ملتقى أسبار : التقرير الشهري رقم (87) لشهر سبتمبر 2022

للاطلاع على التقرير وتحميله إضغط هنا

 

سبتمبر – 2022

تمهيد:

يعرض هذا التقرير لثلاث قضايا مهمة تمَّ طرحهم للحوار في ملتقى أسبار خلال شهر سبتمبر 2022م، وناقشهم نُخبة متميزة من مفكري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة؛ حيث تناولت القضية الأولى: حوكمة القطاع الرياضي، ما بين تعارض المصالح وسياسات الرقابة والالتزام، وأعد ورقتها الرئيسة د. نجلاء الحقيل، وعقب عليها كلٌّ من د. أيمن الرفاعي، أ.  أحمد إبراهيم المحيميد، وأدار الحوار حولها أ. عاصم بن عبدالوهاب العيسى.

بينما جاءت القضية الثانية بعنوان: الأيتام في المملكة: بعض الحقائق والأرقام، وأعد ورقتها الرئيسة د. خالد الرديعان، وعقب عليها كلٌّ من د. الجازي الشبيكي، أ. سمها الغامدي، أ. موضي الزهراني، وأدار الحوار حولها د. مها العيدان.

وناقشت القضية الثالثة موضوع: النظام العالمي الجديد، ودور المملكة والعرب فيه، وأعد ورقتها الرئيسة د. صدقة فاضل، وعقب عليها كلُّ من أ. سالم اليامي، د. عبدالله العساف، وأدار الحوار حولها د. عادل القصادي.


القضية الأولى

حوكمة القطاع الرياضي، ما بين تعارض المصالح وسياسات الرقابة والالتزام

(5/9/2022م)

 

  • الملخص التنفيذي:

تناولت هذه القضية حوكمة القطاع الرياضي، ما بين تعارض المصالح وسياسات الرقابة والالتزام، وأشارت د. نجلاء الحقيل في الورقة الرئيسة إلى أن رؤية المملكة العربية السعودية 2030 تدعو فرق كرة القدم إلى تحديث هياكل الحوكمة وتحسين أدائها المالي. كما أن الرؤية لم تركز فقط على رياضة كرة القدم، وإنما جميع أنواع الرياضة. فضلاً عن أن المملكة العربية السعودية تلقي بثقلها المالي الكبير وراء عدد من مبادرات العلاقات العامة التي من شأنها تعزيز سمعتها في مجال الرياضة العالمية. ومع ذلك، فإن البنية التحتية لقطاع الرياضة المحلية تعد أقل تطوراً بكثير من تعاملاتها الدولية في مجال الرياضة، كما أنه ثمة ضعف في البيئة التشريعية والرقابية، وضعف في التمويل والاستثمار في هذا القطاع الضخم. وكما هو الحال مع كل جوانب الحياة الأخرى في المملكة، تتطلع خطط رؤية 2030 العظيمة للبلاد إلى تغيير ذلك.

بينما أكَّد د. أيمن الرفاعي في التعقيب الأول أنه للآن نفتقر لنظام رياضي شامل مثل ما هو معمول به في الدول المجاورة، فعلى سبيل المثال فإن وزارة الرياضة لا تزال تعمل على تنظيم الهيئة قبل تحولها لوزارة، أيضاً فإن معظم الوظائف الرياضية هي عبارة عن عضويات لجان وأعمال استشارية وبدوام جزئي، وهذه تخلق بيئة خصبة للتحايل على الأنظمة وهدراً مالياً غير محوكم.

في حين ذكر أ.  أحمد إبراهيم المحيميد في التعقيب الثاني أن تفعيل وتطبيق الحوكمة الرياضية الرشيدة والفعالة بشكل جيد يساعد على ديمومة ومرونة وقوة الأندية الرياضية ويمنحها الفرصة للاستقرار الإداري وإطالة العمر الزمني للعبة وللنادي ويدعم تحقيقها للبطولات والمنافسات الدولية والمحلية. فضلاً على أن حوكمة الأندية الرياضية سترسخ مبدأ فصل السلطات، ومنح الصلاحيات وممارستها بين السلطات الثلاث (الجمعية العمومية، ومجلس الإدارة والإدارة التنفيذية)، الأمر الذي ينعكس على سير عملية تحقيق الأهداف الاستراتيجية للنادي.

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • الرياضة كظاهرة اجتماعية ضرورية.
  • التعريف بالحوكمة في القطاع الرياضي.
  • معوقات حوكمة القطاع الرياضي في ضوء الوضع الراهن.
  • آليات حوكمة القطاع الرياضي السعودي.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • العمل على تشخيص مشكلات قطاع الرياضة عن طريق لجنة مُشكَّلة بأمر من ولي الأمر، مكونة من: (هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، وزارة الداخلية، وزارة الموارد البشرية والشؤون الاجتماعية، وزارة الرياضة، وزارة الاستثمار، وزارة التجارة، وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان). وكلٌّ من هذه الجهات تعمل متعاونةً لتشخيص المشكلات سواء كانت مشكلات متعلقة بتعارض المصالح وما يلحقها من تصرفات مخالفة لأنظمة الدولة، أو مشكلات بخصوص من يجب أن يمنح الترخيص ومن يعتبر جهة حكومية أو غير حكومية.. إلخ.
  • بناءً على ما تتوصل له اللجنة (المشار إليها بالتوصية-1)، يتم إعادة هيكلة مؤسسات القطاع وما يتبع ذلك من إعادة تنظيمها إدارياً ووضع الضوابط والشروط للتعيين في اللجان التي ستتولى عملية الفصل في المنازعات الكروية. من أهمها: اشتراط تخصصات ذات علاقة وأهمها القانون، واشتراط أخذ شهادات من المعهد العالي للقضاء بعد التعاون معه لإعطاء أصول النظر والفصل في المنازعات ذات الأساس القانوني. وبالتالي نستطيع حوكمة القطاع بشكل عملي وقابل للتطبيق.
  • أن يراعي مشروع إصدار النظام الرياضي وضع القواعد الأساسية لبناء اللوائح التنظيمية الداخلية ومن أهمها:
  • لوائح النزاهة وأخلاقيات العمل.
  • لوائح الشفافية والمساءلة والرقابة الداخلية.
  • اللوائح التنظيمية فيما يتعلق بإصدار الرخص والاستثمار في القطاع الرياضي.
  • وضع قواعد أساسية لبناء مصفوفة الصلاحيات للعاملين والمسؤولين في القطاع الرياضي.
  • ضرورة إخراج لجان الفصل في المنازعات التابعة للاتحاد من الجهاز التنفيذ والمتمثل في القطاع الرياضي، وإدخالها تحت منصة المحاكم.. وتحديد ما إذا كان نقلها للمحاكم العامة أو ديوان المظالم يعتمد على دراسة الإشكاليات القانونية والشكاوى التي ترد بخصوص كل ما يتعلق بالرياضة عن طريق استطلاع آراء الجهات ذات العلاقة.
  • وضع عقوبات لمخالفة القواعد ذات العلاقة بالسلوك الوظيفي وتعارض المصالح وجميع لوائح الحوكمة، وليس فقط وضع قواعد نظامية من دون توضيح عقوبة مخالفتها؛ لأنه طبيعي جداً من يأمن العقوبة فسوف يخالف النظام لا محالة.
  • الورقة الرئيسة: د. نجلاء الحقيل

تدعو رؤية المملكة العربية السعودية 2030 فرق كرة القدم إلى تحديث هياكل الحوكمة وتحسين أدائها المالي، كما أن الرؤية لم تركز فقط على رياضة كرة القدم، وإنما جميع أنواع الرياضة. وفي الوقت نفسه، تلقي المملكة العربية السعودية بثقلها المالي الكبير وراء عدد من مبادرات العلاقات العامة التي من شأنها تعزيز سمعتها كقوة عالمية في كرة القدم، من خلال إبرام صفقات مع اتحادات كرة القدم العالمية، واستضافة مباريات كبيرة بين أندية الدوري الإسباني ودوري الدرجة الأولى، والآن تناقش المملكة استضافة كأس العالم 2030. كذلك، استحوذ صندوق الاستثمارات العامة على جزء من نادي نيوكاسل يونايتد، وشراء نادي الشمال الشرقي في أواخر عام 2021. كل هذا يعني أن المملكة العربية السعودية تستثمر في مجال الرياضة العالمية. ومع ذلك، فإن البنية التحتية لقطاع الرياضة المحلية أقل تطوراً بكثير من تعاملاتها الدولية في مجال الرياضة – كما أنها تعاني من ضعف البيئة التشريعية والرقابية، وضعف التمويل وضعف الاستثمار في هذا القطاع الضخم. كما هو الحال مع كل جوانب الحياة الأخرى في المملكة، وتتطلع خطط رؤية 2030 العظيمة للبلاد إلى تغيير ذلك.

لذلك اتخذت وزارة الرياضة واتحاد كرة القدم عدداً من الإجراءات لمواكبة خطط رؤية 2030، والتي باعتقادي تعتبر نقلة نوعية في مجال إدارة نوادي كرة القدم.

إنجازات وزارة الرياضة في رحلة حوكمة القطاع الرياضي

مبادرة حوكمة الأندية الرياضية

تحت مظلة رؤية 2030، أطلقت وزارة الرياضة مبادرة الحوكمة، التي تهدف إلى تحقيق الفوائد الاقتصادية والاجتماعية للانفتاح الرياضي. وتشمل الخطط والأهداف الكفاءة المالية وتحسين الشفافية لزيادة اهتمام المستثمرين؛ وممارسات حوكمة أقوى للسماح بوصول أفضل إلى رأس المال؛ وتحسين السمعة، لتعزيز الاستيعاب المحلي والتمتع بمزيد من الاهتمام الدولي. وفي عام 2021، تم إطلاق مشروع التصنيف الإداري للأندية الرياضية والذي يهدف إلى رفع مستوى حوكمة العمل وتحسين المكافآت الممنوحة للأندية، والذي بدأ العمل به من الموسم الرياضي الحالي 2022-2023م. ويعتمد التصنيف على خمسة معايير وهي تتكون من: (الاستراتيجية والقيادة – الإدارة والتشغيل -الالتزام والتحكم والرقابة – الإدارة المالية – الأنشطة التسويقية والفعاليات). وعلى هذا الرابط، مرفق تفاصيل المشروع:

https://mos.gov.sa/ar/mediacenter/news/Pages/n08112021.aspx

وبالفعل، تم تطبيق هذه المبادرة، بحيث تم تصنيف الأندية إلى ست فئات، ويعتمد مقدار الدعم المقدم للنادي على معدل تحقيق المعايير الموجودة في التصنيف الإداري. وشملت هذه المرحلة ٦٤ نادياً. أما المرحلة القادمة للموسم الرياضي القادم ستشمل ١٧٠ نادياً، للاطلاع على تفاصيل التصنيف الإداري (https://www.dawriplus.com/news/62997. html).

وهذا يعتبر تحولاً كبيراً في أسلوب تطوير إدارات الأندية الرياضية من أجل رفع مستوى العمل ومحاولة التقليل من تغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة للنادي قدر الإمكان.

نظام اللعب المالي العادل

اعتمد مجلس إدارة الاتحاد السعودي لكرة القدم عمل اللجنة التأسيسية لقانون اللعب المالي العادل، وذلك تزامناً مع العام المالي للأندية الرياضية وإصدار القوائم المالية الموافق لـ 30 (يونيو) 2022. سيكون عمل هذه اللجنة بالتعاون المشترك مع لجنة الكفاءة المالية التابعة لوزارة الرياضة.

هذا القانون موجود عند الكثير من الدول، من ضمنها دول أوروبا متمثلة في الاتحاد الأوروبي. ويهتم هذا القانون بشكل كبير بتقليل نسبة الإنفاق والهدر المالي من قبل الأثرياء، والذين هم في أتم الاستعداد لدفع مبالغ ضخمة من أجل تحقيق الفوز للنادي، حتى ولو كانت إيرادات النادي أقل من المبالغ التي تم ضخها لشراء لاعب مثلاً. باختصار، نظام اللعب المالي العادل يعني مجموعة من اللوائح الموضوعة لمنع أندية كرة القدم المحترفة من إنفاق أكثر مما تكسب في السعي لتحقيق النجاح، وبذلك لا تتورط في مشاكل مالية قد تهدد بقاءها على المدى الطويل.

وتزامناً مع مبادرة الحوكمة والتصنيف الإداري للأندية، تعمل اللجنة التأسيسية لقانون اللعب المالي العادل التي تم اعتمادها على ضبط مصروفات الأندية، والحد من الديون التي تتراكم بشكل كبير. ومن الأسباب التي ساهمت في اللجوء لمثل هذا النظام، هي أن الحوكمة يستحيل بها أن تنجح من دون وجود تشريعات تضبط العديد من أركان الحوكمة، من ضمنها الميزانية والمصروفات والإيرادات. وهذا ما دفع المملكة لسن مثل هذا القانون بسبب زيادة مصروفات الأندية بشكل مبالغ به في السنوات الأخيرة مقارنةً بالإيرادات، مع زيادة عدد اللاعبين الأجانب، وعدم وجود سقف للرواتب.

التحديات التي تواجه حوكمة القطاع الرياضي

في ظل التحديات التي تواجه القطاع الرياضي المتعددة والمتشعبة والتي يصعب علينا ذكرها جميعها في هذه القضية، ولكن بشكل عام، يصعب علينا تطبيق الأنظمة إذا لم تكن هيكلة قطاع الرياضي واضحة. والفكرة العامة للتحدي الرئيسي الذي تناقشه الورقة وفق الآتي:

  • الحوكمة هي عبارة عن إخضاع المؤسسة لمجموعة من الأنظمة والقوانين والقرارات التي تكفل لها إدارة رشيدة ونظاماً يحقق الشفافية والمساءلة، من أجل ضمان التميز في أداء المؤسسة وجودة مخرجاتها. ويتم ذلك عن طريق تنظيم العلاقة بين الأفراد داخل المؤسسة وخارجها. والتحدي الذي واجهته عند دراسة هيكلة القطاع الرياضي والتنظيم القانوني لها، هو الغموض في الهيكلة الإدارية والغموض في المهام ومستوى الاستقلالية والتبعية لوزارة الرياضة.

على سبيل المثال، عند الحديث عن هيكلة قطاع الرياضة في المملكة، فالقطاع الرياضي كمؤسسات إدارية تتكون من ثلاث مؤسسات. المؤسسة الأولى والعليا هي وزارة الرياضة. المؤسسة الثانية هي الاتحادات الرياضية، والمؤسسة الثالثة هي اللجنة الأولمبية السعودية. فوزارة الرياضة هي تابعة للسلطة التنفيذية ولها شخصية اعتبارية ويتبعها الاتحادات السعودية، في حين أن اللجنة الأولمبية هي هيئة رياضية عليا سعودية ذات شخصية اعتبارية مستقلة عن وزارة الرياضة، ولكن ترعاها الدولة وتشرف عليها وزارة الرياضة وتساعدها على تحقيق أهدافها. وتعتبر اللجنة الأولمبية الهيئة الوحيدة التي تمثّل المملكة في الدورات الإقليمية والعربية والقارية والدولية والأولمبية بالتعاون مع الاتحادات الرياضية الوطنية. وبالتالي، يظهر لدينا تساؤل واضح، ما هو الهيكل التنظيمي للإدارة في كل من هذه المؤسسات الثلاث؟ وهل بالفعل هناك مراعاة لتجنب تعارض المصالح، والرقابة الداخلية والمساءلة والشفافية؟

  • تعمل وزارة الرياضة على رفع جودة الأندية الرياضية، بدليل الأنظمة التي تمت مناقشتها في الجزء أعلاه. لكن، السؤال المطروح، الحوكمة هي عبارة عن مبادئ عامة، لا يمكن تحقيقها عندما لا يتم إعادة هيكلة المنظومة ككل. وتشمل إعادة هيكلة المنظومة في وجود نظام رياضي يحكم تعامل الوزارة واللجان والاتحادات، ويبين نوع العلاقة ومهام كل جهة. لأنه من دون ذلك، فستكون كل الجهود المبذولة لحوكمة النوادي مثلاً لا تؤتي بثمارها المرجوة، إذ إن المنظومة ككل تعاني من غموض تشريعي وإداري. فالأنظمة الرياضية والتي هي تعتبر أساس البناء لحوكمة مؤسسات الرياضة. مثلاً، في المادة الأولى من نظام الاتحادات الرياضية واللجنة الأولمبية “الاتِّحاد الرياضي لكُل لعبة أو نشاط لهُ علاقة بالرياضة يُعتبر هيئة رياضية ذات شخصية اعتبارية، تُساعِدُها الدولة على تحقيق أهدافِها ماديًّا”. كما أن المادة الثامنة من ذات النظام قالت: “تُعتبر اللجنة الأولمبية العربية السعودية هيئة رياضية ذات شخصية اعتبارية، تُساعِدُها الدولة على تحقيق أهدافِها ماديًّا”. وفي الحقيقة أن اللجنة الأولمبية تدعمها الدولة مادياً وبشرياً، على الرغم من أنها مستقلة وتتبع للجنة الأولمبية الدولية.FIFA في حين أن الاتحادات تعتبر جهة اعتبارية تشرف عليها وزارة الرياضة، وتدعمها مادياً وبشرياً، لأنها تقع ضمن نطاق مهام الوزارة. في حين أنه في بعض المواضيع المتعلقة باللاعبين، فهم يتبعون لإشراف اللجنة الأولمبية. وفي نظام اللجان -أعتقد- مثل هذه الهيكلة الضبابية غير الواضحة في نظام ولا الواضحة في لوائح، والتي كان من الصعب التعرف عليها من دون اللجوء إلى أشخاص يعملون ضمن هذه الهيكلة، حيث يشير إلى أنه من المستحيل تماماً وضع إطار عام لحوكمة القطاع الرياضي بشكل عام، وبعدها العمل على حوكمة الجهات التي تشرف عليها وزارة الرياضة. فالنظام بحد ذاته قديم وضبابي لا يتناسب مع المرحلة التي نعيشها. وهذا ما يجعل اللعبة أياً كان نوعها، ضعيفة جداً؛ لأنه ليس هناك وضوح في الرؤية والمهام. وبالتالي، سنجد أشخاصاً يعملون في الوزارة والاتحادات واللجان الأولمبية، مما يعني أن موضوع تعارض المصالح سيكون على رأس القائمة التي ستقودنا لممارسات غير مشروعة، وقد تدخل أحياناً في قائمة جرائم الفساد. ونظراً لأن الرؤية القانونية ضبابية، فإن اكتشاف جرائم الفساد سيكون مهمة شبه مستحيلة، إذ إن العلاقات الشخصية الداخلية محكمة بين الأفراد العاملين في القطاع، ويستحيل اكتشاف أي تجاوزات قانونية بناءً على ذلك. وبالتالي، اللعبة الرياضية ستلعب بها الريح ولن تصل لمرحلة المنافسة على الصعيد الدولي ما دام أن عدم الوضوح في التشريعات واللوائح هي الأساس.
  • بناءً على كل ما سبق، فأكبر تحدٍّ يواجه حوكمة قطاع الرياضة هو ضبابية التنظيم القانوني من حيث تحقيق الفصل بين المهام للجهات التي تعمل على إدارة القطاع الرياضي، بجانب تداخل المصالح لدرجة تقودنا لتعارض المصالح. وعند وجود تعارض المصالح يعني، أن معدل النزاهة سينخفض، وسيترتب عليه انخفاض مستوى الشفافية والمساءلة والرقابة الداخلية.. إلخ. وبناءً عليه، أي نادٍ يعمل تحت منظومة أساس حوكمتها ليس واضحاً، فكيف لها أن تضمن كفاء تطبيق القوانين التي تم تشريعها من أجل رفع نزاهة الأندية واللعب الكروي مثل ما تم توضيحه سابقاً.

محاولة حوكمة القطاع الرياضي وفقاً للمعطيات الحالية

لا نستطيع إعطاء صورة واضحة لكيفية حوكمة القطاع من دون العمل على أنظمة الرياضة بحد ذاتها. ولكن، هذا يعتبر اجتهاداً شخصياً للحوكمة وفقاً للمعطيات المتوفرة لنا حالياً.

عند الحديث عن الحوكمة للمؤسسات، فهناك اختلاف بسيط بين حوكمة القطاع العام والقطاع الخاص، والتي يصعب شرحها بالتفصيل، وهذا ما يهمنا العمل عليه، حيث إن حوكمة القطاع الرياضي لا يمكن إفراد عملية الحوكمة على مجرد الأندية، وإنما المنظومة الرياضية ككل هي من تحتاج العمل عليها، ولكن كل مؤسسة على حسب طبيعتها، وطبيعة المهام الموكلة لها، وهدفها النهائي. هل هدفها خدمة الصالح العام أم الربح؟ فمثلاً الوزارة والاتحادات واللجان ينطبق عليها معايير حوكمة القطاع العام، في حين أن الأندية التي يتم دعمها حالياً لتصل لدرجة أنها تكون قادرة على أن تحقق أرباحاً من أعمالها، فستخضع لمعايير حوكمة القطاع الخاص، حيث إنها سيتم تحويلها مع الوقت لشركات. لذلك يمكن تصنيف الحوكمة للقطاع الرياضي وفقاً لتصنيف المؤسسة المعنية، هل هي تنتمي للقطاع العام، أو للقطاع الخاص؟ ويمكن الإشارة إلى ذلك بالرسم التالي:

 

وبالطبع، المعايير السابقة، يمكن الإسهاب فيها بشكل دقيق ومفصل، ولكن نظراً لأن هذه الورقة تركز على حوكمة القطاع الرياضي، بشكل يهدف إلى الوصول لمستوى الاحترافية للوصول للبطولات العالمية من جهة، وللاستفادة من الرياضة اقتصادياً وسياسياً، خصوصاً في ظل حب الشعوب نواديهم وتأثرهم العاطفي بنجوم الرياضة. فسيتم التركيز بإيجاز على ركنين يشكلان تحدياً كبيراً أمام وزارة الرياضة يجب مواجهته والتغلب عليه. وهما مسألة اللوائح التنظيمية والإدارية والعدالة والثقة في مؤسسات القطاع الرياضي. وبالطبع سيتم الحديث عن تعارض المصالح والتي يرتبط بها موضوع المساءلة والشفافية، وموضوع التشريعات والقوانين واللوائح وتطبيقها والتقاضي.

  • اللوائح التنظيمية والإدارية:

من ضمن أهم الأهداف التي يسعى لها نظام اللعب المالي العادل هو السيطرة على الشؤون المالية للأندية وتحسين الكفاء الاقتصادية لها، وضمان حقوق الدائنين. وهذا لا يكون إلا وفقاً لنظام مالي متكامل داخل الأندية، والتحدي القائم الآن هو منعكس على مدى قدرة النادي على بناء نظام إداري ومحاسبي قوي ومتكامل من أجل تحقيق معايير الحوكمة والكفاءة المالية، والتحديات التي تواجهنا في هذا الصدد متنوعة، من أهمها أن الأندية المختلفة بحاجة إلى متخصصين سواء من الجهاز الحكومي المتمثل في وزارة الرياضة وأجهزته المنبثقة منه، وإلى تدريب مهني يعتمد على تطوير كفاءة العاملين في الأندية. فمثلاً، نظام اللعب المالي العادل يهتم بألا تكون مصروفات النادي أكثر من إيراداته، وهذا أمر ممتاز، لكن معنى ذلك أن الأندية ذات الميزانية المهلهلة، لن تستطيع إعادة هيكلة نواديها، ولا أن تبني نظام حوكمة ومحاسبة، ولا أن تطلق لوائح داخلية تتناسب مع مؤسساتها، كما أن النوادي الكبيرة، عاشت أعواماً مديدةً من دون وجود مثل هذا النظام.

بالطبع أثَّر سلباً على عملها، وهذا رتّب عليها إخفاقات متعددة على الصعيد العملي في مجال اللعب وعلى الصعيد الإداري، وأدى إلى تراكم الديون أحياناً عليها. إذاً السؤال هنا كيف يمكن الأخذ بيد النوادي الرياضية؟ قدمت وزارة الرياضة الدعم المالي بناءً على تحقيق النوادي لمعايير التصنيف الإداري. ولكن، كيف يمكننا أن نضمن جودة لوائح الحوكمة وهيكلتها الإدارية لهذه النوادي؟ هذا يكون بعدة أمور، منها:

  • تشكيل لجان متخصصة من قبل الجهات الرسمية ذات العلاقة لدراسة وضع هذه النوادي، وبناء لوائح بعضها إلزامية وأخرى استرشادية للحوكمة الأندية.
  • الاستعانة بذوي الخبرة العملية والأكاديمية لتقديم العون لهذه النوادي تحت رقابة الجهات الرسمية، سواء من قبل وزارة الرياضة ذاتها أو الجهات الأخرى.
  • التركيز على جودة التدريب، إذ إن تدريب العاملين في الأندية أمر هام، ولكن هناك نوعان من التدريب، تدريب يمنحك شهادة لا تضيف لمعرفة ومهارات المتدرب الشيء الكثير، وتدريب مهني على أساس معايير علمية ومهنية وتطبيقية، يستفيد منها المتدرب عن طريق استقراء تجارب مختلفة ومقارنتها بتجربته داخل مجال عمله. وهذا عمل لا يمكن أن يتم إلا بفريق عمل متكامل بتخصصات مختلفة، وبمستوى علمي مرتفع.
  • العدالة والثقة في المؤسسات الرياضية:

تعاني المؤسسات الرياضية حالياً انخفاضاً في معدل الثقة بعدالته ونزاهتها، وهذا أمر خطير، خصوصاً في مجال الرياضة، إذ إن العاطفة هي المسيطرة على الجماهير، وبقول الجماهير، يعني ليست ثقة فرد أو مجموعة أفراد، وإنما جمهور من الناس، قد يصل لمشجعين خارج المملكة. وبناءً عليه، من أجل رفع معدل الثقة، لا بد من الاهتمام بثلاثة أمور وهما: كفاءة التشريعات الرياضية، وعدالة تطبيقها، وطريقة التقاضي. ففي مجال الرياضة، تقع عقبة تعارض المصالح بشكل منتشر، والسبب هو الفراغ التشريعي فيما يخص هذا الموضوع في مجال الرياضة، بجانب تقديم بعض المصالح الشخصية والنابعة من التعصب الرياضي على الالتزام بالأنظمة المعمول بها، ووجود بعض التصرفات التي تتعارض مع أنظمة مكافحة الفساد والتي تؤثر في عملية تطبيق اللوائح الخاصة بالرياضة. كذلك، فإن أسلوب التقاضي يعتمد على لجان شبه قضائية تابعة لوزارة الرياضة متمثلة في اتحاداتها، وهذا نراه أمراً ينطوي على تداخل في السلطات بين السلطة القضائية والسلطة الإدارية، فالقاضي هو من يُطبّق القانون وهو الحكم، وهذا أمر يساهم بشكل كبير للتشكيك بنزاهة الأحكام الصادرة من لجان فض المنازعات. ويمكن معالجة آثار انخفاض معدل الثقة في عدالة المؤسسات الرياضية عن طريق الآتي:

  • تشريع أنظمة وقوانين تتعلق بموضوع تعارض المصالح في القطاع الرياضي، حيث إن تعارض المصالح في القطاعات الأخرى تختلف طبيعتها عن طبيعة تعارض المصالح في القطاع الرياضي.
  • فض المنازعات الرياضية يفترض أن تكون تابعة لوزارة العدل، وتكون محكمة رياضية، قضاتها متخصصون في القانون الرياضي، يتم تدريبهم وتعليمهم أسس القضاء من ناحية، كما يخضعون لرقابة وزارة العدل والمحاكم التي ستكون تابعة لها، وبذلك ستنخفض نسبة التشكيك في نزاهة القرارات بخصوص المنازعات الرياضية.

