ملتقى أسبار: التقرير الشهري رقم (82) لشهر فبراير – مارس 2022

للاطلاع على التقرير وتحميله إضغط هنا


فبراير – مارس 2022

 

  • تمهيد:

يعرض هذا التقرير لقضيتين مهمتين تمَّ طرحهما للحوار في ملتقى أسبار خلال شهري فبراير ومارس 2022 م، وناقشهما نُخبة متميزة من مفكري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة؛ حيث تناولت القضية الأولى: تداعيات صعود الصين إلى قمة النظام العالمي، وأعد ورقتها الرئيسة أ.د. صدقة فاضل، وعقب عليها كلاً من د. أ. جمال ملائكة، أ. نبيل المبارك، وأدار الحوار حولها اللواء. فاضل القرني. بينما تناولت القضية الثانية: الاقتصاد الرقمي، وأعد ورقتها الرئيسة د. رجا المرزوقي، وعقب عليها كلاً من د. إحسان ابو حليقة، م. عبدالله الرخيص، وأدار الحوار حولها أ.علاء براده.


القضية الأولى

تداعيات صعود الصين إلى قمة النظام العالمي

(2/2/2022م)

  • الملخص التنفيذي.
  • الورقة الرئيسة: أ.د. صدقة فاضل
  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: أ. جمال ملائكة
  • التعقيب الثاني: أ. نبيل المبارك
  • إدارة الحوار: اللواء. فاضل القرني
  • المداخلات حول القضية
  • رؤية استشرافية حول إمكانيات الصعود المستقبلي للصين.
  • المدرسة الصينية في الإدارة كنموذج يمكن الإفادة منه.
  • السعودية ودول الخليج وخيارات تعزيز العلاقات مع الصين والانفتاح على العالم.
  • التوصيات
  • المصادر والمراجع
  • المشاركون

 

  • الملخص التنفيذي.

تناولت هذه القضية تداعيات صعود الصين إلى قمة النظام العالمي، وأشار أ.د. صدقة فاضل في الورقة الرئيسة إلى أن حتمية التغيير تصيب النظام العالمي، مثلما تلحق بأي واقع سياسي واجتماعي واقتصادي آخر. فظهور وتبلور نظام عالمي معين، يعني أن ذلك النظام قد جاء نتيجة لقانون التغيير والتطور، ليعقب نظام عالمي غابر ويحل محله. ثم لا بد أن يحين الوقت الذي يُخلِي النظام العالمي فيه المكان لنظام عالمي آخر وهكذا. ويمكن القول إن أهداف السياسة الصينية نحو المنطقة العربية ظلت شبه ثابتة منذ بدء تفعيل هذه السياسة عام 1975م. أما الوسائل، التي تتبعها الصين لتحقيق هذه الأهداف، فهي تتغير من فترة لأخرى. ومضمون الأهداف الصينية الحالية يتناغم غالباً مع كثير من المصالح العليا للأمة العربية والاسلامية، وإن كانت تتقاطع، أو تتناقض، مع هذه المصالح في بعض الحالات. ومعروف أن صداقة حقيقية، وتعاوناً إيجابياً، بين أي أمتين، لا ينشأ، إلا إذا ضمنت الأهداف والوسائل تحقيق المصالح الحقيقية المشتركة للأمتين معاً.

بينما أكَّد أ. جمال ملائكة في التعقيب الأول على أنه مما لا شك فيه ومن الواضح للجميع صعود دولة الصين لتكون قوةً كبرى اقتصادياً وعسكرياً، ومن المتوقع أن تكون الصين أول قوة اقتصادية في العالم بعد سنوات معدودة؛ بل إنه إذا أخذنا بالقوة الشرائية للمواطن الصيني فالاقتصاد الصيني يُعَد أكبر من الاقتصاد الأمريكي حسب الاقتصاديين.‏ ويُلاحظ أن الصين لديها خطة جيو إستراتيجية لمد نفوذها في آسيا وإفريقيا وفي الشرق الأوسط وهي خطة في غاية البراعة، حيث تمكنت الصين من مد شبكة قوية من العلاقات الاقتصادية مع العديد من هذه الدول عبر الصادرات الصينية الضخمة والأهم إقامة مشاريع بُنية تحتية في كثير من هذه الدول ضمن اتفاقيات من الواضح أن بنودها ليست متاحة للعامة.

في حين يرى أ. نبيل المبارك في التعقيب الثاني أنه وبالتأكيد لن يكون هناك قطب واحد؛ ولكن قد يكون أقطاب ذات طبيعة غير طبيعة الدول التي نعرفها، وإنْ كان متوقع خلال العقد أو العقدين القادمين، أن يكون لدينا قوتان عظميان متفاهمتان لبعضهما بعضاً هما الصين وأمريكا تحت مفهوم (G2) لو مؤقتاً.

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • رؤية استشرافية حول إمكانيات الصعود المستقبلي للصين.
  • المدرسة الصينية في الإدارة كنموذج يمكن الإفادة منه.
  • السعودية ودول الخليج وخيارات تعزيز العلاقات مع الصين والانفتاح على العالم.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • الاستمرار في سياسة تنويع التعاون الاقتصادي والثقافي والسياسي والعسكري مع دول خارج منظومة دول الغرب.
  • التعاون العسكري مع (الصين / روسيا كوريا الجنوبية / باكستان/ مصر… إلخ، ما أمكن.
  • الاستمرار في البرامج الرامية للتصنيع العسكري محلياً والاهتمام بالصواريخ الباليستية والمضادة للطائرات والبرامج الإلكترونية (التشويش تحديداً) حيث تكون هذه قوة ردع.
  • العمل على الأخذ بالحسبان المتغيرات الدولية ومحاولة الأخذ بها في سياسات الرؤية ٢٠٣٠ بما يحقق شمولية الرؤية داخلياً وخارجياً.
  • التنبه لملف ما يُسَمَّى حقوق الإنسان والذي يستخدمه الغرب كفزاعة وعذراً لفرض عقوبات أو عدم تعاون.. إلخ.

 

  • الورقة الرئيسة: أ.د. صدقة فاضل

“المنتظم العالمي” هو- باختصار- وضع القوة في العالم، في وقت معين، وتوزيع هذه القوة، بين دول العالم، وخاصة أقواها، وأكبرها.  ويهمنا، بالطبع، تأثير هذا المنتظم العالمي على عالمنا العربي، وخاصة في هذه المرحلة، التي أوشك خلالها على التحول إلى منتظم آخر. ولا بد، في البدء، أن نتوقف، ونتساءل: أي الأنظمة العالمية… “أفضل”، بالنسبة للمنظومة العربية، بصفة خاصة؟

عندما يثار السؤال: أي الأنظمة العالمية “أفضل”…؟! فإن الجواب الصحيح يعتمد على متغيرات عدة، منها: بالنسبة لمن (تحديداً) والسياسات المحتملة للقطب أو الأقطاب المعنية. وبما أن مصائب قوم عند قوم فوائد… وفوائد قوم عند آخرين مصائب، فإن النظام العالمي الذي قد يكون لطرف ما مفيداً ومثالياً، قد يكون لطرف آخر سيئاً وكارثياً، وهكذا. الإجابة السليمة على هذا السؤال المهم، تعتمد كذلك على طبيعة توجه كل قطب… في الأنظمة العالمية المختلـــفة تجـــاه العالم النامي، بصفة عامة، وسياسات الأقطاب المختلفة، نحو مناطق بعينها. ومعروف، أن معظم العالم النامي، ومنه الدول العربية قد ذاق الأمرين من الأنظمة العالمية المختلفة، التي مر (ويمر) بها العالم، منذ بداية هذا القرن. فقد تبين أن كل دولة “متقدمة”، كبرى كـانت أو عظمى، تنظر للعالم النامي بعين الاستخفاف والاستغلال، كما ينظر الذئب للفريسة. فسياسة الدول الكبرى، السابقة والحالية والمقبلة، نحو الدول النامية تهدف بصفة رئيسية إلى:

  • إبقاء هذه الدول مصدراً للمواد الخام والطاقة، التي تحتاج إليها الدول الكبرى، والحصول على هذه المواد، بأقــل تكلفة ممكنة.
  • جعل الدول النامية سوقاً مفتوحة…لمنتجات “الشمال المتقدم” الصناعية والزراعية المختلفة، بما في ذلك الأسلحة والعتاد العسكري التقليدي.

فهدف القوى الكبرى – بصفة عامة – هو: محاولة استغلال الدول الأضعف لصالحهم، ولأقصى حد ممكن، وأطول فترة ممكنة. ولتحقيق هذا الهدف (بشقيه الرئيسيين المذكورين) يتبع الأقوياء شتى الوســــائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية…التي تؤدي في النهاية إلى تدعيـم قوتهم، وإحكام سيطرتهم على الأضعف… لإخضاعه، بكل الوسائل الممكنة.

لذلك، يُجزَم بأن العالم النامي لن ينمو، بشكل صحيح، ويحقــق لسكــانه العيش الكريم، إلا إذا توحد، وكوَّن (كله أو بعضه) تكتلاً، أو تكتلات متماسكةً…يمكن أن يصبح لكل منها، هي الأخرى، وزن القطب… وهذا ما يبدو أنه شبه مستحيل التحقق، باعتبار ترامي أطراف الدول النامية، واختلافها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً… والتغلغل الاستعماري للدول الكبرى، في معظم تلك الدول، الذي يساعد على تنفيذ سياسات الدول الكبرى نحو دول الجنوب. بل ويسهم في إحكام قبضــة النفوذ الاستعماري على الضعفاء، والقضاء على أية نهضة حقيقية في العالم النامي، وهي بعد في المهد. وما قيل بشأن الدول النامية، ينطبق على معظم العالمين الإسلامي والعربي، باعتبار أنهما جزءاً من عالم الجنوب النامي. لقد تجرع العرب قدراً كبيراً من المرارة… في ظل الأنظمة العالمية السابقة. ويسقيهم النظام العالمي الحالي المزيد. فالنظام العالمي القائم الآن ربما يكون أسوأ نظام عالمي، بالنسبة للعرب كأمة، لأسباب معروفة.

****

إن حتمية “التغيير” تصيب “النظام العالمي”، مثلما تلحق بأي واقع سياسي واجتماعي واقتصادي آخر. فظهور وتبلور نظام عالمي معين، يعني أن ذلك النظام قد جاء نتيجة لقانون التغيير والتطور، ليعقب نظام عالمي غابر… ويحل محله. ثم لا بد أن يحين الوقت الذي يُخلِي النظام العالمي فيه المكان لنظام عالمي آخر… وهكذا. وفي الواقع، فإن الفترة التي يستمر خلالها النظام العالمي، تختلف من نظام عالمي لآخر، تبعاً لتغير العوامل…التي تلد الأنظمة الإقليمية والعالمية، بل والمحلية. فالتفاوت في الاستمرارية ينتج عن اختلاف وتنوع ظروف الأطراف المعنية. ونذكر أن هناك خمسة أنظمة (أو منتظمات) عالمية ممكنة، هي: 1- نظام القطبية الثنائية المحكمة، 2- نظام القطبية الثنائية الهشة، 3- نظام توازن القوى، 4- نظام القطب الواحد، 5- نظام الأقطاب المتعددة.

ويبدو أن المدة التي سيمكث خلالها النظام العالمي الراهن (نظام القطب الواحد/الولايات المتحدة) لن تطول كثيراً… إذ إن من المتوقع أن يتحول النظام العالمي الحالي (2021م) إلى نظام عالمي آخـــر… في غضون 3-5 سنوات، من الآن، وربما أقل. أما النظام العالمي القادم، فسوف يكون ـ في الغالب ـ هو: نظام الأقطاب المتعددة. حيث إن النظام العالمي الراهن، سيتغير، لعدة أسباب، لعل أهمها:

  • التدهــــور الاقتصادي النسبي، الذي تعــاني منه الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، والذي بدأ ينهك قوى أمريكا… ويضعف من نفوذها العالمي، بشكل متزايد- خاصة بعد أزمة كورونا العالمية.
  • وجود دول كبرى بدأت قوتها الاقتصادية والتقنية والعسكرية في التزايد… الأمر الذي ينبئ بتطور هذه الدول، لتصبح دولاً عظمى… تتنافس مع الولايات المتحدة، للتربع فـوق قمة العالم الاقتصادية والسياسية.

وقد تحددت هذه الدول ـ تقريباً ـ وأصبح المراقبون ينتظرون صعودها، إلى مكانة الدول العظمى، في المستقبل القريب. وهذه الدول هي: الصين، وروسيا، بالإضافة إلى استمرار الولايات المتحدة، كدولة عظمى، لتكون قطباً، من عدة أقطاب. وبذلك، سيصبح هناك 3 دول عظمى. ونظراً لتفاوت قوة كل من هذه الدول، ستظل أميركا الدولة العظمى الأولى، والصين الثانية، بينما روسيا الثالثة… وسيتأكد تحوُّل النظام العالمي الراهن إلى نظام الأقطاب المتعددة. ولن تستطيع الصين الاستمرار طويلاً في قمة العالم، إلا إذا انفتح نظامها السياسي أكثر، وسمحت بالتعدد الحزبي.

****

والمرجح ألا يشهد مستقبل العالم المنظور غير منتظم الأقطاب المتعددة المذكور … لعدة أسباب، لعل أهمها:

  • استبعاد ظهور نظــام “توازن قوي” (رقم 3) على المستوى العالمي.
  • ضعف احتمال انفراد دولتين (عظميين) فقط، بالسيطرة على السياسة الدولية، سواء سيطــرة هشة أو محكمة، وذلك لتصاعد قوة عدة دول. وتوافر الندية في مستوى القوة بينها. وهذا يحول دون ظهور المنتظمين (1 و2).
  • توقع انحسار منتظم القطب الواحد (رقم 4) الذي يسود العالم في الوقت الراهن، للأسباب التي ذُكِرت أعلاه.

لهذه الأسباب، وغيرها، فإن النظام العالمي القادم (خلال النصف الأول من القرن الواحد والعشرين) يُتوَقَّع أن يكون نظام التعدد القطبي (منتظم رقم 5).

والمرجح أيضاً، أن يكون كل قطب قادراً على تدمير الآخر… بما لديه من أسلحة دمار شامل. كما يتوقع أن يكون أساس العلاقات فيما بين الأقطاب القادمين، هو التعاون على مضض… لا الصراع السافر. وبالطبع، لا بد من الصراع والتنافس. فالعلاقات الدولية هي ـ بطبيعتها ـ علاقات تتأرجح بين التعـــاون والصراع… وما بينهما، كما هو معروف. ولكن، عدم قدرة أي قطب على التخلص من الآخر، دون أن يهلك هو، تُرغِم كل الأقطاب على أن يكون التعاون، في حده الأدنى- فيما بينهم هو القاعدة… وأن يهمش الصراع، إلى أدنى درجة ممكنة.

وسيحاول الأقطاب غالباً الاتفاق على أسلوب التحرك دولياً… وربما الاتفاق على “توزيع” مناطق النفوذ، وعدم السماح لأي طرف أصغر بجرهم إلى صراعات ساخنة، كما يتوقع أن ينصب التنافس فيما بين الأقطاب القادمين، على عمليات التنمية الاقتصادية والعلمية والتقنية، ومحاولات السيطرة (السياسية) على مصادر الطاقة، والمواد الخام، خاصة في دول العالم النامي.

****

الصينيون قادمون:

الحديث عن الصين، ونظامها السياسي، وبخاصة واقع “الأحزاب السياسية” في الصين يعني الخوض في جوهر النظام السياسي الصيني الحالي، وما يتخذه هذا النظام من سياسات، داخلية وخارجية، وبخاصة سياسة الصين نحو منطقتنا العربية. وبعد انهيار المعسكر الشرقي، وزوال الاتحاد السوفييتي، بقيت أربع دول يحكم كل منها حزب (شيوعي) واحد، هي: الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، كوبا. وما زال “الحزب الشيوعي الصيني” هو الحزب المهيمن على جمهورية الصين الشعبية، منذ إعلانها عام 1949م. ولكنه حزب مختلف عما سواه من الأحزاب السياسية “الوحيدة”، أو التي تفرض نفسها، بالطرق المشروعة وغير المشروعة. إذ أصبح هذا الحزب مختلفاً، ومتميزاً، عن غيره من الأحزاب المشابهة، خاصة بعدما تبناه من إصلاحات، بدءًا من العام 2012م.  ومعروف أن هذا الحزب يسمح لثمانية أحزاب سياسية صينية غير شيوعية، بالتواجد، والتنافس معه على السلطة. ولأهمية الصين للعالم، بما فيه عالمنا العربي عامة، ولمنطقة الخليج خاصة، لا بد من إلقاء بعض الضوء على السياسة الصينية الحالية والقادمة نحو منطقة الخليج.

وهناك ” مداخل ” مبسطة، تساعد على فهم “السياسة”، بصفة عامة… والسياسة الخارجية لأي دولة، بصفة خاصة. ومن ضمن هذه المداخل اعتماد تعريف “السياسة الخارجية” (لأي دولة) بأنها: الأهداف التي تسعى تلك الدولة لتحقيقها خارج حدودها – أو تجاه قضية، أو جزء أجنبي معين من العالم – و”الوسائل” (الاستراتيجية) التي تتبعها … لتحقيق تلك الأهداف. لذا، فعندما نحاول معرفة السياسة الخارجية لدولة ما معينة تجاه جهة، أو منطقة، خارج حدودها، فإنه يمكننا تلمس “الأهداف” المبتغاة، و”الوسائل” المتبعة، للوصول إليها. ومجموع الأهداف والوسائل هو: سياسة تلك الدولة نحو الجهة المعنية. وكثيراً ما يكون هناك تداخل بين الأهداف والوسائل … مما يصعب أحياناً التمييز بين الغاية والوسيلة. وسنتبع هنا هذا المدخل المبسط لمعرفة أهم ملامح السياسة الصينية الحالية والمحتملة نحو العالم العربي بصفة عامة، ومنطقة الخليج بصفة خاصة.

****

 السياسة الصينية تجاه المنطقة: الأهداف:

ويمكن القول إن: “أهداف” السياسة الصينية نحو المنطقة العربية ظلت شبه ثابتة منذ بدء تفعيل هذه السياسة عام 1975م. أما “الوسائل”، التي تتبعها الصين لتحقيق هذه الأهداف، فهي تتغير من فترة لأخرى. ومضمون الأهداف الصينية الحالية – تتناغم غالباً مع كثير من المصالح العليا للأمة العربية والاسلامية، وإن كانت تتقاطع، أو تتناقض، مع هذه المصالح في بعض الحالات. ومعروف أن صداقة حقيقية، وتعاون إيجابي، بين أي أمتين، لا ينشأ، إلا إذا ضمنت الأهداف والوسائل تحقيق المصالح الحقيقية المشتركة للأمتين معاً.

****

لا يجادل أحد في مدى أهمية المنطقة العربية، وما تحظى به من إرث حضاري عريق، وموارد بشرية ومادية هائلة، وإمكانات طبيعية فريدة. وإن كانت معظم هذه الإمكانات (وما زالت) أحد أبرز أسباب ما تعانيه من أطماع ومحن وقلاقل. في هذه المنطقة قامت اثنتان من أهم وأقدم أربع حضارات إنسانية في التاريخ. وقدمت هذه المنطقة لبقية البشرية الكثير من الإسهامات الحضارية. وكانت المنطقة – وما زالت – مهد الأديان السماوية الثلاثة. ومن حيث “الموقع”، تتربع في نقطة الوصل بين قارات العالم القديم، آسيا وإفريقيا وأوروبا، وتُشرِف على أهم طرق المواصلات البحرية العالمية. وفى الوقت الحاضر، ويعرف العالم أنها تحتوي على مخزون الطاقة الأكبر (نفط، غاز) في كوكب الأرض، إضافة إلى ثروات طبيعية هامة أخرى، لا توجد في غيرها من المناطق.

