ملتقى أسبار: التقرير الشهري رقم (81) لشهر يناير 2022

للاطلاع على التقرير وتحميله إضغط هنا


يناير 2022

تمهيد:

يعرض هذا التقرير لقضيتين مهمتين تمَّ طرحهما للحوار في ملتقى أسبار خلال شهر يناير 2022 م، وناقشهما نُخبة متميزة من مفكري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة؛ حيث تناولت القضية الأولى: تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على قرار الشراء، وأعد ورقتها الرئيسة د. طلال المغربي، وعقب عليها كلٌّ من د. عبدالله ناصر الحمود، أ. علاء الدين براده، وأدار الحوار حولها د. عبدالله العساف. بينما تناولت القضية الثانية: الدراسات المستقبلية، وأعد ورقتها الرئيسة أ. فائزة العجروش، وعقب عليها كلٌّ من د. محمد الثقفي، د. خالد الثبيتي، وأدار الحوار حولها د. خالد الرديعان.


القضية الأولى 

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على قرار الشراء

(5/1/2022م)

  • الملخص التنفيذي:

تناولت هذه القضية تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على قرار الشراء، وأشار د. طلال المغربي في الورقة الرئيسة إلى أن أزمة جائحة كورونا زادت نسبة أعداد مستخدمي الإنترنت عالمياً بسبب الجائحة والحظر والاحترازات والقلق الذي أصاب المجتمعات والأفراد، جعل الخروج للأسواق منخفضاً، مما أدى إلى ارتفاع التسوق من خلال الإنترنت والتطبيقات، مما ساهم في سرعة تطور وقبول التقنيات وإيجاد آليات جديدة في ربط وسائل التواصل الاجتماعي بالبيع والترويج والتأثير المباشر وغير المباشر على سلوك وقرارات المستهلكين. وقد يكون من أهم أهداف تأثير وسائل التواصل الاجتماعي هو التوسع العالمي والانتشار والتأثير في قرار الشراء الأول، أما استمرارية شراء العميل؛ فتحتاج وجود عناصر مختلفة لا سيما الرضا عن التجربة الأولى. ومن المهم جداً وضع استراتيجية واضحة لعملية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي واختيار المؤثرين لسرعة انتشار الوصول من خلال وسائل التواصل الاجتماعي إيجابياً والتأثير السلبي في حال اكتشف العميل عدم صحة المعلومات.

بينما أكَّد د. عبدالله ناصر الحمود في التعقيب الأول على أننا نعيش في عصر التسويق، وهو بالفعل تسويق للعديد من السلع والأشياء، بفضل التطورات الكبرى التي شهدتها بيئة الإعلام والاتصال، واكتساح شبكات التواصل الاجتماعي للبيئة الثقافية الاجتماعية للناس. وهذا الملحظ، ليس فقط في إطار ترويج الوسائل للمنتجات، ولكن أيضاً ما أتاحته البيئة الاتصالية من تراكم المعرفة ونقل التجارب والخبرات فيما بين البشر، حتى أصبح رابط “المرئيات” أو “الآراء” التي يبديها الناس خلال تجاربهم الشرائية أهم من رابط المنتج نفسه، فصارت تجربة الشراء تجربة جماعية من طراز رفيع.

في حين ذكر أ. علاء الدين براده في التعقيب الثاني أن ما يمكن أن يغفله البعض هو أن تطور التقنية المحفزة على القيام بهذه العمليات التسويقية يمكن أن تتأثر أيضاً، حيث إن ضعف الإقبال عليها من قبل العملاء يمكن أن يدفع الشركات لإعادة النظر في خططها التطويرية. كما أن دخول البضائع المقلَّدة ذات الجودة الرديئة والتي لا يمكن الاعتماد عليها إلى الأسواق له تأثير اقتصادي سلبي أيضاً. وبصفة عامة فإن التقنية كما أنها جاءت بميزات محفزة؛ إلا أن الاستغلال الخاطئ لها يوجب علينا أن نكون على درجة عالية من الوعي والإدراك لما يُقدَّم من خلالها.

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • التعريف بالتسوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
  • أبعاد التسوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي: تفسير علم الاقتصاد السلوكي.
  • تأثيرات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التسوق.
    • أولاً: التأثيرات الإيجابية.
    • ثانياً: التأثيرات السلبية.
  • وسائل الحد من التأثيرات السلبية للتسوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • إنشاء هيئة وطنية عليا تتبع وزارة التجارة للإشراف على التجارة الإلكترونية في المملكة، وتحديداً التجارة عبر منصات التواصل الاجتماعي.
  • وضع استراتيجية وطنية للتجارة الإلكترونية تشمل ضوابط الإعلان وقيوده في المملكة.
  • تنفيذ حملات إعلامية لرفع الوعي المجتمعي حول هذه القضايا الشائكة.
  • إصدار بطاقات عضوية خاصة لمن يحق لهم الإعلان في منصات التواصل الاجتماعي، بعد اجتيازهم دورات خاصة في هذا المجال تشمل التعريف بما يتعارض مع القيم والعادات في المجتمع.
  • وضع قوانين أخلاقية عقابية رادعة لمخالفي قوانين الإعلان في وسائل التواصل الاجتماعي في المملكة.

 

  • الورقة الرئيسة: د. طلال المغربي

تهدف وسائل التواصل الاجتماعي إلى سرعة الانتشار وخلق مفهوم ما يسمى حديث السوق Market Conversation والتبادل للمنافع Exchange.

وبالعودة للعصور الأولى للإنسان، نجد أن فلسفة مفهوم Market Conversation وُجِد في حياة الإنسان الأول وتغيرت الوسائل بتطور التقنيات. فالإنسان والقبائل كانت تبحث عن المكان (المأوى والطعام للبقاء على قيد الحياة) فكانت البدايات لما يُسمَّى تسويق المكان Place Marketing. مع الاكتفاء الذاتي في بيع المنتجات والخدمات للسوق المحلي، يبدأ الإنسان من المزارعين والصيادين في البحث عن أسواق جديدة محيطة لتبدل المنتجات والخدمات وتسويق الموارد الطبيعية ومعرفة الموارد والمنتجات المتوفرة في الأسواق الأخرى. فالاستمرار في التطور التقني ساهم في الوصول لسوق أكبر من خلال الراديو ثم التلفزيون ودخول الإعلانات.

الثورة الرقمية (التحول من المحتوى النوعي إلى الكمي) وسرعة الانتشار العالمي (الخبر – الإشاعات – بناء الانطباعات) كان وسيلة للوصول بدون حدود لشرائح مختلفة وأصبح الفرد والسياسي والرياضي وكافة شرائح المجتمع لهم صوت وتأثير، وخلق انطباعات إيجابية أو سلبية، والتأثير على سمعة المجتمعات والدول والمنتجات والخدمات، وأصبح علم البيانات وتحليل سلوكيات المستهلك أكثر سهولة. لذا أصبح ما يسمى Social Referral التوصية والاستشارة المجتمعية من أقدم أدوات التسويق والتأثير غير المباشر منذ القرون السابقة.

زيادة معدل استخدام الإنترنت في العالم وتنوع وسائل التواصل الاجتماعي مع تغير طبيعة ونمط الحياة في معظم دول العالم خاصة العالم العربي بوجود الرجل والمرأة في سوق العمل؛ جعل الوقت المتاح للعوائل للتسوق التقليدي أقل، وأصبح التسويق والتسوق والطلب من خلال الإنترنت هو السائد.

وقد زادت أزمة جائحة كورونا نسبة أعداد مستخدمي الإنترنت عالمياً بسبب الجائحة والحظر والاحترازات والقلق الذي أصاب المجتمعات والأفراد جعل الخروج للأسواق قليلاً، مما أدى إلى ارتفاع التسوق من خلال الإنترنت والتطبيقات، مما ساهم في سرعة تطور وقبول التقنيات وإيجاد آليات جديدة في ربط وسائل التواصل الاجتماعي بالبيع والترويج والتأثير المباشر وغير المباشر على سلوك وقرارات المستهلكين.

يضاف لذلك سرعة انتشار الإنترنت والتسوق الإلكتروني وكما تقول الدراسات بأن زيادة استخدام الإنترنت والتطبيقات المختلفة تقلل من الخوف من الخصوصية، كلها ساهمت في إغراق الأسواق بمعلومات المنتجات والخدمات وتنافس الشركات في الاحتفاظ بالعملاء أو جذب عملاء جدد. لذا تلجأ الشركات لاستخدام نماذج تقنية مختلفة من خلال المؤثرين للوصول للعملاء الحاليين والمحتملين والتأثير على قراراتهم الشرائية.

حيث ساهم تطور التقنيات في تنوع وسائل التواصل الاجتماعي، وتَنوَّع معها شرائح العملاء والهدف من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للشركات من نشر الوعي وجذب عملاء وزيادة المبيعات، وأصبح لكل نوع من وسائل التواصل الاجتماعي استراتيجية محتوى ومؤثرين خاصين بها تناسب الفئات المستهدفة. التوصيات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي هي الملك القديم الجديد المتجدد وأكبر برنامج توصيات Referral عبر التاريخ لتساهم في conversation والتأثير على رغبات واهتمامات وقرارات المستهلك.

 

يعتبر التسويق عبر الإنترنت Online Shopping مريحاً convenient  ومتنوع الخيارات للمستهلك من منتجات وخدمات. في المقابل هناك التسويق الاجتماعي عبر الإنترنت Online Social Shopping يعتبر الأكثر جاذبية حالياً؛ لأنه يكون أقرب للتسوق التقليدي بوجود الإحساس الاجتماعي ومعرفة تفضيلات الأصدقاء والأقرباء، والتأثر بالتوصيات والتقنيات وعلم البيانات ساهمت أكثر بفهم أعمق لسلوكيات واهتمامات ورغبات العملاء.

وأشارت دراسات سابقة لنسبة التأثير على القرارات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وتوصيات الأصدقاء والمشاهير. 76% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يعتمد على توصيات الآخرين، مقابل 15% يتأثر بالإعلانات من الشركات. و67% منهم ينفق أكثر بعد توصيات وتأثير الأصدقاء والأقرباء والمشاهير في وسائل التواصل الاجتماعي. و90% تزيد لديه نسبة الثقة عند تلقيه توصيات من أصدقاء وشخصيات لديه ثقة مسبقة بهم.

وبناءً على دراسات Global Web Index، 54% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يستخدمون الوسائط المختلفة في وسائل التواصل للبحث عن منتجات و71% منهم قد يتخذ قرار الشراء بناءً على توصيات وجدها خلال البحث في وسائل التواصل.

نحن كعملاء قد يكون لدينا تجارب متنوعة خاصة أن التطبيقات من خلال الهواتف الجوالة، أصبحت مصدر علم البيانات وتحليل ومراقبة سلوكيات العملاء والمستهلكين والمستخدمين. بل وأصبحت تغزونا الإعلانات بناءً على سلوكياتنا وكلمات البحث التي نستخدمها، والكثير منا قد يتأثر ويتخذ قرار الشراء؛ لكن السؤال هل التجربة كانت جيدة؟ هل المنتج كان ذا جودة حسب الإعلان المباشر أو حسب توصيات المشاهير المدفوعة؟ هل سوف تُكرِّر التجربة أو توصي الآخرين بها؟

إن التطورات التقنية في التسوق الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي قَصَرت وسرَّعت رحلة اتخاذ قرار الشراء مقارنة بالتسوق التقليدي، ففي رحلة التسوق التقليدي كان العميل يشاهد الإعلانات مرة واثنتين لمنتجات متنوعة تغزو البرامج في الإذاعات والتلفزيون والطرقات. وعند الخروج للتسوق في نهاية الأسبوع مع العائلة أو الأصدقاء قد يتذكر العميل شيئاً من هذه الإعلانات، أو خلال تجوله في المتاجر يستحضر بعضاً منها، وربطها باحتياجاته أو خلال حديثه مع الأشخاص حوله خلال رحلة التسوق. ثم يرى المنتج ويعاين المنتج وقد يتخذ قرار الشراء أو يؤجله لرحلة تسوق قادمة. في المقابل، رحلة التسوق في وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت سريعة وقصيرة وتأخذ دقائق بسيطة من عملية بناء الرغبة وزيادة الوعي awareness and interest إلى البحث السريع عن المنتجات search والتوصيات ومن ثم الضغط على الرابط لتصل للموقع أو المتجر الإلكتروني الذي يغذي البصر بالصور ثلاثية الأبعاد ومعلومات وتفاصيل المنتجات ومقارنتها مع منتجات مشابهة، وقد تعرض عليك مَن اشترى المنتج مِنْ شخصيات معروفة أو شخصيات قريبة منك أو أنت تتابعها في وسائل التواصل الاجتماعي. وبخطوات بسيطة وسريعة تستطيع اتخاذ القرار وشراء المنتج وقد يصلك في نفس اليوم أو اليوم التالي، ويضاف لذلك أصبح العميل مصدراً لعلم البيانات بنشر مباشر لتجربته لرحلة التسوق أو شراء المنتج أو توصياته عن استخدام وجودة المنتج، مما يتيح للمتابعين معرفة قراراته واهتماماته.

وتشير إحدى دراسات Deloitte إلى أن 29% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي قد يتخذ قرار الشراء في نفس اليوم عند تعرضه أو تلقيه توصيات من الأصدقاء والمؤثرين والمجموعات التي يحب أن ينتمي لها. وفي دراسة أخرى من Influencer Marketing Hub فإن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يرون بأن تأثير المشاهير في وسائل التواصل الاجتماعي على قراراتهم يعتبر مؤثراً جداً بنسبة 35%، و45% يرون أنه مؤثر، مما يعني أن نسبة التأثير تصل إلى 80% بينما 15% كانوا محايدين بين التأثير وعدم التأثير و5% يرون أنها غير مؤثره في قرار الشراء؛ لكن الأهم كلما كان المؤثر والتوصيات قادمة من شخصيات مختصة في مجالها وذات علاقة بالمنتجات أو الخدمات الموصي بها، كانت نسبة الثقة أكبر عند الفئات المستهدفة.

كما هو الحال في إيجابيات وسائل التواصل الاجتماعي، فإنها أيضاً عنصر سريع في نشر الإشاعات والتجارب غير الجيدة عن المنتجات والخدمات لتصل في دقائق للعالم.

وبعيد عن هدف بيع المنتجات بصورة مباشرة، فإن استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أحد مصادر القوى الناعمة وضمن استراتيجيات الدبلوماسيات السياسية والرياضية والثقافية والصحية واللغات والتنمية والسياحة وغيرها. حيث تحصد الأندية الرياضية عوائد مالية ضخمة من محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، وتهدف الأندية الرياضية في الانتشار العالمي وزيادة عدد القاعدة الجماهيرية في أسواق عالمية مختلفة، وبالتالي زيادة عدد مبيعات المنتجات، لقد حقق نادي ليفربول الإنجليزي من صناعة المحتوى التفاعلي مع الجماهير في قناة اليوتيوب 164 ألف دولار شهرياً، يليه نادي برشلونة الإسباني بقيمة 117 ألف دولار، ثم مانشستر سيتي 22 ألف دولار.

فبناء وصناعة الشخصية Personal Brand والدبلوماسية الرياضية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أصبح عنصراً هاماً. ومن أهم عناصر بناء المصداقية والصورة الذهنية ترك الأثر الإيجابي في المجتمع وزرع القيم التي تؤمن بها بين الجماهير والتفاعل لدعم قضايا المجتمع. لكي تكون قائداً بالقدوة وتجعل أحلام الجماهير الوصول لنجوميتك وقيمك. ماركوس راشفورد لاعب منتخب إنجلترا ونادي مانشستر يونايتد (عمره 22 سنة)، استطاع من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أن يغير قراراً سياسياً بالضغط للموافقة على استمرار تقديم الوجبات للطلاب المستحقين لها خلال جائحة كورنا والاجازة الصيفية رغم توقف المدارس وعملها فقط عن بعد في المملكة المتحدة. مما جعله يصبح حديث الإعلام العالمي وقدوة للشباب، وغرس صورة ذهنية إيجابية من خلال المبادرة والتعاطف مع قضايا المجتمع ومحبي كرة القدم والتي يُطلَق عليها لعبة البسطاء ومعشوقة الفقراء. وتم أيضاً دعوته في قائمة Queen’s Birthday Honours List 2020  وحصوله على ميدالية تكريم من ملكة بريطانيا Member of the Order of the British Empire MBE

حيث تستخدم الأندية الرياضية نجومها العالميين لتحقيق أهداف الأندية كما حصل مع نادي يوفنتوس من خلال التعاقد مع النجم العالمي رونالدو صاحب التأثير الأقوى بين الجماهير الرياضية والشباب. بالإضافة إلى تحقيق البطولات، كان من أهداف يوفنتوس التوسع في أسواق جديدة مثل شرق آسيا وزيادة المتابعين وبالتالي بيع منتجات النادي وجعلها نمط حياة للجماهير وبيع عضويات النادي. أيضاً يوفنتوس افتتح قناة يوتيوب خاصة للأطفال كان يهدف من خلال رونالدو زيادة عدد متابعي القناة. حسب Giorgio Ricci – Chief Revenue Officer  فإن التعاقد مع رونالدو ساهم في تحقيق هذه الأهداف.

أصبح اللاعبون العالميون أيقونات يحصلون على عوائد مالية ضخمة من وسائل التواصل الاجتماعي – ملايين المتابعين تعني ملايين الأرباح. كريستيانو رونالدو لديه 225 مليون متابع في منصة انستغرام، و122 مليون متابع في فيسبوك، و85 مليون متابع في تويتر. مداخيل رونالدو من منصة انستغرام تصل إلى 48 مليون دولار تقريبا سنويًا، وقيمة الإعلان الواحد تقترب من مليون دولار. اللاعب الأرجنتيني ليونيل ميسي – أرباحه سنوياً تتجاوز 23 مليون دولار، وسعر الإعلان الواحد 648 ألف دولار، وعدد متابعي الانستغرام 145 مليون. فيما النجم الإنجليزي ديفيد بيكهام – أرباح تتجاوز 11 مليون دولار، وسعر الإعلان الواحد 357 ألف دولار وعدد المتابعين يتجاوز 61 مليون.

قد يكون من أهم أهداف تأثير وسائل التواصل الاجتماعي هو التوسع العالمي والانتشار والتأثير في قرار الشراء الأول، فاستمرارية شراء العميل تحتاج وجود عناصر مختلفة. وبناءً على دراسات وأبحاث سابقة عن استمرارية الشراء من الإنترنت؛ فإن جودة التقنيات والمحتوى المستخدم والتصميم عنصر هام لزيادة الثقة لدى العميل؛ لكي يقرر تجربة المنتج ومعرفة أكبر بالقيمة المضافة والفوائد من المنتج التي بالتالي تزيد من متعة التجربة واستخدام المنتج وتزيد من التأثير المجتمعي في المجتمع المحيط وتوصية الآخرين، مما ينتج عنه زيادة في الرضا واستمرارية الشراء وإعادة الشراء.

 

فالشركات والمنتجات وأيضاً تسويق الدول والمدن والأماكن التي تبني من خلال رسائلها توقعات مرتفعة لدى العميل، عند التجربة والاستخدام أو زيارة المكان سوف يتم تأكيد التوقعات أو عدم تأكيدها بمعنى عدم صحتها حسب الرسائل التي تلقاها العميل. في حال تأكيد التوقعات يكون هناك زيادة في نسبة الرضا وبالتالي الاستمرارية وإعادة التجربة والنصح بها للآخرين. وفي حال تم عدم مطابقة الواقع مع التوقعات التي كانت ضمن رسائل الشركات في وسائل التواصل الاجتماعي ورسائل المؤثرين وتوصية الأصدقاء يكون هناك عدم رضا وعدم استمرارية في الشراء.

 

 

 

لذا مهم جداً وضع استراتيجية واضحة من هدف استخدام وسائل التواصل الاجتماعي واختيار المؤثرين لسرعة انتشار الوصول من خلال وسائل التواصل الاجتماعي إيجابياً والتأثير السلبي في حال اكتشف العميل عدم صحة المعلومات.

فنستطيع أن نضع معايير صناعة أخلاقية عند التفكير بأسباب ما ننتجه للعالم.

 

التعقيبات:

  • التعقيب الأول: د. عبدالله ناصر الحمود

يمكنني القول، إننا نعيش في عصر “التسويق”، وهو بالفعل تسويق للعديد من السلع والأشياء، بفضل التطورات الكبرى التي شهدتها بيئة الإعلام والاتصال، واكتساح شبكات التواصل الاجتماعي للبيئة الثقافية الاجتماعية للناس. وهذا الملحظ ليس فقط في إطار ترويج الوسائل للمنتجات، ولكن أيضاً ما أتاحته البيئة الاتصالية من تراكم المعرفة ونقل التجارب والخبرات فيما بين البشر، حتى أصبح رابط “المرئيات” أو “الآراء” التي يبديها الناس خلال تجاربهم الشرائية أهم من رابط المنتج نفسه، فصارت تجربة الشراء تجربة جماعية من طراز رفيع.

أولاً: تركيبة التسويق.. والشراء

رغم أن نشاطات التسويق التي تجري عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعتمد في الأساس على خبرات ومهارات عملية ناجحة تراكمت لدى المخططين من جانب والممارسين من جانب آخر، إلا أن التسويق التجاري يستند في الوقت ذاته على عدة مبادئ ومقولات نظرية مستمدة من حقول معرفية عديدة كعلم النفس، والاتصال، والإقناع، والاجتماع، ومبادئ التسويق التجاري المباشرة والخاصة كمبادئ الربح والخسارة وتنمية الموارد ونحوها. وبمعنى آخر تقوم عملية التسويق للسلع والمنتجات على الجمع بين النظرية والتطبيق، أي الجمع بين “المداخل النظرية” المفسرة لسلوك الجماهير من جهة وتراكم الممارسات العملية الناجحة في مجال الإقناع من جهة أخرى. وهي عملية ليست يسيرة مهما بدت كذلك.

ثانياً: الأمر له مرجعيات نظرية فلسفية معتبرة

لا تتم عمليتا التسويق والشراء بالصدفة، إلا في حالات نادرة لا اعتبار لها، ولا يمكن تصور رواد شبكات التواصل الاجتماعي مجرد ممارسين مجتهدين، ولكن التجارب تؤكد أن معظمهم بات يمتلك معرفة ودراية بما يقوم به من عمليات تسويق، وخضعوا لدورات تدريب وتأهيل متقدمة، وتراكمت لديهم المعارف والخبرات في هذا المجال تحديداً، مهما بدو للبعض أنهم مجرد شباب يافعين متحمسين.

ومن بين المداخل النظرية والمدارس الفلسفية الهامة التي ترتكز عليها عمليات التسويق وعلاقته بالتأثير على اتجاهات الجمهور وسلوكهم الشرائي ما يلي:

نظرية انتشار المستحدثاتTheory  Diffusion of Innovations

فالمبتكرات والأفكار الجديدة تحتاج إلى وقت كي يتم تبنيها على النطاق المجتمعي ككل، وغالباً ما تتباين مواقف الجمهور نحو المستحدث أو الفكرة الجديدة على نحو واضح. فهناك، على سبيل المثال، المبادرون الذين يسارعون إلى تبني المنتج أو المستحدث الجديد فور ظهوره والترويج له، تليهم الأغلبية المبكرة، ثم الأغلبية المتأخرة، ثم المتلكئون الذين ينتظرون كي يتأكدوا تماماً من طبيعة المنافع والمضار المترتبة على تبني أو شراء السلع الجديدة. ويمكن وفقاً لهذا المدخل النظري، تعزيز وسائل التواصل الاجتماعي لتقبل الناس للسلع والمنتجات الجديدة والمبتكرة، ومن هنا، يمكن فهم تركيز رواد شبكات التواصل على المنافع المستحدثة من المنتجات والسلع.

نظرية الإدراك الاجتماعي  Social Recognition Theory

وتدور هذه النظرية حول مقولة رئيسية مفادها أن سلوك الفرد يتأسس في ضوء إدراكه لطبيعة المتطلبات والتوقعات التي يفرضها الواقع الاقتصادي المحيط المستمد من خصائص الواقع الاجتماعي. ويتأتى هذا الإدراك بدوره نتيجة انخراط الفرد في عمليات ملاحظة ومراقبة مستمرة للبيئة المحيطة، بحيث لا يأتي سلوكه مفارقاً لمتطلبات تلك البيئة. ووفقاً لهذه البيئة يتخذ الناس غالباً قراراتهم الشرائية، وتؤثر بشكل ملحوظ في مدى تكرار عمليات الشراء ذاتها. ومن هنا يمكن فهم نهم بعض الأفراد بتكرار عمليات شراء سلع بعينها قد تزيد عن الحاجة الفعلية كشراء عدد كبير من الساعات، أو الملابس، ونحوها، بسبب اعتبارات اجتماعية يجري توظيفها بشكل محترف في الترويج للسلع عبر شبكات التواصل التي تربط مشاعر الناس ببعضها، وبشكل غير مباشر غالباً.

نظرية التوقع ـ القيمة Expectancy – Value Theory  

تفيد هذه النظرية بأن ثمة علاقة وثيقة بين المعرفة التي يتحصل عليها الفرد حول السلع والمنتجات، وبين سلوكه الشرائي الشخصي، حيث يميل الفرد بشكل دائم لتقليل الفجوة بين المعرفة التي يكتسبها والسلوك الذي يتبناه في حياته اليومية، وذلك من خلال قيامه بتقدير مبدئي لماهية النتائج (القيمة) المترتبة على اتخاذ سلوك ما وفقاً لمجموعة من التوقعات المسبقة (التوقع) لردود الأفعال لممكنة قبل إقدامه على أي سلوك شرائي. ويدرك غالباً رواد شبكات التواصل هذه الحقيقة، لنراهم وهم يدعمون القيم النفعية الكثيرة للمنتج والسلعة، ويقللون من الخسائر المحتملة.

نظرية احتمالية إعمال العقل Elaboration Likelihood Model  

وفقاً لهذه النظرية، إذا نجحت الرسالة الإعلامية الاتصالية في شبكات التواصل في إثارة عقل المتلقي (فرضية إعمال العقل) للتفكير فيما تعرضه من سلع ومنتجات، زادت احتمالات استجابة الفرد الشرائية وفقاً لما تدعو إليه الرسالة الإقناعية. ولكي تتحقق فرضية إعمال العقل ـ ابتداءً ـ ينبغي أن تستحوذ القضية -موضوع الرسالة- على اهتمام وانتباه الفرد ما يفضي لارتفاع معدلات استغراقه في طبيعة السلعة والمنتج issue involvement، ومن هنا تزداد احتمالية إعمال العقل ومن ثم حدوث التأثير الموجب لعملية الشراء، جراء بث الرسالة الإعلامية الاتصالية.

