هنا نص مداخلة: د. إحسان بو حليقة في مهرجان الدبلوماسية الدولي في روما. عنوان المداخلة: سلاسل الإمداد: عالمية أم إقليمية؟

د. إحسان علي بوحليقة

الكلمة: شكرا جزيلا لكم. وكنت أتمنى أن أنضم إليكم في روما شخصياً، لكني للأسف لم أتمكن.

بدايةً، لقد أصغيت بانتباه شديد إلى المتحدثين الثلاثة الموقرين قبلي، وأشاطرهم الرأي في عددٍ كبير من النقاط، قبل البدء، اسمحوا لي التنويه بأني عضوٌ في “مركز أسبار”، وهو مركز فكر سعودي مستقل، أشارك معكم في هذه الجلسة المهمة بهذه الصفة.

ثانياً، أتفق مع المتحدثين الثلاثة إجمالاً فيما ذهبوا إليه بشأن عالمية سلاسل الامداد، وأتفق تحديداً بأهمية عدم إعاقة التجارة العالمية ودور سلاسل الإمداد في تحقيق ذلك. وقد أعددت كلمة تحضيراً لهذه الجلسة، وحفاظاً على الوقت سأكتفي بعرض نقاطٍ منها.

بالنسبة لبلدي، المملكة العربية السعودية، فإن تنمية الصادرات أمر بالغ الأهمية. ولوضع هذه النقطة في سياق المتحدثين السابقين من إيطاليا ونيوزلندا، فتمثل الصادرات السعودية نسبةً مهمة من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة (59% في العام 2021). وللمقاربة، فهي تعادل حوالي 42 بالمائة من صادرات إيطاليا (688 مليار دولار، فإيطاليا هي إحدى الاقتصادات الكبرى السبع)، وتعادل حوالي 4.5 أضعاف صادرات نيوزيلندا[i]. كما أن الصادرات غير النفطية تجاوزت قيمتها 74 مليار دولار في العام 2021.[ii] وهكذا، فتنمية الصادرات هو أمرٌ حرج الأهمية للمملكة، لاسيما أن المملكة أطلقت “رؤية 2030” في العام 2016، بهدف تنويع اقتصادها والابتعاد عن الاعتماد على النفط كمصدر وحيد. وتقوم الرؤية على طموحات عدة تجابهها تحديات، بالتحديات، لكن تمتلك السعودية مقومات عدة، فهي عضو في مجموعة العشرين لأكبر اقتصادات العالم من حيث ناتج محلي إجمالي، حيث يبلغ الناتج المحلي الإجمالي ما يقارب تريليون دولار أمريكي، ورغم أنه اقتصاد كبير ولكن ليس بما يكفي للمستقبل، وهذا ما تسعى رؤية السعودية 2030 إلى تحقيقه ليصل الناتج المحلي الإجمالي لما يزيد عن 6 ترليون ريال سعودي.

دائماً كانت سلاسل الامداد العالمية دائماً تحدي أمام نمو التجارة العالمية، وهي كذلك بالنسبة لاقتصاد متطلع للنمو كالاقتصاد السعودي، وقد شملت مستهدفات الرؤية -التي أعلنت في العام 2016- الخدمات اللوجستية، كما سيأتي الحديث.

ومع ذلك، فإن ظهور وباء كورونا أثر على الجميع، مما يدل على أن البلدان النامية والمتقدمة على حد سواء دفعت حقا ثمنا باهظا لنظم سلاسل الإمداد التي كانت أصلاً واهنة ومتناثرة، وسرعان ما دفعت بها الضغوط الهائلة للجائحة إلى الإخفاق.

وأتفق مع سعادة السفير أنتوني، من نيوزيلاندا، بأن سلاسل الإمداد عالمية ينبغي أن تكون عالميةً بالفعل. وأضيف بأن تصبح عالمية ببنائية (architecture) جديدة من نوعها؛ ذات بنية شبكية (network-based) تربط النقاط ومرتكزات (hubs).

ولكي نكون عمليين، كدولة نامية، تسعى المملكة العربية السعودية لتكون جزءاً وأحد المرتكزات الرئيسة في هذه الشبكة. وأعتقد أننا لا نستطيع أن نختار عاملاً واحداً لنعلنه بأنه حاسم الأهمية، مثل تفادي المخاطر. فعلى الرغم من أن تخفيف المخاطر أمر مهم، لا شك، إلا أن المخاطر لا يمكن التحوط لها بالكامل ولا يمكن أن تكون سبباً في الحد من الطموح، كما تعلمون. لذلك، أرى أهمية تصنيف تلك المخاطر كمخاطر عالية أو مخاطر منخفضة ومتوسطة، لوضعها في السياق المناسب من حيث التحوط واحتساب التكاليف والعوائد.