ولهذه الأسباب، وغيرها، كانت هذه البقعة – وما زالت – محل اهتمام وأطماع القوى الدولية الكبرى. وتظل ميداناً للتنافس “الاستعماري” بين هذه القوى. وكثير من أنحاء هذه المنطقة تعتبر أكثر البلاد تعرضاً لما يُعرَف بـ “الاستعمار الجديد”، كما يقول كثير من علماء السياسة. فالهيمنة على هذه المنطقة تسهم في السيطرة على العالم. ولا يمكن لأي قوة أن تكون كبرى، أو عظمى، ما لم يكن لها نفوذ قوي بهذه المنطقة.

ومع صعود الصين، كدولة عظمى، واحتياجها المؤكد لاستيراد الطاقة، والمواد الخام، وضمان سوق واسع لتصريف منتجاتها المختلفة، كان لا بد أن تهتم الصين بالعالم العربي، وبخاصة منطقة الخليج. وهي تدرك تماماً أهمية هذه المنطقة، والتنافس الدولي الشرس على بسط النفوذ فيها، خاصة من قبل الدولة العظمى الأولى، أميركا، وبقية الدول الكبرى: بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، خاصة.

****

ويمكن أن نلخص أهم أهداف السياسة الصينية نحو المنطقة، متبعين إطار الأهداف/الوسائل، وفق التالي:

  • تثبيت أقدام الصين بالمنطقة: إن “محور” السياسة الصينية تجاه منطقة الخليج العربية يتركز في: محاولة الصين ضمان انسياب مستورداتها من النفط والطاقة من دول الخليج، وبأقل تكلفة ممكنة. علماً بأن الصين تستورد (2020 م) ما نسبته 18.6% من إجمالي استيراد العالم من النفط. وفي نفس الوقت، تسعى الصين لضمان سوق واسع ومغرٍ لتصريف المنتجات الصينية المختلفة. وهذا لا يمكن أن يتحقق بالمدى الطويل، إلا عبر الوسائل التي تتبعها الصين، ومنها: دعم العلاقات الصينية مع دول المنطقة. وستظل الصين بحاجة لاستيراد المزيد من الطاقة. وأغلب مصادر تصدير النفط الأخرى تظل أقل ملاءمة لاحتياجات الصين، بما في ذلك إمدادات النفط الإيراني.
  • المحاولة الصينية الدائمة لتقليص النفوذ الغربي (نفوذ الناتو) بالمنطقة، وخاصة النفوذ الأمريكي فيها: وتلك مهمة يصعب تحقيقها، في ظل التغلغل الغربي العميق بالمنطقة، ووجود “مصالح” أمريكية/غربية هائلة فيها. لذلك، يتوقع أن تكون هذه المنطقة إحدى بؤر الصراع البارد والساخن بين العملاقين الأمريكي والصيني. ويبدو أن اللعبة الصينية – الأمريكية بمنطقة الخليج نتيجتها غالباً “صفرية”. فما تكسبه الصين بالمنطقة، تخسره أميركا، والعكس صحيح.

ولكن، هناك احتمال أن يحصل بين الطرفين، الصيني والأمريكي، نوع من التفاهم … بحيث يُترَك للصين المجال الاقتصادي فقط، ويبقى المجال السياسي والاستراتيجي أمريكياً؛ ولكن هذا الاحتمال ضئيل، بسبب صعوبة الفصل بين الاقتصادي والسياسي. ونوجز فيما يلي أهم الوسائل المتبعة لتحقيق الأهداف الصينية.

****

  السياسة الصينية تجاه المنطقة: الوسائل: 

أما أهم الوسائل التي تتبعها حكومة الصين حالياً، وربما مستقبلاً، لتحقيق هذه الأهداف، فهي وفق التالي:

  • تدعيم علاقات الصين بدول المنطقة: عبر عقد اتفاقيات التعاون الاستراتيجي بين الصين، وكثير من دول المنطقة. وهناك اتفاقيات شراكة استراتيجية بين الصين، وكل من: الأردن، الجزائر، الإمارات، السعودية، قطر، الكويت، عمان، العراق، مصر، السودان، جيبوتي. وكذلك مشاريع تنمية البنى التحتية، وإقامة المشاريع العملاقة التي تسهم في ازدهار المنطقة، وتطورها. ومن ذلك: السعي لإقامة “طريق الحرير”، وغيره.

وفي عام 2013م، قدم الرئيس الصيني “شيء جين بيغ”، أثناء زيارته لدولة كازاخستان، المبادرة الصينية التي تسمى: الحزام الاقتصادي وطريق الحرير البحري، للقرن الواحد والعشرين، القائم على إعادة تنفيذ فكرة طريق الحرير الذي وُجِد في القرن التاسع عشر الميلادي. والمبادرة تهدف إلى: تحقيق مصالح الصين وشركائها، الاقتصادية والاستراتيجية، عبر ربطها بشبكة مواصلات كبرى ميسرة، عابرة للبحار والقارات. وتم دعم هذه المبادرة في مؤتمر عقد في بكين، عام 2017م، سُمِّي بـ ” منتدى الحزام الاقتصادي والطريق الأول للتعاون الدولي”، بمشاركة 142 دولة. وتُغطي هذه المبادرة -التي بُدِئ بالفعل في تنفيذها- دول الخليج العربية. ومن المتوقع أن تكتمل بحلول العام 2049م.

  • الإحجام عن التدخل في الشؤون السياسية لدول المنطقة: وذلك يتضمن عدم فتح الملفات التي لا ترغب دول المنطقة فتحها.
  • المحاولة المتواصلة لزيادة التبادل الاقتصادي والتجاري بين الصين، ودول المنطقة: ومنذ العام 2017م، بدأ حجم التجارة الصينية مع العالم العربي يتصاعد، ويفوق حجم تجارة الولايات المتحدة مع العالم العربي. إذ بلغ حجم التجارة الصيني مع الدول العربية 171 مليار دولار، منها 101 مليار قيمة صادرات صينية، و70 مليار دولار قيمة واردات من الدول العربية للصين. بينما بلغت صادرات أميركا للدول العربية في نفس العام 60.4 مليار دولار.
  • اتخاذ بعض السياسات الداعمة لبعض القضايا العربية: ومن ذلك: تأييد الصين للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ومعروف، أن أول من اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، من غير العرب، هي الصين. ولم تكتفِ بذلك، بل دعمت المنظمة بالأسلحة، وبتدريب عناصرها المقاومة. ولم تُقِم الصين علاقات مع إسرائيل إلا عام 1992م، وتحت الضغوط الغربية، وبعد مؤتمر مدريد المنعقد عام 1991م.

****

الصين على وشك أن تصبح القطب الثاني الفعال، بمنطقة الشرق الأوسط، وفى العالم ككل. وهذا يعنى أن منافساً (سياسياً واقتصادياً) جديداً لأميركا، قد دخل ساحة العلاقات التنافسية الدولية بقوة بالمنطقة. ويبدو أن أميركا لن تفرط في حلفائها العرب، والمصالح المشتركة بين الحكومات الخليجية وأميركا ستبقى على تحالفهم الاستراتيجي. وتأتى الصين كشريك اقتصادي كبير ومهم، ينافس ليكون شريكاً سياسياً أيضاً. وشراكته السياسية، إنْ تحققت، ستكون بالطبع على حساب التحالف الخليجي – الأمريكي. فتقوية الموقف الصيني بالمنطقة الخليجية، تتم على حساب الموقف الأمريكي بالمنطقة، والعكس صحيح. نحن إذاً على أبواب مرحلة من السباق (أو التسابق) على النفوذ بهذه المنطقة، بين القطبين الأمريكي والصيني. وهذا سيفرض على الدول العربية تحدياً غير مسبوق.

ستسعى الصين للتقرب للأطراف المناوئة لأميركا، أو المستاءة من السياسات الأمريكية بالمنطقة. وغالباً ما ستسارع هذه القوى (أو الأطراف) للارتماء في أحضان الصين، أو التحالف معها. وذلك، رغم أنه من الصعب توقع أن تكون الصين “أرحم” من العم سام. ولكن الظروف قد تجعلها كذلك، في بعض الحالات، على الأقل.

****

والخلاصة، نعتقد أن مجرد تواجد الصين بالمنطقة، بهذا الزخم الاقتصادي، يثير التوتر مع بعض القوى الدولية، وخاصة الولايات المتحدة.  ونكرر أن اللعبة الصينية – الأمريكية بمنطقة الخليج نتيجتها غالباً “صفرية”. فما تكسبه الصين بالمنطقة، تخسره أميركا، والعكس صحيح. ويتوقع أن يتفاقم هذا التوتر كلما توثقت علاقات الصين بدول المنطقة، واستتب نفوذها. الأمر الذي قد يدفع لحصول بعض الاحتمالات الصراعية الجذرية، في مسار السياسة الدولية بالمنطقة العربية. ومن ذلك، احتمال قيام تحالف صيني- روسي، يقلب توازن القوى بالمنطقة رأساً على عقب.

إن من مصلحة العرب (كأمة) أن يتحول المنتظم الدولي الحالي إلى نظام القطبين أو التعدد القطبي… إذ إن ذلك سيُسهِّل التحلل من ربقة الأقطاب المعادية…عبر إمكانية الاستعانة (الحذرة) بالأقطاب الأخرى، في التصدي للمناورات المعروفة للأقطاب المعادية، المضرة بالمصلحة العربية العليا. والمؤكد، أنه لكي يكون للعرب مكان في عالم اليوم والغد، فإن عليهم أن يُطبِّعوا أوضاعهم السياسية أولاً، ويتضامنوا، لأقصى حد ممكن. فتضامن واتحاد العرب سيجعل منهم قوة هامة، في أي نظام عالمي… وبصرف النظر عن ماهية ذلك النظام، وطبيعة المسيطرين فيه. فاتحادهم سيجعل منهم (في المدى الطويل) كياناً له سطوة وثقل الدولة الكبرى.

والمعروف أن “الدولة الكبرى”، تكون أقرب لمنزلة ونفوذ “الدولة العظمى”، من غيرها. كما أن “الدولة الكبرى”، أقدرـ في أي نظام عالمي ـ على حماية مصالحها، وتحقيق أهدافها العليا، من الدولة المتوسطة والصغرى والدويلات. تلك هي إحدى حقائق الواقع السياسي الدولي… غير القابلة للدحض…لأنها ثابتة، وصحيحة، على مر العصور، وفي ظل الأحوال والمتغيرات والانظمة العالمية المختلفة.

التعقيبات:

  • التعقيب الأول: أ. جمال ملائكة

مما لا شك فيه ومن الواضح للجميع هو صعود دولة الصين لتكون قوة كبرى اقتصادياً وعسكرياً ومن المتوقع أن تكون الصين أول قوة اقتصادية في العالم بعد سنوات معدودة، بل إنه إذا أخذنا بالقوة الشرائية للمواطن الصيني، فالاقتصاد الصيني يُعَد أكبر من الاقتصاد الأمريكي حسب الاقتصاديين.

ويُلاحظ أن الصين لديها خطة جيو استراتيجية لمد نفوذها في آسيا وإفريقيا وفي الشرق الأوسط وهي خطة في غاية البراعة، حيث تمكنت الصين من مد شبكة قوية من العلاقات الاقتصادية مع العديد من هذه الدول عبر الصادرات الصينية الضخمة والأهم إقامة مشاريع بُنية تحتية في كثير من هذه الدول ضمن اتفاقيات من الواضح أن بنودها ليست متاحة للعامة.

‏كما أنه من الواضح قيام الصين بالتعاون والتحالف مع روسيا حال تعرض مصالحهما للخطر وهو الأمر الظاهر للعيان حالياً؛ حيث قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بإنشاء حلف أوكوس الذي يهدف لتواجد عسكري قوي وقريب من حدود الصين ومجالها الحيوي. كما يُلاحظ ومنذ سنوات عمل الولايات المتحدة لفرض ضرائب على الواردات الصينية ووقف الاستثمارات الغربية هناك والاستعاضة بدلاً من ذلك بالاستثمار في الولايات المتحدة تحديداً وفي دول أخرى أيضاً.

‏كما يُلاحظ تلفيق أو تضخيم قضية الإيغور في الصين ونشر فيديوهات وأخبار لا يمكن التأكد من صحتها بشأن انتهاك حقوق الإيغور في الصين وفتح الملف المُحبَب للغرب وهو ملف حقوق الإنسان للضغط على الصين وغير الصين.

‏وكما هو واضح حالياً قيام الولايات المتحدة بتحويل بوصلتها وتركيزها نحو الصين وروسيا والعمل على الضغط عليهما عسكرياً وسياسياً وإنشاء تحالفات سياسية في الحدائق الخلفية لكلا الدولتين.

‏وكما أشار كاتب الورقة الرئيسة فإن كل ذلك يضع الدول المتوسطة والصغيرة أمام معضلات كبيرة بين ضغط غربي على بعض هذه الدول لأسباب متعددة، وكذلك انسحاب عسكري من بعض المناطق خاصةً بعد تراجع دور النفط العربي بالنسبة للولايات المتحدة تحديداً وإن لم يُعَد هذا انسحاباً كاملاً من المنطقة لاعتبارات جيوسياسية عديدة.

‏السؤال هنا هو كيف ستتصرف الدول الصغيرة والمتوسطة حيال كل هذه التطورات وما هي البدائل المتاحة لها؟

‏ليس هناك جوابٌ سهل، فتعقيدات المشهد الدولي وتشابك العلاقات مع الغرب وشركاته وسياساته ومصالحه تجعل مجال تحرك الدول الصغيرة والمتوسطة صعباً ومعقداً .

‏أفضل الحلول المتاحة في نظرنا لهذه الدول هو القيام بخطوات سياسية واقتصادية متوازنة مع اللاعبين الكبار….. الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين .

‏و لا بد من الاعتراف أن هذا ليس سهلاً أبداً، ذلك أن “أدوات” المناورة السياسية والاقتصادية محدودة أمام متطلبات هذه القوى العالمية التي تملك أدوات ضغط وطرق عديدة لحشر هذه الدول في الزاوية.

‏وبالتوازي مع هذا التوجه نحو هذا التوازن الصعب فلا بد لهذه الدول من التحرك في مجالها الإقليمي والحيوي وتصفير مشاكلها الإقليمية قدر الإمكان وتقوية مركزها السياسي والاقتصادي مع بعض الدول الإقليمية “المحورية”، مما يعطيها مجالاً أوسع للمناورة السياسية.

  • التعقيب الثاني: أ. نبيل المبارك

من وحي عنوان القضية وهو ” تداعيات صعود الصين إلى القمة “النظام العالمي”…؟” ولا أعرف لماذا ختم العنوان بثلاث نقاط وعلامة استفهام”؟”، كذلك فلا أعرف إن كان الموضوع حقيقة واقعة أو توقع سوف يحدث في القريب؟

ولكن النقاط التي أرغب بالتركيز عليها، وهي العوامل التي بدأت وسوف تتأكد في المستقبل المنظور التحور الذي يعيشه العالم أجمع، بحيث إن الفكرة التي أود التركيز عليها أن أي نظام جديد للعالم، سوف يتحدد من خلال منظور تلك التحولات والتمحورات المتوقعة في السنوات والعقود القادمة.

لذا بعيداً عن قوة أمريكا وكونها القوة العظمي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، أو بزوغ فجر الصين من عقدين من الزمن، وبشكل أبهر العالم، من خلال نموذج العمل الصيني على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهو نموذج مختلف عن الثقافة التي شكَّلها الغرب خلال المئة سنة الماضية، وإن كان وُلِد من رحمها بمفاهيمها نفسها، ولكن بالأسلوب الصيني الجديد.

‏لدينا أخطر متحور يجر العالم إلى المجهول من حيث القدرة والتحكم وتشكيل أسلوب الحياة، وهو المتغير “التقني والتكنولوجي”، وهو لا يقاد من الدول؛ ولكن من المختبرات والمعامل والأفكار التي تقودها شركات أو أفراد أو منظمات، ولا أرغب في سرد المزيد عن ما ستقدمه التقنية من نماذج وحلول وتطبيقات وأسلوب حياة في المستقبل المنظور، لكن هذا العنصر يعني أن القوة سوف تكون مع من يمتلك زمام وابتكارات التقنية خلال العقد القادم. وأعتقد أن النموذج الصيني أقرب للفوز بالسباق من الآخرين، ولكن ليس شرطاً، فربما هناك من لم يُظهِر إمكانياته بعد، وهي لا تعتمد على الإمكانيات والحجم والقوة السياسة أو العسكرية، ولكن على العقول. لذا الفرص متساوية للجميع، والسباق مفتوح للجميع لتحقيق المنجزات والمعجزات في هذا المجال، وعلى من يريد الاستمرار في الحياة ألا يبحث عن قوة عظمي للتحالف معها، وإنما التحول من مستخدم “مستهلك” للتقنية إلى منتج ومبدع لها.

المتحور الآخر، وهو متغير ولأول مرة يصبح تابعاً وليس مستقلاً، هو المتغير الاقتصادي، والسبب أن المتغير الأول وهو التقني، سوف يحدد طبيعة النموذج الاقتصادي الذي سوف يسود ويتمدد، بعيداً عن المسميات القديمة، رأسمالي أو اشتراكي. فالدولة أو الدول التي تستطيع بناء نموذج تقني اقتصادي هجين يعتمد على امتلاك العقول والتقنيات والموارد المشغلة، سوف تنجح وتسود، والعكس صحيح. وأخطر ما في هذا النظام، هو من لا يملك شيئاً في هذا النظام الجديد، فلن يملك حتى تحديد نموذجه الاجتماعي للحياة فضلاً عن النموذج الاقتصادي والسياسي.

وما بين المتحور الرئيسي، والتابع، امتلاك التقنية، ونموذجها الاقتصادي الجاذب، سوف يؤدي إلى تحور في مفاهيم الوطن والموطن، وسوف تتشكل جماعات مرجعيتها ليست دينية أو اجتماعية أو سياسية، ولا حتى لغوية، وإنما جماعات افتراضية تنجذب لنموذج تقني اقتصادي مالي مغلق، يخلق نماذجه الاجتماعية والثقافية. وأقصد بالمغلق أي لا تملك كثيراً من الدول إلا مَنْ يمتلك زمام التقنية الكثير للتأثير أو التدخل، وأوضح مثال ما حدث أيام الانتخابات الأمريكية الاخيرة، من تدخل لوسائل التواصل في تحديد من يفوز بالانتخابات، وإنْ كان بشكل بسيط. فما بالكم عندما تصبح البلوك شتين، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، واللوغاريتمات في مستوي أعلى مما هي عليه الآن.

وأختم أنَّ مَنْ سوف يكون القوة العظمي بالعالم، بالتأكيد لن يكون قطباً واحداً؛ ولكن قد يكون أقطاباً ذات طبيعة غير طبيعة الدول التي نعرفها، وإنْ كان متوقع خلال العقد أو العقدين القادمين، أن يكون لدينا قوتان عظميان متفاهمتان لبعضهما البعض هما الصين وأمريكا تحت مفهوم (G2) لو مؤقتاً.

  • المداخلات حول القضية
  • رؤية استشرافية حول إمكانيات الصعود المستقبلي للصين.