نظرية التلقي والقبول Reception and Acceptance Model

مدار هذه النظرية حول مدى قدرة الرسالة التسويقية في أن تظل حاضرة في ذهن المتلقي لأطول فترة زمنية ممكنة، بحيث إذا ما سُئِل ذات مرة عن شخص أو سلعة أو فكرة أو جهة ما يستطيع استدعاءها بشكل سريع من ذاكرته قصيرة المدى. ولكي تنجح الرسالة التسويقية الإقناعية في ذلك ينبغي أن تتوافر على شروط بعينها من حيث الشكل وطريقة بناء المضمون، وهي شروط بات يجيدها رواد شبكات التواصل بشكل ملحوظ.

ثالثاً: أساليب التسويق واستراتيجياته المعاصرة

تسعى رسائل التسويق للسلع والخدمات، غالباً، إلى تحقيق غايتين رئيستين: الأولى، تغيير قناعات وسلوكيات الجمهور في ذات الاتجاه الذي يتبناه ويُروِّج له المسوق. والثانية، تتعلق بتحقيق منافع معينة جراء الإقدام على عملية الشراء للمنتج أو الخدمة موضوع التسويق. ولتحقيق هاتين الغايتين عادة ما يتبنى رواد التسويق عبر شبكات التواصل الاجتماعي استراتيجية محددة تتكوَّن من عدة عناصر أبرزها ما يلي:

تحليل المزيج التسويقي

ويشتمل هذا العنصر بدوره على العناصر الأربعة التالية، التي غالباً ما يشار إليها بـ 4p’s

  • المنتج (Product): ويشير المنتج هنا إلى كل ما يريد المُسوِّق أن يعرفه الجمهور عن السلعة أو الخدمة موضوع التسويق.
  • السعر (Price): ويشير هذا إلى المنافع الاقتصادية التي يتحصل عليها أفراد الجمهور حال تبنيهم “للمنتج” الذي يُروِّج له المُسوِّق وشرائه.
  • المكان (Place): ويُقصَد به طريقة وصول المنتج محل الترويج للجمهور.
  • الترويج (Promotion): الوسيلة الرئيسة لإقناع الجمهور بتبني المنتج موضع التسويق. وإضافة للتسويق عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يتخذ الترويج أشكالاً عدة منها ما هو مباشر كالتواصل الشخصي مع الجمهور، أو عبر حملات إعلامية منظمة في وسائل الإعلام التقليدية أو الحديثة.

تحديد دقيق للمُستهلِك ولطبيعة المعرفة موضوع التسويق

ويُقصَد بالمستهلك هنا الجمهور الذي تتوجه إليه حملات التسويق، سواء كان عاماً أو خاصاً. ويقتضي إقناع الجمهور بمضمون حملات التسويق ما يلي:

  • تحديد من الجمهور المستهدف بالإقناع، وخصائصه الاجتماعية والثقافية والديموغرافية.
  • حصر المعلومات والمعارف التي يرغب الجمهور في معرفتها حصراً دقيقاً، بحيث لا يحدث لبس في ذهن المتلقي نحو الغرض الموضوعي من عملية التسويق.
  • دراسة الفجوة بين ما ينبغي أن يعرفه الجمهور (المعرفة الواجبة) وبين ما يرغب في معرفته (المعرفة المرغوبة)، بحيث يتم تصميم حملة التسويق لسد تلك الفجوة.
  • تحديد دقيق لماهية وطبيعة الرسائل الاتصالية الأنسب التي يفضلها الجمهور للحصول على المعلومات والمعارف في حياته اليومية.

دراسة توقعات الجمهور

نجاح حملات التسويق مرهون بدراسة مستفيضة للمنافع الشخصية أو المجتمعية التي يتوقع الجمهور الحصول عليها نتيجة تبنيه للمضمون الذي تُروِّج له عمليات التسويق. في ضوء ذلك، يتم تصميم الرسائل التسويقية بحيث تظهر للجمهور المستهدف طبيعة المنافع التي ستعود عليه شخصياً حال تغيير سلوكه واتجاهاته بما يتوافق مع ما يتم التسويق له.

تصنيف الجمهور

بعد دراسة الجمهور وتحديده من جهة وبعد إبراز طبيعة المنافع المتوقعة التي سيحصل عليها الجمهور حال استجابته للرسالة الإقناعية في عملية التسويق، يجري تصنيف الجمهور لفئات مختلفة تعكس حقيقة التمايزات الديموغرافية والثقافية والاقتصادية وأنماط السلوك المختلفة لأفراد الجمهور. إذ لا يُتصوَّر تصميم مادة تسويق احترافية تشتمل على رسالة إقناعية تصلح لمختلف الشرائح العمرية والاجتماعية لجميع فئات الجمهور المختلفة.

تصميم الرسالة الإقناعية واختبارها

تضمن هذه المرحلة تحديد نوعية الأفكار والموضوعات واستمالات الإقناع التي تشتمل عليها الرسالة الإقناعية. ويمكن اختبار هذه الرسائل قبل المضي قدماً في نشرها وتبنيها.

تنفيذ عملية التسويق

ويراعي رواد شبكات التواصل عادة، في تنفيذ عمليات التسويق ضرورة اختيار الأساليب الإعلامية الملائمة والتأكد من أنها تتيح الفرصة كاملة أمام المتلقين للتفاعل الآني؛ وذلك لقياس رد فعل الجمهور الفوري إبان انتهاء العملية التسويقية. ومن هنا، يمكن فهم أسلوب “العروض” و”كودات الخصم” المربوطة مباشرة بأسماء المعلنين ورواد شبكات التواصل. وهي طرق مستحدثة وفائقة القدر في تعزيز العلاقة بين المروج للسلع والخدمات، والمالك الذي يدفع عادة أجور عملية التسويق.

  1. 7. تطبيق مبدأ الاستمالات

يراعي رواد شبكات التواصل عادة، في تنفيذ عمليات التسويق ضرورة اختيار وتحديد استمالات الإقناع المناسبة، من خلال حسن توظيف مهارات الإقناع، إذ لا يندرج الإعلام ضمن أهدافها الرئيسة وإنما الإقناع في المقام الأول. ويعني ذلك أن نجاح عملية التسويق مرهون بالنجاح في إقناع الجمهور المستهدف بتبني ما تُروِّج له عملية التسويق. ومن هنا، تتأتى أهمية معرفة ما يفعله رواد شبكات التواصل من استمالات الإقناع المناسبة، والتي تتعدد لتشمل ما يلي:

  • استمالات التعاطف.
  • استمالات التخويف.
  • استمالات الفكاهة.
  • استمالات السخرية.
  • استمالات الرسائل الداعمة.
  • استمالات التحفيز.
  • استمالات منطقية وعقلانية (تعتمد على الأرقام والإحصاءات والأدولة المنطقية).
  • استمالات المقارنة (استعراض تجارب ناجحة أو داعمة).
  • استمالات المحاكاة (محاكاة نماذج ناجحة).

ولعل أهم ما يضمن النجاح في عملية التسويق قدرة الرسالة الإقناعية على خلق قيمة value creation بعينها تحفز الجمهور المستهدف نحو تبني الفكرة موضع التسويق. والقيمة في عالم التسويق التجاري تتعلق بحساب الفرق بين العائد أو الفائدة التي تعود على الشخص وبين المال المدفوع في الخدمة أو السلعة محل التسويق (تحليل التكلفة والعائد cost-benefit analysis). ويعد مفهوم خلق القيمة (أو خلق الطلب) لدى الجمهور مفهوماً شائعاً ومستقراً في دراسات التسويق. إذ لا يتصور أن تخلو حملة تسويق من تحديد واضح للقيمة التي سيحصل عليها الجمهور المستهدف نتيجة تبني السلوك الذي تروج له الرسالة التسويقية.

الخلاصة

لقد خَبرتُ العديد من حسابات التواصل الاجتماعي، وصنفتُ شخصياً، حسابات رواد التواصل الاجتماعي في هاتفي المحمول إلى أكثر من خمسين صنفاً، ولكل صنف منهم شأنه الموضوعي والشكلي، الذي يختلفون فيه اختلافات كبرى، ولكن المفارقة العجيبة أنهم كلهم يتفقون في المنظور الاستراتيجي للرسالة الاتصالية عندما يكون الموضوع “تسويقاً” للسلع والخدمات. وأظن أن قوة “المعرفة” بطبيعة الرسالة التسويقية واشتراطاتها، وثراء التجربة التسويقية لدى العديد منهم، هو ما يجمعهم عندما يرتبط الأمر بالتسويق.

 

  • التعقيب الثاني: أ. علاء الدين براده

نتحدث اليوم عن تأثير إيجابي وآخر سلبي لوسائل التواصل في عملية الشراء، ومن هذا المنطلق أرغب أن أشير هنا للجوانب التي أراها ذات ارتباط وثيق بالتحديات المنبثقة من هذا التأثير.

أشار كاتب الورقة الرئيسة إلى نقطة جوهرية في ورقته وهي تبادل المنافع المبنية على مسألة التبادل التجاري من خلال وسائل التواصل. تكمن أحد الإشكاليات الجوهرية هنا في استغلال سهولة إتمام العمليات التجارية عبر وسائل التواصل، فتسيء بعض الشركات استخدام هذه التقنية وتبدأ بالترويج لمنتجات لا تحقق أدنى معايير الجودة. وهذا التحدي بحد ذاته له تبعات قد لا يعيرها البعض الاهتمام المطلوب في الوقت الراهن، لكن الأثر الاقتصادي الكبير يظهر للعيان من خلال فقد ثقة العميل التي تتباطأ تدريجياً في المنتج والوسيلة التي يتم تقديم الخدمة من خلالها.

والتبعات المترتبة على ذلك يمكن أن نبدأ بملاحظتها حين يتردد البعض في شراء المنتج بسبب إعلان مضلل، أو معلومة خاطئة فينعكس تأثيرها السلبي على سلوكه الشرائي.

وما يمكن أن يغفله البعض هو أن تطور التقنية المحفزة على القيام بهذه العمليات يمكن أن تتأثر أيضاً، حيث إن ضعف الإقبال عليها من قبل العملاء يمكن أن يدفع الشركات لإعادة النظر في خططها التطويرية.

دخول البضائع المقلدة ذات الجودة الرديئة والتي لا يمكن الاعتماد عليها إلى الأسواق له تأثير اقتصادي سلبي أيضاً. حيث تستنزف هذه البضائع ميزانية الأسرة بشكل كبير، ولأن درجة الجودة فيها لا تحقق عوامل السلامة والقابلية للاستخدام، فهي إضافة لكونها ترهق ميزانية رب الأسرة، تسمح بدرجة أعلى من الاستغلال العاطفي، وتفتح المجال لحوادث متعلقة ببعض المنتجات.

وخلاصة القول إن التقنية كما أنها جاءت بميزات محفزة إلا أن الاستغلال الخاطئ لها يوجب علينا أن نكون على درجة عالية من الوعي والإدراك لما يقدم من خلالها.

فتجربة العميل هي المحك في هذا السياق، وعليه لا بد من وضع هذه التجربة نصب أعيننا بتحليل نقاط الاتصال الفاعلة ودراسة مكامن الخلل حتى يمكن تطويرها. وهذه التجربة يجب أن تكون مصممة بعناية شديدة وتخضع لدرجات عالية من المتابعة المستمرة، لا سيما وأن وسائل التواصل هذه مقبلة على ثورات تقنية جديدة وهو ما بدأنا نتابعه في أواخر العام المنصرم.

والعالم الافتراضي الذي كان قبل سنوات قليلة جزء من الخيال، هو اليوم سبيل جديد لتواجد الشركات واستهداف عملاء جدد من الأجيال القادمة. والانسياق وراء هذه التقنيات كما أن له محاسن ومنها الريادة في المجال، لكنه أيضاً يجب أن يكون مرتبطاً بالمعرفة الحقيقة والواضحة لطبيعة التقنية من قبل المختصين الملمين بها بشكل كامل.

 

  • المداخلات حول القضية
  • التعريف بالتسوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

لم يعد أثر استخدام شبكات التواصل الاجتماعي يقتصر فقط على “تبادل المعلومات بين الأفراد؛ بل وصل إلى الأنشطة التسويقية الإلكترونية حيث قامت العديد من الشركات بنشر معلوماتها، وتقديم عروضها لمنتجاتها وخدماتها عبر شبكات التواصل الاجتماعي”. ويتمثل الدور الأساسي لأولئك الذين يعملون في التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي في تنظيم حملات تسويقية وتشغيلها عبر منصات التواصل الاجتماعي، من خلال نشر المحتوى والتفاعل مع المتابعين والتحقق من التحليلات للتأكد من النجاح، بالإضافة إلى تشغيل الإعلانات”.

ويلاحظ أن قوة المحتوى وحدها لا تكفي في العملية التسويقية؛ ولكن الشكل الذي يُقدَّم به وطريقة توزيعه تلعب دوراً مهماً خلال مراحل تتضمن خلق وصناعة المحتوى والنشر والتوزيع. ويشير العديد من خبراء التسويق إلى أن المؤسسات سواء المالية أو التجارية تستطيع خلق روح المنافسة على شبكات التواصل الاجتماعي باستخدام الوسائل الإعلانية التفاعلية الحديثة التي تُمكِّنها من الترويج لمنتجاتها وخدماتها. وتتزايد أهمية ذلك في ضوء ما تظهره الإحصاءات والتي تشير إلى أن عدد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي عبر العالم وصل إلى 2 بليون مستخدم عام 2019م.

وإذا كانت الأنشطة الاقتصادية بما فيها التسويق في السابق مرتبطة بحدود الزمان والمكان، فقد أصبحت بفضل التكنولوجيا الجديدة للإعلام والاتصال أنشطة إلكترونية تتم في جزء كبير منها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وهذه الشبكات إذا ما استُخدمت بالشكل الصحيح ستسمح لمنظمات الأعمال للإشهار بنفسها وزيادة شعبيتها وإدارة سمعتها التي تعتبر النقطة الحاسمة في تسويق العلامة التجارية.

ويُعرَّف التسويق الإلكتروني على أنه “أحد الأساليب المعاصرة في إمداد جسور التواصل بين البائع والمشتري لتسويق السلع والخدمات عبر شبكة الإنترنت، ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعي تحديداً، بوصفها الأكثر انتشاراً بين المستخدمين في عالم اليوم. والمؤكد أن التطور المتسارع باستمرار والاستخدام المتزايد للإنترنت عبر تكنولوجيا المعلومات للاتصال من قبل الأفراد والمؤسسات، قد أحدث تغيرات في ملامح التسويق من مفهومه التقليدي إلى مفهومه الإلكتروني.

وأصبح التسويق عبر شبكات التواصل الاجتماعي حالياً من “أحدث الوسائل المعتمدة وأنشطها في عمليات التسويق والترويج الإلكتروني، والتي تُمكِّن الشركات أو الأفراد المروجين من الوصول بسهولة مطلقة إلى ملايين الأشخاص يومياً. إذ يعتبر هذا النوع من إدارة الحملات أنجح وسيلة حديثة للتسويق من خلال مراقبة ومتابعة سلوكيات ورغبات المستهلكين، وذلك من خلال دراسة احتياجاتهم وتحديد رغباتهم”.

  • أبعاد التسوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي: تفسير علم الاقتصاد السلوكي.

علم الاقتصاد السلوكي ذلك العلم الذي بدأ يطرق مسامعنا في الآونة الأخيرة، خاصة بعد نيل عالم الاقتصاد المرموق (ريتشارد ثالر)، أحد الباحثين الرواد في الاقتصاد السلوكي، جائزة “نوبل” في الاقتصاد لعام 2017؛ لمساهمته في وضع هذا العلم- الذي يهتم بدراسة السلوك الحقيقي للبشر واستكشاف لعقلانيتهم بشكل أو بآخر ضمن البحث قبل عملية الشراء أو الاختيار – على طاولة البحث العلمي من خلال توظيف دراساته بشكل عملي، وإطلاقه لمصطلح الترغيب (Nudge) الذي يهدف إلى توظيف استراتيجيات الاقتصاد السلوكي في تغيير سلوكيات الأشخاص للأفضل بشكل غير مباشر.

فالاقتصاد السلوكي يهتم بالبحث والتقصي عن ما هو الموجه الرئيسي لقرارات الناس الشرائية، من خلال استطلاع آرائهم، ولكن عوضًا عن سؤالهم عن رأيهم؛ يتم وضعهم تحت تجارب واقعية تحاكي ذلك السلوك واختباره عمليًا،- لذلك يُدعى أيضاً بالاقتصاد التجريبي- ؛ لأن حينما يُسأل بعض الناس عن رأيهم في أي منتج أو سلعة أو عن خيارهم الذي يفضّلون اتخاذه؛ لا يُفصحون عن سلوكهم الحقيقي، ولا يعود السبب في ذلك أبدًا إلى تدليس منهم أو عدم رغبتهم في التصريح عما في داخلهم؛ وإنما ببساطة لأن سلوكهم الحقيقي سيختلف عندما يتم تحت تجربة فعلية، عن السلوك الذي يؤمنون به، أو مقتنعين بأنه الخيار الأمثل والأفضل لوضعهم.

وللتوضيح أكثر، عوضًا عن سؤال الأشخاص عن قهوتهم المفضلة، نضعهم أمام تجربة حقيقية بوضع أكواب من القهوة المتنوعة على الطاولة (قهوة سوداء، وقهوة بالحليب … وغيرها من الأنواع الأخرى والتي تختلف باختلاف الفصل الذي تُقدم فيه)، ونترك لهم حرية الاختيار.. وهنا نحصل على السلوك الحقيقي لهم وليس النظري.

بينما عندما تُطرح على نفس هؤلاء الأشخاص استبانة حول ما هي نوع القهوة المفضلة لهم؛ هل يفضلون شربها مع حليب أو من غيره من المنكهات؟ سيميل الناس لإعطاء إجابة نموذجية – قهوة سوداء غامقة خالية من أي إضافات -؛ أما عندما تحين ساعة السلوك الفعلي، سيقرر الكثير منهم شرب القهوة مع منكهات إضافية، إما بعد التأثر نظريًا بأشكالها وطريقة تقديمها، أو للرغبة في تجربة أنواع جديدة بأسمائها المتنوعة الجذّابة أو بعد مشاهدتهم لإعلان مشوق لها من أحد المشاهير.

وكما تم الإشارة فإن السلوك النظري لدى الأشخاص مختلف تمامًا عن السلوك الحقيقي وفقًا لهذا العلم؛ كوننا نميل في سلوكنا النظري للتفكير بالخيارات المثالية وأخذ رأي المجتمع بعين الاعتبار والتفكير بشكل أقرب للمثالية.

ولكن حين نتخذ القرار عمليًا في حياتنا الواقعية، نتخذه بناءً على مؤشرات أخرى، وقد تتحكم بنا مؤثرات خارجية بلا دراية منا، ومن أهم الأمثلة على ذلك: تأثير إعلانات مشاهير السناب شات القوي بعد قيامهم إما بتذوق السلعة مباشرة أمامهم والتلذذ بأكلها، أو بالتجربة الفعلية المصورة للمنتج والتأكيد على سهولة استخدامه وجودة نوعيته، مع إمكانية تقسيط سعره، بالإضافة لكود خصم خاص بهم. وقد رأينا تأثير ذلك بشكل قوي على بعض الشخصيات في مجتمعنا وخاصة على فئة الشباب، فنجدهم منجذبين للشراء رغم ارتفاع سعرها ورداءة نوعيتها، أو رغم كونها لم تكن أصلًا من ضمن اختياراتهم السابقة؛ لذلك غالبًا ما يكون قرارهم غير عقلاني حينئذ، ولربما كان بعيدًا كل البعد عن عقلانية الشراء التي كانوا ينشدوها من قبل.

وكمثال آخر على أهمية الرؤى السلوكية لدى الأشخاص في حياتنا المعاصرة، فقد أوضحت جائحة كورونا كيف يمكن للاقتصاد السلوكي المساهمة في فهم الأوضاع الجديدة للاقتصاد، مثل : كيف يتأثر سلوك الأفراد في ظروف الجائحة؟ وهل يؤدي الخوف من العدوى إلى المزيد من الإنفاق الاستهلاكي أم إلى المزيد من الادخار؟ وكيف سيتصرف الأفراد في حالات الإغلاق؟

لذلك تعد دراسات الاقتصاد السلوكي مهمة حقًا؛ لأنها تُعطي فكرة عن السلوك الحقيقي للأشخاص تحت التجربة الفعلية، عوضًا عن الاستبانات. وكذلك لأنها أكدت أن علم الاقتصاد التقليدي كان ينظر إلى الأفراد على أنهم صانعو قرار عقلانيون، ومتمكنون معرفيًا بدرجة كافية، ولا يتأثرون بالعاطفة على خلاف ما أظهرته الدراسات الحديثة في الاقتصاد السلوكي، “أن البشر ليسوا عقلانيين، بل تتأصل فيهم التحيزات والأخطاء، وأنه يمكن التأثير بسهولة على تصرفاتهم وقراراتهم من خلال تغيرات بسيطة وغير مكلفة في صورة طريقة تقديم الخيارات أو المعلومات وسياقها، وسواء كان ذلك عمدًا أو دون قصد”.

وهذا هو بالضبط ما لجأ له مسؤولو التسويق في وسائل التواصل ومواقع التجارة الإلكترونية؛ لذلك فمسألة ضبط وتقنين وتصنيف الإعلانات الإلكترونية، ومحاسبة وتغريم المخالفين والمضللين للغير هو من أهم الحلول. بالإضافة إلى عدم إغفال دور الأسرة الفعال في المساهمة في ضبط وترشيد أموال أفرادها، وتوجيههم نحو الادخار تمهيدًا للاستثمار.

  • تأثيرات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التسوق.

أولاً: التأثيرات الإيجابية.

قرار الشراء ودور وسائل التواصل الاجتماعي في هذه العملية موضوع حيوي وأصبح شائعاً، بل إنه أصبح ظاهرة عامة تلفت الانتباه وذلك لسرعة التوسع في هذا المجال في السنتين الأخيرتين؛ أي بعد تفشي الجائحة وميل البعض إلى عدم الخروج من المنزل للتبضع وارتياد الأسواق. وقد حل بديلاً عن الخروج للأسواق ارتياد المقاهي والمطاعم وأماكن الترفيه في الموجة الثانية الجديدة.

ومن ملاحظة السلوك الشرائي لأفراد المجتمع السعودي يمكن تقسيمهم إلى فئتين: فئة الشباب، وفئة كبار السن أو “الزبون التقليدي” ولكل فئة خصائصها في الشراء واكتناز السلع.

وفي الحديث عن فئة الشباب فإنهم الأكثر استخداماً لوسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الإلكترونية ومن ثم الشراء عن بعد، مما ساهم برواج هذه الظاهرة بين أوساطهم. يشجعهم على ذلك مشاهير السوشيال ميديا والمحاكاة والرغبة في تجريب كل ما هو جديد.

ويبرر الشباب سلوكهم الشرائي بأنه مريح لهم ويستفيدون من آراء غيرهم في وسائل التواصل وذلك حول السلع المراد توفيرها وجودتها وسعرها. فلا يتطلب الأمر أكثر من معاينة البضاعة كما تبدو في الصورة أو في الموقع الإلكتروني، وما هو مدون عن مزاياها وضماناتها، ومن ثم تحويل مبلغ الشراء الذي يشمل أجرة الشحن والتوصيل. هنا يختفي تماماً العنصر البشري في عملية الشراء وتحل التقنية مكان البائع التقليدي، بل إن الزبون يعيد السلعة عند استلامها إذا ما اكتشف عيوبها أو أنها غير مناسبة أو ليست كما كُتب وقيل عنها بحكم أن الاسترجاع أصبح شرطاً مألوفاً في أكثر ما يتم بيعه بهذه الطريقة.

وقد يتم الدفع عند الاستلام وليس قبل ذلك لترغيب الزبون في الشراء، وأن ما سيحصل عليه يستحق أن يدفع من أجله؛ فوسائل التواصل تقدم مرجعية للشبان والفتيات في مدى صلاحية السلعة ومزاياها من خلال المتابعين ورواد هذه الوسائل.

وهناك عنصر غريب يمكن ملاحظته وهو تلهف الشبان وصغار السن لفتح المغلف الذي يحوي السلعة المطلوبة وكأنهم حصلوا على هدية وليس سلعة دفعوا ثمنها. وغالب ما يتم شراؤه يشمل الملابس بالدرجة الأولى، والألعاب، والأجهزة، والاكسسوارات، وأدوات المكياج، وأحياناً قطع غيار السيارات وما يتصل بها، والأدوات الرياضية وألعاب الأطفال، وبعض الكتب.

ثم نأتي إلى فئة الزبون التقليدي وتشمل كبار السن، وجزء كبير منهم غير ملم بتفاصيل هذه التجارة، أو أنه لا يميل إليها بحكم تفضيلهم الشراء بالطريقة المعتادة؛ بحيث يعاين البضاعة ويلمسها ومن ثم يبتاعها بعد الاتفاق على السعر الذي يخضع كذلك للمقايضة خاصة في المحلات التي لا تضع السعر على سلعها. هنا تبرز فنون المقايضة ويتم في النهاية الوصول إلى سعر وسط، حيث إن شريحة كبار السن تعاني غالباً من أمية رقمية أو أن استخدامها للتطبيقات الإلكترونية محدود للغاية، وذلك في مسألة الشراء الإلكتروني وإجراء التحويلات المالية. وتمثل هذه الشريحة فئة مهمة للغاية لأصحاب المحلات بحكم ترددها على هذه المحلات والشراء منها مباشرة دون وسيط. ومن سمات شريحة كبار السن أنهم أقل ميلاً للاستهلاك، فهم يقتصرون على شراء ما يعتقدون أنها ضروريات، وهي فئة غير معنية كثيراً بالإعلان التجاري، وبالتالي فشركات الإعلان لا تتوجه لهم على الأرجح ولكن للفئة الأولى (الشباب).

ولأن شريحة كبار السن ليست عريضة في المجتمع مقارنة بالشرائح الأخرى، فإنه من المتوقع أن يحدث تغيير جذري في عملية الشراء بحيث يزداد الاعتماد على الشراء الإلكتروني، مما سيؤثر حتماً على السوق والمحلات التجارية التقليدية. كما سيترتب على ذلك خروج البعض من السوق، إلا أن الأذكياء سيجارون التغير بطريقة البقاء في السوق؛ ولكن بعد الانخراط بالبيع الإلكتروني، بحيث يقتصرون على مستودعات للسلع وليس بالضرورة دكاكين ومحلات مكلفة، مع شبكة واسعة من الموزعين تماماً كما كانت تفعل محلات index البريطانية التي فطنت إلى طريقة البيع من الكتالوج وقبل شيوع البيع الإلكتروني بعدة عقود.

ويتطلب هذا التغيير ظهور مهن جديدة واختفاء مهن تقليدية وعريقة، وسيرتفع معدل البطالة بعض الشيء، وستقل الحاجة للعمالة الوافدة بصورة كبيرة، خاصة العمالة غير الماهرة، مما سيزيد من وتيرة التوطين لكثير من المهن والتي لن تتطلب تعليماً عالياً أو متقدماً كما كان الحال عليه في السابق. هذا يعني أن أنظمة وبرامج التعليم ستعيد النظر فيما تقدمه من تعليم لأن التغيير حتماً سيشملها.

