ملتقى أسبار: التقرير الشهري رقم (80) لشهر ديسمبر 2021

للاطلاع على التقرير وتحميله إضغط هنا


ديسمبر 2021

تمهيد:

يعرض هذا التقرير لقضيتين مهمتين تمَّ طرحهما للحوار في ملتقى أسبار خلال شهر ديسمبر 2021 م، وناقشهما نُخبة متميزة من مفكري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة؛ حيث تناولت القضية الأولى: أمن الدول المطلة على البحر الأحمر وتحديات المستقبل، وأعد ورقتها الرئيسة د. عبدالرحمن الشقير، وعقب عليها كلٌّ من أ. د. جلال الدين محمد صالح، د. فواز كاسب العنزي، وأدار الحوار حولها اللواء. فاضل القرني. بينما تناولت القضية الثانية: تدفق الأعراق المختلفة في المدن وتحدياته الماثلة على المستوى السياسي والاجتماعي والديموغرافي، وأعد ورقتها الرئيسة أ. علاء الدين براده، وعقب عليها كلٌّ من د. عبدالرحمن الصايل، أ. أمين نائب الحرم، أ. ماهر الشويعر، وأدار الحوار حولها د. سعود كاتب.


القضية الأولى

أمن الدول المطلة على البحر الأحمر وتحديات المستقبل

(8/12/2021م)

 

  • الملخص التنفيذي.
  • الورقة الرئيسة: د. عبدالرحمن الشقير

التعقيبات:

  • التعقيب الأول: أ. د. جلال الدين محمد صالح (ضيف الملتقى)[1]
  • التعقيب الثاني: د. فواز كاسب العنزي
  • إدارة الحوار: اللواء. فاضل القرني
  • المداخلات حول القضية
  • الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر ودور الكيان الجديد في تعزيز أمن دوله.
  • التحديات المتوقع أن تواجه كيان دول البحر الأحمر.
  • آليات تعزيز أمن الدول المطلة على البحر الأحمر.
  • التوصيات
  • المصادر والمراجع
  • المشاركون

  

  • الملخص التنفيذي:

تناولت هذه القضية أمن الدول المطلة على البحر الأحمر وتحديات المستقبل. وأشار د. عبدالرحمن الشقير في الورقة الرئيسة إلى ما تم الإعلان عنه في (ديسمبر 2018) حول تأسيس كيان دول البحر الأحمر وخليج عدن بمبادرة من المملكة العربية السعودية، بهدف تحقيق الاستقرار في المنطقة وتعزيز الأمن والاستثمار والتنمية لدول البحر الأحمر ولحماية التجارة العالمية وحركة الملاحة الدولية، ويضم التحالف كلاًّ من: السعودية ومصر والسودان وإرتيريا وجيبوتي واليمن والصومال والأردن. وبعد مشاورات بين الدول المعنية تم التوقيع على اتفاقية التحالف في يناير 2020 وتقرر أن يكون مقره الرياض. وركزت الورقة على الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر، بجانب تناول الوضع الراهن لموانئ البحر الأحمر، وأمن هذه المنطقة الحيوية، والتحديات المستقبلية التي تواجه تحقيق هذا الأمن على المستويين الدولي والمحلي.

بينما أكَّد أ. د. جلال الدين صالح في التعقيب الأول على أن البحر الأحمر يعد من أهم المواقع الاستراتيجية في الممرات المائية العالمية، ومن أهم مواطن الصراع العالمي، وأكثرها تفجراً واشتعالاً. واليوم تتدافع فيه أكثر من استراتيجية أمنية، بهدف تحقيق مكاسب سياسية وأخرى اقتصادية، وأمنية، وتتمثل في: الاستراتيجية الأمريكية، والاستراتيجية الصهيونية، والاستراتيجية الصينية، والاستراتيجية الفرنسية، والاستراتيجية الإيرانية، والاستراتيجية التركية.

في حين ذكر د. فواز العنزي في التعقيب الثاني أن البحر الأحمر ذو أهمية استراتيجية، حيث يتوسط العالم القديم ويربط الأسواق العالمية بشكل سريع ومختصر، وقد زادت أهميته في منتصف القرن العشرين مع إنشاء قناة السويس والتي عدَّلت في بوصلة الناقلات والبوارج الدولية، وأدى ذلك إلى التحالفات والتنافس والصراع الدولي والإقليمي على التموضع والتواجد السطحي والفوق وتحت السطحي للبحر الأحمر.

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر ودور الكيان الجديد في تعزيز أمن دوله.
  • التحديات المتوقع أن تواجه كيان دول البحر الأحمر.
  • آليات تعزيز أمن الدول المطلة على البحر الأحمر.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • التوسّع في التعاون العسكري البحري إلى مرحلة تسيير دوريات أمنيّة بحريّة مشتركة مع تسهيلات بحريّة في الموانئ.
  • القيام بمشاريع اقتصاديّة مشتركة في الموانئ وعلى سواحل وجزر البحر الأحمر لترسيخ وجود المصالح المشتركة.
  • تفعيل مبادرة (الطاقة للدول الفقيرة) التي قدمتها المملكة لمنظمة الأوبك واعتمدتها المنظمة، وذلك للدول المستحقة على سواحل البحر الأحمر.
  • قيام التحالف باتفاقيات تعاون مع الدول الكبرى ذات المصالح الكبيرة والتجارة المهمّة التي تمر عبر البحر الأحمر مثل الصين والاتحاد الأوروبي.
  • التفاهم مع الدول المعنية بخصوص الهجرات غير الشرعيّة والمتسللين وأعمال القرصنة.

 

  • الورقة الرئيسة: د. عبدالرحمن الشقير

تداولت وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية (ديسمبر 2018) خبر إعلان المملكة العربية السعودية عن الاتفاق على فكرة تأسيس كيان دول البحر الأحمر وخليج عدن بمبادرة من المملكة العربية السعودية، بهدف تحقيق الاستقرار في المنطقة وتعزيز الأمن والاستثمار والتنمية لدول البحر الأحمر ولحماية التجارة العالمية وحركة الملاحة الدولية، ويضم التحالف كلاً من: السعودية ومصر والسودان وأرتيريا وجيبوتي واليمن والصومال والأردن. وبعد مشاورات بين الدول المعنية تم التوقيع على اتفاقية التحالف في يناير 2020 وتقرر أن يكون مقره الرياض. ومن المتوقع من التحالف أن يوحد هوية البحر الأحمر الأمنية والاقتصادية ويضمن مصالح الدول المعنية به بشكل مباشر، ويحد من أي نفوذ سياسي وعسكري واقتصادي يمكن أن يضر بمصالح الدول. وبالتالي سوف تتحول بعض الدول الهامشية والفقيرة إلى دول ذات أهمية بسبب موقعها الاستراتيجي.

يرصد الباحث “زاك فيرتين” بعض وجهات النظر المختلفة نحو تحالف البحر الأحمر، إذ يلحظ تحفظ أرتيريا وعدم حضور وفدها عن الاجتماع الأول في القاهرة، وعدم حضور الاجتماع الثاني في الرياض (أبريل 2019) مع إصدار بيان يتضمن دعم التحالف شكلياً، مع إبداء مخاوف من عدم فاعليته أو قدرته على الوصول إلى النتائج المرجوة منه. كما لم يتضح موقف الاتحاد الأوروبي، ما عدا الترحيب الاسمي بالتحالف، وقد يكون ذلك بسبب التواجد الأمريكي الأقوى في المنطقة، ولا يرى الاتحاد الأوروبي أي مهددات لمصالحهم في البحر الأحمر. كما عيَّن أمين عام الأمم المتحدة مبعوثاً خاصاً له في القرن الأفريقي (مارس 2019) ومن ضمن مسؤولياته قضايا البحر الأحمر[2].

وسوف تركز هذه الورقة على ملامح عامة عن أمن الدول المطلة على البحر الأحمر وتحديات المستقبل، مع التوسع قليلاً في الوصف؛ لأن الورقة موجهة لجماهير غير متخصصة في قضايا البحر الأحمر وللشح الكبير في وجهة النظر البحثية السعودية حول البحر الأحمر.

أولاً: البحر الأحمر: الأهمية الاستراتيجية

من المهم عرض وصفي موجز لأهمية البحر الأحمر، وذلك لضعف الثقافة البحثية والشعبية العربية في الاهتمام بتاريخ البحار المحيطة بها وتقدير أهميتها؛ حيث يمثل البحر الأحمر أحد أهم الممرات المائية عالمياً وتاريخياً، وتكمن أهميته في أنه يربط بين المحيط الهندي وبحر العرب جنوباً مع البحر المتوسط شمالاً، وهو يمتد من مضيق باب المندب جنوباً إلى رأس محمد شمالاً بطول 1100 ميل بحري (2037 كم)، ويقسم رأس محمد البحر الأحمر إلى فرعين، هما: خليج العقبة، ويمثل الذراع الشمالي الشرقي، وخليج سيناء، ويمثل الذراع الشمالي الغربي. وبعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح من قبل البرتغاليين، ضعفت أهمية البحر الأحمر، إلا أنها عادت بقوة بعد افتتاح قناة السويس في نوفمبر 1869م، ثم أعيد افتتاحها للملاحة الدولية مع تعميقها وتوسعتها بعد حرب أكتوبر1973م، مما جعلها من أكبر الممرات ازدحاماً بالسفن التجارية.

يطل على البحر الأحمر ثماني دول، منها ثلاث دول آسيوية هي: السعودية وتطل على أكبر مساحة من ساحل البحر الأحمر على الإطلاق، واليمن وتطل على باب المندب وخليج عدن جنوباً، والأردن وتطل على خليج العقبة شمالاً، بينما تقع أربع دول أفريقية على الضفة المقابلة، وهي: مصر والسودان والصومال وإرتيريا وجيبوتي. ويوجد إشكالية في تحديد هوية تحالف البحر الأحمر تكمن في وجود دول متاخمة ولها مصالح عليا في التحالف، ولا يمكن حل كثير من القضايا إلا بمشاركتها، ومع ذلك فهي ليست مطلة على البحر الأحمر، مثل: أثيوبيا وبعض دول الخليج العربي.

موانئ البحر الأحمر: الوضع الراهن

يوجد عشرات الموانئ والمرافئ على ساحل البحر الأحمر مجهزة لأغراض تنقل السياح والمعتمرين ونقل البضائع، ومن أبرزها:

  • موانئ سعودية رئيسية: ميناء جدة الإسلامي، ميناء جازان، ميناء الملك فهد الصناعي بينبع، ميناء ينبع التجاري، ميناء ضباء، ميناء الملك عبدالله في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية في رابغ، أما الموانئ الفرعية في البحر الأحمر فهي: ميناء الملك فيصل بجدة، ميناء أملج.
  • موانئ مصرية: ميناء السويس، ميناء نويبع، ميناء الغردقة، ميناء سفاجا، ميناء حوض البترول.
  • موانئ يمنية: ميناء الحديدة، ميناء المخا، ميناء الصليف.
  • موانئ سودانية: ميناء بورتسودان، ويتكون من عدة موانئ هي: الميناء الشمالي، والميناء الجنوبي، والميناء الأخضر، وميناء الخير، وميناء الأمير عثمان دقنة بسواكن.
  • موانئ صومالية: ميناء مقديشو، ميناء بربرة، ميناء بوصاصو، ميناء كسمايو.
  • موانئ جيبوتي: ميناء جيبوتي (دورالة).
  • موانئ أرتيريا: ميناء مصوع، ميناء عصب.

تمثل موانئ الدول الأربعة الأخيرة القرن الأفريقي، ولها طبيعة خاصة، من حيث أهميتها والتنافس الدولي على تشغيلها أو استئجارها أو بناء قواعد عسكرية بجوارها، ويرى بعض الباحثين في القرن الأفريقي أن هذه الموانئ كانت مهملة من الدول العربية، ولا يتذكرونها إلا في الأزمات[3].

يعد ميناء جيبوتي من أهم الموانئ نظراً لسماح الحكومة بتأجير قواعد عسكرية لدول كثيرة، ومن بينها دول لها مواقف مناهضة لسياسات السعودية، في حين تحتفظ جيبوتي بعلاقات متميزة مع السعودية. وبالتالي تكمن التحديات الجديدة في كثرة الدول العالمية التي تمتلك قواعد عسكرية في جيبوتي وتطل على البحر الأحمر وخليج عدن مثل: أمريكا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا والصين واليابان، مما يخولها للتدخل في بعض السياسات، إضافة إلى وجود مفاوضات وطلبات بناء قواعد عسكرية جديدة في جيبوتي من السعودية[4] وروسيا والهند.

ثانياً: أمن البحر الأحمر

شهد البحر الأحمر نشاطاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأمنياً متزايداً، استدعت إعادة التفكير في تفعيل التحالف، ومن أبرز هذه الأحداث والأنشطة ما يلي:

  • ظاهرة النشاط الإرهابي، والقرصنة البحرية وخاصة من فصائل صومالية معارضة، وأهمها تعرض ناقلة نفط سعودية ضخمة (سيريوس ستار) للقرصنة والاحتجاز (نوفمبر 2008)، وتهريب البشر والمخدرات أو المؤثرات العقلية والأسلحة، والاتجار بالبشر، والهجرات غير الشرعية، والتلوث البيئي.
  • تكمن أبرز مشكلات الجيوبولتيك (الجغرافيا السياسية) من بعض الدول التي لا تتفق في سياساتها مع الدول العربية المطلة على البحر الأحمر، مثل تركيا، حيث إن الحزب الحاكم في تركيا (العدالة والتنمية) وسَّع من حضوره السياسي والعسكري من خلال امتلاك قاعدة عسكرية في كل من: الصومال وجيبوتي وسواكن السودانية. وتمويل قطر للسودان لبناء أكبر ميناء على ساحل البحر الأحمر (2017).
  • تنامي احتماليات انفجار المناطق الهشة في القرن الأفريقي مثل السودان وأثيوبيا.
  • تشابك المصالح المحلية والعربية والدولية في البحر الأحمر وتناقض سياساتها فيما بينها، وسعي بعض القوى الإقليمية بتعزيز نفوذها في منطقة البحر الأحمر، مثل: إيران وتركيا وإسرائيل، ولكل دولة أجندتها الخاصة.
  • تهديد الحوثيين المستمر لأمن مضيق باب المندب، وبعد انطلاق “عاصفة الحزم” في اليمن نشط الحوثيون في عمليات قرصنة وزرع ألغام على سواحل البحر الأحمر، من أهمها: في (أكتوبر 2016) استهداف مدمرة أمريكية (يو إس إس ماسون)، وقبلها استهدفت السفينة الإماراتية (سويفت)، وفي (يناير 2017) الهجوم على فرقاطة سعودية بالقرب من ميناء الحديدة، كما حذرت هيئات تعمل في مجال الملاحة البحرية من خطر الحوثيين المدعوم من إيران بشأن استمرار الهجوم على السفن، وزرع ألغام بحرية على سواحل البحر الأحمر[5].

ثالثاً: أمن البحر الأحمر والتحديات المستقبلية

تواجه السعودية تحديات مستقبلية وأمنية على مستويين، هما:

1- المستوى الدولي

يشهد القرن الأفريقي أكبر حالات القلق الأمني، مثل: القرصنة البحرية، وتنامي الإرهاب، والاتجار بالبشر والأطفال وتهريبهم من مناطق القرن الأفريقي إلى اليمن ثم دخولهم غير الشرعي إلى السعودية، ويعود جزء من الأسباب إلى عجز بعض الدول المطلة على البحر الأحمر عن السيطرة على حدودها، وتفاقم الأزمات الداخلية فيها وتدهور الاقتصاد، إضافة إلى حركة تهريب الأسلحة للحوثي لإطالة أمد الحرب.

غياب الرؤية الأفريقية حول البحر الأحمر، وقد نوقشت هذه الأزمة الاستراتيجية في الاتحاد الإفريقي حول تطوير سياسة واضحة من أجل تحقيق السلام والأمن في “الفضاء المشترك” لمنطقة البحر الأحمر وخليج عدن، بما في ذلك إقامة شراكة سياسية وأمنية مع مجلس التعاون الخليجي. ففي أكتوبر 2017، عُقِد اجتماع في الخرطوم تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، ضم ممثلي دول شمال شرق أفريقيا والشركاء الدوليين (الاتحاد الأوروبي بشكل رئيسي) لتطوير أجندة تهدف إلى توسيع جدول أعمال السلام والأمن الخاص بها في القرن الأفريقي ليشمل البحر الأحمر. وأسست الهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد IGAD) (تأسست سنة 1996، وتضم ثماني دول أفريقية تعاني من التصحر، ومقرها جيبوتي) في أبريل 2019 فرقة عمل معنية بالبحر الأحمر وخليج عدن خلال اجتماع لجنة سفراء الإيجاد.

ومن المتوقع أن يزيد الثقل السعودي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في منطقة البحر الأحمر، من خلال تحول مبدأ المساعدات السعودية لبعض الدول الأفريقية إلى مبدأ شراكة استراتيجية مشتركة، في ظل تنامي الحضور السياسي والعسكري والاقتصادي للصين وتركيا وإيران في القرن الأفريقي، وأن تُؤمَّن المصالح الأمنية والاقتصادية السعودية التي تتعرض للتهديدات المستمرة من القراصنة والمهربين والاتجار بالبشر.

2- المستوى المحلي

أعقب المهددات الأمنية والاقتصادية سلسلة إجراءات سعودية تهدف إلى توسيع نطاق التركيز على البحر الأحمر وضمان مستقبله وتهيئة بيئة سياسية وأمنية واقتصادية لاستفادة الجميع، من أبرزها:

  • إعلان “مدونة جيبوتي لقواعد السلوك” (يناير 2009) ويتضمن اتفاق 17 دولة من أصل 21 دولة من دول مناطق غربي المحيط الهندي والبحر الأحمر وخليج عدن والدول غير المطلة على البحر الأحمر ولكنها معنية بقضاياه، برعاية المنظمة البحرية الدولية، بشأن الأمن البحري ومكافحة القرصنة، واستضافت السعودية الاجتماع الثالث (يناير 2017) من أجل التوقيع النهائي وعُرِف هذا الاجتماع بمسمى “تعديل جدة على مدونة جيبوتي لقواعد السلوك”، وتضمن مكافحة الجريمة المنظمة والاتجار بالأسلحة أو بالمخدرات أو بالبشر وأي تجارة غير مشروعة، أو سرقة النفط، وإلقاء النفايات في البحر والصيد غير القانوني.
  • ترسيم الحدود البحرية بين السعودية ومصر (8 أبريل 2016) والتي بموجبها انتقلت جزيرتا تيران وصنافير إلى السيادة السعودية.
  • أعلنت السعودية عن مشروع نيوم NEOM (4 صفر 1439هـ/ 24 أكتوبر 2017) وهو ضمن رؤية 2030 ويقع على مساحة 460كم على امتداد ساحل البحر الأحمر، ويقع جزء من المشروع داخل أراضي مصر والأردن. وأُعلِن مؤخراً عن إنشاء مدينة أوكساغون المستقبلية، وهي من أهم استخدامات القوة الناعمة التي ستُمكِّن المملكة من الحضور الدائم في البحر الأحمر، وامتلاك أحد أهم الوجهات الاقتصادية والسياحية العالمية.
  • أُعلِن عن مشروع البحر الأحمر، المجاور لمشروع نيوم جنوباً (31 يوليو 2017) ويهدف إلى استثمار وتنمية تسعين جزيرةً وبناء مدينة اقتصادية وسياحية على ساحل البحر الأحمر.
  • يصل عدد الجزر السعودية في البحر الأحمر إلى 1150 جزيرة تقريباً، ومختلفة المساحات، منها 376 جزيرة في خليج العقبة والبحر الأحمر ذات أسماء معروفة ومشهورة، وصالحة للاستثمار[6]. ومن المتوقع أن يعاد ازدهار الموانئ ومصائد الأسماك التاريخية والجديدة على سواحل البحر الأحمر في المنطقة وإنشاء أسواق اقتصادية ومناطق حرة تسهم في تعزيز الاقتصاد ونمو مناطق الأطراف وفتح المجال لتخصصات جامعية جديدة في مجالات علوم البحار والأمن والاقتصاد والسياحة.
  • تتعرض السعودية بحكم موقعها لمشكلات أمنية آنية ومستقبلية مثل: التهريب والاتجار بالبشر من الدول التي تعاني من الفقر وعدم الاستقرار. إضافة إلى المخاوف من عودة القرصنة البحرية والتي قُضِي عليها مؤخراً، وتهديدات زراعة الألغام البحرية.