شهدت الصين منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي صعوداً سريعاً على الصعيد العالمي، وكانت الطفرات المفاجئة في قوة الصين الاقتصادية والسياسية من بين أهم التغيرات في السياسة الدولية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات. وتتفاوت التقديرات فيما يخص معدلات الصعود المتنامي للصين، لكن المؤشرات تشير إلى أن الصين تعد حالياً أكبر اقتصاد في العالم من ناحية القوة الشرائية، والثاني بعد الولايات المتحدة من حيث القيمة السوقية. وتشير بعض الدراسات إلى “أن الصين خلال العقدين القادمين ستحتل المرتبة الأولى كأكبر موارد القوة والنفوذ”.

وتذهب العديد من وجهات النظر أن العالم لن يبقى على قطب واحد يسيطر على العالم ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية لعقود قادمة، بل ستبقى روسيا منافساً قوياً في هذه المجال على الرغم من انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م، إلا أنها لا زالت تشكل قطباً فاعلاً في العالم وتستقطب عدداً من الدول مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية وغيرها من الدول.

كذلك يمكن مشاهدة بوادر تشكل العملاق أو القطب الصيني، من خلال بناء قدرات عسكرية مذهلة، والتقدم في المجالات التقنية، والتمدد الاقتصادي في مختلف الدول، مما حدا بالولايات المتحدة ومنذ سنوات إلى محاولة تحجيم انطلاقة التنين الصيني وشيطنته ومحاصرته بكل وسيلة ممكنة. فقط استخدمت قضية الأويغور ولا زالت تنفخ فيها يوماً بعد آخر، كما أن الرئيس ترامب أول من أطلق على فيروس كورونا الفيروس الصيني، وكلنا يذكر تلك الحملات الشعواء ضد الصين ابتداءً من مارس 2019 م والتي لم تهدأ إلى وقتنا الحالي. كذلك نرى الصراع المحتدم بين الولايات المتحدة الأميركية، وحلفائها في أوروبا من جانب، والصين من جانب آخر، حول تكنولوجيا الاتصالات من الجيل الخامس. وحيث تحلم الصين أن تكون المورِّد الرئيسي لتكنولوجيا الجيل الخامس، وتحث زبائنها على اعتماد استخدام “السور الرقمي العظيم” الذي تصدره مجموعة “هواوي” هذه الشركة التي ما برحت واشنطن تضغط على حلفائها من أجل إقصائها” من إنجاز مشاريع شبكة اتصالات الجيل الخامس، وأن هواوي تشكّل خطراً أمنياً لأسباب عدة بينها أن مؤسسها رين تشنغفاي كان مهندساً في جيش التحرير الشعبي، وتتهم المجموعة بالتجسس لحساب بكين. وقد تبع ذلك قيام الاتحاد الأوروبي بتجنب الاعتماد على هواوي بحجة عدم التعاون مع “الموردين الذين يطرحون مخاطر”، كذلك إعلان المملكة المتحدة أنها ستزيل من شبكة الجيل الخامس جميع المعدات التي تنتجها هواوي بسبب وجود مخاطر أمنية. كل ذلك استجابة لنداء مباشر وغير مباشر من الولايات المتحدة لمحاصرة العملاق الصيني التقني القادم بقوة. وقد وصل التهديد الأمريكي إلى مختلف الدول التي تنوي التعاون مع الصين تقنياً. فقد قال روبرت سترايير، الدبلوماسي المعني بأمن الفضاء الإلكتروني في وزارة الخارجية الأميركية، في أواخر نيسان/أبريل 2019 إنه “إذا سمحت بلدان أخرى للبائعين غير الموثوق بهم (مثل هواوي) ببناء شبكات الجيل الخامس الخاصة بهم، “فسيتعين علينا إعادة تقييم قدرتنا على تبادل المعلومات والتواصل معهم بالطرق التي نحن عليها اليوم”. والولايات المتحدة تبرر ذلك التوجه بالقول إن هواوي “ملزمة بتبادل المعلومات سراً مع الحكومة الصينية وفقاً لقانون الاستخبارات الوطنية في الصين للعام 2017م، وأن شركة هواوي لديها سجل حافل يشمل سرقة الملكية الفكرية والممارسات السيئة في مجال أمن الفضاء الإلكتروني. وأنها قد تساعد بكين في سعيها لجمع المعلومات الخاصة بالمواطنين الغربيين والمنظمات والحكومات الغربية”.

وقد قررت واشنطن اعتبار هواوي “تهديداً للأمن الوطني الأمريكي”، ومنعتها من التنافس للفوز بعقود حكومية أمريكية. ولم تكتفِ بذلك ولكنها أصدرت مذكرة توقيف في ديسمبر/كانون الأول 2018 م بحق المديرة المالية لمجموعة “هواوي” مينج وانتشو” أثناء توقف مؤقت في فانكوفر، ووجهت إليها تهمة احتيال مصرفي يتعلق بانتهاك العقوبات الأمريكية ضد إيران، وبإخفاء العلاقة بين “هواوي” و”سكاي كوم”، وهو فرع كان يقوم ببيع معدات اتصالات لإيران، عن طريق مصرف “اتش إس بي سي”.

ومن هنا يتضح لنا بعضاً من الصراع الكبير بين العملاقين في المجال التقني والذي يُبرِز بجلاء التخوف الأمريكي من التفوق الصيني في المجالات التقنية، خاصة إذا عرفنا أن التكلفة المالية المنخفضة للمنتجات الصينية والمهارة العالية للفنيين الصينين ومرونة شروط الصيانة هي من العوامل التي ساهمت وستساهم في تحول كثير من الدول صوب الصين للحصول على مبتغاهم بدون شروط مجحفة كما نراها في الجانب الغربي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص.

وعلى الرغم من كل تلك الحروب الخفية والعلنية بين الجانبين؛ إلا أن الملفت للنظر والإعجاب معاً يتمثل فيما تقوم به الصين ضمن مشروعها الدولي (الحزام والطريق). هذا المشروع الذي شجَّع العديد من دول العالم الثالث على المشاركة فيه طمعاً في العوائد الاقتصادية الضخمة التي ستعود على تلك الدول التي سيمر بها ذلك الطريق أو المشروع. وعلى الرغم من التكلفة المالية العالية التي ستتحملها الصين في البنية التحتية والخدمات اللوجستية لذلك المشروع، يمكن القول إن الرابح الأكبر والنهائي من هكذا مشروع هي الصين دون ريب.

ولعل من نافلة القول أيضاً أن السياسة الصينية المتمثلة في النأي بالنفس عن الصراعات العسكرية أو المذهبية في مختلف الدول، والتركيز فقط على الاستثمارات الاقتصادية في البنى التحية في مختلف الدول الفقيرة في العالم، هو الذي شكَّل القوة الناعمة والسمعة الممتازة للصين. تلك السياسة هي التي فتحت الأبواب العديدة للمشاريع العملاقة الصينية والنفوذ في إفريقيا وآسيا، وفوتت الفرصة على الجانب الغربي، الذي سيطر على تلك المناطق لعقود سابقة، بما كان يحمله من نزعة استعمارية سياسية واقتصادية.

ومن الجوانب الأخرى المهمة أن الصين تعد من الحلفاء أو الشركاء الذين يمكن الوثوق بهم في المجالات العسكرية والتصنيع العسكري المتقدم، ولديهم القدرة على الوفاء بالتزاماتهم. ومن الأمثلة على ذلك موقفهم مع المملكة العربية السعودية في صفقة صواريخ رياح الشرق. وهذا يشمل أيضاً إمدادهم لعدد من الدول بالصواريخ المتقدمة والذخائر في مختلف الأوقات والظروف. بينما نرى بين وقت وآخر تقلبات السياسة الأمريكية والغطرسة والعنجهية بمنع صفقات سلاح بعينها تم شراؤها قبل عقود، أو نقل منظومة صواريخ من دولة إلى أخرى، دون اعتبار لمواثيق أو اتفاقيات سابقة. مثال ذلك ما قام به الرئيس بايدن، عند وصوله إلى البيت الأبيض، من مراجعة لصفات الأسلحة مع المملكة العربية السعودية، ووضع الشروط العديدة على صفقة الطائراتF35  إلى الإمارات العربية المتحدة، ونقل منظومة صواريخ باتريوت من المملكة والكويت والأردن، وغيرها من دول العالم، كل تلك التصرفات الهوجاء تعطي الأولوية والأفضلية للحليف الصيني الموثوق.

ومن هنا ترى بعض الآراء أن النجاحات الصينية لا تروق للغرب الذي سيسعى إلى تعطيل المد الصيني ومحاولة وضع العراقيل أمام نجاحه بأشكال ونماذج مختلفة، كالعقوبات المباشرة والتهديدات السياسية وإقامة التحالفات هنا وهناك، ولكن الواقع يفرض نفسه، والتصور أن الصين مقبلة على مستقبل مشرق على الرغم مما نراه من مماحكات غربية، بشكل عام، وأمريكية بشكل خاص.

وتشير بعض التحليلات إلى أن ما هو واضح للعيان ولا يحتاج برهاناً هو أن الصين تتقدم سريعاً كقوة اقتصادية جارفة وذلك على حساب القوى الغربية التقليدية التي ركزنا على توطيد علاقتنا بها دون أن نحتاط للمستقبل.

أما على المستوى السياسي فتبدو الصين أقل نشاطاً، بل إن مواقفها غير واضحة تماماً من عدد كبير من القضايا الدولية التي تشغل العالم وربما يعود ذلك إلى مخاوفها من الدخول في حروب وتحالفات مكلفة هي في غنى عنها ولا تريد التورط بها الآن وهي في قمة نهمها الاقتصادي.

فالصين الآن أشبه ما تكون بوحش يأكل ويأكل وبنهم، لكننا لا ندري ماذا سيفعل بعد أن يملأ معدته وهو حتماً سيفعل شيئاً وربما مضر، لأن منطق التاريخ يقود إلى هذه النتيجة؛ فالقوة الاقتصادية والعسكرية الصينية ستقود إلى رغبة في فرد العضلات وربما التمدد والاعتداء. ستكون أول ضحية بتقدير البعض هي تايوان التي لا بد أن تعود إلى حضن الأم حسب المنطق الصيني التقليدي. وحتماً سيتكتل الغرب ضدها يعاونه بعض دول آسيا التي تدور في الفلك الأمريكي (اليابان وكوريا الجنوبية) ولا مِنْ حليف واضح للصين إلا كوريا الشمالية ودول أخرى لن تؤثر كثيراً على المشهد قد تكون إيران واحدة من تلك الدول. ولا يمكن التكهن بموقف روسيا والهند وأين ستذهبان في النهاية.

وتؤكد بعض التحليلات على أن مصالح الصين مع الغرب وأمريكا لا تُقارَن بمصالحها مع بقية العالم، فالصين دولة صناعية تعيش على التجارة والتصدير والتكنولوجيا والاستثمارات الغربية، كما أنها تعتمد في استثمار سيولتها المتراكمة على الأسواق الأمريكية سواء السندات أو الأسهم، بالإضافة إلى أن احتياطاتها النقدية بالدولار لذا لا يمكن للصين أن تأخذ أشواطاً بعيدة في مناكفة أمريكا والغرب.

وثمة سيناريو يرى أن العالم يتجه إلى نظام الأقطاب المتعددة ليصبح ثلاثي الأقطاب مع صعود الصين المتوقّع قريباً لتكون القطب الأوّل أو الثاني باقتدار وقوّة واضحتين، ولكن استمراريّة النظام العالمي ثلاثي القطبيّة مرتبط بمدى نجاح روسيا والصين في تخطي عقبتين رئيسيتين يعانيان منهما وسبق وتخطاهما النظام الغربي، العقبة الأولى هي استقرارية الحكم السياسي، وخطورة هذه المسألة في روسيا أعلى منها في الصين، فالنظام السياسي الحاكم في روسيا على رأسه بوتين البالغ من العمر سبعين عاماً، ومن غير المؤكّد كيف ستستمر روسيا بعد بوتين، وكذلك بالنسبة للصين، فالحكم الشمولي للحزب الشيوعي الصيني يواجه مشكلتين إحداهما داخليّة حيث يمكن تغيّر توجهه مع أي اختلال في القوى المتنفّذة في الحزب، إضافة إلى الضغوط داخل الصين نفسها من خارج الحزب المطالبة بتداول السلطة، أمّا العقبة الأخرى التي تواجه الثنائي الشرقي فهي النزاعات القوميّة الداخليّة، وهي في روسيا أيضاً أكثر خطورة منها في الصين، وأي فشل في تخطّي أي من هاتين العقبتين سيخرجهما أو إحداهما من السباق على القطبيّة ولو مؤقتاً، وليس من الخافي محاولة الغرب المستمرّة لتحريك هاتين المشكلتين وتأجيجهما. ويبدو أن القطبيّة الثلاثيّة ستكون مرحلة أولى يتلوها مرحلة ثانية أكثر أهميّة بالنسبة للعرب والعالم الثالث، وذلك عندما يتعمق الاختلاف في المعسكر الرأسمالي الغربي على المصالح، والذي بدأ فعلياً في التشظّي بعد تفرّد الولايات المتحدة بقيادة العالم وفشلها في إدارته بشكل عادل ومُرْضٍ على الأقل لحلفائها وشركائها، فهناك أقطاب من ضمن الحلف الغربي كلٌّ منهم سيرعى مصالحه الخاصّة، وبعض هذه الدول دخل تحت العباءة الغربيّة نتيجة لقوّة الولايات المتحدة وكنتيجة للحرب الكونيّة السابقة مثل اليابان وألمانيا، ولكنّهما سرعان ما ستنفصلان إذا واتتهما الفرصة وأصبح الانفصال مصلحة وطنيّة، وهناك قطبان هرمان سيستمران بما لهما من نفوذ في مستعمراتهما السابقة التي كوَّنا منها دولاً واستطاعا ربطها بثقافة ممتدّة من الحقبة الاستعماريّة، وتحديداً بريطانيا وفرنسا. وفي مرحلة لاحقة ومع ارتفاع قدرة التدمير والردع لدى بعض الأمم مع التقدّم التكنولوجي، ستظهر أقطاب جديدة فيزداد عدد أقطاب النظام العالمي، وسيصعد كل من يستطيع الإنتاج وتصريف منتجاته وله القدرة على إلحاق الضرر الفادح بالمعتدي أو ردع الاعتداء وحماية مكتسباته الاقتصادية والعسكرية. ومن مراحل تعدد القطبيّة المحتملة ما يلي:

  • مرحلة الأقطاب الثلاثة (الصين – الولايات المتحدة – روسيا) والذي بدأ أو على وشك الابتداء.
  • مرحلة ضعف الولايات المتحدة وتشظّي الغرب وتكوّن أقطاب منفصلة ترعى مصالحها خارج العباءة الغربيّة الموحّدة وتتنافس مع بعضها ومع الأقطاب الثلاثة مثل (ألمانيا – اليابان – بريطانيا – فرنسا) .
  • ضعف أشد للولايات المتحدة وانتشار للأسلحة الفتّاكة القادرة على إلحاق الضرر بالدول الكبرى المسيطرة ، ومن ثمّ الاتفاق على نظام عالمي للإنترنت وللنظام البنكي (سويفت) أو خلق بدائل لها نفس الفاعليّة من قبل تكتل من الأقطاب، وإعادة صياغة مجلس الأمن الدولي وصعود الصف الثاني من الدول إلى القطبيّة (الهند – أستراليا – إندونيسيا – المكسيك – البرازيل – جنوب إفريقيا).

ولمعرفة تأثير أي نظام عالمي جديد على المحور العربي (المملكة ومن هو في محورها من الخليجيين والعرب) يلزم تحليل ونقد تاريخ هذا المحور في نظام القطبين (السوفييت والغرب) وتحليل وضعه في نظام القطب الواحد (تفرّد الولايات المتحدة)، والاستفادة من الخبرات المكتسبة من التجربتين لتعزيز التموضع في النظام القادم. وكما هو معروف فقد انقسم العالم العربي بين المحورين السوفييتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة في نظام القطبين وخسرت المجموعة التي كانت مع المعسكر الاشتراكي، وفي نفس الوقت لم تنل المجموعة التي مع الجانب المنتصر نصيبها العادل من المكسب، مع أن المحور العربي كان حليفاً مخلصاً للمعسكر الغربي وكان له دور فاعل في هزيمة المعسكر الاشتراكي عن طريق البترول والدين، ولكنّهم لم يحسنوا استغلال ذلك لصالحهم، فبعد انتصار (المحور الغربي) على السوفييت وتفرّد الولايات المتحدة بمركز القوّة العظمى الأولى في العالم تفاجأ المحور العربي الحليف لها بأن الولايات المتحدة حليف متقلب غير موثوق الجانب، بل وانخرطت في /أو سكتت عن مؤامرات لتغيير أنظمة حكم حلفائها وسلّمت المصالح في الإقليم لأعدائهم الإقليميين، وهذا التصرف عكس تصرّف الأقطاب الأخرى، فالروس مثلاً حاربوا مع نظام الأسد في سوريا رغم بطلان ذريعة الحرب التي يخوضونها ومعارضتها للقرارات الأمميّة واستمروا في حلفهم بموثوقيّة حتّى هَزَموا أو كادوا يهزمون المعارضة السوريّة ولم يزالوا مستمرين، بينما في اليمن مثلاً نرى فشلاً متعمداً من الجانب الأمريكي في الوفاء حتّى بإمداد الذخائر والأسلحة المدفوعة الثمن لحلفائه مع أن الحرب مبررة وشرعيّة ومدعومة بقرارات أمميّة، وترك الجانب الأمريكي حلفاءه عرضةً للابتزاز من قبل الأعداء الإقليميين الذي يدعي العداء لهم أيضاً. وهناك مشكلتان أزليتان تواجه المحور العربي مع الحليف الغربي هما:

  • الموقف الأيدلوجي المسبق لدى القوى البروتستانتيّة المتصهينة المهيمنة على السلطة في بريطانيا والولايات المتحدة والتي تقود الغرب وتجهر بعدائها للعرب والمسلمين على خلفيّة الخرافة الدينيّة لديهم، ممّا يؤثّر سلبياً على مواقفهم من القضايا المحوريّة في المنطقة وعلى رأسها القضيّة الفلسطينيّة، وهذه قضايا مصيريّة وإنسانيّة مؤثّرة جداً ويصعب على أي سلطة حاكمة في المحور العربي التغاضي عنها أو تجاهلها.
  • الطرق المتكرر على جانب الشرعيّة الدستوريّة للحكومات العربيّة من باب عدم وجود ديموقراطيّة وعدم تمتّع منظمات المجتمع المدني بالحريّة والاستقلاليّة في القرار، واستغلال هذا الضعف لابتزاز دول المحور العربي.

ولذلك فإن أي تغيّر في القطبيّة العالميّة قد يجلب فرصاً إيجابيّة لصالح المحور العربي أكثر ممّا قد يحمل من سلبيات شريطة الاستعداد الجيّد لذلك والعمل على الاستفادة من التغيّر بذكاء.

وفي السياق ذاته، لا بد أن نتذكر أن عالم العلاقات الدولية هو عالم القوة، بمعناها الشامل، أي الذي يعني القوة في كل المجالات الأساسية.  فكلما كانت الدولة- أي دولة- قوية كلما كانت أقدر على تحقيق مصالحها، في أي نظام عالمي. لذلك، من المهم أن تعمل السعودية أكثر وأكثر على تقوية ذاتها، سياسياً واقتصادياً وعلمياً وتقنياً خاصة. وفي بقية المجالات بصفة عامة. وتقوية الذات تعني الأخذ بمبدأ التنمية الإيجابية الشاملة، ومنها الإصلاح الإداري والسياسي والأمني السليم.  وفي هذا الصدد يمكن اقتراح ما يلي:

  • تقوية الذات تقوية حقيقية سليمة وصحيحة.
  • تجنب الصراعات الدولية، بأنواعها. ومحاولة “تصفير” مشاكل وخلافات المملكة مع الآخرين.
  • توثيق العلاقات السعودية مع كل الدول العظمى والكبرى.
  • التزام سياسة الحياد الإيجابي، ما أمكن، تجاه كل القوى الدولية.
  • التكتل الحقيقي المستدام مع الدول الشقيقة، لتقوية الجبهة العربية.
  • الاهتمام أكثر بتقوية وتنمية القوة الناعمة للبلاد، جنباً إلى جنب مع التنمية المستدامة للقوة الخشنة.
  • المدرسة الصينية في الإدارة كنموذج يمكن الإفادة منه.