والمكان عنصر آخر (مكان العمل وسكن الموظف)؛ فالموظف لن يكون ملزماً بالسكن قرب مكان عمله؛ فهو قد يسكن في ضاحية قريبة أو بلدة أخرى بعيدة عن مكان عمله، بحكم أن عمله لا يتطلب الحضور إلى المكتب لمباشرة مهامه بل سيتم معظم العمل عن بعد. وسيُحدِث الشراء الإلكتروني كذلك تغيراً جذرياً في عدد ساعات العمل ومواعيده، وربما يزداد وقت الفراغ وتقلص أيام العمل الأسبوعي وذلك لسرعة الإنجاز الذي يفضي إلى فائض في الوقت يتم قضاؤه ربما في الترفيه.

ومن أهم تطورات التقنية هو فهم أعمق للعميل وسلوكه وتفضيلاته وأيضاً الوصول ليس فقط للعميل بل لكل من يتابع العميل. ومن تطورات التقنية الراحة والسهولة في مساعدة العميل لإتمام عملية الشراء بصورة أسرع وتقديم معلومات أكبر وأعمق وشكل مفصل للمنتج لاتخاذ قرار الشراء؛ بل مساعدة العميل في معرفة آلاف المراجعات والتقييمات لعملاء آخرين استخدموا المنتج وأيضاً تقديم مقارنات للمنتج مع منتجات مشابهة لشركات أخرى أو منتجات مشابهة بمميزات أخرى لنفس نوع المنتج، وجميعها تساهم في اتخاذ قرار الشراء والوصول لعملاء وأصدقاء العميل المشتري قد تساهم في عمليات شرائية إضافية.

وبالطبع المميزات أكثر وأعمق لعلم التسويق الذي يهتم بخلق منتجات جديدة وتطوير منتجات حالية؛ لأن التقنيات ووسائل التواصل الاجتماعي تساهم في ذلك الفهم الأعمق أكثر من كونها وسيلة اتصال وتواصل والوصول للعملاء.

ويرى البعض أن استخدام التقنيات في التجارة الإلكترونية والإعلانات والترويج من خلال المشاهير، يعطي المشترى فرصة ذكاء أكبر في البحث والتقصي والمقارنة بكل سهولة قبل قرار الشراء؛ بمعنى التقنيات زادت من وعي وذكاء العميل بتوفر كل سبل المعلومات عكس التسوق التقليدي بالاعتماد على مصدر البائع.

ولعل من الإيجابيات التي يمكن التطرق إليها أن المهن التي تتصل بالتسوق الإلكتروني كاستقبال وأخذ الطلبات، والتغليف، والتوزيع، وتوصيل البضائع، قد تكون من المهن المناسبة للشباب السعودي وذلك لمرونة وقت العمل، وعدم ارتباط الموظف بمكتب أو مكان ثابت، إضافة إلى دخلها المعقول ويمكن زيادته بمضاعفة ساعات العمل حسب إمكانات العامل. فطبيعة الشاب السعودي عادة أنه صاحب التزامات أسرية واجتماعية تعيقه من أداء عمله بالصورة المطلوبة، بعكس العامل الوافد الذي لا تصحبه في أحيان كثيرة أسرته في المملكة ومن ثم يعمل ساعات طويلة وفي مختلف الظروف. ومعظم الشبان السعوديين وفي سن مبكرة يستطيعون امتلاك سياراتهم الخاصة (معدل امتلاك السيارة في المملكة سيارة لكل ٣-٤ أشخاص) والتي تعد مهمة للغاية كوسيلة مساعدة في مهن التسوق الإلكتروني، يضاف إلى ذلك توفر الشبان على الأجهزة المساعدة (موبايل، ونظام الجي بي أس إلخ) مما يسهل من مهامهم في الحركة والتنقل. وكل ما هم بحاجة إليه هو القليل من التدريب في التعامل مع الزبائن، وأخلاقيات العمل، والشغف بالمهنة، والمثابرة. الملاحظ هو تنقلهم من عمل إلى آخر مما لا يساعد على النجاح، بل إنه خلق انطباعاً قوياً عند أصحاب الأعمال والشركات بعدم جدية الشاب السعودي.

والواقع أن تطور استخدام تقنية المعلومات والاتصالات في حقل التسويق وخاصة ما يتعلق بمعالجة البيانات الضخمة، مكَّن الشركات من التعرف على القدرات الشرائية للمستهلكين وسلوكهم ورغباتهم ومن ثم التأثير المباشر وغير المباشر على قرارات المستهلكين. ومن ناحية أخرى مكَّنت تقنية المعلومات من رفع وعي المستهلكين وسهولة حصولهم على معلومات عن المنتجات، وبالتالي فقد ساهم ذلك في تعزيز المنافسة بين تجار التجزئة بهدف الاحتفاظ بالعملاء أو جذب عملاء جدد، كما ساعدت الابتكارات الرقمية في توفير حلول ذكية لمساعدة إدارات التسويق في التوسع والنمو واستقطاب عملاء جدد من خلال استهداف مناطق جغرافية مختلفة، محلياً ودولياً بالاعتماد على تحليل بيانات العملاء في منصات التواصل الاجتماعي.

ولوحظ كذلك أن كثيراً من السلع التي يتم شراءها إلكترونياً تأتي بأسعار مناسبة بل ومنخفضة في الغالب، مقارنة بنظيراتها في المحلات التقليدية؛ ومن ذلك على سبيل المثال المكملات الغذائية، وبعض الأدوية ومستحضرات التجميل، وقطع غيار السيارات، والملابس والأحذية. ويبدو أن تدني أسعار تلك السلع يعود إلى استغناء موزعيها عن محلات العرض الكبيرة ذات الإيجارات المرتفعة، ومن ثم اكتفاءهم بمستودعات تخزين قد تكون في أماكن بعيدة خارج المدن وبإيجارات منخفضة. فهذه الميزة بالطبع هي في صالح المستهلك في ظل الغلاء وارتفاع الأسعار، مما يدفع بالكثيرين للتسوق والشراء الإلكتروني. كما أن التسويق الإلكتروني فتح مجالاً لرواد الأعمال الصغار وذوي الدخل المحدود لتسويق وبيع منتجاتهم وخدماتهم بدون الحاجة إلى دفع إيجار محل وما يتبع ذلك من رسوم وفواتير.

وأتاحت الابتكارات التسويقية الرقمية فرصة للشركات الناشئة ورواد الأعمال للوصول للمستهلكين وتعريف المستهلكين بمنتجاتهم وهو ما يعزز قدراتهم على الانتشار. وبفضل الابتكارات التسويقية، أصبح لتلك الشركات القدرة على عرض منتجاتهم على منصات افتراضية رخيصة الثمن نسبياً ولا تتطلب من المستهلكين سوى اتباع خطوات بسيطة لإتمام عملية الشراء من موقع تلك الشركات. وساعدت الثورة التقنية الشركات الناشئة في اتباع استراتيجيات تسويقية أرخص ثمناً، بعيداً عن الوسائل التقليدية للتسويق كالإعلانات في الطرقات أو وسائل الإعلام، وهو ما انعكس إيجابياً علي زيادة مبيعاتهم ومن ثم ارباحهم.

ثانياً: التأثيرات السلبية.

سهَّل التسوق الإلكتروني عملية الشراء من أي مكان في العالم، وانتفت حجة خلو السوق المحلي من هذه السلع، وهو ما أثقل كاهل أرباب الأسر، وأصبحت حمى التقليد والمباهاة والتصوير والتقليد، بحاجة إلى تحول ثقافي يضبط هذا السلوك.

وبصفة عامة فإن سهولة الشراء عبر وسائل التواصل الاجتماعي ترتب عليها أمران:

  • الأمر الأول: ظهور نزعة استهلاكية طاغية عند شريحة الشباب، بحكم أن أغلب ما يتم التسويق له يدخل ضمن الجديد وغير المتوفر بالسوق والمتاجر غالباً (مميز)، ما يدفع لاقتنائه طالما توفر مبلغ الشراء الذي قد يتحمله أحد الوالدين.
  • الأمر الثاني: تراكم السلع في البيوت والتي قد لا تُستخدَم كثيراً بحكم أنها ستصبح قديمة أو خارج الموضة بعد عدة أشهر من انتهاء الوظيفة التي من أجلها تم شراؤها. فنحن نلاحظ هذا التراكم وتكدس البيوت بسلع كثيرة عند تنظيف المنزل، أو عند الانتقال من منزل إلى آخر، مما يتطلب في النهاية التخلص منها أو إعطاؤها لآخرين. يرتبط بما سبق كذلك كمية النفايات التي نتخلص منها من ورق وبلاستيك ومغلفات ما يفسر لماذا السعودي يتخلص من 2 كيلو جرام من النفايات يومياً، لنكون بذلك من أعلى دول العالم في كمية النفايات المنزلية التي نتخلص منها.

وتكمن أحد الإشكاليات الجوهرية في الشراء من خلال وسائل التواصل، في استغلال سهولة إتمام العمليات التجارية عبر وسائل التواصل، فتسيء بعض الشركات استخدام هذه التقنية وتبدأ بالترويج لمنتجات لا تحقق أدنى معايير الجودة. هذا التحدي بحد ذاته له تبعات قد لا يعيرها البعض الاهتمام المطلوب في الوقت الراهن، لكن الأثر الاقتصادي الكبير يظهر للعيان من خلال فقد ثقة العميل التي تتباطأ تدريجياً في المنتج والوسيلة التي يتم تقديم الخدمة من خلالها. كما أنه في التسويق التقليدي يأخذ الفرد وقتاً أطول في إتمام عملية الشراء واتخاذ القرار وهو عامل يساعد العميل لمراجعة قراره وإيجاد فرص ومنتجات بسعر أفضل وبالتالي قد يكون فرصة للمنافسين.

إن مستخدمي وسائل ومنصات وتطبيقات التواصل الاجتماعي يتعرضون لسيل عارم من الإعلانات الترويجية لعشرات السلع التي لا يمكن بحال من الأحوال التأكد أو التيقن من جودتها أو مصداقية مصدرها أو مروجيها من المشهورين وغيرهم. والمتتبع لتلك المنصات يرى أن أولئك المشهورين أو المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي تثار حول مصداقيتهم الكثير من الأسئلة ونراهم يعلنون عن عشرات السلع في اليوم الواحد وكذلك المطاعم والوجبات والمنتجعات والدول والواجهات السياحية داخلياً وخارجياً بشكل يتضح منها الكذب الصريح، وأن الهدف المادي هو الهدف الرئيس لهم ولمعلنيهم. يضاف إلى ذلك السلوكيات اللا أخلاقية التي تنتشر بشكل مقزز في السناب شات تحديداً كاستخدام الجسد والقيام بحركات إغراء دون اعتبار لدين أو قيم أو عادات أو أعراف أو أعمار المتابعين. والبعض الآخر يُروِّج أو يُسوِّق لمنتجعات واستثمارات تجارية وعقارية في مناطق أخرى خارج المملكة، كما حدث في تركيا في الأعوام السابقة، وكلنا يعرف النتائج التي صارت إليها تلك الاستثمارات، ونرى ذلك الأمر يتكرر في البوسنة، وهي البلد التي لا يمكن الوثوق في مدى نجاح الاستثمارات فيها على المدى الطويل، خاصة مع ضبابية الاستقرار السياسي بعد اتفاق دايتون للسلام في البلقان.

كذلك أصبح المستخدم للإنترنت بشكل عام عرضة للتتبع الإلكتروني؛ إذ لا يمكن له أن يفلت من ذلك التتبع الوحشي مهما عمل ومهما كانت مهاراته الإلكترونية عالية أو متقدمة، وهو في حقيقة الأمر مجبر على الموافقة على اختراق الخصوصية من قبل تلك المواقع والمنصات، حيث لا يمكن استخدام أي تطبيق إلا بعد الموافقة على شروطه المجحفة بحقه، ولذلك سيكون عرضة لسيل من الإعلانات الترويجية ليلاً ونهاراً.

وساهم التسويق عبر المشاهير في تعزيز ثقافة الاستعراض، والإغراق بلبس الماركات والتباهي بالأسعار العالية، واليوم تَعزَّز في السوق أسعار عالية في المطاعم مثلاً، وأحد أسباب ذلك الرغبة في الأماكن الفارهة والازدحام مع الناس فيها، بعيداً عن الواقعية والبساطة، مما عزَّز جيلاً متباهياً بالكماليات والترف، ولا يعجبه الرخيص وإن كان جيداً مقبولاً، ومن المهم دراسة العلاقة بين أساليب التسويق ونمط المعيشة.

كذلك ومع انتشار التعامل الإلكتروني، أصبح هناك هجمة شرسة من الاحتيال المالي المصاحب للتعاملات الإلكترونية، والمملكة مستهدفة بوضوح، في كثرة الاختراقات عبر البطاقات الائتمانية والبنكية عموماً. والحسابات الوهمية، وعمليات النصب وانتحال الحسابات، وهكر الحسابات البنكية واختراقها وتزوير التعامل معها وسرقة أموالها. الأمر الذي يستدعي وعياً أكبر بالمخاطر، والأمن السيبراني، والتحوط والاحتياط من التعاملات الإلكترونية، ومعرفة مخاطرها.

وقد كلف الاحتيال الإلكتروني في مجال التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت أصحاب المتاجر وتُجار التجزئة خلال العام 2020 فقط خسائر تُقدر بحوالي 32.39 مليار دولار. وتضاعفت هذه القيمة ثلاث مرات عبر السنوات منذ 2011 بعد أن كانت تُقدر بحوالي 9.84 مليار دولار. ومن المتوقع أن ترتفع هذه الخسائر كثيرًا لتصل إلى 40.62 مليار دولار بحلول عام 2027، أي أعلى بنسبة 25٪ من عام 2020. هذا فقط على صعيد الدفع الإلكتروني. وهناك أنواع لا حصر لها من الاحتيال عبر الإنترنت الشائعة التي تُكلِّف رواد التجارة الإلكترونية والمستهلكين بالذات ولا توجد أرقام دقيقة لهذه الخسائر لكنها  بمليارات الدولارات سنويًا.

وبالتأكيد فإن مسارات تطورات التقنية ساهم في إلغاء الحدود والوصول لشرائح أكبر، وأصبحت فرصة للشهرة والتكسب المالي من خلال (الدعاية والإعلان) عبر المشاهير لبيع منتجات من عقار وسياحة وطب وتجميل وسياسة والقائمة تطول.

فالحذر من الخداع الإعلاني مهم جداً؛ فالتلاعب بالكلمات، ووضع اشتراطات عصية على الفهم، صعبة القراءة تجعل (الفريسة) تُوقِّع لإتمام الشراء دون وعي بما يترتب عليه عند الإلغاء، أو سياسية الترجيع.

والعالم يواجه تحديات أخرى سببتها التقنيات والتجارة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي في مشاهدة المشاهير ومحاولة تقليدهم، مما زاد حالات التنمر على المراهقين والانتحار والتجرد من القيم والأخلاق وزاد من نسبة التمرد على ثقافة وعادات المجتمعات وهذا يشاهد في أوروبا أيضاً.

وثمة وجهات نظر تؤكد أن التسويق الإلكتروني والتسويق التقليدي مكملون لبعض وتوجد بعض نماذج الأعمال المبنية على أنها تجارة إلكترونية وبعضها dual channels or muti-approach يشمل البيع التقليدي والإلكتروني يساعد العميل في مشاهدة المنتح ويستطيع طلبه أونلاين من نفس المتجر بسعر أقل. وهناك دراسات تشير إلى أن multi-approach يزيد من نسبة مبيعات الشركة وليس كما كان سائداً سابقاً بأن معظم المتسوقين يصرف أكثر عند التسوق التقليدي حتى لو كان لديه قائمة مسبقة بالمشتريات unplanned purchase. وليس من المتصور أن التسويق الإلكتروني سوف يلغي التقليدي لاعتبارات مجتمعية يصعب أن تعزل الحياة الطبيعية التي يحتاج الناس فيها للتفاعل والتنزه والحديث فيها لها آثار اجتماعية ونفسية وأيضاً دواعٍ أمنية مهمة في تقوية روابط المجتمع.

ويرى بعض المتخصصين فيما يخص التسويق الإلكتروني، أن هناك استغلالاً للمجتمعات الخليجية؛ حيث تَوفُّر المادة، ويأتي هنا ذكاء الشركات في التسويق، وجذب المشاهد وتقديم  العروض التي يسيل لها لعاب المتسوق الخليجي مع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والاستفادة بشكل مؤثر على الجانب النفسي بالتعاون مع المشاهير. وإذا كان التسوق الإلكتروني قد وفر الجهد إلا أنه في المقابل استفاد المسوق من الجانب المادي الذي قد يخدم المؤسسات المحلية، في المقابل قد أضر أيضاً بشكل كبير على الأسواق التقليدية من غياب الزبائن. وهنا نحتاج إلى نشر وتعزيز الوعي الفكري فيما يتعلق بالجانب المادي والذكاء العاطفي في التعامل مع العروض التسويقية. وذلك لحماية الأسر التبذير، والاستخدام الأحسن للإدارة المالية والتوجيه والإرشاد للأبناء لإكسابهم فن الاستفادة فعلاً من العروض التي يستفيد عبر إشباع حاجاته الضرورية.

  • وسائل الحد من التأثيرات السلبية للتسوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

يتعين على جهات حماية المستهلك زيادة وعي المجتمع والعميل بأهمية عدم التسرع في الشراء، وزيادة الوعي بعدم التأثر بالعواطف والمؤثرين، فهم خطوات عمليات الشراء، أيضاً الشركات من أدوارها الاجتماعية أن تنشر الوعي بطرق مباشرة وغير مباشرة للعملاء بما يخص اتخاذ خطوات الشراء، الاهتمام المالي، حماية الأسرة وأهمية الادخار وغيرها. ومن الضروري كذلك وضع المعايير الأخلاقية فيما ننتج وفيما نشتري وتشترك جهات مختلفة في رفع مستوى الوعي الاجتماعي والمجتمعي لدى الأسر وبين الطلاب والطالبات من سن مبكرة.

وقد يَحسُن إعداد دراسة ميدانية عن الغش والمبالغة في أسعار السلع عبر التسويق بالمشاهير؛ فهناك منتجات راكدة تُسوَّق عبر مشاهير ويكون السعر ضعف السوق، ومثال ذلك بعض العقارات الدولية.

ويتوجب رفع مستوى الرقابة على التجارة الإلكترونية، وتفعيل حماية المستهلك وتشجيع قيام جمعيات متعددة لهذا الغرض هو أحد وسائل الرقابة، وبإمكان هذه الجمعيات تصنيف الجهات البائعة حسب ردود فعل المشترين، مما يحسن بدرجة كبيرة مقدرة الشاري على اتخاذ قرار الشراء.

وثمة حاجة لحماية المستهلك النهائي عن طريق سن التشريعات والأنظمة وتطبيقها والعمل على تفعيل التشهير بالمخالفين فهو سلاح نوعي يخشاه الجميع.

وكما هو لا بد من استمرار الدراسات في علم التسويق وفروعه بكل ما يخص سلوك المستهلك، يجب أن يقابله وضع الأنظمة والتشريعات من الجهات المختصة بعد عمل الأبحاث اللازمة لحماية المستهلك. لذا نجد في أوروبا أنظمة مشددة جداً على المعلنين والمادة الدعائية ومتى يعلن لضمان صحة الإعلان وحماية المجتمعات والأفراد.

ولا بد من دور للتعليم والجمعيات المختلفة والأنظمة التي تساهم في حماية الأفراد وزيادة نسبة الوعي؛ فهناك من يلوم التقنيات وهناك من يلوم المحلات التي تُروِّج للسلع رخيصة الثمن ومحلات الملابس التقليدية التي ليس لها تجارة إلكترونية في النزيف المالي للأسر بتوفر منتجات رخيصة وبدون جودة في ظل رغبة الأسر في الشراء.

ويبرز ضمن هذا الإطار تطوير مهام وكالة حماية المستهلك بوزارة التجارة من خلال إدارة الرقابة على التسوق الإلكتروني لتشمل مهامها وضع معايير أخلاقية مُلزِمة للأفراد الذين يتعاملون مع التسويق الإلكتروني ومن ضمنهم مشاهير التواصل الاجتماعي، مع عقوبات رادعة للخروج عن هذه المعايير، فالمشكلات ليست فقط في المظاهر، وفي شراء المرأة والرجل لسلع أقل ما يقال فيها أنهم لا يحتاجونها بسبب سرعة اتخاذ القرار والسهولة في الوصول، ولكن هذه السهولة في وصول المُسوِق للطرف الآخر، نتج عنها مشكلات احتيال على الأطفال واستغلال لقلة علمهم وسهولة وصولهم واستغلال مالي وجنسي للأطفال، وقدرة الأطفال على شراء ألعاب غير مناسبة لأعمارهم. فالمشكلة ذات أبعاد كثيرة ومسؤولية عدة جهات ولعل وجب تطوير نظام الجرائم المعلوماتية وغيره من الأنظمة ليشمل مثل هذه الجوانب.

ومما يجدر الالتفات إليه هو أن ثقافة التسوق في العادة لا توجهها الحاجة، وإنما توجهها ثقافة الكسب للشركات، التي تطورت حالياً بحسب تقدير أستاذ التاريخ “وليام ليتش” وأخذت منحنى مختلفاً تماماً وأنتجت رغبات إنسانية لم تكن موجودة سابقاً، حيث أصبحت الرغبة بالامتلاك هي المسيطرة على الإنسان، وبالتالي فإن الإنسان يستهلك كل شيء يمكنه استهلاكه، وهذا يكشف عن رغبة الناس في انتهاك الحدود، والحصول على كل شيء سواء السلع أو الخبرات أو الأموال، وسعيهم لتملك أي شيء جديد وكرههم للأشياء القديمة حتى وإن كانت أصيلة، لا سيما في المجتمعات ذات الطفرات المالية المفاجئة، وبلدان الخليج العربي دليل قوي على مصداقية هذا الحديث، لننظر إلى هوس ماركات الأزياء لدى السيدات، وصيحات السيارات لدى الشباب وغيرها كثير. مما يعني أن عامل الحاجة لم يعد هو العامل الأوحد المؤثر، في الاستهلاك بل رافقته عوامل أخرى زادت في حدته، وتركيز وسائل التنشئة على هذه الفرضية، هي ما يمكن أن يكبح هذه الشراهة في المجتمعات.

  • التوصيات
  • إنشاء هيئة وطنية عليا تتبع وزارة التجارة للإشراف على التجارة الإلكترونية في المملكة وتحديداً التجارة عبر منصات التواصل الاجتماعي.
  • وضع استراتيجية وطنية للتجارة الإلكترونية تشمل ضوابط الإعلان وقيوده في المملكة.
  • تنفيذ حملات إعلامية لرفع الوعي المجتمعي حول هذه القضايا الشائكة.
  • إصدار بطاقات عضوية خاصة لمن يحق لهم الإعلان في منصات التواصل الاجتماعي، بعد اجتيازهم دورات خاصة في هذا المجال، تشمل التعريف بما يتعارض مع القيم والعادات في المجتمع.
  • وضع قوانين أخلاقية عقابية رادعة لمخالفي قوانين الإعلان في وسائل التواصل الاجتماعي في المملكة.
  • وضع ضوابط الإعلان لمشاريع أو استثمارات خارج المملكة.
  • تحفيز الجمعيات الأهلية بالمساهمة في تنمية ثقافة وحماية الاستهلاك عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
  • على الجهات المختصة في الأمن السيبراني وهيئة الاتصالات والجهات التشريعية الأخرى وضع برامج إعلامية مكثفة للجمهور للتوعية بكيفية كشف المواقع الإلكترونية المشبوهة في التسوق الإلكتروني وكذلك كيفية الدفع الإلكتروني السليم والآمن.
  • توعيه الجمهور بخطورة الانجراف وراء الإعلانات التسويقية وطرق استمالة وخداع الإعلانات وبالذات في توتير والسناب والبرامج الأخرى، وتثبيت قاعدة الشراء عند الحاجة من المواقع الآمنة فقط والحرص على برمجه وضبط الشراء الإلكتروني، حتى لا يكون مصدر تهديد لاستقرار الأسر اقتصادياً.
  • إيجاد منصة تقييمية موحدة من جهة محايدة (حماية المستهلك مثلاً) لتقييم المتاجر الإلكترونية وكذلك حسابات “التسويق” عبر السوشيال ميديا خاصة المشاهير، بحيث يَكتب في هذه المنصة التقييمية الزبائن لعرض تجاربهم، مما يحذر (أو يشجع) الآخرين في مرحلة التخطيط للشراء.
  • بناء سياسة ثقافية تشترك فيها الجهات المناطة بالتوعية (التعليم، الإعلام، الدعوة والإرشاد، النوادي الأدبية،….) تحث على ترشيد الاستهلاك، وتعزيز ثقافة الادخار.
  • إجراء دراسات متعمقة للبحث عن الضوابط المثلى للشراء عبر وسائل التواصل والمخاطر المترتبة على ذلك.

 

  • المصادر والمراجع
  • الصباغ، فؤاد (2019م): التسويق وإدارة الحملات عبر شبكات التواصل الاجتماعي وتأثيرات الإعلانات الإلكترونية، (في): مجلة الاقتصاد والتسيير، العدد الثامن، ص ص 40-59.
  • أبو ناصر، سامي سليم وآخرون (د.ت): شبكات التواصل الاجتماعي ودورها في تحقيق فاعلية التسويق الإلكتروني للكليات التقنية، متاح على الرابط الإلكتروني:https://www.academia.edu/37997773
  • فلاق، محمد (2017م): دور شبكات التواصل الاجتماعي في التسويق المعاصر: منظور تحليلي، الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، العدد (18) ص ص 16-25.
  • منتدى التسويق والإعلام الرقمي (2021م): مقدمة في التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، متاح على الموقع الإلكتروني: https://tawasulforum.org
  • اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (2021م): التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي والترويج للنشاطات المنتجة التي تعتمد على الطاقة المتجددة، عكار- لبنان.
  • بن لبدة، سلمان فيحان فيصل: فعالية التسويق الإلكتروني عبر شبكات التواصل الاجتماعي للخدمات البنكية السعودية في تلبية احتياجات العملاء السعوديين، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://joa.journals.ekb.eg/article_157105_b11580b2785b1646dd150a4704ad16d2.pdf

  • سرجيوس، أنطوان إسكندر (2021م): تأثير أنشطة التسويق عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الكلمة المنطوقة إلكترونياً، (في): المجلة العلمية للاقتصاد والتجارة، ص ص 358-410.
  • مخلوف، أسماء (2019م): دور مواقع التواصل الاجتماعي في تسويق المنتجات اليدوية للمرأة، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد خيضر بسكرة.
  • مليكة، حاسي: مواقع التواصل الاجتماعي والتسويق التجاري: دراسة في الأهمية والمميزات، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/206/5/1/102141

  • سعداوي، موسى وشباح، محمد (2019م): التسويق الإلكتروني عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيره على السلوك الشرائي للمستهلك: دراسة عينة من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في الجزائر، مجلة الإصلاحات الاقتصادية والاندماج في الاقتصاد العالمي، المجلد (13)، العدد (1)، ص ص 234-250.
  • المشاركون.
  • الورقة الرئيسة والمعقبون: د. طلال المغربي، ود. عبدالله ناصر الحمود، وأ. علاء الدين براده
  • إدارة الحوار: د. عبدالله العساف
  • المشاركون بالحوار والمناقشة:
  • أ. عاصم العيسى
  • د. عبد الاله الصالح
  • م. أسامة الكردي
  • أ. عبدالرحمن باسلم
  • د. خالد الرديعان
  • أ. فائزة العجروش
  • د. محمد الثقفي
  • د. وفاء طيبة
  • د. فواز العنزي
  • د. فائزة الحربي
  • د. عبدالرحمن العريني
  • د. صالحة آل شويل
  • أ. مها عقيل
  • د. عبدالعزيز الحرقان
  • د. مشاري النعيم
  • د. عائشة الاحمدي
  • د. محمد الملحم
  • د. خالد المنصور
  • د. سعيد الغامدي

  


القضية الثانية 

الدراسات المستقبلية

(19/1/2022م)

 

  • الملخص التنفيذي.

