ملتقى أسبار: التقرير رقم (130) مايو 2024 : الأبعاد الجيوبوليتيكية للوضع الراهن في جنوب البحر الأحمر

للاطلاع على التقرير وتحميلة يرجى الضغط هنا


مايو 2024

تمهيد:

يعرض هذا التقرير لقضية مهمة تمَّ طرحها للحوار في ملتقى أسبار خلال شهر مايو 2024م، وناقشها نُخبة متميزة من مفكري المملكة في مختلف المجالات الذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة، ومقترحاتهم الهادفة، وجاءت بعنوان: (الأبعاد الجيوبوليتيكية للوضع الراهن في جنوب البحر الأحمر)، وأعد ورقتها الرئيسة د. خالد محمد باطرفي، وعقب عليها كلٌّ من: أ. سليمان العقيلي، د. تركي القبلان، وأدار الحوار حولها د. سعود كاتب

 

المحتويات

  • تمهيد
  • فهرس المحتويات
  • الملخص التنفيذي
  • الورقة الرئيسة: د. خالد محمد باطرفي
  • التعقيبات:

التعقيب الأول – أ. سليمان العقيلي

التعقيب الثاني – د. تركي القبلان

  • إدارة الحوار: د. سعود كاتب
  • المداخلات حول القضية
  • القوى الإقليمية المؤثرة في البحر الأحمر.
  • الهجرة، والتغيرات المناخية، وعلاقتُهُمَا بالأبعاد الجيوبوليتيكية للبحر الأحمر.
  • أبعاد اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية الراهن بالبحر الأحمر.
  • تأثير الاعتداءات الحوثية بالبحر الأحمر، وانعكاساته على العلاقات السعودية الإيرانية.
  • التوصيات
  • المصادر، والمراجع
  • المشاركون

 

 

  • الملخص التنفيذي.

يتناول هذا التقرير قضية الأبعاد الجيوبوليتيكية للوضع الراهن في جنوب البحر الأحمر، وأشار د. خالد محمد باطرفي في الورقة الرئيسة إلى أن الورقة توفر إطارًا لفهم الآثار الجيوسياسية للوضع في جنوب البحر الأحمر؛ حيث يُعدّ جنوب البحر الأحمر منطقة ذات أهمية جيوبوليتيكية إقليمية، ودولية كبيرة تؤثر على الاستقرار، والأمن الإقليمي والدولي؛ فيجب على الدول المعنية العمل معًا لمعالجة التحديات التي تواجه هذه المنطقة؛ من أجل الحفاظ على الاستقرار، والأمن الإقليمي، والدولي.

بينما أكَّد أ. سليمان العقيلي في التعقيب الأول على أن منطقة البحر الأحمر احتلت موقعًا مُهِمًّا في الترتيبات الدولية، والإقليمية الجارية؛ بوصفها جزءًا مكملاً للسياسة الرامية لفرض النفوذ، وإحكام السيطرة على ممراته المائية، وتكمن أهمية البحر الاحمر الإستراتيجية في موقعه الجغرافي المؤثر على العلاقات الإقليمية، والدولية؛ إذ يصل بين منطقتي الصراع الإقليمي، والدولي (العربي، والقرن الإفريقي)؛ فضلاً عن أن البحر الأحمر حلقة الوصل بين الخليج العربي من جهة، وأوروبا من جهة أخرى.

وبفضل ما يحمله البحر الأحمر من مميزات، وخصائص إستراتيجية كان، وما يزال أخطر محاور الصراع الدولي، وملتقى أهم نقاط التحكم الإستراتيجي؛ بوصفه حاملاً للنفط، وممرًا للتجارة الدولية، وهذا قاد إلى تنافس القوى الكبرى فيما بينها؛ من أجل فرض السيطرة على مداخله، والقواعد المهمة التي تشرف منها القوى الكبرى للسيطرة عليه.

في حين ذكر د. تركي القبلان في التعقيب الثاني أن البحر الأحمر يدخل ضمن منظومة التفكير الجيوبوليتيكي في إطار ثنائية (قوى البر، وقوى البحر)؛ فهو لا يقتصر ارتباطُه بالدول المشاطئة جغرافيًّا، وإنما يتعدى إلى الدول التي ترتبط به مصالحها سياسيًّا، واقتصاديًّا، وعسكريًّا؛ وبالتالي يتوقف الأمر على مدى تحقيق النفوذ من عدمه في ظل تنافس دولي محتدم، ومن هنا فأهمية البحر الأحمر ليست وليدة اليوم، وإنما عبر تاريخ الصراعات الدولية، والقوى التي تحاول أن تخضعه لنفوذها.

وفي ظل المتغير الناتج عن الحرب في غزة التي بدأت منذ 7 أكتوبر، ومن ثم الحرب الانتقامية التي تخوضها إسرائيل ضد حماس دخل الحوثي على خط الصراع كذراع للأفق الإيراني، وهو ما كشف- على نحو أوضح- مزيدًا من الأهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر كبحرٍ فاصلٍ، أو واصلٍ بين آسيا، وأفريقيا حسب طبيعة المرحلة، هذا إضافة إلى كونه مركزًا للصراع الدولي، ولكون وجود (مضيق باب المندب) على مدخله الجنوبي تزداد أهميته؛ إذ يعتبر مركز الاختناق الإستراتيجي، ومنطقة تقاطع حركة السفن من البحر الأحمر إلى بحر العرب، والمحيط الهندي، ومن الشمال تربطه قناة السويس؛ وصولاً للبحر الأبيض المتوسط؛ وبالتالي فالبحر الأحمر سياسيًّا أكثر اتساعًا من واقعه جغرافيًّا، ولا أدلَّ على ذلك؛ مما يجري اليوم في البحر الأحمر من صراع، وحضور دولي يبرز معه تواجد كثيف لأمريكا، وعدد من الدول الأوروبية (المعسكر الغربي) .

وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور الآتية:

  • القوى الإقليمية المؤثرة في البحر الأحمر.
  • الهجرة، والتغيرات المناخية، وعلاقتُهُمَا بالأبعاد الجيوبوليتيكية للبحر الأحمر.
  • أبعاد اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية الراهن بالبحر الأحمر.
  • تأثير الاعتداءات الحوثية بالبحر الأحمر، وانعكاساته على العلاقات السعودية الإيرانية.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى (أسبار) حول القضية ما يأتي:

  • المضي قُدُمًا في اتفاقية الدول المشاطئة للبحر الأحمر في كافة المجالات الأمنية، والعسكرية، والاقتصادية، والتنموية.
  • تشكيل قوة عسكرية بحرية من الدول المشاطئة للبحر الأحمر لمواجهة الأخطار، والتحديات الراهنة، والمستقبلية.
  • بناء إستراتيجية إعلامية تنفذ في مختلف دول البحر الأحمر لمناقشة، وإبراز أهمية، وأمن، واستقرار البحر الأحمر للمنطقة، وللعالم، وإيضاح الأخطار التي يتعرض لها، ومصادر تلك المخاطر.
  • بناء إستراتيجية دبلوماسية عامة عربية، توظف بشكل مهني، ومحترف كافة مصادر القوة الناعمة لدى الدول العربية؛ بحيث تعمل على مخاطبة شعوب العالم، وهذا كلٌّ حسب ميوله، وطريقة تفكيره؛ وذلك لشرح قضايا المنطقة، وتعزيز صورتها، ومواجهة الصور النمطية السلبية عنها، والاستفادة في ذلك من التطورات التي أتاحتها التكنولوجيا الرقمية التي ألغت الحدود، والمسافات، وحررت العالم من سطوة الانحياز الإعلامي الغربي، وظلمه.
  • الأخذ في الاعتبار متطلبات الجيوبوليتيك عند إعداد إستراتيجيات القوة، والعقيدة السياسية، وبناء العلاقات الدولية؛ بما يتطلبه ذلك من اعتبارات مختلفة.
  • الورقة الرئيسة: د. خالد محمد باطرفي

يُعدّ جنوب البحر الأحمر منطقة ذات أهمية جيوبوليتيكية إقليمية، ودولية كبيرة؛ نظرًا لموقعه الإستراتيجي على مفترق طرق تجاري رئيسي يربط بين آسيا، وأوروبا وأفريقيا عبر مضيق باب المندب، وقناة السويس، كما تحيط بالمضيق ممرات مائية دولية مهمة في خليج عدن، وبحر العرب، وسواحلِ القرن الأفريقي، وشرق أفريقيا.

وسنويًّا يمر ما يقارب 21 ألف سفينة حاملة ما يقارب 30% من تجارة النفط، والغاز الطبيعي، و12% من حجم التجارة العالمية، كما يُعدّ مضيق باب المندب الواقع في جنوب البحر الأحمر بوابة عبور رئيسية للتجارة العالمية؛ مما يجعله عرضة للقرصنة، والتهديدات الأمنية.

وتُشكل الأنشطة العسكرية في المنطقة، مثل: التدريبات العسكرية، والوجود العسكري الأجنبي المتمثل في أساطيل عسكرية، وقواعد بحرية، وجوية لقوى عالمية عظمى غربية، وشرقية متنافسة، ومتحالفة، خاصة في جيبوتي، والصومال تحديًّا لأمن الملاحة الدولية.

وأدّت الاشتباكات في جنوب البحر الأحمر، وخليج عدن إلى تصاعد التوترات بين الدول الإقليمية، مثل: السعودية، وإيران، والإمارات العربية المتحدة، وإسرائيل في أوقات، وظروف مختلفة، كما أدت إلى تعزيز التدخل الدولي في المنطقة مع زيادة وجود القوات البحرية الدولية في البحر الأحمر، والبحار التي يصب فيها، وساهمت هذه الاشتباكات في زعزعة استقرار المنطقة، وجعلتها أكثر عرضة للصراعات الإقليمية، والدولية.

ومن ناحية أخرى ضاعفت التهديدات الملاحية تكلفة التأمين على النقل البحري؛ وبالتالي رفعت أسعار المنتجات الغذائية، والاستهلاكية على سكان البلدان المشاطئة؛ بما في ذلك اليمن.

وهكذا فقد تأثرت عمليات الشحن من شرق آسيا إلى ميناء إيلات، ولكنها لم تحاصرها في ظل توافر الشحن البري، والجوي، والبحري عبر موانئها على البحر الأبيض المتوسط، ومن المرجح أن تستمر الأزمة في جنوب البحر الأحمر، وخليج عدن في المدى القريب، مع استمرار الصراعات الإقليمية، والدولية في المنطقة.

ومن الممكن أن تتفاقم الأزمة، وتؤدي إلى صراع إقليمي واسع النطاق، خاصة مع تصاعد التوترات بين حلفاء إيران، والمجتمع الدولي على خلفية الحرب في غزة، ودخول أساطيل أجنبية على الخط؛ بما في ذلك التابعة للولايات المتحدة، ودول أوروبية، والصين، وروسيا، والهند؛ ولذا فمن المهم تكثيف الجهود الدولية لتسوية الأزمات التي تعيشها المنطقة سلميًّا؛ وذلك من خلال الحوار، والتفاوض بين الدول الإقليمية، والدولية، وتقود السعودية هذا التوجه بعد اتفاقها مع إيران بضمانة الصين، وإرسائها لهدنة في الحرب اليمنية، وقيامها مع عمان بدور نشط في الوساطة بين أطراف النزاع.

ويواجه جنوب البحر الأحمر- حاليًّا- عدّة تحديات، منها:

  • الصراعات الإقليمية: تشهد المنطقة صراعات إقليمية، مثل: الحرب في اليمن، والصراع على النفوذ بين السعودية، وإيران؛ مما يُؤثّر على الاستقرار، والأمن في المنطقة.
  • تدخل بعض الدول الكبرى، مثل: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، في شؤون المنطقة؛ مما يُؤثّر على التوازنات الإقليمية.
  • التهديدات الإرهابية من قبل جماعات، ومليشيات مسلحة (مدعومة من قوى إقليمية، ودولية)، مثل: الحوثي، والقاعدة، وداعش، وحزب الله؛ مما يُؤثّر على أمن الملاحة البحرية، والتجارة الدولية.
  • تأثير التغيرات المناخية على المنطقة بشكل كبير، مثل: ارتفاع مستوى سطح البحر؛ مما يُهدّد المناطق الساحلية، والتنوع البيولوجي.
  • المخاطر البيئيّة؛ حيث تشكل الضربات الصاروخية، والجوية على ناقلات النفط خطرًا داهمًا على البيئة البحرية، والثروة السمكية نتيجة إغراق السفن، وتسرب المواد النفطية، والكيماوية قد تمتد لعقود قادمة.

وتتلخص انعكاسات الوضع الراهن على البعد الجيوبوليتيكي الإقليمي فيما يأتي:

  • التنافس على النفوذ: تسعى بعض الدول الإقليمية الرئيسية، مثل: السعودية، وإيران، والإمارات، وتركيا، وإسرائيل، ومصر إلى توسيع نفوذها في المنطقة؛ مما قد يُؤدّي إلى صراعات إقليمية.
  • التوترات الأمنية: تُؤدّي الصراعات الإقليمية، والتدخلات الخارجية إلى توترات أمنية في المنطقة؛ مما يُهدّد الاستقرار، والأمن الإقليمي.
  • أزمة اللاجئين: تُؤدّي الصراعات الإقليمية إلى نزوح أعداد كبيرة من اللاجئين؛ مما يُؤثّر على الدول المجاورة.
  • المخاطر البيئية: تخلق الصراعات، وتلوث البيئة، وخاصة البحرية مناخًا قاتلاً للحياة الطبيعية، والاقتصادية، والتجارية، خاصة في مجالات صيد الأسماك، والنقل البحري، والتبادل التجاري عبر الممرات المائية؛ ما يؤثر سلبيًّا على مصالح السكان في المناطق الساحلية، ومصالحهم المعيشية؛ مما قد يدفعهم إلى الثورة، والهجرة الجماعية، والقرصنة، والتطرف.