إن أي تقدم تصنعه الدول وأي نهضة تحققها المجتمعات هي نتيجة طبيعية لإرادة سياسية مستقلة، ورؤية مستقبلية واضحة، وقيادة طموحة وملهمة، ونظام إداري متفوق، وقيم مجتمعية راسخة وقوية.

فالتفوق والنهضة الأوروبية الأمريكية خلال القرنيين الماضيين، جعلت العالم يتجه نحو النموذج والنظريات الإدارية الغربية المختلفة التي صنعت وحققت الاستراتيجية التنافسية للمؤسسات والشركات، فظهرت المدرسة العلمية في الإدارة التي تركز على الإنتاج المادي البحت، ومع التطورات المتتالية ظهرت مدرسة العلاقات الإنسانية التي ركزت على الإنسان كعامل مهم وحيوي للإنتاج والتقدم والتطور، ثم ظهرت المدرسة السلوكية في الإدارة التي جمعت بين المدرسة العلمية ومدرسة العلاقات الإنسانية، فكان العالم ينهل من المدرسة الغربية في الإدارة.

وحينما برزت المدرسة اليابانية في الإدارة من خلال نظرية “Z” الذي كان تركيزها على الثقافة المجتمعية والتنظيمية للشعب الياباني، ظهرت حلقات الجودة ومبادئها المختلفة والتي نجحت بامتياز في اليابان، بفكر إداري مختلف ثم تتابعت ظهور النماذج والنظريات الإدارية اليابانية.

واليوم نحن أمام مدرسة جديدة في الإدارة، مدرسة تتشابه في إطارها العام مع المدرسة الآسيوية ولكنها تختلف في مكوناتها وعناصرها.

مدرسة في القيادة والإدارة استطاعت خلال أربعين سنة ماضية حينما وضعت الصين رؤيتها (2030) لمدة خمسين سنة لتكون الدولة رقم واحد في اقتصادات العالم، متفوقة على كل دول العالم بما فيها أمريكا، وتبقى على رؤيتها عشر سنوات وهي عازمة في عام (2030) على أن تكون الدولة رقم واحد في العالم اقتصادياً.

إن التحول الاقتصادي الضخم والكبير الذي تشهده الصين هو نتيجة طبيعية وحتمية لعوامل وقضايا رئيسة يأتي في طليعتها القيادة والإدارة.

لكي تنجح القيادة والإدارة في تحقيق التقدم والتطور والنهضة المطلوبة يجب أن تنطلق من ثقافة وقيم وتنوع المجتمع، فالعوامل الثقافية التي يمتاز بها الصينيون ساهمت في نجاح الإدارة، فاستطاعت الإدارة الصينية أن تجمع بين المتناقضات، الجمع بين الاستمرارية والتيسير، الجمع بين الرؤية بعيدة المدى وإدارة الأولويات، الجمع بين منطق العلاقات ومنطق النتائج، الجمع بين الهدوء والحزم، الجمع بين التوسع الخارجي بلطف وهدوء والثبات والاستقرار وامتلاك البنية الداخلية القوية.

وتختلف الإدارة الصينية عن الإدارة الغربية في قدرتها على التحول وقدرتها على التغيير من خلال استثمار واستغلال الفرص، دون الاهتمام والتركيز على بناء النماذج الإدارية من أجل فهم الواقع وقد تستنزف تلك النماذج الوقت والجهد.

ومن المرتكزات المهمة للإدارة الصينية هي التركيز على التنوع باعتباره ثراءً وليس مشكلة، من خلال الانفتاح الثقافي على الدول والمجتمعات في العالم، واعتباره قاعدةً وأساساً للتحول الإداري والاقتصادي والثقافي.

واستطاعت القيادة والإدارة في الصين الجمع بين الانفتاح والهوية، الانفتاح على التجارب والثقافات المتنوعة والمختلفة، مع الحفاظ على الهوية الصينية التي تتسم بالانضباط والمبادرة والجد والحزم والهدوء والاتزان والإبداع.

نحن أمام إدارة تستطيع ركوب الموجات العالمية، فاستطاعت الإدارة الصينية أن تركب قطار العولمة وهو يسير، بل استطاعت أن تستثمر العولمة وتحولها كمكتسبات لها، فلديها قدرة عجيبة على ركوب الموجات واستغلال الفرص، فعلى سبيل المثال لا الحصر شركة هواوي.

تمتاز الإدارة الصينية بقدرتها الفائقة والسريعة على التعلم وباستمرار، والتطور كمجموعة من خلال التعلم، والاستفادة من تجارب الدول والمجتمعات الأخرى.

وانطلقت القيادة والإدارة الصينية للبناء والتقدم الاقتصادي من خلال واقعها وديموغرافية مجتمعها، فكان للتحول مرحلتان:

  • المرحلة الأولى: هي مرحلة تأسيس وبناء البنية التحتية للبلد من مطارات وطرق ووسائل مواصلات واتصالات كمقوم أساسي لاقتصاد قوي.
  • المرحلة الثانية: التوسع الخارجي في بناء علاقات مع الدول المختلفة وبهدوء، وفتح أسواق عالمية لها في بلدان ومجتمعات العالم.

وتمتاز الإدارية الصينية بسياسة ذكية ورؤية واضحة وقيادة تناور على المستوى الدولي؛ من أجل توسيع النجاح الصيني.

وتختلف الإدارة الصينية عن الإدارة الغربية في الانفتاح والابتكار والإبداع والتفكير خارج الصندوق وركوب الموجات واستثمار واستغلال الفرص، فهي لا تستخدم المنطق الديكارتي في التحول الإداري.

وتمتلك الإدارة الصينية قدرة عجيبة على اكتشاف وابتكار طرق تسويقها، ليقينها أن التسويق الناجح يرتكز على إدارة ناجحة وصناعات جيدة وعلاقات واضحة.

إن أحد أسباب وعوامل نجاح المدرسة الصينية في الإدارة، أنها ارتكزت وانطلقت من العوامل الثقافية للمجتمع الصيني، والتنوع الديموغرافي، والانفتاح الثقافي، واستثمار الموارد البشرية بطريقة صحيحة وفعالة.

  • السعودية ودول الخليج وخيارات تعزيز العلاقات مع الصين والانفتاح على العالم.

إن منطقة الخليج العربي تعد مطمعاً وهدفاً للتواجد الغربي والشرقي على حدٍّ سواء، وتعلق الصين أهمية كبرى على المنطقة في السنوات الأخيرة، لا سيما بالنظر إلى أنها تخط لنفسها مكانة واضحة في صنع السياسة الدولية.

ومن المهم هنا كيف تعامل دول الخليج العربية مع كل هذه الأطماع والتحديات بما تتطلبه المواقف والتقلبات السياسية المختلفة. فمن الحكمة والمصلحة عدم القطيعة مع الجانب الأمريكي، كقوة عظمى دولية، الجميع يطلب ودها والتعامل معها، خاصة في المجالات العسكرية، حيث يعد السلاح الأمريكي الأحدث والأفضل على مستوى العالم. كما أنه من المفيد الارتباط بمشاريع مشتركة مع الشركات الأمريكية في مختلف المجالات الفنية والعسكرية والتعليمية والطبية والبيئية والسياحية والتدريبية والبنى التحتية، فلا زالت الولايات المتحدة متقدمة على جميع دول العالم في كل تلك المجالات الحيوية. ويجب أن نعي أن الساسة الأمريكيين، وخلال حملاتهم الانتخابية، يهاجمون مختلف الدول، لكنهم عندما يصلون إلى البيت الأبيض ويرون مستوى ونوعية وحجم التعاون والمشاريع المشتركة تتغير مواقفهم السياسية وقراراتهم. وقد يكون هناك جفوة أو اختلاف مع بعض الإدارات وخاصة الديموقراطية منها، إلا أنها تتلاشى بوجود رئيس جديد جمهوري أو وفقاً للمعطيات الجيوسياسية في المنطقة وتعود المياه إلى مجاريها، حيث إن العلاقات هنا تقوم على المصالح المشتركة وليس الأهواء والرغبات.

وفيما يخص الصين، من المهم أن تكون دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، جزءاً من المشاريع العملاقة الصينية سواء الحزام والطريق أو المشاريع المشتركة بين البلدين، بما لا يتعارض مع المصالح الغربية هنا أو هناك. ولعل التوجه السعودي في السنوات الأخيرة يثبت صواب هذه الاستراتيجية وقد رأينا أن المملكة والصين تربطهما علاقات مميزة في مختلف المجالات وما مجلس التنسيق السعودي الصيني إلا شاهد حق على ذلك.

كما أن توازناً استراتيجياً في العلاقات مع الغرب ممثلاً في أمريكا وبريطانيا وفرنسا واليونان وغيرها من دول أوروبا وأمريكا الجنوبية، لا يمنع توازناً آخر يزداد عمقاً مع الشرق ممثلاً في الهند والصين واليابان وكوريا، أو مع الشمال ممثلاً في روسيا.

في حين تذهب بعض الآراء إلى أن بقاءنا مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ورغم كل مساوئها يبقى هو الخيار الأفضل والأكثر أمناً لنا طالما أنها لا تزال تزودنا بالأسلحة وما نحتاج إليه من عتاد ومعدات عسكرية. ستكون منطقتنا مرتكزاً أساسياً في أي مواجهة مستقبلية بحكم موقعنا الجغرافي والاستراتيجي بين الشرق والغرب، وستضطر الولايات المتحدة ودول الغرب إلى تعزيز قواعدها العسكرية في منطقتنا بشكل أكبر مما سبق وستعيد النظر في طريقة تعاملها مع دولنا بشرط أن يكون هناك موقف عربي موحد تبدأ نواته من دول مجلس التعاون الخليجي ليشمل مصر والأردن ومن يود الانضمام له. وستكون إسرائيل ضمن هذا المعسكر شئنا أم أبينا. فما نحتاج إليه هو علاج المشكلات القائمة مع دول الغرب وإعادة صياغة العلاقة معها بما يحفظ حقوق الجميع.

وفي المقابل تذهب بعض الآراء إلى أن خيار الصين وروسيا يلوح في الأفق كلما نشأت أزمة سياسية بين المملكة وأمريكا أو بعض دول الغرب. وهو أحد الخيارات التي يمكن المناورة عبرها.. لكن الصين وهي اليوم تسلب الغرب الكثير من امتيازاته الاقتصادية حتى جعلت عدداً من دوله مدينة للصين وفي مقدمتهم أمريكا. برغم ذلك فقد لا يكون الصين حليفاً يعول عليه.

وبرغم كل ما نشاهده ونلمسه على أرض الواقع، هل فعلاً تستطيع المملكة خلق توازن في العلاقة مع الأمريكيين والروس في آن واحد؟

خلال السنوات الأخيرة اتجهت المملكة وبدافع من مواقف سلبية تراها من الأمريكيين اتجهت للصين والروس؛ لكنها لا تمضي في هذا بعيداً ..فالظروف التي مرت وتمر بها المملكة حتَّمت عليها الالتفات نحو روسيا وخلال زيارة الملك لروسيا وقعت الكثير من مذكرات التفاهم وحين زيارة بوتين للرياض وقع مذكرات أخرى. كما لا ينبغي أن يتجاوز تصور المستقبل بأنه سيشهد تغيراً في التحالفات الدولية.. فالعلاقة مع أمريكا ومع الدولار يبدو أنها هي الأظهر في ضوء المعطيات الحالية. وعلى نحو عام فإن المملكة وخلال سنوات طويلة تجد أمريكا حليفاً استراتيجياً، هذا التحالف قد يعترضه بعض المنغصات لفترة؛ لكن لا بد وأن تعود الأمور لمجرياتها الطبيعية. فالظهور الاقتصادي الصيني المتنامي يقلق الأمريكيين والغربيين والظن أن هذه الدول لن تترك الدول العربية وغيرها أن تتخلى عن المنظومة الغربية لتختار الصين في بناء استراتيجياتهم وخططهم الجديدة وبناء منظوماتهم الدفاعية والقتالية والتنموية والاقتصادي؛ مما يعني احتمالية تعرض هذه الدول لمواقف وضغوطات دولية.

وبصفة عامة فإن العلاقات السعودية تميل للتوازن والهدوء مع عدم التفريط في العلاقات مع الدول التي يجمع السعودية معها تحالف قديم مثل أمريكا وبريطانيا بالدرجة الأولى وفرنسا بالدرجة الثانية.. والعلاقات كانت دائماً متوازنة وهادئة بالرغم مما يعتقد البعض حول عدم التوازن.

والملاحظ أن العلاقات السعودية الصينية شهدت نموًا أكده زيارة الرئيس الصيني للرياض عام 2016 وزيارة خادم الحرمين الشريفين لبكين عام 2017 والتي نتج عنها توسيع نطاق العلاقات بين البلدين في مختلف المجالات. هذا التوسع في العلاقات له عدة جوانب، فمن جانب فإن الانفتاح على الدول والمجتمعات يعمق أواصر الصداقة والتقارب، ويكرس الصور الإيجابية المتبادلة فيما بينها، ويدعم أجواء السلام والتفاهم والحوار، فيما يؤدي الانغلاق والتقوقع على الذات إلى زيادة عوامل الصدام والخلاف وتكريس الصور النمطية السلبية بين المجتمعات المختلفة. وتتميز السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية باستنادها إلى ركائز مهمة ساعدت على بلورتها ما أسبغ عليها عدداً من السمات، هذه السمات كانت أساساً في نجاحها وتأثيرها، وأسهمت في وصولها إلى مكانتها الدولية، وبُنِيت على أسس الحكمة والاعتدال والحزم. ومن الجانب الاقتصادي فقد قللت أمريكا من استيراد النفط وأصبحت من المصدرين له، في حين أن اعتماد الصين على الواردات النفطية يتحرك في الاتجاه المعاكس، وهذا قد حسَّن من العلاقات السعودية الصينية بشكل مطرد. ومن الجانب السياسي والاجتماعي فقد شهدنا تدخلات غربية في السياسات الداخلية والخارجية، ويقدم الإعلام الغربي قديمًا وحديثًا صورة مشوهة ونظرة دونية، بينما تتميز الصين بالانفتاح وتقاسم المنفعة والفوز المشترك – حسب زعمها- ولهذا طرحت مبادرة “الحزام والطريق” والتي تتمسك فيها بمبدأ التشاور والتشارك في البناء والمنفعة، وخلق رابطة المصير المشترك للبشرية، وعدم التدخل في السياسات الداخلية للدول.

وفي ذات الإطار من المهم مراعاة ما يلي:

  • أن تكون المملكة دولة لا يمكن الاستغناء عنها. Indispensable states. لأي قوة عظمى.
  • العمل على تقوية اللوبي السعودي في الصين وروسيا.
  • الحرص على دور إقليمي قوي يقوي النقطة الأولى.
  • كانت تأخذ الصين دور زعامة العالم الثالث (دول عدم الانحياز) إلى أن بدأت بالتغيير ومصلحتها الاستمرار فيه ومع التغيرات وعداء الغرب الواضح للإسلام وهو غطاء لأسباب أخرى، علينا العمل ضمن منظمة التعاون الإسلامي، الدول المهمة أقلها لكسب الصين وهنا قيادة المملكة للمنظومة الإسلامية.
  • إنشاء مركز إسلامي وسطي يقطع الطريق على أمريكا في اللعب على الوتر الديني في الصين والجمهوريات الإسلامية في وسط آسيا.

وثمة وجهة نظر أخرى فيما يخص الصراع الأمريكي الصيني مفادها بأن مآلات هذا الصراع متعدية للدولتين محل الصراع، وأن الاستخدام من قبل الدولتين لم يستخدما فيه القوة الصلبة في المحافظة على مكاسبهما، بل وإن أساس الصراع وتجاذباته في شكلها الخارجي وفي فحواه تكاد تكون اقتصادية صرفة. والملفت أن الدولتين عظَّمتا من القوة الناعمة في هذه المهددات، وبشكل مركز عملت الدولتان على التركيز على التحالفات السياسية. وأضافت أمريكا لتحالفاتها القوية بل والمفروضة على بعض الدول تحالفها قبل أشهر مع دول من ضمنها أستراليا، والصين تحالفت قبل أيام مع روسيا. والواجب أمام دول الخليج التي تعيش تيهاً حقيقياً في التحالفات العميقة لكل دولة مع أمريكا بعد تغيّر اهتماماتها بالشرق الأوسط وبدول الخليج. والعلاقة مع الصين التي ليست بمستوى أمريكا بعد في القوة، وصحيح أن المملكة حاولت أن تنوع علاقاتها مبكراً، ومع بداية البرنامج المستقبلي ٢٠٣٠، ولا تزال. بَيْدَ أن الحاجة للتحالف أو للاتحاد بين دول الخليج بات ضرورياً في الوقت الراهن، لعدة عوامل، أبرزها هذه الصراعات الجيواستراتيجية الجديدة بين المعسكر الغربي والشرقي، ناهيكم عن المهددات الجيوسياسية المتفاقمة. ولذا من المهم التركيز بالتوصية بضرورة زيادة التحالف بين دول الخليج والاتحاد فيما بينها، كون ذلك يزيد من قيمة كل دولة خليجية استراتيجياً، ولأن الدول العظمى تعمل على هذا النوع في المحافظة على مقوماتها الوطنية، ومصالحها الخارجية!!