تناولت هذه القضية الدراسات المستقبلية، وتناولت أ. فائزة العجروش في الورقة الرئيسة عدة محاور، بدأتها بالإشارة إلى كلمة (لو المستقبلية) بمعناها الإيجابي وليس السلبي، وأن لهذه “اللو” أساس إسلامي، بحكم أن الإسلام يحث على العلم والسير في الأرض والتعلم والاكتشاف. ثم أشارت إلى ضرورة تأسيس مناهج علمية للنظر للمستقبل اتساقاً مع رؤية المملكة 2030 وأن صانع القرار بحاجة إلى هذه الدراسات ونتائجها. منهجياً فقد طرحت الكاتبة سؤالاً حول ما إذا كانت الدراسات المستقبلية علماً أو فناً، وأجابت بأنها دراسات بينية تتقاطع مع جميع التخصصات تقريباً، وأنها تجمع بين الكل والجزء؛ فهي دراسات استقرائية واستنباطية. تم كذلك تصنيف المستقبل (مباشر، قريب، بعيد، وغير منظور)، ثم صنفت الدراسات المستقبلية إلى تنبؤية، واستقرائية، وافتراضية. أما محاور الدراسات المستقبلية فتشمل الرصد والتحليل لما هو قائم، وتوقع الأحداث، ثم طرح الحلول. كما تناولت الورقة موضوعات الدراسات المستقبلية لتشمل: التعليم العام والعالي، والحروب، والطاقة البديلة، والذكاء الاصطناعي، ودراسات السكان، والمهن المستقبلية، والبيئة والمناخ. والورقة عموماً تقدم رؤية متفائلة للمستقبل وأنه يمكن استشرافه علمياً وأن ذلك ليس ترفاً علمياً بل ضرورة تنموية واقتصادية واستراتيجية، وذلك لتقليل المخاطر وتعميم الفوائد مع ضرورة اقتناع صانع القرار بهذا النوع من الدراسات والإفادة منها.

في حين ركز د. خالد الثبيتي في التعقيب الثاني على أهمية الدراسات المستقبلية (الاستراتيجية) فالدول المتقدمة أخذت بها خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وذلك كضرورة، وصاحَبَ ذلك الانتشار المؤسسي لمراكز ومعاهد الفكر. واستعرض د. الثبيتي عدة تعريفات للدراسات المستقبلية، وأجملها بأنها: استخدام طرق علمية في دراسة ظواهر خفية، وجهود فلسفية مرادفة للجهود العلمية، وأنها تتعامل مع نطاق بدائل النمو الممكن، وأنها تتناول المستقبل في آماد مختلفة تتراوح بين خمس سنوات وخمسين سنة. ثم عرج الكاتب على أهمية الدراسات المستقبلية؛ فهي بغرض صناعة مستقبل أفضل، واكتشاف المشكلات قبل وقوعها، وإعادة اكتشافنا لقدراتنا ومواردنا، ثم بلورة الاختيارات المتاحة. أما أغراض الدراسات المستقبلية فحددها بـ: دراسات مستقبلية ممكنة، ودراسات محتملة، وصور المستقبل، والأسس المعرفية والأخلاقية للدراسات المستقبلية، وإحداث تكامل بين العلوم والمعارف والقيم الإنسانية، ثم زيادة المشاركة الديموقراطية وإفساح المجال للخبراء والمهتمين بالمشاركة في صنع المستقبل. وتناول التعقيب كذلك معايير وطرق البحث في الدراسات المستقبلية وأشار إلى التصنيفات المنهجية المتبعة في هذا النوع من الدراسات. كما تناول طرق وأساليب الدراسة؛ كالسلاسل الزمنية، وطرق الإسقاطات السكانية، والنماذج السببية، وتحليل الآثار المقطعية، والطرق التشاركية. كما تناول طرق التنبؤ من خلال التناظر والإسقاط بالقرينة، وتتبع الظواهر وتحليل المضمون وتحليل آراء أهل الخبرة، والسيناريوهات.

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • الدراسات المستقبلية وإشكالات المفهوم وأبعاده.
  • التنبؤ بالمستقبل في العلوم الاجتماعية.
  • نظرية المؤامرة وعلاقتها بالدراسات المستقبلية على المستوى السياسي.
  • معوقات تنفيذ الدراسات المستقبلية وما الذي تحتاجه السعودية لإنجازها؟

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • ضرورة العناية بالدراسات المستقبلية التي تهتم بما يلي:
  • التعليم بشقيه العام والجامعي.
  • الحرب غير التقليدية.
  • الطاقة البديلة.
  • الذكاء الاصطناعي.
  • الزياد السكانية وتبعاتها.
  • المهن المستقبلية.
  • البيئة ودور التكنولوجيا في تعزيز التنمية المستدامة.
  • تأسيس مناهج علمية لدراسة المستقبل تهتم بتنمية الكوادر الوطنية، وتجهيزهم بالمهارات المطلوبة وتطوير قدراتهم في اكتساب المزيد من (الخبرة، الحدس، الخيال، الذكاء)، وتأهليهم بـ (ممارسة التدريبات العالية على الأساليب الكمية والمحاكاة وغيرها) وتبني منهجية استراتيجية متكاملة لتنمية المواهب من خلال عقد شراكات وثيقة مع مؤسسات رائدة في الدراسات المستقبلية لصنع العقول القادرة على إدارة شؤون الدولة مستقبلاً.
  • تسليط الضوء، على التعامل مع تحديات الدراسات المستقبلية والتأهب لها استباقيًا، وبحث الحلول في تحقيق التقدم بالوصول إلى أهداف هذه الدراسات.
  • أهمية الاستفادة ممن سبقونا في هذا المجال لنوفِّر المزيد من الجهد والوقت والتكلفة، ولنستخلص الثمار المعيارية الاسترشادية التي نشترك بها مع العالم حولنا والتي يمكننا تكييفها حسب احتياجاتنا ومتطلباتنا الخاصة بنا.
  • إضافة برنامج جديد إلى برامج رؤية المملكة ٢٠٣٠ يهتم بدعم المراكز البحثية، وإنشاء مراكز جديدة بغرض استشراف المستقبل.
  • الورقة الرئيسة: أ. فائزة العجروش

الدراسات المستقبلية ليست تنجيمًا أو تنبؤًا بالغيب، بل تحسبٌ فطِن.

تمهيد ..

ماذا لو قابلت نفسك المستقبلية – أي – نسخة منك في المستقبل..! ماذا لو تم اكتشاف إكسير يؤخر شيخوخة الإنسان ويطيل في عمره..! ماذا لو جفت مياه البحار؟ وتغيرت بعدها مظاهر البيئة الجغرافية للعالم..!

تلك تساؤلات تتمحور حول ((ماذا لو))، وهي تساؤلات مستقبلية حول إمكانية حدوث ذلك..!

و((ماذا لو)) كانت إلى زمن قريب متعلقة في العقلية العربية بالارتباط السيء بــ (لو)، التي تفتح عمل الشيطان، التي تتحدث عن أمر ماضٍ؛ لأن ديننا يدعو إلى عدم التحسّر على ما جرى، لأن تغييره مستحيل.. لكن (لو) أعلاه تختلف؛ فهي تنقلك إلى حيز المستقبل، وكأننا نسأل عن شيء لم يحدث، ثم نتخيل ونخمّن ماذا سيجري لو حدث ..! و(لو) المستقبلية هذه ليس لها علاقة بـ (لو) التي تفتح عمل الشيطان؛ بل على العكس تفتح الباب للتفكير المستقبلي، الذي بلا شك سيكون ذا فائدة لو بنيناه على أسس علمية، لتوسيع قاعدته لاستيعاب أفكار وابتكارات جديدة في مختلف المجالات.

ومن منطلق منهجنا الإسلامي الذي يحثنا على استشراف المستقبل والتخطيط له تخطيطًا محكمًا، أسوة بالأنبياء العظام؛ فهذا نبي الله يوسف عليه السلام – أحد المعجزات الاقتصادية في وقت الأزمات، وأول من أشار إلى الدورات الاقتصادية من حيث الرواج والكساد -؛ فلولا تخطيطُه لإخراج شعب مصر من سبع سنين عجاف قادمة؛ لكانت المجاعة قد حلت لا محالة على شعبها. ومن قبله نوح، عليه السلام، لولا تخطيطه للمستقبل بصنع الفلك حتى ينجو به، من الغرق لهلكت البشرية. وهذا سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم-، لولا تخطيطه للمستقبل بهجرة أصحابه إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، ثم هجرته إليها بنفسه مع التخطيط المحكم لتنفيذها؛ لما قامت دولة الإسلام.

ومن الجانب الآخر، تتضح جليًا أهمية النظر للمستقبل في الرؤية الإسلامية عند فهم وتدبر ما يقوله الله عز وجل: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا …} (العنكبوت، الآية 20)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } (الرعد: الآية 11). واتباع ما حثنا عليه الحديث الشريف “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”، ووصله باليوم الآخر المحرك الدائم لأعمال الإنسان في سياق مسؤولياته وأمانته في استخلاف الأرض.

كذلك هو أمر يتأكد وظيفيًا في مقولة الإمام علي رضي الله عنه: “من استبصر الأمور أبصر، ومن استدبر الأمور تحيَّر”، ويدعو لعدم الركون لتصورات خاطئة لبعض المفاهيم الشرعية التي تزهّد البعض في الانطلاق والتخطيط والتفكير في المستقبل، فيعيش حياته خاملًا، لا يفكر في أبعد من قدميه.

كما لا يخفى علينا جميعًا، أن المستقبل يتسم بدرجة عالية من عدم اليقين ومتغيرات متسارعة تحركها قوى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإعلامية متنوعة. والاستعداد له لن يكون إلا بصناعة المستقبل الذي نصْبُو إليه والذي لن يتأتى لنا أو لغيرنا بثقافة الاتكالية والاعتماد على الغير، وإنما بقيم العمل والإنتاج والريادة. وهذا لن يتحقق إلا من خلال تأسيس مناهج علمية لدراسة المستقبل – مناهج للنظر والتفكير والتدبر- مستقاة من أصولنا الإسلامية، وما تؤصله من قواعد (استخلافًا وإعمارًا).

مقدمة

بما أننا نعيش حاليًا في عصر رؤية المملكة الطموحة .. يحق لنا أن نفتخر بإجابة هذه التساؤلات: أين كنا..؟ وكيف وصلنا إلى هنا..؟  ونتخيل إلى أين نحن ذاهبون ..؟ ونفكر كيف سنصل إلى هناك ..؟

فالسعودية التي تتطلع لحجز مقعد دائم في دائرة الدول العظمى، وعالم الدول القوية والموجهة للمسارات العالمية بالتخطيط المسبق لمستقبل مزدهر وآمن يعكس طموحات القيادة الرشيدة وتطلعات رؤية 2030، حيث حققت خلال فترة قياسية قفزة ملموسة في هذا الاتجاه، من خلال شحذ العقول لتصور مستقبل مرغوب به والتخطيط له بواقعية وحنكة علمية وسياسية.

لكن لا زالت هناك تساؤلات ينبغي أن تكون شغلنا الشاغل قبل أن تنقضي المرحلة الحالية، استعداداً لمرحلة ما بعد كورونا.. بماذا سنخرج من المرحلة الحالية من رؤى واستشرافات كلية؟ وما هي الأسس المنطقية التي سنستند عليها وتقوم على الافتراضات والتجربة؟ وما هي الآليات التي تضمن التعامل الآمن مع مختلف الأحداث والمواقف المحتمل أن نتعرض لها مستقبلًا؟ ومن ثم ما هو تصورنا لمستقبل المرحلة القادمة؟ ومن هم فاعلوها الجُدد -المؤثرون- وكذلك مدى تأثيرهم على مستقبل الدولة التنموي؟ وكيف يمكن لنا تفادي المشكلات التي قد تنجم عن هذه الأحداث؟ ومن ثمَّ وضع الحلول التي يمكن أن تعزز من أدائنا وقدرتنا على مواجهة تلك المتغيرات، وإحكام السيطرة على مجمل نتائج تلك التحولات والمتغيرات. وهذا ما تنفرد به الدراسات المستقبلية، أسئلة وجودية المضمون ومتكاملة الأبعاد الزمنية.

وحتى نجيب على هذه التساؤلات، لا بد أن تتوفر لدينا المقدرة على استشراف المُستقبل، وتوظيفها لخدمة الأهداف التنموية والتطويرية على المديين المُتوسط والطويل الأجل، بناءً على مُعطيات العلم وقواعد التخطيط السليم والأسس الصحيحة لاتخاذ القرارات الملائمة للمستقبل بشكل عام ولعالم ما بعد كورونا بشكل خاص؛ لمواصلة التنمية المُستدامة وتطوير الاقتصاد، وغيرها من عوامل النمو التي تنشدها رؤية 2030، وتنشدها الدولة كأبرز عناصر نجاح تقود أي مجتمع نحو التَّقدم والرُّقي، عناصر تقوم في جوهرها على رؤى واضحة، وأسئلة تنشر ثقافة التفاؤل والأمل والتفكير في مستقبل منشود بفكر استراتيجي واستشراف علمي على المستويين الشخصي والمؤسسي.

لن أدعي أنني سأضيف شيئاً جديدًا في هذا المجال، بقدر ما أحاول أن أضم صوتي إلى أصوات الكثيرين من الذين سبقوني في الكتابة بهذا الحقل العلمي، بغرض لفت أذهان صنَّاع القرار والمسؤولين؛ بضرورة إيلاء اهتمام أكثر بالمستقبل والدراسات المستقبلية، والتي من شأنها أن ترتقي بالأداء المجتمعي للدول كافة. وعلى هذا الأساس فقد تناولتُ في طرحي هذا، النقاطَ التالية:

مفهوم استشراف المستقبل

قبل الخوض في فوائد وآليات اتباع نهج استشرافي، أود أن أشير إلى ما بات يُعرف بعلم دراسة المُستقبليات أو الدراسات المُستقبلية، وهو علم حديث نسبيًا رغم قدم المنهجية، ويعني ببساطة كيفية التفكير في وضع آليات تضمن التعامل مع مُختلف الأحداث والمواقف التي من المُحتمل أن نمر بها في المُستقبل القريب أو المتوسط أو البعيد، سواءً على مستوى الفرد أو المجتمع؛ لتفادي أي مشكلات قد تنجم عن هذه الأحداث.

وعندما نتحدث عن ((علم)) فإننا بكل تأكيد نُشير إلى أسس منطقية تقوم على الافتراضات والتجربة، ومن ثمَّ وضع الحل الذي يُمكن أن يُعزز من أدائنا وقدرتنا على مواجهة المتغيرات.

إذن كمفهوم نستطيع أن نؤكد أن الدراسات المستقبلية ليست نوعًا من التنجيم أو التنبؤ بالغيب، بل تحسب فَطِن لمواقف وتحديات محتملة نمر بها في مُختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، بوضع فرضيات عقلانية لكيفية التعامل مع تلك المواقف والتحديات، عبر صياغة سيناريوهات تُحاكي تلك الاحتمالات التي افترضناها وتسعى جاهدة لتقليل حجم المخاطر قدر الإمكان وتعظيم الفوائد والمنافع؛ للوصول إلى بر الأمان، من خلال تحقيق الأهداف التي وُضِعت هذه السيناريوهات من أجلها.

 

ما حاجتنا للدراسات المستقبلية؟

هناك مقولة للمخترع الأمريكي تشارلز كيترنج أصبحت شعار المستقبليين والمهتمين بدراسات المستقبل، “اهتمامي منصب على المستقبل لأنني سأمضي بقية حياتي فيه”.

أما عالم الفيزياء الألماني ألبرت أينشتاين فقد برر اهتمامه بالمستقبل قائلًا: “إنني أهتم بالمستقبل لأنني ببساطة سوف أذهب إليه”.

وكلنا نعلم أن الزمن يتحرك، من الماضي مرورًا بالحاضر إلى المستقبل، تحركًا اتجاهيًا لا يقبل التراجع إطلاقًا. وعلى هذا الأساس؛ فالمستقبل بصورته العامة والمجردة، أصبح من اهتمام الأفراد العاديين من خلال سعيهم إلى تحسين وضعهم دائمًا نحو الأفضل. وأضحت الحاجة للدراسات المستقبلية أو استشراف المستقبل كما يسميه البعض ضرورة ملحة في هذا العصر، وأصبح التفكير المُبّكِّر فيما سيأتي مستقبلاً أكثر أهمية من أي وقت مضى لعالمنا المعاصر الذي يمُوج بالتغييرات والتشابكات الكبيرة بين الظواهر والأحداث المختلفة، لا سيما وأن التغيرات متسارعة ومتنامية.. والبيانات متضخمة ومتشعبة.. والأحداث متداخلة ومتلاحقة.. والتطلعات متزايدة وملحة في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والعلوم والتكنولوجيا. هذا إلى جانب ازدياد حجم المعارف المُتاحة، وسهولة مشاركتها واختراقها – وهذا التزايد المُتصاعد في مجال العلوم بشكل مُذْهِل يساعد على تراجع قيمة ما يعرفه الخبراء، حيث لا يتم الاحتفاظ بأكثر من 15% مما كنا نعرفه بعد مرور خمس سنوات -؛ لذا من المهم أن نتساءل هل ستصمد الخبرة التي نملكها مقابل التجدد المعرفي؟! وكم ستدوم المدة؟

في رأيي المتواضع، أجد أن قيمة التجدد المعرفي حاليًا أهم من الخبرة، والتعليم المستمر أهم قيمة من الكفاءة. ومن المنطقي أننا نقصد بالتجدد المعرفي هنا، ذاك المرتبط بالزمن والوعي بوجود زمن آتٍ، يؤثر حتمًا في زمننا الحاضر ويستفيد من ماضينا؛ فإذا كان المؤرخ يشتغل على فهم وإدراك قوانين الماضي، فإن المستقبلي يشتغل على تأثير هذه القوانين على المستقبل الذي سيكون خليطًا مجهولًا من أمور متوقعة وأخرى غير متوقعة.

إن التفكير الواقعي في الوضع العالمي الحالي، يجعلنا جميعاً أمام مسؤولية ضخمة وكبيرة تجاه الأجيال القادمة، ويبدو جلياً، أنه آن الأوان لنا نحن العرب بشكل عام والسعوديين بشكل خاص أن نرسم ونخطط للمستقبل بوسيلة منظمة، وأسلوب منهجي وتشاركي لتطوير استراتيجيات وسياسات فعالة من أجل مستقبل آمن ومزدهر بأن نتتبع العواقب والمآلات، فنُجوِّد الأحكام والقرارات، ونقتنص الفرص قبل وقوعها ونعد العدة لأية أزمات مفاجئة أو أحداث مباغتة.. ونتلمس أحداث المستقبل كما برعنا من قبل في اقتفاء آثار الماضي، من أجل تعزيز المنفعة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

وهذا لن يتم دون التأكيد على أهمية توسيع دائرة العلم بهذا النوع من الدراسات في بلادنا بشكل رسمي، وإدخال مناهج متطورة في تعليمنا العام والعالي لمجال الاستشراف المستقبلي وبما تتبعه من منهجيات وأساليب للبحث في المستقبل، وصِلتَها بعمليات التنمية والتخطيط وصناعة القرارات، في سياق السعي لتحقيق التنمية الشاملة، ومساعدة صاحب القرار، والاقتصاديين والسياسيين، والعسكريين في اتخاذ القرار المناسب وقت الأزمات، أو توقع الأزمات المحتملة مستقبلاً.

وفي هذا السياق لا يفوتني أن أنوه أن ما يقدمه أعضاء ملتقى أسبار عند تناولهم لقضايا وطنية، هو نوع من الدراسات المستقبلية بشكل أو آخر. وأن أشيد بمنتدى أسبار الدولي الذي حمل في دورته الخامسة 4 -2 نوفمبر 2020 عنوان ((مستقبل المستقبل))، والذي كان سباقاً لتناول هذا الموضوع في السعودية، وهدف إلى التعريف بأساسيات علم المستقبليات وبعض مناهجه وممارساتها العربية، من خلال منظور الحضارة العربية الإسلامية، إضافة إلى تقديم منهجية الأزمنة ما بعد العادية والتعريف بأهم الممارسات العالمية والعملية لها، وخارطة أولية لبناء ممارسات التصميم؛ من أجل بحث الحلول لتحديات المستقبل، وتحويلها إلى فرص تحقق الاستدامة في التنمية، وتدعم تقدمنا الحضاري، وتعزز مكانة المملكة في هذا المجال؛ لتكون نقطة جذب للباحثين والعاملين في مجالات استشراف المستقبل العديدة.

وبلا شك فقد ساعد هذا المنتدى على ترسيخ الصورة الإيجابية عن المملكة في بلدان الخبرات الدولية الكبيرة – 90 متحدثًا يمثلون 19 دولة – التي تم استقطابها للمشاركة في المنتدى، وفي محيطهم العلمي والعملي والاجتماعي، فضلًا عن الاستفادة والإفادة منهم في مجال علم المستقبل. وأصبحت مخرجاته نبراسًا للباحثين والمتخصصين والمهتمين بشؤون المستقبل. كما كان الإعلان عن تقديمه 20 منحة تعليمية في برنامج الدراسات المستقبلية والأزمنة ما بعد العادية حدثًا فريدًا من نوعه على مستوى المملكة.

محددات أهمية الدراسات المستقبلية

لأن الدراسات المستقبلية هي بالأساس فهم وإدراك قوانين وتجارب الماضي، وتأثير ذلك على المستقبل. وكذلك هي بالأساس فهم وإدراك للحاضر، الذي يتضمن مدخلات تتبلور لاستقراء المستقبل الذي سيكون خليطاً من الأمور المتوقعة وغير المتوقعة. إلى جانب كونها من المواضيع الأساسية في بناء الاستراتيجيات واتخاذ القرارات خاصة على مستوى القيادة الاستراتيجية؛ وهناك إجماع على تصنيف محددات أهمية الدراسات المستقبلية في الآتي:

  • كونها من معالم تحضر المجتمع؛ فأهميتها تكمن في الحاجة إلى استباق التحولات السريعة ومواكبة وأحداث بصمة ومكانة في مجريات الحضارة القادمة.
  • الوعي للمستقبل والاستعداد المبكر له؛ لتفادي صدمة مستقبلية نتيجة عجزنا عن التكيف مع عملية التغيير اللازمة.
  • ضرورة توقع المشاكل القادمة؛ لوضع الخطط لمواجهتها.
  • زادت من الاهتمام بضرورة دراسة التغير المستقبلي، قبل حدوثه، تحسبًا لآثار غير مرغوبة يمكن تداركها ومحاصرتها.
  • تمكين صناع القرار من اتخاذ قرارات سريعة وسليمة ومدركة للتداعيات المستقبلية.
  • عرض الرؤى المستقبلية ودراستها وإعادة النظر فيها حسب المستجدات.
  • تنمية الفكر الاحتمالي.

الأهمية الاستراتيجية للدراسات المستقبلية يمكن أن تُختزَل في المعالم الآتية:

  • الحاجة إلى فهم وإدراك تحولات وإيقاعات الزمن العالمي.
  • الحاجة إلى الانخراط في ديناميكية التحولات العالمية، وتفادي الإقصاء والاضمحلال من الساحة العالمية.
  • ضرورة الوعي بمسؤولية المجتمع العالمي تجاه مستقبل الأجيال القادمة.
  • ضرورة الوعي بخطورة مصير الحضارة الإنسانية.
  • قراءة وفهم المؤشرات الخارجية، والتعامل مع متغيراتها وتوظيفها لصالح الدولة.
  • القدرة على التفكير المنهجي حول المستقبل.
  • توفير البيانات اللازمة لصنع القرار الاستراتيجي في الحاضر.
  • الاستفادة الكاملة من الفرص المتاحة والاستعداد لكل المخاطر المحتملة.
  • استشراف مستقبل البيئة والتغير المناخي والانبعاثات الكربونية والتوجهات المستقبلية لها؛ الأمر الذي يستوجب وضع الخطط والسياسات المستقبلية لها.

ولو تحدثنا هنا عن الأبعاد الاقتصادية، لاستشراف المستقبل، لوجدنا الآثار العظيمة المترتبة عليها؛ فهي تهتم بتوقعات الموارد المالية المستقبلية، واستشراف مستقبل الأمن المائي والغذائي، ومستقبل الطاقة والمعادن وآثار أسعار البترول. وتعمل على استشراف مستقبل السكان والشباب وأثرهما على الاقتصاد والموارد البشرية وسوق العمل والمهارات، كما تحرص على استشراف مستقبل التنمية الاجتماعية المستدامة، بعد دراسة التوقعات الاقتصادية وأثرها على الاقتصاد المحلي؛ ليتم وضع الخطط المستقبلية لها، والإجراءات والسياسات الاستباقية لها بناءً على التوجهات المستقبلية في العالم وأثرها على تنمية المجتمع.

من خلال ما سبق، يبدو جليًا أن هذه الدراسات تحاول العمل من أجل المستقبل؛ للخروج بنتائج تساعد الإنسان العادي والمسؤول في اتخاذ قراره ومعرفة خياراته المتعددة بناءً على سيناريوهات مرسومة مسبقاً. وتختلف طرق وأنماط هذه الدراسات المستقبلية لأي دولة وتتنوع، ففي المجالات الاقتصادية: تعتمد على الأسئلة التي تبحث عن مستقبل الدخل القومي ومدى تأثيره على شتى أنماط التنمية المحلية أو السوق الدولية، أو محاولة فهم العلاقة بين مختلف الظواهر كعلاقة عدد السكان بالتنمية المركزية وعلاقة زيادة عدد المواليد بمستوى التعليم. وهناك كذلك الطرق التي تُبنَى على إحصائيات ونماذج رياضية تقوم بما يُسمَّى بالمد البياني الاستقرائي والذي يحاول توقع تمدد المؤشرات الحيوية للدولة ومدى تأثيرها على كافة القطاعات الأخرى والدول المجاورة.

ومن جهة أخرى، تتضح أهمية هذه الدراسات في المجالات الأخرى، من خلال: استشراف مستقبل العلاقات الدولية والسياسية والدفاع والأمن، وشكل الحكومة مستقبلًا، واستشراف مستقبل التعليم والمدارس في العالم والتحديات والتحولات المستقبلية والمهارات المطلوبة، واستشراف مستقبل قطاع الصحة والرعاية الصحية في العالم وتوقعات الطلب المستقبلي والتوصيات الاستباقية، ورأس المال البشري والابتكار، ووظائف المستقبل المطلوبة لكل قطاع ودمجها في مستقبل التعليم والتكنولوجيا والأنظمة الذكية، بل استشراف مستقبل تكنولوجيا المعلومات والأنظمة الذكية بناءً على التوجهات المستقبلية وأثرها على البنية التحتية المتعلقة والعرض والطلب ووضع الخطط المستقبلية لها. كذلك استشراف مستقبل البنية التحتية والتوقعات على الطلب والتوسعات المستقبلية في هذا المجال ووضع الخطط لها.

وهذا ما يُسبِّب أحيانًا نوعاً من الخلط لدى البعض ما بين مفهوم التخطيط الاستراتيجي، واستشراف المستقبل. ولا بُدَّ هنا، أن نؤكد أنهما لا يتعارضان وإنما يُكملان بعضهما، بمعنى أن استشراف المستقبل يُزَوِّد الحكومات والمؤسسات بمعلومات غنية لتشكيل المستقبل واتخاذ القرارات السليمة، وتَغْيير الاستراتيجيات الحالية في ظل مُخرَجات عمليةِ استشراف المستقبل.

 ماهية الدراسات المستقبلية..  هل هي علم أم فن؟! 

مع وجود اتجاهين مختلفين بين من يعتبرها علمًا قائمًا بذاته أم فنًا لا يخضع للقوانين العلمية، ظهر اتجاه ثالث يصنفها ضمن ((الدراسات البينية))؛ باعتبارها فرعًا جديدًا ناتجًا عن حدوث تفاعل بين تخصص أو أكثر مترابطين أو غير مترابطين، ومن خلال برامج التعليم والبحث تتم عملية التفاعل بهدف تكوين هذا التخصص.. وأصنف نفسي مع الآخرين الذين يرون أن علم الدراسات المستقبلية مجال معرفي بيني متداخل وعابر لتخصصات عدة، وتتنوع تقنياته من كل المعارف والمناهج، ورغم نموه المطرد وتأثيره الكبير في الآونة الأخيرة، ما زال -وسيظل- المجال مفتوحًا لمزيد من الإبداعات والابتكارات البشرية التي لا تتوقف في الفنون والآداب ومختلف العلوم.

وفي هذا السياق ذكر – شوستاك عالم الفلك الأمريكي – أن أهم ما تنفرد به طبيعة الدراسات المستقبلية هو: مزجها للعلم والفن معًا، ويمكن اعتبارها مزيجاً فريداً من الكمي والكيفي.

فالدراسات العلمية المستقبلية تلجأ على الدوام لوضع سيناريوهات عدة يعتمد التفكير فيها على دراسة الاحتمالات الممكنة الكمية والكيفية والخيارات والبدائل، باعتبارها شاملة ومنهجها متعدد التخصصات.

لذلك أهم ما يميز دراسات المستقبل، هو: انطلاقتها من رؤية تجمع بين الجزء والكل، ولا تُعبِّر عن فكرة مجردة وإنما عن طريقة تفكير تؤكد أن العلاقة بين الكل والجزء، بين العام والخاص، بين الرؤية الكاملة والنظرة الضيقة. وبمعنى آخر تنظر إلى جميع الأشياء باعتبارها جزءاً من كلٍ مترابط، وأن كل ما سيحدث مستقبلًا لن يتم بمعزل عن سواه أو بالمصادفة، وإنما هو نتيجة لحركة شاملة من المدخلات والمخرجات. ويتم التركيز فيها على مجموعة من القيم التي يمكن أن تؤسس لمستقبل الغد، ومن أهمها: مفهوم المسؤولية تجاه الأجيال القادمة.

المهتمون بالدراسات المستقبلية يُصنِّفون المستقبل إلى:

  • المستقبل المباشر، وهو تلك المدة الزمنية التي لا تتجاوز السنتين منذ اللحظة الراهنة.
  • المستقبل القريب، وهو تلك المدة الزمنية التي تصل لحدود خمس سنوات.
  • المستقبل البعيد، والذي يتجاوز العشرين إلى الخمسين سنة.
  • المستقبل غير المنظور، وهو تلك المدة التي تتجاوز الخمسين إلى المائة سنة أو أكثر.

وهناك تصنيفات أخرى للمستقبل، منها: المستقبل المستحيل، والممكن، وغير المرغوب به، وغير المتوقع، وغير المفكر به. كما أن هناك من يصنف الدراسات المستقبلية بناءً على التفاؤل والتشاؤم، وفق الآتي:

  • الدراسات المستقبلية التنبؤية: تعمل على تحديد محطات مستقبلية ثابتة ومؤكدة يتحرك نحوها المسار المستقبلي في خط مستقيم ابتداءً من الحاضر، وهذا النوع يعتمد على القدرات الفردية للباحث.
  • الدراسات المستقبلية الاستقرائية: تعتمد على استقراء الأحداث التاريخية واتجاهها نحو المستقبل، وهذا النوع يتطلب فريقاً جماعياً متخصصاً في العلوم السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية ونحو ذلك؛ لتخمين الوقائع المحتملة وكتابة التصورات (السيناريوهات) عما سيحدث في المستقبل لعقد أو اثنين أو ثلاثة عقود قادمة.
  • الدراسات المستقبلية الافتراضية: تعتمد على افتراض المستقبل وخلق أحداثه بما يلائم الأهداف والطموحات المراد تحقيقها في المستقبل، وهي تشبه إلى حدٍّ كبير كتابة سيناريو فيلم يُرَاد إخراجه على شاشة الواقع باستخدام الشخوص والإمكانيات المتاحة مع التوصية بتطويرها، بما يلائم حجم ونوع الأهداف المرجوة.

المحاور الرئيسية التي يجب أن يرتكز عليها الاستشراف المستقبلي، هي:

  • الأول: بناء جهود الرصد والتحليل للمُعطيات القائمة من التجربة الحالية مع الاستفادة من التجارب التاريخية التي تحققت في الماضي، وهذا العمل الرصدي يجب أن يتم وفق أسس منهجية تأخذ بأحدث أساليب العلم والتكنولوجيا، وتوظف الطاقات الإبداعية للكوادر الوطنية في شتى المجالات.
  • الثاني: توقع الأحداث، من خلال أدوات القياس والاستقراء المستند إلى وسائل المنطق والتفكير العقلاني، بناءً على ما تمَّ جمعه من مُعطيات في المحور الأول، وعملية التوقع هذه تحقق النجاح المأمول منها إذا ما أُخذ بعين الاعتبار الدقة في قراءة الأحداث بعين فاحصة دون تهوين أو تهويل.
  • الثالث: طرح الحلول العملية القادرة على تجاوز التحديات والتعاطي مع الإشكاليات، بل وأيضاً تنفيذ الخُطط الرامية لتطوير العمل وتجويد الأداء.

ومن هنا؛ نستطيع القول بأن استشراف المستقبل وبناءه هو نظر بعيد، وحركة تدبير تمتلك ثلاثة عيون بصيرة، عين تنظر إلى الماضي وتستلهم منه، وأخرى تتأمل الحاضر وتنطلق منه، وثالثة تتبصَّر المستقبل وتستشرفه، في إطار نظرة تكاملية واحدة.

أهم الدراسات المستقبلية التي يجب أن تهتم بها المملكة العربية السعودية:

  • التعليم بشقيه العام والجامعي.
  • الحروب البيولوجية.
  • الطاقة البديلة.
  • الذكاء الاصطناعي.
  • الزياد السكانية وتبعاتها.
  • المهن المستقبلية.
  • استشراف المستقبل البيئي ودور التكنولوجيا في تعزيز التنمية المستدامة وندرة المياه والتصحر.

وعلى الدولة بجميع جهاتها ومؤسساتها وبفئاتها المختلفة، العمل على ذلك والتحول من التفكير النمطي التقليدي والفكر المبني على إعادة صناعة الماضي إلى استشراف المستقبل لا سيما المؤسسات التعليمية بمستوياتها المختلفة. وممارسة دورها في تكثيف البحوث والدراسات الاستشرافية التي تتنبأ بالمستقبل وتقرأ ملامحه قبل حدوثها وتعد له عدته بأفعال مخططة، والإعداد لصعوباته وتحدياته بشكل استباقي.

ولأن مجالات الدراسات المستقبلية تشمل مجالات كثيرة كالأزمات الكبيرة (النمو السكاني العالمي، والغذاء والجوع العالمي، ومصادر الطاقة والتلوث البيئي، الحرب والسلام والصراع العالمي)، واستشراف المستقبل؛ هذا يعني أننا في حاجة إلى الآتي:

  • الدور الكبير الذي يجب القيام به خاصة عند تأسيس هذا العلم أكاديميًا في شتى المؤسسات التعليمية في المملكة، من خلال تصميم مناهج غير تقليدية تستطيع أن تتواءم مع التغيرات المحلية والعالمية السريعة وسيطرة مفهوم العولمـة، بحيث تشمل – هذه المناهج – الأبعاد المتعددة لاستشراف المستقبل – سياسية واقتصادية وصحية واجتماعية وثقافية وإعلامية وبيئية -، وحسب علمي تقوم كلية العلوم الاستراتيجية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بتدريس هذا العلم الهام.
  • الدور الإعلامي المهم في خلق الوعي المستقبلي خصوصاً في مواجهة التغيرات المتسارعة والتي نشاهدها اليوم إقليميًا ودوليًا.

وبما أن الواقع الفعلي، يشير إلى أننا بحاجة إلى تطوير وإسقاط ذلك على واقعنا العربي عامة والسعودي خاصة؛ وجب علينا نشر ثقافة هذا العلم الهام في كافة المؤسسات التعليمية وكافة الأجهزة الحكومية، من خلال مواضيع مؤطرة لكل مجال تنموي اقتصادي واجتماعي وسكاني، ويحتوي على عدد من السيناريوهات التي قد تمنح الطلبة والموظفين المبدعين الفرصة لمساعدة متخذي القرار في شتى المجالات بالتخطيط للمستقبل بشكل طويل المدى، بعيدًا عن التخطيط قصير المدى الذي قد يضر بعملية التطوير والتنمية.

ويعتمد مقياس النجاح في استشراف المستقبل على مبدأين لا ثالث لهما، يتلخص الأول في: خلق ثقافة الاستشراف عند جميع فئات المجتمع ومكوناته، وتوضيح أهمية الدراسات المستقبلية واستشراف المستقبل بالتفكير الاستراتيجي، بما سيكون عليه الحال في الغد، واتخاذ الإجراءات والخطوات اللازمة للوصول إلى تحقيق أعلى مراتب النجاح فيما تم تحديده من أهداف. فالأهمية المعقودة على استشراف المستقبل ستؤتي أُكلُها عندما تصبح ثقافة مجتمعية، ويتم إقرارها كنمط تفكير أساسي، وتتوجه جهودنا لتنمية رأي عام مهتم بالمستقبل، واستثارة الوعي والتفكير المستقبليين، وتوسيع قاعدة المنشغلين ببناء مستقبل أفضل. ويتلخص الثاني في: التخطيط السليم القائم على أساس علمي لهذا الاستشراف مع الاستفادة من دروس الماضي والحاضر في تكوين مخزون معرفي يمثل المرجع الأمثل لعملية الاستشراف.

ولأن هذا النوع من الدراسات يرتبط به عدد من المفاهيم كبحوث المستقبليات، ودراسات البصيرة، والتنبؤ التخطيطي، والتحركات المستقبلية، والمنظور والمأمول المستقبلي، وغيره. وعلى الرغم من أهميتها، ورغم توافر المعلومات والأساليب التكنولوجية الحديثة، لكننا قد نعجز عن التنبؤ، وقد يرجع ذلك إلى ميل الأفراد للصور النمطية واعتقادهم بأن ما حدث في الماضي سيتكرر في المستقبل. وهذا اعتقاد خاطئ يمكن معالجته عن طريق تدريب وإعداد الأشخاص في مراكز تدريب متخصصة تقدم مباريات استشرافية تنافسية بين الأفراد.

ومع ذلك، فإن تغيير التفكير شيء وإحداث تغيير فعلي شيء آخر؛ لذلك يجب التركيز بشكل كبير على توسيع نطاق العديد من الحلول والابتكارات التكنولوجية والاجتماعية على حدٍّ سواء (الموجودة بالفعل) وتسريعها وتشجيع التحولات السلوكية، وتبسيطها وتنفيذها. مع تحفيز المزيد من البحث والتطوير، والاستماع إلى المواطنين وإشراكهم بشكل حيوي، بتخصيص ميزانيات لدعم المؤسسات الحكومية المهتمة بالدراسات المستقبلية، وتشجيع الباحثين على التخصص في مجال البحث المستقبلي، خاصةً وأن هذا العلم مرتبط بجميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية.

تحديات الدراسات المستقبلية

  • التغيرات فائقة السرعة في الاقتصاد والمجتمع والعلوم والتكنولوجيا، إضافة إلى ظهور الأجهزة الإلكترونية فائقة القدرة على معالجة المعلومات، وهذا التطور ينبغي استغلاله مع عوامل أخرى لتطوير الدراسات المستقبلية وتأسيسها على أعمدة منهجية راسخة نسبيًا.
  • ضغوط المتغيرات الخارجية التي تدفع سريعًا باتجاه إلغاء الحدود والقيود، ومن ثم من المهم التحسب لردود الأفعال الخارجيـة لأي قرار داخلي والاستجابة الداخلية لأي تغير خارجي، وإعداد حسابات دقيقة للتأثير المتبادل بين الداخل والخارج.
  • القناعة بالحاضر وعدم التطلع إلى المستقبل.

وتتوقف القدرة على مواجهة وتحديات غموض المســتقبل، على الآتي:

  • اســتغلال الفرص المتاحة، بناءً على الرؤى والقيم والأهـداف الوطنيـة المسـتقبلية بعيـدة المدى على كافـة المسـتويات، لتحقيـق إنجازات نوعية لخدمة مصالح الدولـة والأجيال الحالية والمستقبلية.
  • بناء القدرات الوطنية والاستثمار بعيد المدى وتطوير البنى التحتية والمرونة والتخطيط.

ومن المهم كذلك أن نعرف أن جوهر نجاحنا في استشراف المستقبل، يكمن في الاهتمام المناسب بالتحديات التي ينبغي أن نتأهب لها بشكل استباقي؛ وذلك عبر الأفكار المبدعة الخلاقة البعيدة عن النمطية والتقليد، والبعد عن أخطاء الماضي والتطلع إلى مستقبل فياض بالفرص.

لذا في هذا الإطار، نؤكد على أن عوامل النجاح الرئيسية للاستشراف المستقبلي تتمثل في: أن الاستعداد للمستقبل يجب ألا يستند إلى أساليب عفوية أو دراسات عشوائية أو اهتمامات آنية -بل من شغف وطموح يعانق السحاب – وهذا ما أكده صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – حين قال: “أنه من الصعب أن ينجز المسؤول أهدافاً وتطلعات على الوجه المرجو، إذا غاب الشغف “.

وفي هذا الشأن، نشير إلى أن رؤية “2030”، يمكن أن نعتبرها التجسيد الحقيقي للمحاور الثلاثة للنهج الاستشرافي سالف الذكر؛ فهذه الرؤية الطموحة استفادت من الماضي عبر استبعاد الحلول التي تمَّ وضعها من قبل ولم تحقق الأهداف المأمولة والمُتوقعة، من خلال خطط التنويع الاقتصادي وتمكين القطاع الخاص وتنفيذ مشروعات التنمية وتمكين المرأة والشباب. وفي الوقت نفسه لا زالت تطرح البدائل الكفيلة بالوصول إلى ما نسعى إليه من تقدم ونمو حسب المستجدات. كما أنها بَنَتِ التوجهات المستقبلية وفق افتراضات طموحة ومحاور أساسية هي: اقتصاد مزدهر، مجتمع حيوي، وطن طموح، مستهدفة رؤى وخطط تضمن تحقيق جودة حياة الإنسان ورفاهيته، بناءً على ما يتم إنجازه من نمو اقتصادي، بجانب المُحافظة على هوية المجتمع السعودي، دون أن يتأثر.

خاتمة

المستقبل كما أنه مجهول إلا أننا على يقين أنه آتٍ..  وما هو إلا حصاد ما نفعله ونفكر فيه اليوم، ومن المفروض أن نستعد له جيدًا؛ إنْ خيرًا فخير وإنْ سوءًا فسوء.

واستشراف المستقبل والتخطيط له، موضوع يهم جميع البشر، وأصبح في عالم اليوم من الضروريات. وهو ليس تنجيمًا أو تنبؤًا بالغيب، بل تحسبٌ فطِن لمواقف وتحديات صحية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية وغيرها، قد نمر بها في المستقبل القريب أو المتوسط أو البعيد.

إن الدراسات المستقبلية باتت من الحتميات، وصارت دراسات لا يمكن الاستغناء عنها؛ لأنها تقوم بوضع فرضيات عقلانية عبر صياغة سيناريوهات تُحاكي تلك الاحتمالات التي تم افتراضها، وتسعى جاهدة لتحقيق الأهداف التي وضعت هذه السيناريوهات من أجلها؛ لتقليل حجم المخاطر وتعظيم الفوائد والمنافع عند التعامل مع تلك المواقف والتحديات، وصولًا لبر الأمان.

وهذه الدراسات أسهمت – بجانب عوامل أخرى بالطبع – في تحريك حالة الفكر العالمي حول الإنسان والمجتمع والطبيعة، ودعت لمناقشة وقراءة ما اعتُبِر مسلمات وبديهيات. من خلال تطوير استراتيجيات وسياسات فعالة في مستقبل العلوم والتكنولوجيا والمجتمع والاقتصاد، من أجل تعزيز المنفعة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

في عالم اليوم، دولــــة الـمـسـتـقـبـل.. هي الدولة التي لديها القدرة على رسمُ نَهْجٍ استباقي واعتماد سيناريوهات يُمكن تحويلها إلى واقع ملموس يرتقي بالعمل المؤسسي على أُسُسٍ ومعايير مبتكرة، ترتكز على النتائج المُحَقَّقَةِ لتحقيق أعلى معدلات رضا المتعاملين وسعادة الناس، وتحديد الاتجاهات بعيدة المدى، وتخيل مستقبل مرغوب فيه، واقتراح استراتيجيات تحقق الأهداف، مع الأخذ بعين الاعتبار التدابير الواجب اتخاذها للتحـديات والأزمات المستـقبلية، وتصحيح الانحرافات إذا حدثت.

لا تهدف عملية استشراف المستقبل إلى إصلاح الماضي ولا تقليل أخطاء الحاضر، وإنما تركز على إمكانية تحقيق غد أفضل، وهذا يعتمد على ثلاثة عوامل:

  • الأول: التوسع في مجال البحوث الاستشرافية، ومناهج أكاديمية، تنطلق من شغف المعرفة لبناء تصورات مستقبلية واقعية وقابلة للتطبيق وصالحة للبشرية.
  • الثاني: تعزيز فكر وثقافة استشراف المستقبل في كافة الجهات الحكومية وشبه الحكومية والقطاع الخاص وجعلها عملًا مؤسسيًا يوميًا.
  • الثالث: تطوير قدرات الإنسان لاكتساب المزيد من (الخبرة، الحدس، الخيال، الذكاء)، وتأهليه بـ (ممارسة التدريبات العالية على الأساليب الكمية والمحاكاة وغيرها)؛ لتمكين القيادات من تطوير المعايير التي يمكن من خلالها التوصل إلى أفضل صور للمستقبل.

أخيرًا أختم كلامي بما قاله الأديب العالمي نجيب محفوظ داعيًا إيانا إلى استشراف المستقبل. “حقًا، إنه مستقبل ثري يختفي وراء حاضر عسير، وما علينا إلا أن نعرف قيمة الزمن، إنه نعم النصير لمن يحترمه، ولكن لا يجامل ولا يرحم الكسالى المتواكلين.”

  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: د. محمد الثقفي

الدراسات المستقبلية ليست تنجيماً أو تنبؤاً بالغيب، بل تحسّب فطن، الذي أعدته باحتراف أ. فائزة العجروش. وقد انطلقت من مطلب مهم وهو: تأسيس مناهج علمية لدراسة المستقبل، وفي ذات الوقت طرحت مجموعة من التساؤلات المنطقية لإبراز القضية ومن أبرزها:

  • بماذا سنخرج من بعد مرحلة كورونا من رؤى واستشرافات كلية؟
  • ما الأسس المنطقية التي ستستند عليها الافتراضات المستقبلية؟
  • ما هي آليات التعامل (الأمن) مع الأحداث المتوقع حدوثها مستقبلاً؟
  • ما هو تصورنا لمستقبل المرحلة القادمة؟
  • والسؤال الأهم: كيف يمكن لنا تفادي المشكلات التي تنجم عن هذه الأحداث المتوقع حدوثها مستقبلاً؟!

كما تحدثت عن مفهوم استشراف المستقبل، والحاجة الملحة للدراسات المستقبلية، وأهميتها عالمياً وعلى مستوى المملكة، والمجالات التي يمكن دراستها سواء الاقتصاد أو العلاقات السياسية، وتناولت أهم الدراسات المستقبلية المطلوب تناولها في المملكة، وأهم التحديات أمام هذا النوع من الدراسات.

والحقيقة أن ما طرحته أ. فائزة في ورقتها هو ما تفعله مراكز التفكير ومراكز الدراسات المتخصصة في الدراسات الاستشرافية، وإعداد الخطط الاستراتيجية والتشغيلية، وتأتي في إطار التحليل البيئي الاستشرافي الداخلي والخارجي، ويتميز بأدواته الخاصة، مثل: بناء السيناريوهات، وتحليل النظم، والتنبؤ، ومناقشة الخبراء (دلفاي) وذوي الاهتمام المشترك.

حيث يهدف هذا النوع من الدراسات إلى تحليل عناصر القوة والضعف في البيئة الداخلية، والفرص والتحديات في البيئة الخارجية، ومن ثم دمجها بعدئذ في فرص النجاح والقضايا الحرجة لموضوع الدراسة.

وبتحليل بسيط لمدى تناول واستخدام هذا النوع من الدراسات في المؤسسات الأكاديمية فإنه يظل شحيحاً، مقارنة باستخدامها بشكل أساسي في مراكز الفكر، سيما أن هذا النوع يستخدم منهجيات وآليات تساعد على التفكير والاستشراف، وهي الفجوة التي جعلت كاتبة الورقة (ربما) تطرح وتناقش هذا الموضوع كقضية جدلية تحتاج البحث عن حلول.

وتكمن أهمية ما طرحته أ. فائزة في أن الدراسات المستقبلية يمكن الاستفادة منها في عدد من المجالات، وسأحاول من جهتي عرضها في المجالات التالية:

أولاً: يمكن توظيفها في ضمان تحقيق رؤية وأهداف وبرامج الرؤية 2030:

 

بحيث يمكن استشراف مآلات برامج ومبادرات كل هدف رئيس أو فرعي أو تفصيلي، والأهم رصد الآثار المخطط تحقيقها خلال أو في نهاية مدة الروية أو بعدها، والرصد المبكر لأي انحرافات تنفيذية قد تحدث، والعمل المبكر على تغيير الآليات، بما يضمن تحقيق الرؤية التخطيطية.

ثانياً: يمكن توظيفها في تحليل وتحديد عناصر القوة الوطنية:

فالمعروف أن هناك (4) عناصر من القوى الوطنية في كل دولة من دول العالم، التي رُمِز لها من السابق بـ (DIME) تعني:

  • الدبلوماسية.
  • المعلوماتية.
  • القوة العسكرية.
  • القوة الاقتصادية

وتصنف هذه القوى من حيث الاستخدام بالقوة الصلبة (القوة العسكرية، والاقتصاد) والقوة الناعمة أو اللينة (الدبلوماسية، والمعلومات)، وبالتالي فـ(المعلومات) وبالذات المستقبلية هي محور مهم في صناعة القرارات في السياسات العامة بالدولة، والأهم أن استخدام القوة الذكية الذي يدمج القوتين السابقتين، ويرشد استخدامهما بكفاءة وفاعلية، يعتمد كثيراً على هذا النوع من الدراسات.

ثالثاً: يمكن ربطها بتعزيز وحماية مقومات الأمن الوطني:

وهو ما سبق عرضه في قضية سابقة حول دور مراكز الفكر الوطنية في تحقيق الأمن الوطني، الموجودة على الرابط:

https://multaqaasbar.com/issue-weeks/%d9%82%d8%b6%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%a8%d9%88%d8%b9-%d8%af%d9%88%d8%b1-%d9%85%d8%b1%d8%a7%d9%83%d8%b2-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%83%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%81/

حيث يمكن للدراسات المستقبلية استشراف عناصر القوة والفرص في كل مقوم من مقومات الأمن الوطني في الدولة، وفي ذات الاكتشاف والرصد المبكر للمهددات والمخاطر الوطنية وكيفية التعامل (الأمثل) معها.

رابعاً: يمكن ربطها بمستهدفات التنمية المستدامة الـ (16).

 

حيث يمكن لهذا النوع من الدراسات استشراف مآلات تقدم الدول في تحقيق الأهداف العالمية التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 2015، وحددت عام 2030 تاريخاً لتحقيقها، وباتت جميع دول العالم تعمل من أجل تحقيق هذه الأهداف.

وعلى هذا الأساس، فإني أوكد ما أشارت إليه أ. فائزة في موضوعها، من حيث المفاهيم المطروحة، والأهم من ذلك، الاحتياجات الحالية والمستقبلية لهذا النوع من الدراسات.

  • التعقيب الثاني: د. خالد الثبيتي

تمهيد:

تناولت الكاتبة في الورقة الرئيسة الدراسات المستقبلية بمجالات وموضوعات متنوعة ومختلفة، حيث بدأت الورقة بتساؤلات شخصية ومجتمعية حول المستقبل وأحداثه المختلفة، ودور الإنسان في الكشف عن المستقبل وتوقعه والتخطيط له، وتم ربط ذلك بالمنهج والرؤية الإسلامية التي تحث على التخطيط والاستعداد للمستقبل والعمل من أجله، ثم الانتقال إلى رؤية المملكة 2030 كرؤية طموحة تسعى لصناعة المستقبل المنشود والمرغوب، وكيف يمكن مواجهة التحديات والمشكلات التي قد تحدث في المستقبل، وتم تسليط الضوء على مفهوم استشراف المستقبل، والحاجة للدراسات المستقبلية، والمحددات التي تؤطر أهمية الدراسات المستقبلية للدول والمجتمعات والمؤسسات، ووضحت الكاتبة مفهوم الدراسات المستقبلية وأبعادها، وتصنيف المستقبل وعلاقته بتلك الدراسات التي تُعنى باستكشاف المستقبل أو صناعته، وأهم الدراسات المستقبلية التي ينبغي أن تهتم بها المملكة العربية السعودية، وأهم مرتكزات نجاح استشراف المستقبل، وختمت الورقة بالتحديات التي تواجه الدراسات المستقبلية، وكيفية مواجهة تلك التحديات.

المقدمة:

اعتمدت الدول المتقدمة في بناء خططها التنموية والسياسية، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية على الدراسات المستقبلية (الاستراتيجية) التي تعتمد على نمط التفكير الاستراتيجي الذي يتوقع التغيرات الجذرية الحالية والمستقبلية وتأثيرها على تطوير المشاريع والبرامج المطلوب تحقيقها على مدى فترة زمنية.

وقد أصبح الخيار الإنساني يشكل المستقبل بشكل متزايد ومتسارع، ومن هنا تتجلَّى أهمية النظر الإنساني في المستقبل لقيادته وتحقيقه، وهناك عوامل تحتم علينا الاستعداد للمستقبل والتهيؤ له ودراسته وقيادته، ومن أهم تلك العوامل الحاجة إلى التخطيط من خلال استشراف أحداث ومواقف المستقبل حتى نستعد له، وإشباع الفضول الذاتي لدى الإنسان وكذلك المهتمين والمختصين بالدراسات المستقبلية، والحاجة إلى المعرفة لدوره المهم والحيوي في صناعة اقتصاد المعرفة، ويكون لنا دور أساسي وضروري بالتأثير في المستقبل.

ويعتبر الاهتمام بالدراسات المستقبلية من الضرورات التي لا غنى عنها للدول والمجتمعات والمؤسسات، ولم تعد ترفاً تأخذ به تلك الدول، فالأهمية المتعددة للدراسات المستقبلية تكون حينما تصبح ثقافة مجتمعية ونمط تفكير وأسلوب حياة، وعندما تتجه لتنمية رأي عام مهتم بالمستقبل، وتوسيع قاعد المهتمين ببناء فراديس المستقبل.

ولقد كانت المرحلة الأهم في تطور الدراسات المستقبلية كما يقول “روبرت نانوس” هي مرحلة الانتشار المؤسسي لمراكز الدراسات المستقبلية ومعاهدها.

مفهوم الدراسات المستقبلية:

ينظر شان (Shane) إلى أن الدراسات المستقبلية تخصص علمي يتحقق بصقل البيانات وتحسين العمليات، التي على أساسها تُتُخذ القرارات والسياسات في مختلف مجالات السلوك الإنساني كالأعمال التجارية والحكومية والتعليمية.

فهي مجموعة من البحوث والدراسات تهدف إلى الكشف عن المشكلات ذات الطبيعة المستقبلية والعمل على إيجاد حلول عملية لها، كما تهدف إلى تحديد اتجاهات الأحداث وتحليل المتغيرات المتعددة للموقف المستقبلي والتي يمكن أن تكون لها تأثير على مسار الأحداث في المستقبل.

تُعرِّف الجمعية الدولية للمستقبليات مفهوم الدراسات المستقبلية على أساس طبيعتها من خلال أربعة عناصر رئيسة هي:

  • إنها الدراسات التي تُركِّز على استخدام الطرق العلمية في دراسة الظواهر الخفية.
  • إنها أوسع من العلم، فهي تتضمن الجهود الفلسفية والفنية جنباً إلى جنب مع الجهود العلمية.
  • إنها تتعامل مع نطاق بدائل النمو الممكنة وليس مع إسقاط مفردة محددة للمستقبل.
  • إنها تلك الدراسات التي تتناول المستقبل في آمادٍ زمنية تتراوح بين خمس سنوات وخمسين سنة.

أهمية الدراسات المستقبلية:

يمكن تحديد أهمية الدراسات المستقبلية في العناصر التالية:

  • تساعدنا على صنع مستقبل أفضل.
  • اكتشاف المشكلات قبل وقوعها.
  • إعادة اكتشاف قدراتنا ومواردنا وطاقاتنا.
  • بلورة الاختيارات الممكنة والمتاحة وترشيد عملية المفاضلة بينها.

أغراض الدراسات المستقبلية:

يذكر “ويندل بيل” عدة مهام أو أغراض محددة للدراسات المستقبلية هي:

  • إعمال الفكر والخيال في دراسة مستقبلات ممكنة Possible Futures.
  • دراسة مستقبلات محتملة Probable Futures، أي التركيز على فحص وتقييم المستقبلات الأكثر احتمالاً للحدوث خلال أفق زمني معلوم وفق شروط محددة.
  • دراسة صور المستقبل Images of the future، أي البحث في طبيعة الأوضاع المستقبلية المتخيلة وتحليل محتواها، ودراسة أسبابها وتقييم نتائجها.
  • دراسة الأسس المعرفية للدراسات المستقبلية، أي تقديم أساس فلسفي للمعرفة التي تنتجها الدراسات المستقبلية، والاجتهاد في تطوير مناهج وأدوات البحث في المستقبل.
  • دراسة الأسس الأخلاقية للدراسات المستقبلية، وهذا أمر متصل بالجانب الاستهدافي للدراسات المستقبلية، ألا وهو استطلاع المستقبل أو المستقبلات المرغوب فيها.
  • تفسير الماضي وتوجيه الحاضر.
  • إحداث التكامل بين المعارف المتنوعة والقيم المختلفة من أجل حسن تصميم الفعل الاجتماعي؛ وذلك أن معظم المعارف التي يستخدمها دارسو المستقبل من أجل التوجيه بقرار، ما هي إلا معارف تنتمي إلى علوم ومجالات بحث متعددة لها خبراؤها والمتخصصون؛ ولذلك يطلق على الدراسات المستقبلية وصف الدراسات التكاملية Integrative أو الدراسات العابرة للتخصصات Transdisciplinary، فإن على الدراسات المستقبلية أن تزاوج بين المعرفة العلمية والقيم.
  • زيادة المشاركة الديمقراطية في تصور وتصميم المستقبل وإفساح المجال أمام عموم الناس للمشاركة في اقتراح وتقييم الصور البديلة للمستقبل الذي سيؤثر في حياتهم.
  • تبني صورة مستقبلية مفصلة والتسويق لها، باعتبار ذلك خطوة ضرورية نحو تحويل هذه الصورة المستقبلية إلى واقع.
  • إعادة اكتشاف أنفسنا ومواردنا وطاقاتنا، وبخاصة ما هو كامن منها والذي يمكن أن يتحول بفضل العلم إلى موارد وطاقات فعلية، وهذا بدوره يساعد على اكتشاف مسارات جديدة يمكن أن تحقق لنا ما نصبو إليه من تنمية شاملة وسريعة ومتواصلة.
  • تسهم في ترشيد عمليات التخطيط واتخاذ القرارات.
  • اكتشاف المشكلات قبل وقوعها، ومن ثم التهيؤ لمواجهتها.
  • تساعدنا في التحكم في المستقبل، ويساعدنا في صنع مستقبل أفضل.

معايير تقسيم طرق البحث في المستقبل:

يمكن تقسيم طرق البحث المستقبلي وفق معايير متنوعة، فقد تصنف هذه الطرق حسب درجة اعتمادها على قياسات كمية صريحة إلى طرق كمية Quantitative وطرق كيفية Qualitative ولكن يعيب هذا التقسيم أن التمايزات ليست قاطعة بين ما هو كمي وما هو كيفي من طرق البحث المستقبلي، وكثيراً ما يكون الفرق بينهما فرقاً في الدرجة لا في النوع.

كذلك قد تُصنَّف طرق البحث المستقبلي إلى طرق استطلاعية Exploratory تقدم صوراً مستقبلية احتمالية، وطرق استهدافية Normative تقدم صوراً لمستقبلات مرغوب فيها.

وقد يميز بين طرق نظامية Formal أو موضوعية Objective من جهة، وطرق غير نظامية Informal أو ذاتية Subjective من جهة أخرى. والعبرة هنا هي بما إذا كانت الطريقة المستخدمة في البحث المستقبلي. تعتمد على أساليب مقننة Codified واضحة المعالم، أو على نماذج صريحة للظاهرة محل الدراسة (فحينئذ تعتبر من الطرق النظامية أو الموضوعية)، أو أنها تعتمد على الحدس والخيال والخبرة والتقدير الذاتي، دون تبني نماذج صريحة للظاهرة موضع البحث (فحينئذ تعتبر من الطرق غير النظامية أو الذاتية).

طرق وأساليب الدراسات المستقبلية:

  • طرق السلاسل الزمنيةTime series Methods

وهي من الطرق التي لا تقوم على نماذج “سببية” Causal، تُعبِّر عن سلوك المتغير أو المتغيرات موضع الاهتمام وفق “نظرية” ما. وهي تشمل طرقاً ونماذج تتفاوت من حيث التعقيد وكم المعلومات المسبقة المطلوب منها نموذج الخطوة العشوائية Random Walk Model الذي يفترض قيمة المتغير في فترة ما هي قيمته التي تحققت في فترة سابقة (ولذا يُطلَق عليه نموذج عدم التغير) ومنها طرق إسقاط الاتجاه العام Rend Extrapolation بالمتوسطات المتحركة وتحليل الانحدار، ومنها أساليب تفكيك السلاسل الزمنية للتنبؤ بالتغيرات الموسمية، ومنها طرق التمهيد الأُسِّي للسلاسل الزمنية، والطرق المعتمدة على النماذج الإحصائية للسلاسل الزمنية.

  • طرق الإسقاطات السكانية

ومن أشهرها ما يُعرَف بطريقة الأفواج والمكونات Cohort-component Method حيث يتم حساب النمو في عدد السكان من مكونات محددة كالمواليد والوفيات والهجرة إلى الدولة والهجرة من الدولة، ويمكن التنبؤ بعدد السكان في كل فوج أو شريحة عمرية – جنسية استناداً إلى معدلات الخصوبة ومعدلات البقاء على قيد الحياة حسب العمر والجنس.

  • النماذج السببية Causal Models

وهنا يتم التنبؤ بقيم متغير ما أو مجموعة متغيرات باستعمال نموذج يحدد سلوك المتغيرات المختلفة استناداً إلى نظرية ما، ومن أشهر هذه النماذج نماذج الاقتصاد القياسي Econometric Models ونماذج المدخلات والمخرجات Input-output Models ونماذج البرمجة Programming Models أو الأمثلية Optimization ونماذج المحاكاة Simulation Models ونماذج ديناميات الأنساق Systems Dynamics وإلى جانب هذه النماذج الكمية الصريحة، قد تتخذ النماذج أشكالاً أقل صرامة من الناحية المنهجية، فقد يُعبَّر عنها لفظياً بجمل منطقية، وقد يُعبَّر عنها بالأشكال البيانية وخرائط التدفقات Flow Charts وفي بعض الحالات تجري المحاكاة لما قد يحدث في الواقع ليس اعتماداً على نماذج من هذا النوع أو ذاك، بل على محاكيات فعلية Actual Analogs كنماذج الطائرات مثلاً.

  • طرق الألعاب أو المباريات Gaming

وهي طريقة تعتمد على المحاكاة ليس فقط من خلال الباحث في الدراسات المستقبلية، بل وكذلك بإشراك الناس فيها كلاعبين يقومون بأدوار Role Playing يتخذون فيها قرارات أو تصرفات، ويستجيبون لقرارات وتصرفات غيرهم، ويُبدِون ردَّ فعلهم إزاء أحداث معينة، ويتم استخراج الصور المستقبلية البديلة باستعمال نماذج لفظية أو رياضية أو كمبيوترية أو محاكيات فعلية.

  • طرق تحليل الآثار المقطعية Cross Impact Analysis

وهو أسلوب لفهم ديناميكية نسق ما، والكشف عن القوى الرئيسية المُحرِّكة له، كما أنه أسلوب لفرز التنبؤات الكثيرة والخروج منها بعدد محدود من التنبؤات، وذلك بمراعاة أن احتمال وقوع بعض الأحدث يتوقف على احتمال وقوع أحداث أخرى، أي أنها طريقة لأخذ الترابطات وعلاقات الاعتماد المتبادل بين الظواهر أو المتغيرات أو التنبؤات في الحسبان.

  • الطرق التشاركية Participatory Methods

ويُقصَد بها طرق البحث المستقبلي التي تتيح المجال لمشاركة القوى الفاعلة أو الأطراف المتأثرة بحدث ما في عملية تصميم البحث وجمع المعلومات اللازمة له وتحليلها واستخراج توصيات بفعل اجتماعي معين بناءً على نتائجها، وهذه الطرق أكثر استعمالاً من النشطاء في مجال المستقبليات، أي مَنْ يقومون بالدراسات المستقبلية ذات التوجه الاستهدافي والتي يرتبط فيها الاستهداف بممارسات عملية للترويج والتعبئة والتحريض على اتخاذ فعل اجتماعي، يساعد على تحقيق صورة مستقبلية مرغوب فيها أو على منع حدوث صورة أو صور مستقبلية غير مرغوب فيها.

ومن أمثلة هذه الطرق التشاركية في البحث المستقبلي طريقة الممارسة المستقبلية بالمشاركة Participatory Action Research، وطريقة ورش عمل المستقبليات Future Workshop، وطرق إجراء التجارب الاجتماعية Social Experiments، والبحوث المستقبلية الاثنوجرافية Ethnographic Future Research التي تُركِّز على استطلاع المستقبلات الثقافية – الاجتماعية من خلال مقابلات مطولة ومفصلة ومتكررة مع مجموعة من الأفراد المشتغلين بظاهرة ما (كالبحث والتطوير التكنولوجي) أو الذين يُحتمَل تأثرهم بحدث ما.

  • طرق التنبؤ من خلال التناظر والإسقاط بالقرينة

وتقوم أساليب التناظر أو المشابهة Method of Analogy على استخراج بعض جوانب الصور المستقبلية استناداً إلى أحداث أو سوابق تاريخية معينة، والقياس على ما فعلته دول معينة في مرحلة أو أخرى من مراحل تطورها لإنجاز معدل ما للنمو الاقتصادي مثلاً، أما أساليب الإسقاط بالقرينة فهي تقوم على افتراض أن ثمة ارتباط زمني بين حدثين، حيث يقع أحدهما قبل الآخر عادة، بحيث يمكن التنبؤ بالحدث اللاحق استناداً إلى الحدث السابق، فمثلاً يمكن أن يؤخذ التقدم في الطائرات الحربية من حيث السرعة قرينة على التقدم في سرعة الطائرات المدنية، ومن أشهر هذه الطرق طريقة السلاسل الزمنية القائدة Leading Series التي كثيراً ما استُخدِمت في التنبؤ بالدورات الاقتصادية، حيث يُؤخَذ بطء النمو في متغيرات اقتصادية معينة (كالمخزون أو التعاقدات الجديدة) قرينة على إبطاء حركة النشاط الاقتصادي في مجموعة.

  • طرق تتبع الظواهر وتحليل المضمون

يُقصَد بطريقة تتبع الظواهر Monitoring استخدام طائفة متنوعة من مصادر المعلومات في التعرف على الاتجاهات العامة لمتغيرات معينة، مع افتراض أن الاتجاهات العامة التي يتم الكشف عنها هي التي ستسود في المستقبل، وقد استخدم هذه الطريقة الباحث المستقبلي المشهور Naisbitt في التوصل إلى ما أطلق عليه الاتجاهات العامة الكبرى Megatrends، أما طريقة تحليل المضمون Contact Analysis فهي تركز على تحليل مضمون الرسائل Messages التي تحملها الصحف والمجلات والبحوث والكتب وما يذاع في الإذاعة والتليفزيون وغيرها، وتسجيل مدى تكرر عبارات أو كلمات تحمل قيماً أو توجهات معينة، وبناء استنتاجات مستقبلية على تحليل هذه التكرارات.

  • تحليل آراء ذوي الشأن والخبرة

ومن هذه الأساليب طريقة المسوح Surveys التي يتم فيها استطلاع رأي أو توقعات عينة من الأفراد سواء من خلال استبيان يرسل بالبريد أو يتم تعبئته عن طريق المقابلة الشخصية أو الاتصال التليفوني، ومنها طريقة ندوة الخبراء Panel Discussion وطريقة الاستثارة الفكرية أو العصف الذهني Brain Storming التي يتم فيها استطلاع الآراء والتحاور بشأنها، مرة واحدة كما في ندوة الخبراء والاستثارة الفكرية أو عدة مرات كما في طريقة دلفي.

  • السيناريوهات Scenarios

السيناريو وصفٌ لوضع مستقبلي ممكن أو محتمل أو مرغوب فيه، مع توضيح لملامح المسار أو المسارات التي يمكن أن تؤدي إلى هذا الوضع المستقبلي، وذلك انطلاقاً من الوضع الراهن أو من وضع ابتدائي مفترض، والأصل أن تنتهي كل الدراسات المستقبلية إلى سيناريوهات، أي إلى مسارات وصور مستقبلية بديلة، فهذا هو المنتج النهائي لكل طرق البحث المستقبلي، ولهذا فإن بعض المستقبليين يعتبرون السيناريو الأداة التي تُعطِي للدراسات المستقبلية نوعاً من الوحدة المنهجية Methodological Unity وذلك بالرغم من أن الطرق التي قد تُستخدَم في إنتاج السيناريوهات تتنوع تنوعاً شديداً.

فالسيناريوهات يمكن أن تُبنَى بأي من الطرق السابق ذكرها أو بمجموعات معينة منها، كما أنها يمكن أن تُبنَى بطرق أخرى لم تتعرض لها كالسيناريوهات التي نعتمد اعتماداً كلياً على الخيال العلمي أو الإبداع الأدبي أو الحدث أو الاستبصار Foresight والتي قد ينفرد بكتابتها شخص واحد – لا فريق من الباحثين العلميين.

وعموماً، فإن السيناريوهات تصف إمكانات بديلة للمستقبل، وتقدم عرضاً للاختيارات المتاحة أمام الفعل الإنساني، مع بيان نتائجها المتوقعة بحلوها ومرها، وقد ينطوي تحليل السيناريوهات على توصيات ضمنية أو صريحة حول ما ينبغي عمله، ولكن ذلك يتوقف – كما سبق بيانه – على التوجه الذي يأخذ به واضعو السيناريوهات، أي ما إذا كان توجهاً استطلاعياً أم توجهاً استهدافياً.

  • أسلوب دلفاي Delphi Method

أسلوب دلفاي هو أسلوب بحثي تعتمد عليه بعض الدراسات التي تأخذ في الاعتبار الاستفادة من خبرات العاملين والمختصين في المجال المبحوث.

ويُعرِّف هارولد ساكمان Harold Sackman أسلوب دلفاي بأنه طريقة للحصول على نتائج مفيدة من خلال سلوك منظم بواسطة استخلاص وجهات نظر مجموعة من الخبراء، ويُعرِّفه الكثيري نقلاً عن هيلمر ونيكولز بأنه أسلوب مبرمج تم تصميمه بعناية يجمع الاستجابات بطريقة فردية متتابعة في حلقات متتالية متبوعة بتغذية راجعة.

مما يعني أن أسلوب دلفاي يعمل على أساس أن الآراء المتعددة أفضل من الرأي الواحد عند صنع الموضوع الذي سيكون خاضعاً للمستقبل، اعتماداً على الحكم المنطقي والعقلاني، ويستهدف أسلوب دلفاي عموماً تنظيم وصقل وزيادة الإجماع والاتساق بين الخبراء في قرار أو قضية مستقبلية.

وقد ظهر أسلوب دلفاي في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين الميلادي، وفي أيامه الأولى استُخدِم كوسيلة للفهم والتنبؤ في الميادين العلمية والتقنية، وتوجد ثلاث خصائص تُميِّز أسلوب دلفاي عن غيره من الأساليب، هي: عدم تسمية المصدر، التكرار مع التغذية الراجعة المراقبة، والاستجابات المعاملة إحصائياً للمجموعة.

وقد حدث العديد من التطوير لأسلوب دلفاي منذ الخمسينيات مما أسفر عن إجراءات وأسباب وأغراض لتنفيذ هذا النوع من النشاط.

خصائص منهجيات وأدوات الدراسات المستقبلية

  • الشمول والنظرة الكلية للأمور.
  • مراعاة التعقد Complexity .
  • القراءة الجيدة للماضي باتجاهاته العامة السائدة، وكذلك التعرف على الاتجاهات الأخرى الراهنة.
  • المزج بين الأساليب الكيفية والأساليب الكمية في الدراسات المستقبلية.
  • عمل الفريق والإبداع الجماعي وهو ما يعنى إنجاز الدراسة المستقبلية.
  • التعلم الذاتي والتصحيح المتتابع للتحليلات والنتائج.

خاتمة:

تتخذ دراسة المستقبل أحد طريقين، أولهما ينطلق من الموقف الراهن (الحاضر) بتاريخه السابق ليسقط على المستقبل؛ ليسوق لنا مشاهد أو سيناريوهات اتجاهية هي امتداد للماضي والحاضر، وهذا النوع يسمى بالمقاربة الاستكشافية أو الاستقرائية.

والنوع الثاني والمسمى بالمقاربة الاستهدافية أو المعيارية، فعلى العكس من سابقه، يبدأ ببعض المواقف والأهداف المستقبلية المرغوبة أو المُسلَّم بها، للانتقال من الحاضر إلى المستقبل كرؤية المملكة 2030، حيث تساعد الرؤية المستقبلية في تحفيز الإنسان نحو الانطلاق نحو المستقبل.

وبناءً على ما سبق يمكن تقديم التوصيات التالية:

  • دعم وتطوير مراكز البحوث والدراسات المختلفة في المملكة العربية السعودية لتصبح مراكز تفكير (Think Tanks) تهتم بالدراسات المستقبلية، وتعمل على صناعة المستقبل المنشود، وتسهم في صنع السياسة العامة التي تضمن نجاح البرامج والمشاريع بتحقيق الرؤية المستقبلية 2030.
  • إنشاء مراكز أبحاث ودراسات تُعنَى بالمستقبل والدراسات المستقبلية داخل الجامعات السعودية، وتكون خططها وبرامجها متناغمة مع استكشاف المستقبل وصناعته بما يسهم في تحقيق أهداف وخطط التنمية وبرامج رؤية 2030.
  • فتح تخصصات علمية بالجامعات السعودية متخصصة في الدراسات المستقبلية ومناهجها المختلفة، تُعِد وتُخرِّج المتخصصين في مناهج وأدوات دراسة المستقبل.
  • ابتعاث الطلاب والطالبات للدراسة والتخصص في مجال الدراسات المستقبلية بمناهجها وأدواتها المختلفة.
  • الاهتمام بالبحث العلمي والدراسات المستقبلية ضمن مسارات التعليم العام.
  • نشر ثقافة الدراسات المستقبلية بين أفراد المجتمع من خلال وسائل الإعلام المختلفة، ومنصات ومواقع التواصل الاجتماعي.
  • إنشاء قاعدة بيانات للخبراء والمختصين في الدراسات المستقبلية، كاستثمار أمثل للموارد البشرية.
  • المداخلات حول القضية
  • الدراسات المستقبلية وإشكالات المفهوم وأبعاده.

إن المستقبل بصورته العامة والمجردة، هو من اهتمام الأفراد العاديين من خلال سعيهم إلى تحسين وضعهم على الدوام نحو مكتسبات أفضل، ومن جانب آخر فإن الدراسات المستقبلية بصورتها العلمية تحظى باهتمام كبير جدًّا من قبل المختصين والأكاديميين والمعنيين خصوصًا في عصر التكنولوجيا والمعلوماتية والمتغيرات والتطور الهائل الذي يشهده العالم بين وقت وآخر.

والدراسات المستقبلية، هي ابتداءً منهج استطلاعي واستقصائي للنيل من معلومة افتراضية مرحليا لتحقيق أهداف نحو مشروعات تعتزم أي جهة كانت للوصول إلى نجاحات تتحقق ولو نسبياً حال التطبيق، كما أن هناك مبادئ لعلم المستقبليات، تأتي نحو استخلاص عبرة من الماضي من خلال دراسة أهم التطورات كالفرص المُتاحة، والقيود المفروضة أو التهديدات والمخاطر الناجمة، بهدف تحديد صورة مستقبلية، وتصور وضع مستقبلي، لعقدين أو ثلاثة عقود من الزمن، لتحديد الأهداف والمصالح، وتجنب أي انحياز أيديولوجي، والانطلاق من المسلمات والافتراضات المتفق عليها من مختلف الاتجاهات للبحث العلمي والفكري والعقائدي والتكنولوجي، فضلاً عن تعيين القدرات اللازمة لإنجاز أي مسار مستقبلي، وحساب للنفقات، أيضاً التركيز على عوامل التنمية في مختلف القطاعات، لتحقيق فعال للأهداف عامة، واخيراً اعتماد سيناريوهات مختلفة، معدة سلفاً، لجميع الحالات الطارئة المحتملة، والتي تُخزَّن للسماح بعد ذلك ليستخدمها صانعو القرار، وفقاً لحجم الأزمة المستقبلية المحتملة.

وقد تأخر ظهور المنهجيات العلمية للدراسات المستقبلية رغم ثراء التراث الفكري والفلسفي المهتم بالمستقبل حتى ستينيات القرن العشرين. “وفي العقود الأخيرة تطورت محاولات فهم المستقبل من خلال التطورات المتلاحقة في التخطيط ومنهجياته، من تخطيط تقليدي قصير أو متوسط أو بعيد المدى، إلى تخطيط استراتيجي حتى ظهر منهج وأساليب جديدة تحاول وصف المستقبل البعيد نسبياً”؛ حيث تعتبر الدراسات المستقبلية محاولة لاستكشاف المستقبل وفق المنهج العلمي المنظم.

ولجأت العديد من الدول، ولا سيما منها المتقدمة إلى إنشاء كليات ومراكز دراسات وبحوث لمأسسة الدراسات المستقبلية، بغية توفير الحلول الممكنة لمثل هذه مشاكل، قد تبرز على السطح في الآجال القريبة والمتوسطة والبعيدة، في إطار التخطيط الاستراتيجي الشامل. وتبرز صلة الدراسات المستقبلية بالواقع من أنها ترتبط بالواقع الحالي والمستقبلي، فهي تشير إلى ضرورة تحويل واقع البحث العلمي المعاصر وتوجيه اهتمامه إلى المشكلات التي لم تحدث بعد أو المحتملة.