أما انعكاسات الوضع الراهن على البعد الجيوبوليتيكي الدولي؛ فيمكن رصد أهمها في التأثيرات الآتية:

  • يُؤثّر الوضع الأمني في جنوب البحر الأحمر على أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر، وخليج عدن، وبحر العرب؛ مما يُهدّد التجارة الدولية.
  • تسعى بعض الدول الكبرى، مثل: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا إلى توسيع نفوذها في المنطقة؛ مما يُؤدّي إلى صراع على النفوذ بين هذه الدول، ومع القوى الإقليمية، والجماعات المسلحة المحلية، والعابرة للحدود.
  • يُؤثّر الوضع في جنوب البحر الأحمر على الاقتصاد العالمي، خاصةً على تجارة منتجات الطاقة التي اضطربت أسواقها نتيجة لصراعات دولية، أبرزها: حرب أوكرانيا، والعقوبات الغربية على منتجات النفط، والغاز الروسية، والايرانية.

النتائج المحتملة:

التدخل الدولي: قد يجد المجتمع الدولي نفسه مضطرًا للتدخل؛ وذلك لضمان أمن ممرات الشحن، وتهدئة التوترات، ويمكن أن يشمل ذلك جهودًا دبلوماسية، أو وجودًا أمنيًّا بحريًّا، أو حتى تدخلاً أكثر قوة حسب شدة الحالة، وقد أعلنت الصين، وروسيا، والهند عن إرسال سفن عسكرية لحماية ناقلاتها، فيما سبقت أمريكا، وبريطانيا بقيادة تحالف عسكري للجم الحوثي، ولحقت أوروبا بتحالف ثانٍ لحماية الممرات البحرية بدون ضرب أهداف على الأرض، وفي جيبوتي، والصومال تتواجد قواعد بحرية، وجوية للعديد من دول الإقليم، والعالم.

الجهود الدبلوماسية: تعد الجهود الدبلوماسية المتزايدة من قبل الجهات الفاعلة الإقليمية، والدولية حاسمة لإيجاد حل سلمي للنزاع اليمني، ومعالجة الأسباب الجذرية للمنافسات الإقليمية، ويمكن أن تمهد التسوية التفاوضية الطريق للسلام، والاستقرار الدائمين.

ولكن هذه الجهود يعرقلها التعنت الإسرائيلي، والدعم الأمريكي الأعمى له، مقابل إصرار إيران على دعم مليشياتها في اليمن بالصواريخ الباليستية، والبحريةِ، والطائرات، والألغام المائية، والمراكب الانتحارية، والمعلومات الاستخبارية.

التنويع الاقتصادي: يمكن للبلدان المطلة على البحر الأحمر السعي لاستكشاف خيارات لتنويع اقتصاداتها، وتقليل اعتمادها على إيرادات الشحن، ويشمل ذلك تطوير صناعات جديدة، والاستثمار في السياحة، وتعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي، وتقود الرياض دول المنطقة في هذا الاتجاه؛ وذلك من خلال مشاريعها الطموحة ضمن رؤيتها التنموية الشاملة 2030م.

التوصيات:

  • حلّ الصراعات الإقليمية: يجب على الدول الإقليمية، والدولية العمل على حلّ الصراعات الإقليمية في المنطقة، مثل: الحرب في اليمن، والغزو الإسرائيلي لغزة، والحرب الأهلية في السودان، والخلاف الصومالي الأثيوبي، والخلاف المصري السوداني مع أثيوبيا من خلال الوساطة، والحوار.
  • منع التدخلات الخارجية: يجب على الدول الإقليمية، والمنظمات الدولية العمل على الحد من التدخلات الخارجية في شؤون المنطقة؛ من أجل الحفاظ على الاستقرار، والأمن الإقليمي، وتعمل الرياض من خلال العمل الجماعي لمجلس التعاون الخليجي، والجامعة العربية، والقمم العربية الأفريقية الإسلامية على توحيد الموقف الرافض لأية تدخلات خارجية في الشأن الإقليمي.
  • مكافحة الإرهاب: يجب على المجتمع الإقليمي، والأممي العمل معًا لمكافحة الإرهاب في المنطقة؛ وذلك من خلال تبادل المعلومات، وتنسيق الجهود الأمنية، ويعتبر مركز (اعتدال) في الرياض أنموذجًا للعمل الدولي المنظم لمحاربة التطرف، ونشر قيم الاعتدال، والتسامح والتعايش المشترك.
  • التكيف مع التغيرات المناخية: يجب على الدول الإقليمية، والدولية العمل على التكيف مع التغيرات المناخية في المنطقة؛ وذلك من خلال اتخاذ خطوات للتخفيف من آثارها على المناطق الساحلية، والتنوع البيولوجي، وتقود السعودية العديد من المبادرات الإبداعية، مثل: مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، والسعودية الخضراء، وتدوير الكربون، والهيدروجين الأخضر، والتنمية المستدامة، وتوفِرُ الدعم بالمال، والخبرات للدول التي تحتاجها.
  • حماية البيئة البحرية: على دول المنطقة، والمنظمات الأممية، والدول العظمى تكثيف الجهود لدرء المخاطر، والحد من تأثير الصراع العسكري على الثروة السمكية، والحياة البحرية، وقد كانت هذه القضايا على رأس أجندات العمل في القمم، والمؤتمرات، وورش العمل التي عقدت في السعودية خلال العقد الأخير، ولا تزال الحاجة ماسة للمزيد من العمل في هذا الاتجاه.

ختامًا يُعدّ جنوب البحر الأحمر منطقة ذات أهمية جيوبوليتيكية إقليمية، ودولية كبيرة، ويُؤثّر الوضع الراهن في المنطقة على الاستقرار، والأمن الإقليمي، والدولي، ويجب على الدول الإقليمية، والدولية العمل معًا لمعالجة التحديات التي تواجه المنطقة؛ من أجل الحفاظ على الاستقرار، والأمنينِ: الإقليمي، والدولي.

وقد قدمت دول المنطقة بقيادة الرياض العديد من المبادرات، والمشاريع، والأنشطة التي تصب في هذا الاتجاه، والحاجة ملحة لتعاون كافة دول المنطقة، والعالم، والمشاركة في هذه الجهود لإطفاء نيران الصراع، وتكريس مفاهيم التنمية المستدامة، والاقتصاد الأخضر، والأمن الجماعي، والسلام العادل، والعمل المؤسسي المشترك لمحاربة الإرهاب، واجتثاث جذوره المتمثلة في الطائفية، والتطرف الديني، والتعصب الفكري، والعرقي، وخطاب الكراهية، وغيرها من الأوبئة الأيدلوجية، والنفسية.

وتوفر هذه الورقة إطارًا لفهم الآثار الجيوسياسية للوضع في جنوب البحر الأحمر، ويمكن أن يتعمق البحث في جوانب محددة، مثل:

– الدور المتطور للقوى الإقليمية، والدولية في البحر الأحمر.

– تأثير الصراع على البلدان المطلة على البحر الأحمر.

– لابد من إستراتيجياتِ التخفيف من التأثير الاقتصادي للاضطرابات التجارية.

– إمكانات التعاون الإقليمي في مجال الأمن البحري.

– دعم الدول الفقيرة، وتوفير البدائل المستدامة، والمنتجة للشعوب، والجماعات الأكثر احتياجًا، وجهلاً، ومرضًا لتفادي دوافع الثورة، والصراع، والتطرف، والممارسات، والهجرة غير الشرعية.

من خلال الاستمرار في البحث، وتحليل هذه القضية المعقدة يُمكنُنَا الحصول على فهم أفضل للتحديات، والفرص المتاحة للحفاظ على السلام، والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية، وتقديم مبادرات، وأفكار مبدعة للخروج من دائرة العنف، والجهل، والفقر، والمرض.

 

  • التعقيبات:

التعقيب الأول أ. سليمان العقيلي

احتلت منطقة البحر الأحمر موقعًا مُهِمًّا في الترتيبات الدولية، والإقليمية الجارية؛ بوصفها جزءًا مكملاً للسياسة الرامية لفرض النفوذ، وإحكام السيطرة على ممراته المائية، ولم يكن البحر الاحمر في العصور القديمة، والوسطى أقل أهمية عنه بالنسبة للعالم في العصر الحديث؛ فقد كان البحر الاحمر يمثل طريقًا مُهِمًّا للتجارة العالمية في تلك العصور؛ فكانت الطرق البرية المحيطة به تصل الشرق بالغرب، وكان للتجارة حركة نشاط دائم فيه، ومنذ زمن قديم، ونتيجة لأهميته التجارية وقع البحر الاحمر، وغرب شبه الجزيرة العربية تحت تأثير الصراع بين القوى العظمى حينذاكَ، والمتمثلة بالإسكندر في روما، وبيزنطة، والإمبراطورية الفارسية .

وفي مطلع العصر الحديث كان ساحة للصراع البرتغالي، والعثماني لتحقيق أهداف تجارية، واستعماريةٍ، وفي أواخر القرن الثامن عشر كان محط أنظار نابليون الذي فكر باتخاذه قاعدة لضرب المصالح البريطانية في المحيط الهندي، وبعد فتح قناة السويس عام 1869 أصبح البحر الأحمر ذا أهمية إستراتيجية كبرى، ودخلت الدول الكبرى يومها (بريطانيا، وفرنسا، وايطاليا) في صراع فيما بينها في منطقة البحر الأحمر؛ من أجل تحقيق أهداف تجارية، واستعماريةٍ توسعية في المنطقة، وبعد بروز الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي كقوتينِ عُظْمَيينِ بعد الحرب العالمية الثانية حلت محل القوى القديمة في صراع البحر الأحمر؛ من أجل تحقيق مصالحها، والاستفادة من مزاياه الإستراتيجيةِ، والسياسية، والاقتصادية، والجغرافية.

وتكمن أهمية البحر الأحمر الإستراتيجية في موقعه الجغرافي المؤثر على العلاقات الاقليمية، والدولية؛ إذ يصل بين منطقتي الصراع: الإقليمي، والدولي ( العربي، والقرن الأفريقي)؛ فضلاً عن أن البحر الأحمر حلقة الوصل بين الخليج العربي من جهة، وأوروبا من جهة أخرى، ومما زاد من أهميته الإستراتيجية هو طول السواحل المطلة عليه؛ حيث أكسبه ذلك إمكانية السيطرة على المجرى المائي؛ وذلك من خلال المواقع الساحلية المطلة، ومنها الجزر الصخرية، والموانئ الإستراتيجية، على الرغم من أن قسمًا منها غير صالح للاستيطان البشري، ومن جانب آخر تكمن أهميته في مجاورته لمناطق حساسة ذات تأثير على مصير عدد من الدول؛ حيث البحار المفتوحة تتحكم في البحار الداخلية، أو الضيقة؛ لذا فإن المحيط الهندي يتحكم في البحر الأحمر بشكل مباشر، وهذا يفسر لنا النشاط الدولي الاستعماري في المحيط الهندي لقربه من مدخل البحر الأحمر الذي يعد المعبر الرئيسي إلى مدخل المحيط الذي شهد حالة صراع، وتنافس بين القوى العظمى في الماضي، والحاضر، وبفضل ما يحمله البحر الأحمر من مميزات، وخصائص إستراتيجية كان، وما يزال أخطر محاور الصراع الدولي، وملتقى أهم نقاط التحكم الإستراتيجي؛ بوصفه حاملاً للنفط، وممرًا للتجارة الدولية، وهذا قاد إلى تنافس القوى الكبرى فيما بينها؛ من أجل فرض السيطرة على مداخله، والقواعد المهمة التي تشرف منها القوى الكبرى للسيطرة عليه.

الدوافع الأمريكية:

لقد كان التنافس على الأقاليم من زاوية اعتبارات أهميتها الجُيُوإستراتيجية في فترة الحرب الباردة، وتعاظمت الأهمية مع احتدام الصراع بين الغرب (الولايات المتحدة)، و(الاتحَاد السوفيتي) الكتلة الاشتراكية، واندرجَت الأقاليم في التخطيط لإستراتيجية الأمن القومي، وأصبحت ركنًا أساسيًّا في إستراتيجيات الاحتواء الامريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان مركز الصراع والتنافس الفضاء الأوروبي – الأطلسي؛ حيث الحشود العسكرية، وترسانات الأسلحة لكلٍّ من: حلف الأطلسي، ووارسو، وبغية تعزيز قدرات الاحتواء عمدت الولايات المتحدة إلى اتباع إستراتيجية الردع النووي التي جرى عليها التكييف حسبما تستدعيه تطورات سباق التسلح، وكذلك تطويق الاتحاد السوفيتي جغرافيًّا بواسطة شبكة أحلاف إقليمية تضم دولاً من الإقليم، والولايات المتحدة لصد زحفه إليها.

وقد انصبت الأولوية على إقليم البحر الأحمر مع بداية طوق ما سُمي (الاحتواء المتماسك) من شرق آسيا؛ حيث القوتان الأساسيتان: اليابان، وأستراليا، ومعهما كوريا الجنوبية، وإقليم جنوب شرق آسيا؛ ففي هذا الفضاء كان إدراك الأمن الإستراتيجِي يركز على التحدي (السوفيتي – الصيني) بعد الثورة الصينية في 1949م، وتحلى الإقليمانِ بالأهميةِ الجيوبوليتيكيةِ الإستراتيجيةِ لصد زحف الشيوعية من جبهة الصين، وفيتنام الشمالية بإسناد إيديولوجي، وأمني سوفيتي صوب إقليم كانت فيه الصراعات الإيديولوجية محتدمة في السياسة الداخلية، وتهدد الأنظمة السياسية القائمة.

وبهدفِ استكمال طوق الاحتواء الجيوبوليتيكي على الاتحاد السوفيتي عمدت الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا إلى ترتيب حلقة تحالف أمني عسكري في الشرق الأوسط، وتعذر على السياسة الأمريكية أن تجسر ما بين الحلقتين في جنوب شرق آسيا، والشرق الأوسط؛ وذلك لعدول الرئيس الهندي (نهرو) عن الانخراط في إستراتيجياتِ الصراع في الحرب الباردة، وإيثاره للحياد، ويتميز هذا الإقليم عن سواه بأن له قيمة إضافية في إستراتيجية الاحتواء؛ فإنه جدار في وجه نزول السوفييت إلى المياه الدافئة، والخليج العربي؛ حيث الطاقة، والوصول إلى المحيط الهندي (ذي الأهمية الإستراتيجية) الذي لم يكن للسوفييت منفذ إليه.

لقد اقتصر الصراع، والتنافس على إقليم البحر الأحمر في الستينياتِ، والسبعينات على الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي، (القوس الأيديولوجي – الأمني العالمي)، خاصة بعد أن تنازلت بريطانيا في 1969م عن دورها التاريخي في صون أمن البحر الأحمر، والمحيط الهندي بعد إنهاء إستراتيجية أمن شرق السويس.

إن أمن الطاقة في البحر الأحمر من الأمن الجيوبولتيكِي العالمي، ومن أمنِ الاقتصاد العالمي، واستقراره، وبدوره أمن الاقتصاد الأمريكي؛ فإن مصادر الطاقة الرئيسة في الخليج العربي، وشبه الجزيرة العربية، وفي شرق أفريقيا، وتصديرها إلى العالم من موانئ على سواحل الخليج العربي، وبحر العرب، وساحل البحر الأحمر إلى أكبر اقتصاد يستهلك الطاقة كالولايات المتحدة، والصين، والهند في أوروبا، وآسيا يعظم من أهميته الجيوبولتيكية.

وقد تولت الولايات المتحدة دور ضمان أمن الطاقة، وحمايتها «كسلعة إستراتيجية عامة» بنشر قواتها البحرية في المياه الأساسية لخطوط النقل البحرية للطاقة، ومن قواعدها المنتشرة في كل مكان، وعلى الرغم من أولوية الطاقة، وأمنها كمصلحة للولايات المتحدة؛ فإن اقتصاد دول منطقة البحر الأحمر، والقرن الأفريقي يشهد نموًا اقتصاديًّا، وأن سكانها يتزايدون، وبهذا فثمة فرص للاستثمارات، واستهلاك الأسواق في الإقليم؛ فأثيوبيا (117 مليون نسمة)، وهي ثاني أكثر دول أفريقيا بعد نيجيريا في عدد السكان ينمو اقتصادها 9.5 % خلال السنوات 20 الأخيرة، وإن اقتصادَ السعودية أكبر اقتصاد في المنطقة يشهد نموًا سريعًا في قطاع الطاقة، وفي قطاعات إنتاجية أخرى.

إن في البحر الأحمر أهم نقطة اختناق في التجارة البحرية العالمية؛ إذ فيه قناة السويس، وباب المندب، وتمثل السيطرة عليهما تهديدًا للولايات المتحدة كقوة عظمى، ولمصالحِهَا الاقتصادية، وقد تعرضت مياه الساحل الشرقي لأفريقيا، وخليج عدن إلى عمليات قرصنة أربكت سير التجارة البحرية من المحيط الهندي إلى أوروبا، وبالعكس، واستدعت مواجهتها بعمليات بحرية من الدول فرادى، وفي ائتلاف، وللولاياتِ المتحدة دور قيادي في تنفيذ عمليات محاربة القرصنة، وللولاياتِ المتحدة مصلحة أيديولوجية في إقليم البحر الأحمر، والقرن الأفريقي؛ ذلك أن الاتحاد السوفيتي قد أفلح في التنافس مع الولايات المتحدة في إقامة علاقات صداقة، وتعاون سياسي، وعسكري، واقتصادي مع بعض دول المنطقة.

التسلل السوفييتي:

كانت مصر في مطلع الخمسينات أول الدول الأفريقية في التعاون مع الاتحاد السوفيتي، ودول المعسكر الاشتراكي عسكريًّا بصفقات التسلح، وكذلك تعاون الاتحاد السوفيتي مع السودان في الستينيات، وقد تعزز الوجود العسكري السوفيتي في الصومال في السبعينيات، وخشيت الولايات المتحدة من أن تصبح للاتحاد السوفيتي تسهيلات لاستخدام القواعد، والموانئ، وتفاقم الهاجس الأمني البحري الأمريكي عندما بدأ التنافس (السوفيتي – الصيني) في اليمن الجنوبية، وظهرت انعكاسات التعاون على أمن باب المندب، وخليج عدن في المرحلة التي كانت بريطانيا ترتب تقليص دورها، ثم انسحابها من مسؤولية أمن شرق السويس في 1968م؛ إذ إن التنافس الأيديولوجي كان من سمات الحرب الباردة في دول العالم الثالث، وكان الاتحاد السوفيتي ينشط في دعم الحركات الراديكالية، ويتبنى الانقلابات العسكرية التي يقودها عسكريون راديكاليون يتعاطفون مع الأفكار الاشتراكية؛ وذلك كما وقع في الصومال، وأثيوبيا.

لقد تغير المشهد المحلي، والإقليمي بعد 1968م في اليمن الجنوبي، والصومال في 1969م، ثم في إثيوبيا في 1974م.

وبـرزتْ ثلاث بؤر جيوبوليتيكية، وإيديولوجية ذات انعكاسات على المشهد الإقليمي؛ مما أفضى إلى اكتساء إقليم (البحر الأحمر – القَرْن الأفريقي) أهمية ما كانت لِتميزه عن سواه لولاها؛ وبالتالي احتدم الصراع، والتنافس على صعيد «القوس العالمي»؛ ففي اليمن الجنوبي تولى السلطة بعد الاستقلال الجبهة القومية (يسارية)، والحزب الاشتراكي، وصاغَا دستورًا، واتبعَا نَهْجًا يرتبط مع الاتحاد السوفيتي، وبذلك تغير المشهد الجيوبلُويتيكي؛ فعَدَنُ تطل على خليج عدن، وشمال المحيط الهندي، وقريبة من مضيق باب المندب؛ فحظي السوفييت بموقع قدم جيوبوليتيكي للتأثير على الإقليم؛ وذلك لإضعاف موقف الولايات المتحدة إيديولوجيًّا في شبه الجزيرة العربية، وإستراتيجيًّا في التنعم بمزايا القاعدة البحرية، والجوية بعدن للإبحار في المياه التي تعذر على السوفييت الرسو فيها، ومراقبة خطوط النقل البحري العالمي، ورصد البحرية الأمريكية.

الأطماع الإسرائيلية:

للبحر الأحمر منزلة خاصة في التاريخ اليهودي، وفي الفكر الإستراتيجي (الصهيوني / الإسرائيلي)؛ فقد نسج المؤرخون العبرانيون، ورجال الدين اليهود حكايات عن صِلَاتِ اليهود الأقدمين بالبحر الأحمر، وتمتد تلك الحكايات إلى مملكة سليمان- عليه السلام- في حوالي القرن العاشر قبل الميلاد، ويحكي التاريخ اليهودي أن مملكة سليمان اتسعت حتى شملت البحر الأحمر.

ومع ضغط اللوبي الإسرائيلي أصدر الرئيس الأمريكي هاري ترومان أمره إلى وفد بلاده في الأمم المتحدة؛ وذلك (من أجـل إدراج منطقـة النقـب مـع جـزء مـن خليج العقبة ضمن حدود الدولة اليهودية التي كانت في مرحلة المخاض)، وحينما شرعت إسرائيل تبني مدينة (إيلات) في العام 1951م أعلن بن غوريون أن أساطيل داود، وسليمان- عليهما السلام- ستشق طريقها من جديد في البحر الأحمر؛ وذلك بعد توقف دام أكثر من ألفي عام، وردد المؤرخون الإسرائيليون المعاصرون: (إن البحر الأحمر كـان بحرًا يهودياً في الماضي، وسيبقى كذلك في الحاضر، والمستقبل)، وما أن تولى (ديفيد بن غوريون) رئاسة الحكومة الإسرائيلية الأولى في العام 1948م حتى أعلن إستراتيجية دولته في البحر الأحمر بقوله: (إن سيطرة إسرائيل على نقاط في البحر الأحمر هي ذات أهمية قصوى؛ لأن هذه النقاط ستساعد إسرائيل على الفكاك من أية محاولات لمحاصرتِهَا، وتطويقها، كما ستشكل قاعدة انطلاق عسكري لمهاجمة أعدائنا في عقر دارهم قبـل أن يبادروا إلى مهاجمتِنَـا)، وعلى مدى تاريخ إسرائيل منذ نشوئها في العام 1948م حتى اليوم كانت الإستراتيجية الإسرائيلية في البحر الأحمر تقوم على أسس ثابتة، وجوهر التوجه الإسرائيلي للسيطرة على البحر الأحمر هو مد (برّ إسرائيل) بحرًا حتى باب المندب، وتوسيع السيطرة على البحر الأحمر ممرًا، وجُزرًا، ومضايق قدر المستطاع، ونفي الطابع العربي عن البحر، والفيض في العلاقات ترسيخًا، وتعميمًا على الدول الأفريقية، وخاصة الشرقية منها؛ وذلك منعًا لأي احتمال لتوظيف تلك الدول في حزام الأمن العربي المواجه لإسرائيل، أو تحييدًا لها على الأقل، وفي بادئ الأمر، ونهايته؛ فالبحر الأحمر في نظر إسرائيل لا يمكن أن يكون، أو يصبح (بحيرة عربية).

ومن الملاحظ أن بؤر الصراعات، والنزاعات في البحر الأحمر بدأت في شماله؛ أي: في خليج العقبة، ومضيق تيران، وخليج السويس لتمتد بعـد ذلك إلى جنوبي البحر، وما حوله، وقد تجسدت هذه البؤر في الحروب (العربية – الإسرائيلية)؛ فانفجرت حرب 1967م بسبب قرار الرئيس المصري جمال عبدالناصر إقفال مضائق تيران بوجه الملاحة الاسرائيلية، في القرن الأفريقي تمثل التدخل الإسرائيلي في الحرب الأهلية جنوب السودان، والتصادم الأريتري اليمني في جزر (حنيش)؛ فَفِي 17 كانون الأول 1995م أعلنت اليمن عن قيام القواتِ الإرتيريةِ باحتلال (جزيرة حنيش الكبرى، والصغرى، وسيول)، وبدون مقدمات سياسية، وعسكرية احتلت إرتيريَا الجزر الثلاث، وأكملت الاحتلال في 18 كانون الأول 1995م، وخرقت إرتيريَا اتفاق وقف إطلاق النار، وسقط ثلاثة قتلى يمنيُّون من أفراد الحامية، وقامت إسرائيل بمساعدة إرتيريا؛ وذلك عندما قام طيار إسرائيلي برتبة مقدم يدعى (مایکل دوما) بضرب الحامية اليمنية، وهذا ما أکده (مایکل کدایر) مدير معهد (موشیه دیان) في تل أبيب في حديث عن نشر طائرات إسرائيلية شرق تركيا، وانتزاع جزيرة حنيش الكبرى من القوات اليمنية بواسطة إرتيريَا في إطار إستراتيجي إقليمي !! .

وأكدت المصادر المتوفرة على وجود 650 خبيرًا إسرائيليًّا في ميناء (مصوع) يشرفون على تدريب القوات البحرية الإِرتيرية، كما أن إسرائيل قدمت إلى إرتيريا سبعة زوارق سريعة، و30 طائرة من طراز(کسفير)، وعدد 160 دبابة من طراز (ميركافا)؛ فضلاً عن كميات من رشاشات (عوزي)، وهذه الصفقة مقابل تسهيلات حصلت عليها إسرائيل في ميناء (مصوع).