وفي ذات السياق، فعلى الرغم من أهمية التواصل (communication) لكن أيضا ليس بوسعنا القول ان “التواصل فقط.” فالتواصل مهم، ليس فقط كمهارة وقيمة بشرية، بل أيضاً من الناحية التقنية. وفيما يتصل بالتقنية، فأقصد تقنيات مهمة لتحقيق “التواصل” لأنظمة سلاسل الامداد العالمية، مثل “إنترنت الأشياء” (IoT) والتحليلية المتقدمة (advanced analytics) ، والبيانات الضخمة  (big data)، وهذه التقنيات وسواها ذات أهمية حرجة لنهوض سلاسل الامداد مستقبلاً. لكن لماذا هذا؟ لأن العالم يكايد الآن أكبر المخاوف وأكثر الدروس وضوحا وألماً، بعد معاناة مريرة جرآء جائحة كورونا وبعد ذلك الحرب الجارية بين أوكرانيا وروسيا، وتقهقر نمو الاقتصاد العالمي، وانفلات التضخم.

لذا دعونا نتصور التحديات التي تكتنف شركة ترغب في الحصول على وضوح (visibility) تمكنها من تتبع سلاسل الامداد على مراحل تهيئة المنتج كافة؛ من التخطيط إلى التسليم للمستخدم النهائي. كما أنها نواجه صعوبات متعددة حتى بعد ذلك، في توفير خدمات ما بعد البيع وهلم جرا. ولا يجدر أن ننسى تحدي الاستثمار، الذي يتطلبه الانفاق على البنائية (architecture) الجديدة والتقنيات المتقدمة.

وهكذا، فلا مناص من اتباع استراتيجية مختلفة، فبعد التجارب غدا العالم  على يقين أنه لا يمكن الاستمرار على نهج الماضي، فالحاجة ماسة لتدريب الموارد البشرية واستخدام التقنية، لتنمية مهارات معينة وتوظيف التقنية لتحسين أداء منظومة سلاسل الامداد العالمية، وبداهةً، فإن ذلك يتطلب المال ، أي بحاجة إلى ضخ استثماري. وهنا تتولد تحديات أخرى، فليس لدى كل البلدان القدرة على الاستثمار. ولذلك، يجب النظر في تمكين تلك البلدان حيث أن ذلك يمثل أيضا عقبة أمام تحقيق الوصول لشبكة مترابطة من مكونات سلاسل الامداد العالمية، إذ أن المطلوب تحقيق هو هيكل ونظام مختلف لسلسلة الامداد، يتكون من شبكة تشمل العديد من نقاط التلاقي (nodes)، تتفاوت من حيث الإمكانات والسِعة، وبعضها عبارة عن مرتكزات، كما تسعى السعودية لتحقيقه بأن تصبح أحد المحاور الرئيسة لسلاسل الامداد العالمية. وبالطبع كل ذلك يتطلب استثمارات لا تنقطع لتحقيق رؤية واضحة. وعلى صلة وثيقة بذلك مسألة التمويل. كيف؟ فضلاً عن أنه ينبغي تحديد المعايير والإجراءات ليكون إصلاح منظومة سلاسل الإمداد العالمية في مقدمة الأولويات.

وختاماً، سأحاول أعرض بإيجاز -ربما في دقيقتين -عما تسعى المملكة العربية السعودية لتحقيقه حالياً ومستقبلاً، كمثال لبيان الكيفية التي تتعامل بها السعودية مع التحديات منذ العام 2016، ولإيضاح كيف نجحت المملكة في استخلاص الدروس مما يدور من تحولات في الاقتصاد العالمي. فعلى مدى السنوات السبع الماضية، وبدء سوق الطاقة العودة إلى حالته الطبيعية بعد تعافي الاقتصاد العالمي من كورونا، لكن سرعان ما ظهر تباطؤ الاقتصاد العالمي تحت وطأة التضخم والحرب الأكرانية-الروسية ومن تداعيات ذلك نقص إمدادات الطاقة لأوربا.

وبالحديث بالتحديد عن سلاسل الامداد العالمية، فقد أعلنت المملكة العربية السعودية قبل أربعة أيام عن مبادرة أطلقها سمو ولي العهد لسلسلة الإمداد العالمية، والتي تحدد ما ينبغي القيام به من جهود، وتقديم الحوافز المالية وغير المالية للمستثمرين الراغبين في المشاركة في هذا أن تكون المملكة مرتكزاً عالمياً لسلاسل الامداد.

