاقتصادات الناشئة في بعض الدول ومنها المملكة ودول الخليج تمرُّ بمرحلة من “التراجع السابق لأوانه لأهمية التصنيع”، أي أنها سلكت انتقالًا أسرع بكثير إلى المشاريع الخدميَّة عوضًا عن المشاريع الإنتاجية (صناعة السلع كالمنتجات الزراعية، والتعدين والصناعات التحويلية واكتمال بناء البنية التحتية) مقارنةً بالتغيرات التي مرَّت بها الدول الرائدة في اعتماد التحول الصناعي عند مستويات مماثلة من التنمية الاقتصادية. وهذا بسبب التطور السريع في التكنولوجيا الذي أدَّى إلى تزايد متطلبات المهارات في قطاع التصنيع، ومن ثَمَّ خفض تنافسيَّة الدول ذات النسبة الصغرى من اليد العاملة الماهرة، حيث لم يعُد بإمكان العمال حاليًّا الانتقال ببساطة للعمل في المصانع بدون تدريب أو بتدريب بسيط كالذي تقدِّمه معاهد التدريب المهني في المملكة، كما ساهمت العولمة وانفتاح السوق في مفاقمة الصعوبات التي تواجهها الدول النامية في محاولتها الدخول إلى قطاع التصنيع والتنافسيَّة، وما لم يتم الاستعجال في توسيع المهارات والتدريب بشكل كبير وتطوير قطاع التصنيع، فإن الأتمتة والتطورات التكنولوجية المقبلة ستساهم في تصعيب سير الدول النامية اليوم على الدرب الذي اتخذته الدول التي اعتمدت التحول الصناعي باكرًا على المستوى العالمي، إلى درجة أن الدول المتأخرة قد لا تتمكن من اللحاق بالركب أبدًا؛ وعندها سيخفض الإخفاق في اللحاق بـ”ركب التصنيع” من احتمالات النمو الاقتصادي.

وإذا استمر تفضيل قطاع الخدمات على المشاريع الإنتاجية، فإنَّه سيكون لذلك أثرٌ سلبيٌّ في حال تراجع الطلب، وعجز قطاع الخدمات عن امتصاص العمالة الفائضة، كما أن قطاع الخدمات دخله من العملة الصعبة محدود ومتقلِّب. وجميع الدول المتقدِّمة عادةً ما يكون لديها قطاع صناعي و/أو زراعي قوي يضمن الحاجات الأساسية للبلاد، ويوفِّر حدًّا معينًا وثابتًا من الوظائف للمواطنين. إن اقتصاد إنتاج السلع هو الأفضل والأنسب لفتح فرص عمل جديدة مناسبة يمكن شغلها بالمواطنين في المملكة؛ لأن إنتاج السلع يتجه إلى استخدام الآلات الميكانيكية والتكنولوجيا عوضًا عن الأعمال اليدوية. ويمكن تطوير القطاع الصناعي عن طريق شركات حكوميَّة أو مختلطة بين الحكومة والمستثمرين المحليين أو الأجانب، أو عن طريق الاكتتاب العام في نسبة من رأسمال تلك الشركات، وخصوصًا في المجالات الصعبة التي تحتاج لتسهيلات الدولة ودعمها، وعندها يمكن تدريب اليد العاملة الوطنيَّة في الصناعة بسهولة بسبب القدرة الماليَّة والإدارية لتلك الشركات والتأهيل العلمي العالي نسبيًّا للسعوديين، وسيساعد ذلك على القضاء على البطالة الهيكليَّة، ونضمن وجود تراكم معرفي لدى اليد العاملة الوطنيَّة، وباستطاعة العمالة الزائدة عن المشاريع الإنتاجية شغل الفرص الوظيفية في الخدمات بسهولة، وبذلك يمكن الاستغناء عن عدد كبير من العمالة الأجنبيَّة غير المدرَّبة والتي تهيمن على قطاع الخدمات بسبب انخفاض كلفتها وصعوبة السيطرة عليها والتحكُّم فيها من قبل الجهات المعنية في الحكومة مع انفتاح السوق وكبرِه.

وتجدر الإشارة إلى أن ثمةَ آراءً تذهب إلى أن خلق الوظائف عن طريق “حماية المنشآت الحالية وتشجيع دخول منشآت جديدة” فيه صعوبة، وقد يتعارض مع قوانين حرية السوق، فليس من المعقول أن تقوم الدولة بالصرف من المال العام على كل مؤسسة أو شركة تفشل لكي تبقيها في السوق؛ لأن المال العام للجميع وليس لفئة دون أخرى، أمَّا استيعاب الداخلين لسوق العمل بشكل سنوي فيكون عن طريق استحداث المشاريع الإنتاجيَّة الجديدة التي تبدأ بتوظيف السعوديين وتدريبهم في مراحل التصميم والإنشاء إلى أن يتم الاستلام والتشغيل، وقد سبق وتمت تجربة مثل هذه المشاريع وخصوصًا الصناعيَّة منها بنجاح في المملكة.

  • ثانيًا – تطوير سوق العمل وتحقيق مستهدفات رؤية المملكة:

حسب تقديرات الهيئة العامة للإحصاء بناءً على مسح القوى العاملة، يُلاحظ ما يلي:

  • ارتفع معدل البطالة لإجمالي السكان (السعوديين وغير السعوديين 15 سنة فأكثر إلى (4%) في الرُّبع الرابع من عام 2020 م، مقارنةً ب (5.7%) خلال الربع الرابع من عام 2019م.
  • كما ارتفع معدل البطالة لإجمالي السعوديين )ذكورًا وإناثًا 15 سنة فأكثر (إلى (6%) في الرُّبع الرابع 2020 م مقابل (12%) خلال الربع الرابع من عام 2019م. وقد كان الارتفاع في معدل البطالة بين الذكور السعوديين حادًّا في العام 2020م، حيث ارتفع إلى 7.1% مقارنة بـ 4.9% في العام 2019م، وهذا قابله انخفاضٌ في معدل البطالة بين الإناث إلى 24.4% مقارنةً بـ 30.8% في العام 2019م.
  • وحسب تقديرات الهيئة، فإن معدل البطالة على مدى السنوات الخمس الماضية للسعوديين (ذكورًا وإناثًا) يراوح حول 12%، ولم ينخفض عن ذلك الرقم، وكان دائمًا هناك بطالة أيضًا في الأيدي العاملة الأجنبية بلغت ذروتها في عام 2020م، لتصل إلى 2.6%، وهذا غريب حيث إنَّ العمالة الوافدة يُفترض أن تكون لديها عقود عمل سارية المفعول أو تغادر البلاد.
  • معدل البطالة:
العام السعوديون % غير السعوديين % الإجمالي %
ذكور إناث جملة ذكور إناث جملة ذكور إناث جملة
2016 5.9 34.5 12.3 0.4 1.6 0.5 2.6 21.3 5.6
2017 7.5 31.0 12.8 0.5 2.5 0.7 3.2 21.1 6.0
2018 6.6 32.5 12.7 0.6 4.4 1.0 2.9 22.6 6.0
2019 4.9 30.8 12.0 0.3 1.3 0.4 2.2 21.3 5.7
2020 7.1 24.4 12.6 1.7 9.1 2.6 4.0 20.2 7.4

المرحلة القادمة ينبغي أن يكون فيها اهتمام وتثقيف وتحفيز أكبر لأصحاب الأعمال في القطاع الخاص، فعلى سبيل المثال: وجود تصنيف للمنشآت وفقًا لتطوير ممارسات الموارد البشرية فيها سيدفع القطاع الخاص إلى دعم نجاح العديد من توجُّهات وأهداف وزارة الموارد البشرية، وسيجعل للوزارة ذراعًا قوية تساعدها في النهوض بسوق العمل؛ مما يعني تقليل الفجوة بين الوزارة والقطاع الخاص في لغة التخاطب، فمسألة تصنيف المنشآت وفقًا لنسبة السعودة فيها كما هو حاصل في برنامج نطاقات لا يكفي لتطوير سوق العمل في المملكة.

إن الحاجة أكبر خصوصًا في الفترة القادمة؛ لوجود تصنيف لمنشآت القطاع الخاص وفقًا لتطوير ممارسات الموارد البشرية فيها، فبالإضافة للقيمة المُضافة التي ستجنيها تلك المنشآت من هذا التصنيف، من المهم أن يتم ربط هذا التصنيف بحوافز فعلية لتلك المنشآت، وتكون نتائج هذا التصنيف على موقع إلكتروني تابع للوزارة، ويتم تحديثه بشكل رُبع / نصف سنوي؛ مما يتيح تنافسًا أكبر بين منشآت القطاع الخاص لتطوير بيئة العمل لديها وتطبيق أكبر قدر ممكن من ممارسات الموارد البشرية، والتي سيكون لها انعكاس كبير على سوق العمل في المملكة إجمالًا، وعلى تحقيق العديد من مستهدفات رؤية المملكة.

  • ثالثًا – قياس نجاح الإصلاحات في سوق العمل “متانة سوق العمل:

حتى نتمكَّن من التعرف على سوق العمل بشكل أكبر في المملكة، فهذا يعني أننا في حاجة للإفصاح عن مؤشرات عديدة ومتابعتها بشكل دقيق، ومتانة سوق العمل لا تعني الاعتماد فقط على مؤشر واحد “مؤشر البطالة”، ومن المستحيل قياس متانة سوق العمل بهذا المؤشر الوحيد أبدًا بدون وجود مؤشرات مهمة وأساسية، والأهم من ذلك وجود مرونة في تغيير التوجهات وفقًا لتلك المؤشرات وتغير مسارها عن المستهدفات المرتبطة بالمؤشرات الأساسية الاقتصادية والمُعلنة في وثيقة رؤية المملكة، وتلك المؤشرات من المهم أن نجد تقسيمًا مناطقيًّا لها حتى يمكن تشخيصها ومعالجة الخلل فيها “إنْ وُجد”.

ويمكن مع التقدُّم والتحوُّل التقني الكبير في المملكة ربط تلك المؤشرات في منصة عامة يتم تحديث بياناتها بشكل مباشر من المنصات الرسمية المعنية بكل ما يخصُّ سوق العمل، ويكون الإشراف عليها من خلال لجنة استشارية مكوَّنة من أعضاء مستقلين ومختصين في “الموارد البشرية، الاقتصاد، المالية”، ومن خلال تلك المنصة سيكون المجال متاحًا للعموم لمشاركة آرائهم ومقترحاتهم بشكل مباشر للجنة التي بدورها ترفع بالتوصيات للجهات الحكومية المعنية بسوق العمل.  وتتمثل أبرز المؤشرات التي يمكن أَخْذها في الاعتبار لقياس متانة سوق العمل والمقترح تواجدها في تلك المنصة:

  • المؤشرات المتعلقة بالإنتاجية، مثل: “الغياب، والعمل الإضافي، والتقييم العام”.
  • المؤشرات المتعلقة بالديموغرافية، مثل: “عدد الموظفين، ومتوسط الأجور، والتنوع بين الجنسين والأعمار”.
  • المؤشرات المتعلقة بالهيكل التنظيمي، مثل: “معدل الموظفين بدوام كامل، بدوام مرن، المستوى الهرمي، معدل الدوران، معدل الاستقرار والاستدامة.”
  • المؤشرات المتعلقة بالتوظيف، مثل: “متوسط تكلفة التوظيف، معدل قبول العروض الوظيفية، معدل رضا المتقدمين، معدل اجتياز فترة التجربة”.
  • المؤشرات المتعلقة بالتدريب والتطوير، مثل: “عدد الدورات التدريبية، نسبة العاملين المُدربين، متوسط مدة التدريب، معدل الرضا عن التدريب، متوسط تكاليف التدريب”.

أهم الإصلاحات في سوق العمل.

بالرغم من الإصلاحات العديدة الجارية في سوق العمل، فلا تزال هناك الحاجة للمزيد من الإصلاحات الجذرية بالإضافة لمراجعة البعض من الإصلاحات التي لم نلمس أثرها كما هو متوقَّع أو كانت نتائجها عكسية.

ابتداءً من التعليم، ينبغي أن لا نُكابر بمخرجات التعليم مقارنةً بالإنفاق الحكومي المتزايد على قطاع التعليم، فمستوى المخرجات ما زال أقلَّ من مستوى مخرجات الدول التي نستقدم منها “بمقارنة الإنفاق الحكومي على قطاع التعليم”. ومع استمرار ارتفاع أعداد الداخلين المحتملين لسوق العمل، فينبغي أن نشهد تغييرًا جذريًّا وكبيرًا في إستراتيجية التعليم وخاصة التعليم المهني والتقني، والحمل هنا ليس بالسهل على وزارة التعليم ولكن التأخر فيه سيزيد بشكل كبير من التكلفة الاقتصادية وخاصة تكلفة إعادة هيكلة سوق العمل والإنفاق الحكومي على القطاع.

من خلال قراءة لرؤية المملكة والمؤشرات المستهدفة، نجد بكل وضوح أن المملكة تعمل على تحسين بيئة العمل ومناخ الأعمال بهدف جذب ثقة المستثمرين الأجانب لضخ استثمارات داخلية، وفي الوقت نفسه نجد هناك عملًا كبيرًا لتحسين ترتيب المملكة في الكثير من المؤشرات التنافسية الدولية وخاصة في مجالي الأعمال وحقوق الإنسان، ولا يعني ذلك أن هناك ضغوطات خارجية على المملكة لتغيير سياستها بالإجبار، فالمملكة ذات سيادة وقوة اقتصادية وتعمل على عدة تدابير إصلاحية مُعلنة لتحقيق مستهدفات رؤيتها ٢٠٣٠.

فيما يخصُّ قطاع الأعمال وبيئة العمل في المملكة، نجد أن سوق العمل يمرُّ بعدة تحديات وتقلبات؛ فتارة نجد مرونةً في تطبيق بعض التوجُّهات، وأخرى نجد بعض القرارات قاسيةً في تطبيقها ولكن تعتبر الخيار الأنسب من ضمن الخيارات المتاحة وفقًا للظروف المصاحبة، وبشكل مُبسَّط يمكن وصف سوق العمل بأنه سوق “هش” يحتاج لحزمة كبيرة من الإصلاحات، وهذا ما نراه من خلال التغيرات الكبيرة التي تمَّ تطبيقها على السوق منذ بضع سنوات ماضية لنقله نوعيًّا حتى يدعم تحقيق المستهدفات المتعلقة به.

ما نراه اليوم في سوق العمل ليس بالجديد أو المفاجئ، وكل ما يتم الإعلان عنه في الوقت الحالي سبق وتمَّ توضيحه في وثيقة التحول الوطني منذ الإعلان عنها قبل عدة سنوات، والهدف الرئيس من كل تلك الإصلاحات هو نقل سوق العمل نوعيًّا من سوق أدمن على العمالة الوافدة والتي لا تمتلك أي خبرات حقيقية في تخصصاتها أو تمتلك مؤهلات مزورة، إلى سوق عمل يتميز بوجود تراكم معرفي من خلاله يمكن نقل الخبرات بشكل أكثر مرونةً للأيدي العاملة السعودية، والسنوات الماضية أثبتت أننا استقدمنا عمالةً وافدةً بشكل عشوائي بلا خبرات في تخصصات حساسة، مثل التخصصات الهندسية والصحية؛ وأدى ذلك إلى وقوع أخطاء كارثية، وفي الوقت نفسه كان هناك استقدام عشوائي لعمالة غير ماهرة في تخصصات مختلفة مما أدى إلى ولادة تستر وتكتل في أنشطة ليس من السهل توطينها، وبسبب ذلك ظلمنا أنفسَنا في التركيز على التطور التكنولوجي واستخدام الأتمتة.

إحدى أهم المبادرات التي أطلقتها وزارة الموارد البشرية هي مبادرة “تحسين العلاقة التعاقدية”، ولعل هذا التوجه هو أهم إصلاح ينبغي تطبيقه على سوق العمل في المملكة؛ فسوق العمل يحتاج لقواعد تنظيم لحركة انتقال العمالة الوافدة وذلك بشكل أكثر مرونة من الوضع الحالي، ففي الفترة الماضية كان الاعتماد فقط على قرار مجلس الوزراء رقم “826” في عام 1395هـ، والمُعدَّل بقرار رقم 759 في عام 1397هـ، والذي يختصُّ بقواعد تنظيم حركة انتقال الأيدي العاملة، وبدون تواجد لتلك المرونة سيبقى سوق العمل في المملكة مركزًا لتدريب الغير من الوافدين الذي يتم استقدامهم بشكل عشوائي، وتصبح تلك العشوائية حاجزًا كبيرًا في جذب توظيف الكوادر المحلية حتى بالرغم من تقليل الفجوة بين تكاليف توظيف الكوادر المحلية وتوظيف الوافدين من خلال رفع التكاليف، وأدى ذلك لتمركز معدلات البطالة بشكل كبير في فئة المستجدين لدخول سوق العمل من الثروة البشرية المحلية، وأدى ذلك إلى صعوبة في تطوير سوق العمل وزيادة معدلات التراكم المعرفي فيه؛ مما قلَّل من الاحتكاك النوعي والذي يساهم في رفع الخبرات والمهارات للمشتغلين السعوديين.

السيناريو المتوقَّع الذي سيشهده سوق العمل بعد تطبيق المبادرة سيبدأ بصدام كبير بين المتسترين والمُتستر عليهم، وسنرى وقتها ارتفاعًا للحوالات الخارجية وبشكل غير مسبوق، وسنشهد إغلاقًا للعديد من الأنشطة الفوضوية التي تعمل بشكل غير نظامي، والمأمول من وزارة الموارد البشرية بأن لا تستعجل وتستهدف توطين تلك الأنشطة بالشكل الكامل حتى لا يتكرر خطأ توطين قطاع الاتصالات والجوالات، وخلال فترة قصيرة من تطبيق المبادرة سنجد ارتفاعًا واضحًا في معدل أجور العمالة الوافدة مما يؤدي لارتفاع تكاليف توظيفهم، وهذا الأمر قد يكون “إيجابيًّا”؛ كونه سيكون عاملًا مهمًّا في تعزيز وتفضيل توظيف الكوادر المحلية خاصة ذوي المهارات المنخفضة؛ وبذلك سيتم بشكل غير مباشر التركيز على تطويرهم وتدريبهم تدريجيًّا من خلال التراكم المعرفي الذي سيجنونه من الاحتكاك مع الكفاءات بغض النظر عن جنسيتها. إنَّ هذا التوجه هو المدخل الرئيسي لتعديل تركيبة سوق العمل عند مقارنة أعداد المشتغلين وفقًا للجنسيات، والذي من خلاله يتضح أن الأقلية في سوق العمل هي للعمالة المحلية.

  • رابعًا – العلاقة بين المشتغلين السعوديين والمشتغلين غير السعوديين في سوق العمل:

أغلب القرارات المؤثرة على سوق العمل في السنوات الخمس السابقة كانت تستهدف تقليل الفجوة بين تكلفة توظيف السعوديين وغير السعوديين، وبشكل واضح من خلال إحصائيات ونشرات سوق العمل يتبين أن العلاقة بين توظيف السعودي وغير السعودي هي علاقة طردية بحتة وليست عكسية، وتركيبة الوظائف في الاقتصاد السعودي تختلف جذريًّا عن باقي أسواق العمل في العالم أجمع، ولا يمكن استنساخ التجارب الدولية بشكل كامل على سوق العمل في المملكة، وننتظر من ذلك نفس النتائج التي تحقَّقت في أسواق الدول التي تم استنساخ التجارب فيها؛ ولذلك من المهم الحذر عند التعامل مع هذا الملف “مدة وآلية”، وعدم الاعتماد فقط على أساس الأجر؛ لأن المسألة هي تشوهات في سوق العمل وتحتاج لترميم وترقية.

وقد يكون من المستغرب تشكيك البعض في العلاقة بين سياسة العرض والطلب وتأثيرها على الأجور في القطاع الخاص، بالرغم من أن تلك العلاقة هي أوضح علاقة ممكن استنتاجها في سوق العمل. وباختصار، هي المعيار الوحيد المؤثر على أجور القطاع الخاص في الوقت الحالي، وهذا المعيار قد نجد بسببه تشوهات وحالات نادرة في سوق العمل، فعلى سبيل المثال: وصل أجر وظيفة “معقبي العلاقات الحكومية” في العام الذي تمَّ تطبيق فيه مهلة “تصحيح العمالة” لأرقام أعلى من وظائف المهندسين في التخصصات النادرة، وأعلى من متوسط الأجور في سوق العمل بشكل كبير؛ والسبب في ذلك كثرة الطلب على الوظيفة والتي لا يمكن شغلها إلا من خلال كوادر سعودية بالإضافة لقلة “المتخصصين والمميزين فعليًّا” في هذا المجال، وهناك أمثلة أخرى كثيرة على ذلك.

  • خامسًا – تعامل وزارة الموارد البشرية مع أطراف سوق العمل:

القطاع الخاص هو قطاع ربحي وليس قطاع رعاية اجتماعية، ولا يعني ذلك أن القطاع الخاص ليس له أي دور في ارتفاع أو انخفاض معدلات البطالة، ولا يعني ذلك أيضًا أن للقطاع الخاص الحقَّ في فصل وتسريح العاملين فيه بشكل عشوائي؛ ولكن ما نحتاجه حتى يكون لدينا سوق عمل صحي هو وجود ضوابط واضحة ومنصفة بين طرفي سوق العمل، وتطبيق صحيح لأصل العلاقة العمالية بين العامل وصاحب العمل بدون أي حماية مفرطة لطرف على الآخر.

تغيير السياسات في سوق العمل لمواكبة المتغيرات يعتبر أمرًا صحيًّا، ولكن من المهم أن يكون التغيير الحاصل حاميًا لجميع الأطراف “العامل وصاحب العمل”، وليس بشكل مفرط لطرف على الآخر؛ ولتوضيح ذلك بمثال بسيط، نجد أن الحماية المفرطة للعامل من التسريح “الحماية الشديدة” تتسبب في زيادة تكلفة توظيف العمالة مما يؤدي ذلك إلى ارتفاع في معدلات البطالة، وبناءً على ذلك نجد أننا تسببنا في ضياع فرص توسُّع أصحاب العمل، وخسارة ولادة فرص وظيفية في السوق يتم من خلالها التوظيف الجديد للداخلين المحتملين لسوق العمل.

قوانين العمل غير المرنة والتي ترفع من كلفة الاستغناء عن الموظفين، أو تمنح الموظفين حمايةً ومميزات مفرطة تجعل أصحاب العمل يترددون في التوسُّع في التوظيف، وبدلًا من أن تتحول تلك القوانين لحماية العامل نجد أنها سبب رئيسي في ارتفاع معدلات البطالة، وأيضًا تعتبر سببًا لتسريب الوظائف لخارج المملكة، وتؤدي إلى إغلاق منشآت كانت قادرةً على الاستمرار، ومن الممكن خلالها خلق وظائف للسعوديين مستقبلًا، وهذا الأمر نتعايشه في الوقت الحالي في سوق العمل.

هناك العديد من مواد نظام العمل الحالية فيها حماية مفرطة لطرف على الآخر، ومثل تلك المواد بمقارنتها مع أسواق العمل سواء كانت المجاورة “الخليج” أو اقتصادات الدول الكبرى؛ سنجد أننا نمنح فيها العاملَ حمايةً إضافيةً لها أثر سلبي على الإنتاجية، ومثال على ذلك: الإجازات المرضية وبعض المواد المتعلقة بغياب العامل عن العمل بدون عذر، والأدهى من ذلك أن الفترة الحالية تشهد مناقشات بخصوص تعديلات إضافية على نظام العمل تشتمل على حماية ومميزات إضافية للعامل بحجة استهداف توظيف عدد أكبر من المتعطلين، منها على سبيل المثال: مقترح تخفيض ساعات العمل بشكل مفاجئ من ٤٨ ساعة إلى ٤٠ ساعة أسبوعيًّا في جميع الأنشطة، وقد تكون نتائج تلك التعديلات صادمةً للسوق، وبعكس ما هو مستهدف له.

في الوقت الحالي تمَّ تطبيق نظام العمل المرن، وهذا التوجُّه من التوجهات المميزة التي عملت عليها وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية. إن أثر هذا البرنامج سيكون مميَّزًا في السنوات القادمة، ولكن من المهم أن يتم تدارك أي تغييرات جديدة تشمل حماية أو مميزات مفرطة للعامل على صاحب العمل حتى لا نتحول لسوق يطغى عليه العمل المرن بنسب تتجاوز العمل الكامل؛ مما يتسبب في خلق قضايا اقتصادية واسعة، فتكلفة التوظيف هنا ستكون عاليةً، ولن يعيَ أمرَها إلا أصحابُ العمل أو المختصون في سوق العمل. ومن المهم أن يكون هناك توازنٌ في قرارات الوزارة على سوق العمل حتى لا يكون هناك حماية مفرطة لطرف على الآخر.

لكن يلفت البعض النظر في هذا الصدد أن نظام العمل السعودي الجديد أصبح مرنًا جدًّا في مسألة الاستغناء عن العامل السعودي وفصله من العمل، وأوضح ذلك في المادتين 75 و77، وآخر تعديل للنظام كان بالمرسوم الملكي رقم (م/ 5) وتاريخ 7 /1/ 1440هـ، وربما ليس من المصلحة المزيد من التعديل لنظام العمل في هذا الاتجاه. كما أن هناك أهميةً لوجود تمثيل حقيقي للأيدي العاملة السعودية وما لذلك من أثر إيجابي لوجود سوق عمل متوازن، خصوصًا أن صاحب العمل يحظى بتمثيل جيد عن طريق اتحاد الغرف التجاريَّة المنتخب، وعن طريق كون معظم كبار المسؤولين في وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية من رجال الأعمال ومنهم الوزراء منذ عقود، وهذا قد يكون من أسباب عدم إيجاد حل مُبكِّر لهذه المعضلة، لأنه مع كل الاحترام والتقدير لرجال الأعمال الذين ليس هناك شك في نزاهتهم ولا في وطنيتهم، ولكن لا يمكن أن يكون صاحب العمل هو الخصم والحكم، ثم في آخر المطاف نقول: السعوديُّون لا يتجاوبون ولا يرغبون في العمل، وسوق العمل غير مُنظَّم وسياسات السعودة فشلت ! ولذلك فإنه لا بد من ممثِّل للأيدي العاملة السعوديَّة لمساندة الدولة والمشاركة معها في إيجاد سوق عمل متوازن وعادل كما يشارك أصحاب الأعمال. وهنا يلزم التفكير بجدية في السماح بعمل النقابات العمَّاليَّة الحرَّة أسوةً بالدول المتقدِّمة التي تعمل بحرية رأس المال، فإضافةً إلى ما في ذلك من مصلحة لتنظيم سوق العمل، فإنَّ فيه مكسبًا للمملكة على مستوى السياسة الخارجية ومنظمات العمل الدوليَّة وحقوق الإنسان.

  • سادسًا – برنامج نطاقات: مستهدفاته ومراحل تطويره.

برنامج نطاقات تمَّ تصميمه كمقياس لمعدلات السعودة “التوطين” في منشآت القطاع الخاص، واعتباره المُحرِّك الأساسي لتطبيق “السعودة”، أي أن البرنامج يعتمد بشكل كامل على الجانب الكمي، متجاهلًا الجانب النوعي في توظيف الأيدي العاملة المحلية.

البرنامج يميل إلى عملية تقسيمية فقط لا غير دون تحقيق الفائدة المرجوة من تعريف السعودة الحقيقي، وهو “تطوير الأيدي العاملة المحلية لتحل بدلًا من الأيدي العاملة الأجنبية”، وبمعنى آخر: تم استخدام البرنامج كأداة للدفع بالتوظيف بأكبر قدر ممكن فقط لا غير، وكمتطلب لإنهاء الإجراءات حتى تبقى المنشآت في المناطق الآمنة.

  • مراحل تطوير نطاقات:

انطلق برنامج نطاقات في عام ٢٠١١م كبداية لتحفيز توطين الوظائف، ومرَّ البرنامج على عدة مراحل: أولها وضح حد أدنى للأجر لاحتساب السعودي في برنامج نطاقات وذلك في عام ٢٠١٣م، وبعدها بعام تمَّ إطلاق النسخة الثانية من البرنامج، وفي عام ٢٠١٦م تمَّ زيادة تصنيف الأنشطة وأحجام المنشآت، وبعدها بعام تمَّ تعديل نسب التوطين، وفي عام ٢٠٢٠م تمَّ رفع الحد الأدنى للأجر للاحتساب في برنامج نطاقات ليصبح ٤٠٠٠ ريال، وفي عام ٢٠٢١م تمَّ إطلاق برنامج نطاقات المُطوَّر.

  • نطاقات الموزون:

قبل عدة سنوات أعلنت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية عن قرار تطبيق برنامج “نطاقات الموزون” على منشآت القطاع الخاص، والذي من خلاله عملت الوزارة على الاهتمام بالجانب النوعي في عمليات التوظيف بالإضافة إلى الجانب الكمي من خلال تطبيق خمسة معايير رئيسية في البرنامج، وهي:

  • نسبة السعوديين من القوى العاملة بالمنشأة.
  • نسبة النساء السعوديات في القوى العاملة بالمنشأة.
  • متوسط أجور السعوديين بالمنشأة.
  • متوسط الاستدامة الوظيفية للسعوديين.
  • نسبة السعوديين في المناصب القيادية الأعلى أجرًا في المنشأة.

ونلاحظ من خلال هذا التوجُّه أن البرنامج سيكون مفتاحًا أساسيًّا في تحقيق العديد من أهداف رؤية المملكة ٢٠٣٠، وبشكل أفضل من وضعه الحالي الذي يعتمد على الجانب الكمي، ولكن للأسف لم يتم تطبيق هذا البرنامج حتى الآن.

  • تحليل لبرنامج نطاقات الموزون:

الموارد البشرية ثقافة تأخَّرنا “كسوق عمل” في إعطائها أهمية للمشاركة في قرارات الأعمال، وكثير من المنشآت ما زالت تتجاهل أهمية دور قسم الموارد البشرية في نجاح وتطوُّر المنشآت ومدى انعكاس ذلك على سوق العمل. وخلال السنوات الماضية كان التعامل مع قسم الموارد البشرية كقسم مسؤول عن عمليات روتينية كإنهاء إجراءات خاصة بالموظفين فقط لا أكثر، وكانت النظرة للقسم نظرةً سلبيةً كونه قسمًا غير ربحي داخل المنشأة، وهذه النظرة خاطئة وخطيرة؛ لأن العديد من الممارسات والدراسات أثبتت أن قسم الموارد البشرية هو القلب النابض للمنشأة، وله دور رئيسي في زيادة الأرباح وتخفيض التكاليف.

لو قامت الوزارة بتطبيق برنامج “نطاقات الموزون” في ذاك الوقت لكان الوضع مغايرًا بشكل كبير عن الوضع الحالي؛ ولكن السبب الرئيسي لعدم تطبيق ذلك ربما يكمن في أن الإحصائيات كان من الصعب الحصول عليها في ذاك الوقت إلكترونيًّا. ولو رجعنا للعديد من الدراسات المختصة في تحليل الموارد البشرية، فسنجد أن هناك ممارسات عديدة لها تأثير في عملية نجاح التوظيف واستقرار الموظفين بالقطاع الخاص، ووجود تلك الممارسات بربطها مع الأوزان في برنامج نطاقات سيشكِّل نقلةً نوعيةً كبيرةً في سوق العمل والعاملين فيه، وأهم تلك الممارسات:

·        الهيكل التنظيمي للمنشأة. ·        الوصف الوظيفي.
·        دليل تصنيف الكفاءات. ·        سُلَّم درجات وظيفية مرتبط بالأجور.
·        برامج لتدريب حديثي التخرج. ·        برامج التدرج الوظيفي.
·        برامج تدريب القادة. ·        التقييم السنوي للموظفين.
·        سياسات العمل الداخلية. ·        التقييم السنوي للتدريب.
·        استخدام التقنية. · نماذج أعمال الموارد البشرية الداخلية.
·        تفعيل مؤشرات أداء الموارد البشرية. ·        سياسة الإحلال الوظيفي.
·        سياسة الصحة والسلامة المهنية. · مبادرات توظيف العنصر النسائي والمعاقين.

ربط تلك الممارسات في أوزان برنامج نطاقات سيشكِّل نقلةً نوعية في سوق العمل، وسيتحول بشكل كبير لسوق جاذب للأيدي العاملة المحلية بالإضافة للكفاءات العالمية، كما هو مُستهدَف في وثيقة التحول الوطني ووثيقة رؤية المملكة.

  • برنامج نطاقات المُطوَّر.

أعلنت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية عن إطلاق برنامج نطاقات المُطوَّر، وبحسب ما تم الإعلان عنه يُقدِّم البرنامج ثلاث مزايا رئيسة: الأولى “خطة توطين واضحة الرؤى وشفافة لمدة ثلاث سنوات قادمة بهدف زيادة الاستقرار التنظيمي لدى منشآت القطاع الخاص”، الثانية “العلاقة الطردية بين عدد العاملين ونسب التوطين المطلوبة لكل منشأة من خلال معادلة خطية ترتبط بشكل متناسب مع عدد العاملين لدى المنشأة”، والثالثة “تبسيط تصميم البرنامج من خلال دمج تصنيفات الأنشطة لتكون ٣٢ نشاطًا بدلًا من ٨٥ نشاطًا.”

  • تطبيق نطاقات المُطوِّر، والأثر على المنشآت بعد جائحة فيروس كورونا:

هيكلة وتركيبة منشآت القطاع الخاص في فترة ما قبل فيروس كورونا لا يمكنها استيعاب الداخلين المحتملين لسوق العمل من السعوديين، ولا حتى المتعطلين إذا كان الاستهداف وظائف ذات أجور متوسطة، فالقاعدة الوظيفية محدودة وتسيطر عليها الوظائف الدُّنيا بشكل كبير؛ ولذلك من المهم أن نرى تحرُّكًا سريعًا من الجهات المعنية لإعادة النظر في التشريعات والتنظيمات الحالية، وبرامج التحفيز والدعم للقطاع الخاص، فالظروف الحالية تستدعي أن نرجع خطوةً في التعامل مع قضية البطالة؛ لتكون البداية من إستراتيجية تتركَّز في تقوية المنشآت الحالية، ودعمها قدر الإمكان، بالإضافة لإستراتيجية لزيادة عدد المنشآت بمعدلاتٍ أكبر على المدى القريب، خاصة الصغيرة والمتوسطة.

ما زالت اقتصادات العالم تُعاني من تبعات أزمة فيروس كورونا، وهذا الأمر متوقع ولن يمرَّ بالسهولة التي يتخيلها البعض، وستمتد آثاره لفترات ليست بالقصيرة، ومع كلِّ متغيرات اقتصادية نجد الحاجة لإعادة النظر في العديد من الملفات التي تخصُّ القوى العاملة والبطالة، والتي تعتبر من أهم المؤشرات الاقتصادية، وما لمسناه من الأزمة الحالية يستدعي اتخاذ العديد من القرارات حتى ولو كانت مؤلمة ولكن بحذر شديد حتى لا نزيد من الطين بِلَّة.

تطبيق برنامج نطاقات المُطوَّر هو بالأحرى مجرد رفع لمعدلات التوطين، والتأثير السلبي الأكبر على سوق العمل هو توجُّه الوزارة لدمج الأنشطة واستخدام معادلات إحصائية غير منطقية في كيفية احتساب أساس معدلات التوطين.

  • الأهداف المُعلَنة عن برنامج نطاقات المُطوَّر:

بالرجوع للأهداف المُعلَنة عن تطبيق نطاقات المُطوَّر، نجد أن وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية حدَّدت أهدافًا من تطبيق هذا البرنامج، ويُضاف لذلك الأثر المتوقع لكل هدف:

  • يدعم البرنامج مبادرات التحوُّل الإستراتيجي لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية: وجود مؤشرات أداء هو إحدى ركائز الوزارة في تحوُّلها الإستراتيجي؛ ولذلك سنجد تحديثات بشكل دوري على برنامج نطاقات تماشيًا مع توجُّهات الوزارة.
  • توفير وظائف جاذبة للباحثين عن عمل من المواطنين والمواطنات: ما قامت عليه الوزارة هو دمج الأنشطة ورفع معدلات التوطين، أي أن التوجه ما زال كميًّا وليس نوعيًّا؛ ولذلك قد لا يكون ثمةَ رابط بين استهداف توفير فرص جاذبة للباحثين عن العمل وتطبيق هذا البرنامج، وبتحليل أكبر للمستهدفات سنجد أن عملية دمج الأنشطة قد أضرَّت بنوعية الوظائف؛ فعلى سبيل المثال: نجد أن معدلات التوطين المطلوبة للبقاء في المناطق الآمنة خلال السنوات الثلاث لأنشطة “المغاسل والحلاقة الرجالية” أعلى من معدلات التوطين المطلوبة في الأنشطة التالية:
  • البنية التحتية للاتصالات.
  • التشغيل والصيانة للاتصالات.
  • التموين والإعاشة.
  • الصالات والمراكز الرياضية.
  • الصناعات البتروكيماوية.
  • الكهرباء والغاز والمياه.
  • المناجم والمحاجر.
  • أنشطة البريد.
  • مراكز ذوي الإعاقة.
  • الإنتاج الزراعي والحيواني.
  • زيادة مساهمة السعوديين والسعوديات في منشآت القطاع الخاص: رفع معدلات التوطين في البرنامج بالتأكيد سيُعزِّز من الجانب الكمي؛ لأنه يعتمد عليه بشكل كامل، والخشية من الرفع غير المدروس لمعدلات التوطين، ومع التحول التقني الكبير الذي بدأ إدراكه عالميًّا، وتطبيقه على قطاع الأعمال هو التوجُّه لتصدير الوظائف خارجيًّا في كثير من المهن.
  • تقديم خطة توطين واضحة تستمر لمدة ثلاث سنوات: نجد أن الوزارة ستتجه لرفع معدلات التوطين بشكل سنوي وبشكل مُعلَن مُسبقًا “خارطة طريق” حتى تتجهز المنشآت لذلك بدلًا من المفاجآت غير المتوقعة.
  • رفع جودة تحسين العلاقة الطردية بين عدد العاملين ونسبة التوطين المطلوبة: ما تمَّ إعلانه من آلية ليست لها أي علاقة بتحقيق هذا الهدف.
  • معالجة نسب التوطين القائمة على حجم وكم المنشآت: ما تمَّ إعلانه من آلية ليست لها أي علاقة بتحقيق هذا الهدف، وسنرى تخوُّفًا من التوسُّع للعديد من المنشآت، وغياب لتواجد منشآت بأحجام كبيرة وعملاقة.
  • تحسين بيئة العمل وجعلها جاذبةً للقوى العاملة الوطنية: لا يوجد أي رابط بين رفع معدلات التوطين “كميًّا” وتحسين بيئة العمل وجَعْلها جاذبةً للقوى العاملة الوطنية، حيث لا يوجد أي مُستهدَف له تأثير في تحسين بيئة العمل لمنشآت القطاع الخاص من تطبيق هذا البرنامج.
  • توفير ٣٤٠ ألف وظيفة بنهاية عام ٢٠٢٤م: إن الوزارة لم تراعِ التطور التقني والتكنولوجي في هذا الجانب، فهي تعتمد في هذا البرنامج على الإحلال والذي يقابله بنفس المسار خروج لمنشآت من السوق أو تقليص لأعمالها بالتحول التقني، وهذا المُستهدَف قد يتحقق فقط في حالة وجود ولادة لمنشآت حديثة في السوق.
  • تحليل لبرنامج نطاقات المُطوَّر:

تذهب بعض وجهات النظر إلى أن وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية لم تستفد من فرص كبيرة في “برنامج نطاقات” للتحكم في الكثير من المؤشرات المهمة في سوق العمل، وجَعْله سوقًا تنافسيًّا بدلًا من حصر تقييم النطاقات في البرنامج على الجانب الكمي بشكل أساسي ومستدام. إنَّ أهم المعايير الرئيسية للاستفادة من هذا البرنامج بالشكل المأمول هو رَبْطه مع ثلاثة عوامل رئيسية: “معدلات التوطين، الأجور، ممارسات الموارد البشرية داخل المنشأة”. وفيما يخصُّ عامل معدلات التوطين، فإن توجُّه الوزارة هو رسم خارطة طريق لسنوات قادمة حتى تتجهز المنشآت لذلك، ولكن من المهم أن يتم توسيع الأنشطة الرئيسية حتى نكون أكثر إنصافًا بدلًا من عملية الدمج، ومن المهم الأخذ في الاعتبار أنه لنجاح توجُّه الوزارة “كميًّا” يحتاج ذلك لولادة منشآت حديثة مع المحافظة على المنشآت الحالية؛ ولذلك الحذر مهم قبل أي تطبيق أو اعتماد لمعدلات توطين قد تُكلِّف الكثيرَ مستقبلًا.

أما بالنسبة لعامل الأجور، فمن المهم ربط البرنامج مع أجور العاملين في المنشآت، فالوافد الذي يتقاضى أجرًا مرتفعًا ينبغي أن يكون احتسابه بوزن أكبر، وبنفس الأمر للعامل السعودي الذي يتقاضى أجرًا مرتفعًا ينبغي أن يكون احتسابه بوزن أكبر في البرنامج حتى نصل لتحفيز توظيف الأيدي العاملة السعودية في الوظائف المتوسطة والعليا.

العامل الثالث الذي ثمة أهمية كبيرة لوجوده هو ربط البرنامج مع ممارسات الموارد البشرية التي يتم تطبيقها داخل المنشآت، وهذا الأمر سيدفع القطاع الخاص إلى التخاطب بلغة واحدة مع الوزارة؛ وهو ما يساهم في دعم نجاح العديد من توجُّهات وأهداف الوزارة المستقبلية، وسيساهم بشكل كبير في تطوير سوق العمل من خلال تطبيق ممارسات تستهدف “الثروة البشرية”.

ويرى البعض أن هناك اختلافًا جذريًّا للأثر من برنامج نطاقات المُطوَّر مقارنةً بالأهداف المُعلَن عنها، وذلك على النحو التالي:

  • دمج الأنشطة يعتبر خطأً جذريًّا في برنامج نطاقات المُطوَّر؛ وذلك لسببين رئيسين:
  • الأنشطة تختلف في طبيعتها وهيكلة وظائفها، ومن الصعب أن تجد تشابهًا في ذلك.
  • التسارُع والتطوُّر التكنولوجي في العديد من الأنشطة سيؤدي لاختفاء العديد من الوظائف.
  • لا يوجد أي تطوُّر أو اختلاف عن النُّسخ السابقة سوى برفع نسب التوطين.
  • التوظيف الوهمي:

إن المسمى الفعلي لهذه الظاهرة هو التوظيف غير المُنتِج، فهناك علاقة عملية بين الطرفين من خلال عقد عمل؛ ولذلك لا يمكن وصفها بالتوظيف الوهمي، وفي هذا الجانب من المهم تشخيص تلك الظاهرة والوقوف على أسباب نشوئها وإيجاد الحلول لها، فلو كانت هناك مرونة ومنطقية في بعض القرارات التي يتمُّ تطبيقها على سوق العمل، فلن نجد تواجدًا لمثل تلك الظاهرة؛ ولذلك الأساس هنا هو معالجة الخلل ابتداءً من التشريعات التي يتم تطبيقها على سوق العمل.