وقد احتلت إثيوبيا مكان الصدارة في اهتمام إسرائيل، ومنذ الخمسينات سارت العلاقات بينهما في تطور سريع في كافة المجالات؛ فنشأت عدة مشروعات مشتركة، كما حدث تعاون واسع في مجالات التدريب، والتجارة، ولكن الميدان الأساسي، والحقيقي للتعاون، والتنسيق ظهر في مجال مقاومة الثورةِ الإرتيريةِ، كما أقامت مركزًا للتجسس في مدينة (أسمرة)؛ فكانت تزودُهَا بكميات كبيرة من الأسلحة الخفيفة، ويؤكد كثير من الخبراء المصريين أن فكرة سد النهضة الأثيوبي الذي قلص تدفق مياه نهر النيل إلى مصر، والسودان فكرة إسرائيلية؛ إذ حظي هذا السد بدعم، وتمويل إسرائيلِي.

الصراع بعد انتهاء الحرب الباردة:

لقد أفضت نهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وشيوع اقتصاد العولمة، والتطورات في السياسة المحلية للدول الساحلية، والمحيطية إلى تغيرات هيكلية في التنافس، والصراع على النفوذ، والهيمنة في إقليم (البحر الأحمر – القَرْن الأفريقي):

أولاً – إن القوس ثنائي القوى العالمي للتنافس قد تغير فيه الفاعـلانِ الرئيسيان؛ فحلت الصين محل الاتحاد السوفيتي تدريجيًّا.

ثانيًا – برزت قوى على مستوى القوى الخارجية ذات المصالح في الإقليم، وهي روسيا، والاتحاد الأوروبي، واليابان، والهند.

ثالثًا – زحفت صوب الإقليم قوى إقليمية محيطية ما كان لها من مصلحة، أو سياسة، أو إستراتيجية في المنطقة في مرحلة الحرب الباردة، وهي تركيا، وإيران، وقطر، والإمارات العربية.

رابعًا – تصاعد التنافس بين، وفيما بين القوى الساحلية على أكثر من صعيد.

خامسًا – إن التنافس أصبح شبكة من «التفاعلات المتداخلة» المخترقة للأقواسِ الأربعة.

سادسًا – لم يعد التنافس بذي هوية إيديولوجية صرفة؛ بل إن الأبعاد الجيواقتصادية، والرؤى المستقبلية أصبح لها الأولوية؛ فقد اقتربت الصين من الإقليم بمقاربة مبادرة الطريق، والحزام، ثم تبعتها بتعزيز وجودها بالحضور العسكري في جيبوتي، واستجابت الولايات المتحدة، واليابان، والهند بمبادرات تتحدى الزحف الصيني الناعم، وبحضور عسكري عند البحر الأحمر.

سابعًا – إن التنافس يقع في سياق المواجهة بين صوغ نظام عالم أحادي القطب، أو تكتل تقوده الولايات المتحدة، أو الدفع إلى الأمام بنظامٍ متعدد الأقطاب.

ثامنًا – إن الأقاليم- في الجملة- هي ساحة التدافع بين هذين الضربينِ من هيكل النظام العالمي الجديد، ويمثل إقليم (البحر الأحمر – القَرْن الأفريقي) معالم هذا الصوغ أكثر مما في أي إقليم إستراتيجي آخر؛ ففيه الولايات المتحدة صاحبة النفوذ، والوجود العسكري الراجح، ومنافسُوها كلٌّ حسب إستراتيجيته، كالصين، وروسيا، والهند، واليابان.

تاسعًا – إن ديناميكية التفاعلات لا تستقر على حال ثابت؛ فالقضايَا الخلافية، والنزاعِية تنتشر في ضفتي البحر الأحمر، وتفيض في انعكاساتها على بقية السوح، كالحرب في اليمن، وفي قضية سد النهضة، وحالة عدم الاستقرار السائدة في الإقليم؛ وذلك كما في الصومال، وأثيوبيا، واليمن، وعمدت القوى الخارجية إلى المناورة بين القوى الساحلية، فيما كانت الأخيرة تسعى للتوازن فيما بينها.

عاشرًا – لم تثمر شيئًا مساعي إقامة هيكل نظام أمن إقليمي شامل، وفاعل بذي المؤسسات، والآليات التنفيذية، والالتزامات، ولم تُجْدِ نَفْعًا مساعي الوساطة في اجتثاث أسباب النزاعات الإقليمية، وقيام نظام أمن ذاتي محلي.

الوجود العسكري الأمريكي بعد الحرب الباردة:

تحدد القيادة الأمريكية في أفريقيا، وإقليم البحر الأحمر مهمتها في أن القيادة الأمريكية في أفريقيا مع شركائها ساعون للرد على التهديدات عبر القومية، والفاعلين الأشرار، ولتعزيز قوى الأمن، والاستجابة لِرَدِّ الأزماتِ؛ وذلك بهدف الدفع إلى الأمام بالمصالح الوطنية الأمريكية، وكذلك تحقيق الأمن الإقليمي، والاستقرار، والرخاء، وثمة جدل في مسألة أولوية الإرهاب، أو تحديات الصين، وروسيا للمصالح الأمريكية في المنطقة، وهذا كمهمة للوجود العسكري الأمريكي؛ فإن تناقص الهجمات الإرهابية على الأهداف الأمريكية، خاصة في داخل الولايات المتحدة أعطى للوجود العسكري أهمية بهدف التصدي للنفوذ الصيني.

إن بكين قد أفلحت في اختراق المنطقة بالقوة الناعمة، وعلى وجه الخصوص الاستثمار، والمشاريع ذات المنافع في البنية التحتية، والولايات المتحدة لا تستطيع مجاراة الصين في هذا المجال، وإن الصين قد استأجرت لها قاعدة بحرية في جيبوتي لا تبعد سوى أميال عن القاعدة الأمريكية، ويأتي التطرق إلى التهديد الصيني في سياق التنافس (الأمريكي – الصيني) الذي أخذ أبعادًا إقليمية خارج فضاء (آسيا – المحيط الهادي) ليصبح في فضاء المحيطين (الهندي – الهادي)، والأقاليم المحيطِية كالبحر الأحمر، وإن القيادات العسكرية، ورؤية (البنتاغون) مهتمة بالخطر الصيني، وكذلك هناك أصوات في (الكونغرس) تدعم التخصيصات للأمن العسكري في المنطقة، وأصبحوا يدعمون تمويل الجنود أكثر من رجال الإغاثة.

إن للوجود العسكري في شرق أفريقيا، والبحر الأحمر دلالة على أن الولايات المتحدة ملتزمة بتعهداتها لحلفائِها، وشركائها؛ وذلك في مواجهة انعكاسات التوجهات الانسحابية من العراق، وأفغانستان، وكذلك من اتخاذ أحداث الصومال، وكابوس 1993م مرجعية في نفور الولايات المتحدة من أن يكون لها حضور عسكري في الميدان؛  إذ إن عدم التكافؤ في الدور، والنفوذ بين الولايات المتحدة، والصين لصالح الأخيرة يجعل للوجود العسكري قيمة فعلية.

التوجهات الصينية:

الصين لديها طراز تعاون اقتصادي يختلف عن النموذج الغربي؛ فلا تتدخل في الشؤون الداخلية، ولا تملي شروطًا، ولا تفرض قيمًا، ومعايير، وتقدم تسهيلات؛ لذا فإن الدول النامية أبدت جاهزية للاستجابة إلى المقاربة الاقتصادية الصينية؛ لأن الخطاب السياسي الصيني، والانخراط التدريجي الهادي أفرز قوة إضافية متمثلة في القوة الناعمة التي مهدت لنفوذٍ، ودور صيني أوسع لا يعثر على الاحتجاج عليه كالذي يسعى الغرب، وخاصة الولايات المتحدة إلى بسطه.

لم تكن دول منطقة البحر الأحمر، والقرن الأفريقي من قبل إعلان مبادرة (الحزام، والطريق) في 2013م من قبل الرئيس شي جين بينغ، ومن بعدها مبادرة (طريق الحرير البحري) ذات أهمية جِيواقتصادية، وجِيوإستراتيجية، وجِيوسياسية في إدراك القيادة الصينية أن هذه الدول تشكل شبه إقليم، وإنما كانت العلاقات تدار في إطار ثنائي، وتحددها اعتبارات كل دولة في الحسابات الصينية، وقد تصدرت مصر  الأهمية في الساحل الغربي للبحر الأحمر، والسعودية في الساحل الشرقي، وكان لمصر قبل 2013م أهمية جيوسياسية أكثر مما هي جيواقتصادية، وكان العكس صحيحًا بالنسبة للسعودية التي تحولت إلى أهم مصدر للنفط الخام إلى الصين بصورة متزايدة، ومنذ مبادرة (الحزام، والطريق) تكيفت تلك العلاقة جذريًّا؛ فقد زادت أهمية مصر الجيواقتصادية؛ لتدعم قيمتيها: الجيوإستراتيجِية، والجيوسياسية، وفي المقابل تصاعدت أهمية السعودية الجيوإستراتيجِية، والجيوسياسية مع تطور تحديات الإرهاب، والتطرف، والحرب في اليمن، وغزو العراق، والمسألة النووية الإيرانية، ونشوء منظمة (البريكس).

لقد أسبغت مبادرة طريق الحرير البحري أهمية أوسع، وأعمق على منطقة البحر الأحمر، والقرن الأفريقي، وجعلت منها مسرح تنافس أشد، وأعقد بين الصين والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والهند، واليابان، وفي الوقت الذي يؤكد الصينيون في كل المستويات الرسمية، والعسكرية، والأكاديمية أن المبادرة ذات طينة اقتصادية، ونزيهة، وشفافة، وعادلة، وتسعى للتنمية المشتركة، والمستقبل المشترك، والكسب المشترك، والمجتمع المشترك، والعالمِ المتعدد الأقطاب، ومشروع القرن الحادي والعشرين إلا أن الآخرين يطعنون في هذه المزاعم، خاصة من الغرب، ومنهم من يحسبها “إستراتيجية عليا” “مثيرة”، وأن الغاية النهائية لها أن تتمكن الصين من تشكيل نظام متعدد الأطراف في آسيا، والعالم، وهي تمثـل “إستراتيجية عليا متعددة الوجوه … تدفع إلى القوة الناعمة للصين، وبناء دورها كقوة معيارية من خلال الدفع نحو أفكار، ومعايير بديلة، وإعادة صياغة الحوكمة العالمية بالطريقة التي تمثل القيم الصينية، والمصالح، والمنزلة الصينية. “وإن طريق الحرير الجديد ينطوي على خطط طموحة لتوسيع، وتعميق روابط الصين مع أوروبا، والخليج العربي، وأفريقيا بتطوير ممرات نقل عديدة الأبعاد، وشبكات نقل لوجستية” مترابطة، وتنسيق في السياسة بصورة أوثق بين الدول عبر أوراسيا”، مع ما قد يُنظر لها باعتبارها “مقاربة شاملة إلى الأمن الإقليمي يُراد فيها الانخراط بإقليم من أوجه عديدة … وإنها جزء من هيكل إستراتيجية أمن لدفع القوة، والنفوذ الصيني إلى الأمام”، وإن المبادرة وليدة تفكير عميق لصوغ “إستراتيجية عليا صينية لاستعادة الهيمنة الصينية في آسيا، ولتحدِّي الهيمنة الأمريكية.

ويرى الصينيون إن القرن الحادي والعشرين قرن الصين؛ وذلك بفضل المبادرة مثلما كان القرن العشرون قرن أمريكا بفضل مشروع مارشال؛ فحتى 2019م انخرطت في المبادرة 125 دولة، و24 منظمة دولية، وقد أنفقت الولايات المتحدة 13 مليار دولار ما بين 1948م – 1951م على إعمار 16 دولة أوروبية، وحسب، أما الصين؛ فقد مولت ما يقارب 448 مليار دولار، في 64 بلدًا مشاركًا في المبادرة ما بين 2014م – 2018م.

لقد اتسمت سياسة الصين بالوقوف عند الخط الجانبي، والتردد في الانجرار إلى السياسات المحلية، والإقليمية بالشرق الأوسط، بيد أن هذه الحرية لم تعد ميسرة للصين؛ وذلك لأن لها مصالح تتزايد، وتتنوع، وتتوسع سياسيًّا، واقتصاديًّا، وأمنيًّا وأيديولوجيًّا.

إن الشرقَ الأوسطَ، والسعوديةُ تمثلُ فيه قوةَ المحور بجناحي: الخليج العربي، والبحر الأحمر فضاءٌ إستراتيجي لا قدرة للصين العزوف عن الانخراط في قضاياه من بوابة السعودية؛ فإن مصلحة الصين الاقتصادية مصدر طاقة آمن، وأسعار معتدلة، ووصول يسير إليها، وإن الأمنَ، والاستقرارَ، والسلامَ شرطٌ للحفاظِ على المصالح الصينية؛ فغيابُهَا يعطل التنميةَ الاقتصاديةَ التي هي المحركُ لنهوضِ الصين، وتعاظمِ قدراتها الشاملة الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية؛ فإن الصين تخشى أن تواجهها الولايات المتحدة في بيئة أزمة بفرض حصار طاقوي عليها؛ لذلك وجَبَتْ مراعاةُ الآتي:

أولاً- إن اعتمادية متبادلة طاقوية، ومتماثلة بين الصين، والسعودية تُؤَمِّنُ لها أن السعوديةَ لن تمتثلَ إلى الضغط الأمريكي.

ثانيًا- إن تلك الاعتمادية تقيد حرية السعودية في جعل النفط وسيلة أمريكية للتنافس مع الصين، كما وقع في العلاقات (الأمريكية – السوفيتية).