ويضيف بعض الباحثين النقاط التالية:

  • أن يكون البحر الأحمر ومنفذه الجنوبي أحد البدائل المهمة لتصدير النفط السعودي إلى العالم.
  • أن يكون البحر الأحمر وسواحله خالياً من هيمنة إحدى القوى العسكرية سواء كانت إحدى دول الإقليم أو إحدى الدول الأجنبية.
  • العمل على جعل البحر الأحمر بعيداً عن الصراعات الإقليمية والعالمية بين دول البحر الأحمر، تصل إلى حد الصراع المسلح لأن هذا يؤثر بالسلب مباشرة على تأمين حرية الحركة في داخل البحر[7].

رابعاً: توصيات

تؤكد جميع الدراسات على أهمية رصد التنافس الدولي المتنامي على البحر الأحمر، وتحليله وتحديد المصالح العليا للدول العربية المطلة، وتقدير التحديات الجديدة، وتوصي الورقة بالتالي:

  • إنشاء مركز دراسات البحر الأحمر والقرن الأفريقي، بحيث يجمع بين التخصص والاستقلالية، وذلك لمواكبة الاهتمام السعودي بتفعيل دورها الاقتصادي والسياسي والأمني في البحر الأحمر.
  • تكثيف الدراسات في العلوم الاجتماعية والإنسانية حول البحر الأحمر، من حيث: التاريخ والسياسة والأمن والتسلح والبيئة والمجتمع والمستقبل، نظراً لاستحواذ السعودية على أكبر مساحة فيه، ولندرة وجهات النظر السعودية حوله.
  • دعم الدراسات وأوراق السياسات حول إبراز هوية البحر الأحمر ورؤية تحالف الدول المطلة عليه، والمتاخمة للدول المطلة عليه، والسياسات الدولية المعنية بها.
  • يلاحظ أن الإعلام المحلي قد روَّج لمشروع نيوم ومشروع البحر الأحمر بوصفهما مجالاً للسياحة والتنمية الاقتصادية، وهذا عائد لاهتمامات وسائل الإعلام بالتبسيط واستعجال النتائج، ولكن هذا الخطاب الإعلامي أوجد بيئة خصبة لنشأة معارضة من بعض السكان المحليين الذين أساءوا تقدير الموقف متأثرين بتشخيص الإعلام المحلي للواقع، مما تَسبَّب في استغلال بعض الإعلام الخارجي الذي حاول تكييف القضية على أنها ترحيل قسري. في حين أن الخطاب الإعلامي كان ينبغي أن يصدر من مركز دراسات استراتيجي، بحيث يركز على المصالح العليا للدولة والتهديدات التي تواجهها، وتحديد الأخطار التي تهدد أمن البحر الأحمر، وبالتالي يمكن تهيئة الرأي العام المحلي والعالمي والمنظمات الحقوقية لأي إجراءات تتخذها الدولة.

 

  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: أ. د. جلال الدين محمد صالح

يعد البحر الأحمر من أهم المواقع الاستراتيجية في الممرات المائية العالمية، ومن أهم مواطن الصراع العالمي، وأكثرها تفجراً واشتعالاً، فما من دولة كبرى، وامبراطورية عظمى- قديماً وحديثاً- إلا وللبحر الأحمر أهمية فائقة الاعتبار والتقدير في استراتيجيتها الأمنية، وهو ما يُبرِز لنا أهمية موضوع الورقة الرئيسة (أمن الدول المطلة على البحر الأحمر وتحديات المستقبل) وتجسدت أهميته هذه حديثاً في أكثر من مثال منها:

  • العدوان الثلاثي على مصر 1956م، عند تأميم قناة السويس وكذلك حرب 1967م.
  • في حرب الخليج الثانية عند تحرير الكويت، حيث كان ممراً لتحرك أساطيل الدول العظمى.
  • فيه جزر يمكن استغلالها في قواعد عسكرية.
  • قريب من منطقة الخليج العربي، حيث يوجد 70% من احتياطي النفط العالمي.

وإذا ما عادت بنا الذاكرة إلى فترة الحرب الباردة، تتضح لنا أهمية البحر الأحمر بالنسبة للدول المطلة عليه، عبر استحضار النقاط التالية:

  • تزايد النفوذ الأمريكي والإسرائيلي واندلاع الثورات التحررية بما في ذلك الثورة الإرتيرية.
  • سقوط العرش الإمبراطوري بانقلاب عسكري ماركسي ومجيئ الاتحاد السوفيتي عام 1974م.
  • اندلاع الحرب الصومالية الإثيوبية وهزيمة الصومال ثم انهياره كلياً وتفككه عام 1977م.
  • سقوط شاه إيران وافتتاح مكتب للثورة الإرتيرية في طهران عام 1979م.
  • انقلاب الإسلاميين في السودان ومجيء ثورة الإنقاذ بقيادة البشير وزعامة الترابي.

الاستراتيجيات المتدافعة وأمن البحر الأحمر

واليوم تتدافع فيه أكثر من استراتيجية أمنية، بهدف تحقيق مكاسب سياسية وأخرى اقتصادية، وأمنية، وتتمثل فيما يلي:

  • الاستراتيجية الأمريكية (قاعدة في جيبوتي) وحضور قديم في (إثيوبيا وإرتيريا) إلى جانب أساطيلها في خليج عدن، والمحيط الهندي.
  • الاستراتيجية الصهيونية (ارتباط الأمن القومي الإسرائيلي بالقرن الأفريقي).
  • الاستراتيجية الصينية (خبراء وشركات صينية في جيبوتي وإثيوبيا).
  • الاستراتيجية الفرنسية (قاعدة في جيبوتي).
  • الاستراتيجية الإيرانية (منافسة السعوديين وتطويقهم)، (البحث عن اليورانيوم)، (البحث عن قواعد وحلفاء)، (نشر التشيع).
  • الاستراتيجية التركية (وجودهم في الصومال) و(السودان في عهد الإنقاذ).

وقد تناولت الورقة الرئيسة الجانب الاستراتيجي للبحر الأحمر تحت عنوان (البحر الأحمر: الأهمية الاستراتيجية) مُعدِّدة خصائصه الجيوسياسية، والاقتصادية، بالإشارة إلى الموانئ الحية فيه، وأيضاً الجزر، وكلها موانئ، وجزر بالغة الأهمية في التخطيط الاستراتيجي.

أمن البحر الأحمر والإرهاب

تضاعفت أهمية البحر الأحمر الأمنية مع تضاعف الأنشطة الإرهابية، فهناك حركة الشباب المجاهدة في الصومال، وهي ذات ارتباطات فكرية بالقاعدة، كما أن القاعدة نفسها قامت بتنفيذ أعمال إرهابية في كينيا، وأوغندا، وبعد أحداث نيويورك وواشنطن في 11/9/2001م، واستهداف سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في كل من كينيا وتنزانيا عام 1998م، وقد شهد القرن الأفريقي العديد من التحركات العسكرية والسياسية، إذ جعلت منه أمريكا أحد أهم مناطقها في الحرب على ما أسمته الإرهاب الدولي… كما ترسو على واحد من أهم موانئه، وهو ميناء جيبوتي، حاملة الطائرات (مونت وايتني).

وفي سياق هذا التحرك “نحتت الولايات المتحدة الأمريكية مصطلحاً حديثاً أطلقت عليه القرن الأفريقي الكبير، وهو نطاق يشمل دولاً أفريقية أخرى تضم تنزانيا، ورواندي، وبوروندي، حيث منطقة البحيرات العظمى، ومنابع النيل الأبيض الغنية بالموارد الطبيعية… وبات واضحاً أن القرن الأفريقي يشكل أحد مكونات الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، وهي استراتيجية سعت إلى إقامة تحالف إقليمي يشمل دول هذه المنطقة الاستراتيجية لتأمين المصالح الأمريكية [8]“.

وبعض دول القرن الأفريقي هي من الدول المطلة على البحر الأحمر، أو ذات الاهتمام بالبحر الأحمر، من نحو إثيوبيا، ولا يمكن تشكيل رؤية أمنية متكاملة الأركان، ومتناسقة الأهداف بالنسبة للدول المطلة على البحر الأحمر، وتصور التحديات المستقبلية، من غير معرفة حقيقة السياسات التي تعتمدها هذه الدول، مثل دولة إرتريا التي تخلَّفَت عن المشاركة في الحلف الذي تَشكَّل بقيادة المملكة العربية السعودية، لحماية المصالح المشتركة، وهذه النقطة أشارت إليها الورقة الرئيسة عندما تطرقت إلى “أبرز المشكلات الجيوبوليتيك من بعض الدول التي لا تتفق في سياساتها مع الدول العربية المطلة على البحر الأحمر…”.

أمن البحر الأحمر وتحديات المستقبل

عديدة هي التحديات المستقبلية التي تواجهها الدول المطلة على البحر الأحمر، وقد تناولت بعضها الورقة الرئيسة على مستويين اثنين، بالنسبة للسعودية، على المستوى الدولي، والمستوى المحلي، وهو تناول منطقي وجدُّ مهم، وفي المستوى المحلي تناولت الورقة إعلان مدونة جيبوتي لقواعد السلوك، وهو ما يصل الأمن الداخلي المحلي بالأمن الإقليمي، إذ لا يمكن حماية الأمن الداخلي من غير الاهتمام بالأمن الإقليمي، ويقوم الأمن الإقليمي على ركائز هي: ”

  • وضع حد للصراعات والنزاعات في الإقليم، وحلها بطرق سلمية؛ لضمان الاستقرار الداخلي لدول الإقليم.
  • الوقوف في وجه التدخل الخارجي الذي يهدد كيان وسيادة الإقليم.
  • التنازل عن جزء من السيادة الوطنية، من أجل التمتع ببعض ميزات الأمن الجماعي، كالدفاع المشترك.
  • العمل على رفع وتيرة التعاون والتكامل.
  • احترام حقوق الانسان، وتفعيل دور المجتمع المدني، بما في ذلك المشاركة، أو إبداء الرأي في إدارة مؤسسات النظام الأمني الإقليمي
  • اعتبار الأمن الإقليمي جزءاً لا يتجزأ من الأمن الدولي[9] “.

ومعلوم ما قامت به المملكة العربية السعودية من إسهامات في حل المشكلات العالقة في القرن الأفريقي، في الصومال الذي ما زال يعاني من التفكك والاقتتال الأهلي، وأيضاً في المصالحة التي أجرتها المملكة بين إرتريا وإثيوبيا، على خلفية حرب منطقة بادمي الحدودية بين الدولتين 1998م، بحضور رئيس وزراء إثيوبيا الدكتور آبي أحمد، وإسياس أفورقي، الرئيس الإرتيري غير المنتخب، مع أن الحرب تجددت حالياً في إثيوبيا، بين الأمهرى والتجراي، وما زال الاقتتال جارياً حتى اللحظة، وللرابط الحدودي بين إرتيريا وإثيوبيا، باتت إرتريا جزءاً من هذه الحرب الدائرة، وكل هذا من جملة التحديات المستقبلية بالنسبة لأمن المملكة العربية السعودية، بصفتها إحدى الدول المطلة على البحر الأحمر، ويهمها أمنه واستقرار شعوبه.

 

  • التعقيب الثاني: د. فواز كاسب العنزي

تعقيباً على الورقة الرئيسة بعنوان: أمن الدول المطلة على البحر الأحمر وتحديات المستقبل، يعتبر النقل البحري من أهم طرق النقل الاستراتيجية والذي يشكل مرتكزات رئيسة لتحقيق التنمية السياسية وانعكاساتها علي الاستثمار والتجارة للدول المتنافسة بتواجدها الدائم والمسيطر علي الأسواق الإقليمية والعالمية التقليدية والحرة؛ حيث تنقل البحار والمحيطات ما يقارب من 80 % من التجارة العالمية، ومع زيادة التنافس الدولي بالسيطرة على هذه الأسواق أعطاها أهمية عالية جداً للبحار. ومن منظور نظرية “ما هان” الضابط والمؤرخ الأمريكي والتي أعطت مفهوماً جديداً أن قوة البحر تتفوق دائماً على قوة البر وهي التي تتحكم في حركة التجارة البحرية أثناء السلام والحرب، حيث طرح “ما هان” ستة شروط لإنشاء قوة بحرية :

  • ميزة الموقع الجغرافي.
  • شواطئ مناسبة للموانئ وموارد كبيرة ومناخ مناسب.
  • مساحة كبيرة من الأرض.
  • كتلة سكانية تسمح بالدفاع.
  • مجتمع مولع بالبحر والتجارة.
  • حكومة راغبة بالهيمنة على البحار.

 

ويأتي البحر الأحمر كجزء رئيسي من عالم البحار على الكرة الأرضية، وهو ذو أهمية استراتيجية؛ حيث يتوسط العالم القديم ويربط الأسواق العالمية بشكل سريع ومختصر، وقد زادت أهميته في منتصف القرن العشرين مع إنشاء قناة السويس والتي عدلت في بوصلة الناقلات والبوارج الدولية؛ وأدي ذلك إلى التحالفات والتنافس والصراع الدولي والإقليمي علي التموضع والتواجد السطحي والفوق وتحت سطحي للبحر الأحمر.

إن الورقة الرئيسة سلطت الضوء على أمن الدول المُشاطئة على البحر الأحمر على جوانب عدة، وفي مقدمتها الجانب الأمني للبحر الأحمر وانعكاساته على الدول المطلة؛ حيث تطرقت للدول التي تطل على البحر الأحمر بمختلف مساحاتها الحدودية دون ذكر للكيان الإسرائيلي وهذا قد يضعف الجانب الأمني البحري من منظور واقعي.

 

تعتبر تل أبيب إحدى الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط ولاعباً رئيسياً مدعوماً من حلفائها الدوليين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية. ويأتي التناغم العسكري للاستراتيجية العسكرية البحرية للبحر الأحمر جزءاً من هذا التحالف التاريخي ومن منظور القانون الدولي للبحار والذي يعطي الحق لأي دولة المرور والملاحة في أعالي البحار، ولم تكتفِ تل أبيب بهذه الحركة البحرية، مما أدى إلى توسعها في التموضع الاستراتيجي في البحر الأحمر وذلك من خلال استئجار مجموعة من الجزر التابعة لإرتيريا ذات المواقع الاستراتيجية بأكبر قاعدة بحرية لها خارج حدودها، وتتخذ إسرائيل من الجزيرة موقعاً لها للرصد والمراقبة في البحر الأحمر لمراقبة المملكة العربية السعودية واليمن والسودان وحركة ناقلات النفط، كما أنها تعد أيضاً محطة لتشغيل الغواصات الإسرائيلية المزودة بالصواريخ النووية والتي تقوم بحركة الملاحة عند مضيق باب المندب جنوب البحر الأحمر.

 

أيضاً هناك محاولة التواجد التركي كتموضع دائم لها في البحر الأحمر، وذلك إبان النظام البشيري الإخواني بتسهيل هذا الوجود التركي باستئجار جزيرة سواكن التابعة للسودان؛ ما يُشكِّل تهديداً للأمن البحري العربي في البحر الأحمر. ويستمر الصراع في هذا البحر بوجود الخطر الإرهابي الإيراني؛ وذلك بتواجده بالقرب من الشواطئ اليمنية داعماً ومعززاً للعمليات الإرهابية التي يقوم بها الحوثي مستهدفاً الأهداف البحرية باستخدام الزوارق المفخخة والتي يتم توجيهها عبر سفينة سافيز  والراسية في المياه الإقليمية الارترية  واستخدامها في المراقبة لحركة الملاحة والتجسس على الدول العربية مُشكِّلةً إرهاباً بحرياً على حركة الملاحة، مما أدى إلى تصادم وحرب مع إسرائيل أو كما يصفه الإعلام بحرب الظل. وأدى ذلك إلى زيادة وتيرة الإرهاب البحري والقرصنة البحرية؛ مما دفع الدول إلى حماية مصالحها الجو اقتصادية والتي تمر من مضيق باب المندب إلى تواجد عسكري في المنطقة، الذي حدا بالحكومة الصومالية والجيبوتية بالاستفادة من هذه المطالب بتوفير أراضٍ وموانئ للدول العظمى وفي مقدمتها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا؛ لتأمين حركة المواصلات البحرية وتحقيق أمن الطاقة. ويأتي دور المملكة انطلاقاً من نظرية الدور بالنظر إلى أن المملكة تشكل دولة قيادية في المنطقة، وتعيش فترة التنمية السياسية والتي تتضمن مجموعة من الاستراتيجيات الوطنية التي تدعم وتحقق الاستراتيجية الوطنية 2030، والتي تقوم وترتكز على عدة مرتكزات رئيسية منها الموارد الطبيعية واستغلالها الأمثل، وفي مقدمتها الجزر التابعة لها في خليج العقبة والبحر الأحمر وطبيعة الشواطئ والثروات الطبيعية والبحرية؛ ما دفع بالمملكة جيوبولتيكيا بالاهتمام بالموانئ المحلية والدولية وإنشاء مشاريع وطنية؛ لتحقيق التنمية المستدامة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية؛ مما زاد  الاستشعار بالمسؤولية والمحافظة والحماية لهذه المكتسبات الوطنية، ما دفع بدوره بالمملكة العربية السعودية لتحالف إقليمي لتحقيق الأمن البحري للبحر الأحمر.

  • المداخلات حول القضية
  • الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر ودور الكيان الجديد في تعزيز أمن دوله.

البحر الأحمر معبر عالمي مهم جداً للتجارة الأوروبية والآسيوية ولا غنى عنه لتأمين الحراك التجاري، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا عبر الشراكة الإقليمية، بما في ذلك حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة. وهذا الأمن يختص في الدرجة الأولى بتأمين الملاحة، التي تتعرض منذ عقود لاعتداءات النظام الإرهابي الإيراني، بما في ذلك عمليات القرصنة. كذلك أظهرت دراسة استشرافية بأن قيمة التجارة العالمية ستقارب 5 تريليونات دولار بحلول عام 2050، في حين يتوقع البنك الدولي أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة 6 تريليونات دولار. وهذه الأرقام تُظهِر آفاق النمو المتاحة أمام الدول المحيطة بالبحر الأحمر وأهمية توجهها لتحسين البنى التحتية اللوجستية وتفعيل مبادرات تسهل إجراءات التجارة.

ويعد الساحل السعودي الذي يطل على البحر الأحمر، هو الأطول من بين الدول الأخرى المشاطئة؛ ومن هنا فهو أكثر عرضة لمخاطر ما يجري على طول البحر الأحمر، ثم يُشكِّل البحر الحمر خاصة، وخليج عدن ‏المرتبط بالمعاهدة أحد أهم مقومات الأمن الوطني السعودي، وهو المقوم الجيوسياسي، ‏وليس هذا فحسب؛ بل إنه يشكل أهمية في بعده الجيواستراتيجي أيضاً، ولذلك فإن الأهمية الاستراتيجية للموقع دفعت المملكة لإنشاء هذا التحالف، ‏وباستشراف مستقبل هذا التحالف فإن تفعيله سيحقق أثراً إيجابياً مستداماً ليس على مستوى ‏الأمن الوطني للمملكة فحسب، وليس على مستوى كل دولة مشاركة، بل سيكون على مستوى ‏الإقليم ككل، ويمكن وصفه بدعامة قوية للأمن الإقليمي من المنظور الشامل.‏

والأهم أن عدم استثمار فرص هذا التحالف السياسي، سيؤدي -لا قدر الله- إلى زيادة ‏المهددات والمخاطر، ليس على مستوى الأمن الوطني للمملكة، وإنما بقية الدول الأخرى المشاطئة، ‏وعلى مستوى الإقليم، وبالتالي فإن المصالح الوطنية لجميع دول التحالف تحفّز على السير قدماً ‏في الاستفادة من النتائج المُخطَّطة من هذا التحالف. ‏

وصحيح أن آليات تحقيق التحالف لم تتضح على أرض الواقع، غير أن ما أُعلِن وما هو ‏مخطط هو تحالف من أجل تعاون أمني واقتصادي لجميع الدول المشاطئة، وهو حرص من ‏المملكة (تحديداً) ورغبة ومصلحة من بقية الدول الأخرى في توفير وتنمية الجوانب الاقتصادية، ‏من خلال الاستثمار التشاركي المستدام في هذا الموقع، ما قد سيساهم في ضمان تفعيل هذا ‏التفاعل، رغم خطورة تعطيله من قبل عدد من القوى الدولية التي تريد الاستفادة الذاتية، وربما ‏لها مصالح بتهديد بعض دول المنطقة.‏

ومع الطموحات الاقتصادية العالمية وكثافة حركة التجارة والملاحة البحرية وطريق الحرير، سيكون هناك ضغط على المضائق والقنوات الاستراتيجية، في السعة والاستيعاب، وسلامة وأمن المرور، والإجراءات والسياسات القانونية، والتعريفة ورسوم المرور وغيره، وقضية حادثة اختناق قناة السويس، وأمن باب المندب سيكونان مؤثرين على ذلك.