لا شك أن طموح المملكة في هذا المجال مبررٌ للحد البعيد. والعنصر الرئيسي في هذا يتلخص في وضع المملكة العربية السعودية في وسط القارات الكبرى الثلاث. وبالإضافة إلى ذلك -وكما سبقت الإشارة- فإن تجارتنا الدولية، النفطية وغير النفطية، أساسية للعالم بقدر أهميتها لنا. فضلاً عن  مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بحلول عام 2030، يستوجب ألا تعتمد السعودية فقط على النفط، فهي تتطلع لتصدير النفط ومشتقاته، وتصدير وإعادة تصدير السلع غير النفطية كذلك باعتبارها مرتكزاً تجارياً رئيساً بين القارات الثلاث، وتتطلع أيضاً للترحيب بالمستثمرين من أنحاء العالم لتجميع وتصنيع السلع واستقطاب المقرات الإقليمية للشركات لتنطلق من هنا للعالم. إذاً هذا ما هو التطلع فيما يتصل بدور الاقتصاد السعودي ضمن سلاسل الامداد العالمية، ويتضح أن المبادرة الوطنية لسلاسل الامداد العالمية هي عنصر من تطلع أشمل هو “الاستراتيجية الوطنية للاستثمار” التي كان سمو ولي العهد قد أطلقها قبل عامٍ من الآن.

بناءً على ما تقدم يمكن الخلوص إلى أنه بدلا من الاستمرار بنفس المركزية العالمية لسلاسل الإمداد والتي نمت عشوائياً عبر عقدة عقود، فإن الخيار الأفضل هو اتباع نهج النظام الموزع (distributed system). لا شك أن الخطر الرئيسي هنا يكمن في أن بعض الدول قد لا تمتلك رؤية أو اهتمام وبالتالي تفتقد للتوجه الاستراتيجي وللاستعداد، كما قد لا تمتلك بعض الدول الموارد أو السعة المالية.

أكتفي بهذا القدر، وقد يكون هناك متسع من الوقت لطرح الأسئلة من قبل الحضور، وأن نجيب عليها. يبقى أن الشركات والدول قد تمكنها البنائية الجديدة لسلاسل الامداد العالمية تجنب تجارب مؤلمة كالتي مَرّ ويَمرّ بها العالم حالياً.

شكرا جزيلاً لكم.

النقاش: أشكركم على الأسئلة من الحضور، وقد وجدت أن ردود المحدثين الأخرين مثيرة للاهتمام. هذا شيء رائع للغاية ولكن دعوني أبدأ في الحديث عن التجارة، وأضع الأشياء في سياق مبسط. في رأيي، ومع كل الاحترام الواجب، يبدو أنه ليس ضرورياً تحقق شرط الصداقة، كما فيما أطلقته السيدة جانت يلين، وزير الخزانة الامريكية، عن “مساندة الأصدقاء” (friendshoring)، لنمو التبادل التجاري، بل يكفي ألا نكون أعداء. لذلك، من الجيد لنمو التجارة العالمية وللرفع من كفاءتها، تبادل التجارة مع الجميع ما لم يكن لديك سبب موجب للامتناع عن ذلك، لماذا؟ لأنه كلما كانت الحواجز أكثر، كلما كانت السلع أكثر تكلفة على المستهلك النهائي، وهو ما من شأنه أن زيادة التضخم، والاضرار بتوازن جانبي السوق، والحَدّ من الكفاءة.

لذلك إن كانت دولتين صديقتين بالأمس وغدت اليوم عدوتين، فماذا سيحدث للتجارة العالمية؟ ستتأثر مصفوفة المخاطر باتجاه زيادة وَهنّ سلاسل الامداد، فالمسار التجاري بين الدولتين سيصبح مسدوداً، وهذا يُمثل إرباكاً، فكما هو مستقر في الفكر الاقتصادي أن أي سياسة اقتصادية كفؤة يجب أن تعزز الاستقرار.

والآن للإجابة على الأسئلة المتميزة التي طرحها الحضور الطلاب بشأن العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة؟ بدايةً، ما مصدر ما تقرأونه بالتأكيد يرتكز إلى وجهات نظر ومواقف متعددة وأحياناً متفاوتة، لكن من حيث المبدأ، تم اتخاذ قرار حفض سقف إنتاج “أوبك+” من قبل أعضاء اتفاقية “أوبك+” بالإجماع، وكان قراراً اقتصادياً يتمحور حول وضع سوق النفط العالمية بغية موازنتها أكثر من أي شيء آخر.