 

  • التوصيات
  • توصيات عامة
  • الاستمرار في سياسة تنويع التعاون الاقتصادي والثقافي والسياسي والعسكري مع دول خارج منظومة دول الغرب.
  • التعاون العسكري مع (الصين / روسيا كوريا الجنوبية / باكستان/ مصر.. إلخ. ما أمكن.
  • الاستمرار في البرامج الرامية للتصنيع العسكري محلياً والاهتمام بالصواريخ الباليستية والمضادة للطائرات والبرامج الإلكترونية (التشويش تحديداً) حيث تكون هذه قوة ردع.
  • العمل على الأخذ بالحسبان المتغيرات الدولية ومحاولة الأخذ بها في سياسات الرؤية ٢٠٣٠ بما يحقق شمولية الرؤية داخلياً وخارجياً.
  • التنبه لملف ما يُسَمَّى حقوق الإنسان والذي يستخدمه الغرب كفزاعة وعذراً لفرض عقوبات أو عدم تعاون.. إلخ.
  • إنشاء مراكز بحثية تهتم بالأقليات الإسلامية ونشر الإسلام الوسطي الذي يبعد أعداء الإسلام عن استخدامه لأهداف سياسية واقتصادية تسئ للعلاقة بين المسلمين ومجتمعهم ودولهم التي ينتمون إليها.
  • الاستمرار في تقوية الجبهة الداخلية وخاصةً الشباب.
  • الاعتماد أولاً على النفس في إيجاد مكان يليق بالمملكة ضمن التحولات الجديدة مع العمل إقليمياً وعربياً على توحيد الرؤى والأهداف وتقليل الاستقطاب في منطقتنا ما أمكن ذلك.
  • القيام بخطوات سياسية واقتصادية متوازنة مع اللاعبين الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين.
  • تصفير المشاكل في المنطقة ما أمكن ذلك.
  • توظيف مصداقية المملكة وولاة الأمر فيها وعضويتها في أصعدة الاقتصاد والتجارة في مبادرات أو المشاركة في مبادرات كونية تنضم للعالم الاقتصادي والتجاري الجديد وتخط ملامحه الرئيسة ومؤسساته الكبرى، حيث يمكن أن تكون أرضية سواء تحمي بها الدول صناعتها وتجارتها واقتصادها من قوة الصين والمميزات التي تتمتع بها.. خصوصاً وأن المملكة عضو في العشرين ومن أكبر المؤثرين في سوق الطاقة وهناك تشكل لعلاقة سعودية صينية مبنية على أسس موضوعية.
  • توصيات مقترحه للمحور العربي:

(أ)- الجانب الاقتصادي:

  • التركيز على الإنتاج وحيازة الأسواق لتسويق المنتجات في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبيّة مع إعطاء أهميّة خاصّة للتوجّه لأسواق العالمين العربي والإسلامي.
  • وقف سياسة الأسواق المفتوحة للمنتجات الاجنبيّة الزراعيّة والصناعيّة والتشجيع الصارم بفاعليّة ملموسة للمنتج المحلّي داخلياً وفي الأسواق الخارجية.
  • وقف تحويل المجتمع المحلّي إلى مجرّد مستهلكين أو مستخدمين للبضائع الأجنبيّة عن طريق مشاركة القطاع العام في المشاريع الكبرى، وإصلاح قطاع الأعمال المحلّي وفكّ تبعيّته للشركات الأجنبيّة ودفعه على المشاركة بفعاليّة في الإنتاج العالمي باستخدام الخامات المحلّيّة والأيدي العاملة الوطنيّة، والتخلّص ممّن لا يرغب أو لا يستطيع التحوّل إلى الإنتاج الوطني بطرق مرضية للدولة ولأصحاب الأموال، خصوصاً أن معظم تلك الثروات جُمعت بتسهيلات من الدولة.
  • الدفع بقوّة لسياسة الاعتماد على الذات في المجالات الرئيسة من المنتجات الصناعيّة والزراعيّة وتأمين ما لا يمكن إنتاجه من أسواق حليفة وللمحور العربي عليها نفوذ سياسي واقتصادي استثماري.
  • العمل بسلاسة وبالطرق الناعمة على استرداد الأرصدة والاستثمارات المودعة في الخارج وتأمين ما سيبقى منها بحيث لا تُسْتَخدَم كعامل ضغط من قبل أي قطب من الأقطاب المتصارعة يجبر المملكة والدول الخليجيّة على البقاء معه في معركته الخاسرة وتحمّل تبعاتها.
  • العمل على برنامج مرن لإنتاج الكهرباء بالطاقة النوويّة يمكن الاستفادة منه عسكريّاً عند الضرورة.
  • تصنيع المواد الخام كالغاز والبترول وتكريرهما محلّياً وبيع المنتجات النهائيّة في الأسواق العالميّة لتعظيم القيمة المضافة وتشغيل الأيدي العاملة المحلّيّة وتجنّب تبعات اكتشاف مصادر جديدة للطاقة.

 

 

 

(ب)- الجانب السياسي والعسكري والأمني:

  • السعي للتكتّل في منظومات أكثر فاعليّة من المنظومات الحاليّة مثل الاتحادات الاندماجيّة والفدراليّة والأسواق المشتركة المراقبة بفاعليّة والأحلاف العسكريّة الملزمة.
  • تطوير الجيوش وتعزيز عدتها وعددها بأقل الطرق كلفة كالتصنيع المحلّي للأسلحة وخدمة العلم.
  • إثبات وإعلان الشرعيّة المحلّية للحكومات بالطريقة المعترف بها من قبل القوى الأمميّة عن طريق دساتير متفق عليها ومعتمدة باستفتاء عام، وإتاحة فرصة المشاركة السياسيّة بتطوير نظم انتخابيّة مناسبة لمجالس الشورى والمجالس الوطنيّة تتلاءم مع الظروف والثوابت المحلّيّة.
  • التوسّع في تطوير ودعم منظومة المجتمع المدني واستخدامها لتخفيف الضغوط الغربيّة وإسكاتها.
  • السعي لإيجاد حلول مناسبة وعادلة لا تستثني أو تهمّش أي طرف من الأطراف العربيّة المتصارعة في القضايا العربيّة الملتهبة مثل سوريا واليمن والعراق وليبيا وتونس والصحراء الغربيّة بحيث تكون المملكة ومحورها مرجعاً عادلاً ومقبولاً للجميع.
  • استمرار الضغط المعلن إعلامياً على أقطاب النظام العالمي لإيجاد حل للقضيّة الفلسطينيّة يكون مقبولاً لدى الفلسطينيين، مع استمراريّة الدعم الإنساني والاقتصادي للشعب الفلسطيني بغض النظر عن تصرفات المنظمات الفلسطينيّة المختلفة ومد ذلك الدعم ليكون مباشراً مع منظمات المجتمع المدني الفلسطيني بمختلف توجهاتها الأيدولوجيّة.
  • المساواة في حقوق المواطنة ومحاربة الطائفيّة والإرهاب والتفرقة بجميع أشكالها وتثبيت أركان الدولة المدنيّة.

 

  • المصادر والمراجع
  • وليد سليم عبدالحي: المكانة المستقبلية للصين في النظام الدولي 1978-2010، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبوظبي، 2000م.
  • أندرو سكوبيل وعليرظا نادر: الصين في الشرق الأوسط: التنين الحذر، مؤسسة RAND، سانتا مونيكا، كاليفورنيا، 2016م.
  • مايكل إي. براون وآخرون: صعود الصين، ترجمة: مصطفى قاسم، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010م.
  • علي حسين محمود باكير: مستقبل الصين في النظام العالمي: دراسة في الصعود السلمي والقوة الناعمة، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة بيروت العربية، 2016م.
  • ناصر التميمي: صعود الصين: المصالح الجوهرية لبكين والتداعيات المحتملة عربياً، مجلة المستقبل العربي، العدد 461، تموز/يوليو 2017.
  • أحمد الأنباري: مستقبل مكانة الصين في النظام الدولي، مجلة جامعة الانبار للعلوم القانونية والسياسية، المجلد العاشر، العدد الأول، 2020م.
  • ياسين عامر عبدالجبار الربيعي: واقع مكانة الصين ومستقبلها في البنية الهيكلية للنظام الدولي، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الشرق الأوسط، 2018م.
  • أحمد فاروق عباس: التجربة التنموية في الصين الواقع والتحديات، المجلة العلمية للاقتصاد والتجارة، 2019م.
  • سوي ليان كولين كوه: التنافس الصيني الأمريكي في جنوب شرق آسيا: الدروس المستفادة في حقبة ما بعد الكوفيد لدول الخليج، أكاديمية الإمارات الدبلوماسية، أكتوبر 2020م.
  • محمد ذو الفقار رحمت: جهود الصين لإسباغ الشرعية على تنفيذ مبادرة الحزام والطريق بالخليج، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 2019م.

 

  • المشاركون.
  • الورقة الرئيسة: أ.د. صدقة فاضل
  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: أ. جمال ملائكة
  • التعقيب الثاني: أ. نبيل المبارك
  • إدارة الحوار: اللواء فاضل القرني
  • المشاركون بالحوار والمناقشة:
  • الفريق د. عبدالاله الصالح
  • د. خالد الرديعان
  • أ. خالد الثبيتي
  • د. سعيد الغامدي
  • د. مساعد المحيا
  • د. حمد البريثين
  • أ. سالم المري
  • أ. محمد الدندني
  • أ. عبد العزيز الحرقان
  • أ. لاحم الناصر
  • د. حميد الشايجي
  • د. خالد المنصوري
  • د. فهد اليحيا
  • د. فواز كاسب
  • د. محمد الثقفي
  • أ. عبدالرحمن باسلم

 

القضية الثانية

الاقتصاد الرقمي

(16/3/2022م)

  • الملخص التنفيذي:

تناولت هذه القضية الاقتصاد الرقمي، وأشار د. رجا المرزوقي في الورقة الرئيسة إلى أن التغيرات المتسارعة في عالم التكنولوجيا والتي تخلق فرصاً جديدةً في جميع المستويات سواء في الحكومة، والأعمال التجارية والتنمية الاجتماعية، وأهمية تصميم السياسات المناسبة للاستفادة من التحول الرقمي. وأشار كذلك لتأثير هذه التحولات المتسارعة على معطيات الاقتصاد. انتقل بعد ذلك للتعريف بالاقتصاد الرقمي ودرجة إسهامه في اقتصادات الدول والفروقات بين الاقتصاد الرقمي والقطاع الرقمي، ثم شدد على أهمية قياس هذا الاقتصاد في الوقت الذي تُشكِّل فيه هذه العملية صعوبةً بالغةً. تحدث كذلك عن دور هذا الاقتصاد في عملية الاندماج بالاقتصاد العالمي وكيف سرَّعت الجائحة من مضاعفة الاستثمارات في القطاع وتدفق البيانات. ولم تغفل الورقة كذلك دور البنية التحتية في هذا الاقتصاد بما في ذلك تسهيل تدفق البيانات. بعد ذلك تطرقت الورقة لمسألة العرض والطلب وهو جوهر أي اقتصاد بكل تأكيد، وأشار إلى طبيعة هذه العلاقة في الاقتصاد الرقمي، وفي هذا الإطار تم التعرض لبعض الأمثلة التي ارتبطت بأذهان الناس في الاقتصادات التشاركية، كمثال أوبر وغيرها. واختتمت الورقة بالحديث عن قطاع الاتصالات في المملكة كونه ممكنناً للاقتصاد الرقمي.

بينما تطرق د. إحسان ابو حليقة في التعقيب الأول إلى تعريف الاقتصاد الرقمي بكونه الاقتصاد الجديد، وأشار لتداخل هذا الاقتصاد في جميع مفاصل الحياة والتغييرات الجوهرية التي أحدثها بشتى القطاعات بما في ذلك العملات والأصول الرقمية وغيرها. وأشار لما يواجه هذا القطاع من تحديات.

في حين ذكر م. عبدالله الرخيص في التعقيب الثاني أن الورقة تفتح المجال للحديث عن تطوير الأجندة الرقمية لتحقيق النمو الذكي والمستدام والشامل وفق سياسة الاقتصاد الرقمي في المملكة العربية السعودية التي أقرها مجلس الوزراء بتاريخ 1442/1/2 هـ، والتي ترتكز على سبعة مبادئ أساسية لتنمية بيئة رقمية استثمارية جاذبة ولزيادة التنافسية والتنوع الاقتصادي وتوسيع التنمية المستدامة في المملكة، وتتمثل تلك المبادئ في: “الوصول” بما في ذلك البنية التحتية الرقمية، والبيانات والمنصات الرقمية، والتقنيات، والابتكار، ورأس المال البشري، والرخاء الاجتماعي والشمولية.

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • التعريف بالاقتصاد الرقمي وأهميته.
  • مخاطر وتحديات الاقتصاد الرقمي.
  • جهود المملكة في تطوير ركائز الاقتصاد الرقمي.
  • وسائل الإفادة من الاقتصاد الرقمي.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • العمل على احتواء الجانب السلبي للتحوّل الرقمي على الاقتصاد والمجتمع خصوصاً تلك التي لها طابع استراتيجي، بحيث لا تستطيع أي جهة أجنبيّة استخدام الأنظمة المستخدمة في التحوّل الرقمي ضد مصالحنا الوطنيّة أثناء الأزمات العالميّة السياسية أو التقنيّة.
  • تطوير القدرات المحلّيّة والاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي تحاول استخدام الاقتصاد الرقمي باستقلاليّة، من أجل بناء استقلاليّة في الأنظمة المستخدمة محليّاً بكثرة والمهمّة أمنياً واقتصادياً مثل نظام أبشر ونظام المعاملات البنكيّة “سويفت”.
  • إيجاد بدائل محلّيّة وعالميّة لتلافي أي اشكالات نتيجة عقوبات أو إجراءات حمائيّة من قبل الدول أو الشركات الغربيّة المسيطرة على الأدوات الرقميّة المستخدمة لتسيير الاقتصاد والإنترنت.
  • بناء قدرات فنيّة وكوادر وطنيّة لتسيير الأنظمة الرقميّة الحيويّة وإيجاد الحلول لمشاكلها الفنّيّة وحمايتها والحفاظ عليها أثناء الأزمات العالميّة ومنع الجهات الأجنبيّة من اختراقها أو تحليلها والتحكّم فيها.
  • إنشاء مقاسم إنترنت محلية وخليجية وإقليمية بحث تكون التعاملات الحكومية والاقتصادية والعامة الإلكترونية تدور داخل النطاق الجغرافي وتُخزَّن في مراكز بيانات محلية وإقليمية بما يضمن مستوى أعلى لسلامة وأمن التعامل مع ضمان الترابط العالمي.

 

  • الورقة الرئيسة: د. رجا المرزوقي
  • مقدمة

يعيش العالم في عصر التحول الرقمي، فالتقنيات الرقمية والبيانات التي تنتجها والروابط (Connections) التي تُمكِّن الافراد من التواصل، غيَّرت بشكل جوهري الطريقة التي نعيش بها ونتعلم ونعمل ونخطط ونفكر ونلعب مما أثر في اتخاذ القرارات.

إن التغيرات المتسارعة في عالم التكنولوجيا لا تزيد فقط من المخاطر وتهدد نماذج الأعمال القائمة؛ ولكن أيضاً تخلق فرصًا جديدةً في جميع المستويات سواء في الحكومة، والأعمال التجارية والتنمية الاجتماعية. هذه التغيرات المتسارعة وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية تحتم على صانعي السياسات في الدول والمنظمات الدولية تصميم السياسات المناسبة للاستفادة من التحول الرقمي وتفادي آثاره السلبية على الاقتصاد والمجتمع. حيث أدت هذه التحولات المتسارعة للتقنيات الرقمية للتأثير على معطيات الاقتصاد، مما شكَّل عوامل أثرت على متغيرات الاقتصاد التقليدي وبروز مصطلح الاقتصاد الجديد أو الاقتصاد الرقمي.

حيث يُعرّف الاسكوا الاقتصاد الرقمي أو الاقتصاد الجديد بالاقتصاد القائم على التقنيات الرقمية وتحولاتها المتسارعة ويرتكز على عدة مكونات، منها البنية التحتية التقنية، والأجهزة، والبرمجيات، والشبكات، بالإضافة إلى الآليات الرقمية التي تتم من خلالها الأعمال التجارية والاقتصادية، ومنها التجارة الإلكترونية، والمعاملات الإلكترونية التي تتم بالكامل على شبكة الإنترنت (الاسكوا، 2017). كما عرَّف صندوق النقد الدولي (IMF, 2018) الرقمنة بأنها تشمل مجموعة واسعة من التطبيقات الجديدة للمعلومات والتكنولوجيا في نماذج الأعمال والمنتجات التي تغير العلاقات التفاعلية في الاقتصاد والمجتمع. والرقمنة هي عامل تمكين وكذلك عامل مُعطِّل (disruptor) للنماذج التقليدية.

تشير المعلومات الأولية المتاحة إلى أن القطاع الرقمي عالمياً لا يزال أقل من 10 في المائة في معظم الاقتصادات إذا تم قياسها من خلال القيمة المضافة أو الدخل أو العمالة (IMF, 2018). لقد تغلغلت الرقمنة واستخدام التقنية الرقمية في العديد من الأنشطة الاقتصادية -إنْ لم تكن جميعاً- بنسب متفاوتة وأصبحت جزءاً من بيئة الأعمال تقريباً في كل القطاعات. ولذا من الأهمية أن نفرق بين الاقتصاد الرقمي (digital economy) والذي يعني استخدام التقنية الرقمية والتي أساسها الإنترنت في جميع قطاعات الاقتصاد، وهذا ما سيتم التركيز عليه في هذه الورقة، وفي المقابل فإن القطاع الرقمي (digital sector) يشير لقطاع اقتصادي محدد من ضمن القطاعات الاقتصادية. ولا زال قياس الاقتصاد الرقمي يعاني من بعض المشاكل وعدم الاتفاق على آلية واضحة لقياسه والبيانات المطلوبة وآلية قياسها ولا زالت الجهود من المنظمات الدولية مستمرة للاتفاق على المتغيرات ذات العلاقة للقياس.

ولقد سرَّعت أزمة كورونا 19 من رقمنة الاقتصاد، حيث اضطرت العديد من الشركات إلى إعادة تنظيم قنوات الإنتاج والتوزيع الخاصة بها؛ استجابةً للقيود المتعلقة بكورونا (حظر التجول والإغلاق…إلخ)، كما زادت الشركات من استثماراتها في تكنولوجيا المعلومات لتسهيل مكالمات الفيديو أو العمل عن بُعد أو الطلبات والمدفوعات عبر الإنترنت. وازدهرت الشركات الرقمية الجديدة مثل Zoom مع الوباء. كما ساهمت الأزمة في سرعة التعلم واستخدام بعض أدوات الاقتصاد الرقمي مثل العمل عن بعد والاجتماعات عن بعد، مما قلل الحاجة للمكاتب كما زاد الطلب على التجهيزات ذات العلاقة بالعمل من المنزل. إن التحولات الرقمية أصبحت جزءاً من الواقع ولا رجعة فيها.

تلعب رقمنة الاقتصاد الوطني دورًا مهمًا في اندماج الاقتصاد الوطني بالاقتصاد العالمي وتعظيم الفائدة من التغيرات الجديدة لصالح الاقتصاد الوطني، بل إن الاقتصاد الذي لا يوفر متطلبات الاقتصاد الرقمي سينمو بمعدل أقل عن إمكانياته، مما يؤثر سلباً على الرفاه الاقتصادي للمواطنين. في الاقتصاد الرقمي فإن الشبكات الرقمية والبنية التحتية للاتصالات تُمثِّل شروطاً ضروريةً للتحول الرقمي. وفي تقرير الاقتصاد الرقمي لعام 2021 الصادر من  UNCTAD أشار للتداعيات التنموية وتأثيرها على السياسات الحكومية من  تدفقات البيانات الرقمية عبر الحدود. حيث تعتبر هذه البيانات أساسية لجميع التقنيات الرقمية سريعة التطور، مثل تحليلات البيانات والذكاء الاصطناعي (AI) وسلسلة الكتل (blockchain) وإنترنت الأشياء (IoT) والحوسبة السحابية وغيرها من الخدمات المعتمدة على الإنترنت، حيث إن توسيع تدفقات البيانات مهم لتحقيق جميع أهداف التنمية المستدامة تقريبًا. ولكن تعاني الحكومات من كيفية التعامل مع هذه التغيرات المتسارعة وما هي أفضل السياسات التي يجب تبنيها، مما شكل تحدياً حقيقياً لواضعي السياسات الحكومية. إن الخيارات التي سيتم تبنيها على المستوى الدولي أو المحلي سيتجاوز تأثيرها التجارة والابتكار والتقدم الاقتصادي، ولكن أيضاً عليها أن تأخذ بالاعتبار مجموعة من القضايا المتعلقة بتوزيع المكاسب الاقتصادية من الرقمنة وحقوق الإنسان والأمن الوطني.