ثالثًا- إن السعودية الفاعل الأساسي في هيكل أمن الخليج العربي، وفي بيئة البحر الأحمر، والأمن، والاستقرار فيه مصلحة مشتركة.

رابعًا- إن الدبلوماسية الناعمة الصينية تحظى بالاستقبال الإيجابي في السعودية التي- بدورها- تُؤثِّرُ في مواقفِ دُولِ محيطها.

خامسًا- إن الصين ما تزال بعيدة عن قدرات القوة البحرية التي تقدر على تأمين الطاقة من البحر الأحمر ؛ سواء من السودان، أو من ساحل أفريقيا، أو من الخليج العربي عبر المحيط الهندي إلى موانئ الصين؛ ولذا فإن السعودية عنصر أمن بحري في البحر الأحمر، والسعودية صاحبة مصلحة في أمن البحر الأحمر أكثر من الصين.

الحضور العسكري الصيني:

لقد شهد الاقتراب الأمني العسكري الصيني من منطقة البحر الأحمر مرحلتين أساسيتين بعد الحرب الباردة، وكانت المرحلة الأولى التركيز على المحيط الهندي كثاني أولوية بعد غرب المحيط الهادي، والمرحلة الثانية من 2008م، والانخراط في عمليات ضد القرصنة في ساحل الصومال، وكانت أهداف الصين- في المرحلة الأولى- التنافس مع الولايات المتحدة، والهند على الدور، والنفوذ، مثل: القيام بنشاطات غير قتالية؛ وذلك لحماية الاستثمارات، والمواطنين الصينيين، وإظهار القوة الناعمة الصينية بعد ازدهار التنمية السلمية، وتوسع المصالح الصينية، والإسهام في محاربة الإرهاب بعمليات فردية، أو التعاون مع أطراف أخرى، وفي المرحلة الثانية كانت الصين تخشى من انعكاسات الإرهاب على الحركة الإسلامية في الداخل (شينجيانغ)، والمطالبة بالانفصال، وثالثًا- عرض القوة البحرية الصينية للضغط، والتنافس، ورابعًا- حماية خطوط النقل البحرية للتجارة الصينية.

وللصينِ مصالحُ في بحر الصين الجنوبي، وتخوض نزاعات مع دولِهِ الساحلية، مثل: فيتنام، وكذلك مع الفلبين، وتعتمد الصين على قوتها البحرية في مواجهة الولايات المتحدة التي تدعم تايوان، وتقف ضد ضمها إلى الصين، وتخشى الصين من عدم الاستقرار، وارتباك عملية التجهيز بالطاقة من الخليج العربي، وأفريقيا عبر المحيط الهندي؛ فالصينُ تعتمد على الاستيراد، والتصدير؛ ولذلك فإن أمن خطوط النقل البحرية من مصالح الصين؛ فتعطلُهَا يصيب الاقتصاد الوطني بالضرر، ويعيقُ التنميةَ الاقتصادية، وإن خطوط النقل البحرية للتجارة، والطاقة العالمية في المحيط الهندي تسيطر عليها الولايات المتحدة، والهند.

وقد بدأ الوجود البحري الصيني في المحيط الهندي بزيارات الموانئ، ثم عقد اتفاقات ثنائية في سياق إستراتيجية الدفاع عن الحدود الأمامية التي لها صلة بالدفاع عن المصالح الاقتصادية، والأمنية، وقد أولت القيادة الصينية أهمية إلى تعزيز قدراتها البحرية؛ لتلبي متطلبات “إستراتيجية المحيطين”، وليكون للصين دور في أمن المحيط الهندي، وتزايد الاهتمام بالقوة البحرية، ودورها في المحيط الهندي بعدما تبنت الولايات المتحدة إستراتيجية التمحور في آسيا، وتعزيز قدراتها البحرية، والتعاون مع الهند للتصدي إلى “التهديد الصيني”؛ وحتى تصبح قوة بحرية كبرى، وقد أفضى تنامي المصالح الصينية، وأمنها إلى أن يصبح فضاء المحيط الهندي من الشرق الأوسط، وسواحل أفريقيا إلى مضيق (مَلَقَا) من بين فضائيّ المحيطين: الهادي، والهندي، مع أن الأولوية لفضاء غرب المحيط الهادي.

وسعت الصين إلى إنشاء قواعد بحرية في المحيط الهندي؛ وذلك بما يعرف “عقد اللؤلؤ” لكسر الطوق الهندي على الصين من جبهة المحيط الهندي، ما بين قاعدة، وميناء من البحر الأحمر، مثل: (بورت سودان) في السودان، و(مساوا) في إرتيرِيا – جيبوتي في القرن الأفريقي، و(مومباسا) في كينيا، و(زنجبار) في زنجبار، و(دار السلام) في تنزانيا، و(بيرا) في موزمبيق، و(جيتَاغونغ) في بنغلادش، و(غوادار) في باكستان، و(كويالفيان) في ميانمار، و(كولمبو) في سريلانكا.

إن لموقع جيبوتي في القرن الأفريقي، وعند باب المندب، وعلى الساحل الصومالي أهمية جيوبولتيكية فريدة، وتستثمر جيبوتي هذه المزايا للتغلب على التحديات الاقتصادية طمعًا في بعث النمو في الاقتصاد، وتحسين الإنتاج المحلي الإجمالي، وقد أفلحت في هذا المسعى بسبب الدعم الصيني، ودوافع الصين في تعزيز علاقاتها مع جيبوتي ليست كلها أمنية عسكرية، أو سياسية، وإنما اقتصادية كذلك؛ مما ينساق مع الاعتبارات الإستراتيجية للصين في تأمين التنمية الاقتصادية الصينية المستدامة، ومن أهم آلياتها: مبادرة (الحزام، والطريق).

الإستراتيجية الروسية:

تهتم روسيا بتوسيعِ نفوذها السياسي، والاقتصادي، والعسكري في منطقة البحر الأحمر؛ بما في ذلك امتلاك قاعدة عسكرية لوجستية بالقرب من باب المندب، ومنذ عام 2009م بدأ مسؤولون روس يعبرون صراحة عن هذا التطلع الذي يرتبط بحاجة روسيا لحماية مصالحها المتنامية في المنطقة؛ فصادراتُ النفط الروسي- مثلاً- مثلت 24% من حركة النفط المتجهة جنوب السويس؛ وفقًا لتقرير صادر عن وزارة الطاقة الأمريكية عام 2019م، وما زالت روسيا بحاجة لقاعدة كهذه لتسهيل عمليات الأسطول البحري الروسي في المحيط الهندي؛ فمنطقة البحر الأحمر تظل مهمة باعتبارها منفذًا، أو مدخلاً إلى المحيط الهندي الذي صنَّفته العقيدة البحرية الروسية عام 2015م منطقة تتمتع بالأولوية، وكانت روسيا قد سجلت أول عودة لها إلى المنطقة عام 2008م؛ وذلك بهدف مُعلَن هو مكافحة القرصنة، وحماية ممرات التجارة الدولية.

تزيد الأهمية الجيُوإستراتيجية لمنطقة البحر الأحمر بالنسبة لروسيا؛ وذلك في ضوء تنافس القوى الدولية، والإقليمية لإقامة قواعد عسكرية لها على شواطئه، ومعظم هذه القوى لديها اليوم قواعد في هذه المنطقة، مثل: الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، والصين، واليابان، وإسبانيا، وإيطاليا، وحتى قوى إقليمية صاعدة، مثل: تركيا، ويأتي اشتعال الحرب في أوكرانيا، وعودة التنافس العسكري مع الولايات المتحدة، والغرب؛ ليفاقِمَ من أهمية المنطقة، ويزيد من اهتمام روسيا بها، كما أن هذا التطور أثار- أيضًا- التساؤلات حول حقيقة النفوذ الذي تتمتع به روسيا، وحول جدوى سياساتها الخارجية في الفترة الماضية، ويعتقد الروس اليوم أن عليهم زيادة الوضعية الهجومية لسياسة بلادهم الخارجية.

وتتبنى روسيا مقاربة تكاملية متعددة المسارات؛ وذلك لتطوير علاقاتها مع دول المنطقة، وباتجاه توسيع نفوذها، وتحقيق أهدافها الجيوسياسية؛ فبالإضافة إلى التعاون الاقتصادي تنتهج روسيا سياسة تشملُ تقديمَ حُزَمٍ من المساعدات، وعقد اتفاقات التعاون في مختلف الشؤون العسكرية؛ فقد وسعت تعاونها العسكري مع السودان الذي يعد ثالث أكبر سوق للأسلحة الروسية، ووقَّعت معه عام 2019م اتفاقَ تعاونٍ واسعٍ شمل الكثير من الجوانب العسكرية؛ بما فيها السماح للسفن الحربية، والطائرات العسكرية الروسية بالدخول إلى الأراضي السودانية.

وترتبط روسيا مع إرتيريَا بعلاقة تعاون عسكري طويل الأمد، ولديها برنامج للتعاون العسكري مع أثيوبيا، ووقع الطرفان في يوليو 2021م عددًا من الاتفاقات لتحديث قدرة الجيش الإثيوبي، وهي مرشحة لتحل محل فرنسا في مشروع لتجديد القوات البحرية الأثيوبية بعد تعليق فرنسا التعاون العسكري مع أديس أبابا في أغسطس 2021م، كما وقعت روسيا اتفاقيات للتعاون مع المملكة العربية السعودية عام 2021م.

وهناك ما يساعد موسكو، ويخدم سياستها في هذا السياق؛ فالأوضاعُ الاقتصادية الصعبة في أغلب دول المنطقة التي تجد معها هذه الدول صعوبة متزايدة في شراء الأسلحة الغربية، وما تفرضه القوى الغربية من شروط صارمة على صفقات التسلح، جعل روسيا تتمتع بجاذبية عسكرية لدى دول المنطقة؛ فهي قادرة على توريد الأسلحة بكميات كبيرة، وبأسعار معقولة، وبتسهيلاتٍ، وشروط أفضل، ومن جهة أخرى بات يُنظر لروسيا، وبشكل متزايد، كـــ “مُزوِّد للأمن” يُمكن الاعتماد عليه؛ فهي مثلاً تقوم بالمساعدة من خلال نشر قوات تتبع شركة فاغنر الروسية التي يُديرها أحد المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، وهذه الشركة باتت أداة تأثير مهمة لموسكو في أفريقيا بوجه خاص؛ إذ نشطت في ليبيا، وفي دول أفريقية أخرى، وثمة تقارير تقول إنها تدير شركات لتعدين الذهب في جمهورية أفريقيا الوسطى، والسودان.

وتسعى روسيا لتطوير علاقات اقتصادية مع دول البحر الأحمر؛ وذلك من خلال اتفاقات التعاون الاقتصادي في مجالات مختلفة، ومن خلال المشاريع الاستثمارية، وعلى سبيل المثال ثمة تفاهمات روسية سودانية حول الاستثمار في مجالات النفط، والغاز، والمعادن، وبالإضافة إلى تحالف “أوبك بلس” الذي جمعها بالسعودية، ويتحكم بسوق النفط العالمي اليوم، ويُمثِّل الإعفاء من الديون العسكرية، وهبات القمح العينية طريقة أخرى للمساعدات الاقتصادية التي تقدمها روسيا، وثمة مباحثات جارية مع السودان حول إعفائه من الديون الروسية، وقدمت لها مؤخرًا 20 ألف طن من القمح، كما يوجد استثمارات روسية متصاعدة في مصر.

وإذ كانت روسيا تمتلك ميزة نسبية على الصعيد العسكري إلا أن الحال يختلف على الصعيد الاقتصادي؛ فهي لا تتمتع بالقوة الاقتصادية الهائلة التي يتمتع بها منافسُوها كالولايات المتحدة، والصين مثلاً، مع الأخذ في الاعتبار أن تنافس القوى الدولية يأخذ حاليًّا، وبصورة متزايدة طابعًا اقتصاديًّا، وتجاريًّا فاقِعًا، وقد زاد موقف موسكو الاقتصادي حرجًا بسبب تكاليف الأزمة الأوكرانية، ونتيجة للعقوبات الغربية عليها، كما أن روسيا تبدو أضعف لجهة قدراتها التقنية غير العسكرية، وكل ذلك يُضعف الأداة الاقتصادية الروسية في سعيها لتوسيع المصالح، وبناء النفوذ، ويحرمها- مثلاً- من ميزة تقديم مساعدات اقتصادية ذات قيمة سياسية.

الوضع الراهن:

تثير التطورات الجارية في البحر الأحمر خلال الأشهر الماضية على خلفية استمرار الهجمات الحوثية ضد السفن منذ نوفمبر 2023م، وما أعقبها من شن الولايات المتحدة، وبريطانيا ضربات ضد أهداف حوثية في اليمن منذ الثاني عشر من يناير 2024م العديد من التساؤلات حول أدوار القوى الدولية، والتنافس بينها في هذه المنطقة الإستراتيجية.

ويرى الخبراء أن قوتي: “حارس الازدهار” بقيادة واشنطن، و”أسبِيدس” بقيادة الاتحاد الأوروبي سوف تبقيان في المنطقة حتى بعد نهاية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ووقف الهجمات الحوثية في البحر الأحمر، وسوف تُضاف الأصول العسكرية الجديدة لهاتين القوتين إلى الأصول الأميركية، والغربية الموجودة بالفعل في المنطقة منذ تأسيس واشنطن لـ”قوة المهام المشتركة 150″ (CTF 150) التي تعمل خارج مياه الخليج في المحيط الهندي، وبحر العرب، وقرب الساحل الشرقي لأفريقيا، وتضم نحو 15 سفينة.

وجاء بعدها تأسيس الولايات المتحدة لـ”قوة المهام المشتركة 151″ (CTF 151) التي تعمل في مساحة إقليمية واسعة، وأدت دورًا كبيرًا في تجفيف منابع القراصنة بالقرب من الساحل الصومالي، ثم أسس البنتاغون “قوة المهام المشتركة 152” (CTF 152)، ومجال عملها الرئيسي في الخليج العربي، ولها إسهامات كبيرة في مجال الأمن البحري، والتدريب، وبناء القدرات.

وتمنح كل هذه القوات الفرصة للأسطول الأميركي لمراقبة أي نشاط صيني في المنطقة التي يمكن أن تنشط فيها- أيضًا- روسيا، وإيران، وهذه الأصول العسكرية الغربية الجديدة تعزز الحضور الأميركي في منطقة المحيط الهندي، وغرب خليج (مَلَقَا) (إندونيسيا) وصولاً إلى الساحل الشرقي لأفريقيا، وهي منطقة تنافس شديد بين الولايات المتحدة، وحلفائها الغربيين، والآسيويين من ناحية، والصين من ناحية أخرى.

وقد وجدت الولايات المتحدة في الهجمات الحوثية على السفن التجارية القادمة، والمتجهة إلى إسرائيل في الفترة من التاسع عشر من نوفمبر 2023م، وحتى الإعلان عن “حارس الازدهار” في 19 من ديسمبر من العام الماضي فرصة لتقوية  “القوة 153” التي تشكلت في إبرِيل 2022م، وتضم 39 دولة بهدف الحفاظ على الأمن البحري في البحر الأحمر، وباب المندب، وعززتهَا بالسفنِ العسكرية العملاقة، واستحضار أشكال القوة، والردع إلى البحر الأحمر؛ بما فيها أنظمة الدفاع الجوي، والبحري كافة، وهي مكتسبات عسكرية ما كان لواشنطن أن توفرها في ظروف تختلف عن الظروف الناتجة عن الهجمات الحوثية على السفن.

ومن جهة أخرى أجرت كلٌّ من: روسيا، والصين، وإيران مناورة بحرية مشتركة في خليج عمان خلال شهر مارس الماضي (2024م)؛ وذلك في وقت يهاجم فيه الحوثيون الموالون لإيران سفنًا تجارية تمر عبر طريق التجارة الحيوي في البحر الأحمر، ويشارك في التدريبات أكثر من 20 سفينة، وسفينة دعم، وزوارق قتالية من الدول الثلاث، هذا بالإضافة إلى مروحيات بحرية.

ووصلت السفن الروسية، والصينية إلى المياه الإيرانية قبل ساعات من بدء المناورات المشتركة مع بحرية الجيش الإيراني، والقوات الموازية لها في «الحرس الثوري»، وأرسلت الصين مدمرة الصواريخ الموجهة «أورومتشي»، وفرقاطة الصواريخ الموجهة «ليني» إلى التدريبات، وكذلك سفينة التزويد بالوقود «دُونغبينغهو» .

ومن جهتها أفادت روسيا أنّ هناك مجموعة من سفن أسطول المحيط الهادئ بقيادة الطراد «فارياغ»، كما أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية أن التدريبات هدفها الرئيسي هو أمن النشاط الاقتصادي البحري، غير أن هناك احترامًا متبادلًا بين هذه القوى البحرية الدولية لتفادي الاحتكاكات.

التعقيب الثاني د. تركي القبلان

من خلال هذا التعقيب لن يتم التطرق إلى أهمية البحر الأحمر من المنظور التقليدي المتاح إحصائيًّا إنما سيتم التطرق إلى البحر الأحمر من منظور الجيوبوليتيك، وليس من منظور جغرافي صِرف؛ إذ يدخل البحر الأحمر ضمن منظومة التفكير الجيوبوليتيكي في إطار ثنائية (قوى البر، وقوى البحر)، وهو ما سيتضح معنا من خلاله لاحقًا: أية النظريات أكثر ملائمة في ظل الظروف الراهنة، وتحديدًا يتجلى الفهم الأكثر بين نظرية (ماكندر)، ونظرية (سبيكمان)؛ إذ لا يقتصر ارتباط هذا المنظور بالدول المشاطئة جغرافيًّا، وإنما يتعدى إلى الدول التي ترتبط به مصالحها سياسيًّا، واقتصاديًّا، وعسكريًّا؛ وبالتالي يتضح مدى تحقيق النفوذ من عدمه في ظل تنافس دولي محتدم، ومن هنا؛ فأهمية البحر الأحمر ليست وليدة اليوم، وانما عبر تاريخ الصراعات الدولية، والقوى تحاول أن تخضعه لنفوذها، وازدادت أهميته في ظل الصراع بين الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الفارسية، وتشكل هذا؛ وفق مسارات نفوذ الإمبراطوريتين؛ وذلك في ظل نظام أمني تنافسي من البحر الأحمر إلى بحر العرب، وتعاقبت بعد ذلك مجموعة قوى وصولاً إلى مرحلة الحرب الباردة في الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، والمؤشرات التي سبقت حالة التفكك الفعلي المتمثلة بسقوط جدار برلين نوفمبر 1989م اندمج النظام الأمني للبحر الأحمر، والنظام الأمني لبحر العرب في نظام أمني واحد يخضع لنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة القطبية الواحدة، وكانت من نتائجه سقوط نظام (منغستو) الشيوعي في إثيوبيا، واندماج اليمن الجنوبي في وحدة مع اليمن الشمالي .

🔹وفي ظل المتغير الناتج عن الحرب في غزة التي بدأت منذ 7 اكتوبر، ومن ثم الحرب الانتقامية التي تخوضها إسرائيل ضد حماس دخل الحوثي على خط الصراع كذراع للأفق الإيراني، ورغمًا من أن إيران لديها أذرع أخرى، يأتي في مقدمتها بالأهمية حزب الله في لبنان بحكم القرب الجغرافي من إسرائيل إلا أن الذراع المشاطئ للبحر الأحمر رغم بعده عن إسرائيل هو من أسندت له إيران هذا الدور؛ وذلك محاولة منها لجني ثمار المأساة الفلسطينية خارج المجال الجيوسياسي لفلسطين المحتلة؛ بحيث يتم إعادة معادلة المواجهة؛ وفق الإستراتيجية القديمة لأمن البحر الأحمر البحري، وأمن بحر العرب البحري (المشار له سلفًا) الذي تشكل منذ الصراع التنافسي القديم بين الإمبراطورية الفارسية، والإمبراطورية الرومانية؛ وذلك لتحقيق مكتسبات لا تصب في مصلحة الأمن القومي العربي بقدر ما تمكن إيران من محاولة اقتسام النفوذ مع المعسكر الغربي بكافة تشكيلاته في منطقتي: بحر العرب، والبحر الأحمر على حساب الاستحقاقات العربية .

🔹ومن هنا تتضح الأهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر كبحر فاصلٍ، أو واصلٍ بين آسيا، وأفريقيا حسب طبيعة المرحلة، إضافة إلى كونه مركزًا للصراع الدولي، وعلى مدخله الجنوبي (مضيق باب المندب) تزداد أهميته؛ إذ يعتبر مركز الاختناق الإستراتيجي، ومنطقة تقاطع حركة السفن من البحر الأحمر إلى بحر العرب، والمحيط الهندي، ومن الشمال قناة السويس وصولاً للبحر الأبيض المتوسط؛ وبالتالي فالبحر الأحمر سياسيًّا أكثر اتساعًا من واقعه جغرافيًّا، ولا أدل على ذلك مما يجري اليوم في البحر الأحمر من صراع، وحضور دولي يَبْرُزُ معه تواجدٌ كثيفٌ لأمريكا، وعدد من الدول الأوروبية (المعسكر الغربي).

🔹وما يجري من صراعات في العالم تكون الدول العظمى طرفًا فيها؛ وذلك من خلال تحالف، أو منفردة لا يخرج من أربع نظريات (نظرية راتزل، نظرية ماكيندر، نظرية ماهان، نظرية سبيكمان)، ومن هنا يتضح تأثير ما يجري في أوكرانيا على ما يجري في البحر الأحمر، وهذا إذا نظرنا إلى ما يجري في شرق الكرة الأرضية من الحرب (الأوكرانية- الروسية) التي قد يصعب فصل أحداثها عما يجري في البحر الأحمر؛ فإذا ما طبقنا على ما يجري شرق أوروبا نظرية ماكندر في أن (من يسيطر على أوروبا الشرقية يستطيع السيطرة على قلب العالم، ومن يسيطر على قلب العالم يسيطر على الجزيرة العالمية، ومن يسيطر على الجزيرة العالمية يسيطر على العالم)، وفي ظل ميزان القوة في حرب أوكرانيا الذي يتضح أنه يميل لصالح روسيا الاتحادية، ومع الحضور الروسي في المنطقة، ومد النفوذ إلى ما هو أبعد إلى أجزاء من أفريقيا، إضافة إلى الحضور الصيني كذلك سنجد أن ما يجري في البحر الأحمر نتيجة حتمية لقطع الغرب الطريق على الاتصال اللوجستي بمفهومه الشامل عن روسيا، والصين من آسيا إلى أفريقيا؛ وبالتالي تبرز هنا نظرية سبيكمان، وهي التي يُدار بها المشهد اليوم في البحر الأحمر؛ وذلك بأن (من يسيطر على الهلال الداخلي في الجزيرة العالمية يسيطر على العالم)؛ إذ يقع البحر الأحمر ضمن الحافة الداخلية للهلال الداخلي؛ وفق نظرية سبيكمان؛ وبالتالي الحضور الأمريكي الغربي العسكري في البحر الأحمر يهدف إلى تعظيم التواجد لغرض عدم تمكين روسيا، والصين من التموضع الطبيعي ما بين آسيا، وأفريقيا، وهو لا ينفصل عما يجري في أوكرانيا؛ بل هو مكمل له كما اسلفت .

🔹وتاريخيًّا هناك ترابط بين الصراع في شرق أوروبا، والصراع في البحر الأحمر؛ فبعد قرار تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي 1956م على مصر (بريطانيا، فرنسا، إسرائيل) كان هناك مظاهرات العمال في بولندا، وبداية ثورة المجر (شرق أوروبا) ضد الحكم الشيوعي؛ إذ أعلن الاتحاد السوفيتي حينها سحب قواته من المجر على غرار التفاهمات مع بولندا، لكن بعد العدوان الثلاثي على مصر تحركت موسكو بقوة أكثر لإخماد الثورة في المجر، وقد تحققت أهدافها كاملة، وهذا تأكيد أكثر لطبيعة الارتباط؛ فالحال ليس بعيدًا اليوم عن الظروف نفسها؛ وذلك مع فارق يُضاف إلى تعقيد المشهد (أوكرانيا- البحر الأحمر)، وقد حققت روسيا نجاحًا ملحوظًا في حربها على أوكرانيا بعد أحداث 7 أكتوبر إلا أن الحسابات الروسية بدخول الحوثي على معادلة الصراع في غزة بتصعيد المشهد في البحر الأحمر أصبحت تواجه تعقيدات تتماس مع مصالحها في قارتي: آسيا، وأفريقيا، وهذا الذي أصبح أكثر وضوحًا كلما اقتربت من البحر الأحمر.

🔹وهناك مشروع دراسة تحت الإجراء أقوم به الآن، وقد تم توثيق هذا المشروع لدى أحد المراكز العالمية المختصة في الجيوبوليتيك؛ وفق الآتي:

ونظرًا لكون أهم أربعة مضائق، وممرات عالمية تقع ضمن الجغرافيا العربية:

  1. ‏مضيق هرمز
  2. ‏مضيق باب المندب
  3. مضيق جبل طارق
  4. ‏ممر قناة السويس

‏فما الامتيازات، والقيمة المضافة التي يفترض استثمارها كأوراق قوة للوطن العربي؛ وفق عدة محددات، ومعطيات من منظور جيوبوليتيكي في أبعاد متعددة سياسية، واقتصادية، وعسكرية، وتكنولوجية، ولوجستية؟

‏ومن خلال هذا المعطى قمت بصياغة فرضية مشمولة بإجابة على السؤال السابق؛ وذلك لإثبات هذه الفرضية، أو نفيها، وهي “من يسيطر على باب المندب يسيطر على ممر النفط، والتجارة العالمية، ومن يسيطر على ممر النفط، والتجارة العالمية يسيطر على الاقتصاد العالمي”.

‏وفي حالة إثباتها سيجري العمل على إقرارها، واعتمادها “نظرية”، و‏سآخذ في الحسبان مقارنات مع مضيق (ملقا)، ومضيقِي: (بنما)، و(البوسفور).

 

  • المداخلات حول القضية
  • القوى الإقليمية المؤثرة في البحر الأحمر.

عندما نتناول القوى الإقليمية المؤثرة في البحر الأحمر؛ فعلينا أولاً التطرق إلى جملة من التحديات، يأتي في مقدمتها مدى تطور قدرة الفاعلين من غير الدولة في التأثير على أمن الملاحة البحرية، والأمن، والسلم الدوليين، وهو ما يدفع القوى الإقليمية، والقوى الكبرى (كلٌّ حسب هندسة أهدافه المعلنة، وغير المعلنة)؛ إذ ليس بعض منها على نقاء جهود اللحظة، وإنما تحركه دوافعُهُ، ووُجِدَ المبرر؛ وبالتالي إيجاد ترتيبات أمنية جديدة في ممر حيوي كالبحر الأحمر، ومنها تشكيل تحالفات، مثل: تحالف حارس الازدهار الذي (ضم أكثر من عشرين دولة)، ولم تشارك فيه السعودية. والتصور أن هناك محاولة لخلق متغير جيوسياسي في البحر الأحمر إذا ما نظرنا كذلك إلى أطماع إثيوبيا في إيجاد حضور بحري؛ وذلك من خلال الاتفاق الذي أبرمه (أبي أحمد) مع أرض الصومال غير المعترف بها؛ وبالتالي ما يحدث اليوم في البحر الأحمر هو نتيجة رخاوة أمنية مكنت الحوثي من التأثير في بيئته الامنية من خلال صياغة معادلة إقليمية دولية لتمكين فاعلين جدد في البحر الأحمر؛ مما يؤدي إلى صياغة تفاهمات، أو اتفاقيات تقبل بحضور إيراني .

الحالة الحوثية ليست فريدة، وإنما لها حالات شبيهة قادت لتشكيل تحالفات لصيانة أمن البحر الأحمر، ومنها ما أسند للناتو بعد القرصنة الصومالية في خليج عدن، ومدخل البحر الأحمر؛ إذ نتذكر بعد سقوط نظام (سياد بري) 1990م؛ وذلك نتيجة صراع مسلح مع جماعات المعارضة الميليشياوية المسلحة؛ فأدى هذا الأمر إلى أن ينخرط ضباط الجيش، وجنوده في الصراعات القبلية، والتمرد بدعم من إثيوبيا (حسب التقارير حينها)؛ فتتأثر بالمصالح القبلية مصلحة الوطن العليا، الأمر الذي قاد الجيش إلى التفكك، والانهيار الكامل عام 1991م، وبعد ذلك سقطت معداته في أيدي ميليشيات إرهابية، وقد أفرز الوضع عن نشوء قراصنة في العام نفسه، وكان مسرح نشاطها البحر الأحمر، وانتشارها بالمناطق الساحلية، وهي التي تبدأ من باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، مرورًا بخليج عدن، وتصل جنوبًا حتى الحدود الكينية التي تُعد واحدة من أهم الممرات البحرية التي تستخدمها حركة التجارة الدولية .

وبالتالي فالحال كذلك ليس ببعيد عن الوضع في اليمن منذ انقلاب الحوثي على الشرعية سبتمبر 2014م في صنعاء؛ حيث سارت الأمور في اليمن بالاتجاه نفسه،  وأخذ يدفع بطبيعة الصراع نحو التمدد تجاه البحر الأحمر لتحقيق امتياز التأثير الجيوسياسي، وشكلت السعودية تحالف الدول المشاطئة للبحر الأحمر، وهي خطوة لاشك مهمة من منظور جيوسياسي إلا أن هذا التحالف لايزالُ يسير بخطوات بطيئة.

فطبيعة المتغير الأمني في البحر الأحمر بعد 7 أكتوبر 2024م وَلّدَ معطى جيوسِياسي، وأمني جديدًا، قد حفز دولًا إقليمية، ودولية للتواجد، والاضطلاع بأدوار قد تمتد، وتشكل حالة من فضاء تعاوني له أهدافه الأبعد تجاه الحضور الصيني، والروسي إلا أنه قد يعطي امتياز حضور لدول إقليمية (ليست من الدول المشاطئة)؛ ليكون لها موضع “مرساة” على شواطئه لم تحلم بها من قبل.

والدول العربية بقيادة المملكة العربية السعودية، والدول العربية الفاعلة معها تحاول في حدود إمكاناتها، وإمكانياتها، وعلاقاتِهَا الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية بالتوازي، والتوازن مع هذه القوى الصاعدة أن تخرج من هذا الوضع المأزوم بأفضل النتائج، وتحقيق أهدافها التنموية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وهذا ما نراه جليًّا في سياسة المملكة العربية السعودية التي نجحت، ولله الحمد بفضل الله، ثم حكمة القيادة في تحييد أخطار الدول الإقليمية ذات الأطماع السياسية، والجيوسياسية في الإقليم العربي من خلال إزالة الخلافات، وعقد المعاهدات، وتوحيد أجواء العلاقات العربية، وتنقيتها؛ وذلك لإبعادها- قدر المستطاع- عن الاحتواء الإقليمي، وأن تكون لها سيادة على قراراتها، وعلاقتها؛ بما يحقق الإجماع العربي المنشود.

  • الهجرة، والتغيرات المناخية، وعلاقتُهُمَا بالأبعاد الجيوبوليتيكية للبحر الأحمر.
  • الهجرة، والأمن البشري:

جنوب البحر الأحمر يمر بتحديات تتعلق بالهجرة غير الشرعية، والإتجار بالبشر، والفقر، والنزاعات في القرن الأفريقي تدفع بالعديد لركوب البحر بحثًا عن حياة أفضل، وهذه الديناميكيات تحمل تداعيات على الأمن البشري، وتتطلب استجابات منسقة بين الدول المعنية لضمان الأمن، والحماية للمهاجرين.

 

 

  • تأثير التغيرات المناخية:

التغييرات المناخية تؤثر على جنوب البحر الأحمر بالعديد من الطرق؛ بما في ذلك تغير أنماط الطقس، وارتفاع منسوب البحار، الأمر الذي يؤثر على الثراء البيئي، والبنية التحتية الساحلية، مثل: هذه التأثيرات تتسبب في ضغوط إضافية على الموارد الطبيعية، والأمن الغذائي.

  • أبعاد اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية الراهن بالبحر الأحمر.

استندت القطبية الثنائية في الحرب الباردة إلى ثلاث ركائز أساسية هي: الأيديولوجيا، والقوة التدميرية الشاملة للأسلحة النووية، والقدرات الاقتصادية، ولم يكن تأثير الاقتصاد في علاقات الشرق بالغرب أقل من تأثير عاملي: القوة، والأيديولوجيا؛ فانقسامُ أوروبا إلى معسكرين متناقضين كان انقسامًا اقتصاديًّا أيضًا بين نمطين من الاقتصاد العالمي، هما: نمط نظام اقتصاد السوق، والإنتاج الرأسمالي، ونمط الإنتاج الاشتراكي، وقد أدى فشل التجارب الاشتراكية إلى تصدع الكثير من القناعات؛ بل انهيارها، واستمر الدور المؤثر للعوامل الاقتصادية في العلاقات الدولية؛ بل تزايد بفعل تراجع دور الأيديولوجيا، وإستراتيجيات القوة، وقد ربط رئيس الوزراء البريطاني ديفيد وليام كاميرون (وزير الخارجية الحالي) بشكل مباشر بين نفوذ بلاده على الساحة الدولية، وقوة اقتصادها.

إن اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بمنافسيها الجدد من اللاعبين الأساسيين في الاقتصاد العالمي لا يتوقف، وترى أن أخطر تهديد لها يأتي من الاتحاد الأوروبي، والصين بالأساس؛ ووفقًا لوجهة نظر هؤلاء اللاعبين؛ فإن هذين الطرفين يمتلكان المقومات، والأسس الضرورية؛ كي يصبحَا لاعبين مستقلين على الصعيد العالمي، وأخطر ما يهدد الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك أن كلا اللاعبين: الاتحاد الأوروبي، والصين يعتمد على القوة الاقتصادية التي هي بالأساس سر القوة الأمريكية؛ فمع ازدياد قوة اليورو، واليوان قد يؤدي ذلك بالتدريج إلى حلولهما محل الدولار في التعاملات المالية العالمية، ويتقلصُ نفوذ الولايات المتحدة في تأمين الاحتياطيات المالية من العملة الصعبة، والتحكم في عمليات الإقراض العالمية، والديون، والتجارة العالمية، ولعل إحساس واشنطن بهذه التخوفات، والهواجس يقف بقوة وراء بوادر الحرب التجارية بين الصين من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية، ولولا الحرب في أوكرانيا لربما نشأ نزاع أوربي أمريكي كما لاحت ملامحه في عهد ترامب.

إن الاتحاد الأوروبي، والصين يدركانِ أن نقطة ضعفِهِمَا المشتركة هي الطاقة، وأن كل المخططات الأمريكية تدور حول مصادر الطاقة التي يعتمدان عليها؛ لذا فقد أخذا في البحث عن البديل، واتجهت أنظارُهُمَا في وقت من الأوقات إلى روسيا التي تمتلك ما لا يقل عن عشرة مليارات طن من الاحتياطيات النفطية، ولَدَيهَا أكبر احتياطي في العالم من الغاز الطبيعي، ولديها كذلك وسائل نقل ضخمة لنقل هذا الوقود إلى الغرب.

وتختلف دوافع القوى الكبرى في صراع بسط الهيمنة، والنفوذ؛ فغالبًا ما تسخر القوة لاعتبارات اقتصادية، مثل: الوصول إلى المواد الخام كالنفط، والمعادن، أو فتح أسواق جديدة لمنتجات مصانعها، أو لأسباب أمنية كحماية المضائق، والممرات البحرية التي تمر بها خطوط الملاحة التجارية، أو أحيانًا لاعتبارات سياسية للتضييق على خصوم سياسيين، أو قطع الطريق عليهم لحرمانهم من مزايا إستراتيجية في مناطق النفوذ، أو لاعتبارات أيدلوجيةٍ، مثل: السعي لمنع عقيدة، أو أيدلوجية معادية، أو منافسة، وفي مجموع هذه الدوافع، وأخرى غيرها تعتبر في مجموعها دوافع إستراتيجية تدخل في اعتبارات الصراع، والمواجهة العسكرية.

وفي البحر الأحمر تختلف دوافع الولايات المتحدة، وحلفائها الغربيين قليلاً عن دوافع الصين المأخوذة باعتبارات المصالح الاقتصادية في المقام الأول؛ فالدوافعُ الصينية في تعزيز العلاقات مع جيبوتي- مثلاً- ليست كلها دوافع أمنية، وعسكرية، أو سياسية؛ وذلك على الرغم من أن للصين قاعدة عسكرية في جيبوتي أنشأتها عام 2008م، بدوافع مكافحة القرصنة، وربما لمنافع أخرى.

وتركز بكين على الدوافع الاقتصادية مما ينساق في الاعتبارات الإستراتيجية للصين في تثمين التنمية الاقتصادية الصينية المستدامة، ومن أهم آلياتها مبادرة (الحزام، والطريق) التي تستهدف الربط مع الموانئ السعودية، والأراضي الإيرانية، لكن مساعي الصين في المصالحة السعودية الإيرانية (مارس 2023م)، وإن كان يرمي لترطيب أجواء منطقة إستراتيجية للصين يهمها فيها أمن إمدادات الطاقة، والاستثمارات، ولكنه أيضًا في الوقت نفسه ينبئ بدور سياسي صيني محتمل لبكين في المنطقة.

  • تأثير الاعتداءات الحوثية بالبحر الأحمر، وانعكاساتها على العلاقات السعودية الإيرانية.

لا بد لنا في الوقت الحالي تحديدًا من الفصل بين تنافس الدول الكبرى، وبعض الدول الإقليمية في مد نفوذهم، وكذلك خدمةً لإستراتيجياتِهم الكبرى في السيطرة على الممرات المائية في كافة مناطق العالم، والوضع الحالي من قيام الحوثيين باستهداف الملاحة البحرية المتوجهة من وإلى العدو الصهيوني بحسب التصريحات الحوثية.

ومن نافلة القول الإشارة إلى أن التنافس بين الدول العالمية، والإقليمية في مد النفوذ في منطقة البحر الأحمر لم يبدأ مع أحداث السابع من أكتوبر؛ بل هو سابقٌ لهذه الأحداث، وهو تنافس قديم جديد، وسوف يستمر بعد انتهاء الحرب الحالية التي يشنها العدو الصهيوني على مدينة غزة الفلسطينية؛ فإن التواجد البحري، وكذلك تواجد قواعد بحرية، وتشييدها من قِبَل هذه الدول في المنطقة ليس جديدًا، ولن يتغير، ولن يتوقف حتى بعد انتهاء العدوان الصهيوني على غزة، وتوقف الحوثيين عن استهداف الملاحة التي تتوجه إلى ومن إسرائيل (حسب ما تعلنه هذه الجماعة).

وإذا كان الحوثيون يستهدفون “فعلاً“، وفقط الملاحة المتجهة، والواردة من الموانئ الإسرائيلية؛ فيكون توجه الأساطيل الغربية للمنطقة علامة إضافية بأن دول هذه الأساطيل تهرع لإنقاذ الصهاينة من مشكلة اقتصادية تؤثر على العدو الصهيوني تأثيرًا بالغًا.

ومع ذلك لا يمكن لأي مراقب أن ينفي تأثر الحركة التجارية، وتكاليف التأمين، وارتفاع تكاليف الشحن في المنطقة، وهذا لا بد أن يكون نتيجة مؤكدة لما يحدث، لكن هناك ريبة، وشك كبيران في أن هذه الأساطيل قد حضرت لتأمين الملاحة الدولية فقط، وهي القوى نفسها التي خططت للحرب الأوكرانية؛ مما أدى إلى ارتفاعٍ حاد في أسعار الأغذية عالميًّا، وبشكل حاد كون روسيا، وأوكرانيا من كبار منتجي الأغذية، ومصدريها.

كما أدت الحرب الأوكرانية إلى ارتفاع حاد في أسعار الغاز المُصَدَّر من الولايات المتحدة إلى دول أوروبا بديلاً عن الغاز الروسي منخفض التكلفة دون وازع، أو خجل، ودون النظر لمصلحة دول أوروبا؛ وبالتالي التباكي على تأثير تكاليف الشحن الدولية جرَّاء ما يحدث في البحر الأحمر مدعاةً إلى الريبة، والشك، كما يُلاحظ أن السفن التي تم استهدافها بمجموعها هي سفن لا تحمل نفطَا، أو غازًا ماعدا سفينة واحدة حسب ما أفادت به الأنباء؛ وبالتالي لا نرى تهديدًا اقتصاديًّا في مجال النفط، والغاز مع الرفض التام لاستهداف سفن نقل الغاز، والنفط؛ لما يشكله ذلك من تأثيرات بيئية كارثية، ناهيك عن عدم قبول استهداف الملاحة التي لا تخص العدو الصهيوني بأي شكلٍ من الأشكال؛ مما يؤثر اقتصاديًّا على دول المنطقة، و لا يضر العدو الصهيوني.

وفي سياق متصل؛ فإن الأثر الاقتصادي على السفن يختلف من دولة لأخرى؛ فمصر التي تأثرت عائدات قناة السويس نتيجة لانخفاض الحركة المرورية فيها هي أكثر المتضررين، ثم إسرائيل، والأردن اللتان تأثرتا بضعف، أو انقطاع حركة التصدير، والاستيراد من، وإلى جنوب آسيا، وشرق أفريقيا عبر البحر الأحمر، وإن عُوض ذلك بتكلفة أعلى من الجسرين: الجوي، والبري، وفي المرتبة الثالثة تأتي دول جنوب أوروبا، وشمال أفريقيا؛ فالطريقُ عبر الرجاء الصالح أطول كثيرًا، أما بالنسبة لدول الخليج؛ فارتفاعُ رسوم الشحن، والتأمين بشكل عام، وخاصة للسفن التي تمر عبر مضيق باب المندب أثر على تجارتها مع أوروبا خاصة، أمَّا نفطيًّا؛ فلحسن الحظ أن معظم صادراتها أصبحت في العقد الأخير إلى آسيا، وهذا مع اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية، واكتفاء أمريكا بالإنتاج المحلي، والواردات الكندية، والواردات من دول أمريكا الوسطى، والجنوبية، والهجمات الحوثية انخفضت وتيرتها في الأسابيع الأخيرة، وإن عادت في الأيام الماضية بنسبة أقل، ولكن رسوم الشحن، والتأمين، والمخاوف ستبقى مرتفعة، ومؤثرة حتى تتوقف الهجمات تمامًا.

وبالنسبة للعلاقات السعودية الإيرانية؛ فهي اليوم في أحسن أحوالها، ولعل الرياض ساهمت في تخفيض التصعيد الأخير بين طهران، وواشنطن، وحليفتها إسرائيل بحكم العلاقة المتميزة مع أمريكا، والغرب، ولثقةِ الجميع في حيادية الموقف السعودي، ومصلحة المملكة في حماية الأمن، والسلم في المنطقة حفاظًا على أمنها، ودعما لرؤيتها التنموية، والاقتصادية.

والمؤكد إن ما يجري حاليًّا في منطقة البحر الأحمر، وخاصةً في باب المندب يثبت الأهمية القصوى للتوصل إلى سلام يمني داخلي، وعلاقات حُسن جوار لليمن مع جيرانها؛ مما يضمن مصالح جميع الأطراف، ويؤدي إلى استقرار المنطقة، والمُضي في جهود التنمية، والبناء للجميع.

ولذلك، وبدون أحلام وردية، وعن معرفة لما قامت به دولة إيران في المنطقة من دورٍ تخريبي، ومزعزعٍ لاستقرارِ المنطقة؛ فمن الواضح أن التوصل إلى تفاهمات طويلة الأمد بين ضفتي الخليج سيسهم في تخفيف التوترات، و تخفيض منسوب العداء، كما أن هذه التفاهمات، والاتفاقيات سوف تؤدي إلى عدم الإضرار بجهود التنمية، والنهضة التي تتزعمها المملكة العربية السعودية، والتي سوف يستفيد منها الجميع، كما تمنع الغرب من اللعب على التناقضات الإقليمية، و الخلافات السياسية .

ولا يمكن تجاهل التحليلات التي تذهب إلى أن ما يجري في البحر الأحمر هو خارج معادلة ما يجري في غزة، حتى وإن رفع الحوثي شعار الحرب في غزة، والتصور بأننا أمام واقع جيوسياسي بدأت ملامحه تتشكل بتأثير مسارات مصالح دولية معقدة، يمكن تسميته صراع مدارات النفوذ؛ فأمريكا فشلت فشلًا ذريعًا في قراءتها من منظور إستراتيجي لبقائها في المنطقة، وأخفقت، ومعها بريطانيا في تقديرها الخاطئ لإيقاف جهود التحالف العربي بقيادة السعودية لاستكمال تحرير ميناء الحديدة، واستعاضت عنه بولادة اتفاق استكهولم الذي أثبت فشله هو الآخر، وتحول الحوثي من طرف في صراع محلي إلى طرف في صراع دولي حتمًا ليس بإرادته؛ إذ بلغ النفوذ الإيراني ذروته في أقصى مداه جغرافيًّا في اليمن بعد انقلاب الحوثي على الشرعية 2014م، وهنا يأتي الحديث من منظور دائرة النفوذ مكتمل الأركان (عسكريًّا، أيديولوجيًّا، سياسيًّا، ونموذج حكم محلي عبر الحوثي غير معترف به)، وهذا يعيد أذهاننا إلى الحرب العالمية الثانية، وفترة ما بين مؤتمر (مالطا)، ومؤتمر (بوتسدام) 1945م، وما تلاهما عندما اكتمل حضور الاتحاد السوفيتي في ألمانيا الشرقية بعقيدته الشيوعية، والسياسية، والعسكرية، وأفرزت مواجهته مشروع الحرب الباردة؛ فلاشك أن النظام التوسعي من منظور إيديولوجي يستبطن بداخله أدوات تحلله، وتفككه.

إنما ما يجري اليوم هو مقدمات لخروج جذوة الصراع الدولي من أعماق مياه البحر الأحمر إلى السطح بأدوات عسكرية؛ وفق مقاييس مدارات النفوذ سيُدخل منطقة الشرق الأوسط برمتها في حسابات معقدة، وبريطانيا التي خرجت من قناة السويس 1956م، بعد توقيع اتفاقية الجلاء 1954م التي معها أفل نجمها كقوة عظمى، وتم تدشين مرحلة جديدة من توازن القوى تدخل اليوم عبر باب المندب لاستعادة حضورها؛ وذلك ضمن معادلة الغرب، والشرق في مراميها الأبعد، وكما أصبحت أزمة برلين للأطراف المتنافسة على مدارات النفوذ في أوروبا، وأفرزت ولادة الناتو، اليوم قد لا يكون خارج مسرح مدارات النفوذ، ومرتكزهِ باب المندب.

  • التوصيات
  • المضي قدما في اتفاقية الدول المشاطئة للبحر الأحمر في كافة المجالات الأمنية، والعسكرية، والاقتصادية، والتنموية.
  • تشكيل قوة عسكرية بحرية من الدول المشاطئة للبحر الأحمر لمواجهة الأخطار، والتحديات الراهنة، والمستقبلية.
  • بناء إستراتيجية إعلامية تنفذ في مختلف دول البحر الأحمر؛ وذلك لمناقشة، وإبراز أهمية أمن، واستقرار البحر الأحمر للمنطقة، وللعالم، وإيضاح الأخطار التي يتعرض لها، ومصادر تلك المخاطر.
  • بناء إستراتيجية دبلوماسية عامة عربية، توظف بشكل مهني، ومحترف كافة مصادر القوة الناعمة لدى الدول العربية؛ بحيث تعمل على مخاطبة شعوب العالم كلًّا حسب ميوله، وطريقة تفكيره؛ وذلك لشرح قضايا المنطقة، وتعزيز صورتها، ومواجهة الصور النمطية السلبية عنها، والاستفادة في ذلك من التطورات التي أتاحتها التكنولوجيا الرقمية التي ألغت الحدود، والمسافات، وحررت العالم من سطوة الانحياز الإعلامي الغربي، وظلمه.
  • الأخذ في الاعتبار لمتطلبات الجيوبوليتيك عند إعداد إستراتيجيات القوة، والعقيدة السياسية، وبناء العلاقات الدولية بما يتطلبه ذلك من اعتبارات مختلفة.
  • توسعة أنابيب نقل النفط، والغاز من المنطقة الشرقية الى البحر الأحمر بعيدًا عن باب المندب، وعن مضيق هرمز.
  • الحاجة الى جسر بري على نسق طريق البخور من الهند إلى البحر الأبيض المتوسط عبر السكك الحديدية الخليجية، والسعودية، والأردنية، وكذلك خط (التابلاين) بين مصادر الطاقة في الخليج، وموانئ التصدير على البحر الأحمر؛ وذلك بما يكفل تجاوز المضائق، والمسارات البحرية الحرجة من هرمز إلى باب المندب.
  • ضرورة مراقبة التبعات البيئية الناتجة عن أية استهدافات للناقلات، أو السفن، وإعداد خطط أزمات تكفل التعاطي السريع، والفاعل معها.
  • عدم إغفال التداعيات الإنسانية للأزمات، ومن ضمنها مشاكل الهجرة غير الشرعية، واللجوء، وكوارث الغرق، وانقطاع السبل، وكذلك مشاكل الفقر في بعض الدول.
  • تطوير مركز أبحاث، ودراسات متخصص بالشؤون الجيوسياسية البحرية، ومرتبطٍ بلجنة عليا معنية بالأمن الوطني، والدفاع، والحدود.
  • تشكيل مجلس طوارئ وزاري من الدول المشاطئة، والإقليمية الصديقة للتدخل السياسي، والأمني، والعسكري، والتنسيق في حالات الأزمات، والكوارث.
  • إنشاء شركة مستقلة تملك، وتنشئ أنابيب الغاز، والبترول، وتشغلها، وتفتح الباب لبيع أسهمها.
  • المسارعة في حل المشكلة اليمنية، وضمان وحدة اليمن، واستقراره، ومن ثم إنشاء ميناء على البحر العربي لتصدير النفط السعودي، خاصة لآسيا.

 

  • المصادر والمراجع
  • مركز الملك فيصل للبحوث، والدراسات الإسلامية. (2018م). أمن منطقة البحر الأحمر، مسارات، عدد نوفمبر.
  • الحارثي، سلطان منير. (2018م). رؤية إستراتيجية سعودية لأمن البحر الأحمر. المجلة العربية للدراسات الأمنية، مج 34، ع 3.
  • خطير، نعيمة. (2017م). الأهمية الجيوبوليتيكية لمضائق حوض المتوسط. مجلة مدارات سياسية، عدد ديسمبر.
  • الديب، صفوت صادق. (2022م). الجغرافيا السياسية للبحر الأحمر. مجلة الدراسات السياسية، والاقتصادية، كلية السياسة، والاقتصاد، جامعة السويس، س2، ع 4.
  • تنافس القوى في إقليم البحر الأحمر، د. كاظم هاشم نعمة
  • الصراع الدولي في البحر الأحمر بين الماضي، والحاضر، د. كريم مطر حمزة الزبيدي
  • مركز الإمارات للدراسات.
  • جريدة الشرق الأوسط اللندنية.
  • جريدة العرب اللندنية.
  • وكالة «أسوشييتد برس»
  • https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%B1
  • https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%AF%D8%A8
  • http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia2/QrsnaBhria/sec07.doc_cvt.htm
  • https://studies.aljazeera.net/ar/article/5484
  • https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2023/12/26/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%B1-%D9%85%D9%85%D8%B1-%D9%85%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%A5%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A
  • المشاركون.
  • الورقة الرئيسة: د. خالد محمد باطرفي

التعقيب الأول: أ. سليمان العقيلي

التعقيب الثاني: د. تركي القبلان

  • إدارة الحوار: د. سعود كاتب
  • المشاركون بالحوار والمناقشة:
  • د. صدقة فاضل
  • أ. سليمان عقيلي
  • م. محمد المعجل
  • د. سعود الغربي
  • أ. جمال ملائكة
  • الفريق الركن د. عبدالإله الصالح
  • أ. مها عقيل
  • د. سعيد الغامدي
  • د. خالد المنصور
  • د. محمد الثقفي
  • العميد الدكتور مطير الرويحلي
  • د. مساعد المحيا
  • د. العميد البحري الركن المتقاعد فواز كاسب العنزي
  • م. عبدالله الرخيص