ويُشكِّل البحر الأحمر إضافة إلى موقعه الجغرافي المؤثر في العلاقات الإقليمية والدولية، نقطة التقاء استراتيجية بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. وهو من الفرص التي سعت الرؤية لاستثمارها وتنميتها مثل مشروع نيوم ومشروع البحر الأحمر ومشاريع سياحية أخرى؛ ونجاح هذه المشاريع يبدأ من استقرار المنطقة والتي نشاهد فيها سعي العديد من الدول إلى التوسع والتحكم في موانئها والمناطق والقواعد المطلة على البحر الأحمر لأهداف كثيرة؛ منها وضع اليد على الثروات والإمكانيات والسيطرة على الأسواق والاستيلاء على المنطقة الاستراتيجية والمضطربة والتدخل في الشؤون الداخلية تحت مظلة أي دعاوى أو التأثير على مواقف تلك الدول لفرض الهيمنة العسكرية والأمنية. لذا فثمة ضرورة للتكاتف الإقليمي بين الدول ذات الصلة المباشرة به، وكذا تعزيز التنسيق والتعاون من أجل حماية أمنه واستقراره، فضلاً عن أهمية التعاون والتنسيق العالمي من أجل القضاء على أي مهدد أمني أو بيئي أو اقتصادي، بجانب التوسع في القواعد العسكرية السعودية على ساحل البحر الأحمر.

ومن المهم الإشارة في سياق قراءة المشهد الاستراتيجي عن البحر الأحمر وامتداده شمالاً وجنوباً، أن ميناء عصب يعد أحد أهم موانئ البحر الأحمر، وهو الميناء الثاني لدولة إريتريا بعد ميناء مصوع في الساحل الشرقي من البلاد، وأقرب ما يكون إلى ميناء مخا، وعبره كانت الهجرات اليمنية إلى إريتريا يوم كانت إريتريا مزدهرة اقتصادياً في عهد الاستعمار الإيطالي، وقد اتخذت منه الإمارات قاعدة لها في مواجهة الحوثيين. وتصل مدينة عصب إريتريا بدولة جيبوتي عبر شريط حدودي بري، حيث قبائل عفر الذي قسمها المستعمر إلى أكثر من شق، شق منها في المستعمرة الفرنسية جيبوتي، وشق منها في المستعمرة الإيطالية، وشق ثالث ضُمَّ إلى إثيوبيا. وأثيوبيا وإن كانت غير مطلة على البحر إلا أنها تتأثر بذلك، وقد نجحت إثيوبيا في ضم إريتريا إليها عام 1952م، بالتحالف مع الولايات المتحدة، إلا أن الإريتريين قاوموا قرار الضم هذا بإشعال حرب تحرير طويلة الأمد، تفجرت عام 1961م، بقيادة جبهة تحرير إريتريا، وانتهت في عام 1991م، بدخول الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا العاصمة أسمرا، عقب هروب (منجستو هيلي ماريام) الديكتاتور العسكري الماركسي، حليف الاتحاد السوفيتي والذي انهار نظامه في أديس أبابا، فور انهيار السوفيتي بمجيء ميخائيل جورباتشوف.

 

  • التحديات المتوقع أن تواجه كيان دول البحر الأحمر.

واجهت محاولات تأسيس كيان يضم الدول العربية والأفريقية التي تطل على البحر الأحمر وخليج عدن، العديد من التحديات؛ لا سيما بالنظر إلى أن السيطرة وفرض السيادة على البحار تختلف عن اليابسة والمجال الجوي، حيث تقسم إلى مناطق من حدود كل دولة مشاطئة إلى أخرى، ولكل منطقة لها اعتباراتها السيادية للدولة، الإقليمية أو الدولية.  وفيها الكثير من التداخلات في التطبيق والتفسير ولطالما كانت أسباب نزاعات تصل إلى نزاعات مسلحة، لأسباب ملاحية وتجارية وثروات طبيعية.

ومؤخراً “تم إحياء مشروع منتدى البحر الأحمر مرة أخرى من جانب الأطراف العربية والإفريقية إلى أن تم التوقيع في أوائل يناير عام 2020 على ميثاق تأسيس مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، يكون مقره الرياض”، حيث أصبح التعاون والتحالف بين دول الإقليم الواحد مهماً إلى درجة كبيرة لا تقل عن التحالفات الدولية الأخرى.

إلا أنه من المهم الإشارة هنا إلى أنه لا مجال لسيادة مطلقة في أعالي البحار؛ ولكن من ناحية استغلال الثروات فهذا ممكن بين الدول المتقابلة، أما أمنياً فلا بد من عمل جماعي في المياه المفتوحة.

 

والواقع أن التحدي الأكبر هي بعض الأنظمة للدول المطلة على البحر الأحمر وتركيبتها السياسية والسكانية والتي تعيش في الغالب صراعات بينية اثنية أو حدودية ورثتها هذه الأنظمة من الاستعمار، هذه الصراعات مدخل للقوى العالمية والإقليمية للحصول على قواعد عسكرية أو قواعد اقتصادية؛ وهذه أيضاً تحتاج نفوذاً سياسياً وعسكرياً لحمايتها. فهي أنظمة غير مستقرة ولذا تعتمد الوجود الأجنبي إقليمياً أو عالمياً لحمايتها ولا نهمل عنصر الفقر في القرن الأفريقي وما تحتاجه هذه الأنظمة من دعم مالي واقتصادي وهما مدخلان لتنافس من قبل القوى الإقليمية والدولية.

ولعل من أكبر التهديدات على الأمن القومي العربي التواجد الأجنبي المتزايد في البحر الأحمر، وهذا التواجد من قبل الدول الأجنبية ما هو إلا لإيجاد موطئ قدم في هذه المنطقة الاستراتيجية. وعلى سبيل المثال فمن التحديات التي تواجه كيان دول البحر الأحمر ذلك التحدي المتمثل بكون إسرائيل مطلة على جزء (ولو بسيط) من البحر الأحمر؛ وهي ليست جزءاً من هذا الحلف. ويبدو أن هذا يفسر عدم تحمس إريتريا للمشاركة الفعلية في الحلف، حيث إنها تحتضن قواعد عسكرية لإسرائيل في بعض جزرها، وقد يشكل ذلك تحدياً كبيراً لهذا الحلف من الناحية الأمنية والعسكرية وإمكانية الوصول إلى اتفاقية مشتركة لحماية البحر الأحمر.

ويلاحظ في هذا الشأن أنه ثمة تطلعات لبعض القوى الإقليمية التي تسعى إلى تعزيز نفوذها في منطقة البحر الأحمر، “وخاصة إيران وتركيا وإسرائيل التي تمتلك تصورات لأمن البحر الأحمر تشكل تهديداً للمصالح الخليجية والعربية. وبالطبع فإن “مصالح الدول الأجنبية الموجودة في البحر الأحمر والمستخدمة له واهتماماتها لا تطابق بالضرورة مصالح الدول المشاطئة له واهتماماتها”. ومن التحديات الأمنية الأخرى هو سماح إحدى الدول المطلة على البحر الأحمر (جيبوتي) بإنشاء قواعد عسكرية على أراضيها لدول كبرى ليس لها أي إطلالة على سواحل البحر الأحمر. وبالرغم من علاقة جيبوتي الجيدة مع المملكة، إلا أنها لم تسمح لها بأي تواجد أمني مثل ما سمحت لدول عديدة أخرى. ويبقى التساؤل المهم هنا: كيف السبيل إلى التقليل من الآثار السلبية المحتملة لهذين التحديين؟

وتذهب بعض وجهات النظر إلى أن الهدف الاستراتيجي للدول المطلة على البحر الأحمر الأعلى يجب أن يتضمن الاتفاق على تحييد البحر الأحمر والمضيقين عن التحركات العسكرية والسياسية، مثل ما نجحت المملكة في تحييد البترول وإخراجه من جعبة الصراعات السياسية؛ فقد استطاعت المملكة بحصافة وإصرار وبعض التضحيات إخراج البترول (السلعة الاستراتيجية الأخطر) من توظيفه في الصراعات العسكرية والسياسية وحصره في مجاله التجاري والاقتصادي، وتمكنت ذلك في سياق منظمة أوبك أصعب المنظمات الدولية من حيث أعضائها وتنافسهم ومصالحهم. وقد يكون من غير المستبعد أن الهدف الاستراتيجي لمبادرة المملكة حيال البحر الأحمر هو العمل بحصافة وإصرار مع الأعضاء على خلق بيئة سياسية وقانونية وواقع -يقلل- إن لم يمنع من استخدام البحر الأحمر ميداناً للصراع السياسي أو العسكري.. وهذا ليس مستحيلاً، حيث إننا نرى قناة السويس وقد أُخرِجت من توظيفها عسكرياً بعد تجارب مُرَّة وتاريخ مؤلم.

كما أن تحييد البحر الأحمر عن توظيفه لأغراض عسكرية هدف يستحق العمل له أخلاقياً.. وأحد العناصر التي تساعد على ذلك أن لا يكون البحر مصدر تهديد لأي من الأطراف عليه، وأن يتم إنشاء مؤسسات اقتصادية مشتركة (على شاكلة ما تم على ثروات الفحم بين ألمانيا وفرنسا بعيد الحرب العالمية الثانية)؛ لكن المشكلة أن البحر الأحمر جزء من المنطقة التي لا تخلو أي دولة من مشكلات مع نفسها أو جيرانها، فالمنطقة وسط صراعات إقليمية ودولية نظراً لكونها ذات موقع جغرافي رابط بين القارات.

ومن اللافت للنظر على المستوى الداخلي، ما ورد من إشارة في الورقة الرئيسة إلى “أن الإعلام المحلي قد روَّج لمشروع نيوم ومشروع البحر الأحمر بوصفهما مجالاً للسياحة والتنمية الاقتصادية، وهو خطاب إعلامي أوجد بيئة خصبة لنشأة معارضة مِنْ بعض السكان المحليين الذين أساءوا تقدير الموقف متأثرين بتشخيص الإعلام المحلي للواقع، مما تسبب في استغلال بعض الإعلام الخارجي الذي حاول تكييف القضية على أنها ترحيل قسري. في حين أن الخطاب الإعلامي كان ينبغي أن يصدر من مركز دراسات استراتيجي، بحيث يركز على المصالح العليا للدولة والتهديدات التي تواجهها، وتحديد الأخطار التي تهدد أمن البحر الأحمر، وبالتالي يمكن تهيئة الرأي العام المحلي والعالمي والمنظمات الحقوقية لأي إجراءات تتخذها الدولة”، هذا الأمر يحتاج فعلاً لمزيد من البسط والإيضاح لكثير من الإعلاميين والنخب فالمصالح العليا للدولة والتهديدات التي تواجهها وتحديد الأخطار التي تهدد أمنها في منطقة  البحر الأحمر عامة؛ يتطلب المزيد من الحوارات والندوات التي تسلط الضوء على هذه المصالح الاستراتيجية والتهديدات المحيطة من حيث: ماهيتها وحجمها وآثارها ومدى تأثيرها على المشروعات التي أُعلن عنها في المنطقة؛ إذ ذلك سيسهم كثيراً في تناول الإعلاميين والنخب للقضايا المتعلقة بذلك، وفي إدراك المواطنين المحيطين بتلك المناطق لحجم وطبيعة تلك المخاطر ولأنواع وأهمية المصالح التي ستحققها المملكة.

  • آليات تعزيز أمن الدول المطلة على البحر الأحمر.

إن تهيئة الظروف لنجاح تحالف كيان دول البحر الأحمر ليس بالأمر السهل ناهيك عن صيانته وبقائه؛ ولكن ربما ينطبق هنا القول ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جله. وفي هذا الإطار يمكن التأكيد على ما يلي:

  • النظر في تقسيم الدول المطلة على أساس ولائها ومستوى العلاقات مع المملكة. هنا تكوين مجموعه تملك الصوت الأعلى في مثل هذا تجمع.
  • العمل الجاد على تحسين العلاقات بين الدول والتي لها مشكلات حدودية أو اثنية بينها، ومحاولة زرع فكرة أن التحالف ليس بهدف النفوذ بقدر ما هو تحالف لمصلحة الجميع؛ كي يعم الاستقرار والأمن كل حوض البحر الأحمر والذي سيُوجِد مناخاً للاستثمار والتعاون الاقتصادي. وهنا من الممكن عمل شراكات لاستغلال ثروات البحر الأحمر وبالذات في التعدين، وهذا قد سبق تجربته مع السودان وللأسف مع وجود الجدوى الاقتصادية؛ إلا أنه لم يستمر والتقدير أنه يعود لتغير النظام في السودان وما جلب معه من ويلات على شعبه وجيرانه.
  • العمل دولياً على جعل البحر الأحمر بحيرة سلام بعيداً عن الصراعات الإقليمية والدولية؛ حيث من الممكن تشكيل قوة دولية لمراقبة أعمال التهريب والإرهاب، فوجود قواعد عسكرية خاصة بدول معينة لا يتعارض مع مثل هذه الأهداف؛ بل نظرياً هذا ما يُعلَن كأحد أسباب وجود هذه القواعد العسكرية.
  • من المعلوم أن باب البحر الأحمر عربي تطل عليه اليمن ومخرجه دولتان عربيتان مصر والأردن مع إسرائيل؛ لذا من المهم أن يكون صوت الدول العربية الأربع موحداً ضمن هذا التحالف، وهنا نخلص إلى أن باب المندب يجب أن يكون تحت سيطرة حكومة يمنية تبعد إيران عن الباب وعن حوض البحر الأحمر بأكمله.

أيضاً فإن مهددات البحر الأحمر وفرص استثماره ليست جيوسياسية للدول الشاطئية فحسب، بل باتت ومنذ فترة جيو استراتيجية؛ بمعنى تتدخل فيه قوى عظمى متصارعة فيما بينها، وبين بعض الدول المشاطئة، وليس هذا فحسب، كون البحر فيه مياه إقليمية دولية يختلف عن اليابسة، وهذا يزيد من المهددات على دول البحر الأحمر.

ولهذا فهو يتطلب تحالفات ذكية، تجمع بين الدبلوماسية والعسكرية، والأقرب منها والمرشحة للنجاح القوة الاقتصادية التشاركية، التي ستكون مغرية للشعوب وللحكومات، وفيها فرص تنموية حقيقية لجميع الدول، إضافة لتوفير الأمن والتعاون من أجل تحقيقه، لا سيما أن (طبيعة البحار وقوة الدول والجرائم المُهدِّدة لاستقرار الدول) تحتاج هذا التعاون!!

وبالتأكيد فإن ما قامت به المملكة من إنشاء هذا التحالف الذي يضم دول الجامعة العربيّة المطلّة على البحر الأحمر هو خطوة في الاتجاه الصحيح وإنجاز كبير بحاجة للرعاية والتطوير، وثمة وجهات نظر ترى أن عدم وجود القوى الإقليميّة المعادية المؤثّرة سلباً في البحر الأحمر مثل إيران وإسرائيل وتركيا في هذا الحلف سيكون عائقاً لسير عمل هذا التحالف، بينما تذهب وجهات نظر أخرى إلى أن الهدف الأساسي هو حماية البحر الأحمر من عبث هذه الدول وغيرها من المنظمات الارهابيّة ويجب العمل على إبعادها من الحلف، فالعاملان المهمان المشتركان بين هذه الدول (عضويّة الجامعة والإطلالة على البحر الأحمر وخليج عدن) كافيان لإنجاح التحالف، وتوسيع هذا التحالف وإدخال دول أخرى سيكون عامل ضعف لهذا التحالف وليس بعامل قوّة. وفي ضوء ذلك يمكن ترسيخ التعاون بين دول الحلف وتحقيق الأهداف المرجوّة عن طريق التوسّع على أرض الواقع في الشقين الأمني والاقتصادي.

كذلك وبالنظر إلى أن أمن البحر الأحمر مهم للغاية كونه ممراً استراتيجياً عالمياً، ويرتبط بتصدير النفط السعودي والخليجي لأوروبا، فمن المقترحات لتقوية كيان دول البحر الأحمر كما يرى البعض الآتي:

  • إدخال سلطنة عُمان ضمن دول تحالف البحر الأحمر، بل من الممكن دراسة إمكانية وجود ميناء تصدير سعودي على البحر العربي في الأراضي العمانية يتم التفاهم حوله من خلال اتفاق عُماني- سعودي وذلك كخط بديل لتصدير النفط إلى دول آسيا كالصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية مع دفع فوائد للسلطنة وخلق مصالح مشتركة معها، فالعلاقات مع السلطنة ممتازة ولعلها تفتح باباً للتعاون في هذا الجانب لمصلحة البلدين.
  • وجود إسرائيل خارج تحالف البحر الأحمر قد يخلق مشكلات مستقبلية، ولا سيما أن لها قاعدة عسكرية في إحدى جزر إريتريا؛ لذلك فوجود إسرائيل ضمن تحالف البحر الأحمر قد يكون حتمياً حتى لو كرهنا ذلك؛ فهي أيضاً مطلة على خليج العقبة شمال شرق البحر الأحمر ولها ميناء هناك (إيلات / أم الرشراش) المجاور لميناء العقبة الأردني؛ لذلك لا بد من التفكير ملياً بالوجود الإسرائيلي وكيفية التعامل معه مستقبلاً، ولا يعني هذا الكلام دعوة “تطبيع”؛ ولكن وجود إسرائيل كجزء من المنطقة حقيقة يصعب إنكارها، ثم يلزم التعامل مع ذلك بطريقة أو بأخرى.
  • محاولة التفاهم مع إيران عبر وسيط نزيه لتحييد استفزازاتها المستمرة في الخليج العربي والبحر الأحمر، وقد يتأتى ذلك التفاهم بعد رفع العقوبات عنها وهذا احتمال وارد جداً بعد انتهاء محادثات فيينا؛ فهي أيضاً تريد تصدير نفطها كبقية الدول من خلال البحر الأحمر. ويبدو أن كل ما تقوم به إيران من مشكلات واعتداءات واستفزازات هو بسبب حرمانها من تصدير نفطها، كما أن المحادثات مع إيران ستساعد كثيراً في حل مشكلة المليشيات الحوثية، ويكون هذا التفاهم مدخلاً لاستقرار المنطقة ووقف ما يجري في اليمن.

وخلاصة لما سبق، لدينا ثلاث دول لا بد من أخذها في الاعتبار لسلامة وأمن البحر الأحمر لتكون جزءاً منه أو على الأقل تحييد ما قد يبدر منها من مشكلات وهي: سلطنة عمان، وإيران، وإسرائيل. وبالطبع لا يوجد مشكلات مع سلطنة عمان، ولكن المشكلات قد تأتي من إيران وإسرائيل.

يضاف إلى ما تقدم النظر في إمكانية:

  • عمل حلف عسكري يضم الدول المطلة على البحر الأحمر للدفاع عنها.
  • تشكيل دوريات أمنية من هذه الدول تجوب البحر الأحمر لتفتيش السفن التي تهدد أمن دول الحلف ومصادرة محتوياتها، وغالباً ما تكون معدات عسكرية تُرسَل لدول معروفة من أجل خلق فوضى لدول الحلف.
  • عقد اتفاقيات سياسية واقتصادية وعسكرية بين دول البحر الأحمر ومساعدة بعضها بعضاً.
  • قيام المملكة باستئجار جزر وموانئ في هذه الدول لسنوات طويلة لاستخدامها عند تعرض أمنها أو أمن دول البحر الأحمر للخطر.

وثمة أهمية لاستقطاب الحكومة اليمنية الشرعية لحلف دول البحر الأحمر، وهذا سيُحيِّد الحوثيين وسيُسهِّل مراقبة تحركات الدول والأحزاب التي لا تريد الاستقرار لدول البحر الأحمر، والحرص على إبقاء علاقات متميزة مع دول القرن الأفريقي واستثمار جزر هذه الدول باتفاقيات طويلة المدى لضمان أمان دول البحر الأحمر وحظر دخول أي دولة أخرى في مجال المياه الدولية وتفتيش السفن المشكوك فيها.

ومن الممكن كذلك أن تُستغَل اتفاقية كيان دول البحر الأحمر لتطوير اقتصاديات دِوَلِه، ويكون للمملكة دراسة وافية عن الإمكانات الموجودة في تلك الدول، على سبيل المثال:

  • الأعلاف لشركات الثروة الحيوانية السعودية.
  • مشاريع النفط والغاز والمنتجات البتروكيميائية.
  • الاستفادة من المكامن المعدنية بتلك الدول برؤوس أموال وشركات سعودية.
  • إعطاء منح تعليمية وبحثية وتدريبية للمواطنين من تلك الدول كقوى ناعمة لكسب التأييد على المستوى البشري.

ومن ناحية أخرى يمكن التفكير بشكل مغاير في الاستثمار والسياحة لتكون هي الأساس بدل العسكرة والتجييش، بحيث يكون التحالف مبنياً على التحالف الاقتصادي حول منطقة البحر الأحمر (المناطق المحاذية له)، وتشجيع المشاريع والاستثمارات السياحية التي تقود إلى أمن منطقة البحر؛ فمن خلال معايير أمنية تحققها الموانئ على سواحل البحر الأحمر يفتح الاستثمار فيها وتكون محطاً للسياح، وعلى سبيل المثال: يمكن أن تكون هناك رحلات بحرية سياحية من (شرم الشيخ إلى امالا ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية وجدة حتى جزر فرسان) تشمل زيارة المناطق السياحية الداخلية مثل العلا وجبال فيفا …إلخ ومَنْ يحقق الشروط الأمنية ينضم إلى هذه البرامج من الدول الأخرى. هكذا السياحة تقود إلى الأمن؛ فمع الوقت وزيادة الجدوى الاقتصادية ستسعى الدول الأخرى إلى الانضمام إلى هذه البرامج من خلال رفع المستوى الأمني في موانئها التي تستفيد منها سياحياً وتحقق لها دخلاً.

ويبرز هنا الحاجة إلى “إعداد دراسات اقتصادية دورية لاحتياجات أسواق البحر الأحمر وخليج عدن من السلع المختلفة، والتأكيد على أهمية تقديم الحلول العملية للمشكلات الفنية والإدارية والإجرائية التي تعيق انـسـياب الـسلع بين تلك البلدان”. وثمة حاجة ملحة في هذا الصدد لإنشاء “كيان بحثي (مركز أو مؤسسة)، ليكون مظلة يتم من خلالها إجراء البحوث في كل المجالات والتخصصات المتعلقة بالبحر الأحمر، وتتكامل في إطاره جهود الباحثين، مع تأمين التمويل اللازم له”.

وفي المقابل فثمة آراء تشير إلى أن مشكلة الاستثمار السياحي في البحر الأحمر على نحو كبير وواسع في مناطق قابلة للتوتر، يتطلب جهوداً أمنيةً ضخمةً للمحافظة على مستوى عالٍ من الأمان والأمن. وما لم تكن البيئة المحيطة آمنة؛ فلن تنجح الاستثمارات ولن يضخ المستثمرون فيها كثيراً ولن يأتي السائحون. لذا فالهاجس الأمني يظل حاضراً، وإن العمل على تأطير وتحييد مسببات أي تهديد لا بد من القيام بها مبكراً.

ويبرز في الإطار ذاته، أهمية العمل على بناء استراتيجية إعلامية واتصالية لتغطية موضوع أمن البحر الأحمر، داخلية وخارجية، فالرسائل الداخلية تشرح للمواطنين ماذا يعني أمن البحر الأحمر لنا وماذا تعني الاستثمارات الضخمة السياحية السعودية المزمع إقامتها عليه؟ أما الخارجية فمن المهم أن تنسجم تلك الرسائل مع الدول الأخرى المتحالفة معنا في هذا الشأن وتحديداً مصر والأردن والسودان والحكومة الشرعية في اليمن ودول القرن الأفريقي؛ لإيضاح الأخطار التي يتعرض لها أمن هذه الدول من الفرقة والتناحر والتدخلات الدولية، كما تشمل الاستراتيجية في جانبها الاتصالي إقامة مؤتمرات وندوات وزيارات وفعاليات أخرى لرفع الوعي الشعبي العام حول هذه القضية المهمة لجميع الدول.

وإجمالاً، “تنفرد منطقة البحر الأحمر بجغرافيتها وتركيبتها، لكن مع ذلك حري بالحكومات التي تشكلها أن تستقي دروساً مستخلصة من تحالفات أخرى متعددة الأطراف تدير مسائل معقدة”.

  • التوصيات
  • التوسّع في التعاون العسكري البحري إلى مرحلة تسيير دوريات أمنيّة بحريّة مشتركة مع تسهيلات بحريّة في الموانئ.
  • القيام بمشاريع اقتصاديّة مشتركة في الموانئ وعلى سواحل وجزر البحر الأحمر؛ لترسيخ وجود المصالح المشتركة.
  • تفعيل مبادرة (الطاقة للدول الفقيرة) التي قدمتها المملكة لمنظمة الأوبك واعتمدتها المنظمة، وذلك للدول المستحقة على سواحل البحر الأحمر.
  • قيام التحالف باتفاقيات تعاون مع الدول الكبرى ذات المصالح الكبيرة والتجارة المهمّة التي تمر عبر البحر الأحمر مثل الصين والاتحاد الأوروبي.
  • التفاهم مع الدول المعنية بخصوص الهجرات غير الشرعيّة والمتسللين وأعمال القرصنة.
  • تفعيل ما تم البدء به من دراسات جيولوجية للاستفادة من الثروات المعدنية تحت البحر الأحمر.
  • إنشاء منطقة تجارة حرة بين دول المنطقة تتكامل مع منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى.
  • الاتفاق بين دول الحلف على إعطاء بعضها بعضاً أفضليّة الدولة الأولى بالرعاية في كل ما له شأن بالبحر الأحمر.
  • إجراء دراسة استشرافية شاملة تبرز أهمية استثمار الفرص والعمل على تجاوز التحديات أو التخفيف منها؛ لتعزيز وحماية الأمن الإقليمي والوطني لكل دولة، وفي إطار التحالف الاستراتيجي للدول المطلة على البحر الحمر وخليج عدن.
  • إنشاء مركز دراسات البحر الأحمر والقرن الأفريقي، بحيث يجمع بين التخصص والاستقلالية، وذلك لمواكبة الاهتمام السعودي بتفعيل دورها الاقتصادي والسياسي والأمني في البحر الأحمر.
  • تكثيف الدراسات في العلوم الاجتماعية والإنسانية حول البحر الأحمر، من حيث: التاريخ والسياسة والأمن والتسلح والبيئة والمجتمع والمستقبل، نظرًا لاستحواذ السعودية على أكبر مساحة فيه.
  • دعم الدراسات وأوراق السياسات حول إبراز هوية البحر الأحمر ورؤية تحالف الدول المطلة عليه، والمتاخمة للدول المطلة عليه، والسياسات الدولية المعنية بها.
  • إعداد مفهوم وبناء منظومة ذكاء اصطناعي لتوفير المعلومات لاتخاذ إجراءات مناسبة أمنية، اقتصادية، تجارية، حركة الملاحة وحالة المضائق والقنوات وسرعة تمرير المعلومات الآنية والفعالة بين الدول الأعضاء وغيرها من الدول خارج الكيان والمعنية بأمن وسلامة البحر الأحمر وخليج عدن.
  • بناء استراتيجية إعلامية واتصالية لتغطية موضوع أمن البحر الأحمر، داخلية وخارجية تشرح للسعوديين أهمية الاستثمارات الضخمة السياحية السعودية المزمع إقامتها عليه وأهمية أمن البحر الأحمر لجميع دوله.
  • إقامة مؤتمرات وندوات وزيارات وفعاليات أخرى؛ لرفع الوعي الشعبي العام في مختلف الدول بأهمية أمن واستقرار البحر الأحمر وفضح المؤامرات التي تحاك ضد دوله.
  • البدء في مشروع اقتصادي استراتيجي سعودي (يشابه في أسلوبه مبادرة الحزام والطريق الصينية) مع الدول المطلة على البحر الأحمر. خاصة الفقيرة منها، أو تلك التي يراد لها أن تبقى فقيرة ومتناحرة مع جيرانها، لضمان تشكيل التحالفات الاستراتيجية والتعاون الأمني مع تلك الدول.
  • أهمية التعاون والتنسيق مع المنظمة البحرية الدولية لتحقيق أهداف التحالف الوليد وتعزيز دوره الإقليمي والدولي.

  

  • المصادر والمراجع
  • زالك فيرتين: نحو منتدى للبحر الأحمر: الخليج العربي والقرن الإفريقي وهيكلة نظام إقليمي جديد، دراسة تحليلية صادرة عن مركز بروكنجز، الدوحة، العدد (27)، نوفمبر 2019م، ص ص 19- 22.
  • سمية عبدالقادر شيخ محمد شولي، موانئ القرن الأفريقي: ساحة جديدة للتنافس الدولي، نشرة تقارير، مركز الجزيرة للدراسات، 21 نوفمبر 2016.
  • جان لوك ماتينو: جيبوتي وخطورة صفقات القواعد العسكرية، ترجمة سيدي. م. ويدراوغو، 23 يناير 2019 موقع قراءات أفريقية على الموقع الإلكتروني:

https://www.qiraatafrican.com

  • سجل القرصنة الحوثية في البحر الأحمر، صحيفة الشرق الأوسط السعودية، الأربعاء 13 ذو القعدة 1439هـ/ 25 يوليو 2018
  • جزر المملكة العربية السعودية في البحر الأحمر والخليج العربي، هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، 2009م.
  • عبد السلام إبراهيم بغدادي: البعد الإيجابي في العلاقات العربية الأفريقية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ص 37، 133.
  • محمد صالح الحربي: كيان دول البحر الأحمر وخليج عدن.. الرؤية المستقبلية بين الحلم والإنجاز، 2019، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://makkahnewspaper.com/article/1101298

  • ضياء الدين سعيد بامخرمة: الأسباب الحيوية لتكامل دول البحر الأحمر وخليج عدن، 2020، متاح على الموقع الإلكتروني: https://www.alarabiya.net
  • ملخص تعزيز التبادل التجار بين الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، مركز البحوث والدراسات، غرفة جدة، 2019م.
  • أيمن سمير: تجمُّع البحر الأحمر مكاسب للجميع، 2020، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://www.albayan.ae/opinions/articles/2020-01-17-1.3754121

  • أشرف العيسوي: مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن الفرص والتحديات، 2020، متاح على الرابط الإلكتروني: https://trendsresearch.org
  • حمدي عبدالرحمن: تحالف البحر الأحمر وإحياء مفهوم “الأفرابيا”، 2020، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/5195

  • خالد إبراهيم الحجي: إقليم البحر الأحمر وخليج عدن، 2018، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://www.al-jazirah.com/2018/20181226/du6.htm

  • توصياتالمؤتمر السادس لآثار وتراث البحر الأحمر: دروس الماضي وآفاق الحاضر والمستقبل، المملكة العربية السعودية، الفترة من 5-9/5/1434هـ.
  • الأهمية الجيوبوليتيكية والجيوستراتيجية للبحر الأحمر، متاح على الرابط الإلكتروني:

http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia2/QrsnaBhria/sec06.doc_cvt.htm

  • المشاركون.
  • الورقة الرئيسة والمعقبون: د. عبدالرحمن الشقير، أ. د. جلال الدين محمد صالح، د. فواز كاسب العنزي
  • إدارة الحوار: اللواء. فاضل القرني
  • المشاركون بالحوار والمناقشة:
  • د. محمد الثقفي.
  • أ. محمد الدندني.
  • د. خالد الدريعان
  • د. وفاء طيبة.
  • د. هناء المسلط.
  • د. فايزة الحربي.
  • د. زياد الدريس.
  • أ. أسامة الكردي.
  • د. حمد البريثين.
  • د. علي الطخيس.
  • د. عبدالإله الصالح.
  • د. مساعد المحيا.
  • د. رياض نجم.
  • أ. عبدالرحمن الهدلق.
  • د. حامد ابو ورده الشراري.
  • د. حميد الشايجي.
  • أ. عبدالرحمن باسلم.
  • أ. سالم المري.
  • د. سعيد الغامدي.
  • د. عبدالرحمن العريني
  • د. خالد المنصور.

 

القضية الثانية

تدفق الأعراق المختلفة في المدن وتحدياته الماثلة على المستوى السياسي والاجتماعي والديموغرافي

(22/12/2021م)

  • الملخص التنفيذي.
  • الورقة الرئيسة: أ. علاء الدين براده
  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: د. عبدالرحمن الصايل (ضيف الملتقى)[10]
  • التعقيب الثاني: أ. أمين نائب الحرم (ضيف الملتقى)[11]
  • التعقيب الثالث: أ. ماهر الشويعر (ضيف الملتقى)[12]
  • إدارة الحوار: د. سعود كاتب
  • المداخلات حول القضية
  • لمحة تاريخية.
  • التدفق العرقي والقوة الناعمة للمدن.
  • التحديات المرتبطة بالتدفق العرقي في المدن.
  • الآليات الملائمة للتعامل مع إشكالات التدفق العرقي بالمدن.
  • التوصيات
  • المصادر والمراجع
  • المشاركون

 

  • الملخص التنفيذي.

تناولت هذه القضية تدفق الأعراق المختلفة في المدن وتحدياته الماثلة على المستوى السياسي والاجتماعي والديموغرافي. وأشار أ. علاء الدين براده في الورقة الرئيسة إلى أنه لسنوات طويلة كان استقطاب الكفاءات مطلباً ضرورياً للنهوض بالصناعة على كافة المستويات، ودعم عجلة الاقتصاد من خلال توفير الخبرات البشرية اللازمة والقادرة على بناء منظومة معرفية ترتكز على أسس اقتصادية واجتماعية متينة. اللافت في الأمر هو أن المتمعن في التجربة يمكن أن يلحظ أن الكثير من أصحاب المعرفة الذين عاشوا بيننا لسنوات طويلة، تركوا بصمة واضحة سواء في القطاعات التي انضموا للعمل بها، أو المجتمع المحيط بهم، وأسلوب الحياة الذي بدأ يطرأ على كل مدينة. والمؤكد أن التبعات المرتبطة بهذا الجانب لا يمكن بحال من الأحوال إغفالها، ومن أبرز التحديات التي يمكن التطرق إليها تَطبُّع المدن بصبغة جديدة نتيجة التنوع العرقي؛ مما يخلق صورة غير مرتبطة بهويتها التاريخية، والتعرض لأنماط دخيلة في أسلوب الحياة بعضها قد لا يتناسب مع طبيعة المنطقة المكانية وإرثها، وعدم الاستفادة بالشكل المطلوب من المزيج المعرفي الذي تَشكَّل عبر سنوات طويلة، فضلاً عن المصادر الطبيعية التي تزخر بها هذه الأرض، وتُشكِّل هذه المصاعب مجتمعة تحدياً من نوع جديد في تصدير الثقافة المحلية، والهوية المطلوبة لكل مدينة.

بينما أكَّد د. عبدالرحمن الصايل في التعقيب الأول على أن عدد المدن التي يمكن وصفها بأنها فائقة التنوع “superdiverse cities” تضاعف بشكل ملحوظ؛ أي أن أكثر من نصف السكان لديهم مجموعة متعددة من الخلفيات، والتوجهات الثقافية، والمواقف الاجتماعية، والاقتصادية. وفي المدن شديدة التنوع، أصبح من الصعب التمييز بين الأقليات الموجودة، حيث أصبحت الهويات الفردية هي الاستثناء وليس القاعدة. وتُبنى سياسات الاستيعاب على الاعتقاد بأن الاستيعاب يُحسِّن العلاقات بين الأعراق من خلال تبسيطها، حيث تتخذ المجموعات العرقية هوية المجموعة المهيمنة وتذوب فيها، ويبقى التحدي الصعب على عاتق المدن السعودية في كيفية تحقيق مزايا التنوع والتعددية الثقافية وفي نفس الوقت تعزيز الهوية المحلية وأصالة المدينة.

في حين يرى أ. أمين نائب الحرم في التعقيب الثاني أن دخول الأعراق المختلفة لجميع المدن مطلب وضرورة لتطوير المجتمعات وإثراء الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية. صحيح بأن بعض هذه الثقافات والأنماط ليس جميعاً إيجابياً؛ ولكن أصبح المجتمع السعودي قادراً على التميز بين الضار، فينبذه أو يرفضه واستيعاب الإيجابيات الأخرى.

وأشار أ. ماهر الشويعر في التعقيب الثالث إلى أنه من الناحية الاجتماعية فإن كثرة اختلاف الأعراق على مستوى المدن أو الأحياء في المدن يزيد من نسبة الجريمة في المجتمع نتيجة لاختلاف الثقافات والقيم. ومن ناحية أخرى سهولة ذوبان الأعراق في ثقافة المجتمع المحيط بها.

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • لمحة تاريخية.
  • التدفق العرقي والقوة الناعمة للمدن.
  • التحديات المرتبطة بالتدفق العرقي في المدن.
  • الآليات الملائمة للتعامل مع إشكالات التدفق العرقي بالمدن.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • وضع إطار محدد للاستفادة من الخبرات المستقطبة في كل مدينة بما يخدم التوطين والهوية ويساهم في الحفاظ على الموروث.
  • تشجيع أبناء كل منطقة على المشاركة في تحديد السمة الطاغية على الهوية، ووضع المؤشرات لقياس أثر هذه الظاهرة، مع التوصية بشكل دوري حيال كل طارئ يمكن أن يدق ناقوس الخطر.
  • تضمين استراتيجيات المدن والمناطق كل ما يتعلق بالتنوع العرقي في هذه المدينة، وكذلك إنشاء مكاتب استراتيجية لبعض المدن التي لا يوجد فيها هيئات تطوير.
  • الالتزام بحصة ثابتة للجنسيات المتواجدة في المملكة؛ كي لا تطغى جنسية معينة على البقية، وتكون الحصة المخصصة للجميع متناسبة مع عدد السكان الأصليين.
  • فتح باب الهجرة من أهل الاختصاص ومن تحتاجهم المملكة ضمن شروط مبينة وواضحة ومصداقية، وتكون أيضاً ضمن حصة سنوية لا يمكن تجاوزها.

 

  • الورقة الرئيسة: أ. علاء الدين براده
  • ارتباط التنوع العرقي بالمدن في مملكتنا:

ما أن تسمع بالأخبار الإيجابية في مملكتنا من إقرار آلية تجنيس أصحاب الكفاءات، والمميزين في شتى القطاعات، حتى تتبادر إلى ذهنك مسألة رديفة لها، وهي متعلقة بعنوان هذه الورقة (تدفق الأعراق المختلفة في المدن وتحدياته الماثلة على المستوى السياسي والاجتماعي والديموغرافي).

لسنوات طويلة كان استقطاب الكفاءات مطلباً ضرورياً للنهوض بالصناعة على كافة المستويات، ودعم عجلة الاقتصاد من خلال توفير الخبرات البشرية اللازمة والقادرة على بناء منظومة معرفية ترتكز على أسس اقتصادية واجتماعية متينة.

اللافت في الأمر هو أن المتمعن في التجربة يمكن أن يلحظ أن الكثير من أصحاب المعرفة الذين عاشوا بيننا لسنوات طويلة، تركوا بصمة واضحة سواء في القطاعات التي انضموا للعمل بها، أو المجتمع المحيط بهم، وأسلوب الحياة الذي بدأ يطرأ على كل مدينة. على سبيل المثال سيمكنك بكل بساطة ملاحظة درجة التزام أعلى من غيرها بقواعد السلامة المرورية، وأحقية السير، في بعض المدن دون غيرها. وبالتأكيد فإن سياسات وإجراءات العمل التي ساهم الأشقاء ممن تمت الاستفادة من خبراتهم في تلك السنوات في وضع أسسها لعبت دوراً كبيراً في هذا الصدد.

وطالما أننا اتجهنا لهذا المثال تحديداً، وبدأنا بالحديث عن جانب مهم وهو السلامة المرورية، فدعنا ننظر لأهمية هذا الأمر على المستوى الوطني، حيث يكفي أن نحاول فقط المقارنة بين نسب الحوادث في تلك المدن بغيرها من المناطق في المملكة ونكتشف أهمية العمل المبذول.