والمؤكد أن علم الدراسات المستقبلية في الأساس هو جزء من التخطيط، والفكر الاستراتيجي تطور ونما بحكم التغييرات السريعة والمتلاحقة في الابتكارات التكنولوجية وفي المعلوماتية وكمية البيانات والاتصالات والذكاء الصناعي والتقنيات الرقمية في جميع الأعمال تقريبا (تقنيات الثورة الصناعية الرابعة)، وغيرها وكثرة وتغير الأنظمة والقوانين الحكومية وكذلك التحديات من شح الموارد المالية والاقتصادية والزيادة السكانية والتغير المناخي والتنمية الاجتماعية والصراعات والاضطرابات السياسية والاستدامة والحماية البيئية والانبعاث الكربوني والطاقة المتجددة وغيرها من التحديات من غير تفصيل.

وكل تلك المتغيرات تحمل إلى الدول والمجتمعات المتعددة عوامل تهديد أو فرص بما تملكه من عوامل القوة والضعف الرئيسة التي أشار إليها د. محمد الثقفي في تعقيبه (الدبلوماسية، المعلوماتية، القوة الاقتصادية، والقوة العسكرية، وهناك بالطبع عوامل ثانوية تندرج تحت تلك العوامل) وهنا يأتي دور الأساليب من السيناريوهات والمنهجيات والمستخدمة كأدوات  في الدراسات المستقبلية وبما يتناسب مع كل هدف دراسة وحالة ووضع كل دولة ومجتمع، وقد يستخدم أكثر من نموذج في نفس الدراسة، وقد أشارت كاتبة الورقة الرئيسة أ. فائزة العجروش والمعقب د. خالد الثبيتي إلى تلك الأساليب من السيناريوهات والنماذج ويضاف إليها النماذج الرياضية Mathematical Models والتي لم يتم الإشارة إليها. وللنماذج الرياضية تعريفات متعددة وذلك على حسب استخدام النماذج في مجال معين. ومن أهم هذه التعريفات:

  • أن النموذج الرياضي هو استعمال لغة الرياضيات لوصف مظاهر نظام ما، للتعرف عليه والتنبؤ بما سيحدث مستقبلاً.
  • أنه صياغة علمية للعلاقات المتداخلة بين عناصر نظام معين (اجتماعي أو اقتصادي) مثل النظام التعليمي، أو بين أكثر من نظام واحد ويصور الواقع في هذه النماذج دوال رياضية.
  • أنه توضيح تصويري يتم التعبير عنه بالرموز الرياضية التي تُستخدَم مع المشكلات المتعلقة بقياس وتحليل المتغيرات، حيث يهدف النموذج الرياضي إلى توضيح العلاقة القائمة بين متغيرات النظام بأسلوب رياضي.
  • أنه صياغة لبعض مظاهر نظام ما مُثِّلَت فيها المتغيرات بصورة الرموز، ويُمثَّل النموذج في محاكاة لموقف واقعي، ويتم تصميمه ليشتمل على إعداد من المتغيرات التفاعلية والتي يمكن معالجتها بعد ذلك.
  • يمكن أن تُتَّخذ النماذج الرياضية عدة أشكال بما في ذلك الأنظمة الديناميكية أو النماذج الإحصائية أو النماذج النظرية، ويمكن أن تتداخل هذه الأنواع مع نموذج معين يضم مجموعة متنوعة من الهياكل.
  • وتكتسب النماذج الرياضية أهميتها كأحد الأساليب الكمية في الدراسات المستقبلية من أن التعبير الكمي عن أي ظاهرة أدق من التعبير الكيفي، وبالتالي نستطيع التعامل من خلالها مع المتغيرات الكمية بالظاهرة محل الدراسة.

ويرى البعض أن الدراسات المستقبلية هي “العلم الذي يحاول أن يوظّف ويسخّر المستقبل عن طريق استخدام أساليب علمية وإحصائية وكمية من خلال إجراء حسابات ومعادلات رياضية في دراسة حالة معينة، وتقديم احتمالات مشروطة تستهدف الفترة الزمنية القادمة لغرض مواجهة البيئة غير الواضحة وغير المستقرة”. وبهذا فإن الدراسات المستقبلية الحديثة هي التي تقوم على توظيف العلم والتكنولوجيا؛ لغرض إضافة الرصانة البحثية وحصولها على أكبر قدر ممكن من القبول لدى البيئة العلمية ومجمع المختصين، من هنا يمكن القول إنه خلال هذا الاتجاه وهو مطلب أساس نحو اكتساب قراءات تفضي للوصول إلى تلك المعلومات المبدئية التي نعتقد أنها قريبة وفيها من المواءمة للأهداف المبتغاة هو أمر واجب الإتيان به. وعموماً فإن الاهتمام بروح الدراسات المستقبلية هو الاتجاه السليم في هذه المرحلة لأن تكون أي دولة قادرة على بناء مجتمعات ذات معرفة وتقنية لا حدود لها.

  • التنبؤ بالمستقبل في العلوم الاجتماعية.

يعد التنبؤ predection أحد أهم وظائف العلوم الاجتماعية، وذلك بناءً على النهج الخلدوني؛ الذي يقوم على قراءة الماضي وأحداث التاريخ بغرض صياغة قوانين للظواهر الاجتماعية بطريقة استقرائية (من الجزء إلى الكل). هذه العملية هي ما صَنَع الفرق بين التاريخ وعلم الاجتماع؛ فالأول معني بسرد الأحداث وترتيبها وتبويبها والتحقق من صدقها، بينما الثاني ينظر إلى ما بعد الأحداث. وقد كان “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” أهم مؤلف لابن خلدون وجاء في سبعة مجلدات أطلق عليه البعض تاريخ ابن خلدون، لكن هذا الكتاب كسائر كتب التاريخ لم يلفت انتباه أحد، باستثناء مقدمته الشهيرة التي جاءت في مجلد منفصل لتحمل عنوان “مقدمة ابن خلدون”. هذه المقدمة ليست تاريخاً، ولكنها علم اجتماع خالص، أطلق عليه مؤلفه “علم العمران البشري”. أما الذي أطلق عليه علم الاجتماع فهو أوجيست كومت الذي جاء بعد ٤٠٠ سنة من وفاة ابن خلدون. في هذه المقدمة صاغ ابن خلدون رؤية كلية للأحداث والظواهر؛ كنشوء الدول، وعمر الدولة، والمهن، والصنائع، والسياسة، والصراع، والطبقات، وكيف تتشكل المدن والحواضر، وممَّ تتركب. وقد ذهب ابن خلدون إلى أبعد من ذلك بالإشارة إلى علامات سقوط الدول وانهيارها؛ بل إن ما كتبه يدخل ضمن التحذيرات لصناع القرار وهو الذي دخل المعترك السياسي في عدة دول سفيراً ووزيراً وقاضياً.

ويُجمِع أغلب الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية على أن تسارع إيقاع التغير في المجتمعات المعاصرة يمثل أحد أبرز مظاهر هذا العصر؛ واستجابة لهذا دأبت الدول والمؤسسات الدولية والإقليمية على محاولة البحث في سبيل تحسين قدراتها على التكيف مع هذا التغير السريع، ولا شك أن المجتمعات العربية بحاجة إلى الدراسات المستقبلية على الأقل بالنظر لما يواجهه من تحديات هائلة أمنية وسياسية واقتصادية وثقافية في ظل المتغيرات العالمية والإقليمية الراهنة. وفي هذا الإطار يندر أن تجد دولة متقدمة لا تستند إلى دراسات لاستشراف المستقبل في صنع قراراتها الاقتصادية، أو السياسية، أو العسكرية. ولقد استطاعت الدول المتقدمة الوصول إلى ما هي عليه من تقدم علمي واقتصادي وإنساني، نظراً لاتباعها الأسلوب العلمي والتخطيط للمستقبل في مختلف جوانب حياتها.

وعند محاولة فهم ما يجري، وسيجري، في المنطقة العربية بالذات في إطار استشراف المستقبل، لا بد من التذكير بأن: فهم – وتوقع – ما سيجري بهذه المنطقة يسهُل إنْ فُهِمت حقائق وأطر نظرية معينة، أهمها: نظريات: الاستعمار الجديد، النظام العالمي الراهن، الحركة الصهيونية، الحكومات المختلفة، سياسة القوى الكبرى نحو المنطقة.. فمن العبث محاولة فهم قضايا هذه المنطقة وما ماثلها (فهماً صحيحاً) دون فهم هذه النظريات (والحقائق) العامة التي تقع الأحداث في إطارها. وتطبيق هذه الأطر والنظر من خلالها، لا ينبئ بخير من وجهة نظر المصلحة العربية.

ونحتاج ذلك في سعينا الآن للتكهن بأهم ما يحمله عام 2022م من تطورات سياسية. ويعتبر العالم العربي – بصفة عامة – وباستثناء بعض أجزائه، أقل مناطق العالم احتمالاً للنهوض، إنِ استمر فكره وتكوينه السياسي، كما هو. هذا ما يردده معظم الخبراء المعنيين، ويقدمون براهين عليه. لذا، يُتوَقَّع أن يستمر حال أغلب العالم العربي – بصفة عامة – على ما هو عليه، في المدى المنظور باعتبار طبيعة “النظام العالمي” الراهن، وتوجهات الغرب المُتنفَّذ الاقتصادية والسياسية الانتهازية، وكذلك استتباب “العوائق الذاتية” المعروفة، التي يعاني منها جل هذا العالم.

أما “القضايا” الساخنة، التي تشهدها المنطقة الآن، فستظل – على الأرجح – مستمرة في المدى القصير. وأهمها – كما هو معروف – ما تبقى من أحداث وتطورات الربيع الفوضوي العربي، ثم قضية فلسطين، فالوضع المتوتر الخطير في منطقة الخليج بين إيران وأمريكا، بشأن الملف النووي الإيراني، والتنافس السياسي – الاقتصادي الأمريكي- الصيني بالمنطقة، وغيره. ثم الأوضاع المضطربة في كل من: العراق، سوريا، لبنان، ليبيا، اليمن، السودان، الصومال. إضافة إلى قضايا الإصلاح والتنمية، ومكافحة الإرهاب، وما يرتبط بها من أحداث. وهذه قضايا يمكن فهم جوهرها، وتوجهاتها المستقبلية، بموضوعية – عبر فهم الأطر العلمية المشار إليها آنفاً.

ويبدو أن سنة 2022 م حبلى بمشاكل وأزمات خطيرة (بعضها بالمنطقة العربية) جُيِّر معظمها لها العام المنصرم؛ فهي أزمات قديمة – جديدة. الأمر الذي يُبقِي الشرق الأوسط بخاصة، كأكثر مناطق العالم سخونة والتهاباً، وقابلية للاضطرابات والقلاقل والحروب، في الوقت الحاضر. وأهم ما يجعله كذلك هما: المسببان العتيدان، وبخاصة الأطماع الإمبريالية –الصهيونية فيه، والاستبداد السياسي، وتخبط أغلب أجزائه – فكرياً وسلوكياً.

ولا يتوقع أن تنتهي الاضطرابات السياسية في دول المنطقة المضطربة قريباً. ولا يتوقع أن تتخلى إيران -بالفعل- عن سياساتها (التوسعية العدوانية) ولا عن طموحاتها النووية. ولا يتوقع أيضاً أن تجنح إسرائيل للسلم. ومن التطورات الإيجابية القليلة المفرحة، التي ستشهدها المنطقة في السنة الجديدة، انعقاد مباريات كأس العالم -لأول مرة- بقطر، وعودة العلاقات الخليجية- الخليجية إلى الوئام والتلاحم الأخوي. وذلك سيسلط أنظار العالم أكثر على المنطقة، وعلى ما فيها من إشكاليات.

  • نظرية المؤامرة وعلاقتها بالدراسات المستقبلية على المستوى السياسي.

إن افتراض وجود المؤامرة في أدبياتنا وخطابنا السياسي سيبدو مربكاً للباحث أو مركز الفكر الذي يعد دراسة مستقبلية خاصة عند توظيف هذه المؤامرة كفرضية يبني عليها نتائج. نحن مثلاً نكرر كثيراً في خطابنا الإعلامي وتحليلاتنا الصحفية أن إيران واسرائيل تتآمران على الدول العربية وأنه لا عداء حقيقي بينهما، بل إنهما تتعاونان في سبيل مد نفوذهما إلى الدول العربية. ثم نكتشف بعد عدة سنوات أن هذه الصورة غير حقيقية، وأن هناك بالفعل عداء وتنافس بينهما قد يصل إلى حد الحرب. وبالتالي فإن أي دراسة تُوظِّف فرضية التعاون بين الدولتين قد تأتي نتائجها مضللة أو أنها غير ذات قيمة تذكر، ولا سيما أنه قد يُبنَى عليها قرار مهم له علاقة بالأمن الوطني. مثال آخر: نحن نكرر أن داعش صنيعة غربية تريد الدول الغربية استخدامها ذريعة للتدخل في شؤوننا. قد لا تكون هذه الفرضية صادقة، وأن داعش مجرد حركة تمرد محلية تقاوم أنظمة دولنا ودول الغرب، وأنها غير مرتبطة بأي جهة خارجية. ويصبح التحدي في هذا الإطار هو كيفية بناء دراسة مستقبلية ونحن نراوح بين هذه الفرضيات المتعارضة بل والمتعارضة جداً.

ورغم اختلافات الطرح في الكتابات في أهمية التفات المجتمعات الناشئة فيما يخص الدراسات المستقبلية، إلا أن الالتفاف يكاد يكون متقارباً إلى درجة عالية في ضرورة أن يكون لنا دراسات مستقبلية محلية وعربية على الأقل في القضايا الحساسة، مثل الأمن بكافة أوجهه، ويأتي الاختلاف في تكييف تلك الضرورة، فمثلاً الاتجاه الذي يذهب لضرورة وجود أو عدم وجود دراسات مستقبلية على المستوى المحلي والعربي، يرتكز على فرضية أن تقدم الأمم يقوم على رسم مستقبل بقائها في الصدارة القائم على مدى قدرة تلك المجتمعات على استشراف المستقبل والاستعداد له، وبالتالي ضرورة “رسم مستقبلها قبل أن يرسمه لها الآخرون، وغياب عالمنا العربي عن خارطة الإسهام في “الدراسات المستقبلية” يوضح موقع الاهتمام بالمستقبل ضمن منظومة أكبر، فتكون الضرورات ليست مرتبطة فقط بالمحصلات النهائية للدراسات المستقبلية، بل بالتأصيل لكافة أبعادها في ثقافة المسؤول والمستفيد، وهذا البعد وإن كان واضحاً في أذهان قادة المجتمعات العربية، إلا أنه قد لا يطرق في ثقافة العامة، وهنا مكمن الخطورة، في زيادة الفجوة بين مَنْ يُفكِّر في الإطار الجمعي، ومن يُفكِّر في إطار فردي قائم على التفكير اليومي، إن نجاح المستقبل يبدأ من ثقافة الفرد أولاً في التفكير للتخطيط للعيش الآمن وانتهاءً بكونه منهج حياة.

ولو رجعنا تاريخيًا لوجدنا أن دول العالم المتقدم قد اعتمدت على الدراسات المستقبلية في وضع سياساتها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتجنب التغيرات السلبية المتوقع حدوثها، ودراسات تهتم في المقام الأول بوضع رؤية لمستقبل آمن ينعم بالسلام.

ثم ظهر بعد ذلك اهتمام متنامٍ بأبحاث هذا النوع من الدراسات في كافة دول العالم لوضع تصورات وتوقعات استباقية لمستقبل بلدانهم، وانتقل هذا الاهتمام للبلدان النامية والدول العربية؛ وإن كان متأخرًا وضعيفًا ولكن يبشر بالخير.

وعلى مستوى المملكة نستطيع أن نفخر بـ رؤية “2030” كتجسيد حقيقي للنهج الاستشرافي المطلوب لرسم مستقبل المملكة بنفسها، كما يلزم التنويه إلى أن الأهمية المعقودة على استشراف المستقبل ستؤتي أُكلُها عندما تصبح ثقافة مجتمعية، ويتم إقرارها كنمط تفكير أساسي، وتتوجه جهودنا لتنمية رأي عام مهتم بالمستقبل، واستثارة الوعي والتفكير المستقبليين، وتوسيع قاعدة المنشغلين ببناء مستقبل أفضل. وبما أن الواقع الفعلي، يشير إلى أننا بحاجة إلى تطوير وإسقاط ذلك على واقعنا العربي عامة والسعودي خاصة؛ وجب علينا نشر ثقافة هذا العلم الهام في كافة المؤسسات التعليمية وكافة الأجهزة الحكومية، من خلال مواضيع مؤطرة لكل مجال تنموي اقتصادي واجتماعي وسكاني، ويحتوي على عدد من السيناريوهات التي قد تمنح الطلبة والموظفين المبدعين الفرصة لمساعدة متخذي القرار في شتى المجالات بالتخطيط للمستقبل بشكل طويل المدى، بعيدًا عن التخطيط قصير المدى الذي قد يضر بعملية التطوير والتنمية.

ولعل مشروع السعودية الخضراء والشرق الأخضر يقوم على استشراف أفكار علمية مبتكرة وفريدة لم يسبق لها وجود في عالمنا المعاصر، حيث سيتم زراعة ٤٠ مليار شجرة في مناطق قاحلة ومناطق شحيحة المياه دون التأثير على الموارد المائية الحالية والفترة الحالية هي فترة الدراسة والبدء خلال عام ونصف بالكثير، إنها ضرب من الخيال العلمي القابل بإذن الله للتطبيق.

كما أن مشاريع مثل القدية ونيون والبحر الأحمر والسعودية الخضراء؛ مشاريع يمكن استخدامها في استشراف المستقبل اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. كلنا يلاحظ أثر برنامج الابتعاث الخارجي الآن بعد أكثر من عقد من الزمان وكيف أثر على الشباب وتفكيرهم ونظرتهم، وهو مع عوامل أخرى نرى على أرض الواقع التغير في الجانب الاجتماعي والاقتصادي وتقبلهم لمهن جديدة مثلاً. والتوجه نحو تقليل عدد الملتحقين بالجامعات وانخراطهم في ريادة الأعمال ودراستهم للشهادات الفنية والمهنية بعد الثانوية سنرى له أثراً بعد حين.

والمملكة ومن خلال وزارة التخطيط بالتعاون مع مختلف الجهات الحكومية، كانت وما زالت تقوم بمراجعة مستمرة لواقعها الحالي، وتبنيّ سياسات تخطيطية ذات رؤى مستقبلية، للوصول بها إلى مراتب الدول المتقدمة، وفق مؤشرات وطنية وعالميّة؛ للتقدم في أدائها الحكوميّ والمؤسسيّ. وكانت تحرص على انتهاج سياسات تطويرية أو علاجية، والبحث عن منهجيات واستراتيجيات؛ لسدّ الفجوة في المهارات على اختلاف المجالات؛ لضمان المشاركة المجتمعيّة، وتعزيز القدرة التنافسيّة بين القطاعات المختلفة في ظل التغيّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والتقنيّة، وتغيّر نوعية المهن والوظائف المستقبليّة المطلوبة في القرن 21، والمرتبطة بمتطلبات سوق العمل المحليّة والعالميّة. ومعالجة قضايا المهارات المستقبليّة، من خلال تطوير تكنولوجيا التعاملات الرقميّة لدى العاملين في عصر التّحول الرقمي والأتمتة، والتركيز على إكساب مخرجات الأنظمة التعليميّة مهارات متعددة التّخصصات، والمرونة في استيعاب الجديد، وقدرة مواطنيها على التّكيّف مع التغيّر المتسارع في بيئات العمل. وما رأيناه من تغييرات واضحة في السعودية، والتي وصل صداها للعالم بعد إعلان رؤية 2030؛ كانت تعود لإيمان قائدها – الأمير محمد بن سلمان حفظه الله – وثقته بالكفاءات الوطنية، ومراهنته على شعبه لتنشئة أجيال وطنيّة مؤهلة بمهارات المستقبل؛ لتحقيق الرؤية ومواكبة التغيّرات الإقليميّة والعالميّة‫؛ لذا خرجت معظم تلك الدراسات من الأدراج إلى حيز التنفيذ والمتابعة المستمرة وإجراء التعديلات اللازمة حسب المستجدات والمتغيرات المحلية والعالمية.

  • معوقات تنفيذ الدراسات المستقبلية وما الذي تحتاجه السعودية لإنجازها؟

لا ننكر أهمية الدراسات المستقبلية في استشراف المستقبل، خاصة مع التغيرات السريعة والمتلاحقة، ولكن تعاني الدراسات المستقبلية من قصور في التنظير والتطوير المعرفي وعدم وجود اهتمام كبير من قبل المختصين لضعف الإمكانيات المادية والقدرات البشرية. خاصة التعليمية مما ينعكس على تهميش هذه الدراسات، إضافة إلى أن البعض يصفها بأنها دراسات غير موضوعية نتيجة تحيز الباحث لمعتقداته أو ثقافته، واعتمادها على الجوانب التحليلية الفنية والسيناريوهات، كذلك الخلط بينها وبين الاستراتيجية.

وتجدر الإشارة إلى أنه رغم الخلط بين مفهوم التخطيط الاستراتيجي، واستشراف المستقبل، إلا أنهما لا يتعارضان وإنما يُكملان بعضهما، بمعنى أن استشراف المستقبل يُزَوِّد الحكومات والمؤسسات بمعلومات غنية لتشكيل المستقبل واتخاذ القرارات السليمة، وتَغْيير الاستراتيجيات الحالية في ظل مُخرَجات عمليةِ استشراف المستقبل. أما فيما يخص تهميش للدراسات المستقبلية ووصفها بعدم الموضوعية ربما يعود هذا لأنها بمفهومها المستخدم حاليًا، لم تتبلور بشكل كافٍ حتى هذه الفترة، رغم ظهور محاولات جادة ومهمة، لكنها متناثرة في مناطق مختلفة في عالمنا العربي، إلا أنها كانت منصبة على الدراسات الإحصائية، لكن استشراف المستقبل لا بد أن يتجاوز الفهم التقليدي للبيئة المحيطة بنا، والنظر بعمق لكل ما يمكن أن يطالها من تغييرات، وما تحمله من ظروف تعثر أو فرص نجاحات، وما يمكن تصوره من احتمالات مستقبلية بناءً على أحداث مشابهة أو توقعات. وقد يتطلب أحد السيناريوهات التي تم وضعها مسبقًا، استعدادات تقنية أو تدريبات استباقية.

وعلى مر السنوات الماضية وقبل إعلان رؤية المملكة ٢٠٣٠ كانت هناك العديد من الدراسات المستقبلية أو الاستشرافية، وعلى سبيل المثال فإن الدراسات الاستشرافية في مجال التعليم التي أُعد بعضها بالاستعانة بجامعات وشركات استشارية عالمية كانت دراسات أساسية للخطط التنموية الخمسية، ووزارة التخطيط أسهمت في دعم بعض من تلك الدراسات الاستشرافية باستكتاب متخصصين في إعداد الدراسات الاستشرافية.

حيث تكمن الإشكالية في أن معظم تلك الدراسات الاستشرافية كان مصير معظمها الأرفف بمكاتب المسؤولين والمكتبات كما هو الحال للعديد من البحوث والدراسات المتخصصة.

وما أن أعلنت رؤية المملكة ٢٠٣٠ وبرامجها التي اعتمدت على الدراسات والتنبؤات المستقبلية في بناء وتنفيذ الاستراتيجيات لكل قطاع حكومي، وإلى جانب تنفيذ التنظيمات التطويرية التي تمت على هيئة الإحصاءات العامة والتي كان لها دور كبير في إعادة هيكلة وتنظيم وتوفير البيانات الدقيقة، وهذا التطوير بالطبع يقودنا إلى أن التخطيط في المملكة تعدَّل مساره إلى الأفضل والأصح، إلا أنه ينقصنا إنشاء مركز للدراسات المستقبلية أو الاستشرافية يدار بمجلس إدارة يتكون من ممثلين من القطاعين العام والخاص وخبراء متمكنين في الدراسات الاستشرافية.

أيضاً فثمة تساؤل مهم فيما يخص تنفيذ الدراسات المستقبلية: هل لدى مراكز البحوث والباحثين حرية الوصول access للمعلومات؟ الغالب أن هناك قيوداً على بعض البيانات أو أن البيانات المتاحة غير دقيقة، بحيث تعطي نتائج مضللة؟ وثمة تصور بأن هذه مشكلة كبيرة جداً؛ إذ إن البيانات تملكها مؤسسات حكومية أو شركات كبرى. ونحتاج إلى تشريع يتيح الوصول للبيانات للباحثين، وقد يضع التشريع قواعد لاستثمار نتائج البحوث بالمشاركة مع مالكيها ومقدميها.

ويمكن تفهم الحساسية المفرطة في دولنا من تداول ونشر البيانات والإحصاءات وذلك لأسباب أمنية، ولكن يفترض عدم حجبها عن الباحثين خاصة مَنْ يتم تكليفهم بدراسات مستقبلية من قبل بعض الأجهزة الحكومية، ولا بأس أن تكون هذه الدراسات سرية لفترة من الزمن بعرض استرشاد صانع القرار بها.

وتعد مشكلة الوصول للبيانات عقبة حقيقية أمام أنماط البحوث بصفة عامة، وأهمها البحوث الوصفية، ومع أن شح البيانات كان عقبة أمام الباحثين المستقبليين قبل إنشاء هيئة الإحصاءات العامة، وربما خفَّت هذه المشكلة نوعاً ما؛ ومع هذا فما زلنا نحتاج لكثير من البيانات خاصة المتعلقة بسلوك المستهلكين في جميع المجالات وحسب مناطق المملكة، والتي يُبنَى عليها تخطيط المساكن والخدمات الحكومية المختلفة. وإن أحد أهم مصادر المعلومات هي نتائج الدراسات التي تقوم بها المكاتب الاستشارية الدولية والمحلية، فهي تبقى محبوسة لدى المسؤول الذي أمر بتنفيذها ولا تتاح للجهات الحكومية الأخرى ولا تودع مثلاً في مركز موحد مثلاً.

وتؤكد بعض وجهات النظر على أهمية وجود “مرصد اجتماعي وطني” أو “ثنك تانك سوسيولوجي” يرصد الظواهر الاجتماعية، ويتتبع حدوثها وتشكلها تاريخياً، ومن ثم يحدد مآلاتها وما يترتب عليها من تداعيات. مثل هذا المرصد ضروري للغاية بحيث يستقطب نخبة من المتخصصين في العلوم الاجتماعية يكون تحت مظلة الدولة، ويستفيد من البيانات والإحصاءات المتاحة، والبحوث السابقة، والتقارير الحكومية، لتكون نتائج دراساته المستقبلية عوناً لصانع القرار. ومن منطلق أن يكون هذا المرصد داعماً وضابطاً يضمن مصداقية الدراسات المستقبلية للدولة؛ فمشاركة متخصصين من ميادين متعددة وفروع علمية (اجتماعية أو تطبيقية)، تجعل الدقة في التنبؤ أعلى من حيث تحديد زمن التنبؤ ومضمونه. مع أهمية تطبيق ما تفضل به د. صدقة من استقلالية هذه المراكز وشفافيتها.