 التعقيبات:

  • التعقيب الأول: د. أيمن الرفاعي

تحدثت كاتبة الورقة الرئيسة عن عدة أمور متعلقة بالقطاع الرياضي ومن أبرزها الآتي:

  • رؤية المملكة 2030 في الحوكمة: ولكن لم توضح ما هي رؤية 2030 وكيف ترتبط بالقطاع الرياضي وما هي المؤشرات التي لا بد من أن تحقق وفق رؤية 2030.
  • الحديث عن جهات القطاع الرياضي: وتم ذكرها كثلاثة قطاعات؛ وزارة الرياضة، اللجنة الأولمبية السعودية، الاتحادات “الاتحاد السعودي لكرة القدم”، ولكن لم يتم توضيح ما هو دور كل قطاع على حدة، وما هو الارتباط التنظيمي بينهم، وما هو دوره ومسؤولياته ودوره في الحوكمة؟
  • استراتيجية دعم الأندية “الحوكمة”: هذه الاستراتيجية وصلت للقارئ أنها بمثابة مشروع حوكمة مماثل لحوكمة الشركات؛ ولكن حقيقة هي مختلفة تماماً عن ذلك، ولم توضح بشكل عام عن أهدافها وبشكل خاص عن النتائج المرجوة حتى وإن تم وضع الرابط الخاص بذلك، فالقارئ غير المتخصص وحتى المتخصص لن يستوعب مدى تشعب وتعمق الأندية.
  • برنامج اللعب المالي النظيف: هذا البرنامج وُضِع تجربة لمدة ثلاث سنوات وليس رسمياً وإلى لآن خطته غير مكتملة وهو موجود في دول مجاورة ولا أعتقد أن المقارنة مكتملة.
  • حوكمة الشركات والأندية: لم يتضح هل الأندية في المملكة العربية السعودية هي خاصة وتعتبر شركات أم هي حكومية أو أهلية؛ ولكن تتخذ شكلاً آخر غير الشركة مثل جهة غير ربحية؛ وفي حال وقوع مخالفة ما هو النظام المطبق؛ هل هو نظام مكافحة الفساد؟ أم يحال للنيابة العامة؟ أم يعامل كموظف عام أو موظف خاص؟ لا يوجد إجابات واضحة.
  • الفساد والعبث المالي مفتعل: المقال يوحي للقارئ أن منسوبي الوسط الرياضي يتقصدون عدم الالتزام بالأنظمة واللوائح؛ ولكن الحقيقة أن الأنظمة واللوائح متداخلة وضبابية وغير واضحة، فلا يمكن أن نقول إن معظم الممارسات مخالفة للنظام.
  • شرح الهيكل التنظيمي للحوكمة داخل المؤسسات: مشكلة القطاع الرياضي لا تكمن في الهيكل التنظيمي بقدر أنه للآن الأنظمة غير واضحة ومتشعبة، فوجود هيكل تنظيمي للحوكمة لا يعني القضاء على المشكلة.
  • نظام الرياضة: لم يعرج الكاتب أنه للآن نفتقر للنظام رياضي شامل مثل ما هو معمول به في الدول المجاورة، فعلى سبيل المثال: وزارة الرياضة ما زالت تعمل على تنظيم الهيئة قبل تحولها لوزارة.
  • عدم التفرغ وكثرة اللجان: لم يتم التطرق إلى أن معظم الوظائف الرياضية هي عبارة عن عضويات لجان وأعمال استشارية وبدوام جزئي، وهذه تخلق بيئة خصبة للتحايل على الأنظمة وهدراً مالياً غير محوكم.
  • وأخيراً وليس آخراً: أعتقد أنه ثمة حاجة إلى توضيح أدوار كل قطاع على حدة، وما هو التسلسل التنظيمي بينهم مع الربط النظامي، مع ذكر نبذة مختصرة عن دور رؤية 2030 في الحوكمة، مع تبيان الفروقات بين حوكمة الشركات والأندية وما هي الأنظمة واللوائح المنظمة للقطاع الرياضي، مع توضيح متى وكيف تطبق أنظمة الرقابة المالية ومكافحة الفساد وغسل الأموال على أجهزة القطاع الرياضي.

 

  • التعقيب الثاني: أ. أحمد إبراهيم المحيميد
  • مقدمة

في البداية لعلنا نتفق أن الأنظمة الأساسية للاتحادات الرياضية الدولية “فيفا” تنادي باستقلال الجهات الرياضية الوطنية عن أجهزة الدولة فنياً وإدارياً وتفرض عدم تدخل الدولة أو الحكومة في شؤون الأندية والاتحادات الرياضية، خاصة فيما يتعلق بالأمور الفنية والإدارية في الألعاب المختلفة، إذ إنها تحرص كل الحرص على أن تكون للأندية والاتحادات الرياضية الوطنية استقلالية فنية رياضية في أمورها وشؤونها الفنية والإدارية حتى تكون لهذه الأندية والاتحادات الاستقلالية الرياضية في اتخاذ قراراتها وإدارة شؤونها وأمورها الرياضية.

إن اللوائح والأنظمة وما يصدر عنها من لوائح فرعية هي التي يستمد منها “فيفا” قوته، وتطبيق هذه اللوائح والأنظمة على الجميع بلا استثناء، وقد شددت الفيفا في كافة الأنظمة واللوائح الرياضية وفي كافة المناسبات على كافة الدول أن تُعدِّل أنظمتها ولوائحها الداخلية وقوانينها التي تدير بها كرة القدم، بحيث تتوافق ولا تتعارض مع أنظمة ولوائح “فيفا”… ورسالة أخرى أقوى وأشمل وأجمل، مَن لا يريد أن يطبق أنظمة وقوانين “فيفا” فإنه سيكون خارج الحسابات والإبعاد والإيقاف الفوري، وبالتالي تصبح الجهة التي لا تُطبِّق لوائح الفيفا خارج شبكة “فيفا”. والسبب الرئيس في ذلك أن “فيفا” وفي المادة العاشرة من نظامها وفي الفقرة (أ) من هذه المادة، التي تشير إلى أن الاتحاد الأهلي، حينما ينضم للـ “فيفا” عليه الالتزام بالنظام الأساسي واللوائح والقرارات كافة التي تصدر عن “فيفا”.

 

  • اللجان القضائية:

ألزم الاتحاد الدولي “فيفا” -من خلال الأنظمة الأساسية للاتحادات الدولية الرياضية- وأوجب على الاتحادات الوطنية إنشاء محاكم (لجان قضائية) خاصة بها تكون لها استقلالية تامة عن النظام القضائي في الدولة مهمتها حل النزاعات والمشاكل القائمة بين الأندية واللاعبين أو الإداريين أو المدربين. وفقاً لأنظمة وقوانين ولوائح الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” وكذلك حل المشاكل القائمة بين الاتحاد والأندية الأعضاء ولاعبيهم وإدارييهم ومدربيهم. ومن ذلك الاستثناء الوارد في نظام العمل السعودي:

المادة السابعة:

تم تعديل هذه المادة بموجب المرسوم الملكي رقم (م/46) وتاريخ 5/6/1436هـ؛ لتكون بالنص الآتي:

“1- يستثنى من تطبيق أحكام هذا النظام كل من:

ب- لاعبو الأندية والاتحادات الرياضية ومدربوها”.

لذلك فقد حرصت الاتحادات الدولية على أن يكون للاتحاد الوطني خاصية وميزة الفصل في القضايا أو النزاعات التي تنشب بين اللاعب أو الإداري أو المدرب والنادي بشكل أسرع من القضاء العادي. على أن يكون تشكيل واختصاص هذه اللجان وفق ضوابط ولوائح الفيفا.

ذلك أن إجراءات التقاضي أمام المحاكم قد تأخذ وقتاً طويلاً لا يتم حسم النزاع فيه بالسرعة اللازمة ولخصوصية كرة القدم ولتوحيد أنظمة وقوانين الألعاب الرياضية في كافة دول العالم وحتى لا يتوقف حال اللاعب والنادي وكلاهما يتضرر حتماً من هذا التأخير.

 

  • الحوكمة:

إن تفعيل وتطبيق الحوكمة الرياضية الرشيدة والفعالة بشكل جيد يساعد على ديمومة ومرونة وقوة الأندية الرياضية ويمنحها الفرصة للاستقرار الإداري وإطالة العمر الزمني للعبة وللنادي ويدعم تحقيقها للبطولات والمنافسات الدولية والمحلية. فضلاً على أن حوكمة الأندية الرياضية سترسخ مبدأ فصل السلطات، ومنح الصلاحيات وممارستها بين السلطات الثلاث، (الجمعية العمومية، ومجلس الإدارة، والإدارة التنفيذية)، الأمر الذي ينعكس على سير عملية تحقيق الأهداف الاستراتيجية للنادي بحيث يكون مجلس الإدارة هو المعني في الإشراف على الإدارة التنفيذية لتحقيق تلك الأهداف، كما على مجلس إدارة النادي التأكد من تحقيق هذه الأهداف المرجوة والمرسومة وفق مؤشرات أداء القياس المعتمدة، إضافة لما سبق، تفعيل الحوكمة سيؤدي حتماً لتعزيز مبدأ الرقابة والشفافية والإفصاح، ويمنح الموثوقية العالية حتى تصل لمرحلة التميز المؤسسي.

  • الخطط الاستراتيجية:

من منطلق رؤية المملكة 2030 أدرك الاتحاد السعودي لكرة القدم أهمية وضع الخطط الاستراتيجية للأندية واللجان والاتحادات الرياضية، لكي تعمل بخطة واستراتيجية مسبقة تتماشي مع مستهدفات الرؤية والتي منها أصدر لائحة حوكمة الأندية الرياضية مع ضرورة التنسيق والتكامل والتخطيط مع كافة الجهات ذات العلاقة بالقطاع الرياضي سواء بالقطاع العام أو الخاص وخاصة مع وزارة التعليم والقطاعات العسكرية والإعلام – مع ضرورة التركيز في بناء القدرات البشرية الرياضية من الصغر وهي الاهتمام بالفئات السنية وتجهيزهم للمستقبل.

  • تعارض المصالح:

مع صدور لائحة الأخلاق الدولية من الاتحاد الدولي لكرة القدم بـ الفيفا CODE OF ETHICS) FIFA) عام 2018م، ألزم الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” الاتحادات المحلية لكرة القدم على مستوى العالم بتطبيق نصوص المواد 13 حتى 29 من اللائحة بشكل إلزامي.

ومن أهم تلك المواد الملزمة، هي المادة التي تحمل عنوان “تضارب المصالح” وهي تعني ازدواجية المناصب، بأن يتمتع شخص بمنصب مثلاً أن يكون رئيس نادٍ أو نائب أو عضو، ولديه منصب آخر في نفس الوقت بالمنظمة الرياضية مثلاً رئيس اتحاد أو نائب أو عضو اتحاد أو اللجنة الأولمبية أو اللجان التابعة للاتحاد المحلي، مما يؤدي إلى تضارب المصالح في مشاركته في أي قرار أو ترشيح نفسه أو تعيينه أو إعادة تشكيل بعض اللجان لانتخابات في المنظومة الرياضية.

حيث فرض الاتحاد الدولي فيفا عقوبات على مخالفة هذه المادة (تضارب المصالح) بغرامة مناسبة لا تقل عن 10.000 فرنك سويسري، وكذلك تجميد النشاط الرياضي وإيقاف الاتحاد المحلي وفرض حظر على المشاركة في أي نشاط متعلق بكرة القدم لمدة أقصاها سنتين.

  • سياسة الرقابة والالتزام:

سبق أن أقر مجلس الاتحاد السعودي لكرة القدم تعديل 38 مقترحاً في النظام الأساسي في اتحاد القدم. وتعتبر أبرز التعديلات الـ 38 رفع عدد أعضاء مجلس الإدارة، والتأكيد على إنشاء (3 روابط للمدربين والحكام واللاعبين) والالتزام بأنظمة ولوائح الفيفا، وفرض الرقابة المالية والتأكيد على أن السلطة التشريعية العليا في الاتحاد لمجلس الإدارة.

  • الإعلام والتعصب الرياضي:

وجَّه النقد للإعلام الرياضي على أنه حادَّ عن دوره الأساسي وأصبح محركاً أساسياً للتعصب والاحتقان في الشارع الرياضي، من خلال مشاركة الإعلاميين المتعصبين لألوان الأندية، والمواقع الإلكترونية والرياضية وما بها من عناوين مثيرة، وما تحويه من أخبار مغلوطة، والتأثير المحتمل لذلك كله على الجماهير خاصة الصغار والشباب منهم.

  • ضوابط الحد من التعصب الرياضي:
    • نبذ التعصب من وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.
    • الالتزام بميثاق الشرف الأخلاقي الإعلامي.
    • إعادة تنظيم الإعلام الرياضي ليقتصر على المتخصصين في الإعلام.
    • إقامة الدورات القانونية والتثقيفية لزيادة الوعي ورفع كفاءة العاملين بمجال الإعلام الرياضي.
    • وضع ضوابط ولوائح وعقوبات فعالة وتفعيل الحوكمة في الإعلام الرياضي.
  • الأنظمة واللوائح الرياضية:

ورد في “خامساً” من قرار مجلس الوزراء رقم (95) وتاريخ 5/2/1442هـ بشأن تنظيم وزارة الرياضة: استمرار وزارة الرياضة في مراجعة الأنظمة والتنظيمات والأوامر والمراسيم الملكية والقرارات في ضوء ما تضمنه الأمر الملكي رقم (أ/455) وتاريخ 1/7/1441هـ، وإذا ما تبيَّنت الحاجة إلى تعديل بعض أحكامها التي تتصل بشكل مباشر أو غير مباشر بعملها، فتقوم بالرفع بما تراه في هذا الشأن.

وختاماً مرفق رابط الأنظمة واللوائح الرياضية:

https://mos.gov.sa/ar/rulesandregulations/Pages/default.aspx

 

  • المداخلات حول القضية
  • الرياضة كظاهرة اجتماعية ضرورية.

تُفسر الرياضة كظاهرة اجتماعية وكنشاط خلاّق من منظوريْن سوسيولوجيين؛ منظور بنائي- وظيفي، ومنظور صراعي. على المستوى البنائي-الوظيفي فإن الرياضة بكافة صورها نسق أو نظام متكامل يعمل مع عدة أنظمة كالتربية، والتعليم سواء في المدارس أو الجامعات. وهي تعمل وتتكامل مع النسق الاقتصادي بحكم أنها مُدِرَّة للدخل من مباريات وإعلانات وملاعب وملابس وشعارات وتذاكر وبيع وشراء لاعبين وبناء وتأجير منشآت، ما يعني أن الرياضة تخلق عدداً كبيراً من الوظائف والمهن في المجتمع.

كما أن الرياضة ترتبط بالنسق الصحي؛ فممارستها تقلل من الأمراض كالسمنة والسكري والعجز الجسدي، مما ينعكس إيجاباً على صحة المواطنين وبالتالي خفض أعداد المرضى وتكاليف العلاج وإشغال أسرَّة المستشفيات.

وعلى مستوى النسق السياسي فإن الرياضة تُقرِّب بين الشعوب وتخلق التنافس البناء فيما بينها، بل إنه يمكن النظر اليها كجزء من الدبلوماسية الناعمة، وذلك عند توظيفها بصورة خلاقة بعيداً عن التعصب والشحن الجماهيري.

ومن المنظور الصراعي (الماركسي) فإن الرياضة تظل سلعة تتداولها فئات متنفذة في المجتمع، تتعامل معها من منظور الربح والخسارة واستغلال اللاعبين والمدربين في صفقات البيع والشراء والتنازل لتصبح ميداناً للاحتكار تماماً كأي سلعة يتم تداولها في السوق، ولا يقف الأمر عند ذلك، بل إن البعض يوظفها أداة سياسية في التعامل مع الخصوم وإثارة الجماهير وذلك عندما يُشِيعون البلبلة والتعصب. وهي أيضاً أداة لتكريس المكانة الاجتماعية لبعض الفئات التي تجد فيها الميدان الرحب لبناء قاعدة جماهيرية عندما تعجز عن استخدام الأدوات الأخرى الأقل صخباً.

  • التعريف بالحوكمة في القطاع الرياضي.

تزايد مؤخراً الاهتمام بمصطلح الحوكمة وبخاصة في “عقد التسعينيات من القرن العشرين، وذلك نتيجة لما شهده الاقتصاد العالمي من التداعيات والانهيارات المالية والمحاسبية لعدد من الشركات العالمية كالتي حصلت في جنوب شرق آسيا، وشركة (إنرون) وما تبعها من انهيار لشركة آرثر – أندرسون إحدى شركات التدقيق الكبيرة في العالم”.

ولقد تنوعت التعريفات الخاصة بمصطلح الحوكمة، “فتعّرفها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بأنها مجموعة من العلاقات التي تربط بين القائمين على إدارة الشركة ومجلس الإدارة وحملة الأسهم وغيرهم من أصحاب المصالح، كما تعرفها مؤسسة التمويل الدولية (IFC) بأنها النظام الذي يتم خلاله إدارة الشركات والتحكم في أعمالها”.

والحوكمة في المؤسسات الرياضية تعد أمراً هاماً لضمان تقدم الرياضة وتطورها، كما أن الحوكمة تهدف في الأساس إلى زيادة الشفافية وتنظيم العلاقة بين أصحاب المصالح في هذه المؤسسات الرياضية ومنع تضاربها والحد من الفساد، كما تتضمن الحوكمة مجموعة من الأنظمة والقوانين الخاصة بالرقابة على أداء المؤسسات الرياضية، وهي تنظم العلاقة بين مجلس الإدارة ورؤساء المصالح والعاملين.

أيضاً تساعد الحوكمة الإدارة على معالجة بعض المشاكل وتوسيع مشاركة العاملين في وضع الأهداف والخطط واتخاذ القرارات، وهذا التوجه له دور في زيادة فعالية أداء العاملين في المؤسسة ويزيد من شعورهم بالراحة والقبول بالمهام والواجبات المكلفين بها، كما ينطوي الإطار العام للحوكمة على تحديد وتوزيع للحقوق والمسؤوليات على مختلف الأطراف في المؤسسات الرياضية.

ومؤخراً “اجتذب موضوع حوكمة النوادي الرياضية الكثير من الاهتمام وعلى نطاق واسع خصوصاً في المملكة العربية السعودية.. كما وضعت وزارة الرياضة في المملكة العربية السعودية معايير لتشجيع تطوير منظومة الحوكمة من حيث الأهداف الاستراتيجية وأصبحت متطلباً للحصول على الدعم”.

ويلاحظ في هذا الإطار أن الحوكمة ليست مجرد شعار وإنما أسلوب عمل ومعايير جودة مهنية، وعلى سبيل المثال هناك شركات تحصل على. الأيزو ٩٠٠١ مثلاً وتعلن أنها حاصلة عليه كنوع من التسويق لها، رغم أنه لا يتجاوز كونه تنظيم أعمال إدارية ولا علاقة له بالمخرجات؛ فهناك جودة منتج، وجودة أعمال إدارية، وجودة أداء.

  • معوقات حوكمة القطاع الرياضي في ضوء الوضع الراهن.

أطلقت وزارة الرياضة مبادرة لحوكمة النوادي الرياضية، كما أطلقت الوزارة التصنيف الإداري لمقدار الدعم المالي لمن يلتزم بمعاييرها، كذلك من الإنجازات المهمة لوزارة الرياضة هي إصدار نظام اللعب المالي النظيف والذي يسعى لمنع أندية كرة القدم المحترفة من إنفاق أموال أكثر، مما تُكسَب من أجل السعي لتحقيق النجاح، وبذلك لا تتورط في مشاكل مالية قد تهدد بقاءها على المدى الطويل. وهذه تعد مبادرة تحاول تقليل تعارض المصالح الذي ينشأ نتيجةً لدفع مبالغ ضخمة من قبل الأثرياء فقط من أجل شراء لاعب أو لمآرب أخرى.

وجميع هذه الجهود تعكس حرص واهتمام وزارة الرياضة بتطوير هذا القطاع؛ لكن المشكلة تكمن في عدم القدرة على تطبيق هذه الأنظمة بكفاءة على الرغم من جودتها، في ظل وجود ضبابية في حوكمة القطاع الرياضي ككل. ويكشف الاطلاع على الأنظمة الرياضية الموجودة حالياً واللوائح كذلك، الضبابية الشديدة جداً في القوانين التي تُوضِّح العلاقة بين وزارة الرياضة والاتحادات واللجان الأولمبية، ومن دون وضوح للعلاقة، ومهام كل جهاز والقوانين والسياسات التي تحكم هذه العلاقة، لن يستطيع أي متخصص في الحوكمة أن يُقدِّم خطة للحوكمة لهذا القطاع في ظل عدم شفافية العلاقة بين الأجهزة الإدارية من ناحية وعدم وضوح مصفوفة الصلاحيات لكل جهاز.. وعدم وجود قواعد تمنع وقوع تعارض المصالح.

والواقع أن تناول حوكمة القطاع الرياضي السعودي يقتضي التعرف على الخيط الرابط بين المؤسسات الثلاث “وزارة الرياضة – اللجان الأولمبية – الاتحادات الرياضية ” وذلك كما يلي:

  • وزارة الرياضة: لها تنظيم ولوائح داخلية تُنظم العمل الإداري والمالي في المنشآت والأندية الرياضية.
  • اللجنة الأولمبية؛ لها ميثاق لا يتعارض مع الميثاق الدولي، وهي تُشرف وتُنظم عمل الاتحادات والألعاب الأولمبية وفق الجمعية العمومية للجنة.
  • الاتحادات؛ هي شخصيات اعتبارية مستقلة تُعامل معاملة الكيان الاعتباري الخاص، وتعمل وفق نظام أساس تضعه الجمعية العمومية للاتحاد وله لوائحه ولجانه الخاصة.

وبعد الحديث عن حوكمة كل قطاع وتفصيله تفصيلاً دقيقاً، يتم البدء بربط العلاقة بين الوزارة واللجنة الأولمبية والاتحادات والأندية. على سبيل المثال؛ ما زال البعض يظن أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) هو الاتحاد الذي ينظم الرياضات وهذا غير دقيق.. لأن الفيفا جهة مختصة فقط بنشاط لعبة القدم وتندرج تحته اتحادات إقليمية مثل الاتحاد الآسيوي لكرة القدم ومنها يندرج الاتحاد الوطني المحلي مثل اتحاد كرة القدم السعودي.

وعليه فإنه لا يمكن تطبيق نظام واحد أو حوكمة موحدة على القطاعات الثلاث للأسباب التالية:

  • لأن وزارة الرياضة تتبع نظام مجلس الوزراء والأنظمة ذات العلاقة.
  • تتبع اللجنة الأولمبية الميثاق الدولي والدعم الحكومي كمعونة وهدفها نشر الوعي الرياضي ومكافحة المنشطات.
  • تتبع الاتحادات أنظمتها الأساسية وتعمل كقطاع أهلي.
  • ناهيك عن عدم وجود نظام للرياضة.

ويشير البعض إلى أن التنظير بخصوص حوكمة القطاع الرياضي أمر يسير، لكن الإشكال الأكبر في التطبيق، ويتضح ذلك في عدم رضا الجماهير والعاملين في الأندية وعدم قناعاتهم بعدالة حوكمة القطاع بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص. ويتفاقم ذلك مع معرفة ميول بعض المسئولين عن التنظيمات والأجهزة التي تنظر في القضايا وتصدر الأحكام.

وتجدر الإشارة فيما يخص التحكيم والقضاء الرياضي، ووفقًا للمادة 49 من النظام الأساسي لاتحاد كرة القدم تتألف اللجان القضائية بالاتحاد السعودي لكرة القدم مما يلي:

  • لجنة الانضباط.
  • ‌لجنة القيم والأخلاق.
  • ‌ لجنة الاستئناف.

ولا يُشترط أن يكون أعضاء اللجان القضائية في الاتحاد السعودي لكرة القدم أعضاء في المجلس التنفيذي للاتحاد، أو اللجان الدائمة/المخصصة التابعة للاتحاد، أو أي هيئات أو نوادٍ أخرى تابعة للاتحاد السعودي لكرة القدم؛ وتتألف “لجنة الانضباط” و”لجنة القيم والأخلاق” و”لجنة الاستئناف” من رئيس ونائب رئيس وثلاثة أعضاء؛ ويتعين على الرئيس ونائب الرئيس الحصول على مؤهلات قانونية مع معرفة وقدرات وخبرات موثوقة بشأن رياضة كرة القدم، ويقوم المجلس التنفيذي للاتحاد السعودي لكرة القدم بتسمية الرئيس ونائب الرئيس وأعضاء اللجان القضائية لدورة مدتها أربع سنوات، قابلة للتجديد.

وتذهب بعض وجهات النظر الأخرى إلى أن إشكاليات تطبيق الحوكمة ليست فقط في الأندية؛ فمعظم الشركات المحلية والدولية كانت وما زالت تُعاني من تطبيق الحوكمة وخاصة في الشركات العائلية. أما بالنسبة لموضوع الميول فهو مهم جداً في الرياضة والشخص الذي ليس له ميول لن يتابع الحدث الرياضي بشغف واهتمام؛ ولكن الإشكالية هي التحكم بالميول؛ بينما تكمن الإشكالية الأساسية فعلاً في الممكنات، فمثلاً الاتحاد السعودي لكرة القدم وفق تقريره المالي الأخير صرف أكثر من 40 مليوناً على لجنة الحكام في 6 أشهر وباقي اللجان أقل من مليون، والعمل جداً متعب وكبير ومتسارع. فالقضية الرياضية الانضباطية عمرها من 24 ساعة إلى أسبوع مضروبة في ٦٠ مباراة أسبوعياً؛ وعليه فالخطأ وارد وسوف يضخم مع الإعلام والجمهور؛ ولكن البعض من الوسط الرياضي يصنع الحدث بالتصيد وهذا نوع من الإثارة.

ولا أحد ينكر أن القطاع الرياضي مرت عليه عشرات السنوات مِن تكوُّن البيروقراطية فيه، لا سيما في بيئة تكاد تخلو من التشريعات ذات العلاقة بتحديد المهام والصلاحيات ومستوى الاستقلال.. إلخ. كل هذا ترتب عليه تداخل مصالح بين كثير من الأشخاص المهتمين فيه.. لا سيما أن المهتمين بهذا القطاع، يسعون لبذل الغالي والنفيس من أجل دعم فرقهم التي يعشقونها.. وربما يبكون من أجلها عندما تخسر؛ لكن هل إنكار ما يحدث في دهاليز هذا القطاع في مصلحة القطاع الرياضي؟ قطعاً لا.

ونعلم أن اللعبة الرياضية ابتُدعت بداية في بريطانيا وتم منعها فترة من الفترات، وعندما تم منعها بدأ الشباب بالانخراط في التحزبات السياسية، ومنها بدأ انتشار حالات شغب متعددة.. نتيجة لذلك، وبعد دراسة الوضع الاجتماعي، وجد أن الشباب لديه طاقة لا بد من امتصاصها.. ولا يمكن امتصاصها إلا بتوجيه هذا التحدب إلى الرياضة وأولها لعبة كرة القدم، وتطورت مع الوقت لتُشكِّل جميع الألعاب الرياضية، لذلك تهتم الحكومة البريطانية الآن بشكل لا يمكنكم تصوره بحماية قطاع الرياضة من الفساد المالي والإداري والجريمة والمخدرات.. لأن ذلك يعني انحداراً في مستوى اللعبة، مما يجعلها غير شيقة للمشجع، وبالتالي طاقة وحماس الشباب لأن يكون منصرف لشيء ليهز الأمن الاجتماعي أو الأمن القومي. مثلاً، لو لديّ مشجع لفريق، هذا الفريق نادراً ما يربح ولا يعرف حتى أن يقدم لمشجعيه مشاهدة ممتعة، طبيعي لن تجد هذا الشخص منصرفاً للتعصب الرياضي؛ ولكنه منصرف لتعصبٍ ضرره شديد على المجتمع.. وهذا ما يستفاد من التجربة البريطانية على مر قرون.

ولكن المشكلة عند مناقشة وضع القطاع الرياضي أنه ورغم الجهود المبذولة، إلا أن المشكلة أكبر من مجرد فقط لعبة تعاني من التعثر المادي، عندما تضع نظام اللعب المالي النظيف من أجل تقليل تعارض المصالح الذي يحدث بسبب تقديم أموال من الأثرياء للنادي لشراء لاعب مثلاً أو لدعم لاعب.. لدرجة أنها أحياناً تصل إلى ممارسات لا تليق باللعبة الرياضية وتفقدها روح المنافسة، فهنا من هو الرقيب؟

الرقيب هنا ليس واضحاً، وعدم وضوح الصلاحيات للرقيب وعدم وجد نظام رقابي صارم يضمن الالتزام بقواعد الامتثال وأخلاقيات العمل بالتأكيد سينتج عنه تضارب مصالح وتدخلات من داخل القطاع نفسه بسبب أن الحياد أحياناً يكون صعباً، فالإنسان كتلة مشاعر يصعب على البعض أن يكون محايداً اتجاهها، ولا يتم ضبطها إلا في حال وجود قانون وعقوبة على مخالفة القانون.

  • آليات حوكمة القطاع الرياضي السعودي.

لا شك أن المجال الرياضي وخصوصًا لعبة كرة القدم يمثل اهتماماً بالغاً للحكومات لارتباطه بشكل كبير برفاهية شباب الوطن وتمضية وقتهم بالمفيد، ومع تطور الرقابة في هذا المجال ومكافحة الفساد الذي طاله ردحًا من الزمن من قبل بعض المتنفذين وقت أن كانت اللعبة هواية، ومع تحول الأمر للاحتراف تحتم على الدول أن تطور قوانينها وتشريعاتها وهو ما تم في المملكة العربية السعودية في السنوات الماضية، ومع ذلك حتى نحقق حوكمة رشيدة وإنهاء تعارض المصالح يجب علينا تعديل وإلغاء التشريعات القانونية اللازمة بشكل يتوافق مع أنظمة الفيفا وكذلك الأنظمة القضائية الداخلية، كونه لو استمرت العشوائية القائمة قد يُعرِّض الرياضة السعودية لما حدث ضد الرياضة الكويتية من إيقاف دولي عن المشاركات الدولية والآسيوية.

وإن كان من المهم التوضيح هنا أن تدخل الحكومات في الرياضة قد يُعرِّض اتحاد كرة القدم لعقوبات مشددة قد تصل للإبعاد والإيقاف عن المشاركات الدولية، ولكن هذا ليس على إطلاقه، فالتدخل المقصود هنا ليس في سن الأنظمة واللوائح التنظيمية المتوافقة مع أنظمة الفيفا، بل في التدخل بالأمور الفنية الخاصة في كرة القدم، أما الأمور التنظيمية الأخرى، فهناك مجال كبير للدول في التنظيم.

وبالنظر إلى أن الرياضة أصبحت صناعة وتجارة ومحركاً للاقتصاد وأحد مصادر الدخل، بالإضافة للفوائد الاجتماعية الأخرى وذلك بتطوير البنية التحتية بالأحياء والملاعب والإعلام وتطور المجتمعات، وتحسين بناء الصحة الجسدية والنفسية للمجتمع، لذلك من المهم مراعاة الاستثمار والتمكين في الجانب الرياضي.

والتصور أن دخول الرياضة في الاستثمار والاقتصاد يتطلب وضع مزيد من الأنظمة واللوائح التي تفرض حوكمة أكبر؛ فالرياضة ثقافة مجتمعية تفرض المنافسة الشريفة وتحقيق العدالة بجانب تفعيل فوائدها الصحية والثقافية، حيث إنها تلعب دوراً محورياً وأساسياً في بناء الفرد السليم بدنياً وعقلياً واجتماعياً، فهي متعة للنفس وراحة للعقل وصحة للجسم ولها أثر إيجابي على الطباع والأخلاق والثقافة.

ثم يجدر الاهتمام بحصص التربية الرياضية لرفع ثقافة أخلاقيات وآداب الرياضة لدى طلاب وطالبات المدارس منذ سن مبكرة بجانب استثمار المواهب واكتشافها وتنميتها للاستفادة منها في المشاركات الدولية.

أما الإعلام الرياضي فيفترض به تشجيع الروح الرياضية والمنافسة الشريفة ونبذ التعصب ونشر أخلاقيات وآداب الرياضة بعيداً عن الميول، وهذا أمر يحتاج إلى تنسيق وتكامل بين قطاعي الرياضة والإعلام.

ولا شك أننا في أول الخطوات على الطريق الصحيح في تطوير العمل القضائي في اللجان الرياضية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال عودة الكثير من الألعاب الرياضية إلى الأندية بعد شطبها أو إيقافها.

العائد الاجتماعي من الرياضة وممارستها لا يمكن اختصاره بالعوائد المالية، حيث هناك العديد من العوائد التي قد لا يظهر أثرها مباشرة؛ ولكنها تحتاج إلى وقت، لذا جاءت الحوكمة لتساعد الأندية الرياضية في فتح أبوابها للرياضيين على اختلاف ميولهم من خلال زيادة عدد الألعاب المسجلة، اليوم وبعد نظام الحوكمة نجد نشاطات وألعاباً رياضية عادت من جديد والرياضة النسائية كذلك في طريقها للانتشار.

لذا فإننا بحاجة إلى وقت أطول لتقديم المقترحات حول هذا الموضوع، ومن الإنصاف أن تأخذ الاتحادات والأندية وقتها حتى يمكن تقييم هذا العمل.

وبرغم أن الحوكمة مسألة مهمة إلا أن أهم ما نحتاجه هو كيفية الخروج بمستويات أفضل لتطبيق هذه الحوكمة، وحتى لا تكون أدوات تنظيرية لا تنجح الممارسات على الواقع بتطبيقها بكفاءة عالية.. تماماً مثل ما حدث بشأن حوكمة الشركات، حيث أصدرت هيئة سوق المال لائحة حوكمة الشركات المدرجة في السوق عام 2017.. والتي يفترض أن يتحسن أداؤها بعد ذلك ويتوقف نزيف خسائرها.. لكن الواقع أنه أصبح يتم توظيف بعض مواد هذه الحوكمة لشرعنة الأخطاء والخسائر التي تعيشها عدد من تلك الشركات المدرجة في السوق. بل أصبحت الشركات تعلن عن خسائر قد تصل 80 ٪ من رأس المال، ثم تعلن تخفيض رأس المال، ثم تعلن زيادة رأس المال، ثم تستمر الخسائر، فتعلن تخفيضاً آخر لرأس المال ثم رفعه.

وفي ذات السياق فإن حوكمة قطاع الرياضة يجب أن يمر مبدئياً، بمرحلة تقييم المخاطر، وتقييم المخاطر هنا لا يعني سؤال من يعمل داخل القطاع؟ إذ إن التحزبات والعلاقات والمصالح المترابطة قوية جداً.. وهذا يعني أن المصداقية بنقل الوضع منخفضة جداً. ولعل الحل الأمثل لهذا الأمر، هو قرار من ولي الأمر بتشكيل لجنة لدراسة وضع القطاع، وهذه اللجنة يجب أن يكون تكوينها مدروساً للغاية، ولعل هذه الخطوة تكون أول خطوة يجب أن تُخطَى من أجل وضع نظام حوكمة متكامل.. وقواعد لأخلاقيات العمل وعقوبات على المخالفات الإدارية ومتابعة الالتزام بذلك. وبعدها نبدأ بعملية الحوكمة بناءً على ما تتوصل له اللجنة من نتائج؛ فإن كان هناك مخالفات لأنظمة الدولة بكافة أشكالها يتم المحاسبة عليها.. وتبدأ من هنا عملية البناء ما سينقل قطاع الرياضة نقلة نوعية، وستكون اللعبة الرياضية السعودية لعبة ممتعة لكل مشجعي الفرق وليست محصورة على فريقين أو ثلاثة، كما أن الازدهار سينتقل من لعبة كرة القدم فقط ليشمل جميع أنواع الرياضات.. وبالتالي سيصبح لمعظم أبناء المجتمع لعبة يحبها ويشجعها ويستمتع بمشاهدتها.

ومن أجل تطبيق الحوكمة في القطاع الرياضي بالصورة المأمولة، فثمة حاجة إلى:

  • رفع ثقافة الحوكمة في القطاع الرياضي.
  • تحديث لائحة حوكمة الأندية الرياضية.
  • إنشاء إدارة مختصة للإشراف على تنفيذ وتطبيق لائحة الحوكمة للأندية الرياضية.
  • تفعيل مبادئ الحوكمة وخاصة عدم تعارض المصالح والشفافية والإفصاح.
  • إصدار نظام قانون رياضي خاص.
  • فصل السلطة القضائية الرياضية عن اتحاد كرة القدم وإعادة تشكيلها ووضع نظام قانوني خاص بها.
  • الاستفادة من الخبرات القانونية المختصة والمؤهلة رياضياً.

 

  • التوصيات
  • العمل على تشخيص مشكلات قطاع الرياضة عن طريق لجنة مُشكَّلة بأمر من ولي الأمر، مكونة من: (هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، وزارة الداخلية، وزارة الموارد البشرية والشؤون الاجتماعية، وزارة الرياضة، وزارة الاستثمار، وزارة التجارة، وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان). وكل من هذه الجهات تعمل متعاونة لتشخيص المشكلات، سواء كانت مشكلات متعلقة بتعارض المصالح وما يلحقها من تصرفات مخالفة لأنظمة الدولة، أو مشكلات بخصوص من يجب أن يمنح الترخيص ومن يعتبر جهة حكومية أو غير حكومية.. إلخ.
  • بناءً على ما تتوصل له اللجنة (المشار إليها بالتوصية-1)، يتم إعادة هيكلة مؤسسات القطاع وما يتبع ذلك من إعادة تنظيمها إدارياً ووضع الضوابط والشروط للتعيين في اللجان التي ستتولى عملية الفصل في المنازعات الكروية. من أهمها: اشتراط تخصصات ذات علاقة وأهمها القانون، واشتراط وأخذ شهادات من المعهد العالي للقضاء بعد التعاون معه لإعطاء أصول النظر والفصل في المنازعات ذات الأساس القانوني. وبالتالي نستطيع حوكمة القطاع بشكل عملي وقابل للتطبيق.
  • أن يراعي مشروع إصدار النظام الرياضي وضع القواعد الأساسية لبناء اللوائح التنظيمية الداخلية ومن أهمها:
  • لوائح النزاهة وأخلاقيات العمل.
  • لوائح الشفافية والمساءلة والرقابة الداخلية.
  • اللوائح التنظيمية فيما يتعلق بإصدار الرخص والاستثمار في القطاع الرياضي.
  • وضع قواعد أساسية لبناء مصفوفة الصلاحيات للعاملين والمسؤولين في القطاع الرياضي.
  • ضرورة إخراج لجان الفصل في المنازعات التابعة للاتحاد من الجهاز التنفيذ والمتمثل في القطاع الرياضي. وإدخالها تحت منصة المحاكم.. وتحديد ما إذا كان نقلها للمحاكم العامة أو ديوان المظالم يعتمد على دراسة الإشكاليات القانونية والشكاوى التي ترد بخصوص كل ما يتعلق بالرياضة عن طريق استطلاع آراء الجهات ذات العلاقة.
  • وضع عقوبات لمخالفة القواعد ذات العلاقة بالسلوك الوظيفي وتعارض المصالح وجميع لوائح الحوكمة، وليس فقط وضع قواعد نظامية من دون توضيح عقوبة مخالفتها، لأنه طبيعي جداً من يأمن العقوبة فسوف يخالف النظام لا محالة.

 

  • المصادر والمراجع
  • النظام الأساسي للاتحاد السعودي لكرة القدم، المملكة العربية السعودية، 2021م.
  • نظام حوكمة الأندية الرياضية، وزارة الرياضة، متاح على الرابط الإلكتروني:

https://data-stars.com/wp-content/uploads/2021/01/Brochure-Sports-Governance-System-SGS-%D8%AD%D9%88%D9%83%D9%85%D8%A9360.V1.1.pdf

  • فؤاد بوزيدي وفيروز عزيز: دور مبادئ الحوكمة في تعزيز أداء العاملين في المؤسسات الرياضية، مجلة علوم الأداء الرياضي، العدد (1)، جوان 2019، ص ص 127-142.
  • راشد إبراهيم المطوع النعيمي: أثر تطبيق الحوكمة في المؤسسات الرياضية على الإنجازات الرياضية الأولمبية في دولة الإمارات العربية المتحدة من وجهة نظر صناع القرار، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الإمارات العربية المتحدة، 2015م.
  • محمود عبدالهادي عبدالحميد وآخرون: دراسة تقييمية لتطبيق معايير الحوكمة ببعض الأندية الرياضية بجمهورية مصر العربية، مجلة كلية التربية الرياضية، جامعة المنصورة، العدد (40)، نوفمبر 2020م.
  • حجاجي ثامر: تأثير تطبيق حوكمة الشركات على فتح رأسمال الأندية الرياضية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، جامعة محمد خيضر- بسكرة، الجزائر، 2016م.
  • محمد ياسين غادر: محددات الحوكمة ومعاييرها، المؤتمر العلمي الدولي “عولمة الإدارة في عصر المعرفة”، كلية إدارة الأعمال، جامعة الجنان، لبنان، 15-17 ديسمبر 2012م.
  • زهرة الناصر: حوكمة الأندية الرياضية، 14 مارس 2022م، متاح على الموقع الإلكتروني: https://maaal.com
  • يونس جعادي: تطبيق مبادئ الحوكمة ودورها في تحسين أداء العاملين في المؤسسات الرياضية، رسالة ماجستير غير منشورة، معهد علوم وتقنيات النشاطات البدنية والرياضية، جامعة محمد خيضر – بسكرة، الجزائر، 2017م.

 

  • المشاركون.
  • الورقة الرئيسة: د. نجلاء الحقيل
  • التعقيبات:
    • التعقيب الأول: د. أيمن الرفاعي
    • التعقيب الثاني: أ. أحمد إبراهيم المحيميد
  • إدارة الحوار: أ. عاصم بن عبدالوهاب العيسى
  • المشاركون بالحوار والمناقشة:
  • د. نجلاء الحقيل.
  • أ. أحمد المحيميد.
  • أ. عاصم العيسى.
  • د. وفاء طيبة.
  • أ. فهد القاسم.
  • أ.د. محمد المقصودي.
  • د. زياد الدريس.
  • أ. إبراهيم الدوسري.
  • د. خالد الرديعان.
  • د. حسين الحكمي.
  • أ. لاحم الناصر.
  • أ. فهد الأحمري.
  • د. خالد بن دهيش.
  • د. فهد العرابي الحارثي
  • أ. خالد المنصور.
  • د. ناصر القعود.
  • أ. عبدالرحمن باسلم.
  • د. مساعد المحيا.
  • د. حميد الشايجي.

القضية الثانية 

الأيتام في المملكة: بعض الحقائق والأرقام

(12/9/2022م)

 

  • الملخص التنفيذي.

تناولت هذه القضية الأيتام في المملكة في ضوء بعض الحقائق والأرقام. وأشار د. خالد الرديعان في الورقة الرئيسة إلى أن البيانات المتاحة توضح أن أول دار لرعاية الأيتام كانت في المدينة المنورة وتأسست عام ١٩٣٤م – ١٣٥٢هـ، ثم دار الأيتام في مكة المكرمة عام ١٩٣٦م – ١٣٥٥هـ، تلاها دار الأيتام بالرياض عام ١٩٣٨م- ١٣٥٧هـ. وكانت الدور الثلاث بجهود أهلية في بداية الأمر. أما بالنسبة لليتيمات كانت دار الحنان بجدة أول من اعتنى بهن وذلك عند تأسيسها عام ١٩٥٥م – ١٣٧٥هـ، ثم تأسست “مبرة الكريمات” بالرياض عام ١٩٥٦م – ١٣٧٦هـ لتكون أيضاً جهة حاضنة لليتيمات وتعليمهن ضمن أخريات. وكان ملحوظاً اهتمام المملكة ومنذ مرحلة مبكرة برعاية الأيتام وحتى قبل أن يكون للمملكة مصادر مالية كافية؛ ففي بداية الأمر كانت رعاية الأيتام معتمدة على جهود أهلية من فاعلي خير، لكنها تحولت لاحقاً لتصبح تحت المظلة الرسمية لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية (وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية).

بينما ركّزت د. الجازي الشبيكي في التعقيب الأول على ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية والنفسية والتربوية في التعامل مع الطفل اليتيم ومن في حكمه داخل الدور والمؤسسات الاجتماعية، كي يتحقق الاندماج المجتمعي المطلوب والمُستهدف من وجود تلك الدور والمؤسّسات باعتبار رعاية اليتيم واجباً دينياً وإنسانياً يجسّد المسؤولية الاجتماعية والتكافلية بين أفراد المجتمع، إلى جانب أنه حق وطني لليتيم على وطنه كفرد من أفراد المجتمع له حقوق يجب أن تُكفل وعليه واجبات يستطيع أن يساهم من خلالها في المشاركة في عجلة تنمية بلاده.

في حين سلطت أ. سمها الغامدي في التعقيب الثاني الضوء على الأيتام ذوي الظروف الخاصة (مجهولي الأبوين أو الأب) على وجه الخصوص من خلال خبرتها على مدى أكثر من 35 عاماً من العمل الحكومي معهم، ثم من خلال منظمات المجتمع المدني لا سيما جمعية كيان المتخصصة في هذه الفئة.

أما أ. موضي الزهراني فأشارت في التعقيب الثالث إلى أن من أعظم صور معاناة الأيتام فقد الوالدين الحقيقيين، وإحساسهم بالرفض والنبذ بسبب ظروفهم الاجتماعية، وبالرغم أن هناك نماذج رائعة منهم وحققت نجاحاً ملموساً في مجالات مختلفة، لكن قد لا تنجح البرامج النفسية والاجتماعية مع فئة منهم، ولا يكون للخدمات المختلفة المقدمة لهم أثرها الإيجابي على شخصياتهم، وذلك لافتقادهم للدعم العاطفي، بسبب عدم الاختيار السليم للعاملين معهم في مختلف التخصصات في مختلف مراحلهم العمرية.

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • مشكلات الأيتام في الواقع السعودي.
  • معوقات الرعاية المؤسسية والمجتمعية للأيتام.
  • خصوصية قضية الأيتام مجهولي الأبوين.
  • إدماج الأيتام ومن في حكمهم في المجتمع مبكراً.
  • توسيع مفهوم كفالة اليتيم كوسيلة لحل مشكلات الأيتام.
  • الصحة النفسية للأيتام وسبل رعايتها.
  • آليات مقترحة لمعالجة قضايا الأيتام في المملكة العربية السعودية.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • الرفع لصنّاع القرار بطلب إعادة النظر في دمج وزارة العمل والتنمية الاجتماعية مع وزارة الموارد البشرية؛ لأهمية التركيز على قضايا الفئات الاجتماعية بمختلف مجالاتها ليتسنى تحسين وتطوير وتجويد العمل.
  • إنشاء هيئة مستقلة للأيتام، ويكون تحت مظلتها جميع الجهات التي ترعى الأيتام بهدف توحيد آلية المتابعة والخطط والبرامج.
  • إعادة النظر في الأنظمة التي تهتم بحقوق وحماية الأيتام مثل نظام الحماية من الإيذاء ونظام مكافحة التحرش وتبني النهج الحقوقي في تصميم برامج الرعاية للأيتام ومجهولي الوالدين، وضبط المراقبة من قبل الجهات المختصة وهيئة حقوق الإنسان.
  • بناء معايير جودة الأداء في مؤسسات رعاية الأيتام ومجهولي الوالدين، والاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في التخطيط والتنفيذ والمتابعة.
  • إعداد وتأهيل الكوادر العاملة في دور الأيتام من خلال تعيين خريجي أقسام الدراسات الاجتماعية والنفسية وتدريبهم من خلال دورات مكثفة في كيفية التعامل مع أبناء الدار.

 

  • الورقة الرئيسة: د. خالد الرديعان

أبدأ موضوعي عن الأيتام بواقعة أعرفها جيدًا؛ فلي قريب من جهة الأم اسمه فهد توفيت أمه (غير السعودية) بعد ولادته مباشرة، ثم كفلته جدتي لأنه ابن أخيها، ولانهماك جدتي بمهام أخرى فقد قذفت بفهد على والدتي -رحمها الله- للعناية به لينشأ فهد معي أنا وأخ أصغر مني قليلاً. كانت أمي تقسم الحليب والطعام والعناية بيننا وبينه، بل إنها كانت تميزه أحياناً كونه يتيماً وابن خالها والجميع كانوا يتحاشون نهره أو ضربه رغم شقاوته. عندما بلغ فهد سن السابعة أو الثامنة ضاقت جدتي به ذرعاً فهو يأكل كثيراً ويتحرك أكثر، عندها جاء إلى جدتي من اقترح عليها إيداعه بدار الأيتام في سكاكا وذلك بعد وفاة والده الذي سبق أن ارتبط بزوجة أخرى. ذهاب فهد لدار الأيتام خفف من العبء على جدتي وأمي، ففي الدار كانوا يقدمون له طعاماً جيداً وكافياً، وملابس جديدة، وكسوة للعيدين وكسوة شتائية وأخرى صيفية، ومبلغاً شهرياً أظنه كان بحدود ٤٠ ريالاً كانت تستلمه جدتي. وكان ذلك بحدود عام ١٣٨٥ هجري. فملابسه تُغسل بغسالة كهربائية، ولديهم في الدار مراجيح وألعاب، والحلاق الوحيد في البلدة يزورهم بمعدل منتظم لتقصير شعر رؤوسهم خوفاً من القمل الذي كان منتشراً بين الصغار في تلك الفترة. وفوق ذلك ألحقوا جميع الأيتام (بحدود ٥٠ يتيماً أغلبهم من البادية) بنفس المدرسة الابتدائية التي كنتُ وأقراني غير الأيتام ندرس بها (المدرسة الشرقية ولاحقاً أطلقوا عليها مدرسة غرناطة).

كنا نحن “غير الأيتام” نغبط الأيتام بسبب ملابسهم النظيفة والمرتبة والأحذية والجوارب الجميلة والكنزات الشتائية التي يرتدون، وسندويتشاتهم المحشوة بالجبن والمُرَبى، أو البيض وهي الأطعمة التي ليست متاحة لنا دائماً. أحياناً يحضرون معهم لوجبة الفسحة تفاحاً لبنانياً أحمر، وهذا كان يغيظنا أكثر نحن “غير الأيتام” بسبب رائحته النفاذة والعبقة؛ الفاكهة التي نتناولها فقط في بعض المناسبات. أخبرني فهد أنهم يعطونه في الدار موزاً وهو الذي قرأنا عنه قطعة في كتاب المطالعة عنوانها “لا ترمِ قشر الموز”. وحقائبهم المدرسية كانت أيضاً من النوع الفاخر مقارنة بحقائبنا رديئة الصناعة، فحقائب الأيتام كانت من الجلد وتستمر معهم طوال العام بعكس حقائبنا التي تتمزق سريعاً.  أقلامهم الرصاص ودفاترهم من النوع وارد مكتبة مرزا في مكة، بعكس دفاترنا ذات الورق البيج السميك (دفاتر القدس وكانت تأتينا من الأردن).

أقلامنا كانت تتكسر مادة الفحم داخلها عندما نقوم ببريها بسبب رداءتها. والذي كان يؤذيني بخصوص فهد هو أنهم في الدار أوكلوا أمره إلى يتيم آخر أكبر منه سناً يسمونه عريفاً؛ بحيث يكون كل عريف مسؤولاً عن أربعة أو خمسة أيتام، كان العريف يقسو على فهد كثيراً، وفهد كان يشكو لي منه بحكم أنني قريبه ولا أملك إلا أن أتألم دون أن أستطيع القيام بشيء، بعد أن أنهى فهد المرحلة الابتدائية في دار الأيتام التحق بالمعهد المهني بسكاكا الذي كان قد فتح للتو ليمكث فيه مدة سنتين بعد أن عاد إلى بيت جدتي هذه المرة. وخصصت له جدتي ملحقاً في البيت شبه منفصل عن البيت وله باب مستقل يزوره فيه بعض أصدقائه الأيتام، وتخرّج فهد في المعهد ليعمل بعد ذلك عريفاً في جهاز الشرطة ويشق طريقه في الحياة دون منغصات تذكر. فاحتواء جدتي ووالدتي وأقاربنا والمجتمع المحلي، ودار الرعاية الاجتماعية بعد ذلك كانت عناصر أساسية في نجاحه وانخراطه في الحياة كمواطن صالح. والجميع نظروا إلى رعاية فهد واحتوائه والعناية به من منظور ديني محض، وهو جانب مهم ومتجذر في ثقافتنا الاجتماعية لحسن الحظ.

قصة فهد تقودني إلى المرور على تاريخ دور الرعاية الاجتماعية في المملكة؛ إذ تشير البيانات المتاحة أن أول دار لرعاية الأيتام كانت في المدينة المنورة وتأسست عام ١٩٣٤م – ١٣٥٢هـ، ثم دار الأيتام في مكة المكرمة عام ١٩٣٦م – ١٣٥٥هـ، تلاها دار الأيتام بالرياض عام ١٩٣٨م- ١٣٥٧هـ.

كانت الدور الثلاث بجهود أهلية في بداية الأمر. أما بالنسبة لليتيمات فكانت دار الحنان بجدة أول من اعتنى بهن وذلك عند تأسيسها عام ١٩٥٥م – ١٣٧٥هـ، ثم تأسست “مبرة الكريمات” بالرياض عام ١٩٥٦م – ١٣٧٦هـ لتكون أيضاً جهة حاضنة لليتيمات وتعليمهن ضمن أخريات. ويرد أدناه سرد تاريخي مختصر لنشأة دور الأيتام في المملكة.

  • دار الأيتام في المدينة المنورة (١٩٣٤م- ١٣٥٢هـ):

تعد دار التربية في المدينة المنورة أول دار تنشأ في المملكة العربية السعودية لرعاية الأيتام، ولقد افتُتحت الدار في محرم عام 1352هـ وسُميت (دار أيتام الحرمين الشريفين والصنائع الوطنية) وحددت أهدافها بما يلي:

  1. إيواء أبناء البادية والمدينة والأيتام والفقراء.
  2. تعليم التلاميذ وتدريسهم حسب منهج المرحلة الابتدائية.
  3. إكساب التلاميذ نوعاً من الصناعات الرائجة.
  4. تحفيظ الراغبين منهم القرآن الكريم.

وقد بلغ عدد طلاب الدار عند تأسيسها 150 طالباً، وقد تنقلت الدار في أكثر من مبنى حتى انتقلت إلى بيت أكبر لآل أبي عزة في منطقة باب المجيدي، وقام بافتتاح هذا المقر رسمياً وكيل أمير المدينة المنورة الأستاذ ناصر السديري.

  • دار الأيتام في مكة المكرمة (١٩٣٦م – ١٣٥٥هـ):

تعد دار الأيتام في مكة المكرمة الدار الثانية من حيث النشأة في المملكة العربية السعودية من قبل صاحب الفكرة الأستاذ (مهدي بك المصلح) مدير الأمن العام ونشر مقالاً في صحيفة أم القرى يوضح فكرته وصدرت الموافقة الملكية على تكوين هيئة من أعيان مكة للمشاركة مع الأستاذ مهدي في عملية إنشاء الدار وفق نظم وأهداف قيّمة للعناية بالأيتام وتنشئتهم النشأة الصالحة لخدمة أنفسهم ودينهم ووطنهم في المستقبل مع توفير المأكل والمشرب والملبس، واستمرت الدار في تقديم الرعاية لأيتام البلاد، ثم انضمت إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وقد بدأت الدار باستقبال الأيتام مع بداية شهر شوال من عام ١٣٥٥هـ ببيتٍ صغير مستأجر بحي أجياد بمكة المكرمة، وقد بلغ عددهم في السنة الأولى قرابة 50 يتيماً، ثم تلقت الدار مساعدات من الملك عبد العزيز وولي عهده آنذاك الأمير سعود بن عبدالعزيز ونائب جلالته بالحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وقد قام الملك عبد العزيز بافتتاح الدار يوم الاثنين 3/ 12 / ١٣٥٧هـ وكانت لهُ عادة سنوية حين يقدم إلى مكة لأداء فريضة الحج يقوم بزيارة الدار؛ فقد زارها عام ١٣٥٧هـ حين افتتح المبنى الجديد للدار، ثم زارها مرةً أخرى عام ١٣٥٩هـ لافتتاح الدور الثالث بالمبنى نفسه، وقد سار على دربه ابنه سعود، وقد بلغ من تشجيع الملك عبد العزيز للأعمال الخيرية أن منح مهدي بك لقب (المصلح) عام 1357هـ، وقد استمرت الدار بعملها حتى انضمت للرئاسة العامة لدور الأيتام، ثم إلى وزارة العمل والشئون الاجتماعية كغيرها من دور الأيتام الأخرى.

  • دار الأيتام بالرياض (1938م-1357هـ):

بدأت هذه الدار بمبادرة من الأمير منصور بن عبدالعزيز آل سعود حين قام بإنشاء أول مدرسة نظامية عامة وألحق بها غرفة خاصة بالأيتام، وتم اتخاذ نظام تعليمي جديد بتقسيم الطلاب إلى مستويات وإضافة مواد تعليمية مع تعليمهم القرآن والقراءة، وحَرِصَ مسئولو الدار على وجود دروس صناعية وتدريبية للأيتام، وقد بدأت هذه الدار في عام 1357هـ، وقد رأى الأمير منصور ضرورة التوسع في مبناها، وبالفعل أمر الملك عبد العزيز بإنشاء مبنى خاص بها، وانتقلوا إليه مع بداية عام 1363هـ، وافتتحها ولي العهد آنذاك الأمير سعود بن عبد العزيز، وقد كانت الدراسة تتم كما هو الحال في دور الأيتام السابقة الذكر، واستمر نظامها حتى بعد انضمامها إلى الرئاسة العامة لدور الأيتام عام 1375هـ، وفي عام 1382هـ تم تحويل طلاب دور الأيتام إلى الدراسة في المدارس الخارجية تحقيقاً لإزالة الفوارق الاجتماعية.

  • مبرة الكريمات بالرياض:

“تُعَد هذه المبرَّة أول دار لإيواء الفتيات اليتيمات في الرياض، أُنشئت في عام 1376هـ – 1956م. ولُقِّبت بالكريمات نسبة إلى القائمات على إنشائها والإشراف عليها وهن كريمات الملك سعود الأميرات (حصة، وموضي، ونورة) وسُمِّيَت بالمبرة لشدَّة المعارضة – في ذلك الوقت – لفتح مدارس البنات في الرياض. وسبب إنشاء المبرّة هو الاحتفاء بعودة الملك سعود من إحدى رحلاته الطويلة في العالم الإسلامي عام 1376هـ – 1956م، فتصدّقت الأميرات كريمات الملك بإقامة مبرّة ميمونة لإقامة اليتيمات في دار لهن. ولقد كانت فكرة الأميرة حصة بنت سعود لإنشاء هذه المبرّة حتى تعطي أكبر فرصة للمواطنات في التعليم. فافتتحت المبرّة في فيلا، وخُصِّص لهن مدرِّسات، وجهزت المدرسة بالوسائل اللازمة، وبدأت المبرّة بعدد (14) تلميذة ممن تقبّل أهاليهن إلحاقهن في برامجها التعليمية، وفي القسم الداخلي. ووصل عددهن بعد عام إلى حوالي خمسين طالبة بعد أن اقتنع الأهالي بهذه المدرسة، وبلغ إجمالي التبرعات لهذه المبرّة (150) ألف ريال، (50) ألف ريال من الملك سعود نفسه. وقد واجهن معارضة شديدة من الأهالي الذين قدّموا خطابات اعتراض للملك سعود، إلاّ أنه ولقناعته الشخصية بأهمية تعليم البنات، ساند استمرار المبرّة، وبدأ الأهالي في التقبُّل التدريجي لها. وقد قدّمت لهن المبرّة جميع أوجه الرعاية والإيواء، وتعلّمن القرآن الكريم، ومبادئ الدين، وإدارة المنزل، وتربية الطفل، إضافة إلى منهج وزارة المعارف. واللغة الإنجليزية والأشغال اليدوية، وأعمال الصوف. (علاوة على ذلك امتازت المبرّة بالتنوُّع في البرامج التعليمية والأنشطة، فقد كانت تقدم أنشطة غير منهجية من خلال ممارسة الرياضة، والرحلات الأسبوعية، وإقامة الحفلات) (١) وقد تولى الإشراف العام على المبرّة الشيخ عثمان الصالح الذي كان يشرف على عدد من الجهات التعليمية بأمر من الملك سعود، وهذه الجهات هي (معهد أنجال الملك سعود، معهد الكريمات، مبرّة الكريمات) وكان يتابع وضعه بشكل كامل، ويشرف على أعماله واختباراته ونتائجه وحفلات تخرجه) (٢).

  • دور الأيتام في المملكة:

يبلغ عدد جمعيات الأيتام في المملكة 24 جمعية متخصصة في خدمة الأيتام، يعمل فيها أكثر من 1300 موظف وموظفة، يقدمون الرعاية لأكثر من 135000 يتيم ويتيمة وأرملة على مستوى المملكة (٣).

  • الأيتام المكفولون:

بلغ عدد الأيتام المكفولين بمناطق المملكة كافة خلال عام 1438/ 1439هـ نحو 8412 يتيمًا، تمت كفالتهم من قبل 7358 أسرة سعودية. وبحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء فإن منطقة الرياض سجلت أعلى معدل لكفالة الأيتام بعدد 1914 يتيمًا، كفلتهم 1611 أسرة، تليها المنطقة الشرقية بعدد 867 يتيمًا، مكفولين من قبل 745 أسرة. وسجلت منطقة الحدود الشمالية أقل معدل لكفالة الأيتام بعدد 15 يتيمًا مكفولين بواسطة 14 أسرة، وعدد المستفيدين من برنامج كفالة الأيتام خلال العام نفسه بلغ نحو 15770 مستفيدًا.

وبحسب وزارة الموارد البشرية فإن الأسرة الكافلة تقوم بإيواء اليتيم بضمه إليها والإنفاق عليه، ومعاملته معاملة أبنائها بالإحسان والتربية حتى يبلغ مرحلة الاعتماد على نفسه.

وتتضمن ضوابط وشروط كفالة الأيتام أن تكون الأسرة سعودية، ومؤهلة نفسيًّا واجتماعيًّا وتربويًّا وألا يزيد سن الزوجة على 50 عامًا، وأن تكـون الحالـة الاقتصاديـة للأسرة جيـدة، وألا تكون من الأسر التي تتلقى عوناً من الضمان الاجتماعي، وأن يثبـت طبيًّا خلـو أفـراد الأسرة مـن الأمـراض المعديـة والسـارية والنفسية المزمنة (٤).

  • جمعية إنسان:

شعوراً من أهالي مدينـة الريـاض بأهمية وجود جمعية خيرية متخصصة تقوم بشؤون الأيتام، فقد اجتمع نخبة من المحسنين بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ عندما كان أميراً لمنطقة الرياض في ذلك الوقت ـ في منزل الشيخ حمد بن محمد بن سعيدان. فتبنى الملك سلمان رفع الطلب للمقام السامي وصدر الأمر السامي الكريم بإنشاء الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بمنطقة الرياض برقم 427/8 وتاريخ 22 /6 /1419هـ، وسُجلت في وزارة الشؤون الاجتماعية (وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية حالياً) بالرقم (166) وتاريخ 1420/08/28هـ طبقاً للائحة الجمعيات والمؤسسات الخيرية. ومنذ ذلك اليوم وهي تمارس نشاطها في رعاية الأيتام السعوديين داخل مدينة الرياض بالأهداف التالية:

  1. غرس مبادئ الدين الإسلامي في نفوس الأيتام.
  2. توفير مختلف أوجه الرعاية للأيتام والأرامل.
  3. العمل على إنشاء البرامج والمشاريع والمراكز الإيوائية وإدارتها.

واتخذت من كلمة (إنسان) شعاراً لها لتعبر عن مضمون رسالتها (٥).

وللجمعية ١٩ فرعاً في منطقة الرياض (خمسة فروع في مدينة الرياض وأربعة عشر فرعاً في بقية المحافظات) وتخدم نحواً من ٤٠ ألف يتيماً ويتيمة وأرملة، بعدد أسر يفوق ٩٥٠٠ أسرة.

يتضح من العرض السابق اهتمام المملكة ومنذ مرحلة مبكرة برعاية الأيتام وحتى قبل أن يكون للمملكة مصادر مالية كافية؛ ففي بداية الأمر كانت رعاية الأيتام تعتمد على جهود أهلية من فاعلي خير، لكنها تحولت لاحقاً لتصبح تحت المظلة الرسمية لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية (وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية).

  • مراجع:
  1. حصة الهلالي ١٤٢٧ (التعليم في عهد الملك سعود) الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، نقلاً عن مجلة المنهل، العدد ذي القعدة ١٣٧٦، ١٩٥٦ ص: ٤٨٤
  2. حصة الهلالي ١٤٢٧ (التعليم في عهد الملك سعود). الرياض: دارة الملك عبدالعزيز. ص: ٤٣٤
  3. صحيفة الوطن.
  4. مجلة سيدتي: ١٦ سبتمبر ٢٠١٨م
  5. الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بمنطقة الرياض نشأتها نظامها جهودها، ط1، الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام، الرياض، 1420هـ/1999م، ص12-15.
  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: د. الجازي الشبيكي

تحدّث د. خالد الرديعان في ورقته عن تاريخ إنشاء دور الأيتام في المملكة العربية السعودية وتطوّر خدماتها وبعض الحقائق والأرقام عن المستفيدين والمستفيدات منها خلال السنوات والعقود الماضية.

واستكمالًا لما تفضّل به، أركّز في تعقيبي على ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية والنفسية والتربوية في التعامل مع الطفل اليتيم ومَنْ في حكمه داخل الدور والمؤسسات الاجتماعية، كي يتحقق الاندماج المجتمعي المطلوب والمُستهدف من وجود تلك الدور والمؤسّسات باعتبار رعاية اليتيم واجباً دينياً وإنسانياً يجسّد المسؤولية الاجتماعية والتكافلية بين أفراد المجتمع، إلى جانب أنه حق وطني لليتيم على وطنه كفرد من أفراد المجتمع له حقوق يجب أن تُكفل وعليه واجبات يستطيع أن يساهم من خلالها في المشاركة في عجلة تنمية بلاده.

في المملكة العربية السعودية وكما أشار الدكتور خالد الرديعان في ورقته، هناك جهود وخدمات متعدّدة للأيتام ومن في حكمهم ولها العديد من الإيجابيات من حيث التكفّل بإيوائهم وتعليمهم ورعايتهم الصحية والنفسية والاجتماعية وتوفير الحياة الكريمة والحماية الاجتماعية والقانونية لهم.

ما يؤخذ على جهود تلك الدور والمؤسّسات من وجهة نظري، الجوانب التالية:

  • أولاً: من حيث التخطيط والهيكلة : الافتقار للرؤى الشاملة المتكاملة في الرعاية الاجتماعية بشكل عام ورعاية الأيتام على وجه الخصوص، وبالتالي ضعف التخطيط المطلوب للوصول للمستهدفات المرجوّة، ونستطيع ملاحظة ذلك منذ بداية خطط الدولة التنموية عام 1390هـ، حيث تعدّدت وتنقّلت مرجعيات تلك الدور والمؤسّسات لأكثر من جهة في الوزارة، فضلاً عن تغير واختلاف خطط العمل وتوجهات التركيز مع تغير الوزراء وفرق العمل المصاحبة لكل وزير باعتبار الوزارة المعنية بالأيتام من أكثر الوزارات التي تَعاقَب عليها أكثر من وزير خلال فترات زمنية قصيرة.
  • ثانياً: من حيث ممارسة العمل المهني الاجتماعي والنفسي والتربوي داخل الدور:

بالرغم من عدد من الاجتهادات والمبادرات  الفردية المتنوعة من قِبل بعض المتخصصات بين وقت وآخر، إلّا أنه يمكن القول بشكل عام ومن خلال الوقوف الشخصي على العديد من المواقف والحالات، ضعف الاهتمام بالرجوع والاستناد للمنهج والنظريات العلمية الموجهة للعمل الاجتماعي إلى جانب الافتقار للتقييم وقياس الأثر، فالأيتام حُرِموا عاطفياً من حنان الأبوين ومن البيئة الأسرية الطبيعية وتوجسهم من جانب الأمان الاجتماعي عالي، لذا فهم بحاجة لفهم نفسياتهم ومتطلباتهم، وبالتالي التعامل معها بالأسلوب التربوي المناسب، وللأسف تُمارس معهم في بعض الأحيان اجتهادات حسنة النية ظاهرياً لكنها تفتقر للعمل  المهني المطلوب، وهذا قد يكون له انعكاسه السلبي على نفسيات الأيتام فيما بعد.

(أحد الأمثلة على ذلك، السماح بقرار فردي لإحدى الجمعيات الخيرية من خلال إحدى عضواتها المتطوعات الإشراف على مجموعة من نزيلات الدور اللاتي تم بحقهن تطبيق عقوبة الشغب).

جهود هذه العضوة اللطيفة المُبادِرة، كانت تتمّ بشكل عفوي وارتجالي وغير مخطّط، ولم تأتِ في النهاية بنتائج مرجوّة في تحسين سلوك أولئك الفتيات المعاقَبات.

ولديّ اعتقاد بأن ما حدث في دار الأيتام في خميس مشيط في القضية التي انتشرت مؤخّراً، كان شبيهاً بالموقف الذي ذكرته أعلاه، من حيث محاولة علاج السلوك غير السويّ بآلية وأسلوبٍ ارتجالي بعيدًا عن المنهج التربوي السليم.

  • ثالثاً: هناك جانب آخر من المهم الالتفات له وإعطائه أهمية فيما يتعلق بالنواحي الاجتماعية والنفسية للأيتام، ألا وهو موضوع المرحلة العمرية بعد الثامنة عشر في الدور، وكذلك موضوع متابعة الأيتام في قضاياهم الخاصة بالزواج والطلاق والمحاكم وما إلى ذلك.

هذه المسائل بحاجة إلى خدمات متخصصّة تتعاون فيها الجهات الحكومية مع منظمات المجتمع المدني وفق آلية متكاملة نضمن من خلالها قدر الإمكان استمرار رعاية المجتمع للأيتام وعدم تخليه عنهم حتى بعد مرحلة سن الطفولة والمراهقة.

هذا ما تسنّى لي طرحه في التعقيب على هذه القضية وأختم بالمقترحات التالية:

  1. من المهم أن تكثف وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية جهودها التطويرية في جانب الرعاية والشؤون الاجتماعية بقدر اهتمامها المُلاحظ في جانب العمل والتدريب والتأهيل والتوظيف، خاصّة فيما يتعلق باستقطاب الكوادر البشرية المتخصّصة المؤهّلة للعمل مع الفئات الاجتماعية المختلفة وخاصة فئة الأيتام، إلى جانب استحداث البرامج والخدمات الاجتماعية المتقدّمة والمتكاملة مع رؤية المملكة 2030.
  2. على الإعلام مسؤولية رفع وعي المجتمع بقضايا اليتم والأيتام وتشجيع موضوع تبني الأسر للأيتام وفق ضمانات وإجراءات تكفل للطرفين تحقيق ما يرجونه ويتطلعون إليه.
  • التعقيب الثاني: أ. سمها الغامدي

سيكون تعليقي المختصر متعلقاً بالأيتام ذوي الظروف الخاصة (مجهولي الأبوين أو الأب) على وجه الخصوص من خلال خبرتي على مدى أكثر من 35 عاماً من العمل الحكومي معهم، ثم من خلال منظمات المجتمع المدني وأخص منها جمعية كيان المتخصصة في هذه الفئة أو على الصعيد الشخصي، بفضل من الله كوني أسرة كافلة لاثنين منهم أحدهم ذو احتياجات خاصة وأسرة صديقة دائمة لاثنين آخرين منذ طفولتهم حتى تجاوزا الآن عمر الثلاثين.

وبالتأكيد أن مجال الأيتام ذوي الظروف الخاصة من أهم المجالات الإنسانية، خاصة وأن الدراسات أشارت إلى أن الأطفال المحرومين من الوالدين أقل ثقة بأنفسهم من العاديين وأن نموهم الاجتماعي أقل مقارنة بالعاديين، مما يؤكد الحاجة لفهم هذه الخصائص وغيرها من قبل العاملين أو المتعاملين معهم.

وقد ذكر د. الرديعان أن هناك 24 جمعية خيرية تختص بالأيتام، وأزيد على ذلك أن العدد وصل إلى حوالي عشرين دار حكومية بعد انتقال بعض الدور إلى الجمعيات الخيرية المختصة برعاية الأيتام، وقد بلغ عدد الجمعيات أكثر من 45 جمعية تتولى رعاية الأيتام من النواحي الاجتماعية، والصحية، والنفسية، والتربوية، وترعى تلك الدور أيضاً أبناء الأسر المفككة بسبب اليتم، أو الطلاق، أو بسبب حالات العنف الأسري أو غيرهما إذا تعذر إقامته داخل أسرته مع الاهتمام باستمرار تواصله بأسرته الأصلية، واعتبار إقامته في الدار بصورة مؤقتة لحين العمل على تحسين ظروفه الأسرية.

وأود بداية أن أسلط الضوء على سيكولوجية اليتيم ذي الظروف الخاصة لفهم أعمق لاحتياجاته، حيث إن وجود طفل غير مرغوب منذ معرفة خبر الحمل أمر لا يمكن تصور بدء المعاناة بمحاولة التخلص منه ومشاعر الذنب والألم والخوف وربما الغضب لدى الأم والتي تكتنف مراحل الحمل والتي تؤثر حتماً في تكوينه النفسي (حتى وإن كانت أحياناً من زواج غير مكتمل الأركان).

حتى تصل إلى لحظة الولادة التي أنتم في غنى عن توضيح ظروفها وملابساتها في غرف غير مخصصة وأماكن غير مُهيَّأة للتخلص منه سريعاً، وقد يكون حسن الحظ أن تم اكتشافه في عيادات المستشفى، حينها تحظى فيه الأم برعاية صحية تجنبه مخاطر فقد الحياة أو الإعاقة. إن هذا التصور لبدء حياة اليتيم الذي قد نعثر عليه في أماكن مناسبة وغير مناسبة أحياناً تضعنا أمام عجز عن إدراك كيف ستكون ملامح شخصيته مستقبلاً لغياب السجل الصحي لأسرته بجوانبه المختلفة وما هي الجينات التي يحملها؟ ووفقاً للبيئة التي تحتضنه في أسرة كافلة محبة أو دار إيوائية تتشكل فيها شخصيته مع بقاء بعض السمات الوراثية التي يصعب التكهن بها.. وعند وصوله لمرحلة الإدراك يبدأ في التفكير المستمر في واقعه المختلف وتزداد معاناته إن لم يجد إجابات واضحة ومدروسة، فقد يسمع روايات متناقضة ممن حوله خاصة في الدور تجعله يعيش ألم الفقد مرات عديدة وتبعاته المريرة في مجتمع يؤمن باسم العائلة والقبيلة في تقييم من الآخرين. إذاً الوضع الاجتماعي لفهد الذي استشهد به د. خالد مختلف تماماً رغم الظروف المؤلمة التي اشتركوا فيها… أرجو أن أكون قد وضحت جزءاً من المعاناة التي لا يمكننا محوها؛ ولكن نستطيع التخفيف منها -بإذن الله- إن أعطيناهم مساحة من الحب والاحتواء.

ومما لا شك فيه أنه قد تكفلت حكومتنا الرشيدة بهم ووفرت لهم سبل العيش الكريم، من منطلق هام وهو اتباعاً لنهجها الإسلامي الذي يحض على رعاية الأيتام والإحسان إليهم واعتبارهم شرعاً كاليتيم فاقد أبويه أو أحدهما، وهذا الأمر قلَّ ما نجده في دول عديدة. فاليتيم المولود في المملكة العربية السعودية من أبوين مجهولين أو أب مجهول يعتبر مواطناً، شأنه في ذلك كشأن بقية المواطنين، ولا فرق بينهم، وجميعهم يخضعون لنظام الدولة، ويحصلون على كافة الحقوق، وعليهم كافة الواجبات.

ويمكن أن أشير إلى بعض الممكنات في واقع الأيتام بالمملكة باختصار ومنها:

  • اهتمام وعناية الدولة بالأيتام ذوي الظروف الخاصة والحرص على دعمهم، ومنحهم الوثائق الثبوتية والجنسية السعودية فور ولادتهم؛ إلا من كانت أمه غير سعودية وتعثر ترحيله معها، فإنه يحصل على إقامة لحين بلوغه سن الرشد، وقد ساهمت جهود وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بشكل كبير في التغلب على كثير من المعوقات والتحديات التي قد واجهت عملية التنشئة الاجتماعية لهم وتوفير الكوادر البشرية المؤهلة والحرص على توفير جميع الاحتياجات المعيشية للأيتام، وكذلك مشاريع التشغيل والصيانة التي تساهم في تهيئة أجواء مريحة للأيتام مع متابعة دائمة، وتقييم مستمر.
  • توفير كافة الفرص لتعليم الأيتام في جميع الأعمار، ابتداءً من مرحلة رياض الأطفال، وانتهاءً بالتعليم الجامعي والعالي، مع إتاحة الفرصة لبعضهم للالتحاق بالتعليم الأهلي، كان له دور كبير في دعم حياة الأيتام.
  • كما أن فرصة التحاق الأيتام بالابتعاث الخارجي، واستثناءهم بزيادة عدد المبتعثين منهم، قد ساهم في تحفيزهم وسعيهم الحثيث للتميز، والحصول على أعلى الدرجات في التعليم، ونهتم في جمعية كيان بهذا الأمر بصفة خاصة لكونه أهم الممكنات التي تساعده على الاندماج مستقبلاً، وقد أدت العناية بتعليم الأيتام لوجود نماذج متميزة منهم، وظهور قصص نجاح للأيتام يفتخر بها الوطن. ومن المؤسف أن المتميزين والقدوات منهم لا يرغبون الظهور للمجتمع حفاظاً على خصوصيته وتحسباً لنظرة من حوله.
  • إن تطبيق نظام الحياة الأسرية المشابهة للأسر الطبيعية في بعض الدور الإيوائية النسائية، منذ سنوات عديدة والذي يقوم على أساس بناء أسري شبيه بقدر الإمكان بنظام الأسر الطبيعية، ويتضمن تجميع عدد من الأيتام في أعمار مختلفة في مجمعات سكنية تحتوي بيوتاً صغيرة مع أم بديلة مقيمة، قد ساهم في توفير نوع من الاستقرار النفسي والاجتماعي للأيتام، وتهيئتهم إلى حد ما للانتقال للحياة الاجتماعية خارجها بيسر وسهولة.. إلا أن طابع الحياة المؤسسية لا زال يُلقي بظلاله على الكثير منها، وهذا النظام لا يساعد على الإشباع المناسب والكامل لاحتياجات الأيتام الاجتماعية والنفسية والتربوية أو يساعد على اكتشاف القدرات وتنميتها في أحيان كثيرة، رغم ما يُبذَل من جهود، وما يتوفر من إمكانيات مادية وبشرية كبيرة، وذلك لغياب مفهوم الحياة الأسرية والفردية التي يحتاجها الأيتام لاكتمال نموهم بصورة طبيعية لإدراكهم أنها مصطنعة تُقدَّم من خلال موظفين وموظفات قد يغيب عن بعضهم تمثيل القدوة التي تعتبر مؤثراً كبيراً في حياة اليتيم.
  • ورغم ما حظيت به الدور الاجتماعية بتطوير لأسلوب الحياة فيها بصدور لائحة البيوت الاجتماعية الصادرة بالقرار رقم 86 وتاريخ 9/2/1436هـ، والتي تعتبر نقطة تحول في مفهوم رعاية الأيتام، وبصدورها أُلغيت اللوائح الخاصة بدور الحضانة الاجتماعية، ودور التربية الاجتماعية، ومؤسسة التربية النموذجية. وبدأ التطبيق في عام 1441هـ على بعض المناطق لتحويل الدور إلى بيوت اجتماعية لا يزيد عدد أفرادها عن 7 أشخاص موزعة في عدد من الأحياء، مما سيساهم في تنمية وتمكين الأيتام وسرعة اندماجهم في مجتمعهم -بإذن الله- ورغم أهمية هذا النظام؛ إلا أنه لم يتم استكماله لبقية المناطق حتى الآن.
  • ويحظى الأيتام بزيادة فرص تقبل المجتمع لهم، حيث إن الانفتاح على المجتمع، قد ساهم كثيراً في اندماج الأيتام، وعزز فرص نجاحهم، كما أن هذا الانفتاح قد ساهم في زيادة الإقبال على  نظام الكفالة (الاحتضان) الذي يعتبر الأساس والأصل  في رعاية اليتيم، وبالتالي تقليل أعداد الأيتام في الدور الإيوائية، حيث تجاوز عدد الأطفال حالياً في أسر كافلة 10.000 طفل، إضافة لذلك فإن وجود قوائم انتظار للأسر طالبي الكفالة قد تصل إلى أكثر من 3000 أسرة، يعتبر مؤشراً قوياً على تقبل المجتمع لهم، وتأكيداً واضحاً على حدوث وعي إيجابي في مجتمعنا بأنهم جزء لا يتجزأ من المجتمع، لهم كافة الحقوق وعليهم جميع الالتزامات.

إن الممكنات السالف ذكرها لا تلغي وجود بعض التحديات في الخدمات المقدمة للأيتام التي يمكن معالجتها ومن أهمها:

  • تبني مفهوم الرعائية بدلاً من التنموية، فقد استولى مفهوم الرعاية على أساليب تقديم الخدمات للأيتام منذ البداية، مما جعلهم متلقين للخدمة غير مشاركين بالرأي أو بذل الجهد فيما يُقدَّم لهم إلا في حالات قليلة، وبالتالي ضعف في خطط فردية لكل يتيم تنمي قدراته وتستثمر إمكانياته وتحفزه على المشاركة في تقرير مصيره ومعالجة ما يواجهه من تحديات، مما أدى إلى افتقاد البعض لمعنى المسئولية الذاتية وأصبح إلقاء اللوم من بعض الأيتام على الدار أو مسئوليها بدلاً من الاعتراف بمواطن الخلل في شخصيته. كما أن برامج الأسر الكافلة وأساليب المتابعة تركز في غالبها على الخدمات الرعائية للطفل، ولا تجد الأسر الأقل معرفةً التأهيل المناسب لأساليب التربية لفهم أهمية التنمية لقدرات الطفل وبناء الشخصية المسئولة عن ذاته.
  • كما أن قلة برامج التنمية البشرية لهم من النواحي المختلفة، لكونها عنصراً أساسياً في بناء القدرات المهارية، وبالتالي توفر فرص التمكين الاجتماعي والاقتصادي والأسري لهم، ورغم الجهود المبذولة إلا أنها تظل قاصرة لحاجتها للاستناد على خطط تربوية مهارية مستمرة في جميع مراحل حياتهم، مما يتطلب جهوداً تشاركية كبيرة لتنفيذ برامج التمكين وخاصة من القطاع الخاص، ولقلة الأنشطة التي تساعد الأيتام على الاستقلالية عن الدار منذ طفولتهم، سواء كبرامج تدريبية أو حلقات نقاش أو جلسات دعم فردية، وتواضع الجهود في مجال العمل على ربط الأيتام بأشخاص متميزين ليكونوا لهم قدوة ويتعلمون منهم. ويعد برنامج الأسر الصديقة أحد أهم الأساليب لرفع قدراته وربطه بمجتمعه؛ إلا أنه لم يحظَ بالدعم الكامل ليستفيد منه أبناء الدور.
  • كما تمثل تنقلات الأبناء الذكور بين الدور من دار الحضانة إلى دار التربية، ثم إلى مؤسسة إخاء ثم إلى المجتمع، كل ذلك قد تسبَّب في بتر الجهود التنموية في كل مرحلة من تلك المراحل في حياته عدا ما تُسبِّبه من الكثير من المشكلات النفسية والتذبذب السلوكي لدى الأيتام لعدم الثبات والاستقرار في بيئة واحدة. لذلك فإن للنظام المؤسسي السائد في بعض الدور الإيوائية دوراً أساسياً فيما ظهر لدى بعض الأيتام من مشكلات. والتي تحتاج لوقت طويل لمعالجة تداعياتها.
  • ويلاحظ أيضاً الاحتياج إلى البرامج التي تعالج انخفاض مستوى الدافعية والرغبة في النجاح والإنجاز لدى العديد من الأيتام، والتدريب على إدارة حياته أو أموره المالية. مع التركيز على البرامج التي يمكن أن تُعِد الأيتام لسوق العمل، كالبرامج التأهيلية التي تستهدف الأيتام الذين لم يُقبَلوا في الجامعات، أو برامج إعادة التأهيل للأيتام الحاصلين على شهادات علمية لا تتفق والاحتياج في سوق العمل.
  • إضافة لذلك فإن هناك العديد من الأيتام الذين يتسربون من سوق العمل لأسباب مختلفة، منها عدم قدرتهم على التحمل وعدم ثقتهم بذواتهم، وعدم وعيهم بأساسيات العمل كالقدرة على التعامل مع الآخرين، والدقة في الإنجاز، والانضباط… إلخ أو نقص المهارة اللغوية، وبالأخص أن من أهم متطلبات سوق العمل في الوقت الراهن إتقان اللغة الإنجليزية. ولأهمية هذه الجوانب فقد ركزنا في جمعية كيان عليها في برامج التنمية والتمكين.
  • ولا شك أن استقبال الأطفال العائدين من الأسر الكافلة لتخلي الأسر عنهم بسبب سلوكياتهم السلبية أو لعدم صلاحية الأسر لبقائهم فيها، وخاصة أنهم غالباً يكونون في سن المراهقة الأثر السلبي الكبير عليهم، حيث يجدون معاناة شديدة في التكيف مع النظام المؤسسي الجديد بدلاً من حياتهم الأسرية، وكذلك أثر وجودهم مع الأيتام المقيمين بالدور منذ طفولتهم، مما يعطيهم ردة فعل سلبية تجاه المجتمع الخارجي المتمثل في الأسر الكافلة. إضافة لذلك فإن تجمع عدد ليس بالقليل في الدار الواحدة يعتبر من أهم التحديات التي تحُول دون القدرة على خلق جو أسري صحي مريح، يَسهُل ضبطه، والتحكم فيه بيسر وسهولة.
  • ورغم الحرص على توفير كافة اللوائح والأنظمة التي تُسهِّل العمل، إلا أنه لا زال هناك احتياج كبير في هذا الجانب للوائح التي تحدد حقوق وواجبات العاملين والمقيمين في الدور أو الأنظمة والقوانين الحياتية الممكنة للأيتام، التي يمكن أن تساعد على التنشئة الاجتماعية السوية، وتحقق الرقابة اللازمة، وضبط وتنظيم السلوك، وتقدير سلطة المربين عند الأيتام، وقد ساهم ذلك في ظهور بعض الحالات لأيتام يعانون من قلة الإشباع العاطفي، وانخفاض الشعور بالأمان. مما يؤكد الحاجة إلى برامج الإصلاح والدعم الاجتماعي والنفسي، وتقديم المعالجات السلوكية المناسبة لتلافي ظهور مشكلات سلوكية لدى بعض الأيتام.
  • كما أن القوى البشرية العاملة معهم أو المشرفة عليهم في الدور والجمعيات والأسر الكافلة بحاجة إلى المزيد من برامج التأهيل والمحفزات للعمل معهم ومعالجة تسرب القدرات المتميزة منهم.

إن الحاجة تستلزم وجود معايير ومؤشرات الأداء والتمكين، التي يمكن أن تساعد على حوكمة الخدمات المقدمة للأيتام، وتقييمها تقييماً دقيقاً، للمساهمة في تقليص حجم بعض المشكلات الإدارية والسلوكية التي تواجه اليتيم عند خروجه لمجتمع العمل. كما أن وجود معايير فردية لكل يتيم لتحديد مستوى إنجازه في كل مرحلة من مراحل حياته، مع وجود ضوابط لمكافأة المتميزين منهم. لذا فإن هناك حاجة لوجود معايير لتقييم مستوى الأداء مع كل يتيم.

إضافة لذلك فإن وجود المؤشرات أيضاً في برامج الأسر الكافلة والأسر الصديقة لإيجاد آلية مقننة لاختيار الأسر الكافلة باعتبارها نموذج الرعاية الأول والأفضل لليتيم وربما يساهم ذلك في تقليص الحاجة إلى دور إيوائية مستقبلاً، وتقليل إشكالية عودة الأيتام من الأسر الكافلة؛ حتى لا تتضاعف مسئولية إعادة التهيئة والتمكين لهم وتستنزف جهود العاملين لمعالجة أثر تخلي أسرهم عنهم، وبالتالي ما يحتاجه من برامج نفسية واجتماعية متخصصة تدعم تنميتهم وتمكينهم.

وأود ختاماً الإشارة إلى ما حدث في دار الإيواء بعسير مع التحفظ على آلية المعالجة واستخدام العنف، فإنه لا يمكن لأي شخص إصدار الأحكام إلا بعد اطلاع كافٍ على جميع تداعيات المشكلة ومسبباتها.

ونعلم الاستغلال السيئ إعلامياً لهذه الحادثة، وربما في تحليلي السابق ما يشير إلى بعض من واقع الدور وخاصة في المناطق الأصغر في الكثافة السكانية لتأثير المجتمع المحيط بها بصورة كبيرة وتكوين صوره ذهنية مشوشه وغير واقعية عن تلك الدور قد تدفع بعض الأيتام إلى الخروج على النظام لعدم الوعي أو لنقص في تقدير الذات وغيرها من الأسباب، وكلنا ثقة في عدالة الجهات المعنية تجاه هذه القضية.

  • التعقيب الثالث: أ. موضي الزهراني
  • المقدمة:

بعد الشكر والتقدير لسعادة الدكتور خالد الرديعان على هذه الورقة التي تناولت بعض الخدمات المقدمة للأيتام منذ بداية عهدها، وتسليطه الضوء على الجانب الإحصائي لنشأة تلك الدور، وتطور خدماتها على مستوى المناطق، فإنه لا يخفى علينا جميعاً اهتمام ورعاية حكومتنا الغالية بتوفير الحياة الكريمة للأيتام تحت مظلة رسمية اجتماعية  ألا وهي” وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية “سواء من خلال الدور الإيوائية، أو من خلال  الجمعيات التخصصية، وسوف أقدم  إضافة بسيطة لورقة د. خالد الرديعان  عن الأطفال الأيتام (ذوي الظروف الخاصة) والتي تتمثل في الآتي :

  1. منذ عام ١٣٨٢هـ حددت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية قواعد تنظيمية مهمة لرعاية الأطفال الأيتام من ذوي الظروف الخاصة) وهم الأيتام مجهولو الأبوين (والتي تندرج منها المواد التالية حسب أولوية الرعاية من حيث:
  • إجراءات استلام الأطفال الأيتام مجهولي الهويّة من المستشفيات.
  • التسجيل والمتابعة وإجراءات الرعاية داخل الدور.
  • إجراءات الرعاية البديلة وتسليمهم للأسر الحاضنة لهم.
  • إجراءات طي القيد، سواء بالانتقال لدار التربية الاجتماعية بعد بلوغهم سن الثامنة أو التسليم لأسرة كافلة له.
  • الإدارة العامة للأيتام:

توجد بالوزارة الإدارة العامة للأيتام أُنشِئت عام ١٣٧٥هـ وهي: إدارة مختصة بشئون الأيتام داخل الفروع الإيوائية على مستوى مناطق المملكة، أو داخل الأسر الصديقة، وذلك من خلال إدارتين متخصصة وهما:

  • إدارة شئون كفالة الأيتام وهي مختصة باستقبال طلبات الأسر الراغبة في كفالة الأيتام، والأسر الصديقة ويكون ذلك تحت معايير دقيقة تتابعها لجان مختصة من العاملين في هذا المجال.
  • إدارة الرعاية الإيوائية وتعمل هذه الإدارة على تهيئة الاستقرار الأسري السليم للأطفال المشمولين بالرعاية الإيوائية، سواء في دور الحضانة أو التربية الاجتماعية، أو مؤسسات التربية النموذجية وتقديم كافة أوجه الرعاية لهم في جميع المجالات.
  • تزويج الأيتام: ونظراً لأن الوزارة هي الوليّ الشرعي البديل للفتيات اليتيمات ومن في حكمهن، فإن موضوع تربية وتزويج الفتيات من أهم الأعمال التي تقوم بها وكالة الوزارة للرعاية الاجتماعية. حيث وضعت الشروط والضوابط للمتقدم بطلب الزواج من خلال لجنة مختصة بذلك.
  • الجمعيات المختصة بالأيتام:

توجد الكثير من الجمعيات المتخصصة لرعاية الأيتام على مستوى مناطق المملكة، لكن سأذكر منها على سبيل المثال:

  • جمعية الوداد لرعاية الأيتام : alwedad.sa

سعياً لتحقيق مستهدفات رؤية 2030 وضمن ما نصت عليه في جانب تمكين المنظمات غير الربحية، وبهدف تعظيم أثر العمل الصالح وبموجب اتفاقية مع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، انطلقت جمعية الوداد كشريك استراتيجي وكأول جمعية سعودية لرعاية الأطفال الأيتام فاقدي الوالديّة دون سن السنتين وإسناد حضانتهم لأسر مؤهلة وذلك عام 1429 هـ وسُجلت بوزارة الموارد البشرية بترخيص رقم 415.

وتقدم خدمات مختلفة مثل الإيواء المؤقت، المتابعة والمساندة، الاحتضان، والتأهيل والتمكين، والتوعية والتثقيف، والاستشارات.

وبالإمكان الاطلاع على موقع الجمعية alwedad.sa ومتجرهم الخيري. كما أن للجمعية خمسة فروع على مستوى مناطق المملكة.

  • جمعية كيان للأيتام ذوي الظروف الخاصة:

تأسست الجمعية عام 2016م، تحت إشراف وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ومسجلة برقم 787 رؤيتها التميز والريادة في بناء كيان الأيتام.

  • الرسالة: تحسين جودة حياة الأيتام ذوي الظروف الخاصة وتمكينهم من خلال برامج تنموية وشراكات نوعية ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع.
  • الأهداف:
    • تقديم البرامج الوقائية بما يحقق التوعية المجتمعية للحدّ من تنامي المشكلة والمساهمة في دعم النظرة الايجابية للأيتام.
    • تحويل الأيتام إلى طاقة فاعلة في المجتمع.
    • توفير الإرشاد النفسي والاجتماعي لهم.
    • مساعدة الأيتام على الاندماج في المجتمع.
    • تشجيع ودعم البحث العلمي بما يحقق أهداف الجمعية.
  • النطاق الجغرافي: منطقة الرياض.

وبالإمكان الاطلاع على معلومات أكثر عن الجمعية عبر حسابهم على التويتر @kayan_org والمتجر الإلكتروني store. Kayan.org.sa

  • عرض مشكلات الأيتام من واقع الدراسات المحلية والعربية:
    • لا شك فإن الأيتام ذوي الظروف الخاصة يعانون من مشكلة واحدة على مستوى العالم العربي ألا وهي (فقد الأسرة الطبيعية) وفقد معرفة النسب الحقيقي لهم، وأثبتت الدراسات السابقة بأن هناك فروقاً كبيرة في الجانب النفسي والاجتماعي ما بين الأيتام الذين يعيشون في الدور الإيوائية والذين يعيشون لدى أسر كافلة لهم، لذلك اهتمت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ببرامج الاحتضان منذ سنواتهم المبكرة وأنشأت الجمعيات المتخصصة في هذا المجال في السنوات الأخيرة.
    • تطورت الخدمات المقدمة للأيتام مع مرور السنوات وأصبحت ذات توجه مهني وتخصصي أكثر، مما ساعد على تغير النظرة السلبية للأيتام وساهم في دمجهم بالمجتمع الخارجي، حيث سعت الوزارة إلى التركيز على الشراكات مع الجهات المختلفة لتلبية احتياجات الأيتام المختلفة.
    • من واقع تجربة عمل يومي ومباشر مع الأيتام خلال ١٢ سنة مارست معهم العمل الاجتماعي والنفسي، فإن من أعظم معاناتهم الفقد الحقيقي للوالدين الحقيقين، وإحساسهم بالرفض والنبذ بسبب ظروفهم الاجتماعية، وبالرغم أن هناك نماذج رائعة منهم وحققت نجاحاً ملموساً في مجالات مختلفة، لكن قد لا تنجح البرامج النفسية والاجتماعية  مع فئة منهم،  ولا يكون للخدمات المختلفة المقدمة لهم أثرها الإيجابي على شخصياتهم،  وذلك لافتقادهم للدعم العاطفي، بسبب عدم  الاختيار السليم للعاملين معهم في مختلف التخصصات في مختلف مراحلهم العمرية. حيث كانت إحدى التوصيات التي قدمتها في دراستي عام ٢٠١١م والتي تناولت (مفهوم الذات لدى الأطفال ذوي الظروف الخاصة والأطفال العاديين بمدينة الرياض – دراسة مقارنة) هي: أهمية اختيار العاملين والعاملات في المؤسسات الإيوائية، وأن يكونوا على درجة من النضج، والخبرة، والتأهيل العلمي، والقدرات الشخصية المؤهلة مع هذه الفئة.

وما زلت أطالب بأهمية هذه التوصية من واقع تجربة لدورها العظيم في بناء شخصياتهم، واحتواء معاناتهم الاجتماعية، وإشباع فقدهم للأسرة الطبيعية. والتي لا تعوضها أي خدمات مادية في حال الافتقاد لها.

  • المداخلات حول القضية
  • مشكلات الأيتام في الواقع السعودي.

إن السرد التاريخي للخدمات التي تقدمها المملكة للأيتام ومجهولي الوالدين والمشار إلى بعض منها في الورقة الرئيسة والتعقيبات يعكس الاهتمام الكبير على المستوى المؤسسي، والذي يستهدف معالجة الظروف التي يعيشها أفراد هذه الفئة، كما أنها تطرقت لجوانب أساسية ترتبط بالظروف والإجراءات والأنظمة التي شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الماضية، بهدف رفع مستوى جودة الخدمات المقدمة، وتغطية الاحتياجات الخاصة لهذه الفئة.

ومع هذا لا يزال الأيتام يواجهون عددًا من المشكلات التي تعترض اندماجهم في الواقع العلمي. حيث يواجه الأيتام لا سيما الأيتام ذوي الظروف الخاصة (مجهولي الأبوين) مشكلة تنعكس بالسلب على حياتهم الاجتماعية وهي مشكلة الاسم، فعلى الرغم من صدور أمر ملكي بإضافة أل التعريف قبل أربع سنوات؛ إلا أنه لم يُطبق إلى الآن ولا يزال تحت الإجراء! ورغم أنه يعد أمراً بسيطاً لا يؤثر في اندماج اليتيم؛ لكنه بالنسبة للأيتام يعتبر أملاً كبيراً أن يضيفه رسمياً في بطاقته، بدلاً من أن يضيفه كذبًا أمام الآخرين.

كما أن من أشد المشكلات التي تواجه مجهولي النسب هو عدم معرفتهم بنسبهم الحقيقي وخاصة حين يصلون مرحلة المراهقة، كما أن من الهموم الأخرى التي تواجه الأيتام عندما يبلغون سن الزواج تفضيلهم الزواج من خارج المملكة على الزواج ممن بنفس ظروفهم! وحسب إحدى الدراسات التي تناولت (صعوبات الزواج لدى ذوي الظروف الخاصة) عام ٢٠١٥م كان من إحدى النتائج رفضهم للأسرة البديلة بعد مرحلة البلوغ ودخولهم مرحلة الصراع لإثبات الذات والهويّة الاجتماعية، مما يدفعهم للزواج المبكر بهدف إشباع حاجتهم لتكوين أسرة قد تعوضهم معاناة فقدانهم لأسرهم الحقيقية؛ لكنهم للأسف يدخلون في صراعات أشد وقعاً عليهم لمواجهة حياة جديدة لم يؤهلوا تأهيلاً شاملاً لاحتواء متطلباتها النفسية والاجتماعية والجنسية!

  • معوقات الرعاية المؤسسية والمجتمعية للأيتام.

يُقصَد برعاية الأيتام “كفالة الطفل اليتيم وتوفير الاحتياجات الأساسية له ومتطلبات العيش كأنه في أسرة طبيعية”.

وتذهب بعض وجهات النظر إلى أن مشكلة الأيتام بالرغم من خدمات الدولة العديدة لهم تنحصر في الآتي:

  • آلية اختيار العاملين معهم خلال سنوات مراحلهم العمرية المبكرة والمتقدمة.
  • نوعية البرامج المقدمة لهم داخل الدور وآلية تنفيذها، وآلية وثبات إشراف الإدارة المختصة عليهم.
  • عدم ثبات الكفاءات المميزة معهم خلال سنوات عمرهم، مما تتسبب في معاناتهم المستمرة من قلق الانفصال!
  • عدم الاهتمام باعتماد برنامج تعريفهم بواقعهم الاجتماعي سواء داخل الدور أو في الأسر الكافلة (وهذه المعاناة تعتبر من أقوى الصدمات التي يواجهونها في حياتهم وقد تكون فجأة، مما يتسبب لهم في انتكاسة نفسية ينتج عنها اضطرابات نفسية وسلوكية) تسيء لجميع أوجه الرعاية والخدمات المقدمة لهم!!
  • سهولة تنقلهم ونقلهم من دار إلى، إما بسبب التقدم في العمر أو بسبب إيقاع عقوبة ما عليهم، وهذا من أسوأ أساليب التعامل معهم التي ينتج عنها سلوكيات ذات اضطرابات حادة لا يمكن تداركها بسهولة!

ويلاحظ أن كبر حجم وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وتعدد مسؤوليات إشرافها على المؤسسات والدور والضمان وكذلك الجمعيات الخيرية، ساهم في ضعف تطبيق ومتابعة ما يتم طرحه عليهم من رؤى وخطط وبرامج تطويرية تتعلق بالأيتام. بالإضافة إلى التغيرات المتعددة والمتلاحقة في الهياكل الإدارية والتنظيمية مع تغيّر الحقب الوزارية.

ولا يوجد إلى اليوم معايير مهنية وثابتة من حيث اختيار العاملين مع الأيتام، خاصة من حيث المهارات الشخصية والنضج والوعي تجاه التعامل معهم منذ مراحلهم المبكرة؛ وإن كانت التخصصات من خدمة اجتماعية وعلم نفس موجودة!

إلى جانب أنه لا يوجد مرونة في ثبات القدامى من العاملين معهم عندما يتم حصولهم على الترقيات، فمن السهل انتقالهم واستبدالهم بكوادر أخرى بين يوم وليلة تكون مُحمّلة بخبرات مختلفة جداً عن بيئة العمل مع الأيتام.

ومن ناحية أخرى، يبرز التساؤل المهم: هل قمنا كمجتمع بتنفيذ التوجيه الكريم {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى، الآية 9) هذا التوجيه الرباني لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن لا تسيء معاملة اليتيم، ولا يضيق صدرك عليه، ولا تنهره، بل أكرمه، وأعطه ما تيسر، واصنع به كما تحب أن يصنع بولدك من بعدك. مع الأخذ بالاعتبار جهود الدولة الكبيرة نحو الأيتام بكافة أعمارهم وأجناسهم وفئاتهم. وفي هذا الصدد تذهب بعض الآراء إلى أننا نفتقد التوعية في تحقيق التوجيه الرباني بكافة جوانبها الديني والاجتماعي والاقتصادي. نعم لقد قام المجتمع المدني بجهود في السنوات الأخيرة من خلال الجمعيات الخيرية المتخصصة لخدمة الأيتام فهي جهود تُذكر فتُشكر. والتوعية المقصودة هنا ليست الدينية فقط بل التوعية بالجوانب الاجتماعية المتعلقة بالأيتام على تنوعها، وكذا الجوانب الاقتصادية التي تبذلها الدولة لتجنب المُسبِّب الأساس في وجود اليتيم في ظل الانفتاح الكبير والمثير للشهوة الجنسية والاتصال للجنسين بالثقافات المتحررة. ثمة تقصير كبير نظراً لحساسية الطرح التوعوي للمسببات، بجانب أهمية نشر بل وتعليم الثقافة الجنسية للجنسين في التعليم الثانوي. كوننا في عصر يُلزمنا بذلك، خاصة مع توفر وسائل الاتصال بين أفراد المجتمع، ثم يلزم التأكيد على دور التوعية المجتمعية.

  • خصوصية قضية الأيتام مجهولي الأبوين.

تكتسب مناقشة قضايا الأيتام ومشكلاتهم خصوصية شديدة لا سيما مع فئة مجهولي الأبوين، المودعين في ‏مؤسسات الرعاية الرسمية، تبعاً لمتغير العمر والجنس، وتبعاً لارتباط هذه المؤسسات بالحكومة ‏ووزارة الموارد البشرية بشكل مباشر، أو المرتبطة بالجمعيات الأهلية التي تشرف عليها ‏الوزارة، وتضلع المؤسسات الأهلية بجهود نوعية ولها أثر جيد على مستوى ساكني هذه ‏الدور، أو على المستوى المجتمعي، بصفة عامة.‏

والواقع أن قضية تزايد أعداد “مجهولي الأبوين” لها جانب وقائي يخفف منها لم نلتفت له بما يكفي، وذلك لخفض أعدادهم مستقبلاً، فهذه المشكلة ترتبط “بالحمل السفاح” في الغالب مما يترتب عليه مواليد يُرمى بهم على أبواب المساجد لتتخلص منهم أمهاتهم خوفاً من الفضيحة وتبعات الحمل غير القانوني. والمقترح في هذا الصدد من جانب البعض عدم التشدد في مسألة الإجهاض في شهور الحمل الأولى التي تسمح بالإجهاض طبياً، وأن تُخصص عيادات استشارية لهذا الغرض تلجأ إليها من تورطت بحمل سفاح ولا تستطيع التصرف بالجنين، ولا تقتصر التوعية على البنات بل على الأولاد أيضاً، وذلك بتوفير وسائل صحية لمنع الحمل كالواقي الذكري الذي أيضاً يحد من انتشار الأمراض الجنسية بين المراهقين والمراهقات. يضاف إلى ذلك مقترح آخر يتمثل بعدم استقدام عاملات منزليات بسن الإنجاب، وذلك باشتراط عمر معين للشغالة يحدده الأطباء فهم أعلم بالسن الذي لا تنجب فيه المرأة.

وفي السياق ذاته فإنَّ رمي الأم لجنينها بغرض قتله عادة -رغم معرفتها بأبيه أحياناً- جريمة جنائية كبرى ترتكبها المرأة للهروب من جريمة اجتماعية، وهنا يكون الضحية هذا المولود (ذكراً أو انثى)، والذي سيعيش عموماً حياة قاسية معنوية في غالبها نتيجة مجهولية الأبوين، الأمر الذي يتطلب دراسات علمية متكاملة، شرعية، وتشريعية، واجتماعية، ونفسية وحتى سياسية، للتعامل مع هذه الحالات التي باتت ظواهر منتشرة، بل وأحياناً مشكلات اجتماعية. تتطلب الحل!!

ويلاحظ أن جميع هذه التعقيدات والمشكلات المتعلقة بقضية “مجهولي الأبوين” ترتبط غالباً بقضية “العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج” وهو ما يوجب كتوصية مقترحة التحذير من هذه العلاقات وبيان ضررها الاجتماعي والنفسي فوق أنها محرّمة، وضرورة الإعلاء من شأن الزواج الشرعي، خاصة في ظل بعض الكتابات والنزعات المتنامية عند الجنسين التي تقلل من شأن الزواج وأنه قيد وله سلبيات، مما يفتح الباب للعلاقات المحرّمة وما يترتب عليها.

  • إدماج الأيتام ومن في حكمهم في المجتمع مبكراً.

تقع المسئولية الأولى لإدماج الأيتام ومن في حكمهم في المجتمع مبكراً ومِنْ مرحلة الطفولة المبكرة على المربين والمربيات في الأسر البديلة والمشرفين والمشرفات على دور ومؤسسات الأيتام في التركيز في تربيتهم على كل ما يدعم ويعزّز ثقتهم بأنفسهم ويقوي شخصياتهم، إلى جانب العمل على إشراكهم في الفعاليات والأنشطة المجتمعية من دون أي تمييز، وإعلاء الجانب الإيماني والقيمي لذواتهم وضرب الأمثلة باستمرار بالقدوات العظيمة من الأيتام الذين كان لهم أدوار بارزة في حياة الأمم والحضارات وعلى رأسهم رسول الهدى عليه أفضل الصلاة والتسليم الذي كان يتيم الأبوين منذ صغره.

وحبذا لو كانت هناك آلية شكلية معيّنة لتسمية الدور بأسماء أكاديميات أو معاهد شخصيات وطنية معروفة بعيداً عن مسمى دور الأيتام أو الرعاية الاجتماعية، والعمل على تنفيذ مقترح تعديل الأسماء الأخيرة (للعائلة) لهم بدلاً عن الاسم المفتوح بلا تعريف.

وتعد إمكانية دمج الأيتام أيضاً في المجتمع مبكراً، ومن مرحلة الطفولة المبكرة من أولويات الوزارة من خلال أقسام الأسر البديلة الموجودة في مكاتب الإشراف الاجتماعي النسائي سابقاً على مستوى المناطق، ومن خلال جمعية وداد حالياً والمتخصصة في كفالة الأيتام خلال السنتين الأولى من عمرهم.. حيث إن احتضان الأطفال لدى أسرة مستقرة وذات كفاءة عالية لاحتضان وتربية طفل يتيم من أهم البرامج الداعمة لهم نفسياً واجتماعياً ويبعدهم عن الكثير من المشكلات النفسية التي يعانون منها خلال وجودهم لسنوات متقدمة من عمرهم في الدور الاجتماعية.

ولعل أحد أفضل مجالات الاندماج للأيتام مبكراً في الدور من خلال برنامج الأسر الصديقة؛ حيث يتاح لمن ترغب من الأسر المناسبة بعد دراسة حالتها أن تكون أسرة صديقة لطفل تستضيفه في نهاية الأسبوع أو الإجازات والأعياد ليعيش معهم الحياة الطبيعية ويرى أمامه فعلياً نموذج الأسرة بأدوارها المختلفة، بشرط الالتزام في الاستمرار في هذه العلاقة التي قد تتحول مستقبلاً إلى علاقة دائمة كأسرة بديلة، وقد حدث هذا كثيراً للعديد من الأسر. والشواهد كثيرة لأيتام ناجحين في حياتهم بسبب وجود أسر صديقة محبة استمرت معهم حتى سنوات حياتهم بعد زواجهم وخروجهم من الدور. والتصور أن هذا البرنامج من أهم أبواب فعل الخير والتطوع إذا وجدنا أسرة واعية بهذا الهدف وقادرة على تحقيق البديل الأسري لمن حرموا من الاحتضان. وما يميز هذا الأمر أن للطفل حرية الاستمرار مع الأسرة من عدمه إن لم يجد الارتياح النفسي فيها. ولذلك تتطلب دراسة واختياراً جيداً للأسرة ومتابعة مِنَ الدار لكل التغيرات والأحداث التي تحدث للطفل فيها، بما يعزز الإيجابيات لهذا البرنامج وتلافي السلبيات.

ويرى البعض في نظام دور الإيواء الذي تغير إلى نظام البيوت الاجتماعية – الذي لم يُستكمل تطبيقه في جميع المناطق – والذي يقوم على توزيع الأيتام داخل الأحياء الجيدة في فيلا بكل حي لا يتجاوز عدد الموجودين بها عن سبعة أيتام مع أم بديلة مقيمة، هو الحل الأساسي لاندماج الأيتام داخل المجتمع وتوفير الحياة الطبيعية لهم، ويبني شخصيات قادرة على تحمل المسؤولية مبكرًا، ومن خلاله سيسهل تنفيذ برنامج الأسر الصديقة وتكوين علاقات مع الجيران ويمارسون الاستقلالية الكاملة في توفير احتياجاتهم. وهذا النظام يُعدُّهم للحياة بعد زواجهم، ويتطلب وجود أمهات أو آباء قدوات وآلية متابعة غير مباشرة في غالبها، والأهم في كل البرامج مع الأيتام الاختيار الجيد للعاملين وتأهليهم تأهيلاً جيداً لممارسة تلك الأدوار الحساسة والمؤثرة في شخصيات الأيتام.

ومن جانب آخر، فإن إدماج الأيتام بالمجتمع من خلال المدارس الحكومية وغيرها لا شك أنه ضروري جداً، ولكن المشكلة في كيفية اختيار تلك المدارس ونوعية المعلمين والتربويين والمرشدين الطلابيين فيها، بالإضافة للحي الذي يحيط بالمدرسة وربما تكون المدارس النموذجية خياراً جيداً في هذا الصدد.

  • توسيع مفهوم كفالة اليتيم كوسيلة لحل مشكلات الأيتام.

تذهب بعض الآراء إلى أننا بحاجة لتوسيع مفهوم كفالة اليتيم إلى المعنى الأوسع والأشمل، ليمتد لرعاية اليتيم ماديًا ونفسيًا واجتماعيًا وتربويًا، بما في ذلك حفظ حقوقه، وسماع اقتراحاته، وإشباع رغباته الشرعية، واحتضان موهبته. وهذا لن يكون إلا عبر ارتباط الجمعيات الخيرية المستقلة برعاية الأيتام بآلية موحدة تحت مظلة واحدة ولتكن جهة رئيسة شبيهة بجمعيات رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة.

وبالتأكيد فإن من أهم الأمور التي تدعم عمل الجمعية وتدعم برامجها ومشاريعها التنموية لرعاية هؤلاء الأيتام هو توفر الموارد المالية واستدامتها. لذلك أكثر ما واجهناه في هذه الناحية هو أن هناك من يفضل أن يعطي أمواله للأيتام السعوديين فقط، أو يجعلها مشروطة. هذا من جانب التبرعات، ومن جانب آخر فإن هناك بعض حالات لأسر تحتضن اليتيم طمعًا في المعونة المالية المقدمة لهم من الدولة، ولكن للأسف بعد ذلك تسيئ معاملته أو ليس لدى أفرادها الدراية الكافية بأسلوب التربية الصحيح لاحتضان هذا اليتيم؛ وهذا يزيد من معاناته.

وفي هذا السياق يمكن تكثيف حملات كفالة اليتيم من خلال الأسرة الصديقة لرعاية اليتيم؛ فمفهوم الأسرة في أعين الأيتام (فاقدي الأبوين ومجهولي النسب) مفقود، والاحتواء هو المطلب الملح لهم، والأجر الذي يرجوه كافل اليتيم سيتحقق له لمتابعته الشخصية بتربية هذا اليتيم ومواصلة تعليمه ومساعدته في الحصول على عمل، ومصاحبته عند التقدم للزواج.

أما معايير اختيار الأسرة الحاضنة لليتيم فهناك شروط محددة عامة تتضمن أن تكون الأسرة سعودية، ولا يزيد عمر الأم عن ٥٠ عاماً وتثبت صلاحيتها من النواحي الاجتماعية، وأضيف مؤخراً الوضع الاقتصادي ويتم الفحص النفسي والأمني والمخدرات، وتتم الدراسة الاجتماعية بناءً عليها، وتم تطوير هذه الإجراءات مؤخراً.

ويمكن العمل على منح بطاقة (يتيم) لليتيم أسوة ببعض الفئات إن لم يكن ذلك معمولاً به حالياً؛ لتكون هذه البطاقة بطاقة تصريح لليتيم لدخول المهرجانات كالمباريات وأماكن الترفيه في الأماكن العامة مجانًا. كما تخول اليتيم للحصول على تخفيض رسوم الخدمات كالطيران والمستشفيات والمدارس الأهلية، إضافة لخدمات الهاتف والكهرباء، وفق آلية معينة توضع لهذا الغرض، بعد وضع تنظيمات وضوابط خاصة بالأيتام، أسوة بالمعاقين.

وتشير الإحصاءات إلى أن عدد الأسر الكافلة التي وصلت مؤخراً إلى أكثر من ٩ آلاف أسره تحتضن حوالي ١٠ آلاف، وهذه الإحصائيات لم تصدر بعد لتكون دقيقة، أما الأسر الصديقة فلا يوجد عدد مؤكد، وتظل نسبة بسيطة وتحتاج إلى تقنين؛ لأن الأسرة الصديقة المؤقتة والتي ترتبط لفترة بسيطة وتترك اليتيم وفق مزاجها يتألم لفقدها، تختلف عن الأسرة الصديقة الدائمة، والأمر يحتاج إلى اهتمام أكبر من الوزارة لقياسها بمستوى التأثير على حياة اليتيم.. وإلى الآن لا يوجد نظام يحكمها وجميعها إجراءات اجتهادية. ولذلك تغيب الدراسات عن هذا الجانب والاحتياج كبير لها. ويوجد مراقبة على الأسر من خلال أقسام الأسر الكافلة بفروع الوزارة ولكنها غير كافية.

  • الصحة النفسية للأيتام وسبل رعايتها.

أكثر ما يجب الالتفات له هو الصحة النفسية للأطفال الأيتام من اللحظة الأولى لإيداعهم في مؤسسات الرعاية، واستمراراً بعد ذلك سواءً استمر اليتيم في المؤسسة أم تمت كفالته لدى أسرة حاضنة أو أسرة صديقة وعليها ينبني كل شيء، قبول الشخص لذاته وثقته بنفسه وتقديره لذاته وفهم واقعه والتعامل الفردي مع الآخرين ومع المجتمع والاندماج فيه، دون التقليل من أثر أي عوامل أخرى.

حكومة المملكة العربية السعودية كفلت هؤلاء الأيتام وقدمت لهم كثيراً مما يحتاجه الطفل الناشئ وأعطتهم الجنسية السعودية، مما كفل لهم جانباً من الاستقرار بالطبع، وتغدق عليهم مادياً وكلنا نشهد بذلك، مشكلتنا في جانب كبير منها يتعلق بالتربية النفسية الاجتماعية والمنهجية في معالجة وضعهم الاجتماعي الحساس في مثل مجتمعنا، ولعل أول المداخل لذلك هن المربيات أنفسهن، هل هن مقتنعات ببراءة هؤلاء الأطفال الأيتام من مجهولي الهوية؟ كثيراً منهن يحملن في داخلهن ما يتعارض مع العمل الذي يقمن به وقد ينعكس ذلك على التعامل. قبول المربية العمل في المؤسسة يجب أن يعتمد على عوامل شخصية ومهنية ومستوى علمي يسمح بتدريبها لهذه المهمة التي ستقوم بها، عملها ليس سهلاً أبداً!! وحول المربية أيضاً نجد أن تبدلها وانتقالها إلى عمل آخر أو مؤسسة أخرى هو حدث مؤلم جداً للأطفال!! إنه يُتم جديد، وهذا يحدث كثيراً بالطبع، كما أنه يحدث أحياناً نقل الأيتام من بلد إلى بلد آخر لأسباب منطقية أو غير منطقية، يُتم من جديد، وأكثر ما يعاني هذا الُيتم هم الذكور الذين ينفصلون عن النساء كأمهات في دور جديدة يديرها الرجال. ثم إن المنهجية التي نخطط لها لتربية هؤلاء الأطفال تحتاج إلى إعادة نظر، وبقوة! كما نحتاج لوضع معايير للمربية، ومعايير للمكان، ومعايير للأسرة الحاضنة حتى لا يكون ضم الطفل لأسرة تطمع في كرم الدولة فقط؛ فبجانب الشروط المحددة من الجهات المختصة، نحتاج إلى بناء معايير مفصلة لقبول الأسرة كأسرة حاضنة كما أن هذه الشروط قديمة قِدم الأيتام أنفسهم إلا فيما يتصل بالوضع الاقتصادي.

  • آليات مقترحة لمعالجة قضايا الأيتام في المملكة العربية السعودية.

إن البحث والتحليل لقضية الأيتام يتطلب المنظور العلمي المتكامل، وهذا ما لا تعمل عليه كثير من الأبحاث الأكاديمية، والتي تتسم بالتحليل من المنظور العلمي المتخصص، والواقع أن فهم الظاهرة المبحوثة يتطلب تحليلها من خلال البيئتين: الداخلية والخارجية، وفي البيئة الخارجية يتم بحث الظاهرة موضوع الدراسة وفق المنظور: السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، التقني، القانوني، البيئي، كإطار شامل للظاهرة، ومن هنا يكون التشخيص شاملاً، ثم بناء تصور لأفضل الحلول، ومناقشة تطبيقه، والأثر المتوقع منه!!

وبصفة مبدئية نحتاج إلى تعريف “اليتيم” orphan بشكل دقيق، فهو في الأدبيات الغربية يشير إلى من فقد كلا والديه، في حين أنه في ثقافتنا العربية يشمل من فقد أحدهما.

وبالنظر إلى أن غياب أو ضعف الالتزام بالمعايير الأساسية لبناء نظام مؤسسي متكامل وشامل لدور الإيواء، يشكل فجوة وثغرة كبيرة في استقرار واستمرارية جودة الخدمات والرعاية المقدمة لهذه الفئة. وتعد المعايير حجر أساس في تخطيط الخدمات المقدمة، بدءاً من البنية التحتية ومواصفات المباني والمرافق وغيرها، إلى مواصفات العاملين وتأهيلهم المستمر، ثم إجراءات التطبيق والمتابعة والتقييم، وقياس جميع ذلك بمؤشرات الأداء.

معايير دور الإيواء هي معايير دولية مطبقة في كثير من الدول الغربية والعربية، ويمكن الاستعانة بها في بناء نظام مؤسسي مستدام ومرن وحيوي يقابل الاحتياجات المحلية والمتغيرة.

النهج الشمولي الذي يستهدف التكامل في عمل القطاعات المختلفة ذات العلاقة برعاية الأيتام ومجهولي الوالدين، كذلك وعلى مستوى آخر، الشمولية في فهم وتحليل، ثم تحسين ما يقدم من خدمات ومن علاج للمشكلات التي تظهر في دور الإيواء…فالمشكلات نتيجة لظروف متعددة ومعقدة، لا يمكن إلقاء اللوم فيها على العاملين فقط ولا النزلاء فقط ولا الجهات المقدمة للرعاية… التشبيك والتكامل في العمل، يمثل دون شك أحد مفاتيح النجاح.

أيضاً فإن النجاح في التعامل مع الإشكالات التي تواجه وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية يكمن في التخصص والتركيز واتباع استراتيجية واضحة المعالم لا تتغير بتغير القيادات الإدارية، إلى جانب فصل الشؤون الاجتماعية عن شؤون العمل والتوظيف، وكذلك العمل على الاستقلالية التامّة للجمعيات والمؤسسات الخيرية عن الوزارة. وهذا الإجراء سيساهم في التركيز أكثر على قضايا الرعاية والخدمات المقدمة للفئات الاجتماعية المختلفة ومنها فئة الأيتام.

وفي تصور البعض فإن إعادة فصل الشؤون الاجتماعية عن وزارة الموارد البشرية لتقوم بدورها الإنساني الواجب عليها تجاه قضايا المجتمع بشكل كامل ومنها قضايا الأيتام ومجهولي الأب والأم وهي لا شك واجبات مجتمعية وليست منة أو فضلاً من الجهات الحكومية المختصة وخاصة في دول الرفاهية والوفرة المالية كما نحن فيه ولله الحمد والمنة، ويمكن الاستفادة مما هو موجود من تجارب مميزة في دول أوروبا وفي مقدمتها بريطانيا العظمى.

وربما يكون من المناسب العمل على ضم كل ما يخص الجمعيات الأهلية الخاصة برعاية الأيتام والأيتام ذوي الظروف الخاصة تحت مظلة ومرجعية واحدة وتعمل بآلية موحدة أسوة بالمعاقين؛ لتوحيد الجهود المبذولة وتكاملها ووضع قاعدة بيانات موثوقة (للأيتام والعاملين)؛ تكشف أهم التحديات ومناطق الخلل وتعالجها بخطوات وقائية وعلاجية.

ولا يجب إغفال مسألة إعداد الكوادر العاملة في دور الأيتام وتدريبهم على حسن التعامل مع نزلاء الدور، باختلاف أعمار النزلاء وكونهم ذكورًا أم إناثًا. ينبغي أن تتوفر في الكوادر كفايات العمل وأخلاقياته. ومن الضروري أن تكون تخصصاتهم في الخدمة الاجتماعية social work أو علم النفس.

وثمة أهمية لتفعيل دور اللجنة المكلفة بالزواج في الوزارة من خلال الاهتمام بكفاءة ومهارة المختصين القائمين عليها والمناط بهم العديد من المهام التي يمكن أن تسهم في تأهيل الأيتام تأهيلاً سليماً للالتحاق بالحياة الزوجية (خاصة أنهم يفتقدون لنموذج الوالدية الطبيعية أمامهم طوال سنوات حياتهم)!

  • التوصيات
  • الرفع لصنّاع القرار بطلب إعادة النظر في دمج وزارة العمل والتنمية الاجتماعية مع وزارة الموارد البشرية؛ لأهمية التركيز على قضايا الفئات الاجتماعية بمختلف مجالاتها ليتسنى تحسين وتطوير وتجويد العمل.
  • إنشاء هيئة مستقلة للأيتام ويكون تحت مظلتها جميع الجهات التي ترعى الأيتام بهدف توحيد آلية المتابعة والخطط والبرامج.
  • إعادة النظر في الأنظمة التي تهتم بحقوق وحماية الأيتام مثل نظام الحماية من الإيذاء ونظام مكافحة التحرش وتبني النهج الحقوقي في تصميم برامج الرعاية للأيتام ومجهولي الوالدين، وضبط المراقبة من قبل الجهات المختصة وهيئة حقوق الإنسان.
  • بناء معايير جودة الأداء في مؤسسات رعاية الأيتام ومجهولي الوالدين، والاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في التخطيط والتنفيذ والمتابعة.
  • بناء معايير مرنة لاختيار ومتابعة الأسر الكافلة بما يحقق استقرار اليتيم وعدم عودته للدار والسماح للسيدات باحتضان الأطفال الأيتام، وإن لم تكن متزوجة أو مطلقة بدون أطفال طالما لديها القدرة النفسية والمادية للرعاية.
  • إعداد وتأهيل الكوادر العاملة في دور الأيتام من خلال تعيين خريجي أقسام الدراسات الاجتماعية والنفسية وتدريبهم من خلال دورات مكثفة في كيفية التعامل مع أبناء الدار.
  • إدراج حصص وجلسات تهيئة نفسية واجتماعية في دور الرعاية لزيادة ثقة الأيتام بأنفسهم وتقبل وضعهم وردم الفجوة بينهم وبين المجتمع، مما يسهل عملية اندماجهم بالمجتمع لاحقاً.
  • ترخيص وتطوير صندوق وقفي باسم “صندوق الأيتام الوقفي” لدعم الأيتام في مراحل النمو المختلفة ودعم الأسر المحتضنة للأيتام وإتاحة الفرصة للمانحين للتبرع لصندوق الأيتام الوقفي وتطوير استراتيجية للصندوق تهدف إلى تمكين الأسر المحتضنة ودعمهم لتحسين جودة حياة الأيتام وحفظ كرامتهم وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وبمجتمعهم وتنمية مسيرتهم الحياتية، بما في ذلك المساعدة في زواجهم وبناء أسر مستقرة.
  • تحفيز رجال الأعمال لتوظيف الأيتام مجهولي الأبوين المتميزين وذوي الكفاءات وإتاحة الفرصة لهم في العمل في كافة القطاعات مثل العسكرية والخارجية.
  • نشر برنامج الأسر الصديقة من خلال مجموعة من المعايير الملائمة وتحفيز أفراد المجتمع في المشاركة به.
  • القيام بدراسات لبناء تصور استراتيجي وصفي واستشرافي شامل لظاهرة مجهولي الأبوين.
  • الاهتمام بالجانب الوقائي والتوعوي للحد من تزايد أعداد الأيتام من ذوي الظروف الخاصة.
  • المصادر والمراجع
  • حنان أسعد خوج: تصور مقترح لتطوير أساليب رعاية الأيتام بالسعودية في ضوء اتجاهات بعض الدول العربية: دراسة مقارنة، مجلة العلوم التربوية، العدد الرابع، ج1، أكتوبر 2014م.
  • عمر بن محمد المعمر وآخرون: واقع احتياجات الأيتام بالجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بالمنطقة الشرقية “بناء”، جامعة الدمام، 2014م.
  • معن التنجي: الأيتام العرب والمؤشرات اليتيمة، ورقة بحث حول إطلاق مقياس احتياجات اليتيم في المنطقة العربية، مركز سبر، 2015م، https://www.sabr-sp.com/ar/home
  • صفاء الجمعان وآخرون: مشكلات الأيتام داخل دور الدولة وخارجها، مجلة أبحاث البصرة (العلوم الإنسانية)، المجلد (37)، العدد (3)، السنة 2012، ص ص 319-344.
  • إبراهيم إسماعيل عبده محمد: نماذج من تجارب رعاية الأيتام في العالم العربي، المؤتمر السعودي الأول لرعاية الأيتام، الرياض 26-28 إبريل 2011م.
  • أمل صالح الدحيات: دراسة مقارنة في السمات الشخصية للأيتام الذين ترعاهم المؤسسات الاجتماعية والأيتام الذين ترعاهم أسرهم، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة مؤتة، 2007م.
  • أنيس عبدالرحمن عقيلان أبو شمالة: أساليب الرعاية في مؤسسات رعاية الأيتام وعلاقتها بالتوافق النفسي والاجتماعي، كلية التربية، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الإسلامية – غزة، 2002م.
  • المشاركون.
  • الورقة الرئيسة: د. خالد الرديعان
  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: د. الجازي الشبيكي
  • التعقيب الثاني: أ. سمها الغامدي
  • التعقيب الثالث: أ. موضي الزهراني
  • إدارة الحوار: د. مها العيدان
  • المشاركون بالحوار والمناقشة:
  • د محمد الثقفي
  • د وفاء طيبة
  • د مها المنيف
  • أ فهد الأحمري
  • أ فاضل القرني
  • أ عبدالرحمن باسلم
  • د زياد الدريس
  • أ احمد المحيميد
  • د فوزية البكر
  • د خالد بن دهيش
  • د هند خليفة
  • د علي الطخيس
  • د مساعد المحيا
  • د صالحة آل شويل
  • أ عبدالله الرخيص
  • د خالد المنصور
  • د عبدالرحمن العريني
  • د عبدالله العرفج
  • د هناء الفريح
  • د محمد المقصودي
  • أ فهد القاسم
  • أ فايزة العجروش
  • د فايزة الحربي
  • د عبير البرهمين

 القضية الثالثة 

النظام العالمي الجديد، ودور المملكة والعرب فيه

(26/9/2022م)

  • الملخص التنفيذي.

تناولت هذه القضية النظام العالمي الجديد، ودور المملكة والعرب فيه، وأشار د. صدقة فاضل في الورقة الرئيسة إلى أن تصريحات بعض الزعماء، والمراقبين السياسيين، عما سيكون عليه “النظام العالمي”، أو “المنتظم العالمي”، بعد انتهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، تدفع للحديث عن هذا النظام، وآلية تغييره، وأهم تداعياته المتوقعة. ويبدو من المهم التأكيد على أن النظام العالمي لا يمكن أن يكون ثابتاً، فهو في حركة تغيير حتمية متواصلة. وهو لا ينشأ بالاتفاق، أو إبداء الرغبة في التغيير، بل يفرض نفسه، كأمر واقع. وبصفة عامة، هناك من يستفيد، وهناك من يتضرر.

بينما أكَّد أ. سالم اليامي في التعقيب الأول أن السؤال الجوهري الذي يتعين طرحه: هل المملكة قادرة على لعب دور مؤثر وفاعل ومفيد للمملكة في المقام الأول في النظام العالمي الآخذ في التشكل؟ الإجابة المباشرة والتي تحتاج لكثير من التفصيل هي “نعم”.

في حين ذكر د. عبدالله العساف في التعقيب الثاني أن الموقف السعودي للمساهمة الفاعلة في ميلاد النظام العالمي الجديد يدعمه عدد من النقاط التي تُحسَب كعوامل قوة، منها السياسية السعودية الخارجية التي أصبحت أكثر ديناميكية ورشاقة، والقوة السياسية والاقتصادية، فهي إحدى العشرين الكبار، إضافة إلى سيادة جو المصالحة والتعاون بين دول المنطقة، بعد تجربتها التنافر والقطيعة السياسية، بالإضافة لتشكيل كيان سياسي واقتصادي جديد – كيان البحر الأحمر وخليج عدن، ولكن تبقى عوامل أخرى قد تحد من الانطلاقة السعودية، ومنها أن بعض الدول العربية أصبحت في حكم الدولة الفاشلة، وانتشار الميلشيات المحيطة بنا.

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • ملامح تشكل النظام العالمي الجديد والسيناريوهات المستقبلية.
  • الموقف السعودي وسياسة التعامل بندية مع الأقطاب الكبرى.
  • البريكس والنظام الدولي ودور الحرب الأوكرانية والخيارات السعودية.
  • المملكة وصياغة موقف خليجي ملائم من النظام العالمي الجديد.
  • آليات إفادة المملكة العربية السعودية من النظام العالمي الجديد.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • التوسع في إقامة ودعم مراكز الأبحاث والدراسات التي تركز على القضايا المهمة للمملكة، والنظر في تأسيس مركز دراسات للدول العظمى والكبرى، وتمكين هذه المراكز لتقدم التقارير والتوصيات العلمية والعملية المناسبة للجهات المعنية.
  • تفعيل وتنشيط وتطوير مراكز الدراسات الخاصة بأمريكا والصين وروسيا، التابعة لمعهد الأمير سعود الفيصل للدراسات الدبلوماسية، التابع لوزارة الخارجية بالرياض.
  • تعزيز جهود المملكة لتحقيق التكامل الاقتصادي بخاصة مع الدول القريبة لها، والاستمرار في تقييم المواقف، أخذاً بالاعتبار الآثار المنشودة لالتزام الحياد الإيجابي تجاه كل الأقطاب.
  • استمرار العمل على تطوير صناعة الأسلحة بالمملكة وتسريع وتيرتها ومحاولة الاكتفاء ذاتياً، ولو جزئياً، من الأسلحة الدفاعية الضرورية.
  • دعم وحدة المخاطر الوطنية والنظر في توسيع أعمالها، لتؤدي أدوار مركز سعودي لإدارة الأزمات crisis management لتتولى التنسيق بين مختلف الأجهزة الحكومية لمعالجة أي أمر طارئ.
  • الورقة الرئيسة: د. صدقة فاضل

تدفع تصريحات بعض الزعماء، والمراقبين السياسيين، عما سيكون عليه “النظام العالمي”، أو “المنتظم العالمي”، بعد انتهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، للحديث عن هذا النظام، وآلية تغييره، وأهم تداعياته المتوقعة. ومن التصريحات المتعلقة بهذا الموضوع: التصريح الذي أدلى به مؤخراً الرئيس الروسي “فلاديمير بوتن”. حيث قال: “إننا نسير في الطريق إلى عالم متعدد الأقطاب. وهذا سيعنى استبدال النظام أحادي القطبية، الذي عفا عليه الزمن، بنظام جديد متعدد الأقطاب، قائم على المبادئ الأساسية للعدالة والمساواة”.

وفي بداية طرح هذه القضية للنقاش، لا بد أن نتطرق لمسألة تغير النظام العالمي، التي بات يترقبها خبراء السياسة والعلاقات الدولية في العالم. وربما يفوت على البعض أن النظام العالمي لا يمكن أن يكون ثابتاً، فهو في حركة تغيير حتمية متواصلة. وهو لا ينشأ بالاتفاق، أو إبداء الرغبة في التغيير، بل يفرض نفسه، كأمر واقع، شاء من شاء، وأبى من أبى. وهناك، كما سوف نرى، خمسة أنظمة عالمية رئيسة ممكنة. وكل نظام يختلف عن الآخر، من حيث ماهيته، وما ينتج عالمياً، وإقليمياً، عن قيامه، بالنسبة لأطراف العلاقات الدولية المختلفين، المعاصرين له، من أصدقاء ومعادين. وبصفة عامة، هناك من يستفيد، وهناك من يتضرر، باعتبار أن كثيراً من الأحداث السياسية ينطبق عليها القول بأن: “مصائب قوم عند قوم فوائد، وفوائد قوم عند آخرين، مصائب”.

ويعرف “النظام العالمي” (World Order) بأنه: “وضع القوة العالمي، بحيث يفرض الأقوى نفسه وهيمنته عنوة، إنه علاقات القوى والسيطرة فيما بين دول العالم، في وقت معين، أي توزع وتركز القوة والنفوذ والسيطرة الدولية، وطبيعة ذلك التوزيع، وما ينجم عنه من هيمنة وآثار، على أطراف العلاقات الدولية، ومجرياتها”.

والحديث عنه كمنتظم (System) الغرض منه تسهيل فهم هذا الواقع الدولي، الذي يؤثر، بشكل أو آخر، إيجاباً وسلباً، على كل أطراف العلاقات الدولية، وعلى مجريات الأحداث الدولية اليومية. وأكاديمياً، يعتبر “أداة تحليلية” تشرح، وتوضح، ظاهرة دولية عالمية كبرى. وهو أيضاً “مفهوم” علمي له عناصره الراسخة.

****

إن حتمية “التغيير” تصيب “النظام العالمي”، مثلما تلحق بأي واقع سياسي واجتماعي واقتصادي آخر، فظهور وتبلور نظام عالمي معين، يعني أن ذلك النظام قد جاء نتيجة لقانون التغيير والتطور، ليعقب نظاماً عالمياً غابراً… ويحل محله. ثم لا بد أن يحين الوقت الذي يُخلي النظام العالمي فيه المكان لنظام عالمي آخر… تبعاً لتغير توزيع القوة الدولية، بين أطراف العلاقات الدولية… وهكذا. وفي الواقع، فإن الفترة التي يستمر خلالها نظام عالمي ما، تختلف من نظام عالمي لآخر، تبعاً لتغير العوامل…التي تلد الأنظمة الإقليمية والعالمية، بل والمحلية. فالتفاوت في الاستمرارية ينتج عن التفاوت (الديناميكي/الحركي) في القوة، واختلاف وتنوع ظروف الأطراف المعنية، وظروف منافسيهم.

ونذكر أن هناك خمسة أنظمة (أو منتظمات) عالمية رئيسة ممكنة، هي:

  • نظام القطبية الثنائية المحكمة: حيث يسود قطبان، قبضتهما على العالم محكمة، وفي هذا المنتظم، يصعب على الدول الأقل قوة اتخاذ موقف الحياد.
  • نظام القطبية الثنائية الهشة: حيث يسود العالم قطبان، قبضتهما على العالم هشة، الأمر الذي يسمح لقوى ثالثة بهامش (كبير، نسبياً) من حرية التحرك، بما في ذلك الوقوف على الحياد.
  • نظام توازن القوى: وهنا توجد عدة تحالفات، وتكتلات دولية، شبه متنافرة، متساوية، أو شبه متساوية القوة، مما يردع كلاً منها عن مهاجمة الآخر، خشية التعرض لأضرار فادحة، فيبقى “السلام” بين هذه الأطراف، طالما لم يختل التوازن.
  • نظام القطب الواحد: حيث يسود العالم، خلال فترة محددة، قطب (دولة عظمى) واحد هو الأقوى، يفرض، إلى حد كبير، قيمه، ومصالحه، وتوجهاته.
  • نظام الأقطاب المتعددة: وهنا نجد أكثر من دولتين عظميين، تتحكم (إلى حد كبير وملموس) بمقاليد السياسة والعلاقات الدولية، خلال فترة معينة.

****

ويبدو أن المدة التي مكث خلالها النظام العالمي الراهن (نظام القطب الواحد/الولايات المتحدة) قد انتهت…إذ إن النظام العالمي الحالي (2023م) أخذ في التحول (عنوة) إلى نظام عالمي آخـــر…أما النظام العالمي الجديد، فهو: نظام الأقطاب المتعددة. وقد يستغرق “استتباب” نظام الأقطاب المتعددة هذا بعض الوقت (ربما 1-3 سنوات).

إن النظام العالمي الراهن، تغير، لعدة أسباب، لعل أهمها:

  • التدهــــور الاقتصادي النسبي، الذي تعــاني منه الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، والذي بدأ ينهك قوى أمريكا… ويضعف من نفوذها العالمي، بشكل متزايد- خاصة بعد أزمة كورونا العالمية.
  • وجود دول كبرى بدأت قوتها الاقتصادية والتقنية والعسكرية في الصعود والتزايد…الأمر الذي يؤكد تطور هذه الدول، لتصبح دولاً عظمى… تتنافس مع الولايات المتحدة، للتربع على قمة العالم الاقتصادية والسياسية.

وقد تحددت هذه الدول ـ تقريباً ـ وأصبح المراقبون يشهدون صعودها، إلى مكانة الدول العظمى، وهذه الدول هي: الصين، روسيا، بالإضافة إلى استمرار الولايات المتحدة، كدولة عظمى، لتكون قطباً، من عدة أقطاب. وبذلك، سيصبح هناك 3 دول عظمى (3 أقطاب). ونظراً لتفاوت قوة كل من هذه الدول، ستظل أميركا الدولة العظمى الأولى، والصين الثانية، بينما روسيا الثالثة… وسيتأكد تحول النظام العالمي الراهن إلى نظام الأقطاب المتعددة. ولن تستطيع الصين الاستمرار طويلاً في قمة العالم، إلا إذا انفتح نظامها السياسي أكثر، وسمحت بالتعدد الحزبي، ولن تستمر روسيا كذلك، إلا بالقيام بالمزيد من التنمية السياسية والتقنية، والاقتصادية، فلن يكفي كونها ثاني أقوى دول العالم عسكرياً، للاستمرار في القمة.

****

والمرجح ألا يشهد مستقبل العالم المنظور غير منتظم الأقطاب المتعددة المذكور، والذي قد يستمر لعقود قادمة، لعدة أسباب، لعل أهمها:

  • استبعاد ظهور نظــام “توازن قوي” (رقم 3) على المستوى العالمي.
  • ضعف احتمال انفراد دولتين (عظميين) فقط، بالسيطرة على السياسة الدولية، سواء سيطــرة هشة أو محكمة×=؛ وذلك لتصاعد قوة عدة دول، وتوافر الندية في مستوى القوة بينها، وهذا يحول دون ظهور المنتظمين (1 و2).
  • انحسار منتظم القطب الواحد (رقم 4) الذي يسود العالم في الوقت الراهن، للأسباب التي ذكرت أعلاه.

لهذه الأسباب، وغيرها، فإن النظام العالمي الجديد (خلال 1-3 سنوات من الآن) لن يكون سوى نظام التعدد القطبي (منتظم رقم 5).

****

والمرجح أيضاً، أن يكون كل قطب قادراً على تدمير الآخر… بما لديه من أسلحة دمار شامل، كما يتوقع أن يكون أساس العلاقات فيما بين الأقطاب القادمين، هو الصراع… لا التعاون. وبالطبع، لا بد من الصراع والتنافس، فالعلاقات الدولية هي ـ بطبيعتهاـ علاقات تتأرجح بين التعـــاون والصراع… وما بينهما، كما هو معروف؛ ولكن عدم قدرة أي قطب على التخلص من الآخر، دون أن يهلك هو، تُرغِم كل الأقطاب على أن يكون التعاون فيما بينهم هو المطلوب… وأن يُهمَّش الصراع، إلى أدنى درجة ممكنة. ورغم ذلك، يتوقع بعض المراقبين أن يوجد تحالف استراتيجي بين روسيا والصين، لمواجهة خطر مشترك (الولايات المتحدة) سيما وأنه يسود التعاون الآن في العلاقات بين الصين وروسيا.

وقد يحاول الأقطاب الاتفاق على أسلوب التحرك دولياً… وربما الاتفاق على “توزيع” مناطق النفوذ، وعدم السماح لأي طرف أصغر، بجرهم إلى صراعات ساخنة مدمرة. كما يتوقع أن ينصب التنافس فيما بين الأقطاب القادمين، على عمليات التنمية الاقتصادية والعلمية والتقنية، ومحاولات السيطرة (السياسية) على مصادر الطاقة، والمواد الخام، خاصة في دول العالم النامي. وتلك من التفاصيل التي “تنبأ” بها هنري كيسنجر، وغيره من علماء العلاقات الدولية العالميين.

نعم، بدأ العالم يسود فيه نظام “التعدد القطبي”، رغم استمرار القطب الأمريكي (الوحيد سابقاً) في المركز الأول. هناك الآن ثلاث قوى عظمى: أمريكا، الصين، روسيا. إن العلاقات فيما بين الأقطاب كثيراً ما تحدد وضع السلام، أو الحروب، في العالم، وفي أقاليمه الهامة، والتحليل الموجز للعلاقات الآن فيما بين هؤلاء الأقطاب، يكشف أن الصراع يسود العلاقات الأمريكية – الروسية، وكذلك العلاقات الأمريكية – الصينية. أما العلاقات الصينية – الروسية، فيسود فيها التعاون على الصراع. وهذا ما يدفع بعض المراقبين لتوقع قيام تحالف صيني- روسي، ضد عدو عتيد مشترك، هو أمريكا/ ناتو، كما أشرنا آنفاً.

****

النظام العالمي الجديد والمنطقة العربية (الشرق الأوسط):

لو تساءلنا، لمجرد الجدل: ما هو أفضل “نظام عالمي”…؟! هنا، لا بد أن نسأل من يسألنا: بالنسبة لمن…؟! فلا بد من “تحديد” الطرف المعني، للإجابة السليمة على هذا التساؤل. وذلك أخذاً في الاعتبار قاعدة أن: “مصائب قوم، عند قوم فوائد، وفوائد قوم عند آخرين، مصائب”… فنظام عالمي معين قد يكون لصالح الطرف “أ”، ولكنه لطالح الطرف “ب “، في ذات الوقت. لذلك، وعند الإجابة المنطقية على هذا السؤال، يمكن أن نقول (مثلاً): أن أفضل نظام عالمي، بالنسبة لنا كعرب سعوديين، هو أن تكون بلادنا العزيزة (المملكة العربية السعودية) هي القطب الوحيد، لنعش عصرنا الذهبي، تماماً كما حصل للأمريكيين، في الفترة 1991- 2022م. فإن لم يكن، فدولة عربية إسلامية شقيقة، فإن لم يكن فدولة صديقة بحق، تحترم حقوق الآخرين، وحقوق الإنسان بالفعل، فإن لم يكن، فنظام عالمي متعدد الأقطاب… وهكذا. ونفس المنطق ينطبق في حالة التساؤل عن “أسوأ” نظام عالمي.

وحتى الآن، ما زالت أمريكا (وربيبتها إسرائيل) هي الأقوى نفوذاً وهيمنة بالمنطقة العربية، وعلى المنطقة أن تدرك الآن أن للولايات المتحدة، منافسين أنداداً، يريدون أن يشاركوا أمريكا في “كعكة” المنطقة. فالصين خاصة بحاجة ماسة لنفط وغاز المنطقة. وتهتم روسيا بالمنطقة، لعدة أسباب، أهمها: قربها من روسيا، وإمكانية الحصول فيها على موانئ دافئة، مثل ما حصلت عليه في طرطوس السورية، ولكون المنطقة مهمة لأمريكا، وبقية القوى الكبرى.

أصبحت الولايات المتحدة مكتفية ذاتياً من النفط والغاز، وبالتالي لم تعد في حاجة مباشرة لهما. ولكنها تظل مصرة على التحكم في انسيابه لأصدقائها وأعدائها، والاستفادة من عوائده، قدر الإمكان. ولذلك، ستبقى أمريكا بالمنطقة، ولكن بزخم أقل، و”شروط” أشد. وستركز إمكاناتها العسكرية والدبلوماسية، من الآن وصاعداً، على المحيطين الهندي والهادي، الملاصقين للصين، بل وعلى “بحر الصين” نفسه. ثم أوروبا وشمال الأطلسي، ثم منطقة الشرق الأوسط. والأقطاب العمالقة الثلاثة باقون، كلاعبين أساسيين على الساحتين العالمية، والإقليمية. وسيشتد تنافسهم على هذه المنطقة، الهامة جداً لثلاثتهم، وربما بنفس القدر لكل منهم.

إن مجرد تواجد الصين بالمنطقة، بهذا الزخم الاقتصادي، يثير التوتر مع بعض القوى الدولية، وبخاصة الولايات المتحدة. ويبدو أن اللعبة الصينية – الأمريكية بمنطقة الخليج نتيجتها غالباً “صفرية”. فما تكسبه الصين بالمنطقة، تخسره أميركا، والعكس صحيح. ويتوقع أن يتفاقم هذا التوتر كلما توثقت علاقات الصين بدول المنطقة، واستتب نفوذها، الأمر الذي قد يدفع لحصول بعض الاحتمالات الصراعية الجذرية، في مسار السياسة الدولية بالمنطقة العربية، ومن ذلك قيام تحالف صيني- روسي، يقلب توازن القوى بالمنطقة، والعالم، رأساً على عقب.

****

ومهما كانت العلاقات فيما بين هذه الأقطاب، أو علاقة كل منها بدول المنطقة، فإن أهل المنطقة، شعوباً وحكومات، هم المسؤولون الأساسيون عن حماية أمن واستقرار واستقلال وتطور بلادهم، إذ عليهم، دائماً ومهما كان وضع النظام العالمي السائد، أن يعملوا بجد وإخلاص وصدق لتقوية الذات، خاصة عبر “تطبيع” أوضاعهم السياسية، والتضامن (التكامل/ الاتحاد) البيني، لأقصى حد ممكن، ليضمنوا بقاءهم واقفين… دون الحاجة الملحة لإسناد من هذه الدولة العظمى، أو تلك. وإن من أهم وسائل حماية المصالح الوطنية، هي التنمية الإيجابية في كل المجالات، والتعاون والتكامل الإقليمي، خاصة إنْ تأكد وجود مصالح، وأخطار، مشتركة، كما هو الحال بالنسبة للعرب.

إنَّ من مصلحة المملكة، بل والعرب (كأمة) أن يتحول المنتظم الدولي الحالي إلى نظام التعدد القطبي.. إذ إن ذلك سيسهل التحلل قليلاً من ربقة بعض الأقطاب، ومن سياساتها السلبية…عبر إمكانية الاستعانة (الحذرة) بالأقطاب الأخرى، في التصدي للمناورات المعروفة للأقطاب المؤذية للمصلحة الوطنية والعربية العليا. وإن من المؤكد، أن تضامن واتحاد العرب – إن حدث- سيجعل منهم قوة هامة، في أي نظام عالمي… وبصرف النظر عن ماهية ذلك النظام، وطبيعة وسياسات المسيطرين فيه. فاتحادهم (أو التكامل الحقيقي فيما بينهم)، سيجعل منهم كياناً له سطوة وثقل الدولة الكبرى، إن لم نقل العظمى.

والمعروف أن “الدولة الكبرى”، تكون أقرب لمنزلة ونفوذ “الدولة العظمى”، من غيرها، كما أن “الدولة الكبرى”، أقدرـ في أي نظام عالمي ـ على حماية مصالحها، وتحقيق أهدافها العليا، من الدولة المتوسطة والصغرى والدويلات. تلك هي إحدى حقائق وثوابت العلاقات الدولية على مر العصور، وفي ظل الأحوال والمتغيرات والأنظمة العالمية المختلفة.

****

السعودية وأميركا: علاقات متجددة تخدم المصالح المشتركة:

أُسست المملكة العربية السعودية، وأعلنت كدولة حديثة، يوم 23 سبتمبر 1932م. وتأسست الولايات المتحدة الأمريكية يوم 4 يوليو 1776م. ومع مرور الوقت، وتفجر النفط بالسعودية، أصبح بين الدولتين علاقات وطيدة، ومتشعبة، ووثيقة، رغم التباعد الجغرافي الكبير بينهما، وصلت لدرجة التحالف الاستراتيجي الضمني. ومنذ تأسيس المملكة العربية السعودية، اعترفت بها الدول الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا والاتحاد السوفييتي. ثم اعترفت بها الولايات المتحدة رسمياً عام 1933م. وفي نفس العام، تم إبرام اتفاقية امتياز التنقيب عن النفط واستخراجه، والتي بموجبها منحت شركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا” (Standard Oil of California) حق التنقيب عن النفط في المنطقة الشرقية من المملكة، مقابل إعطاء الحكومة السعودية مبلغ 53000 دولار، وتحمل تكاليف ورسوم الامتياز. وتم التوقيع، عام 1933م أيضاً، على اتفاقية بين البلدين، لعلاقة الدولة المفضلة.

كانت العلاقة بين البلدين، في البدء، محدودة. حتى إن أميركا كانت تدير هذه العلاقات عبر سفارتها في مصر. ففي عام 1930م، أرسلت وزارة الخارجية الأمريكية معاون الملحق التجاري بالإسكندرية (رالف تشيزبروف) إلى جدة لاستطلاع الأوضاع، والنظر في إمكانية دعم هذه العلاقات؛ ولكن منذ عام 1933م، بدأت هذه العلاقات تنطلق نحو آفاق أوسع. وبدأت شركات النفط الأمريكية العاملة بالسعودية (الشركة الأولى، وما انضم إليها من شركات أخرى) تطالب الحكومة الأمريكية بدعم العلاقات مع السعودية، لحماية مصالحها، عبر تعزيز الوجود الأمريكي، وضمان تدفق النفط السعودي للولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 1943م، بدأ استخراج النفط يتزايد، وبكميات تجارية غير مسبوقة، وتولت “أرامكو” (شركة الزيت العربية الأمريكية) التي تأسست عام 1933م، من شركة “ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا”، وشركاؤها، تصدير النفط السعودي، ومشتقاته، الذي وصلت كمية المنتج منه، في عام 1943م، خمسة ملايين برميل سنوياً.

****

وفي عام 1943م أيضاً، عينت أمريكا أول قائم بالأعمال لها في جدة. وبدأت المملكة تصبح ذات أهمية كبيرة لأميركا، ابتداءً من أربعينيات القرن الماضي. وخلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، تأكد أن النفط السعودي قد أضحى ذا أهمية بالغة للولايات المتحدة الأمريكية، وللعالم ككل. وهذا دفع أميركا لتوثيق علاقاتها بالسعودية. وعبَّر عن هذا الاهتمام المتصاعد، وهذه الأهمية المتنامية، الرئيس الأمريكي “فرانكلين دي روزفلت”، يوم 16 فبراير 1943م، إذ قال: “إن الدفاع عن السعودية أمر أساسي للدفاع عن الولايات المتحدة”.

وحصلت النقلة النوعية الأكبر في العلاقات السعودية-الأمريكية، صباح يوم 14 فبراير 1945م، عندما التقى “فرانكلين روزفلت” بالملك عبد العزيز آل سعود، يرحمه الله، على متن حاملة الطائرات الأمريكية “يو اس كوينسي”، في البحيرات المرة، لمدة خمس ساعات، واتفقا على دعم العلاقات الثنائية، بين البلدين، واتخاذ مواقف موحدة تجاه بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك.

لقد تأسست هذه العلاقات رسمياً سنة 1933م. وفي عام 1944م، فتحت السفارة الأمريكية لدى السعودية، لأول مرة، في مدينة جدة. ثم انتقلت إلى الرياض عام 1984م، مع ثلاث قنصليات أمريكية في كل من جدة والرياض والظهران. وبلغت هذه العلاقات إحدى ذرواتها، عندما زار الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترمب” السعودية، في مايو 2017م. وكانت أول رحلة خارجية له، بعد أن أصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. كما زار الرئيس الأمريكي الحالي “جوزيف بايدن” السعودية، في شهر يوليو 2022م، وناقش مع قيادتها العلاقات الثنائية وسبل دعمها أكثر، وبعض القضايا ذات الاهتمام المشترك. وحضر مؤتمراً ضم أمريكا، ودول مجلس التعاون الخليجي، إضافة لكل من مصر والأردن والعراق. وقد وصف وزير الخارجية الأمريكي الحالي “أنتوني بلينكن” هذه العلاقات بأنها: “علاقة وشراكة مهمة جداً، تربط الولايات المتحدة بالسعودية”. إنها، بالفعل، علاقات وطيدة، ووثيقة بين حكومتي البلدين، وفي كل المجالات، وخاصة: السياسية والاستراتيجية والأمنية، والعسكرية والاقتصادية، والاجتماعية، بما فيها التعليمية والثقافية.

****

لقد استفادت المملكة العربية السعودية من علم وتقنية ومساعدة أميركا، وغيرها، وتمكنت من الشروع في تنمية كبرى شاملة لشعبها وبلدها، تمولها عائدات النفط، نقلت هذا البلد إلى مصافي الدول المزدهرة، التي تتقدم يوماً بعد يوم. كما استعانت السعودية بأميركا في الدفاع عن نفسها، وتقوية وتحديث جيشها، وتزويده بأحدث الأسلحة. إضافة إلى العمل المشترك لضمان أمن واستقرار المنطقة، وفي المقابل، ساهمت السعودية في تحقيق معظم أهداف السياسة الأمريكية تجاه المنطقة والعالم، مع الحرص على الالتزام باستقلالها، وبمبادئها وقيمها، وثوابت سياساتها، وانتمائها العربي، والإسلامي. ومن ذلك، إصرار المملكة على دعم الشعب العربي الفلسطيني، وضمان حقوقه في أرضه، ومطالبتها المتواصلة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967م، بعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.  ومعروف، أن السعودية هي مصدر ما يسمى بـ “مبادرة السلام العربية”، التي أصبحت مبادرة عربية، وإسلامية، مطروحة من قبل العرب، بعد إقرارها في مؤتمر القمة العربي المنعقد في بيروت عام 2002م. وهي تشبه تماماً مبدأ “حل الدولتين” الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة، وأيدته معظم دول العالم.

ومن المتوقع، استمرار هذه العلاقات الوثيقة، وتطورها، وازدهارها، في ظل النظام العالمي الجديد، طالما بقيت المصالح المشتركة بين الجانبين، قائمة ومتنامية. ويبدو أن النظام العالمي الجديد يتيح للمملكة فرصة “تعظيم” إيجابيات هذه العلاقة، بالنسبة لها، و”تقليص” ما لها من سلبيات معروفة. فهامش المناورة، في النظام الجديد، أصبح أوسع… أمام الدول الأقل قوة.

  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: أ. سالم اليامي

يغلب في الفترة الأخيرة وبعد التطورات الدراماتيكية التي شهدها الكوكب وفي طليعتها جائحة كورونا ثم نشوب الحرب الروسية في أوكرانيا وإضافة نتائج هذا الصراع السلبية إلى النتائج التي لم يتعافَ منها العالم وأعني بها مشاكل التراجع في النمو الاقتصادي بسبب جائحة كورونا، كل ذلك أحدث اختلالاً كبيراً في النظرة الدولية لعناصر القوة وتوزيعها واستخدامها بين القوى التقليدية.

مهم في الورقة المقدمة للنقاش التطرق للأمور الأساسية التالية:

  • الأول: أن التغير طبيعة كونية، وهو حادث لا محالة في كل شيء تقريباً في حياة البشر، ومن ضمن التغيرات في النظام الدولي الذي يعني في أحد أوجهه الإشارة إلى تركز القوة والتأثير في دولة ما والتأثير بها على تعظيم مصالحها في مواجهة مصالح الآخرين.
  • الثاني: ضرورة التأكيد على أن صيرورة العلاقات الدولية تقوم على التعاون والصراع، وهذه هي النواة الأولى للعمل الدولي، والمهم إدراك أنها ستستمر وباقية في كل أشكال وتحولات الشكل العام للنظام وماهيته.
  • الثالث: تلمس حالة شبه الإجماع في الرأي على أن التحولات المحتملة في شكل وماهية النظام الدولي تحوله إلى التعددية القطبية، بمعنى بقاء طرف قديم في المقدمة “الولايات المتحدة الأمريكية” وبروز قطبين جديدين “الصين” و”روسيا”، وستعتمد درجة القطبية في هذا النظام أكانت مُحكَمة أم هشة على الأدوار المتوقعة لهذه الأطراف، والمتوقع أن يشكل التعاون وربما التحالف الصيني الروسي درجة واضحة من الاستقطاب بناءً على تعاون الطرفين.

دور المملكة العربية السعودية في النظام العالمي الجديد

من الأمور المهمة لمناقشة هذه الفكرة معالجتها من زاويتين:

  • الزاوية الأولى: محاولة تجسيد أو تلمس طبيعة الدور السعودي من خلال انبثاقه في إطار المنظومة العربية. وهذا الموضوع في تقديرنا يحتاج إلى بنية عربية سياسية واقتصادية وربما تنموية سياسية واقتصادية شاملة تكون فيه القيادة للمملكة العربية السعودية تبعاً للمعطيات التاريخية والاقتصادية والروحية الثقافية، هنا سيكون هناك أمل في بروز ما يمكن أن نسميه بالقوة العربية أو بروز العرب كقوة إقليمية قادرة على التأثير في آلية وعمل النظام العالمي الموجود أياً كانت هويته وسماته. وهذا التصور يمكن تجسده من خلال خطوات صعبة في إطار منظومة خليجية تتطور لتشمل المنظومة العربية. وهذا التصور في رأينا غير متاح عملياً نظراً لعقبات وعراقيل يعرفها الجميع.
  • الزاوية الثانية: محاولة بروز الدور السعودي الفاعل بالاعتماد على قوى الدفع الذاتية السعودية ومن خلال تطوير الذات وتحديث منظومات البنى السياسية والاقتصادية والإدارية واختيار نسق من العلاقات يكون على المستويات التالية:
  • أولاً: الإبقاء على علاقات جيدة مع الجانب الأمريكي كل ما أمكن ذلك، رغم التأكد من أن تفضيلاته السياسية والاستراتيجية تبدلت في المنطقة، ومع تعزيز مفهوم الاستقلالية والخصوصية للنظام والسياسة والمجتمع في المملكة.
  • ثانياً: تطوير العلاقات مع الأقطاب الجديدة في مختلف المجالات بما يعني الاستعانة الحذرة والحاذقة؛ أي المحافظة على حالة توازن مع الأقطاب الممثلة لجوهر النظام الدولي دون الوقوع في حالة استقطاب شديدة ودون التأثير بلعب دور مع كل طرف.

ويمكن ملاحظة أن هذا الدور يمكن أن يعزز مواقف المملكة في أي تطورات على مستوى العلاقات العربية البينية، إذا ما باتت الظروف مواتية لتكوين قوة عربية إقليمية متوازنة مع القوى الإقليمية الأخرى.

السؤال الجوهري بعد كل هذا العرض في رأينا هو: هل المملكة قادرة على لعب دور مؤثر وفاعل ومفيد للمملكة في المقام الأول في النظام العالمي الآخذ في التشكل؟ الإجابة المباشرة والتي تحتاج لكثير من التفصيل هي “نعم”.

 

 

  • التعقيب الثاني: د. عبدالله العساف

التغيير إحدى النواميس والسنن الكونية، التي لا يمكن منعها، لكن يمكن الاستعداد لها والتكيف معها، وتقليل الخسائر وتعظيم المكاسب، وهذا لن يتحقق إلا بالتخطيط والاستعداد والرؤية الاستشرافية الواقعية الواعية لدروس التاريخ، وتحولاته، فبعد المعارك المتعددة مع كورونا استطاع العالم إلى حد كبير التغلب عليها وتحييدها، ولم يكد يلتقط أنفاسه حتى أطلت أزمة أوكرانيا برأسها، وهنا يصدق القول ما بعد أوكرانيا وليس كورونا لن يصبح كما كان قبلها.

فالولايات المتحدة التي سعت لمحاصرة ميلاد النظام العالمي الجديد أصبحت هي القابلة التي عجلت بالمخاض السياسي العسير، والعالم يترقب ميلاد نظامه السياسي القادم برأسين أو بثلاثة رؤوس والذي سيهيمن على القرار السياسي والاقتصادي والأمني والغذائي والصحي والتقني في العالم، بعد أن مر العالم خلال القرن الماضي بثلاثة أنظمة أحدها استمر لمدة أربعة عقود وكان ثنائي الأقطاب، وما لبث أن عاد أحادي الأقطاب بتفرد واشنطن في التحكم بمصير العالم لمدة ثلاثة عقود، ثم عاد ثنائي الأقطاب اقتصادياً بعد صعود الصين وازدهار اقتصادها، وها هو يترقب ساعة ميلاد النظام العالمي الرابع بشكله الجديد.

كل ما سبق يقودنا للتساؤل:

  • ماذا أعددنا لهذا النظام العالمي الجديد؟
  • هل سنصبح متفرجين، أم مشاركين؟
  • هل لدينا تصور لمكانتنا في النظام العالمي المرتقب؟
  • ما أبرز التحديات التي تعوق السعودية تحديداً عن المضي سريعاً في المشاركة برسم مكانها ومكانتها على الخارطة الدولية الجديدة؟
  • أيهم أفضل لنا، وللعالم خصوصاً بعد تجربة نظام القطب الواحد، والقطبين، بقاء الحال بتفرد البيت الأبيض بقيادة العالم، أم بمشاركات أخرى من قبل الدول الكبرى؟

هذه الورقة لن تجيب عن هذه التساؤلات بشكل مباشر، ولكنها تسعى من خلالها لفتح مسارب للنقاش حولها والإضافة لها، فأصبحنا في السنوات العشر الأخيرة نلمس ونعايش تحطم الولاءات القديمة، وتشكل أحلاف جديدة، وصار البحث عن أوراق تناسب المرحلة القادمة ضرورة لا خياراً، ولا يمكن الهرب منه، ولأدلل على ذلك سوف أستشهد بما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق ترامب الحليف القوي لنا كما كان ينعته البعض، والذي بسببه رمانا البعض عن قوس وحدة وتهم معلبة مصنوعة، أثبتت الأحداث عدم مصداقيتها، أقول هذا الحليف تحدث إلى ناخبيه قائلاً إنه من يحمي الأنظمة الحاكمة في الخليج ولو رفع يده عنها لسقطت!!

من هنا كان يجب علينا أو هي السبب بجعل السعودية تأخذ خطوات مهمة جداً بعيداً عن الحليف التقليدي، منها إنشاء تحالف أوبك بلس، ذو الصبغة الاقتصادية، لكنه لا يخلو من أبعاد سياسية مهمة، وهنا تجدر الإشارة المهمة التي لم يلتقطها إلا القليل، ولم يعرف معناها، وأسرارها إلا الراسخون في العلم، فالكثير من المحللين السياسيين والاقتصاديين فسر كلام سمو الأمير محمد بن سلمان” التخلص من إدمان النفط، وتقليل الاعتماد على النفط”، بأنها استراتيجية اقتصادية خالصة، بينما قرأتها مراكز الأبحاث المتخصصة بأنه الانسحاب التدريجي من الاعتماد على واشنطن، والارتباط بها، بعدما رسخت الأحداث المتتالية أن المتغطي بأمريكا عريان، وهي عبارة منسوبة للرئيس المصري الراحل، حسني مبارك -رحمه الله- لخصت السياسة الأمريكية تجاه الحلفاء!!

ومن الإرهاصات الأخرى هو الموقف السعودي من الحرب في أوكرانيا، والتزامها الحياد الإيجابي، والدعوة للالتزام بالقوانين الدولية، والأهم في نظري هو عدم الانحياز إلا لمصالحها، وعدم الميل شرقاً أو غرباً، كما أن زيارة بايدن لجدة وعدم الاستجابة لطلبه في ضخ المزيد من النفط، بالإضافة لموقف دولة الإمارات من عدم التصويت ضد روسيا، في الأمم المتحدة، كل هذا ما كان ليحدث لولا وجود مؤشرات قوية على تهاوي القطب الأحادي وبروز قطب أو أقطاب جديدة، نحن شركاء فيها حتى وإن كان باليسير.

الحرب الأمريكية / الروسية على الأرض الأوكرانية أفرزت عدداً من المتغيرات المهمة جداً، حتى وإن بقيت واشنطن سيدة الموقف العالمي، لكن سعيها لتفكيك دول الاتحاد الأوربي وجعلها تحت مظلة الناتو فقط، لم تنجح فيه، رغم انسحاب نصفها الآخر بريطانيا من هذا التجمع الأوربي، مما أعطى فرنسا وألمانيا المقيدة بتبعات الحرب العالمية الثانية الفرصة لقيادة أوروبا وتنصيب نفسها الشرطي الجديد لأوروبا، خصوصاً بعد تحالف اوكوس، وإلغاء صفقة الغواصات الفرنسية، كما أفرزت هذه الحرب الموقف الخليجي الذي أثار الكثير من التساؤلات، والذي نظر إليه المراقبون بأنه المرة الأولى التي تغرد فيها دول الخليج العربي خارج السرب الأمريكي، هذا من ناحية، والانفتاح غير المسبوق على روسيا والصين من ناحية أخرى، والثالثة البيان الصيني الروسي المشترك، والذي يعبر عن رغبة صادقة وقراءة واعية لتحالف اوكوس الموجه ضد الصين بالدرجة الأولى وتوسيع حلف الناتو الموجه ضد روسيا، مما دفعهما لاتخاذ خطوات جادة معلنة، وربما سرية لاستكمال مشروع الانقلاب على القطبية الأحادية وإعلان البيان رقم واحد.

هذه المتغيرات، إضافة لمواقف سلبية من الإدارات الأمريكية الحديثة منذ عهد أوباما، ومنها إنشاء ودعم ثورات  ما سُمي بالربيع العربي، والاستدارة عن المنطقة، وسحب بطاريات الصواريخ دون التشاور مع دولها، وعدم الالتزام باتفاقية فيصل/ نيكسون، والتماهي مع الحوثي، وغض الطرف عن ممارساته العدائية ضد الأعيان المدنية والاقتصادية، والمسارعة لتوقيع اتفاقيات نووية مع العدو الأول للمنطقة، وعدم السماح لدولها بالمشاركة فيها، وعدم مراعاة مخاوفها، كل هذا يقودنا للتقرير بعدم صلاحية القطب الواحد لقيادة العالم، وأن فترة صلاحيته قد انتهت بعد ثلاثة عقود من قيامه، واليوم أصبحت منطقتنا والعالم أجمع بحاجة لنظام متعدد الأقطاب، خصوصاً بعد بروز قوى دولية قادرة على منافسة أمريكا، والأهم أن هذه القوى لديها الطموح والرغبة لاستعادة مكانتها الدولية، وبالنسبة لنا، إن هذه القوى العالمية لديها مصالح كبيرة معنا، ولا تتدخل بشؤوننا، وليس لديها يسار محتقن ويمن متطرف.

يدعم الموقف السعودي للمساهمة الفاعلة في ميلاد النظام العالمي الجديد عدداً من النقاط التي تحسب كعوامل قوة، منها السياسية السعودية الخارجية التي أصبحت أكثر ديناميكية ورشاقة، والقوة السياسية والاقتصادية، فهي إحدى العشرين الكبار، إضافة إلى سيادة جو المصالحة والتعاون بين دول المنطقة، بعد تجربتها التنافر والقطيعة السياسية، ولعل زيارة سمو ولي العهد الأخيرة، لمصر والأردن وتركيا،  كانت تصب في هذا الاتجاه، بالإضافة لتشكيل كيان سياسي واقتصادي جديد – كيان البحر الأحمر وخليج عدن- فالسعودية تقع في قلب العالم، ومن يسيطر على القلب، يتحكم بباقي الأعضاء،  بالإضافة لسيادة كلمة النفط والطاقة  في هذه المرحلة، وفي المستقبل المنظور، والتي ترجح الصوت السعودي/ الخليجي، ولكن تبقى عوامل أخرى قد تحد من الانطلاقة السعودية، ومنها أن بعض الدول العربية أصبحت في حكم الدولة الفاشلة، وانتشار الميلشيات المحيطة بنا.

الخلاصة: العالم بصدد ميلاد نظام عالمي سياسي واقتصادي وتقني وصحي جديد، وعلى من يشكك في ذلك أن يقرأ التاريخ القريب جيداً، فكورونا وأوكرانيا سببتا هزة عظيمة للنظام العالمي ظهرت آثار تصدعه سريعاً بصياغة نظام عالمي يمنع واشنطن من إعادة صياغة النظام العالمي الجديد كما تريد.

 

  • المداخلات حول القضية
  • ملامح تشكل النظام العالمي الجديد والسيناريوهات المستقبلية.

إن التغير القطبي في النظام العالمي قادم لا محالة بسبب سنة رب العالمين وخلخلة الهيمنة الاقتصادية والعلمية والتقنية في الدول الكبرى.

ومن التاريخ القريب أن إعادة تشكيل النظام العالمي يحدث بعد صراع وانكماش التعاون. بعد الحرب الأولى انهارت الدولة العثمانية وقُسِّمت أراضٍ من ألمانيا وبقية دول المركز. ومن جانب آخر بدأ عهد للدول العربية (وإن كانت وفق خطة المنتصر).

وبعد الحرب الثانية تبلورت القطبية الثنائية والنظام العالمي من خلال الأمم المتحدة والاصطفاف من بقية دول العالم بين القطبين (بالرغم من وجود منظمة عدم الانحياز).

فضلاً عن الحروب التي تعتبر في مقياس أصغر مثل الصراع العربي الإسرائيلي، فيتنام وغيرها حتى حرب الخليج الأولى والتي كانت الرمق الأخير لأحد القطبين (الاتحاد السوفيتي والذي تخلى عن العراق بأربعة مليار دولار) وبعده بعام خرج من التنافس القطبي.

والآن الحرب الروسية الأوكرانية محصورة عسكرياً وجغرافياً وقابلة للتمدد بسرعة تفوق ما حدث في الحربين العالميتين بأسباب تقنية، سياسية ولعل الأهم إعلامياً.

هل التاريخ سيعيد نفسه لإعادة تشكيل القطبية بوسيلته شبه الأحادية وهي حرب ذات مقياس أعلى؟ ويثبت أن البناء لا بد أن يكون بالضرورة من رفات؟

إذا كان الجواب نعم (وهو الأسوأ) سيكون أكثر تعقيداً، والتحضير له لا بد أن يكون غير تقليدي (خارج الصندوق) – كما ورد في الورقة الرئيسة والتعقيب عليها – بالوحدة العربية والتعاون الإسلامي وفرصة سانحة لقيادة المملكة لذلك.

الثلاث الدول الكبرى (العظمى) المرشحة للقطبية لن تتفرد بمفهوم وهيكلة القطبية بنفس طريقة الاقتراب الماضي لذلك، فهناك دول صاعدة في الصف الثاني الداعم لإحدى القوى الثلاث أو ربما وهو الأرجح داعم للثلاثية القطبية المتوقعة (إعادة النظر في الفيتو المستبد). مثل الهند، البرازيل، إندونيسيا، سنغافورة، تركيا ودول الخليج. إذا كان ذلك منطقياً ومعقولاً. هل ممكن قيام كيان سياسي بيني يخلق التوازن والوسط حيث البناء والنماء والاستقرار؟ وكيف؟ ومتى؟ مع الإقرار بصعوبة ذلك لأسباب مختلفة إلا أنها بتصور البعض – أكثر يسراً من الوحدة العربية بدءاً.

إن التغيير الحاصل في النظام العالمي ليس تغييراً عددياً فقط، بل إن فيه تغييراً نوعياً سيتبلور قريباً. حتى أوروبا يحتمل أن تصبح أكثر استقلالاً عن أمريكا. والأخيرة لن تفرط في مناطق نفوذها، وقد تصبح أكثر هجومية، وإن أفضل رهان لأي دولة تسعى نحو الاستقلال، والكرامة، والنمو، وحماية مقدراتها، هو أن تقوى ذاتها، خاصة عبر تقوية وإصلاح إدارتها أولاً، ثم تسعي للتكامل مع الدول الأقرب إليها، جغرافياً ومصلحياً. مثل هذه الدول ستكون بخير في النظام العالمي القادم الآن، وفي غيره.

وتذهب بعض وجهات النظر إلى أن تعدد الأقطاب لن يغير كثيراً من المعادلة فهو مجرد “تعدد” وليس “تغير”، فالأقطاب التي نتحدث عنها ليست طازجة fresh أو ناشئة، بل هي ذاتها التي خبرناها خلال العقود الخمسة أو الستة الماضية أمريكا، روسيا وآسيا.

الصين ليست لاعب تحديات سياسية كما هو حال اللاعبين الآخرين واللذين يتوجس منهما التهديد والعلاقات السرية بدول الشغب كإيران وإسرائيل وما في حكمهما.

ومن هنا فإن التحديث update الذي سيحدث لقطبية القوى العالمية هو ناعم بدرجة تُبقي موقف المملكة كما هو، وبالمضي أبعد من ذلك يمكن توقع نفس الموقف من المملكة بالمحافظة على العلاقة الأمريكية حتى لو تراجع دورها ولم يضعف لدرجة التضعضع، طالما أنه دولة قوية ستحافظ المملكة على علاقتها بها لتستثمر في تاريخ العلاقة وتبني عليها. وفي ذات الوقت تستمر في حيادها السياسي ودبلوماسيتها الدولية لتحصد علاقات عامة تؤهلها للإفادة من بقية القوى، وهذا ديدنها السياسي الذي نعرفه جميعاً وهو تصرف حكيم وفعال، وأرى أنه سيستمر كما هو. الجديد في الموضوع هو أيضاً تحديث update لطبيعة العلاقات بما يتواءم مع تطورات القطبية العالمية.

  • الموقف السعودي وسياسة التعامل بندية مع الأقطاب الكبرى.

على وجه العموم نجد المملكة العربية السعودية في الفترة الأخيرة قد حققت وبامتياز سياسي يُنبئ عن الندية للكبار انتصاراً سياسياً عظيمًا خلال معالجتها للوضع الدولي المرتبط بإنتاج النفط، وبلادنا العظيمة كما يصفها الإعلام العالمي هي «البنك المركزي للنفط في العالم»، وهذا ما يجعلها تفكر بشكل عالمي عندما يرتبط الأمر بالنفط وإمدادات الطاقة، وقد أثبت ذلك الأمر الإيجابي جدًا أن المملكة العربية السعودية لديها تصور كامل حول ماذا تريد منظمة أوبك من العالم وماذا يريد منها العالم، لذلك هي دائماً ناجحة في قيادة هذه المنظمة نحو المسارات السياسية السهلة التي لا تكلف أي ثمن سياسي عالي الخطورة. فعند بداية الأزمة الروسية – الأوكرانية بدا للعالم أن هناك ضرورة دولية لإعادة تقسيم العالم بين شرق وغرب، وتحدث الجميع عن أتباع لأمريكا وأتباع لروسيا، وآخرين للصين، ولكن هذه الفكرة لم تصمد كثيراً، فالصورة التي تمخض عنها الصراع كانت أكبر من أن تقبل الانقسام بهذا التصور، وظهرت الكثير من الدول كلاعب رئيس في تحديد اتجاهات هذه الأزمة وخاصة أن الغرب استخدم سياسات اقتصادية ضد روسيا، مما يعني أن الأزمة ستترك آثارها الاقتصادية قبل العسكرية، لهذا نلاحظ بكل وضوح أن منتجات الأزمة التي يعيشها العالم اليوم منتجات اقتصادية بالدرجة الأولى، ساهمت في نقص شديد وحاد في سلاسل الإمدادات الغذائية بين دول العالم، وفي جانب القوة للسياسة السعودية في هذه الأزمة العالمية ثبت لنا وللعالم وبكل ثقة وندية أن السياسة السعودية تملك الخبرة الدولية الأكثر في توظيف مساراتها الكبرى، من حيث مكانتها العربية، ومكانتها الإسلامية، ومكانتها الاقتصادية، ومكانتها الجغرافية، فمنذ تأسيس بلادنا في بدايات القرن العشرين وهي تكتسب الخبرة التراكمية في كيفية إدارة ملفات دولية وإقليمية ومحلية مستندة إلى قيمها السياسية وإلى الأسس التاريخية التي تقف عليها المملكة بكل ثقة واقتدار، وازداد ذلك التوجه السياسي حيوية في السنوات الأخيرة وأثبتت السياسة السعودية أنه يصعب تجاوزها في الشأن الدولي، فهي دولة محور وقرار وليست من شظايا الدول، كما أنه يصعب تجاوزها في الشأن العربي والإسلامي.

وعلينا توقع الأخطار من الجميع، فمنطقتها يتنازعها ثلاثة مشاريع إقليمية غير عربية، فارسي تركي يهودي.

وهذا ما قرأته السعودية جيداً، ومنه انطلقت في تحركاتها في عدة فضاءات منها:

  • السعي لإصلاح مجلس التعاون.
  • المبادرة لتكوين كيان سياسي اقتصادي على البحر الأحمر.
  • المزاج السياسي المتقارب مع الصين وروسيا، والابتعاد التدريجي عن الحليف التقليدي، فالطلاق العاطفي بدأت تظهر نتائجه للعلن.
  • أصبحت الدول العربية عبئاً ثقيلاً على السعودية، وبعضها دخل فعلياً فيما يُعرف بالدولة الفاشلة.

ومنذ وقت قصير، كان هناك دعوة سعودية وأخرى أمريكية لإصلاح الأمم المتحدة، وبقراءة هاتين الدعوتين نجد اختلافاً في منطلقاتهما وأهدافهما، فالسعودية تريد إصلاح المنظمة وجعلها أكثر فعالية، بإشراك الدول بتقرير مصيرها، الذي لا يجب أن يترك للأقلية، خمس دول تتحكم في مصير العالم. أمريكا لا يعنيها صلاح وفساد المنظمة الأممية، طالما أنها خارج القانون والمحاسبة؛ لكنها هدفت لعزل روسيا وتجريدها من قوتها في مجلس الأمن.

إن المملكة العربية السعودية استطاعت في العهد الحالي إدارة علاقاتها الدولية وخاصةً مع الدول القطبية باقتدار وحصافة تُحسَد عليها.

لقد واجهت المملكة منذ الخريف العربي موجةً من شبه العداء من اليسار الأمريكي متمثلاً بالحزب الديمقراطي والرئيس الأمريكي الحالي وأركان إدارته وكثير من إعلاميي الولايات المتحدة الذين تأثروا بالإعلام الصهيوني واليساري منذ سنوات طويلة.

كما أن كثيراً من الدوائر السياسية والإعلامية في أوروبا لديها خصام مع المملكة لأسباب عديدة لا مجال لها الآن.

ويمكن القول دون مجاملة أن أي دولة أُخرى تعرضت لهذا العداء والكيد السياسي والإعلامي لخارت قواها وأصابها القلق وربما الهلع الذي يؤثر على قراراتها سلباً في عالم أصبح الحليف الرئيس فيه يظهر العداء والتصريح بجعلها “دولة منبوذة “.

كلنا قد شهدنا الضغط الغربي لإجبار المملكة لزيادة ضخ النفط لأسبابهم الجيو استراتيجية الواضحة. كما شهدنا تهاون الغرب لاستمرار الحرب اليمنية والشواهد أكثر من أن تُحصَى. أما الرغبة المحمومة للتوقيع على الاتفاق النووي فهي ظاهرة للعيان ولولا اللوبي الصهيوني لربما تم التوقيع عليه خلال الفترة الماضية (لا يعني ذلك عدم التوقيع مستقبلاً مع ما يحمله ذلك من تهديد للمصالح العربية والخليجية والسعودية تحديداً).

وبما أننا ندير علاقاتنا الدولية في عالم يتجاذبه أربعة أقطاب وبقدرات متفاوتة لكل منهم وهم:

  • الولايات المتحدة
  • الصين
  • روسيا
  • الاتحاد الأوروبي

وحيث إن إدارة هذه العلاقات يحتاج إلى دهاء سياسي وقوة شكيمة وحذاقة سياسية وهو ما أثبتته المملكة كما هو واضح.

  • البريكس والنظام الدولي ودور الحرب الأوكرانية والخيارات السعودية.
  • من المهم التطرق لتأثير مجموعة البريكس التي تمتلك التطلع التاريخي للزعامة العالمية، حيث تأثير تحالف روسيا والصين الشعبية مع الدول الأخرى التي تحاول أن يكون لها مكانة في هرم القوى الدولية لا سيما البرازيل والهند وجنوب إفريقيا، إذ عملت على توحيد جهودها، من أجل تحقيق التكامل في الفعل الاستراتيجي، وتفعيل دورها في الشؤون الدولية، وتقليص التفرد الأمريكي، وإعادة هيكلة نظام دولي يكون دوره فاعلاً في تفاعلاته.

ويبدو أن نسبة تأثيرها السياسي – بوصفها كتلة – أكبر من نسبة تأثيرها الاقتصادي في إعادة هيكلة النظام الدولي الجديد.

تمتلك مجموعة بريكس القدرات التي تؤهلها لإعادة تشكيل النظام الدولي، ولكن الخلافات بين بعض أعضائها (الهند مع الصين) تمثل تحدياً لعملها المستقبلي. ولن يتم تحقيق أهدافها دون العمل الجماعي، وتمثل دول العالم الثالث أحد الركائز الداعمة للتعددية القطبية، بهدف منحها حرية الحركة في العلاقات الدولية، وإن الغاية النهائية من مجموعة البريكس ذات طبيعة سياسية، إذ تستخدم الآليات الاقتصادية لتحقيق الأهداف السياسية.

والمملكة مدعوة أو مرشحة للانضمام في عضوية البريكس، بعد أن انضمت مؤخراً للتكتل كشريك حوار. وروسيا رحبت مؤخراً في انضمام المملكة للمجموعة كعضو كامل العضوية، ربما لإضفاء توازن مع عضوية إيران (التي انضمت مؤخراً) أو لاستثمار القوة السعودية في فاعلية هذا التكتل أو كليهما.

  • يظهر من المواقف السعودية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا أنها ليست حذرة بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هي متمايزة عن السياسة الأمريكية. فالرياض رفضت زيادة إنتاج النفط، وهي أيضاً تمترست بالحياد الذي فهم منه البعض التقرب من موسكو. وعززت حيادها بوساطة للإفراج عن أسرى غربيين لتثبت أن الحياد مفيد للسلام العالمي.

ويستخلص من هذه التجربة السياسية الجديدة أن موقف المملكة أصبح أكثر قوة وأن واشنطن حرصت على ترضية الرياض بزيارة الرئيس بايدن لجدة وعقده عدة اتفاقيات مشتركة أنهت المقاطعة الأمريكية للرياض.

والسؤال المطروح اليوم في دوائر التفكير السياسي؛ هل المواقف السعودية تكتيك يندرج في إطار المناورة السياسية لتحقيق أهداف محددة (وهو ما يعتقده بعض الأمريكيين). أم أنها بوادر استراتيجية سعودية جديدة ترمي لعدم الاعتماد على قوة دولية واحدة ثبت فشل مصداقيتها عندما ضُربت مصافي ارامكو في 14 سبتمبر 2019 وكذا ضُربت خطوط نقل النفط الخام السعودي وعدة ناقلات نفط بخليج عُمان. وجاءت هذه المواقف الأمريكية المستجدة بعد تغيير استراتيجيتها تجاه الخليج وتملصها من رعاية النظام الأمني الإقليمي الذي كانت واشنطن ملتزمة به منذ عقود. وهذا الرأي يميل له كثير من المحللين السعوديين.

لكن السؤال الأكثر أهمية ليس في قدرة المملكة على خلق توازن دقيق في علاقاتها الدولية؛ بل في طبيعة الخيارات المطروحة، إذا وصلت العلاقات الدولية إلى حالة الانسداد وبرز استقطاب سياسي دولي حاد، أصبح معه الحياد خياراً مكلفاً، لأن الصراع الدولي تحكمه المعادلة الصفرية.

إن العقول السياسية في واشنطن – وكما ثبت تاريخياً – تديرها فكرة الحرب الباردة. وهي الحالة التي يبدو أنها على الأبواب إذا لم تخفق روسيا في حربها الأوكرانية.

  • يُخشى أن يكون التبشير بالنظام الدولي الجديد متعجلاً وفي غير محله. صحيح أن الاقتصاد الأمريكي يواجه أزمات متعددة أثرت على التواجد الأمريكي في بعض المناطق بالعالم. وصحيح أن هناك بعض التحولات في الاستراتيجية الأمريكية. لكن الصحيح أيضاً أن واشنطن لا زالت متواجدة في أكثر من 60 موقعاً حول العالم وأن تغير استراتيجيتها انحصر في الخليج لصالح شرق آسيا. وهي لا زالت ملتزمة بأمن أوروبا وبأمن حلفائها الآسيويين وبالدور المتطور للناتو وبمحاصرة نفوذ بكين ودورها الجيوسياسي.

وفي تصور البعض فإن انبثاق نظام دولي جديد أمر حتمي؛ لكن سرعة تبلوره ووقت بروزه يعتمد إلى حد ما على نتائج الحرب في أوكرانيا.

وفيما يظهر أن الولايات المتحدة مصرة على هزيمة روسيا في حرب أوكرانيا وتريد إطالتها لتحطيم القدرات الروسية، فإن بوتين مصر على كسب الحرب باعتبارها تحدياً وطنياً وشخصياً وتتعلق بكرامة الأمة الروسية.

إن الحرب مهلكة لموارد وقدرات جميع الأطراف؛ لكن ما يميز الجانب الأمريكي أنه لا يحارب بجيشه ويتمتع بحلفاء أقوياء وأثرياء يساهمون بدفع الأموال وتقديم العدة والعتاد للأوكرانيين الوكلاء، فيما تبقى موسكو تكابد وحيدة الأهوال وتبدو مجهدة منذ العام الأول للحرب فكيف بالعام الثاني أو الثالث.

الأمر نفسه مع الصين إذا تحالفت عسكرياً مع روسيا ضد الغرب فبإمكان واشنطن شن حرب تجارية شاملة ضدها (وبوادرها تلوح في الأفق الآن) ومن نتائج ذلك رحيل الشركات الأمريكية الضخمة من الصين وإغلاق الأسواق الأمريكية بوجه وارداتها. وليس هناك من يعوض الصين عن أمريكا سوى أمريكا.

لقد أثبت التاريخ أن النظام الدولي يتبلور ويظهر بعد الحروب الشرسة مثلما هو الأمر بعد الحرب العالمية الأولى (عصبة الأمم والانتداب الفرنسي الإنكليزي) وبعد الحرب العالمية الثانية (الأمم المتحدة والنظام الثنائي القطبية) والنظام الأحادي القطب (بعد حرب أفغانستان وإنهاك وتفكك الاتحاد السوفيتي والحرب الكونية ضد الإرهاب). ونحن بمواجهة حرب أوروبية جديدة حطمت آمال الاتحاد الأوربي بالاستقلال ووضعته أمام أزمات خطيرة في الطاقة والأمن واللجوء والركود الاقتصادي. والمنتصر أو المنقذ للقارة العجوز من أزماتها هو الذي سيحدد شروط لعبة الأمم وفق موازين القوة الجديدة.

  • المملكة وصياغة موقف خليجي ملائم من النظام العالمي الجديد.

برز في الآونة الأخيرة موقف خليجي مستقل يراعي مصالح دوله بحنكة سياسية وهدوء، من خلال تقديم دلائل عقلانية ومنطقية لموقفها فقد تبنت المملكة العربية السعودية موقف “الحياد الإيجابي” وعدم الميل منذ بداية الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا. وهذا يعني أن لها رأياً محدداً وواضحاً في شكل النظام الدولي المرغوب، وأنها بالرغم من تعقد الأزمة الحالية لم تكتف بالمتابعة السلبية، وإنما ترجمت رؤيتها إلى مواقف عملية ودور فاعل ومؤثر استطاعت فيه أن تُظهر للعالم أن الدول الخليجية ليست هامشية التأثير في المشهد، فهي في قلب التغيير الدولي وشريكة في الحراك بعد أن أكدت مكانتها في العالم وصارت لديها استراتيجية أساسها الدفاع عن أمنها ومصالحها الوطنية.

الأمر الآخر إعلان الصين وروسيا ترحيبهما بالمملكة العربية السعودية للانضمام إلى مجموعة بريكس BRICS التي تهدف إلى تأسيس نظام موازٍ للنظام المالي العالمي حالياً، والانضمام إلى تحالفات بهذا الحجم من دون المساس بتوجهاتك السياسية، والإضرار بمصالحك مع كافة الأطراف سينعكس إيجابًا على اقتصاد المملكة، التي تبحث دائمًا عن توسيع دائرة الشراكة وتوسيع المصالح المشتركة، وعدم الاعتماد على أحادية الشريك الاستراتيجي في ظل الظروف السياسية والاقتصادية المتغيرة بقوة.

  • آليات إفادة المملكة العربية السعودية من النظام العالمي الجديد.

إن المملكة تستطيع حفظ توازنها والبقاء على الحياد الإيجابي في ظل تشكل الأقطاب الجديدة وذلك بفضل أهميتها الاقتصادية كمنتج رئيسي للنفط وعضو فاعل في منظمة أوبك، وكذلك أوبك + ومجموعة العشرين، وهو ما يسمح للمملكة بالحياد.

الولايات المتحدة بحاجة للمملكة وكذلك الصين وروسيا، وهذه نقطة قوة تحسب للمملكة ستمكنها من العمل مع الجميع دون تناقض؛ فهي تشتري السلاح والتقنية من الولايات المتحدة، وتسعّر نفطها بالدولار، ما يجعل المملكة دولة مهمة في حسابات الولايات المتحدة كشريك تجاري من الصعب الاستغناء عنه. فبيع النفط بالدولار مهم للاقتصاد الأمريكي وهو أمر سيدفع بالولايات المتحدة للإبقاء على علاقات ممتازة مع المملكة حتى لو حدثت بعض الخلافات.

ومع روسيا فالمملكة شريك في أوبك + ما يعني قدرة المملكة في تحديد سعر النفط والمحافظة على سعر مقبول ومجزٍ لبرميل النفط لدولة مثل روسيا التي تتضرر من انخفاض سعر النفط. بكلمة أخرى هناك مصالح مشتركة بين المملكة وروسيا ومن المؤكد أن الأخيرة لن تكون في حال عداء مع المملكة حتى لو كانت علاقات المملكة مع الولايات المتحدة قوية. فروسيا لن تعادينا بسبب علاقتنا القوية مع الغرب، لأن النفط كسلعة يجمعنا مع روسيا.

أما الصين فهي شريك تجاري كبير يحتاج المملكة وبشدة؛ فهي تزوده بالنفط والبتروكيماويات، وفي المقابل تستورد المملكة من الصين سلعاً كثيرة ما يعني صعوبة فصم العلاقة التجارية مع الصين حتى لو بدا للصينيين أننا حلفاء تقليديين للولايات المتحدة عدوها المحتمل في السنوات القادمة.

بقول آخر الكل سيخطب ود السعودية، وبالتالي قد لا يكون هناك مبرر للقلق من بروز أقطاب جديدة. مركزنا الاقتصادي هو مصدر قوتنا والجميع بحاجة لنا. وبتقدير البعض فإن الأخطار المحتملة على المملكة تأتي من دول إقليمية على رأسها إيران وهي التي لا نعرف كيف سيكون وضعها وموقفها من المملكة بعد تشكل الأقطاب الجديدة. رغم ذلك تميل عدد من وجهات النظر إلى أن إيران ستخفف من نفوذها السياسي وتدخلاتها في الدول العربية مستقبلاً، وستتجه نحو العمل الاقتصادي والتنموي، مما سيكون عامل استقرار في المنطقة؛ فإيران اليوم منهكة اقتصادياً وتواجه صعوبات حقيقية بسبب العقوبات عليها.

وبرأي البعض الآخر فإنه وإذا كان النظام العالمي المرتقب هو نظام مختلف عما عهده العالم، أو هكذا يجب أن يكون، فالسعودية والهند وربما غيرهما مرشحون كشريكين في هذه القطبية على غرار العضوية في مجموعة العشرين؛ من هنا كان انحياز السعودية بقوة ودون مواربة شرقاً وهو انحياز لمصلحتها، وتشكيلها لكيان البحر الأحمر، مع إصلاح مجلس التعاون مع قوتها الاقتصادية والروحية التي يجب العودة إليها وتفعيلها وتقويتها، فالسعودية شريك محتمل في النظام الجديد.

إن مقدرة المملكة للاستمرار في إدارة العلاقات الدولية المعقدة والمتنافرة في ظل النظام العالمي الجديد يتطلب الآتي:

  • الاستمرار في إتباع النهج الحالي لتغيير المشهد السعودي المحلي اقتصادياً واجتماعياً وما يتطلبه ذلك من تغييرات هيكلية في مفاصل الاقتصاد والتعليم والجوانب الاجتماعية.. إلخ.
  • الاهتمام الشديد بقضايا ما يسمى بحقوق الإنسان وتجريد الأعداء من استخدام هذه الحجج ضد المملكة، وفي الوقت ذاته عدم السماح بعرقلة ما تتطلبه هذه المرحلة من تغييرات تتطلب إجراءات قاسية أحياناً.
  • الاستمرار في تعضيد العلاقات الخليجية وهو الأمر الحادث بالفعل.
  • تصفير المشاكل الإقليمية مع دول رئيسة ومركزية في المنطقة، وهذا واضح أنه قد بدأ بالفعل وبكل حصافة وقوة واقتدار من جانب صانع القرار السعودي، بالرغم من أنّ من افتعل هذه المشاكل هو حتماً ليس السعودية.
  • دعم الدول المركزية في العالم العربي والضغط عليهم لقبول المشورة الاقتصادية والسياسية التي أثبتت المملكة أن لديها رصيد يُشهد له في ذلك.
  • التحسب لانتصار اليمين في أوروبا ومد العلاقات مع هذه الأحزاب.
  • محاولة اختراق بعض الإعلاميين في الغرب بوسائل سياسية مقبولة لتوضيح مواقف المملكة الإقليمية والمحلية.
  • محاولة تشكيل تعاون اقتصادي قوي بين السعودية ودول إقليمية.
  • الاستمرار في النهج الحالي الناجح جداً في توازن العلاقات مع الغرب والصين وروسيا.

 

 

 

  • التوصيات
  • التوسع في إقامة ودعم مراكز الأبحاث والدراسات التي تركز على القضايا المهمة للمملكة، والنظر في تأسيس مركز دراسات للدول العظمى والكبرى، وتمكين هذه المراكز لتقدم التقارير والتوصيات العلمية والعملية المناسبة للجهات المعنية.
  • تفعيل وتنشيط وتطوير مراكز الدراسات الخاصة بأمريكا والصين وروسيا، التابعة لمعهد الأمير سعود الفيصل للدراسات الدبلوماسية، التابع لوزارة الخارجية بالرياض.
  • تعزيز جهود المملكة لتحقيق التكامل الاقتصادي بخاصة مع الدول القريبة لها، والاستمرار في تقييم المواقف أخذاً بالاعتبار الآثار المنشودة لالتزام الحياد الإيجابي تجاه كل الأقطاب.
  • استمرار العمل على تطوير صناعة الأسلحة بالمملكة وتسريع وتيرتها ومحاولة الاكتفاء ذاتياً، ولو جزئياً، من الأسلحة الدفاعية الضرورية.
  • دعم وحدة المخاطر الوطنية والنظر في توسيع أعمالها لتؤدي أدوار مركز سعودي لإدارة الأزمات crisis management لتتولى التنسيق بين مختلف الأجهزة الحكومية لمعالجة أي أمر طارئ.
  • النظر في وضع خطة لإدارة الملفات الحساسة – مثل ملف حقوق الإنسان – بما يضمن حسن معالجتها وتحييد الأطراف غير الملائمة من التأثير بها.
  • فتح خطوط اتصال بكافة الأحزاب الأوروبية وخاصةً الأحزاب اليمينية.

 

  • المصادر والمراجع
  • بكري، جميل أبو العباس زكير. (2021). النظام العالمي الجديد ما بعد جائحة كورونا كوفيد- 19 وتأثير السياسة الغربية على البلدان العربية. مجلة كلية الآداب، مج 13، ع 1، 2737-2685.
  • الريسوني، علي بن أحمد بن الأمين، والشاعر، نجوى. (2021). النظام الدولي بين المصالح والمخاوف. مجلة المنارة للدراسات القانونية والإدارية، ع 36، 94 – 74.
  • مخوخ، حميد. (2021). تطور التجارة الدولية والنظام الاقتصادية العالمي الجديد. مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية، ع 1، 1 – 14.
  • علي، صفاء حسين. (2021). النظام السياسي الدولي في ظل التحالفات الدولية: التحالف الاستراتيجي الروسي الصيني أنموذجاً. مجلة كلية القانون للعلوم القانونية والسياسية، مج 10، ع 36، 145-202.
  • ناصف، مصطفى. (1978). الأحلاف والتكتلات في السياسة العالمية. عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع 7.
  • عبيدو، تالا جمال مناع. (2021). الصين والنظام الاقتصادي العالمي: الواقع وآفاق المستقبل. مجلة ابن خلدون للدراسات والأبحاث، مج 1، ع 2، 258 – 276.
  • تشومسكي، نعوم. (1996). النظام العالمي القديم والجديد. نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة.
  • كامل، علاء فاهم. (2019). النظام العالمي الجديد: احتمالات المستقبل: رؤية استشرافية. مجلة المستنصرية للدراسات العربية والدولية، ع 66، 295 – 316.
  • عمرو، أحمد. (2022). الحلم الروسي والنظام العالمي الجديد. البيان، ع 421، 78 – 79.
  • المجالي، غيث طلال فايز. (2021). التداعيات السياسية والاقتصادية لجائحة فيروس كورونا المستجد على النظام السياسي والاقتصادي الدولي. دفاتر السياسة والقانون، مج 13، ع 1، 1 – 17.
  • المشاركون.
  • الورقة الرئيسة: د. صدقة فاضل
  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: أ. سالم اليامي
  • التعقيب الثاني: د. عبدالله العساف
  • إدارة الحوار: د. عادل القصادي
  • المشاركون بالحوار والمناقشة:
  • د. خالد الرديعان
  • اللواء فاضل القرني
  • م. أسامة الكردي
  • د. خالد المنصور
  • د. محمد المقصودي
  • د. محمد الملحم
  • أ. جمال ملائكة
  • أ. مها عقيل
  • د. الجازي الشبيكي
  • الفريق عبدالإله الصالح
  • أ. سليمان العقيلي
  • م. عبدالله الرخيص
  • أ. ماهر الشويعر
  • د. عبدالرحمن العريني
  • د. زياد الدريس
  • د. عبدالعزيز الحرقان
  • د. حمد البريثن