  • تفضيل العمل في القطاع الحكومي على القطاع الخاص:

من الأسباب الرئيسية لعزوف العديد من الأيدي العاملة المحلية عن العمل في القطاع الخاص وتفضيل العمل في القطاع الحكومي هو الأمان الوظيفي، فالعديد من الباحثين عن العمل يرون في الوظيفة الحكومية أمانًا وظيفيًّا عاليًا واستقرارًا أكثر مقارنة بالقطاع الخاص؛ مما دفع العديد منهم لانتظار الوظيفة الحكومية حتى لو وصلت المسألة للبقاء على قائمة العاطلين عن العمل لسنوات، وبغض النظر عن المزايا التي تُعرض عليهم من أغلب منشآت القطاع الخاص. إن وجود اهتمام أكبر بتطوير ثقافة الموارد البشرية في سوق العمل من خلال منشآت القطاع الخاص سيكون دافعًا قويًّا لتغيير هذه النظرة السلبية، فالقطاع الحكومي لوحده لا يمكنه استيعاب جميع الداخلين في سوق العمل، وفي نفس الوقت افتقارنا لوجود بيئة عمل جذابة في منشآت القطاع الخاص ومطالبة الموظفين بجهد وإنتاجية عالية في ظل الافتقار لبيئة عمل مناسبة يعتبر سببًا رئيسًا لارتفاع معدلات الدوران الوظيفي والتخبطات الحاصلة في الوقت الراهن؛ مما أدى لانتشار “عُرف” ضعف الأمان الوظيفي في القطاع الخاص، ويمكن تلخيص ذلك بأن بيئة العمل في القطاع الخاص ما زالت تحتاج إلى جهد كبير لنقلها إلى مرحلة جاذبة لاستقطاب الأيدي العاملة المحلية.

  • توطين المهن:

توطين المهن يعني أننا نعمل على التركيز على المهن التي مسارها الوظيفي مميز ولها مستقبل وظيفي واضح، وهذا التوجه يعتبر أنسب من غيره من التوجُّهات العامة العشوائية، وهو الأساس للخروج من دوامة دفع المتعطلين في الوظائف التكميلية والهامشية التي يكون معدل الدوران الوظيفي فيها عاليًا، لكن العمل عليه يحتاج لاختيار الوقت المناسب لتطبيقه حتى نلمس آثاره.

الخشية في الوقت الحالي هو التسرُّع في تطبيق القرارات لمحاولة مواجهة واقع ارتفاع معدلات البطالة، وهذا التسرع سببه الرئيسي المركزية البحتة والتأخير غير المبرر في تطبيق الإصلاحات على سوق العمل في فترة ما قبل أزمة فيروس كورونا، فالوقت اليوم ليس كالأمس حينما كانت لدينا منشآت قادرة على مواجهة التحديات تلو الأخرى، أما اليوم فالوضع مغاير بتاتًا، والتحديات أصبحت أكثر من السابق، وتأثير تطبيق أي قرار لن يكون بنفس مدى تأثير تطبيقه في السابق.

في هذا الوقت الصعب على سوق العمل والقطاع الخاص، المأمول ألا تكون محصلة قراراتنا هو ارتفاع أعداد المكاتب التي قامت المنشآت السعودية بإنشائها خارج المملكة لتشغيل العديد من إداراتها، ومن خلالها نكون قد سرَّبنا وظائفنا ووفَّرنا فرص عمل حقيقية للغير بدلًا من توفيرها للداخل، وبسببها ترتفع الحوالات لخارج المملكة.

وفي تصوُّر البعض، فإن المهم علاج أساس المشكلة، وهو عدم خلق الوظائف والأعمال التي تستوعب آلافًا من الخرجين والخريجات، وتُحرِّك النمو الاقتصادي وتنوع وتوسيع الطلب على الأيدي العاملة في سوق العمل، ويمكن ذلك من خلال حلول عملية في ضوء تجربة اليابان وكوريا الجنوبية والهند من خلال ما يلي:

  • الحماية لـ SME s، مثل تحديد عدد من السلع المعنية تقوم بإنتاجها فقط SMEs.
  • توفير وتسهيل التمويل بتكلفة معقولة.
  • توفير البنية الأساسية، مثل: المجمعات الصناعية، والتدريب والمهارات الإدارية، والمساعدة في التسويق والتصدير، وتوفير البيانات والمعلومات للرواد الأعمال والمستثمرين.
  • التركيز وتشجيع الاستثمار في سلاسل القيمة المضافة وسلال الإمداد.
  • صندوق أو بنك لتطوير التكنولوجيا والابتكار في المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
  • إلزام الجهات الحكومية بإعطاء نسبة من العقود للمنشآت الصغيرة والمتوسطة.
  • نشر وتعزيز ثقافة ريادة الأعمال في المجتمع والتعليم العام والجامعات حول أهمية ريادة الأعمال؛ بإدخال مقررات ريادة الأعمال في المناهج المدرسية، وجعلها جزءًا لا يتجزأ من المنظومة التعليمية الوطنية لبناء ونشر ثقافة العمل الحر، بحيث يصبح إحدى ركائز الاقتصاد الوطني من خلال تخريج شباب وشابات قادرين ومؤهلين على المبادرة وخلق الفرص، وتحويلهم من عبء ثقيل إلى صنَّاع فرص معتمدين على أنفسهم منتجين ومبدعين مبتكرين.
  • وَضْع القواعد والنظُم التي تُشجِّع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وإعفاؤها من الرسوم والضرائب.
  • إلزام الشركات التي تحصل على عقود حكومية بأن يكون نصيب المنشآت الصغيرة والمتوسطة ٣٠٪؜ منها.
  • تشجيع الشركات الكبيرة على التكامل مع المنشآت الصغيرة والمتوسطة في الصناعات البتروكيماوية والزراعية والسيارات وغيرها عمومًا.
  • ثامنًا – التوصيات:
  • رفع الكفاءة ال%

تحميل المرفقات