  • واقع الاقتصاد الرقمي عالمياً

غالب التقارير الصادرة من المنظمات الدولية أشارت لصعوبة قياس حركة البيانات والاتفاق على منهجية واحدة عالمياً؛ ولكن بغض النظر عن الطريقة المستخدمة والمعلومات المتوفرة، فتقريباً يتفقون أن اتجاه نمو الاقتصاد الرقمي مرتفع بشكل حاد. وتشير توقعات الينكتاد (UNCTAD, 2021) إلى أن حركة بروتوكول الإنترنت العالمية (IP) في عام 2022 – محليًا ودوليًا تجاوزت كل حركة المرور على الإنترنت حتى عام 2016. وتقدر المنظمة في تقريرها أن لوباء كورونا COVID-19 تأثيراً كبيراً على حركة المرور على الإنترنت، نظرًا للاحترازات التي اتبعتها الدول للحد من انتشار الوباء، مما حوَّل كثيراً من الأنشطة للاعتماد على الإنترنت. أدى ذلك لارتفاع عرض النطاق الترددي العالمي للإنترنت بنسبة 35 في المائة في عام 2020، وهي أكبر زيادة لمدة عام واحد منذ عام 2013. وتشير التقديرات إلى حوالي 80 في المائة من إجمالي حركة المرور على الإنترنت تتعلق بمقاطع الفيديو والشبكات الاجتماعية والألعاب. بينما الحركة الشهرية للبيانات من المتوقع أن ترتفع من 230 إكسابايت (exabytes) عام 2020 إلى 780 إكسابايت بحلول عام 2026، بنمو متوسط سنوي 23%.

ولصعوبة قياس تدفقات البيانات عبر الحدود، فإن المقياس الأكثر استخداماً هو إجمالي السعة المستخدمة لعرض نطاق الإنترنت الدولي؛ ولكن تكمن المشكلة في أن قياس تدفقات البيانات لا تُظهر اتجاه البيانات ولا عن جودة البيانات. وتشير المعلومات المتوفرة أيضاً إلى تسارع استخدام النطاق الترددي الدولي خلال الجائحة وتتركز جغرافيًا في طريقين رئيسيين الأول بين أمريكا الشمالية وأوروبا، والثاني بين أمريكا الشمالية وآسيا.

يتضح من الشكل البياني (1) أن استخدامات الإنترنت في الدول المتقدمة اقتصادياً تتجاوز الضعف مقارنةً بالدول الأخرى، كما يتباين استخدامات الافراد للإنترنت، فبينما 80 % من مستخدمي الإنترنت في بعض البلدان الأوروبية يتسوقون عبر الإنترنت بالمقابل لا تكاد تتجاوز هذه النسبة في الدول الأقل نمواً 10 %. حيث تعتمد تطورات التجارة الإلكترونية بشكل كبير على قدرة الدول فنياً من حيث البنية التحتية ذات العلاقة ومستوى التعليم ووسائل النقل والتشريعات الهادفة للاستعداد للانخراط في الاقتصاد الرقمي والاستفادة منه.

Figure 1: Internet use, global, by level of development and by region, selected years

كان لوباء كورونا تأثير كبير على استخدام الإنترنت والتحول الرقمي، فمعظم الأنشطة حولت جزءاً من عملها -إن لم يكن غالبه- على الإنترنت. حيث ارتفع استخدام النطاق الترددي للإنترنت على الصعيد العالمي بنسبة 35 % في عام 2020 وهذا يمثل أكبر زيادة لمدة عام واحد منذ عام 2013. على الرغم من هذه الزيادات والتوسع السريع إلا أن الإنترنت أثبت مرونة ملحوظة في التعامل مع التغييرات المرتبطة بالوباء. وقد أدى الطلب المتسارع إلى أن العديد من مشغلي الشبكات سرعوا من خطط التوسع لديهم للتعامل مع الطلب. فالواقع الذي خلقته الأزمة من التحول السريع للاقتصاد الرقمي سوف يستمر وبشكل متسارع ولا رجعة فيه.

 

  • التغيرات الهيكلية في العلاقات الاقتصادية

أدى نمو الاقتصاد الرقمي إلى تحولات هيكلية في جانبي العرض والطلب في الاقتصاد وكفاءة الإنتاج للمنشآت، بالإضافة لإضعاف قدرات الحكومات للسيطرة على الحدود وتدفق الخدمات والمعلومات والسلع. وهذه التغيرات أثرت على الإنتاجية الكلية للاقتصاد وتنافسيته مقارنةً ببقية دول العالم. ويعتمد حجم الآثار الاقتصادية على نسبة نمو قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات (ICT) وممكناته في الاقتصاد، مما يسهل على القطاعات الاقتصادية وكذلك المستهلكين استخدامها في جميع جوانب الحياة.

ففي جانب الاستهلاك (الطلب) سواء لقطاع الأعمال، الحكومات، القطاع العائلي ساعد الاقتصاد الرقمي وتوفُّر البيانات وسهولة الوصول لها لتقليل احتكار المعلومات من قبل المنتجين (Asymmetric information) عن منتجاتهم وجودتها مقارنة بالمنافسين، بالإضافة لسهولة مقارنة الأسعار في مصادر البيع المختلفة سواء على المستوى المحلي أو العالمي بدون تكاليف تذكر سواء مادياً أو وقتياً. حيث إن عدم تناسق المعلومات سبب رئيسي لإخفاقات السوق؛ لأنه يؤثر على كيفية تقييم الأفراد لجودة السلع والخدمات المتاحة في السوق (Akerlof 1970)، بالإضافة لتوقعات نوايا الأفراد ووكلائهم (Spence 1976). عندما يكون الأفراد غير قادرين على تقييم جودة السلع والخدمات فإن السوق يفشل في الوصول لأسعار توازنية ويؤثر على كفاءة المعاملات (Stiglitz 2000). وفي عصر الرقمنة فإن إمكانية الأفراد للوصول للمعلومات عن السلعة والخدمة متوفر بكثرة، فتجارب المستهلكين للسلعة أو الخدمة وتوفرها وسهولة الحصول عليها أدى لرفع مستوى الوعي للمستهلك تجاهها وقدرته على مقارنة الأسعار والجودة. وانعكس ذلك على تنافسية المنتجين ومقدمي الخدمة لرفع جودة المنتج وتخفيض الأسعار.

أما في جانب العرض، فقد أدت التغيرات التقنية المتاحة وسهولة استخدامها لتقديم الخدمات والسلع من قبل القطاع العائلي والذي كان سابقاً جزءاً من الطلب فقط ليشارك المنتجين تقديم الخدمة بما يسمى الاقتصاد التشاركي (Sharing economy). والاقتصاد التشاركي (من مستهلك لمستهلك) ليس بجديد حيث كانت تتم بعض العمليات الاقتصادية بهذا النموذج، ولكن الجديد الآن هو استخدام التقنية كوسيط بينهما، مما ساعد في توسيع المشاركة بشكل كبير، وانعكس ذلك على زيادة التنافسية والتأثير على الهامش الربحي للمنتجين وتحسن الدخل المتاح للأفراد من خلال الاستفادة من الأصول التي يملكونها بإتاحتها للاستخدام وتحقيق عوائد مالية متاحة للاستهلاك أو الاستثمار. في الغالب فإن أسعار مقدمي الخدمة في الاقتصاد التشاركي أقل لنفس الخدمة من مقدمي الخدمات التقليديين. كما يمكن لمقدمي الخدمة في الاقتصاد التشاركي الاختيار من بين مجموعة متنوعة من الطلبات أو ما يعرف بآليات التخصيص. في دراسة جودا وسوبرامانيان (H. Guda and U. Subramanian, 2017) ذكر دور وفعالية نوعين من الاستراتيجيات تستخدمهما المنصات حسب الطلب في إدارة العرض والطلب المتغيرين بسبب ظروف العرض أو تقلبات الطلب، وهي: الأولى مشاركة معلومات السوق مع الموردين والثانية التسعير المفاجئ لحل المشكلة الأساسية لـموازنة العرض والطلب بشكل ديناميكي. والمشاركة تشمل المشاركة في الاقتصاد التشاركي مدفوعًا بمجموعة متنوعة من الدوافع، بما في ذلك الاهتمام بـالاحتياجات الطبيعية للآخرين، والتوجه الثقافي، والسلوك الاجتماعي الإيجابي، والإيثار، والمعاملة بالمثل، والانتماء، والمتعة، والإنجاز، والاتساق الاجتماعي، والجماعية، والتطبيق العملي وربط الأشياء. كل هذه المتغيرات ساهمت في نمو وتصاعد الاقتصاد التشاركي وقدرته على أخذ جزء من سوق مقدمي الخدمة التقليديين والذي تتوقع (PWC,2015) لبعض القطاعات الاقتصادية مثل الإقامة والسيارات وغيرها أن تصل في عام 2025 لحدود 50% من الخدمات في هذه القطاعات يتم تقديمها من خلال المشاركة.

تقلل رقمنة الاقتصاد من تكاليف الإنتاج والخدمات للنشاط الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، فان تكاليف البحث وتكاليف النقل وتكاليف التتبع وتكاليف التحقق باستخدام التقنيات الرقمية أقل بكثير من الطرق التقليدية (Goldfarb and Tucker 2019). هذه المكاسب المتحققة من رقمنة الاقتصاد لا يتم توزيعها بكفاءة وعدالة بين الشركات والمستهلكين. حيث أصبحت شركات مثل Google وApple وFacebook وAmazon (ما يسمى GAFA) مستحوذة على غالب الفوائد المتحصلة من التحول الرقمي للأسواق من خلال الاستفادة من اقتصاديات الحجم. فهذه الشركات تفوقت في أدائها على الشركات الصغيرة والكبيرة على حدٍّ سواء مما أثر على تنافسية الأسواق سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وللأسف فإن الأدوات الاقتصادية التي تستخدمها هيئات المنافسة ومنع الاحتكار في الدول المتقدمة غير كافية لسياسة المنافسة الرقمية. وبالتالي فإن هيمنة GAFA على السوق تتحدى سلطات مكافحة الاحتكار من حيث كيفية التعامل مع عمليات الاستحواذ للشركات الرقمية سواء المنافسة أو المكملة لها والممارسات غير العادلة للبائعين المستضافين في مواقعهم، وكذلك الاتفاقيات الحصرية والبنود الملزمة التي تفرضها شركات مثل Google، Apple وBooking.com على شركائها.

حاولت المفوضية الأوروبية مؤخرًا اقتراح إطار تنظيمي جديد يستهدف المنصات أو “حراس البوابة”. بموجب هذا الإطار، يمكن أن يخضع حراس البوابة لمزيد من الالتزامات الصارمة والتعديلات السلوكية والهيكلية. ولكن تكمن المشكلة في أن تحقيق تنظيم للاقتصاد الرقمي بشكل دقيق يحقق شروط المنافسة ويحمي خصوصية المستهلك من دون إعاقة الابتكار يعد أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلًا. فالشرط الأساسي لأي تنظيم هو نظرة شاملة لتأثيرات الرقمنة على هيكل السوق، وشدة المنافسة، ورفاهية المستهلك. يمكن أن يكون تحقيق مثل هذا التقييم الشامل معقدًا ويمكن أن يكون له نتائج غامضة. قد تحفز التقنيات الرقمية الابتكار وتزيد الإنتاجية وكذلك تحسن كفاءة السوق؛ ولكن في المقابل قد تؤدي إلى زيادة تركيز السوق وزيادة الحواجز أمام الدخول والتي قد تكون ضارة بالمستهلكين بالذات في الأجل الطويل. كما أن للانتشار الواسع للإنترنت نتائج اجتماعية وسياسية.

فالسمة الرئيسة للرقمنة هي انخفاض تكاليف جمع البيانات وتخزينها، والقدرة على تحليلات الأعمال التي تسمح باسترجاع وتحليل كميات غير مسبوقة من البيانات (Acquisti et al., 2016). تبحث مجموعة كبيرة من الدراسات التسويقية والتنظيمية الصناعية في كيف يمكن لاستغلال البيانات الضخمة والشخصية أن يقود لنماذج أعمال جديدة وخدمات مبتكرة. ولمكافحة الاحتكار وتشجيع التنافسية، فمن المهم التركيز على اقتصاديات الخصوصية وتوفر البيانات. ففي العديد من الأسواق، يتم تقديم الخدمات مقابل البيانات مع عدم وجود مدفوعات بين المستهلكين والشركات وهذا يشكل تحديًا كبيرًا لسياسة المنافسة التي تستخدم الأسعار لتحديد الأسواق ذات الصلة. بالإضافة إلى ذلك، أكدت بعض عمليات الاندماج الأخيرة أن مشاركة البيانات وتحقيق الدخل منها يمكن أن يكون دافعًا قويًا لعمليات الاندماج والاستحواذ.

كما أن الاقتصاد الرقمي يتميز بالاستخدام المتزايد للخوارزميات لمعالجة الكميات الضخمة من البيانات. يتم تعريف الخوارزميات على أنها تقنية للأغراض العامة يمكن تطبيقها على أي قطاع وأي مجال ويمكن أن تولد عوائد قياسية متزايدة (Agarwal et al., 2016 ). تُستخدم خوارزميات التعلم الآلي للحصول على رؤى من تحليل البيانات الضخمة لتقديم المشورة الإدارية والاستراتيجية للشركات، وتوصيات السياسة للمنظمين وصانعي السياسات (فاريان 2014). تسمح الخوارزميات للشركات باستغلال كميات كبيرة جدًا من البيانات في الوقت الفعلي، ويمكن استخدامها لتعيين التسعير المتغير مثل حالة أوبر، وتقديم توصيات المنتج كما هو في أمازون، وتقديم إعلانات مخصصة مثل سناب شات وفيس بوك. حيث تساعد الشركات على توقع طلب المستهلك من أجل تخصيص المنتجات والأنشطة بشكل أفضل ودقيق في سوق أكثر دقة وتجزئة. زيادة استخدام الخوارزميات في الاقتصاد بلا شك تنامى بشكل كبير في الآونة الأخيرة وساهم في استهداف الفئات ذات العلاقة للمنتجين ومقدمي الخدمة.

  • قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات في السعودية
  • مؤشر جاهزية الشبكة

حسب مؤشر جاهزية الشبكة 2021م (Network Readiness Index, 2021) فقد حصلت المملكة على المرتبة 40 من بين 130 دولة، علماً بأن ترتيب المملكة كان 32   في عام 2014 في نفس المؤشر (WEF, 2014). ويقيس هذا المؤشر أربعة متغيرات ذات علاقة بتقنية المعلومات والبنية التحتية، وهذه المتغيرات هي: التقنية، الأفراد، الحوكمة والتنظيم، والأثر. وبمقارنة المملكة مع مجموعة الدول المتقدمة حصلت المملكة على المرتبة 38، فإن وضع المملكة يأتي أقل من متوسط المجموعة في المتغيرات الأربع. وبمقارنة المؤشر مع الدخل الفردي حسب القوة الشرائية التعادلية يأتي وضع المملكة تحت خط الانحدار.

رسم بياني يوضح مؤشر جاهزية الشبكة والدخل الفردي بمقياس القوة الشرائية التعادلية

المصدر: Network Readiness Index, 2021

  • مؤشر الابتكار العالمي

الابتكار يعتبر من العوامل المؤثرة للتحول للاقتصاد الرقمي للعلاقة الطردية بينهما، وذلك من خلال تأثير الابتكار على القطاعات الاقتصادية للتحول للاقتصاد الرقمي والذي يشكل الابتكار حجر الزاوية لها. وبالنظر لمؤشر الابتكار العالمي الصادر 2021 (Global Innovation Index, 2021) والذي يهدف إلى دراسة الجوانب متعددة الأبعاد للابتكار، فقد احتلت المملكة المرتبة 66 بين 132 دولة. ويصنِّف مؤشر الابتكار العالمي (GII) اقتصادات العالم وفقًا لقدراتها الابتكارية حيث يتألف مؤشر الابتكار العالمي من 80 مؤشرًا ذات علاقة لمدخلات ومخرجات الابتكار. ومن بين مجموعة الدول مرتفعة الدخل 51 حصلت المملكة على المرتبة 44. تعتبر هذه المراتب منخفضة مقارنة بإمكانيات المملكة والتي قد تستدعي أهمية دراسة الأسباب التي أدت لهذه النتائج المنخفضة وتحسينها لما لها من ارتباط وثيق بالاقتصاد الرقمي، والذي كما أسلفنا سيؤثر على تنافسية الدول وقدرتها على النمو.

  • التنافسية الرقمية

وفي تقرير التنافسية الرقمية الصادر عن IMD  فقد حصلت المملكة على المرتبة 36 بين تقريباً 64 دولة. وأشار تقرير IMD, 2021 إلى ان الدول التي حققت نتائج متقدمة في مؤشر التنافسية الرقمية وأداء أفضل ولديها الجاهزية للمستقبل هي الدول التي تتسم بالمرونة على مستوى الأفراد والشركات لدمج تقنيات تكنولوجيا المعلومات في ممارساتها اليومية. بالإضافة إلى ذلك، تتميز الاقتصادات الرائدة بأداء قوي في التدريب والتعليم. كما تتمتع تلك الاقتصادات التي تقود الطريق بالقدرة على تخصيص رأس المال للتطوير والتدريب للتقنيات الجديدة.

  • الاقتصاد الرقمي السعودي

لصعوبة قياس الاقتصاد الرقمي للاقتصاد السعودي خاصة والاقتصادات الأخرى بصورة عامة، فإننا سنعتمد على قياس قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات، علماً بأن البيانات لهذا القطاع مدمجة في حسابات الناتج المحلي الإجمالي مع قطاع النقل والتخزين. ولكن في أفضل التقديرات فإن تقريباً 50% من القطاع يعود لقطاع الاتصالات وتقنية المعلومات. وبتحليل بيانات القطاع نلاحظ أنها تتراوح بين 4 إلى 7% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي والذي تقريباً نصفها هو ما يخص قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات، مما يجعل مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز تقريبا 3.5% في أفضل أحواله. ونظراً لأهمية هذا القطاع لتمكين الاقتصاد الرقمي وتحول الاقتصاد، فإن مساهمته في الاقتصاد المحلي لا زالت منخفضة حيث تمثِّل هذه النسبة في دول مثل كوريا الجنوبية وبعض الدول المتقدمة اقتصادياً في حدود 10%.  فالبنية التحتية الرقمية والصناعة الرقمية والتكامل الرقمي جميعها لها تأثيرات إيجابية كبيرة على الإنتاجية الكلية (Zahong, et al. 2021) وتحول الاقتصاد للاقتصاد الرقمي لتحقيق التنمية المستدامة في عالم متغير.

وعلى الرغم من ارتفاع الإنفاق الحكومي على القطاع خلال العشر سنوات الماضية وكذلك الاستثمارات كما أشارت لها دراسة منتدى الرياض 2015 إلا أن المؤشرات الدولية المشار لها أعلاه تبين ضعف تنافسية قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات مقارنة بالدول المتقدمة اقتصادياً والدول الصاعدة. وتبرز الحاجة لوضع استراتيجية شاملة للاقتصاد الرقمي بكل متغيراته التنظيمية والفنية وممكناته تأخذ في الاعتبار المتغيرات الدولية والانفتاح الاقتصادي الناتج عن تصاعد نمو الاقتصاد الرقمي بشكل غير متوازن عالمياً.

 

التعقيبات:

  • التعقيب الأول: د. إحسان ابو حليقة

بدايةً، لا بد من الإشادة بالورقة التي أعدها د. رجا المرزوقي، حيث تناولت كيف أخذ الاقتصاد الجديد أو الاقتصاد الرقمي طريقه ليحدث الفارق الكبير في اقتصادات عديد من الدول، ليعيد هيكلة اقتصاداتها. وما يجعل تناول الاقتصاد الرقمي أمراً ينطوي على تحديات عدة هو أنه ما زال في طور التبدل ولم يبلغ مرحلة الاستقرار والثبات؛ فما نشهده على مدى العقود الأربعة الماضية ما هي إلا فصول تتوالى. ومن هذه التحديات هو تأطير “الاقتصاد الرقمي”، فهل الحديث عن الاقتصاد أم عن التقنية؟ والسبب أن التطورات التقنية “المزعزة” تفرض على الاقتصاديين العودة إلى مقاعد البحث والتنظير لتطوير ما سبق أن كتبوه.

ولعل التسمية الأشمل هي “الرقمنة”؛ حيث إنها تشمل النواحي الاقتصادية والاجتماعية ذات الصلة بالتقنيات الرقمية التي استوعبت كل شيء، أو هي في طريقها لذلك، عن كيف نمارس حياتنا اليومية إلى ممارسة أنشطتنا الاجتماعية والاقتصادية. ولذا، فعند الحديث عن “الاقتصاد الرقمي” بمفرده يكون التناول مبتوراً، أما عند الحديث عن الرقمنة فيصبح بوسعنا النظر للظاهرة برمتها على تعدد مناظيرها ومستوياتها.  وما يعزز هذه النظرة أن IDC تُقدِّر أن 65% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي سيكون مرقمناً في العام 2022، وأن الإنفاق الاستثماري على الرقمنة يقدر بنحو 6.8 ترليون دولار للفترة 2020-2023.

فإذا نظرنا إلى هيكل أي اقتصاد، متقدم أو نامٍ، نجد أن الرقمنة – وإن كانت بدرجات متفاوتة – قد دخلت كل مدخل في الأنشطة الاقتصادية كافة، وأحدثت فيها تطورات جوهرية، في النفط والغاز والزراعة والصناعة التحويلية والخدمات المالية والاتصالات والمواصلات والخدمات اللوجستية.

ولم يقتصر التغيير المزعزع على قطاعات الاقتصاد الحقيقي، بل إن العالم يعايش حالياً “انقلاباً” في قطاع الخدمات المالية، من خلال العملات والأصول الرقمية. وهو انقلاب بكل ما تحمله الكلمة من معنى بسبب أن المسعى الرئيس هو استبعاد الوسطاء، في حين أن نشاط الخدمات المالية يقوم على الوساطة! ولهذا السبب بالذات، نجد أن تنظيم العملات والأصول الرقمية يُشكِّل تحدياً مربكاً للسلطات النقدية وبالأخص البنوك المركزية، وكذلك للسلطات الأمنية باعتبار أن التعرف على طرفي الصفقة صعب إن لم يكن مستحيلاً. والقضية لا تتوقف على عملة مشفرة مثل البيتكوين، بل إن التشفير يشمل البيئة المحيطة والأدوات المستخدمة بما في ذلك العقود (smart contracts) وأساليب التمويل الموزعة (DeFi).

 

  • التعقيب الثاني: م. عبدالله الرخيص
  • مقدمة المعقب على الورقة:

قدم د. رجا المرزوقي مقاربة شاملة ومنهجية لمفهوم الاقتصاد الرقمي وواقعه ومساهمته في الاقتصاد العالمي والوطني وأهميته وأثره على التنمية ودوره في تطوير السياسات العامة، وأشار إلى أهمية الرقمنة ودورها في التنمية الاقتصادية والتجارة والخدمات وقطاع الأعمال ونموها المتسارع لا سيما خلال جائحة كورونا، وأكد د. رجا المرزوقي على أهمية رقمنة الاقتصادات الوطنية في دمج الاقتصاد الوطني مع الاقتصاد العالمي، وأشار إلى تحديات قياس مساهمة الاقتصاد الرقمي في الاقتصادات الوطنية والاقتصاد العالمي، لكنه أكد تسارع نمو الاقتصاد الرقمي السنوي الذي ربما زاد عن عشرين بالمائة في بعض الدول خلال السنوات الأخيرة، كما أكد وجود فجوة بين الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات النامية ربما تتجاوز الضعف، وأشار إلى أن نمو الاقتصاد الرقمي ساهم بالتغيرات الهيكلية في العلاقات الاقتصادية التي أحدثت تحولاً سريعاً وعميقاً للأسواق والعرض والطلب على الخدمات والسلع والإنتاجية وهيكلة التكاليف وأنظمة المدفوعات والتجارة وأنماط المعيشة وسلوك المستهلكين وثقافتهم، مما ساهم في تطوير نماذج عمل قائمة علي الابتكار والتشاركية لا سيما في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات الحكومية والتنقل والسكن والطعام وإثراء تجربة المستفيدين من تلك الخدمات. وأشار في المقابل إلى بعض الآثار السلبية المصاحبة في جانبي العرض والطلب ونماذج العمل مثل مخاطر الاحتكار وزيادة تركيز السوق والمنافسة والآثار السلبية الاجتماعية والسياسية.

وأشار د. رجا المرزوقي إلى اعتماد الاقتصاد الرقمي على الخوارزميات لإدارة البيانات الكبيرة والذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، مما فتح آفاقاً واسعة لتحليل البيانات وتطويعها في طيف واسع من نماذج العمل المبتكرة والتقنيات المتقدمة والأسواق والمنتجات والخدمات الجديدة.

  • الاقتصاد الرقمي السعودي

استعرض مقدم الورقة الرئيسة أربعة مؤشرات تساعد على تقييم وقياس كفاءة الاقتصاد الرقمي السعودي وتشمل: (١) مؤشر جاهزية الشبكة في أبعاده المتمثلة بالتقنية والحوكمة والبنى التحتية والعنصر البشري، وبمقارنة المملكة مع مجموعة الدول المتقدمة حصلت المملكة على المرتبة 38 وهو أقل من متوسط المجموعة في المتغيرات الأربعة، (٢) مؤشر الابتكار العالمي والذي يهدف إلى دراسة الجوانب متعددة الأبعاد للابتكار، واحتلت المملكة المرتبة 66 بين 132 دولة، ومن بين مجموعة الدول مرتفعة الدخل حصلت المملكة على المرتبة 44 من51  دولة، وتعتبر هذه المراتب منخفضة مقارنة بإمكانيات المملكة ومواردها وحجم اقتصادها، وأشار إلى أهمية دراسة الأسباب التي أدت لهذه النتائج المنخفضة وتحسينها لما لها من ارتباط وثيق بالاقتصاد الرقمي وتأثيرها على تنافسية الاقتصاد الوطني ونموه. (٣) مؤشر التنافسية الرقمية والذي حصلت المملكة على المرتبة 36 بين 64 دولة وفق تقريرIMD  الصادر العام الماضي، (٤) مؤشر مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي وأشار إلى أنه بالرغم من صعوبة قياسه بمنهجية محددة إلا أنه توقع أن تكون مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي بحدود  ٣.٥٪ تقريباً، وهو منخفض جداً عند المقارنة باقتصادات متقدمة مثل كوريا الجنوبية الذي يصل إلى نحو ١٠٪.

وأشار كاتب الورقة إلى أنه بالرغم من ارتفاع الإنفاق الحكومي السخي لهذا القطاع خلال السنوات الماضية إلا أن المؤشرات الدولية المشار لها في ورقته تُبيِّن ضعف تنافسية الاقتصاد الرقمي الوطني عند المقارنة بالدول المتقدمة والصاعدة، مما يدعو لأهمية مراجعة استراتيجية شاملة للاقتصاد الرقمي بكل متغيراته التنظيمية والفنية وممكناته.

  • توصيات المعقب على الورقة:

تمثل الورقة الرئيسة حول الاقتصاد الرقمي السعودي أهمية وقيمة عالية في هذا المبحث الجديد الذي يُشكِّل اختلاف المعايير ونقص البيانات اللازمة حوله تحدياً حقيقياً للباحثين، وأتطلع أن تكون هذه الورقة الرائعة والجهد الفكري المتميز في تأطيرها وشمولها لجوانب ذات أهمية وقيمة توثيقية ومرجعية، كما أتطلع أن تفتح هذه الورقة الباب أمام الباحثين لمقاربات مماثلة لهذا البحث مع إضافة جوانب وأبعاد أخرى ذات أثر وقيمة لفهم أكثر عمقاً وشمولاً للاقتصاد الرقمي السعودي، لا سيما الممكنات المتمثلة بالسياسات الحكومية المحفزة لتطوير عناصر سلسلة القيمة للاقتصاد الرقمي في أبعاده المتعلقة بتطوير التشريعات والتنظيمات وهيكلة تقديم الخدمات وتنظيم الأسواق والمنافسة، وتطوير منظومات التعليم والابتكار والبحوث الداعمة للاقتصاد الرقمي على المستوى القطاعي والمناطقي، وتطوير منظومات إدارة مجموعات أصحاب المصلحة والشراكات والبرامج الداعمة والمبادرات القطاعية، وتطوير منظومات الاستثمار في البنى الأساسية التحتية والتعليم ورأس المال البشري ونقل المعرفة وتعظيم المحتوى المحلي، وتطوير منظومات ريادة الأعمال والشركات الناشئة في القطاعات الاستراتيجية، وتعزيز الاستثمارات الحكومية وجذب الاستثمارات النوعية الخاصة في البنى التحتية للشبكات والمعدات والتجهيزات الرقمية لإدارة وتخزين البيانات والاتصالات والبرمجيات والخدمات والتجارة الإلكترونية، وتطوير الأجندة الرقمية لتحقيق النمو الذكي والمستدام والشامل وفق سياسة الاقتصاد الرقمي في المملكة العربية السعودية التي أقرها مجلس الوزراء بتاريخ 1442/1/2هـ، والتي ترتكز على سبعة مبادئ أساسية لتنمية بيئة رقمية استثمارية جاذبة ولزيادة التنافسية والتنوع الاقتصادي وتوسيع التنمية المستدامة في المملكة، وتتمثل تلك المبادئ في: “الوصول” بما في ذلك البنية التحتية الرقمية، والبيانات والمنصات الرقمية، والتقنيات، والابتكار، ورأس المال البشري، والرخاء الاجتماعي والشمولية، والثقة في البيئة الرقمية وانفتاح السوق.

  • المداخلات حول القضية
  • التعريف بالاقتصاد الرقمي وأهميته.

الاقتصاد الرقمي هو من بين المصطلحات الحديثة التي ظهرت بظهور ملامح المرحلة الجديدة التي يعيشها الإنسان وهي مرحلة مجتمع المعلومات. ويشير مصطلح “الاقتصاد الرقمي” المستخدم كثيراً في الآونة الأخيرة إلى عملية التحول الرقمي أي استخدام الإنترنت في جميع القطاعات الاقتصادية.

لكن الاقتصاد الرقمي ليس هو ما يتبادر إلى الذهن من بيع وشراء على الإنترنت فقط؛ بل إن بعض الاقتصاديين يخلطونه مع المعرفة ويسمونه اقتصاد المعرفة. وقد أصبح اقتصاد المعرفة أحد عوامل النمو في الكثير من دول العالم.

وقد ساهمت التطورات في مجال التقنية الرقمية بتغيير أنماط حياتنا الاجتماعية من تحسين القدرة على التواصل والتأثير على كافة أنشطة الاقتصاد الحقيقي. كما مكَّنت ثورة المعلومات والاتصالات التي شهدها العالم خلال التسعينيات من القرن الماضي من تعزيز دور الاقتصاد الرقمي في العديد من مناحي الحياة.

ويمكن القول، أننا نعيش في عصر “الثورة الرقمية” والذي تنامي فيه استخدام وسائل نقل المحتوي الرقمي بين مختلف فئات المجتمع، كما نمت فيه الأنشطة الاقتصادية الرقمية على مستوى العالم بوتيرة متسارعة لم يكن لها مثيل من قبل. وأصبح من الملفت تنامي دور التكنولوجيا في تسيير عمل المؤسسات، والإنتاج الرأسمالي الضخم، وترسيخ مفهوم العولمة، والتحول الرقمي، واقتصاد المعرفة، خصوصًا في ظل تصاعد حركة التنافسية الدولية وصدور تقاريرها والاعتداد بنتائجها.

وقد دفعت أزمة كوفيد-19 العديد من دول العالم والمنظمات الدولية إلى تسريع وتيرة نمو الرقمنة لضمان استمرارية الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك مبادرة “الألكسو” لدعم الشبكة العربية للموارد التعليمية المفتوحة والتي تستند على برمجيات صناعة المحتوى التعليمي الإلكتروني ومبادرة “جيجا” GIGA، وهي المبادرة العالمية التي أطلقها الاتحاد الدولي للاتصالات واليونيسيف لضمان استمرارية التعليم للتغلب على مشكلة إغلاق المدارس والجامعات خلال فترة جائحة كوفيد-19. وهذا أيضاً له تأثير على رفع جاهزية البنية التحتية (الأساسية) لتقنية المعلومات، وكذلك رفع قدرات الأفراد على التعامل مع تطبيقات التقنيات الرقمية.

و”ظاهرة كامبردج” من أمثل التشريعات وتأثيرها على تنمية الاقتصاد المعرفي.  جامعة كامبردج التي بقيت لقرون من الزمن مصدرًا للعلوم والاكتشافات ولكن فقيرة جداً في الابتكار بسبب سياسات الملكية الفكرية. إلى أن غيرت سياساتها في السبعينيات لتنفتح على الرياديين وتدعوهم للاستثمار في ملكيتها الفكرية وتدعمهم وتشاركهم في مشاريعهم وظهر بسبب ذلك مئات الشركات الناشئة.

  • مخاطر وتحديات الاقتصاد الرقمي.

في تصور البعض فإن الاقتصاد الرقمي له جانب سلبي، فقد يكون محفوفاً ببعض المخاطر أثناء الأزمات السياسية بين الدول وهو ما تجلى لنا في العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا أثناء الحرب الروسية- الاوكرانية التي يشهدها العالم في الفترة الحالية، هل لدى روسيا خط رجعة أو بديل لنظام “سويفت” على سبيل المثال، وهو النظام العالمي الذي يصعب التخلي عنه، ونحن ندرك أنه يدار من بروكسل البلجيكية؟ ماذا لو واجهنا مشكلات تقنية كانقطاع الإنترنت والكابلات البحرية، أو تم معاقبتنا بما يشبه ذلك لموقف سياسي نتخذه لحماية مصالحنا؟ هل لدينا القدرة والكفاءة الفنية لمواجهة مشكلات من هذا النمط؟

كما أن الاقتصاد الرقمي، ومع أنه ما زال في دور التبدّل ولم يستقر ويثبت حتّى الآن، إلا أن له جانباً سلبياً اجتماعياً وسياسياً واضحاً يجب تلافيه أو احتواؤه لما له من مخاطر على المصالح الوطنيّة للدول، ومن أحد نتائج رقمنة الاقتصاد أو الاقتصاد الرقمي عولمة الاقتصاد وإضعاف السيطرة المحليّة (أو تحكّم الدولة) في الاقتصاد المحلّي ودمجه وربطه بالاقتصاد العالمي الخاضع لسيطرة قوى خارجيّة، ومع ذلك فإنّه تحوّل لا بد منه لمواكبة التغيّر السريع في عالم التقنية والتكنولوجيا.

وفي المقابل تذهب آراء أخرى إلى أن الاقتصاد الرقمي أو الاقتصاد الجديد هو نتاج الثورة الصناعية الرابعة وهو ليس خيار للحكومات. الاقتصاديات التي تهيئ البيئة المناسبة للتحول ستحقق مكاسب على حساب الدول الأخرى وذلك بسبب تحسن كفاءة الاقتصاد والقدرة التنافسية ونمو الإنتاجية بشكل أفضل. ولتفادي المخاطر فإن الحكومات تستخدم سياسات لتقليل المخاطر وليس إلغاءها.

لكن يلاحظ كذلك أن حدود الاقتصاد المرقمن تتركز في قطاع التجزئة أكثر من غيره من المستويات التجارية. ولعل مساوئ هذا الاقتصاد وقوته من قوة البنى التحتية التقنية، ومدى مهارة المستفيد في استخدامها، وهذا ما يفسر انخفاض ما يُشكِّله من نسبة في الاقتصاد العالمي التي أشار لها كاتب الورقة الرئيسة والمحددة بـ١٠٪.

وقد يكون أحد الحلول لرفع نسبة الاقتصاد الرقمي، العمل على رفع مهارة المستفيد. وبخصوص قطاع التجزئة فهناك إشارة لاستفادة قطاع الخدمات أيضاً من الاقتصاد الرقمي. ولكن لو أخذنا الملاحظة بعين الاعتبار سنطرح سؤالاً آخر وهو: كيف يمكن تنويع القطاعات المستفيدة من الاقتصاد الرقمي؟

وفي هذا الإطار لعل مهارة المستفيد تلعب دوراً كبيراً في ازدهار الاقتصاد الرقمي، لا سيما في المنتجات المضمون جودتها، والأهم أيضاً هو الأمان للمستفيد؛ فما يشاع عن عمليات الاحتيال زادت من تخوف المستهلكين من الوقوع في نفس المشكلة.

والواقع أنه في سياق التحول الرقمي العالمي، ما زالت كثير من الدول العربية إلى حدٍّ كبيرٍ متأخرةً عن الركب فيما يخص الاقتصاد الرقمي. كما تشهد عدة دول في المنطقة ارتفاعًا في معدلات اعتماد المستهلكين على الهواتف الذكية. ولكن على الرغم من ذلك، لم تزل الشركات والحكومات بحاجة إلى مواكبة هذا التطور في شتى المجالات.

كما تجدر الإشارة إلى أن الأسس التشريعية فيما يتعلق بالاقتصاد الرقمي تتغير وتتحدث باستمرار وآخرها كان نظام “حماية البيانات الشخصية” ولكن ما زلنا بحاجة إلى مزيد من التشريعات خاصة فيما يتعلق بأنظمة حماية الملكية الفكرية للمنتجات الرقمية. فمثلاً برامج الحاسب الآلي ما زالت محمية بنظام حماية حقوق المؤلف.

ومن المهم الإشارة إلى أن توطين التقنية هو من القضايا المهمة في مسألة الاقتصاد الرقمي؛ فنحن نستخدم أنظمة معلومات أمريكية خاضعة للقوانين الأمريكية. وحينما نبني تطبيقاً لجوال ذكي مثلاً فإن الشركة المالكة لنظام الجوال تستطيع إيقافه. وكذلك تطبيقات الحاسب. والمثير للتفكير هو أن المؤسسات الحكومية السعودية لم تستطع بناء أنظمة تقنية هامة. مثل بريد إلكتروني عام مماثل لـ (جيميل) برغم سهولة عمل ذلك. والكوادر الفنية المؤهلة هي محور أساسي لتوطين التقنية. ونحن نعاني من نقص في تخصصات هامة مثل خوارزميات الحاسب والتي تعتبر أساس الذكاء الصناعي والتطبيقات الذكية. وكذلك في بناء شبكات الحاسبات عالية الأداء وغيرها. والتساؤل هنا: لماذا لا يوجد بريد إلكتروني وطني مثلاً؟  فيصبح لكل مواطن بريداً إلكترونياً خاصاً به ومربوط برقم هويته مثل:1234 @email.gov.sa

بدلاً من أن نستخدم أنظمة بريد إلكتروني شركات أمريكية (هوتميل وجوجل)، ويكون إجبارياً للتعامل مع الأنظمة الحكومية. خاصة أن الشركات المالكة لأنظمة البريد الإلكتروني العامة لها القدرة على الوصول إلى محتوى رسائل البريد الإلكتروني.

ومن وجهة نظر البعض فإن أولى الأولويات لنا اليوم هو رسم استراتيجية تهدف لرفع ثقافة الأفراد التقنية بصفة عامة والطلبة بصفة خاصة، وبناء برامج التدريب على استخدام التقنية، وفي نفس الوقت نشر ثقافة التعامل معها، من خلال تحفيز برامج التعليم المستمر للكبار لمواكبة التطور الحادث في البرامج التقنية.

إلا أنه توجد مشكلة في ذلك تتكشف إذا نظرنا لسوق العمل، فالشركات السعودية حالياً لا تتطلب خريجين بمهارات عالية في علوم الحاسب مثل الخوارزميات والذكاء الصناعي وغيرها. ولعل الصيغة المناسبة هو تصميم برنامج تدريب وتوظيف يراعي بناء القدرات والمهارات العالية مع إنشاء وظائف ومشاريع تنفيذية وتطبيقية.

  • جهود المملكة في تطوير ركائز الاقتصاد الرقمي.

تشير البيانات المنشورة في التقرير السنوي الرابع للرقمنة السعودية (2022)، إلى بروز دور التقنيات الرقمية في كافة مناحي الأنشطة الحياتية الاجتماعية والاقتصادية، ويتضح ذلك في شمول خدمات الإنترنت لنحو 93% من السعوديين مقارنة بالمعدل العالمي البالغ نحو 62.5%، كما أن نحو 81.56% من السعوديين يستخدمون خدمات المدفوعات والتجارة الإلكترونية مقارنة بالمعدل العالمي البالغ نحو 48.29%. وأصبح استخدام الإنترنت يغطي كافة جوانب الحياة اليومية للمواطن السعودي، لتشمل: التعليم والتسوق الإلكتروني والوصول للخدمات الحكومية والمالية والحصول على خدمات السفر وخدمات الترفيه. ودلالات تلك المؤشرات توضح الأهمية التي توليها المملكة في الاستثمار في قطاع تقنية المعلومات والاتصالات.

ومن أهم المقومات التي عززت من جهود المملكة في تطوير ركائز الاقتصاد الرقمي، ما نلاحظه في المؤشرات التالية:

  • توافر بنية تحتية رقمية داعمة حيث تهدف المملكة إلى جعل الإنترنت عالي الجودة في متناول جميع قطاعات وشرائح المجتمع في جميع أنحاء المملكة. إضافة إلى ذلك، تعمل المملكة على تشجيع الاستثمار وتطوير بنيتها التحتية الرقمية من خلال بناء شراكات استراتيجية بين القطاع العام ومقدمي الخدمات المملوكين للقطاع الخاص.
  • تزايد معدلات استخدام الإنترنت في المملكة.
  • زيادة الإنفاق الحكومي في مجال الخدمات الرقمية.
  • إعطاء الحكومة السعودية أولوية خاصة لأمن المعلومات؛ حيث تتجه المملكة إلى توطين البيانات في قطاع البيانات الحكومية نظراً لأهميتها في ضمان أعلي درجة من أمن البيانات. كما تعطي الحكومة السعودية اهتماماً كبيراً بمعايير السلامة لتشغيل الخدمات الرقمية ولتأمين الشبكات الوطنية من الانقطاع أو التلف ووضع خطط وطنية لضمان استمرارية الخدمات الرقمية.
  • تزايد معدلات استخدام الدفع الإلكتروني لنحو 86% خلال التسوق في المتاجر والمنصات الإلكترونية؛ حيث إن نحو 61% من المستهلكين يتجنبون الشركات التي لا تقبل المدفوعات الإلكترونية.
  • توافر أطر تشريعية قوية تستهدف تكامل وتبادل البيانات بين الجهات الحكومية وتوفير موثوقية في البيانات المقدمة وتحقيق أعلى مستويات الشفافية في التعاملات الرقمية من خلال ضمان توافر بيئة رقمية آمنة وجديرة بالثقة تشجع الاستثمار وتؤدي إلى الابتكار.

وتمثل الجهود المبذولة في مجالات الخدمات الرقمية أساساً لدعم تنافسية وتنويع اقتصاد المملكة من خلال السعي لتضييق الفجوة الرقمية مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، ولعل أبرز المؤشرات في ذلك بلوغ المملكة المرتبة الثانية، ضمن مجموعة دول العشرين، في تقرير التنافسية الرقمية لعام 2021 الصادر عن المركز الأوربي للتنافسية الرقمية، حيث تعكس البيانات الواردة في التقرير المنجزات التي تحققت بالمملكة خلال الفترة من 2018-2020م في مجالات المعرفة والتقنية والجاهزية للمستقبل. فقد أشار التقرير إلى تفوق المملكة في مؤشرات: النظام البيئي للتحول الرقمي ومؤشر القدرات الرقمية. ولهذا انعكاساته على تطور نمو المنتجات المعرفية التي يقودها القطاع الخاص من خلال توفير بيئة حاضنة لنمو الشركات الناشئة في مجالات التقنيات الرقمية.

كذلك وبالإشارة إلى الجهود الحالية التي تتبناها المملكة نحو الاقتصاد الرقمي، نجد أن المملكة تعمل حالياً على إحداث تطور في تقنية المعلومات والاتصالات لتعزيز مساهمة المنتجات المعرفية في الناتج المحلي الإجمالي بما يعزز من قدرتها على تنويع اقتصادها. ولعل أبرز جهودها تمثل في إطلاق “الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي” و”الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي”.

وتمثَّل أحدث مخرجات التحول الرقمي بالمملكة في تعزيز الخدمات الحكومية بعدد من التطبيقات الرقمية التي تعزز من قدرات الحكومة الرقمية، مثل: تطبيق “توكلنا” ومنصة “استشراف” لمحاكاة أثر السياسات الاقتصادية والصحية والاجتماعية ومنصة “أبشر” ومنصة “النفاذ الوطني الموحد” ومنصة “نبأ” ونظام “القضايا الجمركية الإلكتروني”، وغيرها. وتمثل أبرز إنجازات المملكة، كما تم وصفه في تقرير “التحول الرقمي الوطني” لعام 2020 في تبوئها للمرتبة الثانية عالمياً في مؤشر الأمن السيبراني للشركات والمرتبة السابعة عالمياً في مؤشر تمويل التطوير التقني والمرتبة التاسعة عالمياً في تطبيق وتطوير التقنية والمرتبة الرابعة عشر في مؤشر التحول الرقمي للشركات ضمن الكتاب السنوي للتنافسية العالمية.

  • وسائل الإفادة من الاقتصاد الرقمي.

إن تصميم السياسات المناسبة للاستفادة من التحول الرقمي وتفادي آثاره السلبية على الاقتصاد والمجتمع يعد أمراً ذا أهمية جوهرية. حيث أدت هذه التحولات المتسارعة للتقنيات الرقمية للتأثير على معطيات الاقتصاد، مما شكَّل عوامل أثرت على متغيرات الاقتصاد التقليدي.

ولعل التحدي الأبرز هو الإعاقة غير المقصودة لاستيعاب التطورات التقنية المؤثرة على المشهد الاجتماعي- الاقتصادي. فالرقمنة تؤثر على المشهد اجتماعياً واقتصادياً، لكن نمط تعاملنا المعتاد هو أن “نسحب أرجلنا” لوضع التنظيمات بل حتى البيئة التنظيمية، فيصبح الاستخدام غير مقنن تنظيمياً أو حتى ممنوع! كما هو الحال في العملات والأصول المشفرة.

وتحقيق نجاحات في الاقتصاد القائم على الرقمنة يتطلب الاستشراف والمبادأة؛ هذا إن أردنا أن نكون منافسين وأن ندافع بالأكتاف نحو المقدمة. ولذا، فليس بالإمكان التأكيد بما فيه الكفاية على أهمية بناء بيئة تنظيمية متوثبة وراعية ومنفتحة، وتوفير حوافز تساهم في صنع نجاحات واستقطاب تقنيات وعقول، بما يعزز تنويع الاقتصاد ونموه، وخلق فرص عمل نوعيه، ودعم الرياديين، وتحسين الميزة التنافسية للبلد.

ويرتبط تعزيز القدرات الرقمية بتطوير الإطار التشريعي الداعم للتحولات الرقمية بما يضمن معه توفير بيئة رقمية آمنة للفرد والمجتمع وفاعلة في تحفيز الاقتصاد الرقمي في ذات الوقت. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك، ما أعلنته المفوضية الأوربية بتاريخ 26 يناير 2022 حول الحقوق والمبادئ الأساسية لتحقيق التوجه نحو العقد الرقمي، والذي أكدت فيه على مجموعة من القواعد العامة الداعمة للتوجه نحو الاقتصاد الرقمي، والتي شملت القواعد التالية:  (أ)  أن تحمي التقنيات الرقمية حقوق الأشخاص بما يمكنهم من التعامل معها بأمان وأن يكونوا في مأمن من المحتوى الضار (توافر بيئة رقمية آمنة)؛ (ب) أن يستفيد الأشخاص من بيئة إنترنت عادلة وأن يتم تمكينهم للتفاعل مع التقنيات الجديدة والمتطورة مثل الذكاء الاصطناعي؛ (ج)  أن يكون لكل فرد إمكانية الوصول إلى الإنترنت والمهارات الرقمية والخدمات العامة الرقمية.

وفيما يتصل بالتعليم تظهر قضية أخرى وهي بناء القدرات الوطنية في مجالات بناء وتشغيل وصيانة أنظمة المعلومات؛ تملك الجامعات أهم عناصر تمكين الطلاب مهارياً وعلمياً وإعدادهم للدخول في أسواق العمل المستقبلية. فينبغي لمؤسسات التعليم بالمملكة أن تتبني نهجاً شاملاً يعتمد على: (أ) دعم المحتوي الرقمي للمناهج التعليمية و(ب) توفير طرائق تعلم داعمة لثقافة الابتكار؛ و(ج) تصميم برامج تدريبية تهدف إلى إكساب الطلاب المهارات الرقمية وتزويدهم بأدوات وتقنيات رقمية تطبيقية وبما يساهم في سد الفجوة المعرفية الخاصة بأدوات المهارات الرقمية والتي تعد من الأمور الهامة لتعزيز قدرات الأفراد نحو الالتحاق بفرص عمل لائقة.

والواقع أن دور الجامعات في منظومة الاقتصاد الرقمي وتمكنيه وتحفيزه تطرق لها باحثون كثر واعتبروها أساساً للاقتصاد المعرفي وهو بشكل عام أشمل من الاقتصاد الرقمي. فالجامعات هي محور أساسي في عمليات ونشاطات واستراتيجيات خلق قيمة اقتصادية داخل المجتمع من خلال تأثيرها على منظومة الابتكار الوطنية. وهنا يبرز الدور الذي تقوم به تلك المؤسسات في خلق حلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية ومواجهة التحديات الرقمية المعاصرة. وفي هذا الصدد، يبرز التحدي الخاص بالكيفية التي تعمل من خلالها المؤسسات البحثية مع الصناعة بما يضمن معها توفير قناة مستدامة لنقل المعرفة وتقديم حلول تقنية للأنشطة الإنتاجية. ويتمثل أهم الأسس الداعمة لتلك القناة في ضرورة توافر عدد من العناصر، والتي تشمل: (أ) توفير إطار داعم للنظام البيئي للابتكار داخل مؤسساتنا البحثية من خلال توفير آليات لتمويل مبادرات الابتكار المختلفة؛ (ب) ربط الأنشطة والفعاليات التي يتم تنظيمها تحت مظلتها بمتطلبات الصناعة الوطنية وقضايا المجتمع؛ (ج) تطوير إطار تعاون طويل الأمد بين الصناعة والمراكز البحثية الجامعية، مما يسهل عملية تطوير المعارف الجديدة وتقديم حلول مبتكرة للصناعة؛ (د) توفير بنية تحتية بحثية ومؤسسية قوية بما في ذلك مراكز للتميز العلمي.

وفي سياق متصل ومع تعدد الهيئات والمؤسسات الحكومية والعامة المؤثرة على نمو وتحفيز الاقتصاد الرقمي، فإنه لا بد من تحقيق التنسيق والتعاون مع مختلف المؤسسات والجهات التي توفر العناصر الضرورية لنمو الاقتصاد الرقمي، لعل أبرزها: هيئة الحكومة الرقمية؛ وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات؛ وزارة التعليم وغيرها. ضمن سياسة أو استراتيجية شاملة وجهة محددة تتولى متابعة جهود الجميع وردم الفجوات وتذليل العقبات.

والواقع أن توفير بيئة بحثية مؤسسية وقوية يأتي من الاستفادة من عدة ممارسات وتجارب دولية من أهمها ١) المشاركة مع القطاع الخاص وتقديم خدمات بحثية لحلول المشاكل التي يواجهها أو دراسة الفرص الاقتصادية لمنتجات رقمية والعمل على تطويرها ٢) تحفيز الباحثين على تقديم بحوث علمية تقنية تطبيقية ويمكن ترجمتها إلى منتجات وخدمات رقمية وإتاحة الفرصة للباحث بالمشاركة في نجاح هذه المنتجات ٣) تقديم الدعم الفني والتقني والتجاري لطلاب الجامعات وتجويد البحوث العلمية للمناهج التعليمية لترتبط بالواقع والبيئة المحيطة.

ويبقى ضرورياً التنسيق بين الجهات وتحديد المسؤوليات. ويتضح ذلك على وجه الخصوص في ملكية بيانات التطبيقات. وفي الاختصاص المهني والتقني. فمثلاً النفاذ الموحد يشكل الهوية الرقمية للمواطن وبالتالي فهو عمل أو اختصاص لوزارة الداخلية. بينما هو في حد ذاته عمل تقني بحت من اختصاص وزارة تقنية المعلومات.

 

  • التوصيات
  • العمل على احتواء الجانب السلبي للتحوّل الرقمي على الاقتصاد والمجتمع خصوصاً تلك التي لها طابع استراتيجي بحيث لا تستطيع أي جهة أجنبيّة استخدام الأنظمة المستخدمة في التحوّل الرقمي ضد مصالحنا الوطنيّة أثناء الأزمات العالميّة السياسية أو التقنيّة.
  • تطوير القدرات المحلّيّة والاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي تحاول استخدام الاقتصاد الرقمي باستقلاليّة، من أجل بناء استقلاليّة في الأنظمة المستخدمة محليّاً بكثرة والمهمّة أمنياً واقتصادياً مثل نظام أبشر ونظام المعاملات البنكيّة “سويفت”.
  • إيجاد بدائل محلّيّة وعالميّة لتلافي أي إشكالات نتيجة عقوبات أو إجراءات حمائيّة من قبل الدول أو الشركات الغربيّة المسيطرة على الأدوات الرقميّة المستخدمة لتسيير الاقتصاد والإنترنت.
  • بناء قدرات فنيّة وكوادر وطنيّة لتسيير الأنظمة الرقميّة الحيويّة وإيجاد الحلول لمشاكلها الفنّيّة وحمايتها والحفاظ عليها أثناء الأزمات العالميّة ومنع الجهات الأجنبيّة من اختراقها أو تحليلها والتحكّم فيها.
  • إنشاء مقاسم إنترنت محلية وخليجية وإقليمية بحث تكون التعاملات الحكومية والاقتصادية والعامة الإلكترونية تدور داخل النطاق الجغرافي وتخزن في مراكز بيانات محلية وإقليمية بما يضمن مستوى أعلى لسلامة وأمن التعامل مع ضمان الترابط العالمي.
  • التوسع في إنشاء مراكز البيانات الضخمة المحلية والإقليمية بحيث تكون السحابة الإلكترونية تُدَار محلياً كاستثمار وطني وبما يرفع أمن وسرعة تداول البيانات الضخمة خاصة في الصحة والتعليم.
  • نظراً لكون المملكة قارة مترامية الأطراف وتملك حدوداً بحريةً طويلةً يمكن زيادة نقاط إنزال الكبائل البحرية Landing Stations بما يرفع من مستوى بدائل الربط العالمية ويضمن استمرارية الخدمة رغم الظروف الطارئة وأيضاً يساهم في رفع كفاءة وجودة الترابط وعدم الاختناق ويرفع جودة كافة التعاملات الرقمية.
  • كون الجهة المرجعية في العالم لقطاع الاتصالات وتقنية المعلومات هي جهة أممية محايدة “الاتحاد الدولي للاتصالات ITU”، بينما الجهة المرجعية للإنترنت على مستوى العالم هي منظمة أمريكية “ICAN” فلعل من الأنسب تطوير هذه المنظمة ليكون مجلس إدارتها وإدارتها التنفيذية أممية أو تناط المهمة بالاتحاد الدولي للاتصالات بمقره في جنيف.
  • نظراً لتسارع الدول الكبرى الآن على اعتماد عملة رقمية مثل الدولار الرقمي الأمريكي واليوان الرقمي الصيني، فقد يكون من المناسب إطلاق الريال الرقمي ودعمه ومساندته بسلة عملات أو سلة بضائع أو سلة معادن نفيسة لينافس أعلى العملات الرقمية؛ لأن هذا استشراف مستقبلي واستهداف للعمود الفقري للاقتصاد الرقمي.

 

  • المصادر والمراجع
  • الأمم المتحدة (الأسكوا): الاقتصاد الرقمي والتحول نحو المجتمعات الذكية في المنطقة العربية، لجنة التكنولوجيا من أجل التنمية، دبي، 11-12 فبراير 2017م.
  • هبة عبدالمنعم، وسفيان قعلول: نحو بناء مؤشر مركب لرصد تطور الاقتصاد الرقمي في الدول العربية، صندوق النقد العربي، مايو 2021م.
  • السيد محمد ذكي حسن: الاقتصاد الرقمي (مزاياه، تحدياته، تطبيقاته)، مجلة روح القوانين، كلية الحقوق، جامعة طنطا، العدد (85)، يناير 2019م.
  • مرابطي وسام: آليات التسويق عن بعد في ظل التوجه نحو الاقتصاد الرقمي، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية العلوم الاقتصادية والعلوم التجارية وعلوم التسيير، جامعة أم البواقي، الجزائر، 2015م.
  • الاقتصاد الرقمي، متاح على الرابط الإلكتروني: https://u.ae/ar-ae/about-the-uae/economy/digital-economy
  • يحيى حمود حسن البوعلي: واقع اقتصاد المعرفة في دول مجلس التعاون الخليجي وفقاً لمؤشرات المحتوى الرقمي، مجلة الاقتصادي الخليجي، العدد (24)، 2013م.
  • علي الخوري: كيف يمكننا بناء الاقتصاد الرقمي العربي؟ نحو مخططٍ استراتيجي، مجلة دبي للسياسات، فبراير 2020م.
  • بن سولة نور الدين: الاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية، مجلة تطوير، المجلد (5)، العدد (2)، ديسمبر 2008م.
  • ممدوح القاضي: مستقبل الاقتصاد الرقمي في مصر في ظل جائحة كورونا، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، مجلس الوزراء، مصر، أغسطس 2021م.
  • طارق المصري: الاقتصاد الرقمي في الشرق الأوسط: تحويل المنطقة إلى اقتصاد رقمي رائد، أكتوبر 2016م، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://www.mckinsey.com/featured-insights/middle-east-and-africa/digital-middle-east-transforming-the-region-into-a-leading-digital-economy/ar-AE

 

  • المشاركون.
  • الورقة الرئيسة: د. رجا المرزوقي
  • التعقيب الأول: د. إحسان ابو حليقة
  • التعقيب الثاني: م. عبدالله الرخيص
  • إدارة الحوار: أ. علاء براده
  • المشاركون بالحوار والمناقشة:
  • د. خالد الرديعان
  • ا. محمد الدندني
  • د. عائشة الأحمدي
  • د. عبدالعزيز الحرقان
  • د. عبدالرحمن العريني
  • د. عبدالاله الصالح
  • م. سالم المري
  • د. حامد الشراري

تحميل المرفقات