وهنا نتوقف قليلاً لنشير بأن التبعات المرتبطة بهذا الجانب لا يمكن بحال من الأحوال إغفالها. انظر مثلاً إلى ما يترتب على تلك الحوادث من إصابات وبالتالي نسبة شغل الأَسِرَّة في المراكز الصحية، ثم الوقت الذي يقضيه الأطباء في متابعة الحالات الحرجة التي يتم علاجها. حتى المنحى الاقتصادي لا يمكن أن نغفله إن تابعنا عدد المركبات التالفة بسبب الحوادث. فهذا الأمر تحديداً كان له انعكاساته بعد ذلك على متوسط عمر الفرد في تلك المدن الذي يتأثر بنمط الحياة وأسلوب المعيشة وهو ما يعني الارتباط أيضاً بجودة الحياة في المدينة بشكل عام.

دعنا الآن نحاول أن نلقي بنظرة شمولية بعض الشيء لنقرأ العلاقة الطردية بين أسلوب الجذب في بعض المدن، وتزايد معدلات الهجرة الداخلية بين المدن من قبل المواطنين أنفسهم. لقد نتج عن تلك الهجرة تركيز في تقديم الخدمات بمناطق دون غيرها، ولقد شكل ازدهار الصناعة النفطية في سنوات مضت دافعاً للكثير من المواطنين للانتقال للعيش في مناطق تلك الصناعة شرق البلاد.

وقد بات الإقبال على تخصصات جامعية في تلك المناطق من قبل الطلاب واضحاً؛ ولأن هذا الانتقال كان بهدف التعليم ارتبط بفئة عمرية محددة، فقط أصبح من الواضح للزائر تزايد أعداد الشباب في تلك المدينة الجديدة نسبياً، والذين لهم نمط حياة ذو سمات محددة، وفي مرحلة تالية أصبحنا نلاحظ محاولات الآباء لإقناع الجيل التالي بأن المستقبل الباهر سيكون حليفهم في حال الانتقال واتخاذ قرار الدراسة الجامعية في مجالات دون غيرها.  ومع أن بعض الأبناء يحملون مواهب علمية في مجالات محددة، لكنك أصبحت تجدهم وتحت ضغط الآباء يحاولون توجيه عاطفتهم للإقبال نحو تخصصات أخرى.

على الطرف الآخر فقد كان الكادر التعليمي الذي ساهم لسنوات طويلة في نقل المعرفة لأبنائنا يُمثِّل أساساً للنهضة المعرفية في البلاد، لكن نستطيع أن نقول هنا بأن انتماءهم لبعض الدول دون غيرها ربما كان سبباً في ترسيخ مفاهيم علمية تتناسب وثقافة تلك الدول وعاداتها. ثمة ملاحظة أخرى نجد من المهم التطرق لها هنا، ألا وهي الاهتمام المتزايد لاختيار معلمي اللغات المختلفة، بحيث ينتمون لدول تتحدث تلك اللغة باعتبارها لغة رسمية، فأخذ التنوع العرقي يتوسع في البلاد مع توافد معلمين من جنسيات مختلفة، فحفَّزَ هذا الأمر المعاهد التعليمية على التوسع في تقديم برامجها لتطوير مخرجات تناسب احتياجات الفئات في المراحل المختلفة، وتم تصميم هذه البرامج ليس فقط لتطوير اللغة والمفردات التي يتداولها طلابنا في المدارس، لكن أيضاً لتنمية ثقافتهم المعرفية عن  الدول والشعوب من خلال الاحتكاك بمعلميهم. ولاحظنا مؤخراً أن المسألة أخذت بعداً آخر في بعض المناطق حين توجه اهتمام كثير من العائلات بأن يكون الأبناء في مدارس عالمية تحمل سمات من نوع خاص ولها هوية جديدة. وأصبح البعض يتخوف بشكل جوهري من الانسلاخ من هويتنا العربية مع تتابع الأجيال، ملقين باللوم في ذلك على التنوع العرقي وتبعاته.

في مقابل كل ذلك، فنحن نعلم أن الدولة تلعب دوراً محورياً في دعم قطاع التعليم بكل المناطق دون استثناء، وهو أمر مشاهد من خلال استحداث جامعات جديدة في كل منطقة من مناطق المملكة. وإن كنا في ذات الوقت نتابع ما يتحدث عنه البعض من جودة المخرجات التعليمية في مناطق دون غيرها.

بشكل عام فإن أسلوب الحياة في كل منطقة تحكمه ثقافة عامة، وأسلوب حياة تَرسَّخ على مدى السنوات، وهذا يعني أننا لا نرجو أن يكون لدينا مدن مستنسخة، والطبيعة الجغرافية لكل منطقة أيضاً تلعب دوراً في نوع الاستثمار وطبيعته، وهذا التنوع مرغوب بطبيعة الحال؛ لأنه يخدم مداخيل الاقتصاد الوطني.

يجب ألا نغفل أن بعض المدن اصطبغت بطابع محدد تحكمه في بعض الأحيان الطبيعة الدينية، وفي أحيان أخرى طبيعته الجغرافية، وتارة ثالثة الصناعة والحرف. وهذه الطبيعة كانت تحكم نوع الاستثمار في المنطقة، فعلى سبيل المثال كان التركيز الأمني مطلباً جوهرياً في المدن الدينية بحكم تهافت المسلمين عليها من أقطاب الأرض، وقد أساءت بعض الفئات العرقية رحابة الاستقبال في المملكة العربية السعودية؛ فبات البعض يتخلف عن العودة إلى وطنه بدعوى الحياة الكريمة لأبنائهم، لكن كانت النتيجة نشوء مناطق وأحياء في بعض المدن لأعراق مختلفة، شوَّهَت في بعض الأحيان من شكل المدينة.

اليوم يجب أن نأخذ بالحسبان التوجه الذي تقوم به الدولة للانفتاح على السياحة الخارجية والآخر.

حيث نسعى لإرسال رسائل إلى الأجيال الجديدة بأن مدناً مثل نيوم تنتظر خبراتهم، وعلينا أن نُعزِّز من هذه الرغبة في الانتقال والعيش بهذه المدن الجديدة. صحيح أننا يجب أن نصنع المستقبل بأسلوب جديد، لكن الاستفادة من التجارب الماضية مهم أيضاً وهو أمر لا ينبغي أن نغفله.

  • ما الذي يمنح المدينة هويتها؟

سؤال‌ ‌يدور‌ ‌من‌ ‌فترة‌ ‌لأخرى‌ ‌في‌ ‌أروقة‌ ‌الكثير‌ ‌من‌ ‌الهيئات ‌والمنظمات.‌ ‌كيف‌ ‌يمكن‌ أن ‌يتم‌ ‌تعريف‌ ‌المدينة‌ ‌التي‌ ‌تعيش‌ ‌فيها؟‌ أو ‌لنقل‌ ‌ما‌ ‌الذي‌ ‌يعطي‌ ‌المدينة‌ ‌هويتها،‌ ‌ويمنحها‌ ‌الروح‌ ‌التي‌ ‌يعيشها‌ ‌السكان؟‌ ‌وحتى‌ ‌نكون‌ ‌عمليين‌ ‌بشكل‌ ‌أكبر‌ ‌دعونا‌ ‌نأخذ‌ ‌هذا‌ ‌السؤال‌ ‌من‌ ‌وجهة‌ ‌نظر‌ مسؤولي‌ ‌مدينة‌ ‌”دينفر”،‌ السؤال‌ ‌رغم‌ ‌بساطته‌ ‌لكنه‌ ‌يحمل‌ ‌الكثير‌ ‌من‌ ‌الأبعاد،‌ ‌ولذلك‌ ‌فقد‌ ‌استمر‌ ‌قادة‌ ‌التنمية‌ ‌الاقتصادية‌ ‌في‌ ‌المدينة‌ ‌قرابة‌ ‌العامين‌ ‌يحاولون‌ ‌الوصول‌ ‌إلى‌ ‌إجابته‌ ‌مع‌ ‌محاولة‌ ‌التفكير‌ ‌بأسلوب‌ ‌مختلف.‌ ‌تم‌ ‌تحليل‌ ‌نتائج‌ ‌استبانات‌ ‌عدد‌ ‌كبير‌ ‌من‌ ‌الموظفين‌ ‌في‌ ‌المنطقة‌ ‌المركزية‌ ‌من‌ ‌المدينة،‌ ‌ومحاولة‌ ‌الإجابة‌ ‌على‌ ‌سؤال‌ ‌كيف‌ ‌يمكن‌ ‌جعل‌ ‌الشركات‌ ‌الموجودة‌ ‌قابلة‌ ‌للبقاء‌ ‌والنمو،‌ ‌ومراعاة‌ ‌كثير‌ ‌من‌ ‌العوامل‌ ‌كالسكن‌ ‌للموظفين‌ ‌الجدد‌ ‌وغيرها؟ ‌كان‌ ‌الهدف‌ ‌من‌ ‌الاستبيان‌ ‌التعرف‌ ‌بشكل‌ ‌أكبر‌ ‌على‌ ‌شخصية‌ ‌الإنسان‌ ‌القاطن‌ ‌في‌ ‌تلك‌ ‌المنطقة.‌

لم‌ ‌يغب‌ ‌عن‌ ‌الأذهان‌ ‌عند‌ ‌اختيار‌ ‌الشعار‌ ‌العوامل‌ ‌الطبيعية‌ ‌للمدينة‌ ‌كعامل‌ ‌أساس‌ ‌فكان‌ ‌اختيار Effect) ‌ ‌ (‌The‌ ‌Elevation‌‏أو إنْ ‌صحت‌ ‌الترجمة‌ ‌إلى‌ ‌اللغة‌ ‌العربية‌ (تأثير‌ ‌الارتقاء).‌ ‌الشعار‌ ‌الذي‌ ‌تشعر‌ ‌أنه‌ ‌يمزج‌ ‌بين‌ ‌عوامل‌ ‌الجذب‌ ‌الطبيعية‌ ‌للمنطقة‌ ‌بجبالها‌ ‌ومنتفعاتها،‌ ‌يحرك‌ ‌المشاعر‌ ‌تجاه‌ ‌مزيد‌ ‌من‌ ‌العمل‌ ‌الجماعي‌ ‌للارتقاء‌ ‌بالمنطقة‌ ‌المركزية.

إلى‌ ‌هنا‌ ‌يعتبر‌ ‌الأمر‌ ‌جميل‌ ‌وجذاب‌ ‌لكننا‌ ‌أيضاً،‌ ‌وبالرغم‌ ‌من‌ ‌هذه‌ ‌التفاصيل‌ ‌الجميلة‌ ‌لم‌ ‌نصل‌ ‌إلى‌ ‌الإجابة‌ ‌الشافية‌ ‌على‌ ‌السؤال‌ ‌الذي‌ ‌بدأنا‌ ‌به‌ ‌نقاشنا.‌ ‌صحيح‌ ‌أننا‌ ‌لامسنا‌ ‌جوانب‌ ‌دقيقة‌ ‌في‌ ‌تفاصيل‌ ‌هذه‌ ‌المدينة‌ ‌لنخرج‌ ‌بمثل‌ ‌هذا‌ ‌الشعار،‌ ‌لكن‌ ‌يبقى‌ ‌أهم‌ ‌محور‌ ‌يجب‌ ‌الالتفات‌ ‌إليه‌ ‌هنا‌ ‌وهو‌ ‌الإنسان.‌ ‌

بطبيعة‌ ‌الحال‌ ‌كان‌ ‌سبيل‌ ‌الوصول‌ ‌للخلطة‌ ‌السرية‌ ‌قد‌ ‌بدأ‌ ‌من‌ ‌خلال‌ ‌المعلومات‌ ‌الأولية‌ ‌لاقتصاد‌ ‌المنطقة‌ ‌والطبيعة‌ ‌التعليمية،‌ ‌حتى‌ ‌جاء‌ ‌الجانب‌ ‌الأهم‌ ‌وهو‌ أن ‌موظفي‌ ‌المنطقة‌ ‌بطبيعتهم‌ ‌متعاونون‌ ‌وداعمون‌ ‌لبعضهم،‌ ‌فظهر‌ ‌الربط‌ ‌بين‌ ‌الشعار‌ ‌والشخصية‌ ‌والمنطقة‌ ‌بشكل‌ ‌عام. ‌‌‌والحقيقة‌ أن ‌مثل‌ ‌هذه‌ ‌الحالة‌ ‌في‌ ‌محاولة‌ ‌صنع‌ ‌هوية‌ ‌تدفعنا للسؤال الجوهري وهو: ما‌ ‌يمكن‌ أن ‌يتبادر‌ ‌إلى‌ ‌ذهنك‌ ‌بمجرد‌ ‌ذكر‌ ‌اسم‌ ‌أي‌ ‌مدينة‌؟‌ ‌هل‌ ‌هي‌ ‌الأبنية‌ ‌الشاهقة‌ ‌والعمران‌ أو ‌الأشخاص‌ ‌الذين‌ ‌يقطنونها،‌ أو ‌أنها‌ ‌مزيج‌ ‌بين‌ ‌هذه‌ ‌وتلك؟‌ ‌ ‌

في‌ ‌اعتقادي‌ ‌الشخصي‌ أن ‌المسألة‌ ‌ربما‌ ‌تكون‌ ‌أعمق‌ ‌من‌ ‌ذلك‌ ‌أيضاً،‌ ‌عندما‌ ‌تمعن‌ ‌النظر‌ ‌في‌ ‌كل‌ ‌ما‌ ‌حولك‌ ‌بالمدينة‌ ‌ستكتشف‌ ‌أنها‌ ‌بالأساس‌ ‌يتم‌ ‌تصميمها‌ ‌لتتناسب‌ ‌والظروف‌ ‌الطبيعية،‌ ‌وأسلوب‌ ‌حياة‌ ‌البشر‌ ‌فيها‌ ‌لتكون‌ ‌أكثر‌ ‌قابلية‌ ‌للسكن.‌ ‌ومع‌ ‌كل‌ ‌ذلك‌ ‌إلا‌ ‌أنني‌ ‌أعلم‌ ‌جيداً‌ أن ‌كثيراً‌ ‌من‌ ‌المدن‌ ‌ارتبطت‌ ‌في‌ ‌هويتها‌ ‌بأحداث‌ أو ‌تواريخ‌ ‌لا‌ ‌يمكن‌ أن ‌تغيب‌ ‌من‌ ‌الذاكرة.‌ ‌وتبقى‌ ‌هذه‌ ‌أطروحات‌ ‌عامة‌ ‌للأسس‌ ‌العريضة‌؛ ‌لأننا‌ ‌نعلم‌ أن ‌‌بناء‌ ‌هوية‌ ‌مكتملة‌ ‌الأركان‌ ‌لن‌ ‌يمكن‌ أن ‌ينتج‌ ‌إلا‌ ‌من‌ ‌خلال‌ ‌دراسة‌ ‌العمق‌ ‌الإنساني‌ ‌والجغرافي‌ ‌والتاريخي‌ ‌بشكل‌ ‌تفصيلي.‌

  • نموذج محلي لأنسنة المدن:

وأنت تتابع الفيلم القصير الذي أعدته هيئة تطوير منطقة المدينة حول الجهود المبذولة في سعيها لأنسنة المدينة بالتعاون مع الأمانة، فإن الفضول سيتملكك بكل تأكيد للاطلاع على النتائج الاقتصادية المثيرة التي يفترض أن تتحقق كنتيجة لهذا الجهد المميز. فعوامل الجذب التي تعمل على أن تكون المدن أكثر قابلية للعيش وتحقق الخدمات على النحو الأفضل لسكانها، لا بد وأنها ستجعل من المنطقة محط أنظار السياح، لا سيما وأنها تتسم بطابع يضفي عليها لمسة خاصة تميزها دون غيرها.

الجميل في استحضار مثل هذه التجارب المحلية هو أنها تترك جواً من التفاؤل بأننا قادرون على صناعة نماذج يحتذي بها الآخرون عندما يتعلق الأمر بالإنسان وجودة الحياة في البيئة المحيطة به، وأبسط المحاسن التي ستتبادر إلى أذهاننا بوصفنا مهتمين بجوانب الأداء، قد تكون زيادة معدلات إنتاجية الفرد كنتيجة للعوامل النفسية الجيدة التي تأتي بطبيعة الحال مع انخفاض درجة التشتت.

أن تبث روح الجمال داخل مدينتك من خلال ملتقيات تجمع أمهر النحاتين ليطلقوا طاقاتهم، ويفتحوا آفاق الخيال في مسعى لربط أحياء هذه المدينة بالجمال، فأنت تضيف سمة تمزج بين الطابع التاريخي والجمال. وهذا بالتأكيد ليس بالحدث العادي.

ويمكن أن نقول بأنه ومن خلال مثل هذه الفعاليات فقد بدأت الأحياء التي كانت تُوصَف سابقاً بكونها عشوائية، تتحول إلى مركز الحدث بما تملكه من نسيج اجتماعي، وإرث التاريخي. لقد كان من الطبيعي -وهذه هي الحال- أن يكون لها الحظ الأكبر في تعزيز هوية المكان، فالمنطقة مرتبطة في ذاكرة التاريخ بكثير من الأحداث.

ومع كل ذلك فنحن نعلم أن التركيز على المعالم الجمالية لا يكفي وحده دون اهتمام بتفاصيل الخدمات المقدمة لزوار أي مدينة. لذلك لا نتعجب إذا ما طالعنا موقع الهيئة لنجد مشروعاً معنياً بإيجاد معلم حضاري ذي هوية تُعبِّر عن المكانة التاريخية، ويركز على توفير الخدمات المميزة للزوار. وهنا لا بد أن نعلم أن أحد عناصر الرؤية المستقبلية للتطوير الشامل للمدينة تتمثل في توفير الخدمات سواء كان ذلك للسكان أو الزوار.

  • المدينة الصحية:

دعونا نبسط الأمور ونسأل أنفسنا: ماذا نحتاج بشكل عام كسكان لنقول بأننا نعيش في مدينة صحية؟ في الغالب فإن الإجابات وإن اختلفت صيغتها، لكنها تصب في اتجاه واحد يعمل على أن تكون المدينة أكثر ازدهاراً. في مقطع مصور لسكان أحد المدن الذين طُرِح عليهم السؤال عن رؤيتهم للمدينة الصحية، تنوعت الإجابات بين من يراها مدينة تُرحِّب بالجميع، وبين من يعتقد أنها مدينة تُركِّز على رفع معدلات صحة الإنسان بما فيها الصحة النفسية؛ لكن ما يجب أن يدركه البعض هنا هو أن الصحة لا تعني فقط صحتنا كبشر، بل هي تشير أيضاً إلى صحة المكان وكذلك البيئة المحيطة.

وهنا يجب أن أشير إلى اعتماد مدينة الطائف السعودية من قبل منظمة الصحة العالمية كمدينة صحية، وذلك بعد العمل على تطبيق المعايير الفنية للمنظمة بهذا الصدد. ومن الجميل أن يكون لدينا مدن نموذجية صحية، يُستشهَد بها في المحافل، وتتحول إلى أنموذج يُحتذَى به عالمياً من قبل المدن التي تسعى لنيل هذا الاستحقاق. أضف إلى ذلك فإن تصنيف مدينة الطائف، واعتمادها كمدينة صحية من قبل المنظمة يدعونا للتفاؤل بأن مزيداً من المدن السعودية تسير على نفس الركب.

وبحسب موقع منظمة الصحة العالمية؛ فإن تعريف المدينة الصحية يعني أنها مدينة تعمل باستمرار على إنشاء وتحسين البيئات المادية والاجتماعية وتوسيع موارد المجتمع التي تُمكِّن الناس من دعم بعضهم في أداء جميع وظائف الحياة وتطوير إمكاناتهم القصوى، ولأن هذا التعريف يحمل أكثر من بعد، ويلامس جوانب مختلفة للحياة، فيجب ألا ننسى أيضاً أن هذا الاعتماد لا يعني نهاية المطاف بل هو البداية فقط.

نقول ذلك ونحن نعلم أن المدن التي تنال هذا الاعتماد يتوجب عليها الحفاظ على نفس درجة الأداء، لأن عملية المراجعة من قبل المنظمة تتم بشكل دوري. وحتى يمكنك أن تتصور شمولية هذا الجهد، فلك أن تتخيل أن بعض المدن وَضَعَت ضمن أهدافها في هذا المسعى، أن يكون جميع سكانها قادرين على التعلم المستمر من خلال توفير وتسهيل الوصول إلى هذه المصادر للجميع.

  • الصناعة:

لسنوات طويلة عبر التاريخ، كانت جغرافيا المكان وطبيعة الأرض هي الدافع لاستيطان كثير من المدن، فمصادر المياه ووفرة الغذاء بالإضافة إلى الطقس كانت على رأس قائمة هذه الدوافع، تلت ذلك خلال القرن الماضي الثورة الصناعية التي لعبت دوراً كبيراً في خلق مراكز صناعية تَشكَّلت حولها تجمعات بشرية، وتكوَّنت على إثرها بعض المدن. وهذا هو أحد تفسيرات تزايد المعدلات السكانية في المدن الذي أخذ بالارتفاع بشكل لافت بالتوازي مع ارتفاع درجة الهجرة إلى المدن الكبرى. وعندما نتحدث عن تلك الحقبة الصناعية فيمكن أن نستحضر مدينة مثل ديترويت التي أخذت حظها من الازدهار في فترة من الفترات، ساهم في ذلك سهولة المواصلات والدعم اللوجستي، مما وضع لها مكانة على خارطة الصناعة العالمية.

واليوم ومع تطور التقنيات الحديثة أصبح من المهم أن نطلق العنان لمخيلتنا حتى نبدع في تشكيل مدننا الجديدة، مع ترك بصمة جاذبة لها. فلا نتخيل مثلاً أن تكون مسارات المركبات في الشوارع غير مهيأة لمركبات ذاتية القيادة ونحن على أعتاب تغير جوهري في هذه الصناعة.

كذلك يجب ألا نغفل عن كون السلوك البشري يلعب دوراً محورياً في تشكيل العلاقة بين جميع الأطراف داخل أي مدينة، وهو سلوك لا ينشأ من فراغ؛ ولكنه نتاج طبيعي لتفاعلنا مع كل شيء حولنا، لذلك كان لزاماً أن تكون هناك ضوابط وسياسات لأي مخططات، واللافت هنا هو أن الجميع يتفق على أهمية سهولة الحياة في أي من هذه المخططات. وهذا الأمر هو ذاته الذي يدفعنا لطرح تساؤل مهم حول السبب الذي يجعل بعض المدن جاذبة دون غيرها؟ ولماذا تتملك بعض المدن حول العالم ألباب سكانها وتستهويهم دون غيرها؟

  • طابع المدينة:

مدينة كمدينة الجبيل أو ينبع يندر أن تجد شخصاً من الجيل الحالي إلا وترتبط في ذهنه بكونها مدن صناعية ذات طابع عالمي، وهذا بالطبع لم يكن هو الحال قبل عقود قليلة فقط.

لسنوات طويلة تعلقت في أذهان كثير من العائلات هوية مدينة كمدينة الظهران بالتعليم المتميز في الحقل الهندسي، فأصبحت الرسالة التي توجه للابن بمجرد التخرج هي السعي للحصول على القبول في كليات المنطقة، مما يسهل أيضاً من فرص الحصول على وظيفة هندسية جيدة بعد التخرج في قطاع النفط والغاز، أو شركات البتروكيماويات المنتشرة في المنطقة. هذا التحول الديموغرافي الذي تَشكَّل على مدى سنوات أسهم في خلق مجتمع متوافق، ويحمل كثيراً من العادات المتشابهة في المجمل، وهو ما ساعد بعد ذلك في سهولة تحديد عناصر الجذب لقاصدي المدينة.

ومع كل ذلك يبقى من المهم الحذر من الوقوع في بعض الهفوات مع الانغماس في عملية بناء هوية هذه المدن، حتى لا تكون مجرد نسخ مكررة من غيرها، فتحدث المعضلة عندما تصل الرسالة إلى الجمهور بشكل مشتت. الأمر الآخر المهم هنا هو أن أي مدينة، وإن كانت تحمل صبغة محددة، إلا أنها يجب أن تعمل على خدمة جميع قاطنيها، فلا يحدث الشعور بالإقصاء لبعض الفئات التي ينتابها شعور بأنها غير مندمجة مع النسق العام لهذه البيئة.

وحتى لا نبتعد كثيراً، ونتشعب في الحديث، دعونا نحاول أن نلقي مزيداً من الضوء على شكل المدينة التي نتخيلها خلال عقد من الزمان، بما يحقق عوامل جودة الحياة، ويخدم المردود الاقتصادي لمدينة.

ويجب أن يكون ذلك بمراعاة الجهود المبذولة من قبل عدد من الجهات كوزارة السياحة ووزارة الاستثمار لتصل الرسالة موحدة للعالم بأننا نملك مراكز قوة في هذه الصناعة تسهم بعمليات الجذب والارتقاء بتصنيف المدن السعودية على الخارطة العالمية، وعلينا أن ندرك جيداً أن هذه الهوية هي ليست فقط مجموعة من الألوان التي تميل لها الأنفس وتبتهج، بل هي ركيزة أساسية لاقتصاد نعيشه، ونطمح لتحسينه بشكل مستمر.

  • التحديات:
    • انطباع المدن بصبغة جديدة نتيجة التنوع العرقي، مما يخلق صورة غير مرتبطة بهويتها التاريخية.
    • التعرض لأنماط دخيلة في أسلوب الحياة بعضها قد لا يتناسب مع طبيعة المنطقة المكانية وإرثها.
    • عدم الاستفادة بالشكل المطلوب من المزيج المعرفي الذي تشكل عبر سنوات طويلة، فضلاً عن المصادر الطبيعية التي تزخر بها هذه الأرض.
    • تُشكِّل هذه المصاعب مجتمعة تحدياً من نوع جديد في تصدير الثقافة المحلية، والهوية المطلوبة لكل مدينة.
  • التوصيات:
    • وضع إطار محدد للاستفادة من الخبرات المستقطبة في كل مدينة بما يخدم التوطين والهوية ويساهم في الحفاظ على الموروث.
    • حيث إن هوية كل مدينة تبقى مسؤولية كل من ينتمي إليها، فلا بد من تشجيع أبناء كل منطقة على المشاركة في تحديد السمة الطاغية على الهوية، ووضع المؤشرات لقياس أثر هذه الظاهرة، مع التوصية بشكل دوري حيال كل طارئ يمكن أن يدق ناقوس الخطر.
    • تضمين استراتيجيات المدن والمناطق كل ما يتعلق بالتنوع العرقي في هذه المدينة، وكذلك إنشاء مكاتب استراتيجية لبعض المدن التي لا يوجد فيها هيئات تطوير.
  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: د. عبدالرحمن الصايل

تضاعف بشكل ملحوظ عدد المدن التي يمكن وصفها بأنها فائقة التنوع “superdiverse cities”، أي أن أكثر من نصف السكان لديهم مجموعة متعددة من الخلفيات، والتوجهات الثقافية، والمواقف الاجتماعية، والاقتصادية. وفي المدن شديدة التنوع، أصبح من الصعب التمييز بين الأقليات الموجودة، حيث أصبحت الهويات الفردية هي الاستثناء وليس القاعدة، كما يمكننا أيضاً وصف عدد كبير من المدن شديدة التنوع بأنها مدن ذات أغلبية من الأقليات حيث يكون لغالبية السكان خلفية مختلفة، وتستجيب هذه المدن بشكل مختلف للهجرة وهويات الأماكن المتنوعة. تصور مدناً (مثل برشلونة أو نيويورك أو لندن) نفسها كمدن سعيدة شديدة التنوع، حيث حددت الهجرة والتنوع كأصل يعزز اقتصادها وتموقعها العالمي. وقد تُطوِّر هذه المدن خططاً مكانية للتعرف على الاحتياجات المحددة للمجموعات العرقية، والاحتفال بمناظر الشوارع المتنوعة كنموذج الحي الصيني وشارع العرب المتواجد في أغلب العواصم الأوربية. وغالبًا ما تعمل سياسات تسويق المدن شديدة التنوع كأداة لتعزيز التنمية الاقتصادية والقدرة التنافسية الدولية بدلاً من تعزيز التنمية الاجتماعية للسكان المحليين. وغالباً ما يتم الاقتران بين قيم التنوع وقيم أخرى مثل الإبداع والعالمية، لتعزيز جاذبية المدينة للمستثمرين والسياح. من ناحية أخرى تُعرِّف مدن أخرى (مثل باريس وليفربول) الهجرة والتنوع العرقي بأنها تحدٍّ وتتردد أكثر في الاعتراف بالتنوع كجزء من هويتها. ومن المحتمل أن يكون هذا هو الحال في المدن التي تبنت نهجًا أكثر استيعابًا أو حتى تفاضلية للتنوع، حيث تُبنى سياسات الاستيعاب على الاعتقاد بأن الاستيعاب يُحسِّن العلاقات بين الأعراق من خلال تبسيطها، حيث تتخذ المجموعات العرقية هوية المجموعة المهيمنة وتذوب فيها. ويبقى التحدي الصعب على عاتق المدن السعودية في كيفية تحقيق مزايا التنوع والتعددية الثقافية وفي نفس الوقت تعزيز الهوية المحلية وأصالة المدينة.

يبدو أن الورقة ترى أن المدن أصبحت متشابهة و”مستنسخة” إلى حدٍّ كبير في ظل التحول التدريجي لكي تصبح مدناً فائقة التنوع لما أحدثه تدفق الأعراق المختلفة في المدن. وترى الورقة أن الهجرة الداخلية من أسباب ذلك وكذلك الاستقطاب للخبرات البشرية والطلاب والكادر التدريسي من خلفيات ثقافية مختلفة الذي واكب النهضة الصناعية والتعليمية التي شهدتها مناطق المملكة المختلفة، وتشير الورقة أن هذا التنوع كان له تبعات إيجابية كتحسن مستوى السلامة المرورية في منطقة عن غيرها على سبيل المثال؛ نتيجة لاحتكاك أهلها مع طبقة متعلمة تم استقطابها للاستفادة من خبرتها المعرفية لأغراض تنموية. في الوقت ذاته تؤكد الورقة أن هذا التنوع رافقه بعض التحديات، ومن أهمها هو ما تعانيه المدن السعودية من أزمة في الحفاظ على أصالة مكونات المدن الفريدة التي يُميِّزها عن غيرها، وتصدير لهويتها وثقافتها المحلية في ظل تحول نسيجها إلى بوتقة من الأقليات وتضاؤل للأقلية السائدة، وتصل الورقة إلى نتيجة أن المدن ذات الهوية المفقودة وغير المبنية على مواردها وخصائصها التي قامت من أجله عند تكوينها وهويتها التي تشكلت تدريجياً عبر السنين ستعاني من صعوبة في خلق اقتصاد حضري متين وبالتالي المساهمة في هدف المملكة في تنويع القاعدة الاقتصادية.

ركزت الورقة على فكرة “الهوية المجتمعية” التي يصفها مانويل كاستلز (١٩٩٦) في نظرته للمدينة باعتبارها كياناً تقنياً مؤثراً على التغيير الاجتماعي، خاصة بعد الثورة الرقمية وما أحدثته ثورة المعلومات في مجال العولمة من تغير في شكل المدينة اجتماعياً وثقافياً وتقنياً. بَيْدَ أن هوية المكان لا تتطور فحسب من خلال العلاقات مع الناس، ثمة من يرى هوية المدينة باعتبارها نتاجاً معمارياً عمرانياً “هوية بنائية” لتكوينات متكررة من كتل بنائية مفردة، مثل كليف موجن (٢٠٠٣) وتشارلز جينكس (٢٠٠٥)، حيث تسهم المباني البارزة كرموز حسب جينكس في تحديد صورة المدينة أو المكان وهذا ما لم يتضح من الورقة. قراءة واستيعاب التحولات العمرانية وأساليب وتقنية العمران والبناء والتخطيط الحضري من المحددات المهمة لفهم هوية المدن وتأثيراتها على قيم سكان المدينة.

 

(شكل ١) هوية المدينة وسلطة الهوية المجتمعية

المصدر: هشام جلال أبوسعدة (٢٠١٦): نهج صنع مدينة عربية علامة: مدينة بصمة.

 

بالإضافة إلى ذلك، كما نتفق مع الكاتب فيما تطرقت له الورقة الرئيسة من أن المدن تعاني من أزمة حقيقية في الهوية؛ إلا أننا قد لا نتفق تماماً في توصيف الورقة لحجم تأثير ظاهرة التعددية الثقافية على هوية المدن. خصوصاً أن التعددية في المملكة ربما تكون ساهمت بشكل ملفت في تعزيز اللحمة الوطنية والانسجام بين الهويات المحلية. ومن جهة أخرى يزعم كثير من علماء المدن أن امتلاك هويتين اجتماعيتين يؤدي إلى تعزيز الإبداع الفائق، كما أن التنوع الديموغرافي والتعددية تساهم في خلق مجتمع يسوده التسامح وتقبل الاختلاف، والذي بدوره يجذب ما يسميه ريتشارد فلوريدا “الطبقة الإبداعية” وهم القادرون على استخدام عقولهم لإحداث قيمة ذات معنى، وتبعاً لذلك يمكن لهذه العقول -إذا تم الاحتفاء بها- أن تعزز الهوية المحلية والنهوض باقتصاد المدينة. وفي هذا الصدد، نؤكد على ما حذرت منه الورقة في أن الانغماس في استقطاب فئات جديدة لدواعٍ اقتصادية وتفضيلها على فئات أخرى يولد شعوراً من الاقصاء قد يزيد من حدة التوتر والارتباك الذي تشهده هوية المدن، ونؤكد هنا على أن ترك أي فئة خلف الركب من شأنه أن يعوق الجهود الرامية لتحقيق الازدهار والشمول.

التوصيات التي ذكرتها الورقة تعد مهمة للغاية خصوصاً التوصية الثانية والتي تحدثت عن ضرورة إشراك جميع المؤثرين والمتأثرين بالمدينة من كافة الأطياف والأعمار في عملية صناعة هوية المدينة واستراتيجياتها أو ما يُسمَّى عملية صنع العلامة التجارية للمكان، وللعمل على هذه التوصية ينبغي توفير نظام التخطيط المناسب الذي لديه القدرة في احتواء هذا التنوع والاحتفاء به والانتقال في عملية الشراكة من مستوى الاطلاع والإخبار إلى مستوى يعزّز ثقافة الإصغاء والاستماع، الذي يمكن أن يؤدي بدوره إلى الابتكار في تطوير المدن وتطوير علامة تجارية للمدينة ذات هوية محلية تنتمي للجميع. كما ذكرت الورقة توصية مهمة تتعلق بتضمين استراتيجيات المدن والمناطق كل ما يتعلق بالتنوع العرقي في هذه المدينة. وهذه التوصية تعد ذات أولوية قصوى خصوصاً للمدن التي يعد التنوع الثقافي من حمضها النووي وتكون التعددية من خصائص نسيجها الاجتماعي وهويتها الأساسية، كمدينة جدة، وحاضرة الدمام، ونيوم، والأحساء، والرياض على سبيل المثال. وتذكر أدبيات العلامة التجارية للمكان أن الاحتفاء بالتعددية وجعلها قيمة أساسية ضمن قيم براند المدينة ذات التنوع من شأنه أن يعزز التماسك الاجتماعي ويزيد من الشعور المشترك بالانتماء بين السكان ويعزز هويتها الشاملة للجهور الخارجي.

أجدها فرصة في هذا التعقيب أن أؤكد على ضرورة العمل التشاركي بين جميع الجهات التشريعية والتنفيذية في تعزيز الهوية المحلية في ظل التنوع والتعددية. أما على المستوى الوطني، يقوم مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني بجهود بارزة في “تعزيز ثقافة الحوار واحترام الاختلاف والتنوُّع، والمحافظة على الوحدة الوطنية، وحماية النسيج المجتمعي”. وبدورها تسعى وزارة الثقافة ممثلة بهيئاتها المختلفة إلى أن “تزدهر المملكة العربية السعودية بمختلف ألوان الثقافة، لتثري نمط حياة الفرد، وتسهم في تعزيز الهوية الوطنية وتشجع الحوار الثقافي مع العالم”، وإن مواءمة الجهود المبذولة على المستوى الوطني مع الجهود المبذولة عمودياً مع المستوى الإقليمي والمحلي وأفقياً مع القطاعات التنموية كالتعليم والقطاع البلدي مثلاً ضروري للغاية، حيث تعد الترجمة المكانية ومشاريع التخطيط الحضري والمناهج التعليمية التي تعزز الهوية وتحتفي بالتعدد أداة قوية لصنع علامة تجارية للمدينة ذات مصداقية عالية.

  • التعقيب الثاني: أ. أمين نائب الحرم

أشار كاتب الورقة الرئيسة إلى مزايا عديدة للتدفق العرقي وكيف كانت أسبابه إيجابية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكيف كان أثرها الإيجابي على تكوين المدن. وأحب أن أشاركه الرأي وأن أضرب مثلاً: أكثر مدن العالم بها أعراق من جميع أنحاء العالم وأصبح لها طابع (بغض النظر عن موضوع أنها مدينة دينية مقدسة)؛ إلا أن هذه العرقيات قَدِمت بثقافات بلدانها وأثرت الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية والتجارية، وأصبحت مكة المكرمة مناراً للعلم وبدأت جميع الثقافات والمدارس والتجارة وتطور الأجهزة الحكومية في المملكة (الناتج عن تنوع الأعراق) وأساس ومحور انطلاقها من مكة.

ولو أننا أخذنا تحليلاً جينياً لأي أبناء مكة لوجدنا أن أصوله العرقية ترجع إلى أربع أو خمس قارات، ولا تجد لهذا مثلاً في العالم في أي من مدن العالم، وإن وُجِد بنسب أقل متفاوتة أو باعتبارات أخرى. وأن العلم يتناقل إلى الأبناء وراثياً (لا يوجد لدي دليل أو سند قوي على ذلك)، ولكن من الملاحظة نجد أن الأب لديه مهنة أو موهبة وتجد الابن لديه نفس المهنة أو الموهبة، وبالرجوع إلى أصولهم نجد أنها منحدرة من أسلافهم.

وبالتالي دخول الأعراق المختلفة لجميع المدن مطلب وضرورة لتطوير المجتمعات وإثراء الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية، صحيح بأن بعض هذه الثقافات والأنماط ليس إيجابياً، ولكن أصبح المجتمع السعودي قادراً على التميز بين الضار فينبذه أو يرفضه واستيعاب الإيجابيات الأخرى.

وضرب لنا في ورقة العمل كيف كانت الظهران بوجود شركات صناعة النفط، مما استدعى وجود أعراق عديدة أدت إلى تطور كبير في الظهران (وأخذت هوية إيجابية) تُميِّزها بها عن بقية المدن بشكل خاص وتطور في جميع مدن المملكة بشكل عام.

وغالباً اكتسبت من هذه الأعراق إيجابيات كثيرة أمام سلبيات لا تذكر، ولنا أن نضرب مثلاً في تدفق الأعراق (الاستعمار رغم أنه شيء مقيت) لبعض الدول نجد أن المستعمرين امتصوا خيرات البلد المستعمرة واستعبدوا أهلها؛ إلا أنهم نقلوا ثقافات عديدة أو كان لهم أدوار كبيرة في تحسين نمط الحياة في تلك الدول من تطوير عمراني ونشأة المدارس أو الجامعات أو الصناعات أو المهن الجديدة…إلخ، وترك المستعمرون هذه الدول وظلت إنجازاتهم في تلك الدول.

كما أننا نلاحظ مدينة جدة كونها ميناءً جوياً وبحرياً، وكذلك كانت قبل أربعين عاماً تضم جميع السفارات قبل نقلها إلى الرياض، فقد ضمت أعراقاً مختلفة وثقافات متنوعة أكسبت المدينة إيجابيات عديدة من النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية (التجارية)، وما لبثت أن احتلت المركز التجاري الأول على مستوى المملكة وأيضاً انعكس على أهل جدة سمات الوداعة ودماثة الخلق وفنون التعامل مع الآخرين، إضافة لإيجابيات كثيرة مقارنة بالسلبيات التي لا تكاد تُذكَر، خاصة وأن إرثنا الثقافي مرتبط بثوابت دينية لا يزعزعها أي كيان عرقي مهما كانت أهدافه؛ إلا أن ما نجنيه من تدفق الأعراق إيجابيات تفوق السلبيات بكثير، كما نؤيد ما ذهب إليه كاتب الورقة الرئيسة في نهاية الورقة من توصيات.

  • التعقيب الثالث: أ. ماهر الشويعر

تطرقت الورقة الرئيسة إلى موضوع مهم جداً وفي توقيت مهم أيضاً في ظل رؤية المملكة 2030 الطموحة والتي ترسم ملامح المستقبل للأجيال القادمة وتتطلب المحافظة على الهوية والثقافة المحلية.

ذكر العنوان الجانب السياسي؛ ولكن في الورقة لم يُعطَ حقه من الطرح وإعطاء أمثلة على ذلك؛ حتى تتضح آثار تدفق الأعراق على المدن سواء إيجابياً أو سلباً، ومثال ذلك نشأة تيار إخواني كحركة سياسية في المملكة نتيجة لتدفق بعض الأعراق العربية الهاربة من دولها في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وقد نرى الإيجابيات في نقل التجار المسلمين لثقافتهم كعرقية للمجتمعات الآسيوية والاستفادة الاقتصادية أيضاً لهذه الدور نتيجة لتدفق الأعراق الإسلامية.

في الجانب الاجتماعي ومن المتعارف عليه لدى المختصين في علم الاجتماع أن كثرة اختلاف الأعراق على مستوى المدن أو الأحياء في المدن يزيد من نسبة الجريمة في المجتمع؛ نتيجة لاختلاف الثقافات والقيم، ومن ناحية أخرى سهولة ذوبان الأعراق في ثقافة المجتمع المحيط بها، فألمانيا على سبيل المثال تعاني من تشكيل الأتراك لمجتمعهم الخاص وسط المجتمع الألماني.

تمنيت أن يضاف للعنوان الجانب الاقتصادي والذي تعرَّض له الكاتب في جزء مهم تحت عنوان الصناعة، ولم تذكر الورقة التجارة كذلك حيث يتم توفير منتجات خاصة لبعض الأعراق ذات طابع ثقافي مختلف، وقد تنشأ مطاعم تنقل ثقافة عرق بذاته للمدن المحلية.

وبخصوص هوية المدن نرى في مدينة نيوم تجلي نوع مختلف من الهوية، حيث تختفي الهوية العرقية أو التاريخية أو السياسية أو الاجتماعية، وتكون الهوية التقنية المستدامة هي السائدة، فالسباق التقني والابتكار هي السمة لمدينة نيوم حيث نراها الآن إحدى مدن المستقبل التي صوَّرها لنا الخيال العلمي؛ ولكن في المستقبل القريب هي حقيقة.

بودي إضافة خاتمة للورقة قبل عرض التحديات والتوصيات هي أن الانفتاح الاقتصادي والسياحي للمملكة له أثر كبير على المجتمع، كما قد يؤثر أيضاً عكساً على مجتمعات خارجية احتكت بمجتمعنا ونقلت ثقافته إليها كشكل من أشكال القوى الناعمة والتي يجب أن نستغلها كمجتمع باعتبارها فرصة لتغيير الصورة الذهنية وخلق رابط عاطفي مع هذه الشعوب، فبقدر ما تتأثر المدن فيمكن أن تؤثر هي أيضاً في الأعراق القادمة إليها. ومن ناحية أخرى، قد ينتج صراع ثقافي بين العِرْق المقيم والعِرْق الوافد وهو صراع طبيعي للاختلاف الثقافي، ويمكن تجاوزه برفع الوعي وتقبل الآخر واحتوائه ورفع مستوى الذكاء العاطفي والاجتماعي للمواطن.

  • التحديات:

بالإضافة لما ذكر أود إضافة التالي:

  • قد تتدفق الأعراق الأخرى بشكل طبيعي، وقد تكون بشكل منظم من أعداء الوطن مثل دخول الأثيوبيين غير الشرعي للمملكة وبأعداد كبيرة واستيطان المدن. فكيف يمكن التفريق بين الشكل الطبيعي والمنظم؟ والتعامل معه؟
  • قدرة العرق والمكون المحلي على التعامل مع تدفق الأعراق لمدنهم وتعايش الإيجابي معها ومقاومة السلبي منها والتيارات الفكرية الشاذة.
  • خطر تكوين مجتمعات وثقافات منعزلة في داخل ثقافة المدينة الواحدة وعدم الانصهار داخل الثقافة والهوية المحلية.
  • هل يعلم ويعي المواطن كأهم مكون مجتمعي أهمية المحافظة على ثقافته وهويته؟
  • التوصيات:

توصيات إضافية لما ورد في الورقة المطروحة:

  • تعميق الثقافة المحلية وخلق اعتزاز بها للمجتمع من خلال المناهج الدراسية ووسائل الإعلام والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي لما لهم من أثر كبير على المجتمع وخصوصاً الجيل الناشئ.
  • رفع مستوى الذكاء العاطفي والاجتماعي في المجتمع وإضافته ضمن المواد الدراسية لصغار السن.
  • ترسيخ الثقافة الإسلامية بقوة؛ لأنها سهلة الترسيخ من جهة ومن جهة أخرى تعد أقوى أداة في مقاومة الثقافات السلبية الواردة ومقاومتها.
  • سن قوانين تمنع دخول أو تغلغل الثقافات والفكر الهدام أو السلبي للمجتمع.
  • وجود آلية لرصد التغيرات المجتمعية نتيجة تدفق الأعراق الأخرى ومقاومتها من المهد، قبل أن تصبح مكوناً محلياً يتبناه المواطن.
  • الاستفادة من التدفق العرقي لمدننا في تغيير الصورة الذهنية لدى الشعوب الأخرى ونقل ثقافتنا لهم وخلق رابط عاطفي معها كنوع من القوة الناعمة.

 

  • المداخلات حول القضية
  • لمحة تاريخية.

كتوطئة موجزة عن مجتمع الجزيرة العربية؛ يمكن الإشارة إلى أن هذا المجتمع كان وحتى عقود مضت قبل استخراج النفط ينقسم إلى فئتين: بدو وحضر، ولكل فئة مناشطها الاقتصادية مع وجود علاقة تبادل منافع بين الفئتين symbiotic relationship تخدمهما وتقلل من حدة التوترات فيما بينهما. ويحدث بينهما أحياناً تنافر وعداء وغالباً بسبب فترات الجفاف وشح الأمطار التي تُخل بالعلاقة لتصبح عدائية.

فبسبب الجفاف كان البدو مثلاً يفرضون إتاوات على القرى بصورة حبوب وتمور يدفعها لهم المزارعون كنوع من الحماية، وفي ذات الوقت كان سكان القرى وتحوطاً من سطوة البدو وغزواتهم يبنون أسواراً حول قراهم لحمايتها من البدو، وأجزاء من هذه الأسوار لا تزال قائمة وماثلة للعيان في بعض قرى وبلدات نجد.

وأغلب جماعات الحضر كانت تمارس الزراعة وقلة منها كانت تنهمك بالتجارة، مع وجود جماعات أخرى غير ذات أصول قبلية واضحة كانت تمارس مهن الحدادة والنجارة والمهن التي يترفع عنها السكان الحضر ذوو الأصول القبلية (غالبية الحضر هم في الأصل بدو يعرفون أصولهم القبلية ويتتبعون جذورهم جينالوجياً، لكنهم استقروا  واتجهوا للعمل في الزراعة والتجارة مع احتفاظهم بكثير من سمات البدو؛ كاحتقار المهن اليدوية والترفع عن ممارستها، وشروطهم في المصاهرة).

المهن التي ترفع عنها سكان القرى والبلدات كانت عمل الفئات الوافدة التي لم تكن لتستطيع تتبع جذورها القبلية والتي أطلق عليها السكان الحضر في نجد ومناطق أخرى (الخضيريون، والصناع، وفي مدن الحجاز أطلق عليهم البعض طرش بحر، وذلك لتمييزهم، بل وللتقليل من شأنهم للأسف).

من سمات هذه الفئات تحديداً أنها تفلت من قيم وأعراف القبيلة ومعاييرها الصارمة، بل وشكَّلت طبقة اجتماعية ميسورة الحال، بسبب انهماك أفرادها بمهن مدرة للدخل وهي مهن مهمة للغاية يحتاجها السكان الحضر؛ كبناء المساكن، والحدادة، والنجارة، والطب الشعبي، والصناعات الجلدية، وبعضهم انهمك بالتجارة بسبب ثرائهم النسبي وعدم توفرهم على حيازات زراعية واسعة.

باستثناء الزراعة وبناء المساكن كمهن يدوية فإن أغلب المهن السابقة موصومة اجتماعياً بل – وحسب الأعراف الاجتماعية- لا يليق بذوي الأصول القبلية امتهانها والانخراط بها.

أكثر من ذلك أن السكان لا يصاهرون فئة الخضيري؛ فهم وطبقاً للعُرف غير مكافئين نسباً لذوي الأصول القبلية بدعوى أنهم لا ينتمون لأصل عربي؛ فهم في النهاية وافدون من خارج القبائل المعروفة.

تتعرض الفئات المذكورة للإقصاء في المصاهرة رغم أنهم يتفاعلون مع السكان اقتصادياً ومعاشياً ويشتركون معهم في السراء والضراء؛ إلا أن الحد الفاصل بين الفئتين هو الزواج المختلط intermarriage الذي يبدو أنه هو ما يمكن اعتباره boundary أو فاصل اثني لا يجوز تخطيه.

فبعض الأسر الخضيرية قد تتوفر نساءهم على قسط وافر من الجمال ولا يختلفن عن بقية السكان في السمات الثقافية والاجتماعية؛ بل إنه يصعب التفريق بين القبيلي وغير القبيلي، ومع ذلك يستحيل الزواج بين الفئتين.

تشبه هذه الممارسة في أحد وجوهها فكرة “الطبقة المغلقة” في المجتمع الهندي caste system بحيث يصعب خروج الأفراد upgrade من طبقتهم بحكم أن معيار الطبقة التي نتحدث عنها هنا ليس مادياً بل اجتماعياً.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض سكان نجد وبسبب الفاقة وشح الموارد ما قبل النفط، وازدراء المهن، فإن بعضهم هاجر طلباً للرزق في البحرين والكويت والعراق وبلاد الشام. وهناك أفلتوا من الأعراف الصارمة التي كانت تقيدهم في بلداتهم وقراهم، وانهمكوا بعدة مهن استطاعوا من خلالها تكوين رؤوس أموال مكنتهم لاحقاً من العودة إلى بلداتهم وقراهم وشراء حيازات زراعية وإنشاء تجارة في المرحلة التي سبقت استخراج النفط (١٩٣٨).

والممارسات السابقة لا يزال بعضها قائماً وخاصة عدم شيوع “الزواج المختلط” بدعوى عدم تكافؤ النسب، رغم الصهر الاجتماعي الذي جرى في العقود الأخيرة وانتقال الناس للإقامة في المدن، وما ترتب عليه من حدوث تحول في تقسيم العمل، وانتهاء البداوة بمفهومها الكلاسيكي لتبقى بعض رواسبها القبلية.

ولم تعد المهن اليوم مقسمة على أساس اثني أو قبلي؛ فالكل يعمل ويكسب من المهن التي كانت موصومة في السابق ولكن من خلال عمالة وافدة، وغالباً للخروج من رواسب الوصم الاجتماعي، وهي المسألة التي تبدو واحدة من معوقات التوطين والسعودة (العمل الحكومي يحظى بأفضلية عالية؛ فذوو الأصول الحضرية يفضلون الأعمال الإدارية والمكتبية وذوو الجذور القبلية يفضلون القطاعات العسكرية).

وفي ذات الوقت لم تعد قضية تقسيم السكان تقوم على أساس ثنائية بدو- حضر، ولكن على أسس طبقية جديدة تتمثل بمقدار ما يمتلك الأفراد من ثروة، بحيث أصبح من الممكن القول أن الكثير من السكان يدخلون ضمن طبقة وسطى عريضة ذات سقف وقاع إن اردنا تشريحها فئوياً.

وفي سياق متصل، أشارت بعض وجهات النظر إلى أنه بالنسبة للحدود الاجتماعية في المصاهرة فلها انعكاسات أيضاً على تنشئة الأبناء أيضاً؛ إذ كان هناك تدقيق على الصحبة من الفئات غير القبلية، بينما لا يهتم الوالدان كثيراً بالسؤال عن الأصحاب من أبناء الفئة القبلية، وهذه واحدة من المظاهر التي خفَّت بشكل كبير مؤخراً، وربما كانت نتاجاً لمظاهر المدنية المعاصرة الطاغية. وهناك أيضاً عنصر مهم فيما يتعلق باختلاط الثقافات وتكوُّن الجماعات المحلية في المدن الكبرى (حلة القصمان على سبيل المثال بالرياض وتجمعات الزبارى وأهل الجنوب بالدمام وربما غيرها في مدن أخرى!).

 

  • التدفق العرقي والقوة الناعمة للمدن.

المدينة مثل الإنسان لديها روح، وإذا كان أقسى ما يوصف به إنسان هو نعته بأنه بلا روح، فإن ذات الوصف هو أقسى ما توصف به المدن وأكثر ما يحول بينها وبين القدرة على الجذب والتأثير.

هذه الجاذبية والتأثير هي في الواقع أمر بالغ الأهمية، وينبغي النظر إليها باعتبارها أحد أهم عناصر القوة الناعمة للبلد وجزءاً لا يتجزأ من دبلوماسيتها العامة، وهو أمر أصبحت العديد من المدن حول العالم تدرجه ضمن خططها الاستراتيجية. وفي هذا الجانب نشر المجلس الثقافي البريطاني British Council ورقة بعنوان «المدن، الازدهار والتأثير: دور دبلوماسية المدن في تشكيل القوة الناعمة في القرن الواحد والعشرين». تناولت الورقة القوة الناعمة للمدن وأهميتها وكيفية صناعتها، مشيرة إلى أن تلك القوة تتجلَّى بشكل مباشر وغير مباشر: فالجانب المباشر يتمثل في قيام المسئولين في المدينة بوضع خطط واستراتيجيات للتواصل الدوري والتعريف بها كوجهة جاذبة للاستثمار والسياحة، إضافة إلى العمل على استقطاب الفعاليات والمناسبات والمعارض الدولية المهمة في المجالات الاقتصادية والرياضية والثقافية وغيرها.

الشق غير المباشر لقوة المدينة الناعمة ينبع من الخصائص التي تمتاز بها من حيث الثقافة والتعليم والتجارة، وهذه الخصائص تتضمن أيضاً أموراً مثل ظروف المعيشة وطبائع وخصائص الناس والأنظمة ومؤسسات المجتمع المدني، إضافة إلى المعالم الأثرية والمراكز الثقافية والمتاحف.

خلاصة القول، أن المدن أصبحت مصدراً مهماً من مصادر القوة الناعمة لأي بلد، ويتطلب استثمارها وجود برامج ومبادرات وتنسيق وتكامل لتحقيق أقصى قدر ممكن من الجاذبية والتأثير حول العالم، دون إغفال لدور الإنسان في كل مدينة من حيث بشاشته ورقيه وخلقه وحسن تعامله مع الآخرين فهذه هي المكونات الأهم لروح المدينة.[13]

 

  • التحديات المرتبطة بالتدفق العرقي في المدن.

تعد التدفقات العرقية المرتبطة بالهجــرة المتغيــر الســكاني الــذي يثيــر أكبــر قــدر مــن الإشــكالات. “فعلــى العكــس مــن الحدثيــن الفريديـن المتمثليـن فـي الميـلاد والوفـاة اللذيـن يحـددان عمـر الفـرد، يمكـن أن تكـون الهجـرة حدثـاً متعـدداً، ويرتبـط قياسـها ارتباطاً تاماً بكيفية تعريفها في الزمان والمكان”.

ثمة آراء تؤكد أن تعدد الأعراق له إيجابيات عديدة وسلبيات طفيفة لا تذكر أمام الإيجابيات العديدة، كما أن الانفتاح الإعلامي وقنوات التواصل الاجتماعي والإنترنت والقنوات الفضائية أدى لأنْ أصبح العالم كله بين يدي الصغير قبل الكبير، والجاهل والمتعلم، بمعنى أن الشعب السعودي بمختلف فئاته أصبح مُطَّلعاً على كل شعوب العالم وأعراقه وعاداته ومعتقداته بدون استثناء، فلو أننا طبقنا أيضاً جميع التساؤلات والفرضيات لكان المنع لها أوجب كثيراً من تعدد الأعراق؛ فلو أننا أخذنا مثلاً طالباً ليدرس أو ليعمل في إحدى الدول، فنجد أنه هو الذي سوف يتأثر بعادات وتقاليد البلد المستضيفة له وأن تأثيره على الشعب المستضيف بنسبة بسيطة لا تذكر؛ إلا إذا كان يحمل قيماً وأخلاقيات ومبادئ إيجابية، وإذا كانت سلبية فلن يكون لها أي أثر على الإطلاق.

إلا أن البعض بالمقابل يرى أن الطالب فرد فيتأثر بالجماعة؛ ولكن عندما يكون عرق وعدد أكبر، فيكون مجتمعه الخاص داخل المدينة. ومن زاوية مغايرة فإن مكة المكرمة على سبيل المثال لها طبيعتها المختلفة، حيث تقبل تعدد الأعراق وهذه إحدى سماتها؛ لأنهم جميعا شركاء فيها باسم الدين، ولكن أبها مثلاً لن تتقبل طمس هويتها الجنوبية في حال لم تنسجم الأعراق مع ثقافتها وتذوب فيها.

إن الاختلاط بين العناصر البشرية جيد ويُحدث تداخل بين الثقافات وتعلم كل ثقافة من الأخرى، مما يُحدِث نمواً وتطوراً لكلا الطرفين في العلاقة. ونذكر مواقف كثيرة في التاريخ والتاريخ الإسلامي على وجه التحديد تداخل فيها الفكر الإسلامي مع الفارسي والرومي وزاد ذلك بالفتوحات الإسلامية وكان أثر هذا الاختلاط واضحاً وإيجابياً على الأغلب، حيث كانت الأمة الإسلامية قوية ولا تتأثر سلباً بهذا الاختلاط (حسب نظرية ابن خلدون في الغالب والمغلوب) وأسلم معظم من في هذه البلاد والتزموا بالثقافة الإسلامية ومعاييرها حتى ضعفت الدولة الإسلامية في الأندلس.

ومما لا شك فيه أن الهجرة تسهم في تكوين مجتمع ذي تنوّعٍ ثقافيٍّ كبير في العديد من المجالات، وقد كان التنوع في الحضارة الإسلامية ظاهراً في كل مراحل الدول الإسلامية بداية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مثل سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وعمار بن ياسر (اليمني) ومارية القبطية زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم ولده إبراهيم، وظهر بشكل واضح في عصر الازدهار العلمي في العصر العباسي، وقد جمع الملك عبد العزيز حوله مستشارين ورجال دولة مهاجرين من دول عربية وإسلامية.

الآن نعتبر السعودية دولة لها مركزها وهي دولة قوية وغنية أغدق الله تعالى عليها بنعم كثيرة ولله الحمد مما جعلها جاذبة للأعراق الأخرى: مسلمة وغير مسلمة عربية وغير عربية على اختلاف الأهداف، حيث إن مركزها الإسلامي كان له دور كبير في اختيار العينات التي تتوجه لها، بالإضافة إلى فرص العمل الكثيرة والتي لا علاقة لها بالدين، هذا الجذب استفدنا منه كثيراً في بداية نهضة الدولة السعودية، أطباء مهندسين معلمين وغير ذلك، وما زلنا نستفيد من تواجد هؤلاء الإخوة بيننا خاصة من التزم وانصهر في مجتمعنا.

ولكن إلى أي حدٍّ يكون ذلك مفيداً؟ خاصة إذا كان القادمون لا تتشابه ثقافتهم وديانتهم بثقافتنا وديانتنا، فالمسلمون والعرب يتشابهون في كثير من المبادئ والقيم، وكثيراً ما ذاب القادمون من هذه الدول وأصبحوا سعوديين بكل المعايير. هل نريد أن تكون الرياض أو السعودية مثل دبي مثلاً؟ الوضع الحالي يشير إلى أن نسبة غير السعوديين في المملكة يقارب ٤٠٪؜ وهي ضعف ذلك في الإمارات أو قطر! في هذه الحالة تذوب الثقافة بل تنتهي وتضيع الهوية. كيف يمكن التحكم في هذا التداخل بحيث نستفيد منه ولا نتضرر به؟

ومن الأسئلة المهمة التي يجب طرحها في هذا السياق: إلى أي مدى يمكن للتنوع العرقي الشديد وعبر فترة زمنية طويلة جداً أن يؤثر في هوية المدينة (ولن نتحدث عن الدولة)؟ وهل في ذلك خطر على النسيج الاجتماعي أو العادات والتقاليد؟ وهل يمكن أن تتسبب الهجرة الداخلية في خلق مدن كبرى متجانسة، مما يفقدها الأصالة لتصبح خرزات جديدة في مدن عولمية عبر الكوكب تكاد تكون متشابهة طعماً ورائحةً؟ وكيف يمكن المقارنة بين مكاسب التنوع العرقي الثقافية وخسائره؟

وبنظر البعض فإن التدفق العرقي أمر واقع؛ كان ولا زال وسيبقى، وإذا كانت التحديات الأمنية هي ما يبرز للعيان ويحتاج البيان؛ إلا أن التحديات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية هي الأهم (وليس فوق الأمن مهم) والأبقى والأخطر (إيجاباً وسلباً). تأثر (وليس تغير) الهوية ليس كله شر؛ فالتغير والتحول الثقافي حاصل ما دمنا نحن نتدفق عرقياً افتراضياً وجسدياً، كما أن تقاليدنا تحوَّلت وتتحوَّل لمواجهة التغيرات من جيل إلى جيل وتنوع مناطقنا وتقاربها والهجرات المحلية وغير ذلك (والحقيقة أن التغير كان الأفضل بمعنى الأكثر نجاحاً). وإذا كان تغير بعض ملامح العادات والتقاليد واكتساب الجديد منها أو تحول القديم أمراً مزعجاً على الجيل الذي يعيشه؛ ولكنه ضروري للأجيال اللاحقة، ومن سنن الكون لتشكل المستقبل ومواجهة تحدياته التي تفرض عقليات هي أقدر على مواجهتها على صعيد أكثر كونية وأقل حماية من المنافسة وأكثر احتياجا للآخر وما لديه، وأشد للمهارات الحقيقية للبقاء. وفي ضوء ذلك يمكن التعامل مع التدفق العرقي باتجاهيه الإيجابي والسلبي وتوظيفه لخدمة الإسلام والأوطان ومجتمعات المستقبل ومدنه وبلداته وقراه واقتصاده وصحته.

إن تغيير النظرة الوطنية والشعبية للتدفق العرقي من الكره والتوجس إلى الاحتفاء، كفيل بأن يكون قاعدة في العقل والضمير الجمعي للتعامل معه وتوظيفه إيجابياً؛ بل والنجاح والتفوق بسببه على جميع المستويات والأصعدة وخصوصاً الثقافي والاجتماعي والتنظيمي والاقتصادي فضلاً عن الأمني.

ويبرز كذلك ضمن الأبعاد الاجتماعية المتعلقة بالتدفق العرقي ذلك البعد المرتبط بالعنصرية بشتى أنواعها ضد الاختلاف العقدي والعرقي والجنس (ذكر وأنثى)، والتي قد تظهر في بعض الأحيان في المجتمع ولدى المؤسسات الحكومية والعامة. وبالرغم من أن نظام الخدمة المدنية ينص على أن التوظيف أو العمل يعتمد على الجدارة في التوظيف إلا أننا قد نرى أحياناً أن معظم موظفي المدير العنصري هم من أبناء قريته.

وقد نجد في بعض قرى ومدن المملكة الداخلية مقاومة في تقبل الآخر حتى لو كان سعودياً؛ ولكن من منطقة أو قرية أخرى يكون الأمر مختلفاً. وقد ظهرت هذه القضية منذ أكثر من عشر سنوات حينما توجهت هيئة السياحة آنذاك إلى السياح في الداخل لزيارة الأماكن السياحية ووجدت مقاومة محلية ضد زيارات “الغرباء” وهم سعوديون من مناطق سعودية بعيدة.

لا يمكن أن ننكر أن العنصرية غير موجودة في مجتمعنا، بل هي تعيش وتنبض بالحياة وتختلف في صور ومستويات وأوليات عدة (قبلية، عائلية، اقتصادية…)؛ ولكن أهمها الجانب الديني والطائفي، ولعل أخفها المذهبي، وفي نفس الوقت تدفق الأعراق.

ولعل الوقت حان لإصدار قانون يحدد ويجرم الممارسات العنصرية ونحن بأمس الحاجة إلى مثل ذلك خاصة في وقت نحاول فيه استيراد العقول، كما أن من المهم أن يضع القانون مؤشرات للعنصرية لها، بل كذلك يُلزِم الدوائر الحكومية كافة والشركات الكبرى بنسب موظفين معينة حسب التوزيع السكاني للمناطق كما قامت بذلك بعض الدول.

في حين ترى وجهات نظر أخرى أن التنوع الحاصل في جميع مناطق المملكة تجاوز منذ سنين عديدة حساسيات التنوع المناطقي، وهو أمر من المهم تعزيزه والحفاظ عليه، خاصة في ظل التحولات المتسارعة التي تحدث لدينا ومنها تقبل الشباب – بشكل لم يكن موجوداً من قبل- للانتقال للعمل في مناطق أخرى تتوفر بها الفرص الوظيفية.

تحدٍّ آخر، لا ريب أن المجتمع تحول ويتحول أكثر وأكثر في تقبل الآخر (وقد يكون الآخر سعودياً مسلماً، وليس بالضرورة مغاير لذلك) لسبب جغرافي وأراضٍ وممتلكات توارثها عبر أجيال ولم يصل ولن يصل في الأفق غير القريب بأن يقبل مشاركة (غريب وفق منظوره) في ذلك بيعاً وفي أفضل الأحوال استثماراً فقط، وأصبح من المهم التفكير في كيفية ترويض تلك الموروثات.

أيضاً من التحديات المرتبطة بالتدفق العرقي ذلك المتصل بالفرص الوظيفية وزيادة التنافس في ظل بطالة لا زالت قائمة.

 

  • الآليات الملائمة للتعامل مع إشكالات التدفق العرقي بالمدن.

الكثير من الدول ذات العدد الهائل من البشر تصدر العمالة (وخاصة غير المدربة الراغبة في العمل) كما نصدر النفط، والشيء الغريب أن الكثير من الدول المتقدمة تعتبرهم مصدراً للتنوع البشري وكذلك وسيلةً للتغير المستقبلي مع الحفاظ على النمط الثقافي للبلد؛ أي أنهم يتقبلون أي تغيير بدون مقاومة وكذلك بسبب صغر سنهم وقابليتهم للتدريب والعمل، فيساهمون بشكل كبير في التنمية.

إن دول العالم تتسابق لاستقطاب واستيراد العقول، ونحن نفعل كذلك؛ لذا يجب أن تكون البيئة السعودية محفزة ومرحبة لمن يساهم في تقدم اقتصادها، فالتغيير ضرورة وهو يحدث الآن ويجب أن نكون جاهزين ثقافياً وقانونياً واجتماعياً؛ ولكن يوجد مجموعة من كتاب الرأي والإعلاميين الجدد من يبالغون أو يزايدون على الوطنية بادعاء أنه يوجد سعوديون أفضل من هؤلاء المهاجرين، وبالتالي تولدت موجة عداء للأجنبي وحالة من الشوفينية العنصرية تشابه اليمين الفرنسي المتطرف.

إن المدن الكونية هي مدن متعددة الأعراق، ولا يمكن نبذ المهاجرين وتهميشهم، وفي نفس الوقت خلق مدن متمدنة، لكن التركيز على نوعية المهاجرين مطلب مهم، كما أن التنوع العرقي ميزة وخصلة إسلامية وسعودية يجب أن نُأَطِّرها حالياً بقوانين وأنظمة وبرامج اجتماعيه ترحب بالمهاجر، ويجب أن يرافق ذلك تنمية للقدرات البشرية الوطنية، ويكون الاستقطاب للمميزين وللتقنيات الحديثة التي لا تقدمها أنظمتنا التعليمية حالياً.

فالتركيز والتنوع في التركيز هو ما يمكن أن يُحقِّق تميزًا، فأكبر أسرار نجاح المدن يكمن في تكريس هوية وصناعة ترتبط في أذهان العالم بتلك المدينة، وقد يكون هناك أسباب تاريخية أو جغرافية أو طبيعية ساعدت على تميز تلك الهويات والمدن.

وفي سياق الاحتفاء بالأعراق والتلاقي الثقافي قد يكون من المناسب مأسسة ذلك في مدننا.. مثلاً نلاحظ في مدينة الرياض أحياءً أو أجزاءً من أحياء يجتمع فيها عرق واحد مثلاً الباكستان أو الهند أو الفلبين..  هل درست أمانة منطقة الرياض تسمية الحي باسمهم وتعيين عميد منهم (براتب ومسؤوليات) والتفكير في تمويل بعض نشاطاتهم الثقافية في حيهم ليطلع عليها أهل الرياض في سياق جدول ثقافي، كما يمكن أن يلعب العميد دوراً أمنياً تعريفياً إذا لزم. ولنا أن نتصور مقدار فخار هؤلاء بثقافتهم ومتعة الآخرين باحتفالاتهم وأزيائهم ومأكولاتهم وغير ذلك، فضلاً عن ندوات تعريفية وثقافية وما إلى ذلك. والتصور أن ذلك له مزايا غير مباشرة على المستوى الأمني والاجتماعي، خصوصاً إذا كانت قائمة من البداية على نظام واضح وتوقعات محددة.

إن الهجرة الداخلية نحو المدن والاستقطاب الخارجي من الدول شتى والذي جاء بطلب مِنَّا للتسريع في البناء واختصار عامل الوقت، يجب أن يُدرَس بشكل يحقق العدالة التي تؤدي إلى رفع مستوى المجتمع وتعدد الثقافة فيه واحترام الآخرين على مختلف طبقاتهم. وفي ذات الوقت لم تعد قضية تقسيم السكان تقوم على أساس ثنائية بدو- حضر، ولكن على أسس طبقية جديدة تتمثل بمقدار ما يمتلك الأفراد من ثروة بحيث أصبح من الممكن القول إن الكثير من السكان يدخلون ضمن طبقة وسطى عريضة ذات سقف وقاع.

وبالإشارة إلى عدد الوافدين الكبير في المملكة من كل الجنسيات، لكن يظل الوافدون من شبه القارة الهندية (الهند، باكستان، بنغلاديش، ميانمار “بورما” وسيرلانكا) هم السواد الأعظم، فهم يأتون من ثقافات وأديان مختلفة واستمرار تدفقهم قد يترتب عليه مطالب سياسية من قبل دولهم، رغم أنهم يحولون مليارات الريالات سنوياً. فيلزم مع ذلك الحذر والتفكير ملياً بزيادة عدد بعض الجنسيات تحديداً كالهندية في ظل الدعوات المستمرة بحفظ حقوق العمال وحقوق الإنسان على المستوى العالمي. فكما أن على الوافد واجبات فإن له حقوقاً كذلك وهو ما يلزم وضعه في الاعتبار.

واستناداً إلى أن هناك نوعين من التدفق العرقي، أحدهما داخلي والآخر خارجي، فإن المناسب بالنسبة للتدفق العرقي الداخلي العمل على إذابة العنصرية وتقبل الطرف الآخر واحترام ثقافته؛ لأنها جزء من المجتمع السعودي، ويترتب على ذلك لُحمَة وطنية وتراص للصفوف في وجه أي تهديد خارجي والتفاف حول القيادة لمواجهة التحديات الخارجية.

أما بالنسبة للتدفق الخارجي فيجب الأخذ في الحسبان التغير الديمغرافي وما يترتب عليه والبعد السياسي والأمني وخصوصاً في ظل ما تعيشه المنطقة من صراعات واستهداف لأمننا القومي والتسابق على الثروات والموارد الطبيعية… وهذا التدفق الذي قد يكون نظامياً وقد يكون منظماً لأي سبب مثل تكوين طابور خامس.

وبالتأكيد فإن “إعداد سياسة سكانية شاملة لكافة الأبعاد والمتغيرات بتأثيراتها المتبادلة وتداعياتها المتعددة يتطلب توافر دراسات علمية تحليلية كمية ونوعية ومقارنة بين الوضع الراهن والوضع المنشود”، وإذا كان للمهاجرين من الأعراق المختلفة دور إيجابي في التنمية الاقتصادية للمملكة، فإنه في الوقت ذاته قد يقترن بوجودها بعض المخاطر الأخرى؛ لذا يجب بحث مدى الحاجة إليها واختيارها على النحو الذي يفيد المجتمع السعودي؛ بالنظر إلى أن التحديات التي يفرضها التدفق العرقي تتضمن مجموعة متفاعلة من التداخلات الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية والاجتماعية وغيرها.

  • التوصيات
  • وضع إطار محدد للاستفادة من الخبرات المستقطبة في كل مدينة، بما يخدم التوطين والهوية ويساهم في الحفاظ على الموروث.
  • تشجيع أبناء كل منطقة على المشاركة في تحديد السمة الطاغية على الهوية، ووضع المؤشرات لقياس أثر هذه الظاهرة، مع التوصية بشكل دوري حيال كل طارئ يمكن أن يدق ناقوس الخطر.
  • تضمين استراتيجيات المدن والمناطق كل ما يتعلق بالتنوع العرقي في هذه المدينة، وكذلك إنشاء مكاتب استراتيجية لبعض المدن التي لا يوجد فيها هيئات تطوير.
  • الالتزام بحصة ثابتة للجنسيات المتواجدة في المملكة، كي لا تطغى جنسية معينة على البقية، وتكون الحصة المخصصة للجميع متناسبة مع عدد السكان الأصليين.
  • فتح باب الهجرة من أهل الاختصاص ومن تحتاجهم المملكة ضمن شروط مبينة وواضحة ومصداقية، وتكون أيضاً ضمن حصة سنوية لا يمكن تجاوزها.
  • السماح للجاليات التي تقيم بين ظهرانينا بالتعبير عن ثقافتها وموروثها من خلال مهرجانات وعروض شعبية سنوية، تتفق مع أنظمة وتقاليد المملكة العربية السعودية وتكون مدعومة حكومياً.
  • تعزيز منظومة القيم الإسلامية في بلادنا قبلة المسلمين؛ لأنها توفر مناخاً إيجابياً للمجتمع لكي يرتقي بأفراده من الناحية الاقتصادية والعلمية وما يترتب على ذلك من رفاه ورقي للمجتمع، وأن تكون المملكة قدوة قوية للدول الأخرى في التعايش والاحترام.
  • معالجة مشكلة “البدون” وهم النازحون من دول أخرى، والذين يحملون إقامات، وحلها جذرياً بما لا يخل بأمن المملكة.
  • استصدار تشريع يحدد تعزيز وحماية الهوية الوطنية للمملكة، ويمنع (التعصب) التصنيف السلبي للآخر.
  • الاهتمام بمادة التربية الوطنية في التعليم العام وتطوير مقرراتها.
  • إشراك جميع المؤثرين والمتأثرين بالمدينة من كافة الأطياف والأعمار في عملية صناعة هوية المدينة واستراتيجياتها أو ما يسمى بعملية صنع العلامة التجارية للمكان.
  • توفير نظام التخطيط المناسب الذي لديه القدرة في احتواء هذا التنوع والاحتفاء به والانتقال في عملية الشراكة من مستوى الاطلاع والإخبار إلى مستوى يعزّز ثقافة الاصغاء والاستماع، الذي يمكن أن يؤدي بدوره إلى الابتكار في تطوير المدن وتطوير علامة تجارية للمدينة ذات هوية محلية تنتمي للجميع.
  • تضمين استراتيجيات المدن والمناطق كل ما يتعلق بالتنوع العرقي خصوصاً للمدن التي يعد التنوع الثقافية من حمضها النووي وتكون التعددية من خصائص نسيجها الاجتماعي وهويتها الأساسية، كمدينة جدة، وحاضرة الدمام، ونيوم، والأحساء، والرياض.
  • مواءمة الجهود المبذولة على المستوى الوطني مع الجهود المبذولة عمودياً مع المستوى الإقليمي والمحلي وأفقياً مع القطاعات التنموية كالتعليم والقطاع البلدي مثلاً. حيث تعد الترجمة المكانية ومشاريع التخطيط الحضري والمناهج التعليمية التي تعزز الهوية وتحتفي بالتعدد أداة قوية لصنع علامة تجارية للمدينة ذات مصداقية عالية.

 

  • المصادر والمراجع
  • سعود كاتب: القوة الناعمة لمدننا، صحيفة المدينة، 8 نوفمبر 2017م.
  • هشام جلال أبوسعدة: نهج صنع مدينة عربية علامة: مدينة بصمة، 2016م.
  • غربي محمد: الانعكاسات السلبية للعمالة الأجنبية على دول مجلس التعاون الخليجي والسياسات المتبعة للحد منها، (في): مجلة المفكر، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر بسكرة، العدد العاشر، ص ص 107-135.
  • مريم العريني: سلبيات وإيجابيات الهجرة، 10 يناير 2021، متاح على الموقع الإلكتروني: https://mawdoo3.com
  • المكتب الإقليمي للدول العربية: هجرة اليد العاملة في الدول العربية، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://www.ilo.org/beirut/areasofwork/labour-migration/WCMS_520928/lang–ar/index.htm

  • تقرير الهجرة في العالم لعام 2020: المنظمة الدولية للهجرة، جنيف.
  • منشد الوادي الشمري: خلل التركيبة السكانية في دول الخليج العربية: الإشكالات والحلول، 1 مارس 2011م، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://araa.sa/index.php?view=article&id=728:2014-06-24-21-14-42&Itemid=172&option=com_content

  • عبدالوهاب القحطاني: أثر العمالة الوافدة على الاقتصاد السعودي، 4/6/2020م، متاح على الرابط الإلكتروني: https://www.alyaum.com/articles/6258305
  • إبراهيم بن عبدالكريم بن عبيان: العمالة الوافدة في المملكة العربية السعودية والآثار السلبية المترتبة على وجودها، (في): دراسات نفسية وتربوية، العدد (6)، 2011م.
  • إيجابيات وسلبيات العمالة الوافدة على المجتمع السعودي، 20 أغسطس 2017م، متاح على الرابط الإلكتروني: https://www.almrsal.com/post/516967
  • عصام الزامل: تأثير العمالة الوافدة على الاقتصاد السعودي، مركز الخليج لسياسات التنمية، 2019م، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://gulfpolicies.org/2019-10-30-17-24-20

 

  • المشاركون.
  • الورقة الرئيسة والمعقبون: أ. علاء الدين براده، د. عبدالرحمن الصايل، أ. امين نائب الحرم، أ. ماهر الشويعر.
  • إدارة الحوار: د. سعود كاتب
  • المشاركون بالحوار والمناقشة:
  • د. فوزية البكر
  • د. مشاري النعيم
  • د. عبدالاله الصالح
  • د. عبدالرحمن الشقير
  • د. عبدالعزيز الحرقان
  • م. اسامة الكردي
  • د. وفاء طيبة
  • د. حمد البريثن
  • أ. محمد الدندني
  • د. صدقة فاضل
  • أ. عبدالرحمن باسلم
  • د. محمد الملحم
  • د. خالد الرديعان
  • د. عبدالرحمن العريني
  • اللواء فاضل القرني
  • د. حميد الشايجي
  • د. خالد المنصور
  • د. محمد الثقفي

[1] – مستشار بمركز البحوث بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية ومحاضر في التنظيمات الإرهابية، بقسم العلوم الشرطية/ كلية العدالة الجنائية.

[2]– زالك فيرتين: نحو منتدى للبحر الأحمر: الخليج العربي والقرن الإفريقي وهيكلة نظام إقليمي جديد، دراسة تحليلية صادرة عن مركز بروكنجز، الدوحة، العدد (27)، نوفمبر 2019م، ص ص 18- 22.

-[3] سمية عبدالقادر شيخ محمد شولي: موانئ القرن الأفريقي: ساحة جديدة للتنافس الدولي، نشرة تقارير، مركز الجزيرة للدراسات، 21 نوفمبر 2016.

[4] – جان لوك ماتينو: جيبوتي وخطورة صفقات القواعد العسكرية، ترجمة سيدي. م. ويدراوغو، 23 يناير 2019 موقع قراءات أفريقية على الموقع الإلكتروني: https://www.qiraatafrican.com

[5]– سجل القرصنة الحوثية في البحر الأحمر، صحيفة الشرق الأوسط السعودية، الأربعاء 13 ذو القعدة 1439هـ/ 25 يوليو 2018م.

[6]  -جزر المملكة العربية السعودية في البحر الأحمر والخليج العربي،  هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، 2009م.

[7]حمدي عبدالرحمن: تحالف البحر الأحمر وإحياء مفهوم “الأفرابيا”، 2020، متاح على الرابط الإلكتروني: https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/5195

[8] – عبد السلام إبراهيم بغدادي: البعد الإيجابي في العلاقات العربية الأفريقية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ص 133.

[9] – المصدر نفسه، ص 37.

[10] – باحث دكتوراة في تخطيط وتسويق المدن.

[11] – مساعد الأمين لتنمية الاستثمارات البلدية بأمانة العاصمة المقدسة.

[12] – مستشار في الإدارة الاستراتيجية والتسويق والامتياز التجاري وسلسلة الإمدادات.

[13] – سعود كاتب: القوة الناعمة لمدننا، صحيفة المدينة، 8 نوفمبر 2017م.

تحميل المرفقات