بينما ترى وجهات نظر أخرى أن الأَوْلَى إقامة مراكز دراسات استراتيجية، شاملة الاجتماع والسياسة وكل ما يرتبط بهما من مجالات. وأهم عناصر فعالية هذه المراكز هي الاستقلالية، دون استقلالية وشفافية وصراحة لن يكون لهذه المراكز أي دور إيجابي، وإن تعددت.

وتظل الدراسات المستقبلية خطوات منهجية وتوقعات أشبه بالاختراعات التي يسبقها حاجات واسعة تتطلب التفكير بالخيارات المتاحة وكيفية تطويرها وصناعة آفاق رحبة تسهم في حلول لكثير من المشكلات الصغيرة. والدراسات المستقبلية تتطلب بيئة غير بيروقراطية لتمنحها آفاقاً رحبة وتقدم لها كافة المعلومات التي تحتاجها، وتتيح لها الوصول لأي مصادر يمكن أن تفيد منها، وتتيح لها التفكير خارج الصندوق وتَصدُر من بيئات بحثية مؤسسية. ونحن فعلاً نحتاج لدراسات تسهم في تقديم رؤى تساعدنا في توقع المستقبل في قضايا مثل أسعار النفط والحرب في اليمن وحلول الإسكان وخلق الوظائف؛ لأن النجاح في ذلك يعني أن جهود التخطيط ستقوم على معطيات صحيحة وسليمة. كما أن هناك حاجة فعلاً للدورات التدريبية للمتخصصين لتسهم في تأهيل كثير منهم ليعملوا على تقديم دراسات علمية مستقبلية تنبع من تخصصاتهم وتكون أكثر انضباطاً ومعياريةً. وإحدى المشكلات الرئيسة في الدراسات المستقبلية هي أن نتائجها قد تصطدم بكفاءات لا تقدر قيمتها وقدرتها على تقديم حلول مهمة لبعض المشكلات الراهنة.

ومما لا شك فيه أن البيروقراطية قد تكون معوقاً في إنجاز دراسات مستقبلية وذلك عندما يتم التعامل معها كأي عمل، في حين أنها غير ذلك فهي تحتاج سرعة الحصول على المعلومات من مختلف الجهات الحكومية إضافة إلى التمويل، ولا سيما أن قرارات قد تُبنَى على نتائجها. كما أن من المعوقات عدم إيمان البعض بالدراسات المستقبلية وكأنها ترف علمي، في حين أنها ملحة في عالم سريع التغير، مما يتطلب المتابعة والتوقع ووضع السيناريوهات المحتملة أمام صانع القرار من خلال منهجية علمية كالدراسات الاستشرافية.

ونحن في أمس الحاجة إلى عقول متحررة من مفاهيم البيروقراطية في القيادات المسؤولة في الجهات الحكومية؛ كونها تعد من أساسيات نجاح استشراف المستقبل. وهي مطالبة بأن تتميز بمقدرة على الفاعلية والابتكار، والإبداع، والتجديد، ومعالجة التحديات والبحث عن الحداثة، وتمتلك روح المواطنة، وصناعة الجودة. وأن تعمل على تسخير الكفاءات الوطنية في خدمة الوطن، وأن تتميَّزُ في إنتاج الأَفكار السبَّاقة لصنع المستقبل، بفضلِ تواصلِها مع العقول العبقرية، وتقديرها للكفاءات، وتأهيلها للقدرات الوطنية.

وثمة تصور لدى البعض بأن الدراسات المستقبلية في المملكة وربما العالم العربي ككل لا تحظى بالدعم والقبول في كثير من الجهات رغم اتفاق الجميع على أهميتها، إضافة إلى أن البيروقراطية المزمنة والتي تنخر في مفاصل أغلب الوزارات والمؤسسات تعيق الأفكار الخلاقة خارج الصندوق من أن تزهر. في المملكة العربية السعودية هناك من يمتلك المهارة اللازمة في استخدام المعطيات والبيانات والتنبؤ بالمستقبل؛ إلا أنهم ربما لا يجدون من يأخذ بآرائهم محمل الجد لعدة أسباب، منها أنهم لا يؤمنون أصلاً بالقراءة المستقبلية، خاصة إنْ كانت تطرق سبلاً غير مألوفة. كما أننا إن أردنا استشراف المستقبل نلجأ عادة للغرب باعتبارهم خبراء، علماً بأن العقول المحلية قد تكون أكثر قدرة على فهم الظروف البيئية المحلية واستشعار مواطن الضعف أو القوة في السيناريوهات المحتملة، كما أن العنصر المحلي لا توجد لديه أجندة مخفية ناهيك عن (نظرية المؤامرة). قد يقول قائل: إن العنصر الغربي أكثر تمرساً وخبرةً، وتلك ربما حقيقة لأنهم يمارسونها على عدد من المستويات بدءاً بالجهات الاقتصادية على سبيل المثال (توجه الشراء من خلال بيانات العملاء في سلسلة سوبرماركت معينة). إلا أن الأجندات المخفية ونظرية المؤامرة يجب أن لا تستبعد ولعل (أسلحة الدمار الشامل في العراق والذي اتُّخِذ ذريعة لغزو العراق أكبر مثل على ذلك). والسؤال الأهم هو ماذا ينقصنا كشعب قادر على استشراف المستقبل والتنبؤ بالأحداث والعلوم المستقبلية؟

في العلوم المستقبلية كمنهج علمي نحن بحاجة لعدة عناصر منها القدرة على التحليل المنطقي والقدرة على قراءة التوجهات المستقبلية بناءً على معلومات الماضي والحاضر. وإتاحة الفرصة للأفكار غير التقليدية -وإنْ كانت تشبه ضرباً من الخيال- فالتسارع التقني قد يحول الأحلام إلى واقع في زمن قصير. والمهم جداً ثقافة الفرد وتربية الناشئة على القدرة على الحلم، وأن هناك عدداً لا متناهياً من الحلول لكل مشكلة بدلاً من التقيد بحل واحد حسب كتاب المعلم.

وحتى يتسنى لنا معرفة كيفية الانطلاق لاستشراف واستبصار مستقبل مستدام للأجيال القادمة وخدمة البشرية نحو عالم التحول الرقمي والمعرفي، علينا أن ندرك أن هناك حقيقة مهمة، فتغيير واقع الحال رهنٌ بمشاركة الشباب في العمل والتقدم وفي الأفكار وفي تحمل المسؤولية. فليس من الإنصاف أبدًا أن يحتكر رسم مستقبل شباب اليوم، أناس لن يكونوا حاضرين في الغد..!

وهذا هو السبيل الذي قام به سمو الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – لجسر الفجوة بين الشباب وصناع القرار بتأكيده، على أن هذا لن يتم إلا بتمكين الشباب وبتفعيل دورهم والاستثمار فيهم لتحقيق رؤية 2030. ودورهم سيكون مهم جدًا في إعداد الدراسات المستقبلية حسب أولويات دولتنا، دراسات ترسم خارطة كلية للمستقبل عن طريق استقراء الاتجاهات الممتدة عبر الأجيال والمحتمل حدوثها مستقبلًا، إلى جانب مساعدتها في توفير قاعدة معرفية يمكن من خلالها تحديد الخيارات المناسبة عند المفاضلة بين عدد من البدائل، ومن المهم كذلك أن ندرك أن استباق تحديات المستقبل وتحويلها إلى فرص يمثل أفضل السُّبل لمواجهتها.

ومن ناحية أخرى تعتمد الدراسات المستقبلية بشكل أساسي على توفر البيانات ووسائل لتحليلها وخبراء لاستنباط النتائج ووضع نماذج استقراء المستقبل. وبالتالي فإن أهم خطوة هو تعزيز ممارسات خلق وجمع حفظ البيانات. وهذا سهل نسبياً في البيانات ضمن منظومة المعلومات الوطنية ونحتاج إلى تعزيزها وتنميتها؛ ولكن الأهم والأخطر هو البيانات المتوفرة من الأنظمة الرقمية العالمية أو الأجنبية مثل أجهزة الجوالات الذكية والسيارات والبيانات المتولدة من تواصل الأجهزة الذكية مع بعضها البعض، إضافة إلى وضع مناهج تعليمية في الاختصاصات ذات العلاقة مثل الإحصاء. فمن المعروف بأن استخدام الأساليب الإحصائية أصبح من الأعمدة الأساسية التي يُركَن إليها في الدراسات المستقبلية. وهو ما جعل لعلم الإحصاء أهمية خاصة؛ كونه يشكل قاعدة علمية أولى يستند إليها بعض الباحثين للشروع في أي دراسات مستقبلية أولية؛ لتأثيره القوي في كافة المجالات ورصده للعديد من الأحداث المستقبلية والواقعة حاليًا. كما يساعد صاحب القرار في التوصل لحلول مناسبة لكثير من المشاكل والقضايا التي تهم المجتمع كقضايا الصحة والتعليم والزراعة والصناعة والتجارة.

لذلك نحن في أمس الحاجة لإدخال مناهج دقيقة ومتخصصة في الإحصاء وغيره، ومناهج غير تقليدية تهتم بالتفكير الاستقرائي والتخطيط التنبؤي والإنذار المبكر، وتستعرض من خلالها التجارب الناجحة في تنبؤات الباحثين التي كان لها أثر إيجابي كبير. وتستعرض كذلك تجارب الباحثين التي كانت تنبؤاتهم سلبية؛ لمعرفة سبب الخطأ ليتم تداركه في التنبؤات اللاحقة.

فالملاحظ فيما يتعلق بالمناهج والمسارات البحثية والدراسات المتخصصة في هذا المجال، عموما أنها لا تزال محدودةً جداً مقارنةً بالأنواع الأخرى التاريخية والوصفية، وهي قضية لا تزال بحاجة لدراستها بعمق من قبل الجامعات والوزارة ومن قبل المجلس الأعلى للجامعات. وإذا كانت مناهج الدراسات المستقبلية وأدواتها تكاد تكون غير متوفرة، وربما -استدراكاً- لا تُدرَّس، وكذلك نماذج الخطط البحثية لطلاب الدراسات العُليا وبعض مراكز البحوث في الكليات لا تتناسب مع الدراسات المستقبلية فكيف يمكن تطبيق هذا النوع من الدراسات في الجامعات!؟

وممن المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن من أهم الأهداف التي يسعى البحث العلمي لتحقيقها هو الاستشراف والتنبؤ، وبتحليل سريع لأدوات البحث العلمي التقليدية التي تُستخدَم في البحوث الوصفية على سبيل المثال: الاستبانة والمقابلة والملاحظة، وبمقارنتها مع أدوات وأساليب الدراسات الاستشرافية، ومنها: جماعات التركيز وأسلوب دلفاي الذي يعتمد على الخبراء، ناهيك عن أساليب التنبؤ الإحصائي يمكننا الوثوق جيداً في مخرجات هذه الأدوات، وبالتالي وبالرغم من الذاتية للباحث في هذا النوع من الدراسات؛ إلا أنها لا تقلل من أهمية المخرجات لهذه الأدوات.

ومن سياسات الدولة أنه حينما لا يقوم القطاع الخاص بتقديم خدمات للمواطنين أو للحكومة نفسها، أن تنشئ جهازاً يستطيع ذلك، ولعل الأمثلة كثيرة نشاهدها في صندوق الاستثمارات حالياً وقديماً في وزارة المالية حينما أنشأت فنادق ليست من اختصاص أو ومجال عمل الوزارة؛ لكنه مطلب اقتصادي. وربما حان الوقت ليتولى صندوق الاستثمارات العامة تأسيس شركات استشارية متخصصة أو الاستحواذ على بعض القائم منها. والعمل مع الجامعات السعودية لبناء القدرات الوطنية التي تحتاجها هذه الشركة.

وفي سياق متصل، فإنه بالنسبة للمملكة، ينبغي التسليم بأنها (رغم أنها تنعم الآن بالاستقرار والأمن، ولله الحمد) تعيش في منطقة هي أكثر مناطق العالم اضطراباً وعدم استقرار. كان المملكة جزيرة مستقرة، ولكنها تقع الآن في منطقة على صفيح ساخن، أو في جزيرة بركانية أكبر. وقدرنا هذا يتطلب اتخاذ سياسات مناسبة حالية ومستقبلية، علماً بأن واقع المنطقة الحالي يسهل التنبؤ بواقعها المستقبلي، خاصة في المدى القريب، وبصرف النظر عن مسألتي التفاؤل والتشاؤم، فإن دلائل الخير والشر تظهر مبكراً للمراقب.

ورغم كل ما تَقدَّم، إلا أن من المهم التساؤل: ما درجة التزام المسؤول بنتيجة الدراسات المستقبلية؟ هل يلتزم بها أم يضعها في سلة المهملات؟ وكمثال حينما بدأت وزارة الزراعة مشروع القمح حذرت دراسات مستقبلية بعضها من خبراء سعوديين ومن خبراء الفاو بأن هذا المشروع سيستهلك مخزون المياه والموارد الطبيعية وسيستنزف أموالاً ضخمة وسيقتل المراعي. ولم يلتفت إلى هذه الدراسات وقد أثبتت هذه الدراسات صحتها الآن، ومع هذا لم يلتفت إليها.

وفيما يتعلق بدرجة التزام صناع القرار بمخرجات البحث العلمي أياً كان نوعه، وهو سؤال جوهري وحقيقي، ربما يكون السبب متعلقاً بعدم الثقة في المنهجية والنتائج التي تم الوصول إليها، ومنها صعوبة تطبيق التوصيات التي ربما تكون صادمة لما يتم في أرض الواقع، ومنها ربما عدم شجاعة المسؤول والاعتراف بالمسار المنحرف للأداء، ومنها أيضاً عدم تقديم توصيات إجرائية صالحة للتطبيق!!

إذا كان من المسلمات بأن التغيير هو سنة الله في الكون ولا يبقى حال. وهذا الذي يدفع ويجعل الدول المتابعة والمراقبة وتوقع الأحداث للاستفادة من هذه التوقعات لترسم وتضع خططها الاستراتيجية الوطنية والقومية، فإن التحدي الأكبر هنا كيف يتم قراءة المستقبل واستشرافه. ومع التطور الفكري والمعرفي والذي تناول علوم الدارسات المستقبلية ليشبع حاجات ضرورية في إنجاح التخطيط الاستراتيجي. والملاحظ بأن مراكز الدارسات المستقبلية والتي أصبحت جزءاً من عناصر القوى الوطنية والتي تعتمد عليها للمشاركة بالمشاركة في صنع القرار للدولة، والتي يمكن تشبيهها بتلسكوبات الدول للنظر إلى المستقبل، ولكن التحدي الذي تعيشه الدول العظمي هو ليس معرفة وتوقع المتغيرات فقط وإنما إحداث التغيير المخطط له للتأثير على الدول لتحقيق مصالحها الجيوسياسية والجو اقتصادية، على المستوى الخارجي في مختلف الأقاليم، اليوم نعيش مع هذه المتغيرات السريعة وغير المتوقعة والتي قد تقف خلفها مصادر خارجية وبعيداً عن نظرية المؤامرة، والمعروف بأن الدول لا تستطيع أن تصيغ أهدافها الوطنية لتحقيق مصالحها بمنأى عن بقية الدول، بالتالي يجب أن تكون الدارسات شاملة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي. وبات من الضروري أن تكون هذه المراكز للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية لها اهتمام وتشجيع من المستوى السياسي.

وفي ظل التحولات التي يعيشها المجتمع السعودي نحن أحوج ما نكون للدارسات المستقبلية، انطلاقاً من فهم الواقع، وتوقع مسار التنمية المستقبلي في ظل رؤية 2030، والتي هي في الواقع نموذج استشرافي بامتياز، وليس جديداً أن كل تغيير يحفل في طياته مكاسب ومخاطر. إن هذا الواقع يفرض عدم التهاون في النظر لمؤشرات القضايا والمشاكل نظرة سطحية والتعويل على أنه يمكن معالجتها لو حصلت، والنظر لها بجدية ودراسة أثرها المستقبلي “معظم النار من مستصغر الشرر”… وهذا هو أحد مجالات الدراسات المستقبلية العلمية التقاط المؤشرات في الواقع الحالي وتفسير تأثيرها المستقبلي ووضع خطط المعالجة لها، فلا مجال في العالم المعاصر للصدفة أو الحظ.

وفي ظل الحاجة لمراكز الدارسات المستقبلية التي لا جدال حولها يجب أن نضع أولوية للاهتمام الاجتماعي بها، وأن نضع خططاً عاجلةً للتأسيس لثقافة الفكر المستقبلي في مناهج التعليم والتي بدروها ستشكل الفكر المجتمعي العام.

وبصفة عامة فمن المفترض أن تأخذ الدراسات المستقبلية حيزاً أوسع من الاهتمام في هذا الوقت من الزمن، ولكن ذلك يتطلَّب توحيداً للرؤى والجهود المبذولة من قِبل الجهات ذات العلاقة وتنسيقاً فيما بينها، خاصَّة المؤسسات العلمية بتخصُّصاتها المختلفة ودراساتها البينية ومراكز المعلومات ومراكز الأبحاث. كما أن من الأهمية بمكان في هذا السياق والتوجُّه أن تكون القيادات المؤسَّسية بمختلف مستوياتها مُعزِّزة ومُشجِّعة ومتبنية لفكر ودور الدراسات المستقبلية في تطوير المجتمع. وحبَّذا الاستفادة المدروسة المنتقاة ممَّن سبقونا في هذا المجال لنوفِّر المزيد من الجهد والوقت والتكلفة، ولنستخلص الثمار المعيارية الاسترشادية العامة التي نشترك بها مع العالم حولنا والتي يمكننا تكييفها حسب احتياجاتنا ومتطلباتنا الخاصَّة بنا.

ومن الجدير بالاهتمام مأسسة الدراسات المستقبلية والاستراتيجية في المملكة، لتكون قطاعاً علمياً منتجاً يقوم على البحث والتحليل وليس التنبؤ والتكهن. وخاصة في السعودية التي تشهد تحولات كبرى بفضل الرؤية. وإن مأسسة هذا العلم سيؤدي إلى أن تستفيد منه القطاعات العامة والخاصة في إطار التخطيط للمستقبل ليس فقط في مجال التخطيط للسياسات الخارجية، بل وحتى السياسات الداخلية التي ينبغي أن تُؤسَّس على تطور ونمو المجتمع والسلوكيات الإنسانية وأنماط الاستهلاك والثقافة المحلية. ولتكون الدراسات المستقبلية جزءاً من دراسات الجدوى الاقتصادية التي تقوم بالوقت الراهن كما يبدو لي على أوضاع السوق الحالية، وليست المستقبلية.

إن الفضاء السعودي برأي البعض هو في الأساس يفتقر لمراكز الدراسات والبحوث في جميع المجالات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ لأن صناع القرار في الإدارة العامة والخاصة لا يُقدِّرون الدراسات العلمية حقَّ قدرها، وثانياً لأن هذه الدراسات اعتمدت في السابق على المناهج الأكاديمية الجافة ذات النزعة النظرية والفلسفية. ومن ثم نحتاج للتوسع في مراكز الدراسات بجميع العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وربما حان وقت لخصخصة هذا القطاع وأن تتخلى مؤسسات الدولة عن مراكزها البحثية القائمة على النمطية والبيروقراطية، وأن تعتني الشركات بوضع ميزانيات خاصة بالدراسات المستقبلية.

والتخطيط للمستقبل يستدعي كل جهد ممكن لبناء صرحين دفاعي وأمني. وبدقة أكثر العمل على إعادة وترتيب التداعيات السياسية والجيواستراتيجية برسوخ وارتقاء مضطردين. وهذا الذي تعمل عليه المملكة، إلا أن جيوستراتيجيتها ومكانتها في العالم العربي والإسلامي والدولي يستدعي المثابرة مع بقية الدول الإقليمية والدولية.

وبالنسبة لمصداقية الدراسات المستقبلية لا بد من وجود ضوابط تضمن مصداقيتها، ومن أهمها:

  • مشاركة متخصصين من ميادين متعددة وفروع علمية (اجتماعية أو تطبيقية)؛ لجعل الدقة في التنبؤ أعلى من حيث تحديد زمن التنبؤ ومضمونه.
  • مراقبة الباحثين لأخطاء تنبؤاتهم؛ لمعرفة سبب الخطأ، أو عدم الأخذ بتنبؤات ما؛ لإدراك ذلك في التنبؤات اللاحقة، وقد أعطت هذه المسألة نتائج أدت لتراجع الخطأ بنسبة حوالي 25% (أي التعلم من الخطأ).
  • تزداد صحة نتائج التنبؤات في كل مرة عند مشاركة المنفتحين على كل الأفكار (وهم من تسميهم الدراسات المستقبلية الثعالب) (Foxes) قياسًا للمنغلقين على فكرة واحدة (تسميهم الدراسات المستقبلية القنافذ) (Hedgehogs).
  • لنتائج أفضل، ينبغي التدرب على “المنطقية الاحتمالية” (probabilistic reasoning) من خلال دراسات ظواهر تاريخية سابقة ومشابهة لنفس الظاهرة موضوع التنبؤ يعطي نتائج أفضل كثيراً من الذي لا يتزود بهذه المعرفة.
  • التوصيات
  • ضرورة العناية بالدراسات المستقبلية التي تهتم بما يلي:
  • التعليم بشقيه العام والجامعي.
  • الحرب غير التقليدية.
  • الطاقة البديلة.
  • الذكاء الاصطناعي.
  • الزياد السكانية وتبعاتها.
  • المهن المستقبلية.
  • البيئة ودور التكنولوجيا في تعزيز التنمية المستدامة.
  • تأسيس مناهج علمية لدراسة المستقبل تهتم بتنمية الكوادر الوطنية، وتجهيزهم بالمهارات المطلوبة وتطوير قدراتهم في اكتساب المزيد من (الخبرة، الحدس، الخيال، الذكاء)، وتأهليهم بـ (ممارسة التدريبات العالية على الأساليب الكمية والمحاكاة وغيرها) وتبني منهجية استراتيجية متكاملة لتنمية المواهب من خلال عقد شراكات وثيقة مع مؤسسات رائدة في الدراسات المستقبلية لصنع العقول القادرة على إدارة شؤون الدولة مستقبلاً.
  • تسليط الضوء على التعامل مع تحديات الدراسات المستقبلية والتأهب لها استباقيًا، وبحث الحلول في تحقيق التقدم بالوصول إلى أهداف هذه الدراسات.
  • أهمية الاستفادة ممًن سبقونا في هذا المجال لنوفِّر المزيد من الجهد والوقت والتكلفة، ولنستخلص الثمار المعيارية الاسترشادية التي نشترك بها مع العالم حولنا والتي يمكننا تكييفها حسب احتياجاتنا ومتطلباتنا الخاصَّة بنا.
  • إضافة برنامج جديد إلى برامج رؤية المملكة ٢٠٣٠ يهتم بدعم المراكز البحثية، وإنشاء مراكز جديدة بغرض استشراف المستقبل.
  • ضرورة تأسيس مركز متقدم للدراسات المستقبلية، بصورة مرصد سياسي واجتماعي واقتصادي مستقل، يضم خبراء وخبيرات من مختلف التخصصات، يُخصَّص له ميزانية كافية للقيام بدراسات استشرافية تكون عوناً لصانع القرار.
  • من المهم جداً وصول الباحثين والباحثات في مراكز الفكر ومنفذي الدراسات المستقبلية للبيانات والإحصاءات الرسمية والبيانات الضخمة وتذليل الصعوبات أمامهم بغرض إجراء الدراسات المقترحة.
  • تعزيز وتفعيل قياس الأثر الاقتصادي والاجتماعي لكل تشريع وبخاصة أن قرار مجلس الوزراء رقم (713) بتاريخ 30/11/1438هـ، قد ألزم الجهة التنفيذية بقياس الأثر الاقتصادي والاجتماعي لكل تشريع، الأمر الذي يقتضي استمرارية الدراسة وملاحظة التطورات والآثار لكل تشريع وعلاقته بالمستفيدين منه، وعلاقته بجميع المناحي، الاقتصادية والاستثمارية والاجتماعية وغير ذلك.
  • المصادر والمراجع
  • محمد إبراهيم منصور: الدراسات المستقبلية: ماهيتها وأهمية توطينها عربياً، (في): مجلة المستقبل العربي، العدد (416)، أكتوبر 2013، ص ص 34-53.
  • وليد عبدالحي: مدخل إلى الدراسات المستقبلية في العلوم السياسية، المركز العلمي للدراسات السياسية، عمان، 2002.
  • رابح عبد الناصر جندلي: الدراسات المستقبلية: تأصيل تاريخي، مفاهيمي ومنهجي، مجلة العلوم السياسية والقانون، العدد الأول، 2017م.
  • رحيم الساعدي: المستقبل: مقدمة في علم الدراسات المستقبلية، دار الكتب والوثائق، بغداد.
  • الدراسات المستقبلية ودور مراكز ومعاهد البحوث، كراسات مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية، العدد (2)، 2009م.
  • محمد إبراهيم منصور: توطين الدراسات المستقبلية في الثقافة العربية: الأهمية والصعوبات والشروط، وحدة الدراسات المستقبلية، مكتبة الإسكندرية، 2016م.
  • أحمد طومان: الدراسات الاستشرافية في العالم الإسلامي، مجلة البيان، العدد (269)، 2011م.
  • محمــد عامــر محمد العجمي: واقع الدراسات المستقبلية في العلاقات العامة والإعلان، المجلة العلمية لبحوث الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، المجلد (5)، العدد (5)، 2019م، ص ص 35-53.
  • محمد فالح الجهني: الدراسات المستقبلية: أزمة هوية وإشكالات منهجية، مجلة المعرفة، وزارة التعليم، السعودية، 2009م.
  • محمد جمال جارحي سعداوي: بناء السيناريو في ضوء الدراسات المستقبلية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة حلوان، مصر، 2016م.
  • المشاركون.
  • الورقة الرئيسة: أ. فائزة العجروش
  • التعقيب الأول: د. محمد الثقفي
  • التعقيب الثاني: د. خالد الثبيتي
  • إدارة الحوار: د. خالد الرديعان
  • المشاركون بالحوار والمناقشة:
  • د. عبدالعزيز الحرقان
  • د. صدقة فاضل
  • د. هناء المسلط
  • د. مساعد المحيا
  • د. حمد البريثن
  • ا. د. عائشة الاحمدي
  • د. فواز كاسب
  • اللواء ابراهيم ناظر
  • د. علي الطخيس
  • د. عبدالله بن صالح الحمود
  • د. حمزة بيت المال
  • د. عبير برهمين
  • ا. محمد فرحان الدندني
  • م. أسامة الكردي.
  • م. سالم المري
  • د. عفاف الانسي
  • د. حسين الحكمي
  • د. خالد بن دهيش
  • د. زياد الدريس
  • د. خالد المنصور
  • د. الجازي الشبيكي
  • ا. عبدالرحمن باسلم
  • ا. سليمان العقيلي
  • د. علاء الدين برادة
  • اللواء فاضل القرني

تحميل المرفقات