ولبيان ذلك، فسأتحدث بإيجاز عن أوضاع الاقتصاد العالمي وبالتالي تراجع الطلب على الطاقة؛ حيث أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي يتحرك بوضوح نحو التباطؤ، فإن كل المنظمات الدولية المؤثرة، بما في ذلك البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والبنوك الدولية الكبرى مثل غولدمان ساكس وبنك أوف أمريكا تتوقع أن يشهد العالم ركوداً. فحين نتحدث عن الركود الاقتصادي، فما يؤكد جدية التحدي حال اقتصاد الولايات المتحدة والظروف في أوروبا، والصين. فالصين -كما تابعنا جميعاً- احتفلت قبل يومين بأن حقق اقتصادها نمواً بنسبة 3.9 بالمائة، وسط عدم تفاؤل التوقعات بشأن نمو اقتصاد الصين. وهكذا، فهناك مستجدات في سوق النفط العالمية لابد من التعامل معها، أما فيما يتصل بالعلاقة بين البلدين، فقد كانت العلاقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة طوال الوقت إستراتيجية، وإذا كان التعديل في مصلحة البلدين، فإنه سيحدث.

بالنسبة للسؤال حول رؤية 2030، فهي رؤية طموحة لاشك، لكنها ليست مجرد رؤية ؛ ففي نهاية المطاف رؤية قابلة للتنفيذ، فما يهم هو التنفيذ لتحقيق المستهدفات. وتقوم رؤية 2030 على 11 برنامجاً قيد التنفيذ حالياً، وهذا يتعلق بسؤالك الثاني، حيث ان تلك البرامج تعمل بالتوازي لتحقيق حزماً من المستهدفات، بغية إحداث تغيير فعلي على الأرض. ولا يتسع المجال للتوسع، وسأستشهد ببرنامج ذي صلة بجلستنا هذه وهو برنامج التنمية الصناعية والخدمات اللوجستية هو واحد البرامج الرئيسة لتحقيق الرؤية، ويتعلق في جوانبٍ منه بسلاسل الامداد. وبرنامج آخر من برامج تحقيق الرؤية، ولن أقوم بسردها جميعاً، أذكره هنا للتركيز على أبرز النقاط للإجابة على السؤال بشكل كامل، وهو برنامج تنمية الموارد البشرية، هدفه الأساس احتضان وتنمية رأس المال البشري، والسعي ليصبح مواطنو المملكة العربية السعودية عالميون بقدراتهم ومهاراتهم وتطلعاتهم وإضافاتهم للبشرية. ختاماً، أؤكد أن الاستثمار مهم دائماً. لذا فإن أحد العوامل الأساس لتحقيق رؤية المملكة 2030 يرتكز على تحقيق الاستراتيجية الوطنية للاستثمار، والتي تشتمل على عدد من المبادرات يتجاوز الأربعين مبادرة، والمبادرة الوطنية لسلاسل الامداد العالمية، التي أشرت إليها سابقاً، هي إحدى تلك المبادرات. ورغم التحديات، إلا أن آفاق تحقيق المبادرة الطموحة مُبشرة؛ فالمملكة في خضم حركة التجارة العالمية؛ فمن حيث الموقع فالمملكة قريبة من حوض البحر الأبيض المتوسط، ولها سواحل تؤدي إلى فريقيا وإلى آسيا، كما أن المملكة تمتلك امتداداً جغرافياً ومساحة واسعة يجعلها على مسافة قريبة من الأسواق الرئيسة، مثل الهند والصين. كل ذلك يؤكد الميزة النسبية التي تمتلكها المملكة لتصبح محوراً رئيساً من محاور سلاسل الامداد العالمية.

وأختم، ببيان وجهة نظري حول السؤال عن العملات المشفرة وسلاسل الامداد، فمحل الاهتمام ليس فهي العملات المشفرة بحد ذاتها بل تقنية سلاسل الكتل (blockchains) ففي صميم أي مناقشة لتقنية سلاسل الكتل تأتي النظم الموزعة (distributed systems)، سواء أكانت تعاملات أو عقود أو تمويل، مما يبرر القول أن تقنية سلاسل الكتل سيكون لها دوراً مهماً في تحقيق نظام عالمي للإمداد شبكي ومترابط وموزع.

وشكرا جزيلا لكم.

[i] صادرات نيوزيلندا في العام 2021: 63.3 مليار دولار.

[ii] صادرات المملكة في العام 2021: 276.3مليار دولار منها صادرات غير نفطية بقيمة 74 مليار دولار.


لمشاهدة وسماع الكلمة باللغة الانجليزي على الرابط الآتي: